4
الجميلة الكثيرة ذات الفراء الناصعة، ولقد كنت أسمع ثغاءها ورغاءها؛ إذ أنا على ظهر سفينتي في عرض البحر، وسرعان ما ذكرت ما قاله لي الكاهن الطيبي الأعمى، تيرزياس في هيدز، عن هذه القطعان، ثم ما أنذرتني به سيرس سيدة أيايا من وجوب الابتعاد عن هذه الجزيرة التي كانت منذ الأبد غواية البشر، حتى قمت في رجالي فجعلت أحذرهم وأقول: «أيها الرفاق، اسمعوا؛ هذه هي جزيرة الشمس الهائلة التي حذرنا تيرزياس الكاهن الطيبي من الرسو بها أو الاقتراب منها، وكذلك حذرتني منها سيرس ربة أيايا، فإن كان ما لقينا من أهوال ليس شيئا من الهول الذي يحيق بنا إذا حللنا بها، فاسمعوا نصحي، وسيروا بنا نذرع هذا البحر؛ نسلم من شر مستطير، وبلاء لا يجيرنا منه مجير.» وكانوا يصغون إلي في حيرة وذهول، وما كدت أفرغ حتى انتصب يوريلاخوس يرد علي في جفوة وضيق: «أوديسيوس، أيها القاسي الطاغية، أما أوهنت كل تلك الشدائد جلدك؟ أمخلوق أنت من حديد فما ترق وما تلين؟ أتأبى على رجالك الموهوبين المكدودين أن يرسلوا بهذه الجزيرة الفيحاء المعشبة ليربعوا مما بها من آلاء، وليطعموا من خيرها الكثير؟ أتصرفنا عنها بنزقك وقلة بصرك لنخبط طول الليل في هذا البحر الأجاج خبط عشواء، مع ما تكون الريح عليه حينئذ من شدة وعنف؟ خبرنا أيها الأحمق، ماذا نصنع إذا عصفت بنا نكباء من الجنوب تحطم فلكنا ولا ينجينا من بطشها أحد حتى الآلهة؟ أليس الأفضل لنا أن نرسو في هذه الجزيرة فنقضي بها ليلنا، حتى إذا انفلق الإصباح أقلعنا منها على هدى؟»
وحبذ الملاحون ما قال، فدار في خلدي أن لا بد مما ليس منه بد، وأن لا بد من وقوع القارعة الكبرى، فقلت في كلمات يائسات: «لا ضير يا يوريلاخوس! وليس بي من بأس أن أخضع لما ترى الجماعة، ولكن تعالوا جميعا فأعطوني موثقكم ألا تذبحوا شاة ولا تجزروا نعمة مما هنا من هذه القطعان مهما ألح عليكم السغب، وأضواكم الجوع، بل يكون حسبكم ما حملتم من آكال من عند سيرس.»
وأقسموا أغلظ الأقسام أن يفعلوا، ثم يمموا بالفلك في جون هادئ ترتفع في وسطه نافورة رائعة، فأرسوا ثم وتدفقوا الشاطئ وراحوا يعدون وجبة المساء، بيد أنهم سرعان ما نسوا مسغبتهم حين تذكروا إخوانهم الذين غالتهم سكيللا، وراحت تتغذى بهم أمام كهفها السحيق فأخذوا يبكونهم ويذرفون عليهم دموعهم حتى غلبهم النعاس فناموا، وفي الهزيع الثالث من الليل - حين عبرت النجوم فكانت في كبد السماء - ساق جوف رب السحاب الثقال ريحا جابت البر والبحر، وغمرتها بماء منهمر، ثم عقد في الكون ظلمات فوق ظلمات يتدجى بعضها في بعض، ثم أشرقت أورورا الوردية، فنهضنا من مراقدنا، وسحبنا الفلك إلى غار كان لبعض عرائس البحر يرقصن به أو يسترحن فيه، وما كاد شملنا يجتمع ثمة حتى نهضت في رجالي أقول: «أيها الرفاق إننا ما ينقصنا غذاء، وما بنا من حاجة إلى أكل؛ فمعنا من ذلك الشيء الكثير، فإياكم أن تمسوا هذه القطعان بأذى، وحسبكم أن تعلموا أنها ملك خالص لربة الشمس التي تراكم أينما كنتم.» وهكذا أيقظت في نفوسهم النخوة، ثم إنا لبثنا في هذه الجزيرة شهرا ما نريم عنها، وما كان لنا إلى غيرها متحول؛ ذلك لأن الدبور
5
ظلت تهب من الجنوب في صرامة وشدة، فإن هدأت لم تهدأ إلا لتهب ريح شرقية أشد منها عنفا، لم يمسوا قطعان الجزيرة السائمة بأذى ما دام لم ينفذ ما كان معهم من طعام، فلما تناقصت ميرتهم راحوا يتلمسون صيد البر والبحر، أما أنا فكنت أجوس خلال الجزيرة عسى أن ألقى إلها أضرع إليه فيجعل لنا من أمرنا مخرجا، وبينما أنا أجوب الجزيرة إذا بي أبعد كثيرا عن رفاقي، فبدا لي أن أسكن إلى منعطف دافئ هادئ على سيف البحر، فأغسل
6
يدي مما علق بهما من قذر، ثم جلست أصلي للآلهة، وأدعو واحدا بعد واحدا أن تهيئ لنا من شدتنا مرفقا، ولكنها جميعا - وا أسفاه - أصمت آذانها عن دعائي، ثم أرسلت علي طائفا من الكرى، فنمت نوما عميقا، بينما كان يوريلاخوس التعس يوسوس إلى رفاقه فيقول: «أيها الأخلاء، أنا أخوكم في البلاء فاسمعوا وعوا، ليس أشنع من الموت إلى النفس، ولكن الموت جوعا هو أشنع أنواع المنايا التي يرتجف منها الإنسان، هلموا لنذبح من هذه الشاء والنعم، ولنضح للآلهة أضخم ثيران الشمس، ولننذر أن نبني للرب المبارك هيبريون هيكلا عظيما حالما نصل سالمين إلى إيثاكا، ولننذر أيضا أن نجعل في الهيكل من الطرف والتحف ما يرضي الإله ويكفر عن سيئاتنا. أما إذا آثر أن يغرق فلكنا، وتضافرت معه جميع الآلهة على ذلك؛ لأننا ألحقنا أذى بعدد من قطعانه، فإني أول من يجاهر بقبول الموت مرة واحدة في أعماق هذا اليم على أن أموت هذا الموت البطيء جوعا.» وزين لهم ما قال، فاستاقوا أسمن ما في القطعان التي كانت ترعى العشب قريبا منهم، ثم أطعموها أنضر أوراق الشجيرات الباسقة إذ فرغ كل ما لديهم من الشعير، ثم صلوا للآلهة، وجزروا الحيوانات البائسة ثم سلخوها، وفصلوا الأفخاذ والشحم، وقذفوا بها إلى النار تقدمة للآلهة وقربانا، ولم يكن معهم خمر ليتموا بها الشعائر القدسية، فقذفوا في النار بدلا منها ماء قراحا، وجلسوا بعد هذا يعدون شواءهم من الحوايا
7
والكبد وما إلى ذلك مما في جوف البهيم، حتى إذا طعموا ملء بطونهم انطرحوا في مراقدهم، بينما استيقظت فجأة من سباتي، ونهضت لأنطلق في طريقي صوبهم، وما كدت أشرف عليهم حتى ملأ خياشيمي قتار
अज्ञात पृष्ठ