============================================================
فهو يكشف غن حاجات النفوس من واقع مطالبها، ولا يفرض على المجتمع رأيا ولا فكرا بعيدا عن حاجاته.. والذي صنعه مع الجنيد البغدادي صنعه مع غيره، بل إن المصادر تروي أنه كان يجتمع بتلاميذه ليلا بعد صلاة العشاء، فلا يبدأهم بحديث حتى يسألوه فيرد على أسثلتهم إلى صلاة الفجر.. ومن هنا فقد وفى المحاسبي بحاجات عصره، على العكس من كتابنا ومفكرينا اليوم الذين ملأوا الدنيا كتبا وما زال الشباب حائرا لا يدري من طريقه دربا من حفرة، وما ذاك إلا لأنه فكر مفروض، لم يتحر فيه كاتبوه أن يكون صورة واقعية لمصادر الحيرة في عقول الناس والمحاسبي يعود إلى الإسلام الأول الذي كان عليه الصحابة، ذلك السلوك الذي كان نابعا من ربط الحياة الدنيا بالآخرة ربطا وثيقا، باعتبار الآخرة حافزا أساسيا على الالتزام قلبأ وقالبا بأخلاق الإسلام . أما أن تنفصل الآخرة عن الدنيا فهذا هو أصل الداء الذي عانى منه مجتمع الإسلام منذ عصر المحاسي، حيث كانت الدنيا وحدها هي الحافز على غيرها لدى السواد الأعظم من الناس الذين لا يجدون مرشدا ولا راعيا أمينا يردهم عن الشتات إلى مجتمع الجسد الواحد.
كان هذا الداء قد أعضل حتى لم تجد في علاجه حلقات الفقه ولا مجالس الحديث ومصطلحاته : لأن هذا الداء في الحقيقة كان قد انتشر على صورة وبائية لا تفرق بين عالم وجاهل، ولكن إصابة العلماء به كانت خطرا ما بعده من خطر. ولنستمع إلى المحاسبي يقرر الواقع في مجتمعه فيقول عن العلماء : فان علا في الناس آمرهم، واضطرب الصوت بهم، وحمد بعض شأنهم، ووصلت النفوس إلى أمنيتها من اضطراب الصوت، وعلو الذكر، وكادت التقوس تستصغر من ليس من شأنهم، وتستجهل من جهل علمهم، وتزدري بمثل من لم يكن في أحوالهم، فقد ذهوا وما يشعرون "وبعد، فإن قديم الحيل تستقبل لهم ما قد دهاهم به، فيجد لهم مكسائد موبقات، وعساه يأي الكبير منهم كهيئة الناصح له، فيخطر بقلبه : أنك قد
पृष्ठ 33