ورفع يده فانصرف الشيخان وفي قلب كل منهما زوبعة، حتى صارا في الفناء فوقفا حينا في صمت وجها لوجه، ثم قال ذو نفر: ماذا قلت يا أبا عاصم، وماذا قال لي؟
فقال صفوان: فلنشرب الكأس حتى الثمالة، فلنشربها لأننا عصرناها بأيدينا.
فقال ذو نفر: وحق مناة ما حسبت الطريق تنتهي بي هنا، سأجمع قومي كما قلت حقا، وسيعلم أنها كلمة داهية.
فقال صفوان: أما علمتك التجربة؟
فقال ذو نفر: قد تجعلنا التجربة أكثر تهورا. أليس هذا ما قلت؟
وسار يتوكأ على عصاه حتى غاب بين الجموع الزاخرة التي كانت تملأ الفناء، ووقف أبو عاصم وحده مترددا، يحس كأن قدميه لا تقويان على الحركة، وأحس كأن العيون تشخص إليه ساخرة وتتساءل إلى أين يمضي. سيذهب ذو نفر إلى بنيه وحفدته وبني أعمامه وبني إخوته ليقفوا معا، سيقول لأبرهة هؤلاء قومي، وأما هو فأين يتجه؟ إلى داره المحطمة في حقل صنعاء؟ وغمره شعور من العجز والذلة مع العرق البارد الذي دب على أعضائه، وتمنى لو كانت جراحه التي أصابته في المعركة القديمة قد نزفت دمه ولم يعش بعدها يوما.
ليت أبرهة قضى على حياته كما قضى على إخوته وبني عمومته الذين استماتوا في الدفاع إلى جنبه. أهكذا جرفه التيار معه فلم يفطن إلى الغمرة التي قذفه إليها، إلا بعد أن أوغل فيها وصار لا يستطيع انفلاتا؟ أهكذا يقتلع أبرهة ريشه واحدة بعد واحدة، حتى إذا اطمأن أنه يعجز عن الطير يركله بقدمه مطمئنا؟ أما من أمل؟ أما من غاية؟ أما من نهاية؟ وتنبه على صوت نفيل، فنظر إلى وجهه وكأنه لم يره منذ ساعة، كانت عيناه محمرتين تقدحان غضبا، وكان وجهه المحتقن يشع ثورة. وقال الشيخ في فتور: نفيل؟
فقال نفيل في صوت أجش: نعم أنا، فسمني كما شئت. تعال بنا نعتزل عن هؤلاء. أعرفت كيف لقيني أبرهة؟ أسمعت ضحكته وهو يقول لي: «أما تعرف لك سيدا؟» ثم قال لي: «امسح لحيتك أمامي كما كنت تمسحها في نادي قومك، وأعد ما قلت على ملأ منهم.» نعم سوف أمسح لحيتي أمامه وأقول لست أعرف سيدا.
وسار يحدث الشيخ في صوت مختنق يعيد عليه ما قاله أبرهة عندما تقدم إليه ليؤدي تحيته. وكان الشيخ يستمع إليه وتزيد نفسه كآبة، فهذا الرجل يثب على بقايا المعركة ويأخذهم واحدا بعد واحد. ومروا في سيرهم بحلقة صاخبة يمتزج الجد فيها بالفكاهة، وكان فيها جمع مختلط من الحبشة ومن وجوه صنعاء وأشراف القبائل يتحدثون ثلاثا أو رباعا.
فقال نفيل في مرارة: أليس هذا قيس بن خزاعي وهذا حناطة الحميري؟ كانا منذ قليل يلعقان قدميه وها هما ذان يأخذان أجرهما. أما عرفت أنه وعد ابن خزاعي بملك مكة؟
अज्ञात पृष्ठ