نعم، نحن يا صديقي وصغيري نجيز كل ذلك ولا ننكره ولكن على شرط واحد وهو أن فعل هذه الأمور يقرن دائما بإخلاص القلب إخلاصا حقيقيا، وطلب الخير والعبادة النقية طلبا مجردا؛ ذلك أنني أعتقد يا بني أنه متى أريد طلب الخير والعبادة الحقيقية النقية، فكل الطرق المؤدية إليها حسنة متى كان القلب مخلصا نقيا، ولست ممن يضيقون عقولهم وقلوبهم إلى حد أن يعتقدوا أن الله يقبل العبادة مثلا بهذا الشكل ولا يقبلها بذاك. فإن الذين يضعون هذه الأقوال يقصدون بها تأييد مصالح لا تأييد مبادئ، أي مصالحهم السياسية والقومية، أو مصالح رئاستهم؛ لرغبتهم في الاستئثار بالسلطة والسيادة، وهذا هو السبب في تكفير الطوائف بعضها بعضا، وقيامها بعضها على بعض، وتشعب المسيحية
18
فالإخلاص الإخلاص يا بني، الطهارة الطهارة، الخير الخير: هذه هي آلات العبادة الحقيقية، وبدونها لا تجدي العبادة شيئا ولا يغني الاعتقاد باللاهوت فتيلا.
يا بني، لقد وصلت بك إلى منتهى عملي. فإن تلك التهمة أجهزت وا أسفاه على قواي؛ لأن أعدائي اغتنموا هذه الفرصة، وطردوني من سلك الرهبانية. فرحت يا بني في الدنيا هائما على وجهي أبكي وأنوح؛ لإساءة الناس الظن بي، وإهانتهم لي، وقطعهم رزقي، ومما كان يفتت كبدي فرار أحبائي وأبنائي القدماء مني. فكأنني أصبحت وحشا ضاريا لا يقربني أحد، وكان الفقراء والضعفاء الذين كنت أساعدهم من قبل إذا شهدوني قادما حادوا عن طريقي واختبئوا مني. يا ولدي وصغيري، إن من لم يقع في زمانه في حالة كحالتي لا يعرف مبلغ الشقاء الذي عانيته، وإن فرائصي كلها لترتعد الآن لمجرد ذكره. ماذا؟ هو ذا رجل باع نفسه من بني جنسه فتنازل عن راحته ووقته وقواه ووقفها كلها عليهم، وصار يخدمهم بعينيه وكل نفسه مشاركا لهم في السراء والضراء مدبرا لأقويائهم مساعدا لضعفائهم مرشدا لأولادهم معزيا لمرضاهم، ومع كل ذلك يكون هذا جزاؤه من الله والناس. يا بني، لا أكتمك أن عقلي وايماني قد اضطربا في ذلك الزمن الهائل، فصرت أخشى من النظر إلى السماء لئلا تبدر مني عاطفة أو كلمة تورثني الندم في باقي حياتي. أما البشر فإذا وقع نظري على أحدهم اتفاقا فإنني كنت أراه وحشا أسود ضاريا، ولولا بقية من روح سيدي في نفسي لهجمت عليه وعضضت عنقه لأمتص دماءه انتقاما من الإنسانية. أواه يا بني صفحا عن هذه الأفكار الوحشية التي كانت تتردد يومئذ في ذهني، فإنني أؤكد لك أنها لم تصحبني أكثر من أسبوع واحد، فإن الله لم يتخل عني؛ لأنه كما قلت لك يكون دائما مع المظلومين المضطهدين في هذه الحياة، ولذلك أرسل إلي رجلا أنساني كل مصائبي.
ففي ذلك العام يا بني هاجم إمبراطورنا مملكة الفرس؛ لاستخلاص الصليب المقدس منها، وسحق قوتها لكي لا تعود إلى مهاجمتنا مرة أخرى. فوصل الجيش الإمبراطوري إلى بلادنا الكلدانية ومر بها. ففي ذات يوم وأنا أبكي من ظلم الناس تحت شجرة في الحرش حيث كنت أنام مع حيوانات البر وآكل من البلوط لسد جوعي، وإذا بفارس طلع علي ومعه شرذمة من الجند. فخيل لي أنه قادم بأمر من الحكومة للتفتيش علي. فلما رأيته ثار دمي كله غضبا على البشر الذين يطاردونني حتى في وسط الأحراش فهجمت عليه كالذئب الكاسر وأنا بحالة الجنون أصيح وأزمجر بلا وعي. فأمر الفارس رجاله بالاحتيال للقبض علي من غير أذيتي؛ لأنه ظنني مجنونا آوي إلى الأحراش، فتكاثروا علي وقيدوني وأنا أكاد أقتلهم وأقتل نفسي، ولكن بعد برهة أخذ الفارس يلاطفني ويجاملني، وسألني عن خبري؛ فقصصت عليه قصتي من أولها إلى آخرها وأنا أبكي. فما سمع شيئا منها حتى هجم علي فقطع وثاقي وصافحني وأقبل علي يسألني التتمة، ومنذ هذه الساعة بدأت أصعد من الهاوية التي ألقاني البشر فيها. فإن هذا الفارس كان قائد مائة وهو من هذه المدينة، وقد تطوع في الجيش لمقاتلة الفرس انتقاما منهم؛ لأنهم حين استيلائهم على القدس وطنه قتلوا ابنه. فأخذني هذا الفارس وقدمني للإمبراطور وقص عليه قصتي، فهز الإمبراطور رأسه وقال: هذا شأن السوريين فإنهم متى حكموا في أنفسهم كانوا أقرب إلى الجور منهم إلى العدل؛ لكثرة تحاسدهم وتنافسهم، ولعدم وجود جامعة قوية عادلة تساعد الجيد فيهم وتخذل الرديء.
فصحبت يا بني جيشنا في فتوحاته في بلاد الفرس جيراننا، ولم أكن راضيا عن هذه الحرب، وإن كنا فيها مدافعين لا مهاجمين؛ لأنني أكره الحرب أيا كان سببها حتى مع المجوس، ذلك لأن الدم الذي يسيل فيها يا بني هو دم بشري مقدس سواء كان صاحبه مسيحيا أو وثنيا أبيض أو أسود يونانيا أو سوريا أو فارسيا، فإننا كلنا أخوة في الأرض، ومن الفظاعة أن يقتل الأخ أخاه، إلا أنني لا أكتمك أنني كنت رغما عني مسرورا؛ لفرار كسرى أبرويز من وجه إمبراطورنا من مدينة إلى مدينة حتى من عاصمته فرار العصفور من وجه النسر * ذلك لأنني كنت أعلمه معتديا؛ لأنه هو الذي كان البادئ بمهاجمتنا، ومهما كان الإنسان ميالا للسلم والصفح والحلم فإنه يطرب عندما يرى المعتدي مغلوبا مخذولا على شرط أن لا يتجاوز الغالب حدود الدفاع، ويجعل نفسه عاديا ظالما.
ولما انتهت الحرب أتى بي ذلك الفارس الكريم إلى هذه المدينة، ووضع بين يدي مالا طائلا، وابتاع مزرعة وراء هذا الجبل، وقال لي: اصنع فيها ما صنعته في مزارعك القديمة؛ فأعدت في هذه المزرعة يا بني ما كنت أصنعه هناك تحت حماية هذا الشهم، فجمعنا فيها نحو مائة عائلة كبارا وصغارا، وصرنا نعيش على زراعة الأرض بأمن وسلام، ولم يكن ينغص عيشي شيء سوى تذكري الشقاء الذي حل بين أحبائي في بلادي بعد سقوطي ورحيلي عنها، ولذلك كنت أرحل في كل سنتين مرة إليها وجيوبي مملوءة لمساعدة أبناء وطني، وأنا الآن أقيم تارة في المزرعة هنا، وطورا في بلادي مسرورا بأن الله أوجد لي في آخر عمري عشا آوي إليه، وأقدر على صنع الخير فيه بمساعدة إنسان فاضل يستحق أن يسمى إنسانا، ولقد سكنت نفسي وهدأت بعد ذلك الاضطراب؛ فندمت على أنني أبغضت البشر يوما وعاديت أعدائي. يا بني، إن القلوب الطيبة يجب أن لا تعرف العداء وأن تتركه للقلوب الرديئة، وعلى القلوب الطيبة أن تصلي دائما إلى الله من أجل القلوب الرديئة؛ ليرحمها وينبذ الرداءة منها.
والحق أقول لك يا بني، إنني بعد أن شبت وأدبتني المصائب وعاشرت البشر زمنا طويلا، علمني الاختبار أن الخير الذي كنت أطلبه متشعب الطرق صعب من عدة وجوه، ولذلك ندمت على إطلاقي لنفسي العنان في مقاومة رؤسائي ورفاقي دون ترو ولا إمعان. نعم، يجب علينا محاربة كل شيء في الأرض لصنع الخير وقتل الشر، ولكن يجب أن لا نتعامى عن المصاعب والعثرات التي في طريق من نحاربهم، وأول هذه المصاعب شراهة نفوسهم التي تطلب كل شيء لها تحت ستار الغيرية. نعم، إن هذا ليس بعذر مقبول، ولكن ما الحيلة بالنفس الصغيرة المقيدة بأهوائها ولا تستطيع الانطلاق منها؟ لا حيلة في إطلاقها يا بني غير الصلاة إلى الله من أجلها ليغسلها وينقبها ويطلقها، وثاني هذه المصاعب: رسوخ بعض المبادئ والآراء والأوهام في نفوس العوام، ولذلك يضطر الرؤساء رغما عنهم إلى مداراتها ، وإذا لم يداروها لم يعدموا من قومهم ومرءوسيهم من يقوم وينادي بكفرهم لخروجهم في زعمهم عن الشريعة الدينية؛ لأن كل متعصب لرأيه لا يعدم أن يجد في من تحته أو فوقه من هو أكثر تعصبا منه، لا سيما وأن المصالح والأهواء تتخذ في أكثر الاحيان هذه الأمور ذرائع تدعم نفسها بها. إذن فلنغض الطرف قليلا يا بني عن تلك المداراة؛ لأن أصحابها قد يكونون معذورين فيها، وإذا لمناهم فليكن لومنا لهم ببشاشة واعتدال وحلم؛ لأن تدبير النفوس وظيفة صعبة لا يعرفها إلا من عاناها، ولو كان بعضهم يسمعني الآن معك لاستصفحت منهم عن الحدة التي ظهرت رغما عني في بدء كلامي؛ لأنني كنت متحمسا لذكري مصائبي الماضية.
يا بني، لا تدع عقلك يضل كما ضل كثيرون من أبناء هذا العصر * لسآمتهم الخلافات الدينية، فإن فوق هذه الخلافات كلها حقيقة يجب أن تكون أساس كل هيئة اجتماعية، وهي أن الحقائق الدينية راسخة في الأرض إلى الأبد؛ لأنها عبارة عن نزوع الإنسان إلى المنزل الأول ومصدره الأعلى، وأي شيء غير الدين يضع أسمى آيات الفلسفة والعلم والأدب في أفواه وقلوب السذج والمساكين. أنت وأنا مثلا لا نسأل عن أديان البشر؛ لأن في باطننا الديانة المطلقة النقية التي هي ديانة القلب ومحبة الله والناس والتسليم إليه تعالى في كل شيء، ولكن هل يفهم العوام هذه الأمور؟ هذا أمر بعيد، ولكن مع ذلك علينا أن نحذر من جعل هذا الأمر يولد داء قاتلا؛ فإن الظواهر الدينية التي يزين الدين الحقيقي بها ليصير مفهوما من العوام لا يجب أن تكون مخنقا له، والجاني على الدين والإنسانية في الأرض إنما هو ذلك الذي يوجد التضامن والتكافل بين تلك الظواهر، وما تحتها من البواطن الصحيحة، وحينئذ لا يجب أن يلوم أحدا غير نفسه؛ لأن العقل إذا احترم الحقيقة فهيهات أن يحترم لباسها. خصوصا إذا كان هذا اللباس مما يمنع وصول نور الحقيقة إلى الناس، ويكون عثرة في سبيل خير الإنسانية واتفاقها وتقدمها.
لقد فرغت الآن يا بني ، وآن أن أريحك وأستريح من هذا الكلام الطويل، ولكنني إذا أعدت في ذهني كل ما قلته لك أرى أن كلامي لا يزال ناقصا أمرا مهما لا يحسن أن يختتم بدونه، وبعبارة أخرى أقول: إنه ناقص التاج الذي يجب أن يتوج به. أجل يا بني، إن أول وآخر دعامة من دعائم الفلسفة والدين والفضيلة والأدب والحكمة هي هذا التاج البديع وهو «الرفق والمحبة والصفح» للجميع. فديانة الرفق والمحبة: هذه هي الديانة التي سيجتمع عليها البشر في مستقبل الزمان. الرفق والمحبة لجميع مخلوقات الله حتى الحيوانات. الرفق والمحبة لجميع البشر حتى الوثنيين والأردياء والأشرار واللصوص في السجون؛ لأنه إذا كان يجب علينا احتقار ضلالهم وشرورهم فيجب علينا أيضا محبة الإنسانية فيهم والشفقة عليهم. يا بني، أذكر أن سيدنا غسل ليلة تسليمه للصلب قدمي يهوذا الذي أسلمه مع معرفته أنه عدوه ومسلمه وجاحده. أذكر أنه قال للذين جاءوا إليه بالخاطئة: «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر»، وبعد هذه الذكرى أخبرني إذا كنت تجد في العالم أحدا يسمح لك قلبك بإخراجه من ناموس الرفق والمحبة.
अज्ञात पृष्ठ