فيا ولدي العزيز، ضع هذا الناموس نصب عينيك. احي فيه ومن أجله. اجعله القاعدة الكبرى لأعمالك وأفكارك. اعتبر كل تعاليم تخالفه تعاليم باطلة أيا كان مصدرها، واعلم أنه ليس في الهيئة الاجتماعية كلها شيء أرقى وأعظم منه، وإذا سلكت طريقه في حياتك كلها أمكنك أن تموت في آخر العمر موتا هنيئا هادئا؛ لأنك تكون قد قمت بواجباتك للإنسانية في هذه الحياة، وعشت إنسانا كريما محبا ومحبوبا.
يا صديقي وأخي الصغير، هذا ما أردت إطلاعك عليه من تاريخ حياتي لعلك تجد فيه فائدة لنفسك. فاختر الآن ما يحلو لك، واعلم أن أبواب مزرعتنا مفتوحة لشاب عامل نشيط مثلك إذا كنت تشرفنا بالانضمام إلينا.
طلوع الشمس
وهنا سكت الراهب الشيخ بعد كلامه الطويل، وكان قد طلع الصباح وفر جيش الظلام، ومن غرائب الاتفاق أن الشمس أطلعت قرنها في هذه اللحظة حين سكوت الراهب. فوثب الراهب وقال: هلم هلم نشهد طلوع الشمس. تبارك الخالق تبارك الخالق. فنهض الفتى إيليا لنهوض الشيخ وهو مبهوت مذهول، ولكن إيليا بعد نهوضه لا ينظر إلى الشمس بل إلى الفضاء وهو مبهوت جامد النظر كمن لا ينظر إلى شيء، وفي الواقع أنه كان ينظر إلى داخله لا إلى خارجه؛ ذلك لأنه كان ينظر إلى الشمس الأدبية الجديدة التي أطلعها الراهب الشيخ بخطبته هذه في داخل نفسه، وكان يخيل له بعد كل ما سمعه أنه في حلم لا في يقظة، فإن عالما جديدا انفتح أمام عينيه، واتسعت دائرة فكره اتساعا لا حد له، وفي هذه البرهة بلغ التأثر من الراهب مبلغه لدى منظر قرص الشمس البارز للخليقة يحييها بنوره وحرارته المنعشة. فجثا على الأرض جارا الفتى معه أيضا، وبعد أن سجد وقبل الثرى رفع يديه إلى السماء صائحا من أعماق قلبه: اللهم شكرا للنور بعد الظلام. اللهم شكرا للحرارة بعد البرد. اللهم شكرا لعنايتك الكاملة الكريمة التي ترسل نعمها وخيراتها إلى الصالحين والأشرار معا لتعلم الإنسان الاقتداء بها. أما الفتى إيليا فقد رفع يديه إلى السماء كما رفعهما الشيخ، واشترك في هذه الصلاة، ولكنه لم يكن حينئذ يصلي شكرا للشمس الطبيعية التي كان قرصها الجميل أمامه؛ بل كان يصلي شكرا للشمس التي طلعت في باطنه، وهكذا كان ذلك المنظر في غاية البهاء والجلال. فإنه كان على قمة جبل الزيتون في صبيحة ذلك اليوم شيخ هادئ مطمئن في آخر العمر يشكر الله؛ لأنه يدفئ شيخوخته الباردة بوافر نعمه، وفتى في أول عمره قلقا مضطربا يشكر الله؛ لأنه أنار نفسه، وأراه طريقه في أول حياته.
فيا أيها الفكر الحر المطلق الذي يقوده العلم، وتسنده الفضيلة، إنك كالطبيعة العظيمة تخلق نورا وتطلع شموسا.
المزرعة
وفي مساء ذلك اليوم نظر الراهب ميخائيل سائرا بالفتى إيليا إلى المزرعة التي ذكرها، وكانت قائمة وراء جبل الزيتون على مسافة بعيدة عدة أميال فرحب صاحب المزرعة الشيخ سليمان بالفتى لما توسمه في وجهه من الذكاء والنباهة، واستقبله كما يستقبل ابنا له، وأخبره أنه سيكون وارث الراهب ميخائيل في «أورشليم الجديدة» أي في مزرعته، وبما أن الرجل كان يعلم أن الزراعة لا تترقى إلا بالاختبارت الزراعية والدروس الطبيعية جاءه بكتب بلينيوس العالم الطبيعي الروماني؛ ليستخرج منها كل ما يختص بالشئون النباتية والزراعية
19
فأكب إيليا على درس هذه الكتب، ثم استطرد منها إلى مؤلفات أرسطو في الطبيعة وفي النفس. فكان هو يفتكر ويدرس ويطالع لأهل المزرعة، وأهل المزرعة يعملون بأيديهم بجد ونشاط، فكملت بذلك الحركة التي يخرج منها الارتقاء والمدنية وهي «الفكر والعمل».
20
अज्ञात पृष्ठ