हमारी संस्कृति युग का सामना करती है
ثقافتنا في مواجهة العصر
शैलियों
وكذلك نستطيع أن نسقط من حسابنا - في موضوعنا هذا - تلك القلة القليلة التي، وإن تكن قد شاركت العصر في مشكلاته الفكرية وقضاياه؛ فإنها قد شاركته كما يشاركه رجال الفكر من أصحاب الحضارة الغربية نفسها، فكأن هذه الجماعة المستغربة تنظر إلى الأمور بعين أوروبية أو أمريكية، وكل ما لها من انتماء إلى الثقافة العربية الحديثة هو أنها تكتب ما تكتبه باللغة العربية، ولعل أهم ما قامت به في صنيعها ذاك، هو أنها عرضت على الأمة العربية ثقافة الغرب، لا عن طريق الترجمة المباشرة، بل عن طريق تمثلها لتلك الثقافة ثم عرضها بأسلوب حي، فيه روحها وشخصيتها، فلئن كانت الفئة الكبيرة التي لاذت بالماضي بغير تعديل، قد خرجت من ميدان المواجهة بالفرار؛ فإن هذه الفئة الصغيرة التي دمجت نفسها في حاضر الغرب كما هو، قد خرجت هي الأخرى من ميدان المواجهة بالذوبان في عالم غير عالمهم، وتبقى بين أيدينا جماعة واحدة، هي التي اضطلعت بالمواجهة الثقافية بكل ما في هذه الكلمة من أبعاد، وأعني تلك الجماعة التي تستقطب جمهور المثقفين، والتي جعلت همها أن تسوق ثقافة العصر في مقولات الثقافة العربية كما عرفها التاريخ.
4
ولكن ما هي ثقافة العصر التي نواجهها أو لا نواجهها؟ أحسب أننا في هذا الموضوع مطالبون بشيء من التحديد؛ فأغلب الظن أن تمر كلمة «العصر» على قارئها أو سامعها، فيعدها اسما كالأسماء التي نسمي بها الأشياء لنميز بعضها من بعض، وحقيقة الأمر غير ذلك؛ لأن «العصر» ليس شيئا محددا يشار إليه بقولنا هذا هو، وإنما هو خضم من الأحداث والكائنات تتشابك حينا وتتفكك حينا آخر، وهي ما تنفك في حركة دائمة تحذف منها وتضيف إليها، فإذا تذكرنا أننا فوق ذلك كله نتحدث عن فترة زمنية بلغت ثلاثة أرباع القرن؛ أدركنا كم هو جزاف أن نرسل القول الواحد ليشير إلى هذا المركب كله دفعة واحدة.
فأقل درجات الحيطة والحذر، تقتضينا ألا نطلق التعميم الواحد ليشمل أهل هذا العصر جميعا؛ وذلك لأن «العصر» ليس واحدا بالنسبة للجميع، فقد يعيش رجلان في محيط واحد، وفي لحظة واحدة، فإذا كل منهما قد انصرف بانتباهه إلى جانب غير الجانب الذي انصرف إليه زميله؛ فينتج عن ذلك أن يكون لكل منهما عصره، برغم اشتراكهما في أرض واحدة تظلهما لحظة بعينها، والأمثلة من حولنا تعد ألوفا لأفراد من الناس يعيشون معا في محيط زمني واحد، ومع ذلك فقد اكتفى أحدهم من ذلك المحيط بطعامه وثيابه ، وأما فكره فقد اختار أن يقيم في فترة زمنية سلفت، بينما استدبر غيره ذلك الذي سلف، لا يكاد يدري من أمره شيئا، ليعيش بفكره مع ما تصدره مطابع اليوم عن مشكلات اليوم، أنقول عن هذين إنهما يعيشان في عصر فكري واحد؟! خذ مذاهب الفلسفة - مثلا - تجد لكل مذهب عرفه الناس داعيا ونصيرا في عصرنا هذا، فما يزال بيننا دارسون هم من أعظم الدارسين، قصروا أنفسهم على الفلسفة الأفلاطونية، أو الأرسطية، أو على مذاهب المتكلمين، أو المتصوفة من المسلمين، أنقول عنهم إنهم ليسوا من أبناء العصر دون أن نجاوز الحق؟!
وإن الأمر في ذلك لتشبيه «بالبيئة» الطبيعية التي تحيط بعدد من الناس، فيظن للوهلة الأولى أن هؤلاء جميعا يعيشون في بيئة واحدة، فإذا ما أمعنت النظر قليلا ألفيت كلا منهم قد اتجه بنظره واهتمامه إلى جانب من البيئة غير ما اتجه إليه جاره؛ فقد يكون هذا الجار فلاحا يتقن زراعة أرضه، ثم لا يهمه بعد ذلك شيء، على حين أن صاحبنا الأول دارس للآثار، أو باحث عن البترول، أو فنان جاء ليرسم لوحاته من وحي هذا المكان، فالمكان واحد، لكنه بالنسبة للرجلين بيئتان مختلفتان.
ونعود إلى سؤالنا الأول: ما ثقافة العصر التي نواجهها أو لا نواجهها؟ إنها يقينا ليست كل فكرة جرى بها قلم في صحيفة أو كتاب، بل هي مختارات من تلك الحصيلة الكبرى، وجدناها ذات صلة مباشرة بحياتنا ومصيرنا، فوقفنا عندها قبولا أو رفضا أو تحليلا ينتهي بتعديل وتبديل، إن الحدث الواحد قد يكون أضخم حدث بالنسبة لسوانا، ولكننا حياله متفرجون، وهل في هذا العصر ما هو أضخم من إطلاق الصواريخ التي تغزو الفضاء؟! فلعلي أفجأ القارئ إذا ما زعمت له بأن هذه الضجة الكبرى تكاد لا تكون جزءا من ثقافة عصرنا نحن، التي نواجهها أو لا نواجهها، لكن قارن ذلك بحدث آخر، هو إقحام إسرائيل على أرضنا، وانظر بأي معنى وإلى أي مدى قد دخل هذا الجانب من الاستعمار الذي هو من علامات العصر، في دنيانا الثقافية، بحيث لم يعد منا واحد يستطيع أن يغض عنه النظر.
فالعصر إذن من الوجهة الثقافية، وبالنسبة إلى الثقافة العربية الحديثة على وجه التحديد، هو تلك الأفكار والأحداث التي مست حياتنا فأثارت اهتمامنا عن إخلاص لا تكلف فيه، ولا جدال في أن أخطرها جميعا وأعمها شمولا وأعمقها أثرا، هو القفزة الهائلة التي قفزتها العلوم الطبيعية في عصرنا، بكل ما تبعها من نتائج، كانت إحداها سعار المستعمرين، وكانت الأخرى خشية منا على الدين أن تهتز مكانته في نفوس المؤمنين، فلو تقصينا ما كتبه الكاتبون حول هذين المحورين: ما كتبوه دفعا للمستعمر ودفاعا عن الحرية، ثم ما كتبوه بيانا لقوة الدين أمام غزوات العلم الجبارة؛ تارة بالتدليل على أن الدين والعلم لا يتناقضان، وتارة أخرى بالتقليل من شأن العلم بالقياس إلى الدين؛ أقول إنا لو تقصينا ما كتبه الكاتبون حول هذين المحورين، لوجدناه قد ملأ رقعة فسيحة من مجال نشاطنا الثقافي الحديث.
والتشابه - كما ترى - شديد بين وقفتنا اليوم في مواجهة العصر ومؤثراته، وبين وقفة أسلافنا في مواجهة مثلها؛ ففي كلتا الحالتين كان الوافد «عقلا»، لولا أن هذا العقل في الحالة السابقة تمثل في الفلسفة اليونانية، وهو في الحالة الحاضرة متمثل في العلوم الطبيعية، لكن جوهر المواجهة واحد في الحالتين: في الماضي حاول أسلافنا إما أن يدللوا على أن التوافق تام بين نتاج العقل وإملاء الوحي، وإما أن يبينوا أن الثقافة العقلية الدخيلة ليست بذات نفع، إن لم تكن ضارة بإيمان المؤمنين، وكذلك في حالتنا الراهنة قد وقفنا الوقفة نفسها أمام العلوم الغازية؛ فإما - وهو الأغلب - جعلنا لها ميدانا وللدين ميدانا آخر، بحيث لا يتعارضان، وإما استخففنا بمزاعم العلم، إيمانا منا بأن الروابط السببية التي يعتز بها العلم، قد تنفصم بقدرة القادرين من أصحاب الخوارق ومن إليهم.
ومهما يكن من أمر؛ فذانك عنصران من مقومات «العصر» التي واجهتها الثقافة العربية الحديثة: المطالبة بالحرية السياسية، ثم بالحرية على إطلاقها في شتى الميادين، والدفاع عن الدين ضد أي تشكك محتمل نتيجة لسيادة العلوم الطبيعية ونجاحها الذي خطف الأبصار، تضاف إلى هذين العاملين عوامل أخرى تتفرع عنها؛ منها ما قد أدى إليه الاقتصاد الحديث القائم على العلم والصناعة من فجوة هائلة بين الغني والفقير، سواء كان ذلك على مستوى الأفراد أو على مستوى الأمم؛ ما أنشأ موضوعا خطيرا تحدى رجال الفكر والأدب، ألا وهو المساواة العادلة بين الناس كيف تتحقق، وما صورة المجتمع التي تعمل على تحقيقها، ومن تلك العوامل أيضا تلك المقارنات العجيبة التي كثرت وتنوعت، في محاولة الكشف عن طبيعة الإنسان ما هي؟ أهو العقل أم الوجدان؟ أهو الشعور الواعي أم اللاشعور؟ وكذلك من العوامل التي تحرك ثقافة العصر، فواجهناها نحن بالقبول أو الرفض؛ تحديد العلاقة بين الإنسان والعالم الذي يعيش فيه، ترى هل تفصل بينهما الفواصل بحيث يمكن القول بأن الذات الإنسانية في طرف والعالم في طرف آخر، أم أن الإنسان ظاهرة طبيعية كأي ظاهرة أخرى؟ ... تلك وأمثالها أسئلة ملأت ثقافة العصر، ورددنا عليها بمواجهات تنوعت باختلاف المفكرين والأدباء.
على أن ذلك كله إجمال، وسبيلنا الآن أن نفصله.
अज्ञात पृष्ठ