لكن حميدة منكمشة في الركن، ملتصقة بالجدار، تسري فوق جسدها رعشة، وذكرى قديمة لأول ضربة، وعيناها السوداوان المتسعتان بالذعر، ثابتتان فوق العصا الغليظة من الخيزران، كانت العصا مختفية تحت ملابسه أو وراء ظهره، ثم في لحظة خاطفة شدها ورفعها في وجهها منتصبة صلبة، وبسرعة تفوق سرعة الضوء صوبها على النقطة المحددة في منتصف المسافة بين عينيها، وضغط الزناد.
صرخت حميدة، دوت صرختها في الليل المظلم الساكن كصوت الطلقة، تقلبت سيدتها في كفنها الحريري من جنب إلى جنب، هب بعض الناس (بسبب نومهم الخفيف فحسب) وأضيئت الأنوار، وانفتحت النوافذ المغلقة والأبواب المغلقة، واشرأبت الأعناق وامتدت.
لكنها لم تصل إلى شيء، المطبخ له أربعة جدران وسقف وباب، والباب له قفل حديدي وسلسلة حديدية، وكل شيء عاد إلى ما كان عليه، أطفئت الأنوار، وانغلقت النوافذ والأبواب، كل الأشياء انغلقت وعم السكون، وتجمعت الظلمة فوق بلاط المطبخ، وتكثفت في الركن وراء الباب على شكل جسد صغير عار، يجري من تحته خيط طويل رفيع من الدم، وعينان واسعتان دامعتان تبرقان في الظلمة كعيني طفل. •••
اللمعة عرفها حميدو من على بعد، منذ كان طفلا، تجذبه نحوها كضوء النجم، نجم وحيد ساهر في سماء سوداء مصمتة بغير مسام، وحميدو يسير وحده في الظلام بكعبه فوق الأسفلت، عيناه مرفوعتان نحو النجم، ويداه فوق صدره ملوثتان بدم قديم أسود، وتحت الأظافر سواد كالطين، ومن حول الأصابع بقع بنية قاتمة بلون التبغ، يمزق سعاله الليل، ويشق الظلمة بصاقه الأبيض ويستقر على الأسفلت بجوار قدميه، مكورا كقطعة من اللحم الأبيض تتخللها شعيرات رفيعة من الدم.
اقتفوا أثره المدمم فوق الطريق وأمسكوه وأعادوه إلى الخدمة، رفع الطبيب بأطراف أصابعه النظيفة ذات الأظافر المشذبة سرواله الدمور، فاحت رائحة الجسد الميت، فأشاح الطبيب بوجهه بعيدا عنه، وكتب بقلمه الباركر التشخيص: «لا يصلح إلا للخدمة بالبيوت»، وأصبح حميدو مراسلا (اللقب القديم لخادم البيت).
وأخذوا منه العدة: الحذاء الجلدي بالرقبة والكعب الحديد، البدلة والكتفين المحشوتين بالقطن والقش، والأزرار النحاسية الصفراء، خمسة أزرار فوق كل كتف، وعشرة فوق الصدر، والحزام الجلدي العريض ويتدلى منه الجراب يخفي النصل الحاد كالسكين.
تحسس حميدو جسده في الظلام، وجد الجلباب الواسع القديم، يتدلى فوق فخذيه كجلابيب النساء، وكتفاه نحيلتان وغير واقفتين، ككفي ميزان غير معدول، الكف اليمنى هابطة إلى أسفل تشد معها الذراع والكتف ونصف الرأس الأيمن، والسبب معروف (خدم البيوت كانوا يحملون سلة الخضار باليد اليمنى)، ولأن السلة كانت دائما ثقيلة، مملوءة حتى الحافة بالبطاطس والطماطم والخرشوف، وفي القاع يرقد الجسد المذبوح، والدم الساخن الأحمر ينشع من الورق الأبيض المصقول، والقلب لا زال يرجف بحركة غير مرئية، والعينان السوداوان الميتتان مفتوحتان مرفوعتان إلى أعلى، دامعتان، تلمعان في الظلمة كعيني طفل.
حملق حميدو في عيني الطفل في دهشة، لم تكن لهما لمعة عيون الأطفال، كانت لمعتهما نحاسية كعيون الكبار، ركب الطفل فوق ظهره، الركبتان فوق العنق، والفخذان حول الظهر وكل ساق على كل جانب، وكعب الحذاء بحذاء البطن.
هز الطفل ساقيه كما يفعل الأطفال حين يركبون الحمير، سار به حميدو على يديه وركبتيه، والطفل من فوقه يهتز في سعادة، وفي يده عصا رفيعة من الخيزران، الشمس كانت في منتصف المسافة بين العينين، والشارع أسفلت أحمر ملتهب، والحصى أحمر ملتهب، حصاة حمراء دخلت في الركبة اليمنى فتوقف حميدو ليسعل وعجزت عضلات صدره عن أن تنقبض وتطرد الحصاة.
تدلى رأسه فوق صدره كرأس الحمارة المريضة، فاندفع الحذاء في بطنه مدببا كالسكين، صرخ، لكن عضلات بطنه عجزت عن أن تنقبض وتطرد الصرخة، لف يديه حول بطنه ليحميه من الحذاء فانقض عليه الطفل وعضه في بطن ساقه.
अज्ञात पृष्ठ