14
وإنما أطلق عليها اسم «الغفران» لأن الفكرة الرئيسية التي دفعته إلى إنشائها - وقت إجابته على رسالة ابن القارح - هي مناقشة من فازوا بالمغفرة ومن حرموها في الدار الآخرة، ومما يسترعي انتباهك فيها سؤاله - وكثيرا ما كان يوجهه إلى الفريق الناجي: «بم غفر لك؟» فيجيبه كل واحد منهم بما نجاه من العذاب، ويشرح له السبب في دخوله الفردوس، ويصف له كيف يتمتع به، وكيف ينعم ببدائعه.
وسؤاله الذي كان يوجهه إلى الفريق الثاني - وهو من حقت عليه اللعنة وكتب عليه الشقاء: «لم لم يغفر لك قولك كذا؟» فيجيبه أكثرهم عن السبب، ويشرحون له ما يقاسون من ألم وعذاب، ويصمت بعضهم لاشتغاله بما هو فيه من نكال وغصص.
وهكذا ألم بطائفة من الحوادث والأسباب، ومزج الرواية بالدعابة، والجد بالفكاهة والأدب، والفلسفة بالنقد الصائب، والسخرية الدقيقة. •••
وليس هذا الخيال، أو تلك الفكرة الفنية التي انتظمت الكتاب فأفردته من بين الآثار الأدبية التي كتب لها الخلود، مما يستغرب من مثل أبي العلاء ذي العقل الراجح، والبصيرة النفاذة، والخيال الواسع.
نعم وليس تمثل البعث والنشور، ونعيم الفردوس، وتعذيب الأشقياء في الجحيم، من الأفكار الطارئة التي سببتها رسالة ابن القارح أو نبهتها فيه، ولكنها فكرة متأصلة في قرارة نفسه، نبتت ونمت وتوشجت أصولها ونضجت ثمارها في قلبه - نحو نصف قرن - فاختلطت بلحمه، وسيطت بدمه، وهيمنت على مشاعره منذ حداثة نشأته - حتى أصبحت - من أهم مصادر الفلسفة العلائية.
ولعل أول محاولة رأيناها له - في اكتناه البعث والتردد في قبول الروايات والأخبار المتناقلة - قوله في مستهل حياته الأدبية - وهو في الرابعة عشرة من عمره في نونيته التي رثى بها أباه - إذ يقول فيها:
فيا ليت شعري! هل يخف وقاره
إذا صار أحد في القيامة كالعهن؟
وهل يرد الحوض الروي مبادرا
अज्ञात पृष्ठ