115

وجاء بعض ركاب السفينة، فوقفوا وراء جوانب السطح ينظرون في دهشة إلى السفينة الصغيرة التي تقترب منهم مسرعة، وعلا صوت سيف قائلا: علقوا السلاليم.

وهدأت السفينة الصغيرة في سيرها، وقام بعض رجالها إلى سلاليم عريضة من الخشب، لها كلاليب من الحديد في أطرافها فألقوها على السفينة الضخمة، وغرزوا الكلاليب في جنبها، واهتزت سفينتهم هزة عنيفة، ثم استقرت تساير السفينة الأخرى. وعقلت الدهشة ألسنة الركاب، فبهتوا حينا وهم ينظرون إلى الفتيان إذ يتبادرون إلى السلاليم وسيوفهم في أيديهم، ثم انطلقت منهم صرخات الذعر الحبيسة، وتفرقوا في اضطراب يلتمس كل منهم ركنا بعيدا يلوذ به. وصعد سيف إلى السفينة أخيرا وهو فاتر، حتى إذا بلغ سطحها رأى منظرا جعله يغمد سيفه ويقف مبهوتا.

كان ركاب السفينة مثل قطيع بائس من الماعز، يتزاحم ويتخبط في دفعات هوجاء. وذهب الفتيان يبحثون في السفينة، فإذا التيار الأعمى يرتد نحو سيف في عنف وقد غطى الذعر على عيونهم، فوقف ثابتا حتى اختلط به الجمع كأنه دجاج مذعور يتعثر فيه ويتطاير حوله. وكان فيه فتاة تحاول أن تقاوم صارخة غاضبة والتيار يدفعها معه، لا يستمع إلى شيء من ألفاظ الحنق التي كانت الفتاة تصبها. واصطدمت في اندفاعها بسيف ، ومدت يدها تتعلق به، فمد يده إليها وانتزعها، فإذا هي بين ذراعيه يسندها، وتشبثت به حتى تفرق الجمع ومضى في دفعته إلى أقصى السفينة من الناحية الأخرى، ثم دفعت نفسها عنه في غضب وقالت له: تعسا لك!

فقال لها سيف: لا تراعي يا فتاة.

وكأنه لمح في وجهها شيئا استوقف نظره لحظة، ثم التفت نحو أصحابه، وكانوا عائدين يتضاحكون في عجب.

وصاحت الفتاة بهم: ويلكم، ماذا تبغون منا؟

فقال لها سيف في نظرة عابرة: لسنا نبغي شيئا، فاهدئي.

فقالت في عنف: ما أخيبكم من لصوص جبناء. أتقول اهدئي؟ وهل رأيتني فزعت حتى أهدأ؟ إن هؤلاء الحمقى هم الذين جرفوني، ولو كان معي سيف لوقفت في وجوهكم جميعا. أما تخجلون أن تجردوا السيوف على العجائز والأطفال؟

وكان وجهها المقلص وعيناها الملتهبتان ورأسها المرفوع بالتحدي تزيد من ألفاظها حرارة. واتجه سيف إليها بنظرة فاحصة وهي تقذف بألفاظها، وتبعث مع كل لفظ منها شرارة من غضبتها. ولم يملك ابتسامة شاردة اجتمع فيها إعجابه ودهشته. كان وجهها الأسمر تعلوه نضرة الشباب، وعيناها السوداوان الواسعتان تنطقان عنفا، على حين كان حاجباها الدقيقان وأنفها المستوي الدقيق تنطق رقة من وراء ثورتها الوحشية، وكان رأسها المرفوع يبرز محاسن عنقها وصدرها، وحركة غضبها تهز قوامها اللدن المعتدل. كان جمالها يبرق من خلال عنفها كما تبرق محاسن النمرة الشابة إذ تتجمع للوثوب على غريم تعرض لها، ولم تزدها ابتسامة سيف إلا غضبا، فقالت: خذ أصحابك وانصرفوا إن بقيت فيكم شهامة، واستشعر الخجل بدل أن تبتسم هذه الابتسامة المتكبرة.

فقال سيف: أزيلي أيتها الحسناء هذه السحابة عن وجهك. ممن أنت؟ وخيل إليه أنها هدأت قليلا عندما سمعت قوله، ولكنها همهمت بجواب، ثم مضت بعد أن علقت بصرها لحظة في وجهه. وخيل إليه كذلك أن بسمة خاطفة مثل لمحة البصر سنحت في عينيها وهي تنصرف نافرة. ونظر في أعقابها حتى غابت وراء أكداس الطرود الملقاة على السطح. ثم رأى رجلا ضخما يتدحرج في مشيته البطيئة مقبلا نحوه كأنه كان مختفيا يرقب ما يحدث للفتاة. وكان من ورائه بعض رجال يبدو عليهم الضعف والهزال في ثيابهم المهردة. وصاح الرجل قائلا بصوته الحاد: ما خرجنا إلى قتال أيها الشجعان، وليس معنا ما يستحق أن يؤخذ. نسائي طوالق وسفني غوارق إن كنت أقول غير الحقيقة.

अज्ञात पृष्ठ