عدو فرنسا هو من يحدث لها القلاقل ويبعد عنها القلوب، أما صالح بن يوسف فإنه نبهها لغلط ربما تقع فيه، وحذرها بعمله من خطأ كبير؛ لأن تهديد السلطان في مراكش أو خلعه يجعل من أصدقاء فرنسا أعداء لها، زد على ذلك أن الشعب المراكشي شعب شقيق يربطنا به الجنس والدين واللغة والوطن، وأنا شخصيا أعد سلطان مراكش أخا لي في الإسلام، وكل ما يؤذيه يؤذيني أيضا، فأنا موافق لصالح بن يوسف وأعد نفسي أبا للدستوريين جميعا، فلا أقيله من الوزارة، فقد عبر عن عواطف الشعب التونسي بأسره، وأنا فرد منه نحو الشعب المراكشي.
وتعددت الخلافات وتشعبت بين السلطات الفرنسية والسلطات التونسية، وقد كان الفرنسيون يفرضون أتباعهم وصنائعهم، فيملئون بهم مناصب الدولة ويعينونهم عمالا (مديرين) فيها وحكاما وإن لم تكن لهم المؤهلات، وينيطون دائما مناصب النفوذ بموظفين فرنسيين، فوجدوا أمامهم لأول مرة وزارة تونسية لها إرادتها ولها رأيها، ولم تتنازل السلطات الفرنسية عن شيء من رغباتها، وخيرت تعطيل حركات الموظفين وتعيينهم وشل الإدارة التونسية كلها على إرضاء مطالب التونسيين في ذلك الميدان.
ووقفت موقفا غريبا في قضية السكك الحديدية التونسية التي كانت ملكا للدولة التونسية، وقد انتهت مدة الاتفاق في شأنها بين تونس والشركة الفرنسية التي كانت تستثمرها، وكانت هذه الشركة توزع في كل عام على المساهمين فيها أرباحا طائلة وتطالب الحكومة التونسية بأن تسد عجز ميزانيتها، فتمسكت الوزارة التونسية بوجوب تأميم استثمار السكك الحديدية التونسية، وخاصة أن عجز ميزانيتها يدفع دوما من صندوق تونس، وأن الدولة التونسية تقدم في جميع الحالات ضمانها لتسديد ما يتطلبه تجديد ما يلزمها من آلات، وعارضت السلطات الفرنسية التأميم معارضة كلية، وأرادت أن تمنح استثمار السكك الحديدية للشركة الوطنية الفرنسية، والغرض من هذه العملية إلحاق سككها بالسكك الفرنسية، وهي شركة تابعة للدولة الفرنسية؛ إذ إن تأميم وسائل النقل تم بفرنسا منذ أعوام، واتسع نطاق الخلاف واعتبرت فرنسا أن العرض التونسي في حل هذه المشكلة يرمي إلى إنقاص النفوذ الفرنسي في الميدان الاقتصادي، وبداية تقلص ظله واتجاه جديد لتحرير تونس، ولم يتفق الطرفان على حل من الحلول، وبقيت المسألة معلقة عدة أعوام .
وبلغ التوتر أشده في المفاوضات حول المجلس الكبير والبلديات، فقد تمسكت السلطات الفرنسية بوجوب استمرار المجلس الكبير في عمله والنظر في الميزانية التونسية، وقررت الوزارة التونسية عدم تجديد انتخابه بعد انتهاء مدته؛ لأنه مجلس استشاري بحت لا نفوذ له، وخاصة لأنه مؤلف مناصفة من تونسيين وفرنسيين، ولا حق للفرنسيين أن يكونوا ممثلين في المجالس السياسية التونسية؛ لأنهم أجانب.
وسعت الوزارة التونسية في تأسيس مجالس بلدية منتخبة؛ لكي يمارس السكان حقوقهم الطبيعية فيها ويسهرون على صرف ما يدفعون من ضرائب بلدية ويتمرنون أيضا على ممارسة الأمور العامة، ولكن الفرنسيين تمسكوا هنا أيضا بوجوب تمثيل الفرنسيين فيها.
وكان جلالة الملك يراقب عن كثب سير المفاوضات وتعثرها ويفكر في الوصول إلى نتيجة عملية فرأى من الضروري دفع كل التباس يستفيد منه الاستعمار؛ بالتعبير عن إرادته الواضحة في منح شعبه نظما ديمقراطية ليمكنه من حكم نفسه بنفسه، فأعد تصريحا بمناسبة الذكرى الثامنة لجلوسه على العرش 15 / 5 / 1951 وعهد لوزير الشئون الاجتماعية معالي محمد بدرة بإلقائه في الحفل الرسمي؛ ولما لذلك الخطاب من أهمية نورد نصه الكامل:
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على نبيه الكريم
نحمد الله على ما من به علينا من مشاهدة هذا العيد الأغر المحيي للذكرى الثامنة لجلوسنا على عرش آبائنا الميامين، ونشكر له نعمته لما أفاضه علينا من ولاء شعبنا الوفي وتعلق أبنائنا المخلصين، ونتجه إليه تعالى بالإجلال والإكبار على جمع كلمة الأمة التونسية واعتصامها بعزتها القومية وبعث روح التماسك والتعاون بين أفرادها، مما يبشر بإشعاع نور اليقظة وبلوغ الأماني.
أبناءنا الأعزاء:
अज्ञात पृष्ठ