كلمة تقديم
الأصالة والتجديد في الثقافة العربية المعاصرة
موقف العرب من المذاهب الفلسفية المعاصرة
التوفيق بين ثقافتين
أزمة العقل في حياتنا
الواقع وما وراء الواقع
لمسات من روح العصر
منطق جديد .. لفكر جديد
دماغ عربي مشترك
صراع الأجيال
لحظة مع الماضي
رجل الفكر ومشكلات الحياة
ضمير الكاتب ودستور المثقفين
نموذجان من ثورة الفكر
الحضارة وقضية التقدم والتخلف
حياتنا بين الأمس واليوم
إنسانية العلم
سارتر في حياتنا الثقافية
عندما يحلم العقلاء
من برتي إلى برتراند
تعادلية الحكيم
شاهد على الصهيونية من يهود
هذه الأفعى .. كيف تسللت؟!
العنصرية والعسكرية معا
كلمة تقديم
الأصالة والتجديد في الثقافة العربية المعاصرة
موقف العرب من المذاهب الفلسفية المعاصرة
التوفيق بين ثقافتين
أزمة العقل في حياتنا
الواقع وما وراء الواقع
لمسات من روح العصر
منطق جديد .. لفكر جديد
دماغ عربي مشترك
صراع الأجيال
لحظة مع الماضي
رجل الفكر ومشكلات الحياة
ضمير الكاتب ودستور المثقفين
نموذجان من ثورة الفكر
الحضارة وقضية التقدم والتخلف
حياتنا بين الأمس واليوم
إنسانية العلم
سارتر في حياتنا الثقافية
عندما يحلم العقلاء
من برتي إلى برتراند
تعادلية الحكيم
شاهد على الصهيونية من يهود
هذه الأفعى .. كيف تسللت؟!
العنصرية والعسكرية معا
ثقافتنا في مواجهة العصر
ثقافتنا في مواجهة العصر
تأليف
زكي نجيب محمود
كلمة تقديم
في هذا الكتاب محاولة ثالثة أقدمها إلى القارئ، ساعيا بها - كما سعيت بسابقتيها - نحو صيغة ثقافية تلتقي فيها أصولنا الموروثة مع ثقافة العصر الذي نعيش فيه.
كانت المحاولة الأولى في كتاب «تجديد الفكر العربي».
وكانت الثانية في كتاب «المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري».
وها هي ذي المحاولة الثالثة في هذا الكتاب «ثقافتنا في مواجهة العصر»؛ فلئن تفرقت زوايا النظر في فصول هذا الكتاب، فإنها تلتقي كلها عند هدف رئيسي واحد، هو النظر في ثقافة عصرنا من جهة، ثم النظر في ثقافتنا الموروثة من جهة أخرى؛ بحثا عن وسيلة تلتقي بها الثقافتان عند أبناء الأمة العربية في يومهم الجديد.
فما هي أهم العناصر في ثقافة عصرنا؟ عن هذا السؤال تجد محاولة الجواب في «لمسات من روح العصر»، وفي «منطق جديد لفكر جديد»، وفي غيرهما من فصول الكتاب.
وكيف واجهنا تلك الثقافة العصرية حين وفدت إلينا فيما وفد من عناصر الحضارة الغربية الجديدة؟ أكان ذلك بالقبول؟ أم بالرفض؟ أم بالتعديل؟ وجواب هذا تراه في «الأصالة والتجديد في الثقافة العربية المعاصرة» بصفة خاصة؛ ثم إلى أي حد يجد العربي مشكلاته الفكرية منعكسة في المذاهب الفلسفية المعاصرة؟ ألا يجوز أن تكون تلك المذاهب كلها منبثقة عن أزمات عقلية حدثت هناك ولم تحدث هنا، ومن ثم تعذر على الدارسين عندنا أن يردوا أوجه التساؤل التي حاولت تلك المذاهب الفلسفية أن ترد عليها؟ عن هذه الأسئلة هناك محاولات للجواب، يجد القارئ بعضها في «موقف العرب من المذاهب الفلسفية المعاصرة»، كما سوف يجد نموذجا لاتجاهين رئيسيين في الفكر الفلسفي المعاصر، متمثلين في «سارتر» و«رسل»، وضعنا إلى جانبهما موضوعا شبه فلسفي تعرض له علم من أعلام الأدب والفكر عندنا، هو توفيق الحكيم، في كتابه «التعادلية»، ليرى القارئ أين تتفق مشكلاتنا الفكرية مع مشكلات الغربي، وأين تختلف.
فإذا كان هنالك اختلافات رئيسية بين مشكلاتنا ومشكلاتهم، وبين حلولنا وحلولهم، فهل من سبيل إلى التلاقي؟ عن هذا السؤال يجيب الكاتب في «التوفيق بين ثقافتين»، وفي غيره؛ ثم إذا كان لا بد عندنا من ثورة فكرية نغير بها بعض الوقفات؛ كالتي عبرنا عنها في «أزمة العقل في حياتنا» وفي «الواقع وما وراء الواقع»، وفي غيرهما من فصول، فكيف تكون الثورة؟ لقد عرضنا نموذجين من ثورة الفكر جوابا عن هذا السؤال، تلك وأمثالها هي أنواع الأسئلة التي تعرضت لها فصول الكتاب، فإذا خرج القارئ من هذا الكتاب بمثل ما خرج به من الكتابين السابقين، وهو أن يجد بين يديه موضوعا يتحداه، وأن يشعر في مواضع كثيرة في معارضة الرأي الذي يراه، برأي آخر من عنده يراه، كنت سعيدا بما حققته من إثارة القضية، واستثارة الرغبة في بحثها.
إلا أن النية خالصة، وعلى الله التوفيق.
د. زكي نجيب محمود
الأصالة والتجديد في الثقافة العربية
المعاصرة
1
صميم الثقافة العربية - لا فرق في ذلك بين قديمها وحديثها - هو أنها تفرق تفرقة حاسمة بين الله وخلقه، بين الفكرة المطلقة وعالم التحول والزوال، بين الحقيقة السرمدية وحوادث التاريخ، بين سكونية الكائن الدائم ودينامية الكائن المتغير؛ فالأول جوهر لا يتبدل، والثاني عرض، يظهر ويختفي، على أنها تفرقة لا تجعل الوجودين على مستوى واحد، بل تتخذ من عالم الحوادث رمزا يشير إلى عالم الخلود، فمهما تكن طبيعة الواقع والأحداث، مما يقع عليه البصر والسمع، فليست هي إلا علاقات تشير - لصاحب البصيرة النافذة - إلى الكائن الروحاني الكامن وراءها، إلى مبدعها ومجريها، وسواء نظرنا إلى الإنسان باعتباره عالما صغيرا، أو نظرنا إلى الكون كله باعتباره إنسانا كبيرا - وهي مقابلة يكثر ورودها في ثقافة العرب الأقدمين - فإن مادة الجسم في كلتا الحالتين، إنما هي ستار يستر وراءه روحا يمتنع على الفناء.
تلك التفرقة الفاصلة بين ظاهر الأمر وباطنه، هي المنبت العميق الذي يوضح لنا ما يقسم رجال الثقافة عندنا في فترات التحول، قسمين، أطلق عليهما حينا (في عشرينيات هذا القرن وثلاثينياته) أسماء القديم والجديد، وحينا آخر (في أيامنا هذه) أسماء الرجعية والتقدمية؛ وذلك أن رجال الثقافة هؤلاء، كلما عصفت بهم رياح الحوادث، ونظروا حولهم فإذا هذا الهيكل الصوري راسخ كالجبال العاتية التي لا تنال منها الرياح، ظن منهم فريق أن النجاة هي في اعتصامهم بأركانه، وظن فريق آخر ألا نجاة إلا في الخروج منه ليلوذوا بهيكل ثقافي آخر، أقامته حضارة أخرى، أثبت العصر نجاحها، ومهد لها سبيل السطوة والسيادة، فأنصار القديم أو الرجعيون هم - في كلتا الفترتين - الذين يلوذون بالمبادئ نفسها، وبالقواعد نفسها، وبالصورة نفسها التي ميزت الثقافة العربية الكلاسيكية، والتي قلنا عنها إنها في صميمها تفرقة بين عالم الأزل وعالم الزوال، وأما أنصار الجديد، أو التقدميون، فهم الذين يودون لو بتروا الشجرة من جذورها، فلا يعود الظاهر مردودا إلى الباطن، ولا الحاضر منسوبا إلى الماضي، ولا الأحداث محكومة بمبادئ سوى المبادئ التي نقررها نحن المعاصرين لها، حتى لا نترك قيادة الأحياء للموتى.
ولم يكن ذلك البناء الهيكلي للثقافة العربية في صميمها، ليكون ذا معنى، لولا أن جانب الثبات والدوام من بنائه، بالقياس إلى جانب التغير والزوال، يشتمل على مجموعة «القيم» التي يناط بها توجيه السلوك والمفاضلة بين الأفعال، فليست معايير الإنسان التي يحتكم إليها من صنعه - بناء على هذه النظرة الثقافية - بل هي مفروضة عليه، وإنما فرضت عليه لأنها بمنزلة «الحق» الموضوعي الذي لا قبل للإنسان أن يغيره أو يحوره، فهل في وسع الإنسان أن يغير من طبيعة المثلث أو المربع، فيجعل المثلث محوطا بخمسة أضلاع إذا شاء؟ كلا، فهكذا المثلث بحكم تعريفه، أن تحيط به ثلاثة أضلاع، وكذلك قل في العدل والصدق وغيرهما من معايير السلوك، ثم نتوسع قليلا في هذه المعايير الثابتة، فإذا هي المبادئ كلها والقواعد كلها، التي تهدي الإنسان في نشاطه، كائنا ما كان ذلك النشاط، من عبادة المتعبد، إلى فروسية الفارس، ومن توقيعات الموسيقى والغناء، إلى زخرفات الفنان وتفعيلات الشاعر ... معايير هي التي في مجموعها تصنع «الذوق» العربي على جميع مستوياته، من «الذوق» الصوفي إلى «ذوق» الناقد الأدبي، وهي معايير لو حللتها ألفيتها على تنوعها تلتقي في نهاية الأمر عند نقطة مشتركة، وهي أن الوقائع الجزئية الماثلة على مرأى البصر، أو على مسمع الأذن، تنتهي بك - لو تعقبتها إلى أصولها الأولى - إلى فكرة مطلقة ثابتة، لا يوصل إليها عن طريق التجريد والتعميم من خبرات الحياة الجارية، بل هي فكرة «أولية» - باصطلاح الفلاسفة في ذلك - يجدها الإنسان مغروزة في فطرته إذا هو استبطن فطرته، أو يستدلها من ظواهر الكون إذا هو نفذ خلال تلك الظواهر إلى جوهرها الباطن.
ومن هنا كان بين الأسس العميقة في بناء الثقافة العربية الصميمة أن تكون «للإرادة» أولوية منطقية على «العقل»؛ فالإرادة «فعل»، والفعل باطنه «قيمة» توجهه، وما دامت مجموعة القيم قائمة أمامنا، لم نصنعها، بل نشخص إليها لنحذو حذوها؛ فلم يبق «للعقل» إذن مهمة يؤديها إلا أن يرسم الطريق المؤدية إلى تحقيق ما تقتضيه تلك النماذج العليا المنصوبة أمامنا، ومعنى ذلك أن مجال «العقل» منحصر في دنيا التنفيذ، بحيث نلتمس به السبل المؤدية إلى الغاية المطلوبة، أما الغاية نفسها فلا شأن له بها؛ لأنها تنتمي إلى عالم القيم، فليختلف الناس كيف شاءوا في أي الطرق يسلكون، لكن الغايات مرسومة لهم، تسدد الخطى كأنها أنجم السماء تهدي السائرين في تيه الفلاة.
وواضح أن أداة الإنسان في إدراكه للغايات التي «ينبغي» عليه بلوغها، غير أداته في إدراك الخطوات التي تؤدي إلى تلك الغايات؛ فهذه الخطوات هي تخطيط «عقلي» تتتابع فيه المقدمات والنتائج، وأما تلك الغايات فإدراكها يكون «بالحدس» - وهذا مصطلح فلسفي - وإذا شئت فقل عنه إنه إدراك بالبصيرة، أو بالقلب، أو بالوجدان، أو بإلهام، أو بما تختاره من لفظ يؤدي معنى الإدراك الذي يتم بصورة مباشرة بين الذات العارفة والشيء الذي تعرفه، وإذن تكون الثقافة العربية الأصيلة - بناء على هذا التحليل - قائمة على دعامتين: الإلهام والعقل؛ بالأول ندرك ما «ينبغي»، وبالثاني نحقق ما انبغى.
2
ويحكي لنا التاريخ حكاية مفصلة عن هذا الهيكل العام للثقافة العربية، ماذا كان من أمره حين ألفى نفسه وجها لوجه مع ثقافة «غربية» قديمة، هي ثقافة اليونان، فقد نقلت هذه الثقافة إلى العربية، في القرن التاسع، بأمر من الدولة وبتدبيرها وبأموالها، على نحو يكاد المرء يلمح فيه رائحة السياسة وأهدافها، لكن ذلك ليس من شأننا في هذا المجال، وحسبنا أن نعلم أن خاصة المثقفين عندئذ قد وجدوا أمامهم هذا الوافد الجديد، الذي هو «الفلسفة» اليونانية خاصة، وإذا قلنا «الفلسفة» فقد قلنا «منطق العقل» فكيف استجابوا له؟
استجابوا له على طريقتين؛ ففريق حاول أن ينتفع به لأغراضه، وفريق آخر وقف منه موقف الرفض الصريح، فأما أول الفريقين فنراه في المعتزلة من المتكلمين وفي الفلاسفة، فحاول فريق المعتزلة أن يستخدموا أداة المنطق العقلي في الوصول إلى صيغة تدفع عن الدين كل شبهة، وتصون للفرد الإنساني في الوقت نفسه حريته في الاختيار، ومسئوليته عما يختار، فركزوا أنظارهم على محورين؛ هما وحدانية الله من جهة، وحرية إرادة الإنسان في دنيا الفعل من جهة أخرى، فسلمت لهم بذلك أركان الهيكل الثقافي العتيد، الذي يحرص على التمييز الواضح بين المطلق في ثباته، والجزئي في تغيره، مع اصطناعهم للثقافة اليونانية الوافدة وسيلة يتوسلون بها، لا غاية يقفون عندها، وأما الفريق الثاني - فريق الفلاسفة - فقد كانت طريقتهم أن يحاولوا التوفيق بين الوافد والمقيم، بين الطارف والتليد، بين ما يؤدي إليه منطق العقل، وما قد هبط به الوحي، بين حكمة الفلسفة وشريعة الدين؛ ليبينوا أن لا اختلاف على الحقائق وإن تعددت المناهج، وهكذا اتفق الفريقان: فريق المعتزلة من المتكلمين، وفريق الفلاسفة، على أن قبولهم للثقافة اليونانية المنقولة إليهما، لا يؤدي إلى تنازلهما عن أي شيء من مقومات الثقافة العربية الأصيلة، بل قد يزيدها رسوخا بما يضفيه إليها من براهين التوكيد والتأييد.
لكن تلك الوقفة المعتدلة المتسامحة اقتصرت على جماعة من خاصة المثقفين، ولا أظنها قد تسربت لتسري في حياة الناس، وأما الذي بدأ بجماعة من خاصة المثقفين كذلك، ثم سرى في جمهور الناس جيلا بعد جيل، فهو وقفة أخرى رفض بها أصحابها فلسفة اليونان المنقولة، ورأوها دخيلة على ثقافتهم وربما أفسدتها، فعند هؤلاء الرافضين أن «علوم الأوائل» - هكذا أسموا ثقافة اليونان - لا تكاد تصلح لشيء في «علوم العرب»، وعلوم العرب هذه لا تخرج عندهم عن عقيدة دينية وشريعة ولغة عربية، فكيف يمكن لهذه الفروع الثلاثة أن تفيد من علوم قوامها «طبيعيات ورياضيات وإلهيات» تدور في مجال آخر وبأسلوب آخر؟ إن هذه العلوم الوافدة - في رأيهم - هي على أحسن الفروض «حكمة مشوبة بكفر» أو هي «حق مشوب بباطل».
وحسبنا أن نذكر من هذا الفريق الرافض للفلسفة اليونانية، الإمام الغزالي، ليدرك القارئ كم كان لوقفته هذه من أثر لم يقتصر على خاصة المثقفين، بل اتسع مداه حتى أصبح مقوما هاما من مقومات الثقافة الشعبية - إذا صح هذا التعبير - فقد كتب الغزالي كتابه المشهور «تهافت الفلاسفة»، ليبين - من وجهة نظره - كيف أن الفلسفة الأرسطية بصفة خاصة، منطوية على كلام ينقض بعضه بعضا، نعم .. إن الغزالي قد أمسك بزمام نفسه، فلم تجرفه المبالغات، بدليل أنه أخذ يميز من جملة الثقافة اليونانية التي سلط عليها نقده، جوانب يراها مفيدة، ولا ضير على العقيدة الدينية منها؛ كالرياضيات، والمنطق الخالص، ومع ذلك فقد كان يخشى على الناس أن يقرءوا للفلاسفة الأقدمين أشياء صحيحة كهذه، فيتوهموا أن كل ما قاله الفلاسفة لا بد أن يكون صحيحا كذلك.
لا، لم يكن النظر العقلي - عند الغزالي - هو وسيلة إدراك الحق، والحق هو الله سبحانه، وإنما الوسيلة لذلك هي الحدس الصوفي، فكان بقوله هذا بمثابة من واجهته ثقافة «العقل» الدخيلة، فلاذ بما قد ألفه واستراح إليه ووجد فيه الدفء، ألا وهو القلب ونبضته، والوحي وهدايته.
3
ويخطئ من يظن أن قوائم الهيكل الثقافي الأصيل قد غيرها الزمن، حتى وإن تغيرت جميع القضايا المطروحة للنظر، فإذا تحدثنا عن «الثقافة العربية الحديثة» فلا بد من التفرقة الواضحة بين «المنظار» من جهة، و«الموضوع» الذي ننظر إليه من جهة أخرى؛ فهنالك موضوعات للنظر أثارتها مشكلات العصر لم يكن لنا بد من التعرض لها؛ لأنها تمس حياتنا في الصميم، ومن تفكيرنا فيها توالدت «الثقافة العربية الحديثة»، لكننا نسأل هنا: بأي منظار نظرنا، وعن أي موقف فكري صدرنا؟ وتلك هي «المواجهة».
وإنني لأزعم أن الموقف الفكري الذي صدرنا عنه في مواجهتنا للعصر، هو نفسه الموقف الفكري الذي صدر عنه أسلاف لنا عندما فوجئوا بثقافة جاءتهم من اليونان: ففريق أراد أن يجعل من الثقافة الجديدة أداة ينتفع بها في حل مشكلاته، وفريق آخر رفضها رفضا، وكان الرافضون هم الفئة التي استجابت لها عامة الناس طوال القرون التالية، نعم، إن هنالك فريقا ثالثا ثار على الهيكل نفسه، وخرج منه، بل خرج عليه، وحاول العيش مع الغرباء؛ بغية أن يتبعه الآخرون، لكن سرعان ما تبين لهؤلاء وللناس، أنهم إنما فرضوا على أنفسهم عزلة قد تفيدهم إلى حين، ولكنها لن تكون جزءا باقيا من «الثقافة العربية الحديثة».
أريد أن أكون في هذا الموضع واضحا غاية الوضوح؛ فلست أدافع ولا أهاجم، ولكنني أصف، فأقول إن الثقافة العربية الحديثة إذا واجهت العصر بمقولاتها، لم تجد مقولاتها تلك معدة كل الإعداد لتلقي مادة العصر، فانقسم رجال الثقافة عندنا ثلاثة مذاهب: مذهب وجد الصيد نافرا من القفص، لكنه لم يزل به حتى طوعه بعض التطويع، فاستكان له ولو إلى حين، وفي رحاب هذا المذهب تقع الكثرة الغالبة من أعلام الأدب والفكر في تاريخنا الحديث: محمد عبده، والعقاد، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، وغيرهم، فهؤلاء جميعا - على اختلاف نزعاتهم وأذواقهم - لم يرفضوا العصر، لكنهم حاولوا أن يصوغوه في قوالب الثقافة العربية الأصيلة، مع تفاوت بينهم في درجة النجاح، ومع هؤلاء القادة يذهب معظم المثقفين. ومذهب آخر وجد الصيد نافرا من القفص، فاستغنى عن الصيد، واحتفظ بالقفص يضع فيه من كائناته المألوفة ما يجده حاضرا بين يديه، وفي هذا المذهب تقع جماعة لا حصر لعددها، ممن ملئوا أوعيتهم من كتب التراث، وغضوا أنظارهم غضا عن العصر بكل ما يضطرب به من قضايا ومشكلات فكرية، ومع هذه الجماعة تذهب عامة الناس من غير المثقفين. ومذهب ثالث وجد الصيد نافرا من القفص، فحطم القفص، وجرى مع الصيد حيث جرى، وهؤلاء قلة قليلة، لا تجد بأسا في أن نمحو صفحتنا محوا، لنملأها بثقافة العصر وحده، كما هي معروفة في مصادرها، بغير تحريف ولا تعديل. فمن ذلك ترى جماعتين من الجماعات الثلاث، هما اللتان تصدتا للعصر؛ إحداهما بتعديله ليلائم قالبنا الموروث، والأخرى بغير تعديل فيه، ملقية في اليم القالب الموروث، وأما الجماعة الثالثة فقد لاذت بالهروب في حصونها، فلا مواجهة بينها وبين العصر، ومن ثم فلنا أن نسقطها من حسابنا، برغم كثرة عددها، وبرغم أنها هي التي ظفرت بتأييد الجماهير.
وكذلك نستطيع أن نسقط من حسابنا - في موضوعنا هذا - تلك القلة القليلة التي، وإن تكن قد شاركت العصر في مشكلاته الفكرية وقضاياه؛ فإنها قد شاركته كما يشاركه رجال الفكر من أصحاب الحضارة الغربية نفسها، فكأن هذه الجماعة المستغربة تنظر إلى الأمور بعين أوروبية أو أمريكية، وكل ما لها من انتماء إلى الثقافة العربية الحديثة هو أنها تكتب ما تكتبه باللغة العربية، ولعل أهم ما قامت به في صنيعها ذاك، هو أنها عرضت على الأمة العربية ثقافة الغرب، لا عن طريق الترجمة المباشرة، بل عن طريق تمثلها لتلك الثقافة ثم عرضها بأسلوب حي، فيه روحها وشخصيتها، فلئن كانت الفئة الكبيرة التي لاذت بالماضي بغير تعديل، قد خرجت من ميدان المواجهة بالفرار؛ فإن هذه الفئة الصغيرة التي دمجت نفسها في حاضر الغرب كما هو، قد خرجت هي الأخرى من ميدان المواجهة بالذوبان في عالم غير عالمهم، وتبقى بين أيدينا جماعة واحدة، هي التي اضطلعت بالمواجهة الثقافية بكل ما في هذه الكلمة من أبعاد، وأعني تلك الجماعة التي تستقطب جمهور المثقفين، والتي جعلت همها أن تسوق ثقافة العصر في مقولات الثقافة العربية كما عرفها التاريخ.
4
ولكن ما هي ثقافة العصر التي نواجهها أو لا نواجهها؟ أحسب أننا في هذا الموضوع مطالبون بشيء من التحديد؛ فأغلب الظن أن تمر كلمة «العصر» على قارئها أو سامعها، فيعدها اسما كالأسماء التي نسمي بها الأشياء لنميز بعضها من بعض، وحقيقة الأمر غير ذلك؛ لأن «العصر» ليس شيئا محددا يشار إليه بقولنا هذا هو، وإنما هو خضم من الأحداث والكائنات تتشابك حينا وتتفكك حينا آخر، وهي ما تنفك في حركة دائمة تحذف منها وتضيف إليها، فإذا تذكرنا أننا فوق ذلك كله نتحدث عن فترة زمنية بلغت ثلاثة أرباع القرن؛ أدركنا كم هو جزاف أن نرسل القول الواحد ليشير إلى هذا المركب كله دفعة واحدة.
فأقل درجات الحيطة والحذر، تقتضينا ألا نطلق التعميم الواحد ليشمل أهل هذا العصر جميعا؛ وذلك لأن «العصر» ليس واحدا بالنسبة للجميع، فقد يعيش رجلان في محيط واحد، وفي لحظة واحدة، فإذا كل منهما قد انصرف بانتباهه إلى جانب غير الجانب الذي انصرف إليه زميله؛ فينتج عن ذلك أن يكون لكل منهما عصره، برغم اشتراكهما في أرض واحدة تظلهما لحظة بعينها، والأمثلة من حولنا تعد ألوفا لأفراد من الناس يعيشون معا في محيط زمني واحد، ومع ذلك فقد اكتفى أحدهم من ذلك المحيط بطعامه وثيابه ، وأما فكره فقد اختار أن يقيم في فترة زمنية سلفت، بينما استدبر غيره ذلك الذي سلف، لا يكاد يدري من أمره شيئا، ليعيش بفكره مع ما تصدره مطابع اليوم عن مشكلات اليوم، أنقول عن هذين إنهما يعيشان في عصر فكري واحد؟! خذ مذاهب الفلسفة - مثلا - تجد لكل مذهب عرفه الناس داعيا ونصيرا في عصرنا هذا، فما يزال بيننا دارسون هم من أعظم الدارسين، قصروا أنفسهم على الفلسفة الأفلاطونية، أو الأرسطية، أو على مذاهب المتكلمين، أو المتصوفة من المسلمين، أنقول عنهم إنهم ليسوا من أبناء العصر دون أن نجاوز الحق؟!
وإن الأمر في ذلك لتشبيه «بالبيئة» الطبيعية التي تحيط بعدد من الناس، فيظن للوهلة الأولى أن هؤلاء جميعا يعيشون في بيئة واحدة، فإذا ما أمعنت النظر قليلا ألفيت كلا منهم قد اتجه بنظره واهتمامه إلى جانب من البيئة غير ما اتجه إليه جاره؛ فقد يكون هذا الجار فلاحا يتقن زراعة أرضه، ثم لا يهمه بعد ذلك شيء، على حين أن صاحبنا الأول دارس للآثار، أو باحث عن البترول، أو فنان جاء ليرسم لوحاته من وحي هذا المكان، فالمكان واحد، لكنه بالنسبة للرجلين بيئتان مختلفتان.
ونعود إلى سؤالنا الأول: ما ثقافة العصر التي نواجهها أو لا نواجهها؟ إنها يقينا ليست كل فكرة جرى بها قلم في صحيفة أو كتاب، بل هي مختارات من تلك الحصيلة الكبرى، وجدناها ذات صلة مباشرة بحياتنا ومصيرنا، فوقفنا عندها قبولا أو رفضا أو تحليلا ينتهي بتعديل وتبديل، إن الحدث الواحد قد يكون أضخم حدث بالنسبة لسوانا، ولكننا حياله متفرجون، وهل في هذا العصر ما هو أضخم من إطلاق الصواريخ التي تغزو الفضاء؟! فلعلي أفجأ القارئ إذا ما زعمت له بأن هذه الضجة الكبرى تكاد لا تكون جزءا من ثقافة عصرنا نحن، التي نواجهها أو لا نواجهها، لكن قارن ذلك بحدث آخر، هو إقحام إسرائيل على أرضنا، وانظر بأي معنى وإلى أي مدى قد دخل هذا الجانب من الاستعمار الذي هو من علامات العصر، في دنيانا الثقافية، بحيث لم يعد منا واحد يستطيع أن يغض عنه النظر.
فالعصر إذن من الوجهة الثقافية، وبالنسبة إلى الثقافة العربية الحديثة على وجه التحديد، هو تلك الأفكار والأحداث التي مست حياتنا فأثارت اهتمامنا عن إخلاص لا تكلف فيه، ولا جدال في أن أخطرها جميعا وأعمها شمولا وأعمقها أثرا، هو القفزة الهائلة التي قفزتها العلوم الطبيعية في عصرنا، بكل ما تبعها من نتائج، كانت إحداها سعار المستعمرين، وكانت الأخرى خشية منا على الدين أن تهتز مكانته في نفوس المؤمنين، فلو تقصينا ما كتبه الكاتبون حول هذين المحورين: ما كتبوه دفعا للمستعمر ودفاعا عن الحرية، ثم ما كتبوه بيانا لقوة الدين أمام غزوات العلم الجبارة؛ تارة بالتدليل على أن الدين والعلم لا يتناقضان، وتارة أخرى بالتقليل من شأن العلم بالقياس إلى الدين؛ أقول إنا لو تقصينا ما كتبه الكاتبون حول هذين المحورين، لوجدناه قد ملأ رقعة فسيحة من مجال نشاطنا الثقافي الحديث.
والتشابه - كما ترى - شديد بين وقفتنا اليوم في مواجهة العصر ومؤثراته، وبين وقفة أسلافنا في مواجهة مثلها؛ ففي كلتا الحالتين كان الوافد «عقلا»، لولا أن هذا العقل في الحالة السابقة تمثل في الفلسفة اليونانية، وهو في الحالة الحاضرة متمثل في العلوم الطبيعية، لكن جوهر المواجهة واحد في الحالتين: في الماضي حاول أسلافنا إما أن يدللوا على أن التوافق تام بين نتاج العقل وإملاء الوحي، وإما أن يبينوا أن الثقافة العقلية الدخيلة ليست بذات نفع، إن لم تكن ضارة بإيمان المؤمنين، وكذلك في حالتنا الراهنة قد وقفنا الوقفة نفسها أمام العلوم الغازية؛ فإما - وهو الأغلب - جعلنا لها ميدانا وللدين ميدانا آخر، بحيث لا يتعارضان، وإما استخففنا بمزاعم العلم، إيمانا منا بأن الروابط السببية التي يعتز بها العلم، قد تنفصم بقدرة القادرين من أصحاب الخوارق ومن إليهم.
ومهما يكن من أمر؛ فذانك عنصران من مقومات «العصر» التي واجهتها الثقافة العربية الحديثة: المطالبة بالحرية السياسية، ثم بالحرية على إطلاقها في شتى الميادين، والدفاع عن الدين ضد أي تشكك محتمل نتيجة لسيادة العلوم الطبيعية ونجاحها الذي خطف الأبصار، تضاف إلى هذين العاملين عوامل أخرى تتفرع عنها؛ منها ما قد أدى إليه الاقتصاد الحديث القائم على العلم والصناعة من فجوة هائلة بين الغني والفقير، سواء كان ذلك على مستوى الأفراد أو على مستوى الأمم؛ ما أنشأ موضوعا خطيرا تحدى رجال الفكر والأدب، ألا وهو المساواة العادلة بين الناس كيف تتحقق، وما صورة المجتمع التي تعمل على تحقيقها، ومن تلك العوامل أيضا تلك المقارنات العجيبة التي كثرت وتنوعت، في محاولة الكشف عن طبيعة الإنسان ما هي؟ أهو العقل أم الوجدان؟ أهو الشعور الواعي أم اللاشعور؟ وكذلك من العوامل التي تحرك ثقافة العصر، فواجهناها نحن بالقبول أو الرفض؛ تحديد العلاقة بين الإنسان والعالم الذي يعيش فيه، ترى هل تفصل بينهما الفواصل بحيث يمكن القول بأن الذات الإنسانية في طرف والعالم في طرف آخر، أم أن الإنسان ظاهرة طبيعية كأي ظاهرة أخرى؟ ... تلك وأمثالها أسئلة ملأت ثقافة العصر، ورددنا عليها بمواجهات تنوعت باختلاف المفكرين والأدباء.
على أن ذلك كله إجمال، وسبيلنا الآن أن نفصله.
5
يستهل الشهرستاني كتابه «الملل والنحل» (القرن الثاني عشر الميلادي) بفقرة يوضح فيها منهجه في عرض المذاهب الفكرية التي ينوي عرضها، فيقول: إن هنالك طريقتين في الترتيب؛ الأولى أن نتخذ من المسائل أصولا، ثم نورد في كل مسألة مختلف الطوائف والرجال الذين تحدثوا فيها فنقارن بينهم، والثانية أن نتخذ من الرجال والمؤلفين أصولا، ثم نورد مذاهبهم في مختلف المسائل، ثم يقول إنه اختار لنفسه الطريقة الثانية.
وأراني أميل إلى الجمع بين الطريقتين، بحيث تكمل إحداهما الأخرى؛ فلقد أسلفت القول - بناء على الطريقة الثانية - إن رجال الثقافة العربية الحديثة ينقسمون طوائف ثلاثا في مواقفهم من العصر وقضاياه: فطائفة منها رفضت العصر ولاذت بالتراث وحده، كمن تطرفوا في وجوب الأخذ بمبادئ الشريعة في تنظيم الحياة، وكمن تناولوا الفكر بمثل ما تناوله مصطفى صادق الرافعي، وطائفة ثانية قبلت العصر بحذافيره؛ فإذا تعارض مع أحوال التراث العربي رفضوا التراث، مثل فرح أنطون، وسلامة موسى، وسعيد عقل، وأما الطائفة الثالثة؛ فهي التي صنعت لنا ثقافتنا العصرية؛ لأنها هي التي زودت نفسها بكلا الزادين: الثقافة العربية الأصيلة، وثقافة عصرنا، وأخرجت منهما مزيجا، هو الذي نطلق عليه بحق «الثقافة العربية الحديثة»، وفي مقدمة هؤلاء: طه حسين، والعقاد، وتوفيق الحكيم، وأمين الريحاني، وميخائيل نعيمة، وسائر من سار على هذا النهج القويم.
وعلى أساس هذه الطائفة الثالثة وحدها، نطبق أول المنهجين اللذين ذكرهما الشهرستاني، وهو المنهج الذي يتخذ من «المسائل» أصولا له؛ فما علينا إلا أن نعرض لأمهات القضايا التي جذبت انتباهنا وأثارت اهتمامنا من مشكلات العصر؛ لنرى كيف عالجها رجال الطائفة الثالثة هؤلاء، فنعلم أنهم في معالجتهم لها، كانوا عربا وكانوا معاصرين في آن معا؛ فقد كانوا عربا بما حافظوا عليه في أنفسهم من أسس هي نفسها الأسس التي قام عليها البناء الثقافي العربي منذ قديم، وكانوا معاصرين بمادة الموضوعات التي تناولوها.
وأولى القضايا هي قضية العلم، وما استتبعه من تقنية وصناعة؛ فمهما تكن لعصرنا هذا من خصائص تميزه، فهو عصر العلم التقني بلا نزاع، وما كان أحد منا ليتردد في قبول هذا العلم النظري، من حيث نتائجه، ولا من حيث تطبيقاته، وكيف له أن يتردد في حقائق من شأنها أن تقلب وجه الحياة المادية نحو الأصح والأمتع والأيسر؟! بل إننا على مدار الخمسين عاما الأخيرة، استطعنا أن نحول التعليم في مدارسنا وجامعاتنا، من تعليم كان أقله علما وأكثره مواد إنسانية، إلى تعليم أصبح أكثره علما وأقله تلك المواد الإنسانية - كما يسمونها.
إلى هنا ولا إشكال، ولكن ذلك كله - عند النظر الفاحص - لا يعدو السطح الظاهر إلى الباطن الخبيء، إن أخذنا العلم من حيث نتائجه وطرق تطبيقه في أجهزة نستخدمها في البيوت وفي المصانع؛ لم يجاوز هذه القشرة العملية الظاهرة بحيث يتغلغل إلى الداخل فيغير من وجهة النظر؛ وذلك لأننا أخذنا الثمرة ولم نأخذ الشجرة بجذورها، أخذنا النهاية ولم نأخذ المنهج الذي أدى إليها، والنظرة التي تضمنتها؛ فالعلم العصري ينطوي على أسس ليست هي الأسس التي عرفناها في بنائنا الثقافي العربي، فكان لا بد لنا من أحد أمرين: إما أن نرفض البناء الجديد كله أسسا وجدرانا، وبذلك نعزل أنفسنا عن العصر عزلا تاما، وإما أن نقبله أسسا وجدرانا كذلك، وبذلك نخرج على نظرتنا ذات الطابع المتميز، وكان هذان الموقفان هما بالفعل موقف الطائفتين الأولى والثانية على التتابع، من الطوائف الثلاث التي ذكرناها، لكن فاجأتنا الطائفة الثالثة - التي هي العمود الفقري للثقافة العربية الحديثة - بموقف وسط، فيه مرونة برغم ما فيه من مفارقة منطقية؛ وذلك أن أصحابها قبلوا العلم ورفضوا الأسس التي ينطوي عليها، كأنما هم قبلوا الجدران المقامة ورفضوا الركائز التي أقيمت عليها هذه الجدران، ولا عليهم أن يقال لهم إن ذلك لا يتسق مع الصورة المنطقية الشكلية، ما داموا قد وجدوا في هذا الموقف ما يريح الأنفس ويحل الإشكال.
وذلك أنك لا تستطيع أخذ العلم النظري الحديث، دون أن تفطن إلى أنه قد انبنى على تغيير في وجهة النظر، نقل الإنسان من البحث عن «أسباب» الظواهر، إلى البحث عن «قوانينها»، وقد كان البحث التقليدي عن الأسباب، ثم عن أسباب الأسباب، وهلم جرا، ينتهي بالفلاسفة دائما إلى ما كانوا يسمونه «بالعلة الأولى»، أو السبب الأول، وكانت هذه العلة الأولى - في تصورهم - لا تكتفي بذاتها إلا إذا كان من طبيعتها أن تحرك سواها، لكنها هي نفسها ساكنة وثابتة، والقول بالعلة الأولى يتفق مع الإيمان الديني بوجود الله، وهو إيمان رأينا أنه يقع في الصميم من البناء الثقافي العربي على طول العصور، فإذا جاءت النظرة العلمية اليوم واستغنت عن الأسباب في تسلسلها، وقنعت بالصيغ الرياضية التي تؤلف مجموعة القوانين العلمية، فقد انحصرت في «الطبيعة» ذاتها؛ كيف تتفاعل عناصرها، وعلى أي القوانين تسير؟ وطرحت من حسابها سؤالين كان لهما فيما مضى كل الخطر: ما الذي أحدث ...؟ وإلى أي غاية ...؟
ها هنا يقع الحرج للمثقف العربي الذي لا يجد بدا من مسايرة العصر في علمه وتقنياته وتطبيقاته، وها هنا أيضا وجد رجال الطائفة الثالثة التي أشرنا إليها، الشجاعة والمهارة معا ليعلنوا حكمهم بأن «العلم وحده لا يكفي» وعند هذه النقطة يكمن أعمق جذر في مواجهة الثقافة العربية الحديثة للعصر؛ فليس منا واحد لم يحس في نفسه القلق الشديد إذا طولب ببتر الطرفين من مجال النظر: طرف القوة التي أحدثت، وطرف الغاية التي من أجلها أحدثت؟ وفي يقيني أنه حتى أولئك الذين أرادوا أن يكونوا علميين تجريبيين بكل ما تقتضيه وجهة النظر الجديدة؛ لم يستطيعوا مصالحة أنفسهم، وبقي القلق في ضمائرهم يؤرقها، إذن فهذه هي نظرتنا التي تريحنا، وهي أن نضيف إلى عالم الشهادة غيبا مستورا، وإذا كان عالم الشهادة بحاجة إلى مشاهدة وتجربة لإدراكه، فالغيب إدراكه يبنى على إيمان.
ولك بعد ذلك أن تطالع ما كتبه أعلام الثقافة العربية الحديثة من هذه الزاوية، لتجد صحائفهم مليئة بهذا التطلع الذي يجاوزون به المادة، دون أن يتنكروا للعلم المؤسس على هذه المادة وطبيعتها؛ إيمانا منهم بأن التعلق بما وراء المادة، إضافة تنفع الإنسان ولا تنقص من العلم شيئا، ويكفينا هنا مثالان أو ثلاثة، نسوقها من هؤلاء الأعلام:
كان طه حسين عقلانيا خالصا، على نهج العلم والعلماء، حين أصدر كتابه عن «الأدب الجاهلي» سنة 1926م، حتى ظن الناس أنه قد ذهب مع عقلانية العصر إلى المدى الذي ينسيه روح الثقافة العربية، حتى إذا ما أقبل على الناس عام 1933م، أصدر لهم طه حسين رائعته الأدبية «على هامش السيرة» وفي مقدمة هذا الكتاب، يقول: «أنا أعلم أن قوما سيضيقون بهذا الكتاب لأنهم محدثون، يكبرون العقل، ولا يثقون إلا به، ولا يطمئنون إلا إليه؛ وهم لذلك يضيقون بكثير من الأخبار والأحاديث التي لا يسيغها العقل ولا يرضاها .. وأحب أن يعلم هؤلاء أن العقل ليس كل شيء، وأن للناس ملكات أخرى ليست أقل حاجة إلى الغذاء والرضى من العقل».
وأما توفيق الحكيم، فتكاد كل مسرحية من مسرحياته تفصح عن هذه العقيدة، وهي عقيدة طالما ساقها الكاتب صريحة لا تحتاج منك إلى استدلال وبحث؛ فهو يؤمن أعمق الإيمان بوجود قوة غيبية لا قبل للإنسان بردها، فإن أوهمه عقله المحدود بأنه قادر على فرض إرادته، حدثت الفاجعة ونزلت المأساة ، فلا مندوحة للإنسان عن حصر معرفته العقلية في حدودها، تاركا لإيمانه ما وراء تلك الحدود، وإنا لنرى الكاتب في «عصفور من الشرق» يخاطب الغرب، الذي أخذه الغرور بعلمه، فيقول: «ماذا صنع لنا العلم؟ وماذا أفدنا منه؟ الآلات التي أتاحت لنا السرعة؟ وماذا أفدنا من هذه السرعة؟ البطالة التي تلم بعمالنا، وإضاعة ما يزيد من وقت فراغنا فيما لا ينفع ...» ولكنه برغم هذه النبرة اليائسة من العلم وحضارته، لا يريدنا أن نستغني عنه؛ فهو لا يفتأ يذكرنا مسرحية بعد مسرحية، أن على العقل أن يرتاد الكون إلى آخر مستطاعه، ثم يسلم الزمام بعد ذلك لإدراك الوجدان.
وتقرأ العقاد نثرا أو شعرا، فترى العقيدة نفسها؛ فالكون عنده روح نلمسها بيد من المادة؛ أي إن الروح هي حقيقة الوجود، والمادة وسيلتنا إلى معرفتها، وأن هذه الطبيعة بكل ما فيها لهي ألسنة تنطق بالروح الكامنة وراءها؛ ولذلك فليس العقل، وليست الحواس (وهذه هي أدوات العلم) بمستطيعة وحدها أن تدلنا على الحق، وإنما وسيلتنا إلى إدراك الحق هي الوجدان.
6
ومن الأفكار التي ميزت عصرنا، واستجابت لها الثقافة العربية الحديثة بضروب شتى من المواجهة العنيفة التي بلغت حد الثورات الشعبية الجارفة، فكرة «القومية»، وهي فكرة تمتد جذورها إلى أول يوم قامت فيه تجمعات بشرية، لكنها اكتسبت في عصرنا أبعادا جديدة، جعلتها - مع التجوز - تعد من معالم العصر البارزة، فمن أعجب المفارقات أن هذا العصر قد شهد من وسائل الاتصال ما لم يحلم به أي عصر مضى، بحيث باتت أبعد مطارح الأرض رهنا بدفعة صغيرة من إصبع، فإذا أنت هناك، ومع ذلك؛ فقد فرقت بين شعوب هذا العصر فواصل لم يشهدها عصر آخر، فكأنما خشي الناس - من أبناء هذا الوطن أو ذاك - أن تغمرهم موجة التقارب، فإذا هم قد أضاعوا خصائصهم المميزة، فطفقوا يشددون القبضة على كل علائم التمييز: اللغة والعادات والثياب والفنون الشعبية، وغيرها وغيرها، فزاد ذلك من ظهور الفوارق القومية شدة، وكلما كان اللقاء بين الأمم على صعيد دولي أوسع؛ كان الحرص على إبراز الخصائص القومية أشد وأقوى.
ولقد تلازمت فكرة القومية في بلادنا بفكرة الحرية السياسية، وكان ذلك أمرا طبيعيا؛ لأننا وقد خرجنا من سلطان الأتراك لنقع في قبضات المستعمر الغربي، لم نجد حافزا يجمع قوانا في حركة المقاومة أفعل أثرا من الدعوة إلى ضم صفوفنا تحت راية القومية، وإذن فنستطيع القول بأن صدامنا مع المستعمرين، كان هو الذي ألهب شعورنا بقوميتنا، لكنها لم تكن «قومية» بمعنى واحد على طول الطريق، بل بدأت قوميات إقليمية، وانتهت إلى قومية عربية مشتركة، وتخللت هذه وتلك نداءات إلى قوميات طائفية؛ كالفرعونية في مصر، والفينيقية في لبنان.
والذي يهمنا في موضوعنا هذا، هو ما أحدثته هذه الحركة القومية بشتى معانيها وأهدافها، من صلات ثقافية بيننا وبين مصادر الثقافة العصرية، وحسبنا في هذا المجال أن نذكر أن عشرات المؤلفين الذين كتبوا مئات البحوث والكتب في موضوع القومية، يكادون جميعا يكونون ممن استمدوا ثقافتهم من معين الثقافة الغربية، ويندر جدا أن تجد مؤلفا واحدا ذا خطر في هذا الميدان ممن اقتصرت ثقافتهم على تراثنا العربي وحده، فماذا يعني ذلك إلا أن تكون فكرة «القومية» من النقاط المهمة التي حدثت عندها مواجهة ثقافية بيننا وبين عصرنا؟ لقد كنا في هذا الميدان كالمحارب الذي يستمد سلاحه من عدوه ليحاربه به، اقرأ مثلا هذه الفقرة المأخوذة من خطاب لمفكر عربي ألقاه في مؤتمر عربي: «إن الجماعات في نظر علماء السياسية لا تستحق هذا الحق (حق القومية الواحدة) إلا إذا جمعت - على رأي علماء الألمان - وحدة اللغة ووحدة العنصر، وعلى رأي علماء الطليان وحدة التاريخ ووحدة العادات، وعلى مذهب ساسة الفرنسيس وحدة المطمع السياسي. فإذا نظرنا إلى العرب من هذه الوجوه الثلاثة، علمنا أن العرب تجمعهم: وحدة لغة، ووحدة عنصر، ووحدة تاريخ، ووحدة عادات، ووحدة مطمع سياسي؛ فحق العرب بعد هذا البيان أن يكون لهم - على رأي كل علماء السياسية دون استثناء - حق جماعة، حق شعب، حق أمة.» فلنلحظ هنا كيف يبني المفكر العربي حق العرب في أن يكونوا قومية واحدة، على مذاهب الغرب ، ليكون مفهوما لأبناء الغرب حين يتحدث إليهم بلغتهم.
وإنه لجدير بالذكر هنا أن نقول إنه إذا كانت القومية حلما يتغنى به الشعراء أو أئمة السياسة، فإن الفضل في ذلك درجة ثقافتهم، ولم تعد فكرة تقتصر على علية المثقفين، أو حلما يتغنى به الشعراء أو أئمة السياسة، فإن الفضل في ذلك هو لرجال الثقافة العربية الحديثة، الذين كتبوا وكتبوا، وشرحوا وشرحوا، حتى بلغت الدعوة كل فرد من أبناء الأمة العربية من أقصاها إلى أقصاها، فلربما وجدت هذه الأمة مختلفة على قادة السياسة، لكنك واجدها على اتفاق يكاد يكون تاما على المثقفين، فالشاعر الكبير، والكاتب المرموق، يتخطى حدود إقليمه ليصبح شاعر الجميع، وكاتب الجميع، بغير تمييز ولا تفرقة، فلا نقول عن أحمد شوقي إنه من مصر، ولا أمين الريحاني إنه من لبنان، ولا معروف الرصافي إنه من العراق، ثم لا نميز بالقومية الإقليمية طه حسين، أو العقاد، أو الزهاوي، إلا على سبيل استيفاء الملامح الفردية لكل منهم، وأما من حيث الواحد منهم شاعر أو كاتب، فهو عربي وكفى.
ولعل فرعين تفرعا من «القومية» بمعناها السياسي، أن يكونا أجدر باهتمامنا في موضوعنا، وهما: اللغة العربية، وهل نأخذ بعامياتها المتنوعة، أو بفصحاها المشتركة؟ ثم اللغة العربية، وهل نكتبها بأحرف عربية أو نكتبها بأحرف لاتينية؟ فهاتان مشكلتان اشتجر حولهما خلاف بين المثقفين، حتى لنراهما تكونان جانبا ملحوظا في تاريخنا الثقافي الحديث، نعم، إن مشكلة الكتابة بأحرف عربية أو لاتينية قد أوشكت على الزوال، بعد أن اشتد صراخها في ثلاثينيات هذا القرن وأربعينياته، لكن مشكلة الفصحى والعامية ما زالت قائمة على أشدها، وربما كان ذلك بسبب النهضة المسرحية، التي استدعت منا تفكيرا جادا في لغة الكتابة المسرحية ماذا تكون، ثم تتسع المشكلة عند نفر قليل، لتشمل الكتابة على إطلاقها.
لقد ارتبطت فكرة «القومية» بالاهتمام باللغة ارتباطا عضويا، لا يجعل إحداهما بمعزل عن الأخرى، مهما يكن موقف الكاتب، لكننا نستطيع المجازفة بشيء من التعميم المقبول، إذا قلنا إنه كلما أحس الكاتب رغبة مخلصة في تدعيم للقومية العربية ؛ أحس بالتالي ضرورة أن تحافظ اللغة الفصحى على مقوماتها، والعكس صحيح، فكلما أراد الكاتب - عن قصد مباشر أو غير مباشر - مناهضة القومية العربية لأي سبب من الأسباب - طائفيا كان السبب أو ثقافيا - أراد بالتالي أن يلتمس وسيلة يتذرع بها إلى التخلص من الفصحى وما يتبعها من أصول وقواعد ومفردات، ولقد رأينا جميع من تناولوا القومية العربية بالبحث العلمي من كتابنا - ساطع الحصري، وأنطون زريق، وحازم نسيبة، وغيرهم كثيرون - يختلفون حول العوامل المكونة لتلك القومية، أيها يتقدم أيها في قوة الأثر، لكنهم يتفقون على أن اللغة لها المكانة الأولى في بناء القومية العربية.
ومجرد الاهتمام باللغة - على أي وجه كان - هو اهتمام بتجديد العلاقة بين حاضرنا وماضينا، لكننا نزيد الأمر تخصيصا فنقول - مع إدوارد سابير في كتابه «اللغة» - إن اللغة من حيث هي أداة للثقافة، تقع في مستويين؛ فهناك المستوى الذي تكون فيه العلاقة بين اللغة والواقع الحسي علاقة مباشرة، أو كالمباشرة، فإذا تحدث المتحدث كان السامع يتابع حديثه وعينه على شئون الواقع، ليطابق بين الرمز اللغوي من جهة، وأوضاع العالم الفعلية من جهة أخرى، لكن هنالك مستوى آخر للغة، وذلك حين يصوغ المتكلم أو الكاتب عبارته، فإذا بها تقع على أذن السامع وكأنها هابطة من مصدر مجهول، وهنا ترانا نصغي، وندرك الحق فيما نسمعه، دون أن يدور في خلدنا أن يكون مصدر هذا الحق ما حولنا من شئون الحياة الجارية، فكأنما أمثال هذه العبارات ليس لها صاحب يحتكرها، أو كأن الوجود كله عندئذ هو الذي يتكلم العربية بهذه العبارات، ليصور بها جوانب من الحقائق الأزلية الأبدية.
ونعود إلى الهيكل الصوري الذي أشرنا إليه في أول هذا المقال، زاعمين أنه بين قوائم الثقافة العربية الأصيلة، فقد كان أهم ما ذكرناه عندئذ، مقابلة بين «المطلق» و«عالم الحوادث»، وما لم تكن وقفة المثقف العربي - مهما يكن ميدانه - وقفة تجمع بين هذين الطرفين، لا من حيث يكون «المطلق» استخلاصا من عالم الحوادث الجزئية، بل من حيث هو موجود واجب الوجود، يفرض نفسه على مجرى الأحداث، فمثل ذلك المثقف يبتر الصلة بينه وبين «الأصالة» بالمعنى الذي يرد «الأصالة» إلى الأصول الأولى، وعلى أساس ذلك الهيكل الصوري للثقافة العربية، نقول إن اللغة العربية التي كونت تراثنا الأدبي، هي لغة صادرة عن المستوى الثاني - المستوى الأعمق - الذي قلنا عنه إن العبارة الصادرة عنه تجيء وكأنها لغير متكلم فرد، أو كأنها قيلت بلسان الكون كله، ولعله لا يصعب على المتعقب أن يلاحظ أن الفرق الجوهري بين أنصار «القديم» وأنصار «الجديد» في حياتنا الثقافية الحديثة، هو في طريقة استخدام اللغة: استخدامها بالطريقة المبهمة الموحية كما كان شأنها، وبذلك نجعلها وكأنها هي صادرة عن «المطلق» من فوق رءوس الحوادث، أم نستخدمها بالطريقة الواضحة المباشرة التي نتتبع بها حوادث الحياة الجارية، ووقائع الطبيعة المحسوسة؟ لو كانت الأولى كنا من أنصار «القديم»، ولو كانت الثانية كنا من أنصار «الجديد»، ونترك لصاحب الموهبة أن يلتمس لنفسه طريقا يجمع بينهما، فيكون هو الكاتب الذي جمع التجديد إلى الأصالة، كما هي الحال مع طه حسين، وغيره من أعلام الأدب العربي الحديث.
7
بدأ العالم العربي الحديث صلاته بحضارة عصره، حين جاءته هذه الحضارة غازية غالبة متسلطة؛ فما هي إلا أن زالت عنه الدهشة، حتى أخذ يحاول الخلاص؛ لذلك كانت فكرة «الحرية» نقطة تماس بين المقهور والقاهر، وكما هي الحال في سائر الميادين، أخذنا المبادئ النظرية من الغرب الظافر، لنحاربه بها، وإلا فلو اعتمدنا على محصولنا الموروث وحده في المطالبة بالحرية والاحتجاج لها؛ لما وجدنا ما يحقق الغاية.
بدأنا بفكرة الحرية السياسية، كما نرى عند مصطفى كامل، وأحمد لطفي السيد، وعبد الرحمن الكواكبي، وغيرهم، لكن سرعان ما تفرع معنى الحرية وتعددت أوجهه؛ من حرية المرأة عند قاسم أمين، إلى حرية الأديب والشاعر في اختيار مادته وأسلوبه، وفي هذا كان لكل فترة روادها، فالعقاد وزميلاه، عبد الرحمن شكري وإبراهيم المازني، في الربع الأول من القرن، وجماعة الرومانسيين، التي أطلقت على نفسها جماعة أبولو في ثلاثينيات القرن، ثم دعوة إلى أن يكون الأدب هادفا نحو عدالة اجتماعية بين الناس؛ وذلك بعد الحرب العالمية الثانية، وما استهل عقد الخمسينيات حتى توالت الثورات الشعبية، بادئة بثورة مصر سنة 1952م، ثم في العراق، وسوريا، والجزائر، واليمن، والسودان، وليبيا، من أقطار الوطن العربي، تعمل كلها على توسيع معنى الحرية، ليجاوز الحرية السياسية ويشمل الحرية الاجتماعية كذلك.
ولسنا نذكر هذه اللمحة الخاطفة عن موضوع «الحرية» وإلى أي مدى بعيد شغل، وما زال يشغل، الثقافة العربية بكل أبعادها، أقول إننا لا نذكر هذه اللمحة الخاطفة من موضوع «الحرية» لتؤدي ما يؤديه تاريخ سياسي يكتب عن الوطن العربي في عصره الحديث، بل نذكرها لنسأل على ضوئها: كيف كانت مواجهة الثقافة العربية للعصر في هذا الميدان؟
فضلا عن مواجهة الصراع السياسي الذي أنتج لنا مقالات سياسية ممتازة على أيدي كبار كتابنا، مما لا أظن القارئ بحاجة إلى مزيد من معرفة به، أود أن أسوق ضربا آخر من المواجهة في ميدان «الحرية» قد لا يرد ورودا سريعا على الخواطر، وهو مواجهة «الشمولية» في السياسة وفي الصناعة، بموقف يصون للأفراد حياتهم، حتى لا تنجرف في التيار، نعم، إن هذه المقاومة ملحوظة أيضا في ثقافة الغرب العصرية نفسها، بما قد نشأ هناك من فلسفة وجودية، تعطي للفرد حق الحياة المستقلة المسئولة بقرارات يتخذها في المواقف التي تصادفه، وتتطلب منه القرار على طريق دون طريق، وهي وجودية تبدأ بالفلسفة لتنتشر إلى كل ضروب الثقافة من أدب وفن؛ حرصا منها على ألا يتجانس الأفراد بفعل المحاكاة وحدها، كأنما هم آلات صبت في قالب واحد، فلو تركنا عوامل العصر - سياسية كانت أم صناعية - تفعل فيها بغير تدخل منا، لأنتجت الإنسان ذا البعد الواحد - على رأي هربرت ماركيز في كتابه المعروف بهذا العنوان - وهذا البعد الواحد هو ما يتجانس به الفرد مع سائر الأفراد، لكن فطرة الإنسان تدعوه في إلحاح إلى أن يتميز من سواه، وإذن فلا بد من إضافة عمق التمييز إلى سطح التجانس؛ ليجيء الإنسان بسطحه وبعمقه متكامل التكوين، يحقق الهدفين: التفرد بما يميزه، والتجانس مع غيره بما لا يميزه.
ولقد سارعت الثقافة العربية المعاصرة إلى التقاط خيوط المذهب الوجودي، حتى قبل أن يصاب الناس في الوطن العربي بكل ما من شأنه أن يصيبهم لو اكتملت لهم حياة العصر من علم تقني وصناعة، ولا غرابة أن نجد أطرافا متناثرة من المذهب الوجودي على أقلام كتابنا وشعرائنا، حتى لقد أصبح هذا المذهب جزءا مألوفا من ثقافة العامة، فضلا عن الخاصة من المثقفين، لكننا لو وقفنا عند هذا الحد - وعند هذا الحد يقف أكثرنا - نكون قد محونا أصالتنا؛ إذ لا يكون ثمة فرق بين عربي وفرنسي وإيطالي في وجهة النظر، ما داموا جميعا يشتركون في صورة واحدة من مقاومة العصر في نزوعه نحو طمس الفردية من الأفراد.
والذي حدث هو أن رجالا من الفئة الممتازة التي تصنع لنا الثقافة العربية الحديثة، لكي تجمع بين الجديد والأصيل، لجأت إلى الإطار الثقافي العتيد، واستعانت به في توكيد الفردية للأفراد، فوجدته في ذلك - والحق يقال - خير معين؛ لأنه إطار قائم أساسا على موضوعية القيم، وأعني أن طريق الإنسان في حياته - من حيث معايير الصواب والخطأ - مرسوم له بمجموعة من المقاييس، أعطت له إلهاما ووحيا، وهذه المقاييس الموحى بها لتهدي عالم الحوادث، مشحونة بما يذكر الإنسان الفرد أنه فرد مسئول عما يأخذ وعما يدع، باختياره الحر، وانظر إلى رجال الأدب والفكر جميعا، واحدا واحدا، فلا تكاد تجد منهم أحدا لم يلجأ إلى تصوير البطولات العربية التقليدية، تصويرا يراد به تجسيد القيم الأصيلة في تراثنا، وهي قيم لا تدع مجالا لريبة مرتاب، في أن حرية الفرد حق له وواجب عليه في آن معا؛ فهو من ناحية حياته الخاصة مسئول عن اختياره يوم الحساب، وهو من ناحية حياته الاجتماعية مسئول عن تقويم المعوج حيثما رآه: العقاد ب «عبقرياته» الكثيرة، وطه حسين بمن أرخ لهم من الخلفاء الراشدين، وكذلك هيكل والحكيم، وسائر أفراد الزمرة الكريمة من حملة الأقلام، التي لم يكفها القديم وحده، ولم تندفع إلى الجديد وحده، بل صبت هذا في إطار من ذاك، فكان لنا من المركب ثقافة عربية حديثة.
ومرة ثانية؛ نلفت الأنظار إلى أن الثقافة العربية بموقفها هذا، هي بمنزلة من رفض العصر في ركن ركين من بنائه؛ ففي المرة الأولى أشرنا إلى ما تقتضيه علمية العصر من اكتفاء بظواهر الطبيعة وقوانينها، فرفضت ثقافتنا مثل هذا الاكتفاء، وأضافت باطنا إلى الظاهر، وغيبا إلى الشهادة، وها هي ذي مرة أخرى؛ تجد العصر - وهو عصر النسبية بلا جدال - قد استدبر كل فكرة تأخذ بمطلق من المطلقات الكثيرة التي كانت تأخذ بها العصور الماضية، ومنها القيم - أخلاقية كانت أو جمالية أو كائنة ما كانت - فإذا كان المكان والزمان نسبيين، تختلف عنهما الحقائق باختلاف موقع الرائي، فما بالك بتقديرات الإنسان عن الجيد والرديء والجميل والقبيح؟ إنها مسائل مرهونة كلها بما ينفع، بل ذهب أصحاب التحليلات الفلسفية في عصرنا، وهم الذين عنوا بنقد الكلام لتمييز ما يكون منه ذا معنى وما لا يكون، إلى أن العبارات الدالة على قيمة من القيم، هي عبارات بغير «معنى»، وذلك حين يقصد ب «المعنى» مقابل خارجي تشير إليه الجملة المعنية .. هذا هو العصر في وقفته إزاء «القيم»، فتجيء ثقافتنا العربية المعاصرة (وقد غضضنا النظر عمن ينحاز منا نحو الثقافة العصرية كما هي قائمة في مصادرها، بغير تعديل) وترفض هذه الوقفة التي تحيل كل «قيمة» إلى وجهة نظر ذاتية، لا يؤيدها ولا يدحضها أن تجيء عند الآخرين وجهات نظر توافقها أو تعارضها؛ فالقيم - بناء على إطارنا الثقافي الأصيل - هي كسائر الحقائق الروحية، أمور ليست من صنعنا، إنما هي هناك، نشخص إليها ببصائرنا كما نشخص بأبصارنا إلى الشمس والقمر، وعلينا أن نهتدي بهديها، كما يهتدي الملاح بالنجم القطبي الثابت، وعلى المنحرف عن هديها تقع التبعة يوم يكون الحساب.
كذلك تقف ثقافتنا العربية الحديثة موقف الرفض الصريح من معظم ما يذهب إليه العصر بالنسبة إلى حقيقة الإنسان؛ فأغلب الرأي الذي نراه منعكسا في العلوم وفي كثير من التيارات الفلسفية التي تساير العلوم (إذ هنالك تيارات فلسفية رافضة، موقفها شبيه بموقفنا) هو أن الإنسان ظاهرة من ظواهر الطبيعة، نبحثه بالمنهج نفسه الذي نبحث به سائر الظواهر؛ لأنه إذا اختلف عنها فهو اختلاف في درجة التركيب والتعقيد، لا في النوع، وإذا كانت فكرة «التطور» في عصرنا هي الفكرة ذات السيادة في كل التفسيرات العلمية والفلسفية على السواء - على اختلافهم في تحديد الخصائص الرئيسية للتطور - فإن النتيجة التي تلزم عن مبدأ التطور هذا، هي أن نفسر الأعلى بالأدنى، بمعنى أننا إذا أردنا إدراكا صحيحا لكائن من الكائنات، أو لموقف من المواقف، أو مرحلة من المراحل، فعلينا أن نحللها إلى المكونات البسيطة التي دخلت في تركيبها، وليس الإنسان بالشاذ في هذا التعميم، فإذا أردنا دراسة الإنسان دراسة علمية دقيقة تغض النظر عن «قيمته» وتحصر البحث في «حقيقته» الواقعة؛ كان حتما علينا أن نرده إلى أصوله التي نشأ عنها، وبالطبع قد كانت هذه الأصول، في مرحلة من التطور، أسبق من الفروع التي نشأت عنها، فقد نرده إلى طبائع حيوانية، بل قد نرده آخر الأمر إلى مجموعة من تفاعلات كيماوية إذا استطعنا.
وتأسيسا على هذه النظرة العصرية، وجدنا مدارس علم النفس في دراستها للإنسان قد تختلف في الأصول التي ترد إليها سلوكه، لكنها تتفق في أن هذا هو منهج النظر؛ فهذه مدرسة فرويد مثلا ترد السلوك الإنساني إلى أصول دفينة من اللاشعور؛ أي إنها تفسر الطبقة العليا من كيان الإنسان بالطبقة الدنيا، وبهذا ينحل «العقل» إلى جذور ضاربة في غرائز الحيوان، وهذه هي مدرسة أخرى، أقرب إلى روح العلم الحديث من فرويد، وأعني بها مدرسة «السلوكيين»، الذين يحللون السلوك تحليلا يرده إلى أفعال منعكسة، ومرة أخرى نلاحظ أن الطبقة السلوكية العليا تفسر بالطبقة السلوكية الفطرية الدنيا.
هذا هو العصر .. ولكننا بحكم إطارنا الثقافي الأصيل، نشعر بالقلق الشديد، إذا نحن أنزلنا الإنسان هذه المنزلة التي تسلكه مع الطبيعة في عقد واحد، وإذا نحن هبطنا «بالعقل» إلى درجة تجعله وظيفة عضوية كسائر الوظائف التي تؤديها أعضاء البدن؛ لأن هذه النظرة من شأنها أن تؤدي بنا إلى إنكار ما بعد الموت، ومن ثم استمسكت ثقافتنا العربية بنظرتها التقليدية الأصيلة، التي تفرق بين بدن وروح، لتكون هذه التفرقة مدخلا إلى تفرقة أعم، ولعلها أهم، بين دنيا ودين، بين حياة أولى وحياة آخرة.
هما اتجاهان متضادان، تراهما في مختلف الثقافات ومختلف العصور؛ فإما أن يميل أصحاب النظر الفلسفي أو العلمي إلى «تعقيل» الطبيعة، وإما أن يميلوا إلى «تطبيع» العقل، الأولون «روحانيون»، والآخرون «ماديون»، والفكرة السائدة في عصرنا هذا هي أميل إلى تطبيع العقل؛ أي إلى جعل العقل ممكن التحليل، بحيث يرتد إلى ظواهر طبيعية صرف .. وهو ما ترفضه الثقافة العربية الحديثة من عصرها.
ونسأل بعد الذي قدمناه: ما موقف الثقافة العربية الحديثة في مواجهة العصر؟ فنجيب: هو موقف الرافض للمبادئ والجذور، ولا بأس عليه بعد ذلك أن يقبل بعض النتائج مبتورة عن مبادئها، ويقبل بعض الثمار مستغنيا عن جذورها التي أنبتتها.
فقد وجدنا العصر متميزا بالعلم التقني، وهو علم يقتضي وراء ذلك أن نحصر النظر فيما يخضع للتجربة من ظواهر الطبيعة، لا نمد البصر إلى ما كان قبل ذلك، ولا إلى ما سوف يكون بعد ذلك؛ فلا الأسباب الأولى تهمنا في مجال العلم، ولا الغايات تعنينا، فقبلنا من العصر نتائجه العلمية النظرية، وأجهزته وآلاته، ورفضنا أن نحصر النظر في دنيا الظواهر الطبيعية كما يحصرها.
ووجدنا العصر متميزا بالنظرة النسبية التي ترفض المطلقات حتى في الحال العلمي الدقيق نفسه، بله أن يرفضها فيما هو نسبي بطبيعته كالقيم، فقبلنا النسبية في الفيزياء وما إليها، لكننا تشبثنا بالقيم المطلقة الموضوعية، التي نزعم أنها حقائق أزلية لا سبيل إلى الاختلاف عليها بين إنسان وإنسان.
ووجدنا العصر أميل إلى أن يجعل الإنسان ظاهرة كغيرها من ظواهر الطبيعة، يخضع للبحث العلمي بالطريقة نفسها التي تخضع بها الفيزياء أو علوم الحياة، فرفضنا أن ننظر إلى الإنسان تلك النظرة التي تسوي بينه وبين سائر الكائنات.
موقف العرب من المذاهب الفلسفية
المعاصرة
من أفدح الكوارث التي يشقى بها المشتغلون «بالفلسفة» أنها - في العصر الواحد - لا تستقر لنفسها على معنى واحد، حتى لقد ينظر الرائي فإذا هو أمام ضروب من النشاط العقلي اختلف بعضها عن بعض، ومع ذلك فكلها «فلسفة» على حد سواء، ثم جاء عصر الناس هذا، فزادت الكارثة فداحة؛ لأن ضروب ذلك النشاط العقلي قد ازدادت تشعبا، وأوشكنا أن نبلغ حدا يستحيل معه الإجماع على رأي واحد، فيما عسى أن يكون مجال البحث، عندما نسمي هذا البحث «فلسفة» والباحث «فيلسوفا»؛ وذلك لأن موضع الاختلاف فيما مضى كان ينحصر - عادة - في موضوع البحث الفلسفي ماذا يكون؟ وأما اليوم فقد اتسعت هوة الخلاف، بحيث تناول منهج البحث أيضا: كيف يكون؟
كان العصر الواحد - فيما مضى - يكاد يتفق على هدف واحد، يضعه المفكرون أمامهم ليشخصوا إليه جميعا بأبصارهم، ثم يكون التباين بعد ذلك في الوسيلة التي يراها كل منهم محققة لذلك الهدف، بعبارة أخرى، ربما كانت أوضح: كان لكل عصر مسألته الرئيسية يطرحها أمام الناظرين، فيكون الاختلاف بعد ذلك في «الحلول» المقترحة لتلك «المسألة» المتفق عليها من الجميع.
انظر معي نظرة عجلى إلى مراحل التاريخ الفلسفي:
فعصر «ما قبل سقراط» اتفق على مسألة واحدة؛ هي جوهر الوجود الذي يكمن وراء المتغيرات، أليس البادي أمام حواسنا هو أن الموجودات يتحول بعضها إلى بعض، فما هو اليوم تراب، قد يتحول غدا ليصبح شجرة وثمرة، فما هو ذلك الجوهر الثابت الأصيل الذي يلبس اليوم لبوسا فإذا هو تراب، ويلبس غدا لبوسا آخر فإذا هو شجرة أو ثمرة؟! كان ذلك هو السؤال، اتفق عليه الجميع، ثم اختلفت إجاباتهم عنه.
وذهب ذلك العصر اليوناني الأول، وتلاه عصر، كان سقراط فاتحته، فاختفى سؤال وظهر سؤال، اتفق عليه العصر كله، ثم اختلفت عنه الإجابات، وكان السؤال هذه المرة هو هذا: ما حقيقة الإنسان؟ وعلى أي أساس ينبغي أن يقيم سلوكه فردا ومجتمعا؟ وهكذا دار البحث حول «الإنسان» في أخلاقه وسياسته، وخيره وشره، وسعادته وشقائه، وفنائه وخلوده، لكن الرأي اختلف عندما عرض رجال الفكر الفلسفي حلولهم للسؤال المطروح.
وذهب عصر قديم، وجاء عصر وسيط - في الغرب المسيحي، وفي الشرق الإسلامي على السواء - فاتفق الفلاسفة هنا وهناك على الهدف، واختلفوا على الوسيلة؛ إذ اتفقوا جميعا على أن يكون هدفهم تحليلا لمفهومات الدين بحيث يقام البرهان على أنه لا تناقض - عموما - بين دين جاء وحيا، وبين فلسفة أنتجها فلاسفة اليونان عقلا، غير أن وحدانية الهدف لم تمنع أن يكون لكل مفكر فكرته التي يعرضها للحل.
ثم دخلت أوروبا - وحدها هذه المرة - تاريخها الحديث بنهضة أخرجتها من عصورها الوسطى، فكان السؤال الرئيس المطروح طوال قرون ثلاثة، امتدت من عصر النهضة الأوروبية - في القرن السادس عشر - إلى عصرنا هذا الأخير، الذي بذرت بذرته في القرن الماضي، هو: كيف يعرف الإنسان ما يعرفه عن الطبيعة الخارجية، أو عن نفسه الباطنية، أو عن الله؟ ولذلك رأينا معظم الجهد منصرفا إلى تحليل «العقل» لنرى كيف يعمل، فنفهم بذلك كيف حصل ما حصله من معرفة، لكن الاتفاق على السؤال لم يكن معناه أن يتفق المجيبون على جواب.
ثم جاء عصرنا هذا، فلم يكن كسوابقه متفقا - بشكل واضح ظاهر - على المسألة المطروحة، مختلفا على حلولها، بل تعددت فيه المسائل الرئيسية نفسها، فانقسم المفكرون حينها، كل فريق منهم يؤثر لنفسه إحداها دون الباقيات، ولم يكن في ذلك من بأس؛ لأنه قد يعد علامة غنى لا علامة فقر، وجئنا نحن - أعني رجال الفكر الفلسفي في الأمة العربية - وأردنا أن ننقل عن الغرب في هذا الميدان ما استطعنا نقله، فلم نقصر أمر التفرق على اختلاف في زاوية النظر، بل جاوزنا ذلك، فتحول الميدان على أيدينا ميدانا للصراع الفكري، يتبادل فيه الأطراف ألوان السباب، فضاع الحق في غمرة النقع المثار، فإذا تذكرنا ما لا بد أن يبقى مذكورا دائما، وهو أنه لا المسائل المثارة مسائلنا نحن أثرناها منبعثة عن أزمات في ضمائرنا عانيناها، ولا الحلول المعروضة حلولنا نحن، كددنا الذهن حتى انتهينا إليها، وإنما المائدة بكل ما عليها، أعدها طهاة غيرنا، ولم يكن منا إلا أن استوينا على المائدة الممدودة لنأكل، كل من الطبق الذي يشتهيه. عرفنا كيف أن صراعنا الفكري كان أجدر به سوانا؛ لأن الأمر كله بالنسبة إلينا كالشعر المستعار ، وضعناه فوق رءوسنا وضعا، دون أن ينبت من جلودنا، ويتغذى بدمائنا، ها هنا يكون التفرق تمزقا هو إلى أن يكون علامة فقر أقرب منه إلى أن يكون علامة غنى.
ومع ذلك؛ فقد كان في وسع الفكر العربي أن يقف أمام اختلافات الفلسفة المعاصرة، ليلتمس لنفسه مدخلا فيها، يكون ذا صلة بحياتنا، وفي هذا المقال محاولة في هذا السبيل، لكننا نريد أولا أن نرسم للقارئ حقيقة الموقف الفلسفي في عصرنا بخطوط عريضة؛ لعله يشارك في قبول المحاولة أو رفضها.
إن من الأفكار القديمة ما قد فقد قيمته في الموضوع الذي قيل فيه أساسا، لكنه ربما صلح وسيلة للتوضيح في موضوعات أخرى؛ من ذلك فكرة مشهورة لأرسطو عن «العلل الأربع»، التي ظن أنها السبيل إلى تعليل أي شيء نريد تعليله، فافرض مثلا أننا نعلل لتمثال مقام في ميدان من مدينة؛ فأولا: نسأل عن الفنان الذي نحته «وهذا هو ما أسماه أرسطو بالعلة الفاعلة»، وثانيا: نسأل عن الغاية التي من أجلها صنع الفنان هذا التمثال، فإذا عرفناها، كانت هي ما أسماه أرسطو بالعلة «الغائية»، وثالثا: نسأل عن المادة التي صيغ منها التمثال، فتكون هي العلة «المادية»، ورابعا: نسأل عن أسلوب صياغته، فيشار لنا إلى مقومات هذا الأسلوب، فيكون ذلك هو «العلة الصورية». بهذه الأسئلة الأربعة، وإجاباتها الأربع، يتم لك تغطية المجال من جميع جوانبه، فيتم لك فهم ما أردت أن تفهمه.
هي فكرة أرسطية قديمة؛ إذ لبثت هذه «العلل الأربع» على مر الزمن تتآكل وتتساقط واحدة بعد أخرى، كلما وجد المشتغلون ب «العلم» أنهم لم يعودوا بحاجة إليها في تفسيراتهم العلمية للظواهر المختلفة، حتى زالت كلها الآن، ولم تعد فكرة «السببية» نفسها ذات شأن في ميدان العلم؛ إذ حلت محلها فكرة أخرى، هي فكرة «القانون العلمي»، الذي يصاغ في دالة رياضية لا تميز بين سبب ومسبب، بل تحدد المتغيرات الداخلة في موضوع البحث، وطرائق تجاوبها أو تفاعلها بعضها مع بعض ... فكرة أرسطية قديمة إذن هي فكرة «العلل الأربع»، لكنني سأستعين بها على توضيح الموقف الفلسفي في عصرنا، وإني لأراها تعين.
عصرنا يعج بنتائج العلم، ويضطرب ويموج بتغيرات الأنظمة الاجتماعية جميعا، ومهمة «الفلسفة» أن تفهمه، فماذا صنع الفلاسفة في هذه السبيل؟ أريد أن أصورهم للقارئ وكأنما هم جماعة وقفت أمام الخضم الهائل الذي هو عصرنا بكل ما فيه، وأخذت تسأل الأسئلة الأرسطية الأربعة، لكنها سألت تلك الأسئلة من سائلين متفرقين؛ أعني أن الشخص الواحد لم يسأل الأسئلة الأربعة كلها، بل اكتفى لنفسه بسؤال واحد، وترك البقية للآخرين، فاكتفى كل منهم بدوره بسؤال واحد، فكان أن سأل فريق: ما الذي أدى إلى الموقف الراهن كله؟ (كأنه يسأل عن العلة الفاعلة)، وكان أشهر الإجابات في ذلك جواب المادية الجدلية، وسأل فريق آخر سؤالا آخر: ما الهدف من هذا أو ذلك مما نقول ونسمع؟ (سؤال عن الغاية)، وكان أشهر الإجابات جواب الفلسفة البرجماتية، وسأل فريق ثالث سؤالا ثالثا: مم صنع هذا العلم كله، وهذه المذاهب الفكرية كلها؟ بمعنى: على أي نحو نسجت اللحمة بالسداة ليتكون هذا القماش الفكري الممدود أمامنا؟ (سؤال عن الكيان ومادته)، وكان أشهر الإجابات في ذلك جواب الفلسفة التحليلية، ويلحق به جواب الوضعية المنطقية، وسأل فريق رابع سؤالا رابعا: أليس من حقنا أن نفترض بأن وراء هذا الفكر كله، البادي فيما يقال ويكتب، «وعيا» ذا خصائص معينة، لا بد من النظر إليه قبل أن ننظر إلى ما نبع منه (سؤال عن العلة الصورية)، وكان أشهر الإجابات هنا إجابة مذهب الظاهراتية (الفينومينولوجيا)، ويلحق به الفلسفة الوجودية.
ذلك مخطط تقريبي لجوانب الموقف، أفلم يكن الإنصاف يقتضي أن ننظر إلى هذه الوقفات الأربع باعتبارها مكملة إحداها لبقيتها، ما دامت كل منها تقنع بجانب واحد وتترك الجوانب الثلاثة الأخرى لسواها؟ نعم، ولكن يحلو دائما لمن لا يرى الموقف في مجمله أن يقول: إن هناك «صراعا» مذهبيا بين اتجاهات أربعة تغطي الميدان الفلسفي المعاصر، وحقيقة الأمر عندنا هي ألا صراع، بل تكامل، والفهم الكامل يتطلب الإجابات الأربع جميعا.
لكني أرسل حديثي وكأنما القارئ على علم كاف بهذه الاتجاهات الرئيسية الأربعة: المادية الجدلية، البرجماتية، الفلسفة التحليلية، والظاهراتية! وأحسبني مطالبا بشيء ولو يسير من الشرح؛ ليتاح لنا جميعا بعد ذلك أن نشترك في التفكير: ما موقف الفكر العربي من هذا كله؟
أما المادية الجدلية، فهي «مادية» بمعنى أن مرد الكائنات جميعا إلى مادة، على أن «المادة» هنا لا تعني خصائص سكونية ثابتة لا يصيبها تغير؛ إذ إن مادة الطبيعة دائبة التطور والتغير وفق قوانين «الجدل» (الديالكتيك)، والمقصود ب «الجدلية» هو أقرب شيء إلى ما يحدث بين متحاورين يتعارضان؛ أحدهما يقول الرأي، والآخر يقول نقيض ذلك الرأي، حتى إذا ما تصادم النقيضان تولد عنهما رأي ثالث، هو الصحيح، أو قل إن «الجدلية» هي عملية شبيهة بما يحدث إذا أنت «جدلت» أو ضفرت خيطين، ليتكون منهما - آخر الأمر - ناتج يحتويهما معا، فهكذا الحال في الطبيعة وفي المجتمع، يتصادم في أثناء سيره النقيضان فيتولد وضع جديد، وبذلك يتحقق التطور.
وإنهم ليصوغون قوانين السير الجدلي هذا في ثلاثة: أولها: أن يعد التناقض مقوما أصيلا في الطبيعة؛ لأنه كان يستحيل التغير إلى جديد ما لم يكن في صلب القديم ما ينقضه، وثانيها: أن هذا النقض الذي ينسخ الحالة الأولى لينقلها إلى حالة جديدة، لا بد بدوره أن يجد هو الآخر ما ينقضه؛ ليدوم السير على طريق التطور، وثالثا: أنه كلما تراكمت التغيرات من جنس واحد، وصلت حدا انقلب معه ذلك الكم المتراكم إلى كيف جديد؛ أي إلى حالة من جنس آخر، وهكذا يسير العالم: من وضع معين قائم، إلى نقيضه، ثم إلى وضع ثالث يؤلف بين النقيضين، وما إن يصبح هذا الوضع الجديد هو الأمر الواقع حتى ينسخه نقيضه، فإلى وضع يجمع النقيضين، وهلم جرا.
وتطبيقا لهذا السير المثلث الخطوات، على تاريخ الإنسان ونظمه الاجتماعية، تنشأ ما يسمونها ب «المادية التاريخية»، ومؤداها أنه لما كان البناء الاقتصادي للمجتمع هو أهم جوانبه، ثم لما كان هذا البناء الاقتصادي قائما على ما ينشط به الناس نشاطا عمليا، نتج عن ذلك أن جوهر الإنسان ليس هو أنه كائن يعقل الفكرة النظرية (الحيوان الناطق، كما كان يقال عنه)، بل هو الكائن الذي «يعمل» العمل المنتج في زراعة أو تجارة أو صناعة، أو في ما شئت من ضروب النشاط في دنيا الاقتصاد، وبهذا المعيار يتحد الفكر بالعمل اتحادا يجعلهما حقيقة واحدة ذات وجهين؛ ومن ثم جاءت عبارة ماركس الشهيرة «لقد حاول الفلاسفة تفسير العالم بطرق شتى، مع أن المهم هو أن يغيروه.» ورجائي أن يحتفظ القارئ بهذه النتيجة التي جعلت لنا الفكر وعمليات التغيير شيئا واحدا؛ لأننا سوف نرى هذه النتيجة نفسها، أو ما يقرب منها في المذاهب الفلسفية الأخرى؛ مما يكاد يجعلها هي روح عصرنا وصميمه، وقد يوحي لنا بالموقف الذي نريده للفكر العربي.
يعتقد أنصار المادية الجدلية أن فلسفتهم هي الفلسفة العلمية؛ لأنها هي التي تتناول واقع العالم تناولا علميا سليما، ولعلهم في استخدامهم لكلمة «العلمية» إنما يقصدون «المادية»؛ فالمعرفة العلمية كلها مرهونة بما هو مادي، وبما هو واقع في التجربة الحسية، فإذا كانت هنالك كائنات عضوية، رددناها جميعا إلى أصل لا عضوي، وإذا لحظنا في أنفسنا حالات وعمليات وجدانية أو عقلية، أرجعناها كلها إلى أساس فسيولوجي، فمهما تكن النظرية العلمية، ومهما يكن موضوعها؛ فما لم تكن قابلة للرد إلى ما هو واقع في التجربة الحسية، تجردت من علميتها وأصبحت لغوا. ومرة أخرى نرجو القارئ أن يحتفظ بهذه النتيجة التي تحتم أن تنبني النظرية العلمية على تجربة وتطبيق؛ لأنها نتيجة سنصادفها هي الأخرى في مذاهب فلسفية غير المادية الجدلية، مما قد يشير إلى أنها علامة تميز المعرفة العلمية اليوم، ومما قد يوحي بما نجعله أساسا ضروريا في الموقف الذي نختاره للفكر العربي.
إذا حق لنا القول عن «المادية الجدلية» (ومعها المادية التاريخية) بأنها فلسفة للتاريخ، بمعنى أنها تصوب النظر إلى الماضي لترى كيف سار حتى انتهى به السير إلى الحالة الحاضرة الراهنة، حق لنا كذلك أن نقول عن الفلسفة «البرجماتية» إنها فلسفة المستقبل، بمعنى أنها تقيس الأمر الراهن إلى ما يترتب عليه من نتائج عملية تستطيع الحكم عليه بقبول أو برفض، إن المعنى الحقيقي للفكرة - أي فكرة - هو مجموع التصرفات العملية التي تؤديها بناء عليها، فإذا كان لديك ما تزعم له أنه «فكرة»، ثم بحثت فلم تجد عملا واحدا تؤديه بناء عليها، فاعلم أنها ليست من الفكر في شيء؛ لقد كان «تشارلس بيرس
Charles peirce » إمام البرجماتية في العصر الحديث، (وتبعه على التوالي ثلاثة آخرون: وليم جيمس، وشلر، وجوني ديوي، فكانت أربعتهم عمد المذهب البرجماتي)، وفي العبارة الآتية التي قالها «بيرس» ما يبرز أهم خصائص هذا المذهب: «إذا كانت لديك فكرة، وأردت تحديدا لمضمونها، فانظر: ماذا عسى أن يكون لها من نتائج تطبيقية في دنيا العمل، ثم اجمع هذه النتائج العملية معا؛ يكن لك قوام فكرتك»، وبعبارة أخرى، إن قولك: «إني أعرف كذا» مساو لقولك: «إني أستطيع أن أعمل كذا»، وما ليس في وسعك أن «تعمل» به شيئا، لا يكون لك به «علم»؛ لأن علما بلا عمل يؤديه، كلام ينقض نفسه بنفسه.
ويتصل بالبرجماتية اتصالا وثيقا مذهب يقال له «مذهب الإجرائية» في فهم المعاني أو الأفكار؛ فالفكرة معناها هو مجموعة الإجراءات التي نجريها في تحقيقها، وهو قول - كما ترى - مطابق لما تقوله البرجماتية، لولا أن «الإجرائية» لا تقصر الأمر على الإجراءات المادية التي تتم في سلوك منظور، بل توسعه حتى تشمل به الإجراءات التي تتم في العقل، كما يحدث في تناولنا لمسألة رياضية أو ما يشبهها.
ولنعد بالقارئ إلى نتيجتين أوردناهما فيما سبق، ورجوناه أن يحتفظ بهما في ذاكرته، وهما: أن الفكر وعمليات التغيير وجهان لشيء واحد، وأن التجربة على الواقع المحسوس هي أساس التفكير العلمي، فنرى أن البرجماتية برغم اختلافها عن المادية الجدلية في «اتجاه» النظر؛ فإنهما يشتركان في رفض «التأملات» العقيم، التي لا تلد للناس «عملا» يؤدونه، ولا تنسل لهم «تغييرا» يبدلون به وجه الحياة إذا فسد.
ننتقل الآن إلى جماعة ثالثة من أبناء عصرنا؛ هي جماعة «التحليل الفلسفي» و«التحليل المنطقي» (وبينهما اختلاف في المعنى، نغض عنه النظر)، فلئن كانت المادية الجدلية تنظر إلى «سير التاريخ» وكيف انتهى إلى ما نحن فيه، وكانت البرجماتية تنظر إلى ما يراد عمله وإجراؤه فيما هو آت من زمان؛ فإن أصحاب التحليل يقفون حيث هم ليروا أولا ماذا تحت أقدامهم! لنضرب مثلا موضحا، حتى لا نشطح بالقارئ في سماء التجريد، افرض أن فكرة عرضت لنا، تقول: «حضارة هذا العصر مادية»، فماذا نحن صانعون بقول كهذا؟ أم هل يراد به أن يمضي مع نسمات الهواء حيث تمضي ونحن قاعدون له نستمع؟ كلا، إن الفكرة الجادة يراد بها أن تكون منطلقا لوثبة نثبها في هذا الاتجاه أو ذاك، وها هي ذي فكرة جادة كثيرا ما تعرض لنا على أقلام الكاتبين، فماذا نحن صانعون بها؟ فلو كنت من أصحاب المادية الجدلية في النظر، لثنيت عنقي إلى الوراء أنظر إلى خطوات التاريخ كيف كانت، بحيث أنتجت لنا اليوم هذه «الحضارة المادية»، ولو كنت من أتباع البرجماتية لأرسلت بصري إلى أمام، أبحث عن النتائج الفعلية التي تترتب على هذه الفكرة، فإن وجدتها كانت هي نفسها «معنى» الفكرة، وإن لم أجدها كانت الفكرة يعوزها المعنى. وها نحن أولاء مع جماعة ثالثة، هي جماعة «التحليل»، فهؤلاء يؤثرون القيام بعملية «تشريح» لهذا الجسم اللفظي أولا؛ لنرى ماذا يمكن أن يكون لهذه العبارة من معنى، لا على أساس النتائج الفعلية المترتبة عليها، كما قال البرجماتيون، بل على أساس منطق اللغة نفسه؛ إذ كثيرا جدا ما نرص ألفاظا بعضها إلى جوار بعض، حتى يكتمل لنا بناء تقبله قواعد النحو، لكن منطق العقل يرفضه، ولكي يرفضه منطق العقل أو يقبله، لا بد بادئ ذي بدء من تحليله، حتى نتبين عناصر بنائه، وما بين تلك العناصر من روابط، وعندئذ يتبدى اللغو الفارغ من الكلام ذي المعنى.
لكن الأمر في هذا التحليل ليس ألعوبة لاعب يلهو، فما تكاد تهم به حتى تتوالى عليك أعوص المسائل، وأهمها أن ترد العبارة التي بين يديك إلى صورة يمكن أن يكون بينها وبين «الواقع» شبه في التركيب إذا كانت صادقة، وأن يمتنع هذا الشبه إذا كانت كاذبة، فإذا تذكرنا أن حقائق الواقع هي دائما «أفراد» جزئية ليس فيها تعميم ولا تجريد، بمعنى أنك لن تجد على أرض الواقع أو في سمائه، إلا مفردات معينة محدودة، فهنالك هذه الشجرة، وهذا الرجل، وذلك الطائر، وتلك السحابة، وهكذا، أقول إننا إذا تذكرنا ذلك، عرفنا أن تحويل الجملة المراد الحكم عليها بالمعنى أو بالخلو منه، يجب أن يتجه نحو أن نستخرج منها قائمة طويلة من جمل لا تتحدث الواحدة منها إلا عن «فرد» واحد، وعندئذ فقط يمكن المقابلة بين العبارة اللفظية من جهة، ودنيا الواقع التجريبي من جهة أخرى، ولنعد إلى الجملة التي سقناها مثلا موضحا، وهي: «حضارة هذا العصر مادية»، وأبدأ بكلمة «حضارة»، فما هي مجموعة المفردات التي تتكون منها حضارة هذا العصر؟ إذا قلت مثلا: هي نتاج العلم، ونتاج الفن، و... و...، كان علينا أن نعود إلى كل واحد من هؤلاء، فما نتاج العلم بالشيء الواحد الذي تمسكه دفعة واحدة بيديك، وما نتاج الفن بالشيء الواحد الذي تنظر إليه نظرة واحدة في لمحة بعينيك، بل نتاج العلم هو ألوف القضايا، ونتاج الفن كذلك ألوف التماثيل واللوحات والمعزوفات الموسيقية، وبعد هذا التحليل، نعود فنضع كل فرد واحد من تلك الألوف، وألوف الألوف، في جملة واحدة، لنقول عنه إنه «مادي»، وقد نتبين ساعتئذ أن معظم الجمل في هذه الحالة سيكون بغير معنى؛ إذ ما معنى أن نقول عن قانون علمي معين إنه مادي؟ وما معنى أن أقول عن لوحة فنية أو قطعة موسيقية إنها مادية؟ وقد نمضي على هذا النحو من التحليل حتى نستيقن من أن العبارة التي تلوكها الأفواه في استخفاف، وأعني عبارة «حضارة هذا العصر مادية»، إنما هي صف من ألفاظ ينتهي بنا إلى لا شيء، أو قد ينتهي بنا إلى معنى، لكنه معنى ينتج لنا بعد عناء التحليل الذي يبين لنا ما نحن قائلوه.
ومدرسة التحليل هذه لا تجعل «العبارات» التي نقولها مجرد صور نعكس بها «أفكارا» في رءوسنا، بل يجعلونها هي هي الأفكار، وبذلك نقلوا التقابل ، الذي كان الفلاسفة يجرونه بين «الفكر» و«الواقع»، دون تحديد لطبيعة الفكر، نقلوا هذا التقابل فجعلوه بين «العبارة اللغوية» و«الواقع»، وبذلك لم يتركوا مجالا لكائنات شبحية تعرقل سيرنا نحو الوضوح.
وإني لأرجو القارئ هنا أيضا أن يحتفظ بهذه النتيجة، وهي أن الجملة «والجملة = فكرة» لا يكون لها معنى إلا إذا وجدناها - بعد تحليلها إلى عناصرها - على تقابل مع واقعة من وقائع العالم التجريبي، وما لم نجده كذلك من الجمل «أي من الأفكار» كان لغوا بغير معنى، والقارئ إذا احتفظ بهذه النتيجة، ثم ضمها إلى ما كان احتفظ به من «المادية الجدلية» ومن «البرجماتية»، وجد نفسه أمام وجهة نظر مشتركة بين هذه الفلسفات المتباينة، وهي ضرورة أن تكون العلاقة وثيقة بين الفكر والعمل.
أما «الظاهراتية» أو «علم الظواهر العقلية» أو «الفينومينولوجيا» فموقف رابع من الفلسفة المعاصرة، يريد أصحابه تحليل الوعي الإنساني في إدراكه للأشياء؛ لعلنا نقع على حقيقته وحقيقة تلك الأشياء في آن معا، نعم، كانت هذه في مقدمة المحاولات التي بذلها الفلاسفة قبل «هوسرل
Husserl »، لكن هؤلاء الفلاسفة كانوا يفترضون دائما فروضا مسبقة، على ضوئها يفهمون عملية الإدراك من وجهة نظرهم، فإذا كانوا من التجريبيين قالوا إن نقطة البدء في الإدراك هي «المعطيات» الأولية، فارضين من عندهم أن تلك المعطيات الأولية لا تكون إلا بانطباعات تقع من الأشياء على حواسنا، وإن كانوا مثاليين أو عقلانيين، قالوا إن الأساس الأولي هو وجود أطر صورية عقلية في فطرة الإنسان - يسمونها «مقولات» - فتكون هذه الأطر بمثابة الشباك، تتصيد من الدنيا التي حولنا مضمونات من هنا وهناك، حتى إذا ما امتلأ إطار معين بمضمون معين، كان لنا بذلك شيء من المعرفة العقلية بالعالم المحيط بنا، فكان الجديد الذي دعا إليه «هوسرل» هو أن نواجه الأشياء بلا فروض مسبقة، فتكون حقيقة الشيء الذي ندركه هي بالضبط كما ندركه، حتى إذا ما سألنا سائل: أهي حقيقة حسية أو حقيقة عقلية؟ أجبناه بأننا نرفض هذه التفرقة من أساسها؛ فهذه الزهرة التي أراها وأعي صورتها، لونا وشكلا ورائحة ، وكل شيء، هي كما أراها وأعيها، ولا تحليل لها عندي وراء ذلك، فلا أنا بالذي يزعم أنها جاءتني معطيات حسية مبعثرة أول الأمر ثم قام ذهني بجمع المبعثرات في زهرة، ولا أنا بالذي يفترض أن عقلي كانت به أطر صورية مركوزة في فطرته هي التي جذبت إليها مدركات الزهرة وصبتها في قوالبها حتى تكاملت في تصوري زهرة، وإنما الذي أقوله هو أنني أدركت الزهرة كما أدركتها، وإذن فهذه هي حقيقتها.
على أن الذي يهمنا نحن من هذه «الظاهراتية» (وهي التي عنها تفرعت بعض فروع الفلسفة الوجودية الحاضرة)، هو أن الوعي الذي نعي به الأشياء ليس بمنزلة كيان مستقل قائم بذاته مثل الذراع أو اللسان، وإنما الوعي عبارة عن «انتباه» أو «التفات»، ومن ذا الذي يتصور «الانتباه» كيانا له استقلاله وحدوده؟ إنه «اتجاه» أو إشارة، إنه كشعاع الضوء، يسقط هنا أو هناك، فيظهر بسقوطه شيء ما، وأهم ما يميز الوعي هو ما أسماه هوسرل ب «القصدية»؛ أي إنه دائما يقصد باتجاهه المعين إلى مسقط ما يسقط عليه فندركه، وعلى هذا الأساس (وأرجو من القارئ حصر انتباهه هنا؛ لأهميته في موضوعنا) يكون من التناقض أن ندعي بأننا نعي فكرة ما، دون أن يكون لهذه الفكرة ما تشير إليه في دنيا الواقع، إن عملية الإدراك لا تتم إلا بهاتين الشعبتين معا: لفتة من الوعي، وشيء معين تقصد إليه تلك اللفتة، أما أن يقال عن اللفتة أنها لا تلتفت إلى شيء، فذلك ينفي عنها طبيعتها، أو أن يقال إننا أدركنا ما أدركناه بلا التفات إليه، فهو تناقض ممتنع الحدوث، لقد كان مما أخذه هوسرل على ديكارت قول ديكارت: «أنا أفكر ...» كأنه جزيرة وحده معزولة عن العالم وعن الآخرين، على حين أنه محال أن تحدث عملية تفكير إلا إذا تعلقت بقصد معين يكون هو الشعبة الثانية التي يتم بها الموقف الإدراكي، فالأمر هنا كالمقص، لا يكون مقصا بإحدى شعبتيه دون زميلتها.
وبهذا الجانب من «الظاهراتية» نلتقي مع المذاهب الفلسفية الثلاثة التي أسلفناها، في أنها جميعا تربط الفكر بالأشياء ، وألا تنتفي عن الفكر طبيعته.
لقد قيل عن الفلسفة المعاصرة إنها تتميز - عموما - بأنها جعلت مدارها الرئيسي هو البحث عن «المعنى»، وبعض ما يقصد إليه بهذا الوصف، هو أنها أصبحت تشترط لكل فكرة تطوف بذهن، ولكل عبارة ينطق بها لسان، مشارا إليه، تشير إليه الفكرة أو العبارة، فيكون هذا المشار إليه هو مدلول الفكرة، أو معنى العبارة، فإذا لم نجد للفكرة المعينة، أو للعبارة المعينة، مشارا إليه في دنيا الواقع - سواء كان ذلك وجودا بالفعل أو وجودا بالإمكان - لم نتردد في أن نقول عن الفكرة المزعومة إنها تشبه الأفكار وليست منها، وعن العبارة إنها لغو بغير معنى، ذلك هو موقف الفلسفة المعاصرة بأجمعها، كائنا ما كان مذهبها، مادية جدلية، أو برجماتية، أو تحليلية، أو ظاهراتية ووجودية، فماذا يكون موقف الفكر العربي من ذلك كله؟
إننا لو قصدنا ب «الفكر العربي» أشخاص الرجال الذين حملوه، تدريسا في الجامعات، أو تحريرا في الكتب والمجلات؛ وجدنا أمرا عجبا؛ لأننا واجدون هؤلاء الرجال قد اقتسموا فيما بينهم تلك المذاهب الفلسفية الأربعة، كل أخذ منها بما يتفق مع تكوينه العقلي، فما من مذهب منها إلا وقد كان له الأتباع المؤيدون العارضون الشارحون، ثم أضيفت إلى هؤلاء جميعا فئة خامسة، انتشر أفرادها على مدارج المثقفين، من أعلاها تخصصا إلى أدناها علما، وهي فئة جمعت قوما لا يكادون يعرفون عن عصرهم شيئا، واكتفوا بزاد كثير أو قليل، يقطفونه من كتب الأقدمين، وقد اقتضى دفاع هؤلاء عن أنفسهم - أحيانا عن قصد ووعي، وأحيانا أخرى عن غير قصد ولا وعي - أن يوجهوا سهام النقد - والشتم في كثير من الحالات - إلى ما ليس يعرفون عنه شيئا، أعني أنهم يوجهونها إلى العصر وفكره وأهله، فلنتركهم في كهوفهم يظلمون.
ولننظر إلى المؤيدين لمذاهب عصرهم هذا، على اختلافهم بعد ذلك في أي من تلك المذاهب يؤيدون، وها هنا سنجد الأمر العجب الذي أشرت إليه، وهو أنه بينما المذاهب المعاصرة جميعا تتفق آخر الأمر في وجوب ارتباط الأفكار بالأشياء والأفعال، فإن واحدا منها فقط هو الذي يجعل هذا الارتباط الضروري موضوعه الخاص، وذلك هو مذهب التحليل المنطقي، على حين يظل ذلك الارتباط مضمرا إلى حد بعيد أو قريب في سائر المذاهب، ومع ذلك، فلما شاءت المصادفة النافعة أن يتصدى لمذهب التحليل المنطقي من أولاه اهتمامه وعنايته، فعرضه محاضرا وكاتبا، تألب عليه الآخرون تألبهم على عدو ظهر في الميدان، يخشون أن تنقلب عصاه حية تبتلع سائر الحيات، لماذا؟ لأن المفكر العربي - شأنه شأن الإنسان العربي على إطلاق - يخاف أن تجعلها له صريحة، بأن الفكرة أو العبارة إما تحولت إلى عمل، وإما كانت وهما ولغوا، إنه يخاف ذلك لأننا قوم نأكل لفظا، ونشرب لفظا، ونتسلى في أوقات فراغنا بلفظ، وقد يعمل منا العاملون، لكن أعمالهم - مع ذلك - تكون في عالم لا يؤثر ولا يتأثر بعالم اللافظين.
وهذا هو أول الإصلاح الفكري في حياتنا: أن ندمج العالمين في واحد، فيكون عالم «الكلام» هو جانب «التخطيط» لعالم العمل والتطبيق، إنه لم يكن مصادفة أن أصبح «التخطيط» علامة من أبرز العلامات المميزة لعصرنا؛ لأن التخطيط تحليله هو أن «الفكر» خطة لعمل نؤديه أو هو لا يكون فكرا، فعملية التخطيط التي شاعت إنما هي انعكاس لفلسفة العصر كلها، أو إن شئت فقل إن فلسفة العصر قد استقت ماءها من ميول العصر واتجاهاته.
فالمدخل الذي أقترح أن يكون بابنا الذي ندخل منه إلى ساحة الفلسفة المعاصرة، هو الوصول إلى هذه الحقيقة الكبرى بشتى السبل، حقيقة أن الفكر لا يستحق أن يكون فكرا بمعناه الصحيح، إلا إذا رسم الطريق المؤدي إلى التغيير، وهي حقيقة التقت عندها كل مذاهب العصر كما أسلفت، فلا ضير على المتفلسف منا أن يختار أيا ما شاء من تلك المذاهب، ليدرسه لنا بكل تفصيلاته، ولن يكون في اختلافنا فيما يختاره كل لنفسه «صراع» بقدر ما ينتج عنه التأييد والتركيز لما نحن في أشد الحاجة إلى تأييده وتوكيده، وهو - وأقولها مرة ثانية وثالثة وعاشرة بلا ملل - أن «الفكر» ليس له في عصرنا معنى إلا أن يكون أداة لتغيير ما نود تغييره مما يحيط بنا: من مواقف في السياسة إلى شئون في الاقتصاد، أو في التعليم، أو في نقد الفنون، أو فيما شئت أن تغيره.
لم تكن الدنيا على هذا الاهتمام كله بالجانب التطبيقي العملي من الفكرة في أي عصر مضى؛ لأن فكرتنا عن «العلم» نفسها قد تغيرت مع العصور: كان «العلم» عند اليونان الأقدمين هو أن تصنف الكائنات أنواعا وأجناسا، ثم ترتب تصوراتك الذهنية عن تلك الأنواع والأجناس ترتيبا يصعد بها من الأخص إلى الأعم على صورة هرمية، وتستطيع أن تلم بالعالم كله - على هذا النحو - دون أن يكون في يدك جهاز واحد، ودون أن تحرك من كائنات العالم جناحا لبعوضة، وجاء العصر الوسيط، فكان «العلم» هو ما مهد الطريق إلى السعادة في الآخرة، وإذا شئت فاقرأ - مثلا - كتاب الغزالي «إحياء علوم الدين»، لترى كيف يكون العلم في تصوره رسما لكل خطوة يخطوها من أراد نعيم الآخرة، أو اقرأ له «ميزان العمل»، وكانوا جميعا على هذا المنوال نفسه في تصورهم «للعلم»، ثم جاءت النهضة الأوروبية وما بعدها، فنشأ العلم الطبيعي نشأة متكاملة بعد أن اجتاز مراحل التمهيد قبل ذلك، لكنه كان أيضا علما نظريا إلى حد كبير، فقد ينشر نيوتن - مثلا - نظريته عن الجاذبية، فيعلمها دراسو العلم، لكن شيئا من أوضاع الحياة العملية لا يتغير، وأما في مرحلتنا التاريخية هذه فقد تغير الموقف من أساسه، وأصبح العلم ممزوجا بالأجهزة التي تعين على إنتاجه، مزجا جعل النظر والعمل وجهين لكل خطوة نخطوها في مجاله، ثم لا تكاد النتيجة العلمية الجديدة تظهر حتى تنبني عليها أدوات للحياة العملية نراها في كل ركن من أركان الدنيا ماثلة .. هذا هو «العلم» الذي فلسفناه في المذاهب الفكرية التي اختلفت منهجا، واتفقت في نتيجة عظمى، هي أن الفكرة أداة للعمل، وهي النتيجة التي تلزمنا - أعني الأمة العربية - أكثر مما تلزم سوانا، للإسهال اللفظي الذي أصيبت به ثقافتنا، دون أن يحد اللفظ إنجاز في دنيا العمل.
وقد يسألني سائل ممن يحبون القول ويكرهون العمل: أتريدنا على أن نقيد كل لفظ نلفظه بعمل يتبعه؟ وأجيب مسرعا بالنفي؛ فلك مجالات كثيرة تستطيع فيها أن تمرح بلفظ غير مسئول، أما حيث تقف أمامنا مشكلات الحياة تتحدى مطالبة بالحلول، فها هنا لن يزحزح اللفظ جبالها مهما زخرفته ببيان وبديع، وضبطت له الوزن والقافية، ها هنا لا بد أن يرسم خطة للعمل الذي نؤديه حيال المشكلة القائمة. ذلك هو الدرس الذي نتعلمه من مذاهب الفلسفة المعاصرة جميعا، وذلك وحده هو جواز المرور، الذي لا يمكنك الدخول في أجواء هذا العصر إلا به.
وهل في هذا الذي يتطلبه منا العصر شيء جديد كل الجدة على ما ورثناه عن تراثنا الفكري من مبادئ؟ إن القرآن الكريم كلما وجه الخطاب إلى «الذين آمنوا» أضاف إلى ذلك قوله: «وعملوا الصالحات»، كأن الإيمان لا يكون إيمانا كاملا إلا إذا اقترن بالعمل الصالح، وصلاحية العمل إنما تكون بالنسبة إلى الهدف المنشود، وإلى نوع الموقف الذي نواجهه، كالمفتاح لا يكون «صالحا» للباب إلا إذا نفع في فتحه وإقفاله، والسيارة لا تكون صالحة إلا إذا دارت آلتها على النحو المطلوب للسير، وكذلك السياسي لا يكون صالحا إلا إذا رسم لقومه خطة للعمل الناجح، والاقتصادي لا يكون صالحا إلا إذا عرف الطريق الذي ينقذنا من التخلف ... وهكذا، كل هؤلاء عاملون للصالحات، التي وإن بدأت بدنيا الناس؛ فهي الطريق إلى مرضاة الله، فليست تعوزنا المبادئ النظرية في ثقافتنا الموروثة، ولكن ماذا تجدي المبادئ إذا لم تنسكب في سلوك الناس «عادات» يحيون على أساسها؟ بمثل هذه العادات، ننشأ عليها في ربط القول بصلاحيته في دنيا العمل، ننخرط في تيار عصرنا، وفي الوقت نفسه نلتزم ميراثا كريما ورثناه.
التوفيق بين ثقافتين
1
لست أتردد لحظة حين أقرر بأن أم المشكلات في حياتنا الثقافية الراهنة هي محاولة الكشف عن صيغة لحياتنا الفكرية والعملية، تجمع لنا في طيها طرفين؛ إذ تحافظ لنا على خصائصنا العربية الأصيلة، وفي الوقت نفسه تفتح لنا الأبواب على مصاريعها، لنستقبل - في رحابة صدر - أسس الحضارة العصرية كما يحياها اليوم روادها.
ولن نجني من الحق شيئا، إذا نحن اكتفينا في هذا المجال بكلمات نحرك بها شفاهنا، دون أن تكون صادرة منا عن اقتناع وإيمان؛ إذ ما أيسر على المتكلم أن يدعي لنفسه الصفتين معا: صفة العروبة الأصيلة، وصفة التحضر بحضارة العصر، فإذا ما تناولنا حياته الفعلية بالتحليل الموضوعي الدقيق، ألفيناه واحدا من ثلاثة: فإما هو قد خلا من الأسس الأصيلة في الثقافة العربية، مكتفيا في حياته بعناصر متنافرة جمعها لنفسه من هنا وهناك من ظواهر الثقافة العربية، أو هو قد ملأ نفسه بثقافة عربية صرف، حتى انسدت دونه أبواب العصر، فلا يدري من أمر هذا العصر شيئا، أو هو قد أخرج وفاضه خاليا من الثقافتين جميعا؛ فلا هو إلى أولئك ولا إلى هؤلاء. تلك صور ثلاث أراها تستنفد الكثرة الكاثرة من أبناء الأمة العربية، وأما الصورة الرابعة التي هي صورة العربي وقد جمع في كيانه وحدة عضوية متسقة متماسكة، قوامها أصول رئيسية من التراث العربي، وأصول رئيسية أخرى من مقومات عصرنا الحاضر، فلن تجدها متمثلة إلا في نفر قليل، تكاد تشير إلى أفراده في أرجاء الوطن العربي؛ لأنهم بهذا الجمع الحقيقي بين الثقافتين في حياة واحدة، قد برزوا عن غمار الناس بروزا لا يخطئه البصر.
2
إن الموقف الحضاري للأمة العربية اليوم، يتركز في سؤالين، لو أحسنا الإجابة عنهما، تبدت لنا حقيقة ذلك الموقف جلية لا يشوبها غموض؛ السؤال الأول هو: ما هي أهم العناصر التي نعنيها حين نتحدث عن «الشخصية العربية الأصيلة»؟ وأما السؤال الثاني فهو: ما هي أهم العناصر التي تتألف منها بنية الثقافة العصرية؟ فبعد الإجابة عن هذين السؤالين، تكون أمامنا صورتان، وقد يسهل علينا بعد ذلك أن نلتمس السبيل إلى خلق المركب الواحد، الذي يضم ما يمكن ضمه من أجزاء الصورتين، دون أن تضيع من أيهما صفة جوهرية فينتفي بذلك وجودها.
ولنبدأ بسؤالنا الأول: من نحن على الأصالة؟ ما هي مقوماتنا التي إذا تحققت في فرد أو في مجموع قلنا عنه إنه عربي أصيل من الناحية الثقافية؟ لست أطمع في أن تجيء الإجابة شاملة لكل هذه المقومات، بحيث لا يفلت منا شيء منها، وحسبنا أن نقع على طائفة من المقومات الأساسية فنهتدي فيما نحن بسبيله.
وأول ما يرد إلى خاطري من الخصائص المميزة للوقفة العربية، العقيدة الراسخة بمستويين من الوجود، بحيث يستحيل علينا استحالة قاطعة، أن نخلط بينهما في التصور؛ فهنالك الذات الإلهية الخالقة، ثم هنالك عالم الكائنات المخلوقة لتلك الذات، وبين هذه الكائنات المخلوقة، كائن أراد له خالقه أن يتميز ليحمل إلى الدنيا أمانة اؤتمن على حملها ونشرها، وذلك هو الإنسان. في هذا الإطار العام، تتحدد وجهة النظر العربية الأصيلة، وعن هذا الأصل الأول تتفرع فروع:
منها أن الإنسان كائن خلقي، بمعنى أنه مكلف بأن يحقق في سلوكه قيما أخلاقية محددة معينة، أمليت عليه ولم تكن من اختياره، فليس من حقه أن ينسخ بعضها، أو أن يضيف إليها ما يناقضها، ولما كان هذا التكليف الأخلاقي لا يكتمل معناه إلا إذا كان الفرد الإنساني مسئولا عما يفعل، فإن هذه المسئولية الأخلاقية بالنسبة لكل فرد على حدة، تصبح أمرا لا مفر منه، فلا يجوز أن يحملها فرد عن فرد آخر، قد تجد في الثقافات الأخرى أنماطا أخرى، بل إن في عصرنا هذا نمطين آخرين لا يلتئمان مع الوقفة العربية التي ذكرناها؛ أحدهما يقول إن القوانين الأخلاقية كغيرها من القوانين، هي وليدة الحياة الواقعة، فما قد ثبت على التاريخ أنه نافع جعلناه قانونا خلقيا ننظم به سلوكنا، وما قد تبين على التاريخ أنه ضار، حذفناه من قائمة الأفعال المقبولة، ولما كان النفع والضرر يتغيران بتغير الظروف، وجب علينا أن ننظر إلى مبادئ الأخلاق على أنها نسبية لا مطلقة، بحيث نكون على استعداد لأن نغير منها ما لا بد من تغييره؛ لئلا يقف عقبة في سبيل التقدم مع ما يقتضيه الزمن وحضارته.
ذلك أحد النمطين الآخرين، وأما النمط الآخر فيقول أصحابه إن المسألة هنا ليست مرهونة بتقدم أو تأخر في طريق الحضارة، ولكنها مسألة الإنسان وحريته المطلقة في أن يتخذ لنفسه ما شاء من قرار؛ بشرط أن يكون مسئولا عن قراره ذاك، فليس هنالك أحد فوقه أو إلى جانبه يملي عليه ما يجب وما يجوز، بل هو البادئ بقراره بدءا غير مسبوق بمبدأ صاغه سواه.
وواضح أن الوقفة العربية الأصيلة مختلفة عن كلا النمطين من حيث المبدأ والأساس، حتى وإن اتفقت معهما في النتيجة؛ فهي مختلفة عن النمط الأول الذي يجعل المعول في السلوك الإنساني الصحيح على التجارب، على حين أن الوقفة العربية تفترض أسبقية المبدأ الخلقي على التجارب، فالصواب صواب، والخطأ خطأ، بغض النظر عن النجاح أو الفشل في تجارب الحياة العملية، وليست حدود الصواب والخطأ من صنع الإنسان، ولكنها حدود شاءها الله للإنسان.
والوقفة العربية مختلفة عن النمط الثاني كذلك، الذي يجعل القرار الإنساني غير مسبوق بمعيار؛ وذلك لأن وجهة النظر العربية - كما ذكرنا - تفترض أسبقية المعيار الذي يقاس به القرار في صوابه أو خطئه، وسؤالنا - في حدود هذه النقطة الأولى - هو: هل يمكن التوفيق بين أن يكون الإنسان عربيا يحمل هذه الوجهة من النظر، وأن يكون في الوقت نفسه معاصرا يتطور مع الزمن وتغيراته السريعة؟ لست أدعي ها هنا بأن مشكلة التوفيق - في هذا الجانب - بين الأصالة والمعاصرة هنة هينة، ولكنها على كل حال مشكلة تستحق منا النظر الطويل والعميق؛ لأننا لو أمسكنا بالقيم الثابتة الموضوعة لنا، تعرضنا لخطر الجمود، ولو سبحنا أحرارا مع تيار التغير، تعرضنا لزوال الشخصية وانحلالها، وغاية ما أستطيع قوله في هذا الصدد، هو أن قيمنا الأخلاقية الموروثة فيها من السعة ما يمكننا من التصرف في إطارها بدرجة من الحرية تكفي للحركة مع سرعة الإيقاع في عصرنا، وليكن الأمر في هذا شبيها بالأمر في تكوين ألفاظ اللغة من حروف الأبجدية؛ فالحروف محددة معلومة العدد، ومع ذلك ففي مستطاعنا أن نبني بها ألفاظا تعد بملايين الملايين إذا أردنا، فلماذا لا نقول إن مبادئنا الخلقية الموروثة هي أسس يمكن أن نبني عليها ما لا حصر له من ضروب العمل؟ إن هذه القيم الموروثة ماثلة في أسماء الله الحسنى؛ لأن هذه الأسماء - كما يقول الإمام الغزالي - هي صفات تكون مطلقة بالنسبة لله تعالى، وهي نفسها تكون نسبية محدودة بالنسبة للإنسان، فاقرأ هذه الأسماء تعلم ماذا يطلب منك أن تكون؛ يطلب منك - مثلا - أن تكون عليما، بصيرا، سميعا، قادرا، صبورا، إلى آخر هذه الصفات العليا، فما الذي يمنع من مسايرة العصر بهذه الصفات؟ ما الذي يمنع أن أكون عليما وبصيرا وسميعا بحقائق عصري وما تتطلبه الحياة فيه؟ وأن أكون قادرا وحكيما وجسورا وقويا وخبيرا، وكلها صفات من تلك الصفات المطلوبة مني بحكم عقيدتي؟ كل الذي يطلب مني في هذا المجال، هو أن أفهم من كل صفة جوانبها التي تكون أقرب إلى العصر، فأكون عليما بعلم العصر، وقادرا بقدرة العصر، وقويا بقوته، وحكيما بحكمته، وهلم جرا.
3
ومن مميزات الثقافة العربية كذلك، تلك الرغبة الشديدة عند الإنسان في أن يتسامى على دنيا الحوادث المتغيرة؛ لياذا بما هو ثابت ودائم، إن كل ما في الأرض والسماء فان وزائل، متغير أبدا، متحول أبدا، ففيم التمسك به وهو عاجز عن التماسك بذاته، أليس ثمة مرفأ بمأمن من أعاصير الفناء والصيرورة والتغير الدائب من حال إلى حال، لنحتمي بمثل هذا المرفأ فنسلم؟ نعم، هنالك مثل هذا المرفأ الآمن، فنستطيع أن نلتمسه، حتى ونحن لم نزل أحياء في هذه الحياة الدنيا، ألا وهو الذات الباطنية التي بها تكون هويتنا، هو «الأنا» التي تظل قائمة صامدة مهما حدث التحول لما حولها، ثم هنالك مثل هذا المرفأ الآمن بمعنى آخر، وهو مرفأ الحياة الآخرة التي هي غاية منشودة خلال كل نشاط ننشط به في هذه الحياة الدنيا.
هذا هو العربي في نظرته، ينشد الخلود عن طريق الظواهر الزائلة، يريد أن يقهر الزمن وأن يقهر الموت، أما الزمن المتقلب بأحداثه، فهو يقهره بالخروج منه إلى ما ليس زمنيا بطبيعته، فيلجأ إلى ذاته التي هي كائن لا زمني، كما يأمل في حياة آخرة لا تخضع هي الأخرى لعوامل الزمن، ولو كانت الحقيقة كل الحقيقة هي هذه المتغيرات المتبدلات الفانيات الزائلات ، التي نراها في الأشياء المحيطة بنا، لكان الكون - من وجهة نظر العربي - عبثا في عبث.
وليست هذه النظرة هي ما يأخذ به عصرنا الحاضر؛ فتكاد المذاهب الفلسفية المعاصرة كلها تجمع على تحليل كل شيء إلى ظواهره المتغيرة، دون أن تزعم وجودا لأي كائن ثابت وراء تلك الظواهر، فهذه المنضدة أمامنا ليست إلا مجموعة ظواهرها البادية لحواسنا من بصر ولمس، وكذلك قل في كل شيء، بما في ذلك الإنسان نفسه، فالكائن البشري بدوره ليس إلا مجموعة ظواهر يراها فيه الآخرون أو يحسها هو في باطنه، دون أن يكون وراء هذه الظواهر المتدفقة «ذات» ثابتة تدوم على الزمن، بل قل هذا نفسه في الوجود كله جملة واحدة، فما هذا الكون إلا خضم من ظواهر، ما تنفك متصلة بعضها ببعض أو منفصلة، دون أن يكون وراءها شيء.
مثل هذه النظرة إلى العالم إنما تجيء ملحقة بالنظرة العلمية الصارمة التي هي من خصائص عصرنا، فسؤالنا هذه المرة هو هذا: كيف ألتزم النظرة العلمية الصارمة لأساير عصري، وأن أظل مع ذلك تواقا إلى غيب وراء الشهادة، يتحقق لي فيه الخلود والدوام؛ لأظل محتفظا بهذه السمة العربية في نظرتي؟ ومرة أخرى أقول: إنني لا أدعي أن مشكلة التوفيق هنا هي من الهنات الهينات، بل هي كزميلتها السابقة مشكلة تتطلب منا التفكير الطويل والعميق، وإني لأرجح أن يكون الحل في أن نعيش في عالمين يتكاملان ولا يتعارضان؛ بشرط ألا نسمح لأحدهما أن يتدخل في مجال الآخر، في أحدهما نعيش حياتنا العلمية بكل ما تقتضيه، ولكننا بدل أن نقول: إن هذه الحياة العلمية حسبنا في دنيانا، يجب أن نقول: إن إلى جانب هذه الحياة العلمية حياة أخرى فيها الأماني، وفيها المثل العليا، وفيها المرفأ والملاذ، فإذا كنت في الساعات العلمية من حياتي أحصر النظر في الظواهر وحدها، لأستخرج قوانينها برغم تغير تلك الظواهر، ففي الساعات الوجدانية من حياتي أخلع عن نفسي عباءة العلم، وأسلم نفسي للتمني والرجاء، وبغير هذا الفصل الحاد بين العالمين، يستحيل علينا التوفيق بين علمية العصر وصوفية الأصل الموروث.
ولقد أحس الغرب نفسه بمثل هذه المشكلة، فالتمس مخرجا منها، بأن أقام حدا فاصلا بين العلم من جهة، والفن من جهة أخرى، فإذا كان محتوما على الإنسان في حياته العلمية أن يتقيد بالواقع كما هو واقع، وبالظواهر كما هي ظاهرة لحواسه، فله في الفن متسع يجول فيه ويصول؛ لأنه في الفن يستطيع ألا يتقيد بواقع، وأن يخلق لنفسه طبيعة أخرى غير الطبيعة التي تصدمه بظواهرها، ومن هنا نشأت مدارس الفن الحديث، التي تتفق كلها على نقطة مشتركة، هي أن الفنان لا يطلب منه أن يصور الواقع، ومن حقه أن يبدع لنفسه ما شاء له خياله أن يبدع، فهذا التحرر من قيود الواقع الموضوعي، يعوضه عما في حياته العلمية من قيود لا تحقق له ما يشبع الأماني والآمال.
فقل عن ثقافة أوروبا وأمريكا اليوم إنها ثقافة يسودها معقول العلم؛ تكن على صواب، أو قل عنها إن الذي يسودها هو لا معقول الأدب والفن؛ تكن أيضا على صواب؛ لأن المعقول واللامعقول يتجاوران ليعوض أحدهما نقص الآخر، وإذا كان هذا هكذا، فما الذي نتحرج له إذا نحن اخترنا أن نجاور بين معقول العلم والإيمان بالغيب في حياة واحدة؟ إننا إذا فعلنا ذلك، عاصرنا زماننا بالشق الأول، ووصلنا وشيجة القربى بيننا وبين تراثنا بالشق الثاني.
4
على أن العربي الأصيل في رغبته أن يجاوز الواقع المتغير إلى ما وراء الواقع في أبديته وخلوده، يظل مرتبطا بالمكان الأرضي ارتباطا عجيبا، فهو مع المكان المحيط به في حوار لا ينقطع، هنالك حركة جدلية موصولة، طرفاها الإنسان العربي ومكانه، إلا أنها جدلية لا تنتهي بدمج الطرفين في مركب واحد، بل هي جدلية تحتفظ للذات الإنسانية بالسيطرة على موضوعها، الطبيعة كلها عند العربي مسرح للفعل والحركة، هي عنده حلبة للقتال والنزال، هي ميدان لفروسيته وبطولته، كانت الصحراء حول العربي مصدر روع له وروعة في آن معا؛ فهو يرتاع لجهامتها ومجهولاتها، ولكنه في الوقت نفسه يكاد يخشع لهيبتها خشوع العابدين، ومن ثم كانت الصحراء له مسرح قتال ومغامرة، كما كانت له مصدر حب وشعر وغناء، إنه يتفحص كل ما حوله من مكان - أرضا وسماء - بجميع حواسه، يتفحصه بالبصر والسمع واللمس والشم والذوق، لا يترك منه شيئا، من جرذان الأرض إلى أنجم السماء، لكنه يتفحص هذا كله ليستخدمه ويسيطر عليه، لم يكن العربي مستندا في علمه بالطبيعة من حوله، إلى كتب تركها له أسبقون، بل استند إلى كتاب الطبيعة نفسه؛ ينظر في صفحاته، ويقرأ ثم يعي، ولم يكن علم العربي بالطبيعة للمتعة وإزجاء الفراغ، بل كان مسألة حياة وبقاء؛ يقول أبو حيان التوحيدي في كتابه «الإمتاع والمؤانسة»: «إن العرب ليس لها أول تؤمه، ولا كتاب يدلها، أهل بلد قفر، ووحشة من الأنس، احتاج كل واحد منهم في وحدته إلى فكره ونظره وعقله، وعلموا أن معاشهم من نبات الأرض، فوسموا كل شيء بسمته، ونسبوه إلى جنسه، وعرفوا مصلحة ذلك في رطبه ويابسه، وأوقاته وأزمنته، وما يصلح منه في الشاة والبعير، ثم نظروا إلى الزمان واختلافه، فجعلوه ربيعيا وصيفيا، وقيظيا وشتويا، ثم علموا أن شربهم من السماء، فوضعوا لذلك الأنواء، وعرفوا تغير الزمان، فجعلوا له منازله من السنة، واحتاجوا إلى الانتشار في الأرض، فجعلوا نجوم السماء أدلة على أطراف الأرض وأقطارها، فسلكوا بها البلاد، وجعلوا بينهم شيئا ينتهون به عن المنكر، ويرغبهم في الجميل .. حتى إن الرجل منهم وهو في فج من الأرض يصف المكارم فما يبقي من نعتها شيئا، ويسرف في ذم المساوئ فلا يقصر ...»
من ذلك نرى صورة للعربي، جوابا في أرجاء الأرض، جوالا ببصره في السماء، ممسكا خلال ذلك بقيم توجهه نحو الفاضل والجميل، فأين تتفق هذه الصورة العربية، وأين تختلف، إذا ما اصطدمت بوقفة الحضارة العصرية من الطبيعة ومن القيم التي توجه الإنسان في سيره؟ أما الاتفاق فهو الاهتمام بالكون وما فيه اهتماما لا يقف عند حدود الكشف عن الحقائق لذاتها، بل هو اهتمام يستهدف النفع واجتناب الأذى، وأما الاختلاف العميق فهو في أن العربي لم يرد من الطبيعة إلا أن تكون مسرح فعل وإرادة ، على حين أن إنسان الحضارة الغربية بصفة عامة يضيف إلى ذلك ما قد يكون أهم منه، وهو أن تكون الطبيعة مجالا لفاعلية العقل تحليلا وتركيبا؛ ولذلك لم يكن مصادفة أن وجدنا في فلسفات الغرب الحديث نظريات المعرفة (إبستمولوجيا) تحدد العلاقة النظرية بين الإنسان العارف والموضوعات المعروفة، على حين أننا لا نكاد نعثر في التراث العربي الفلسفي كله على نظرية للمعرفة من هذا القبيل. عني المفكر العربي بالإرادة وتحليلها لأنها أداة العمل والحركة، أكثر جدا مما عني بالعقل وتحليله؛ لأنه رآه أداة لفاعلية ذهنية تتم لصاحبها وهو جالس على مقعده.
فماذا نحن صانعون - نحن العرب المعاصرين - للتوفيق في هذا المجال بين أصيل موروث وجديد معاصر؟ أحسب أن الطريق أمامنا واضح، وهو طريق تربوي من الأساس، فما علينا إلا أن نربي ناشئتنا على أن يحتفظوا بميراثهم في تدريب الإرادة الماضية، وفي التطلع والمغامرة، ثم يضيفوا إلى ذلك تدريبا آخر على النظر العقلي والبحث النظري.
إن عصرنا هذا إن تميز بسمة تبرزه عن سائر العصور التي سلفت، فهذه السمة هي إيغاله في دنيا العقل - ودنيا العقل هي نفسها دنيا العلوم على اختلافها - إيغالا لم يترك جانبا واحدا من جوانب الحياة، ولا ركنا واحدا من أركان الأرض - وكدت أقول: وأجواز السماء - إلا وقد تناوله بتأثيره، على أن العقل العلمي في زماننا لا يكفيه ما كان يكفيه بالأمس، وهو أن يقف عند الحدود النظرية الرياضية، بل إنه ليصر على أن يتجسد في أجهزة، وعلى أن ينثر هذه الأجهزة على بقاع الأرض ليبدل حياة الناس حالا بعد حال، فلم يعد لنا مناص من السبح على هذا التيار العلمي التقني، فإذا كنا أصحاب فعل وحركة وإرادة من جهة الأصالة، فلا بد من إضافة هذه الصفحة الجديدة إلى كياننا؛ وذلك - كما قلت - إنما يتحقق عن طريق التربية ابتداء، لنخلق النظرة التي لا تترك الفعل والحركة والإرادة سائبة كما اتفق، بل تلجمها إلجاما لتسيرها على الطريق المؤدية إلى تكوين علم وعلماء بهذا المعنى العصري الجديد.
5
وأخيرا ، وكان ينبغي أن يكون أولا، لكنني أرجأت ذكره لبداهته، وهو أن أصالة العربي تبدأ من كونه يتكلم لغة عربية، وإذن فلا بديل أمامنا إلا أن نرعى هذه اللغة على ألسنة أبنائها وأقلام كتابها، فهي بطاقة الهوية التي تجعل من العربي عربيا، هذه بديهية لا أظنها مثيرة لجدال، لكنني أنتقل إلى ما يترتب عليها؛ لأنه لا يبدو للناس بهذه البداهة كلها، وهو أننا إذا أردنا الحياة في عصرنا، فلا بد من صب هذا العصر بكل ما فيه، من علم وأدب، في وعاء اللغة العربية، أعني أنه لا بد من ترجمة العلوم العصرية كلها، وكذلك أدب العصر وفلسفته، وبقدر ما نستطيع أن نسكب مادة العصر في إنائنا اللغوي، يكون نصيبنا من المعاصرة.
إن العصر لا يقتصر على شعب واحد، ولا على قطر واحد؛ فالعصر هو أمريكا وإنجلترا وفرنسا وألمانيا وروسيا واليابان، وغيرها مما يسير معها في شوطها، لكن هذا العصر الواحد يلبس في كل قطر من هذه الأقطار ثوبا ينسجه له ذلك القطر؛ ليجعله واحدا من أهله، دون أن يكون تبدل الأثواب سببا في تغيير شيء من ملامح العصر، وما هذه الأثواب المختلفة باختلاف البلدان الممسكة بزمام الحضارة في عصرنا، إلا اللغات المختلفة؛ فقد صب الفرنسي - مثلا - نتاج العصر في لغته الفرنسية، فبات الفرنسي بذلك معاصرا لزمانه، وكذلك فعل الألماني والروسي والياباني وغيرهم.
ومع ذلك فلقد صادفت في أمتنا أفرادا تعارض ترجمة العلوم، على ظن منهم بأن هذه العلوم لا يليق لها إلا الثوب الإنجليزي أو الفرنسي أو غيرهما من لغات الأمم المتقدمة، ولا يسعني في هذا الصدد سوى أن أكرر القول بأنه على قدر ما ننقل إلى الثوب العربي من نتاج العصر، يكون نصيبنا من العصر؛ فالأصالة في هذا المجال هي في اللغة العربية التي هي لغتنا لا لغة أحد سوانا، والتي هي كذلك ميراث تسلمناه من أسلافنا، وأما المعاصرة فهي أن نصب عصرنا في وعائها.
إن التاريخ العربي هو كالنهر، دفاق المياه، وتظل للنهر هويته منذ ألوف السنين، برغم جريان مائه وتبدله يوما بعد يوم، بل لحظة في إثر لحظة، والذي يحفظ للنهر هويته هو التزامه مجرى واحدا، وهكذا نريد لحياتنا أن تكون: نحفظ لها الإطار الأساسي العام، ووجهة النظر الرئيسية، ثم نجدد المضمون الذي يملأ ذلك الإطار، أو الذي يشغل تلك الوجهة من النظر، كلما جاءت العصور المتوالية بحضارات متعاقبة، لكل حضارة منها مضمونها الجديد.
6
هذه - إذن - نقاط أربع، أو إن شئت فقل إنها مجالات أربعة ذكرناها، في كل مجال منها موقف لنا أصيل، ضارب بجذوره في أعماق تراثنا، يقابله موقف مضاد للحضارة التي نعاصرها، ولقد حاولنا أن نبين في كل حالة من الحالات الأربع كيف يمكن أن تحدث المصالحة بين الضدين؛ فأولا: كانت لنا وقفة معينة بإزاء الله والكون والإنسان، استتبعت وجهة نظر معينة في المبادئ الخلقية، ليس هي وجهة نظر الحضارة القائمة، فبينا كيف يمكن أن تسد الفجوة بين الوجهتين، وثانيا: كانت لنا وقفة بإزاء الواقع المادي، استتبعت منا أن نجاوزه إلى غيب وراءه، وليس ذلك مما تأخذ به الحضارة الحاضرة، فاقترحنا طريقة نخلص بها من هذا التناقض، وثالثا: كانت لنا سبل معينة في التعامل مع الطبيعة المكانية من حولنا، ليست هي السبل المأخوذ بها في حضارة اليوم، فالتمسنا لأنفسنا وسيلة للتقريب بين الطريقتين، ورابعا وأخيرا: لنا لغة لا بد من الحفاظ عليها، وهي التي تحمل ميراثنا في أوعيتها، وقلنا إنه لا مناص لنا من صب نتاج عصرنا في تلك الأوعية، ليمتزج الجديد بالقديم، في إناء واحد، وهكذا رسمنا ما يشبه الخريطة لما يمكن عمله؛ توفيقا بين الأصالة والمعاصرة.
فتعالوا معي الآن في جولة خاطفة، ننظر خلالها إلى ما قد حدث بالفعل في حياتنا الثقافية؛ لنرى إلى أي حد أصابنا التوفيق في هذا الدمج الحضاري المطلوب: فأما بالنسبة للمجال الأول، الخاص بوجهة نظرنا إلى الله والكون والإنسان، فلا أظننا قد ظفرنا بتوفيق كبير في أن نوسع من معنى قيمنا الأخلاقية بحيث تتطابق مع ما هو مستحدث في عصرنا، فقد نرى أصحاب القول والكتابة بين قادة الفكرة منا منقسمين قسمين: أحدهما يضرب على الوتر القديم وحده، والثاني يضرب على الوتر الجديد وحده، وفشلنا حتى الآن في أن تجيء النغمة المعزوفة شاملة للجديد والقديم معا، فإذا قلت - مثلا - كلمة «علم» انصرفت أذهان بعضنا إلى الفيزياء والكيمياء وما إليهما، وانصرفت أذهان الآخرين إلى حفظ المدونات القديمة، وبقينا في معسكرين، لا يكاد يلتقي أحدهما بالآخر، اللهم إلا في أوجه النشاط التي لا تتصل بالحياة الفكرية من قريب، وهكذا قل في كثير جدا من المعاني الرئيسية التي هي محاور الفكر والثقافة.
وأما بالنسبة إلى المجال الثاني، الخاص بمجاوزة الواقع إلى ما وراءه، فللأسف الشديد، أرانا نحتفظ بهذه السمة، ولكننا ننحرف بها عما خلقت من أجله؛ فقد كان الأصل فيها هو أن ننجو بأنفسنا من دنيا الأحداث المتقلبة المتغيرة الزائلة؛ لنلوذ بما هو ثابت وخالد، لكننا جعلنا مجاوزة الواقع إلى ما وراءه في عصرنا هذا؛ فرارا من نظرة العلم إلى سمادير الخرافة، فضاع منا الواقع وما وراءه دفعة واحدة.
وأما بالنسبة إلى المجال الثالث، الذي هو علاقة العربي بالمكان، وهي علاقة - كما أسلفنا - قوامها الفعل والحركة والبطولة والسيطرة على البيئة بكل تفصيلاتها؛ فلقد انطوينا على أنفسنا إثر ما ابتلينا به من قهر وهزيمة خلال القرون الثلاثة الأخيرة، وبهذا الانطواء الذليل، لا نحن عالجنا الطبيعة كما كان أسلافنا يعالجونها، ولا نحن تناولناها كما يتناولها أبناء الحضارة الغربية الحديثة، وتركنا ما تحت أقدامنا من رقعة الأرض، وما فوق رءوسنا من جو السماء، للأوروبي وحده، أو للأمريكي وحده، يفعل فيهما ما شاء أن يفعل، لولا أننا - والحمد لله - قد أخذتنا آخر الأمر يقظة واعية، نحاول بها النهوض من كبوتنا التي كانت، والأمل معقود بجيل جديد يتناول أرجاء الوطن العربي بنظرة فيها تقليد التراث، وفيها تجديد الحضارة معا.
وأما المجال الرابع والأخير، من المجالات الأربعة التي جعلناها مدار الحديث، وهو مجال اللغة، فلا شك أننا قد مضينا في شوط إحيائها بمضمون الحضارة العصرية مسافة بعيدة، لكننا مع ذلك ما زلنا بعيدين بعدا شديدا عن الهدف النهائي، الذي هو - كما أراه - أن نسكب كل مقومات العلم والأدب والفلسفة الشائعة في دنيا العصر، أن نسكبها كلها في لغة عربية، ولن يحق لنا الحديث عن وجودنا في عصرنا قبل أن نجد هذا العصر قد نطق بلسان عربي مبين.
أزمة العقل في حياتنا
نقول في أحاديثنا الجارية: إن فلانا «متزن»، وذلك إذا أردنا مدحه بصفة لعلها أن تكون من أعظم ما يوصف به إنسان، وفيم يكون هذا «التوازن» المحمود؟ إنه يكون بين مقومات متباينة هي قوام الإنسان، قد تتعاون كلها على بلوغ هدف معين، لكنها كذلك قد تتنازع بحيث تتجه كل منها وجهة غير الوجهة التي تتجه إليها المقومات الأخريات، ولو أخذنا بالتصنيف الأفلاطوني القديم لهذه المقومات، لقلنا إنها صنوف ثلاثة، كل صنف فيها يتعلق بجزء من البدن، على سبيل الحقيقة، أو على سبيل المجاز، وتلك هي شهوات البطن، وعواطف القلب، وحكمة الرأس، وليس من الخير لأحد أن تطمس منه الشهوة أو العاطفة، أو أن يقيد منه العقل، الذي هو مصدر الحكمة، وإنما الخير كل الخير في أن تبقى هذه العناصر الثلاثة جميعا؛ على أن يكون بينها اتساق في طرائق السير، واتحاد في الهدف، ولقد صور أفلاطون هذا الاتحاد، وذلك الاتساق، بصورة مشهورة، وهي أن تصور الشهوة والعاطفة جوادين يجران عربة، ويمسك باللجام سائق، هو العقل، فلو ترك الجوادان لدفعتهما الفطرية لجمحا، لكن العقل السائق يعرف كيف يضبط منهما خطوات السير نحو الهدف المقصود، فإذا توافرت لشخص مثل هذه الحالة التي تنساق بها الشهوة والعاطفة مقيدة بشكائم العقل، قلنا عنه إنه بذلك قد اكتسب فضيلة «العدالة» - كما يسميها أفلاطون - وصفة «الاتزان» كما نحب نحن أن نسميها لتساير أفهام الناس في عصرنا القائم، وهذا الاتزان (أو هذه «العدالة» بالمصطلح الأفلاطوني) إنما يصف الفرد كما يصف الدولة سواء بسواء، ففي كليهما بطن يشتهي، وفي كليهما قلب ينفعل بالعاطفة، وفي كليهما رأس يسوس.
لقد استهل أفلاطون محاورة «الجمهورية» ببحث مستفيض في هذه «العدالة»، ما معناها على وجه التحديد؟ كان لا بد له أن يفعل ذلك ليجعل من هذه الصفة الجوهرية أساسا يقيم عليه الدولة التي أراد أن يقيمها، لكنه تردد لحظة: أي الطرفين يبدأ ببحثه ليطبق النتيجة التي ينتهي إليها على الطرف الآخر؟ يبدأ بالفرد الإنساني فيحلل خصائصه؛ ليكون له بذلك ما يمكن إسقاطه على بناء الدولة، أم يبدأ بالدولة ليستخلص من تعادل كيانها كيف يجيء الفرد الإنساني المتعادل؟ ولقد آثر هذا البديل الثاني، وهاك نص حديثه في هذا الصدد لطرافته: «هب أنه قد طلب إلى شخص قصير النظر أن يقرأ حروفا صغيرة، وهو منها على مبعدة، ثم جاءه من أنبأه بأن هذه الحروف نفسها مكتوبة في مكان آخر بحجم أكبر، أفلا تكون هذه فرصة نادرة له، تتيح له أن يبدأ بقراءة الحروف الكبيرة، ثم ينتقل منها إلى الصغيرة، ليرى ما بينهما من تماثل إن وجد؟ .. إن «العدالة» التي هي موضوع بحثنا، إذا كانت تصف الفرد باعتبارها فضيلة له، فهي كذلك تصف الدولة .. والدولة أكبر من الفرد .. وإذن فالأيسر هو رؤية العدالة في صورتها الكبيرة؛ ومن ثم فإني أقترح البحث عن طبيعة العدالة كما تتجلى في الدولة أولا، لننتقل من الأكبر إلى الأصغر فتسهل المقارنة بين الصورتين .. وإذن فلنتخيل دولة تنمو وتتكون أمام أبصارنا، لنرى العدل والظلم إذ هما ينموان فيها.»
هكذا أراد أفلاطون أن يفهم حقيقة الفرد في اكتسابه لفضيلة العدل (أو فضيلة «الاتزان»)، وقد يكون هذا هو المنهج السديد، عندما تكون المعاني المطروحة للبحث منظورا إليها في صورة كمالها النظري، فعندئذ يمكننا أن نرسم صورة للدولة المثلى، فنرى في جنباتها كيف يكون الفرد الأمثل من أفرادها، أما إذا كانت الصورة المطروحة للبحث مأخوذة من الواقع الفعلي المحسوس بكل ما يشوبه من نقص وتشويه، فإن المنهج الأفلاطوني لا يسعف، ويكون حتما علينا أن نعكس طريق السير، فنرى الأفراد في نقصهم، لنخلص منها إلى تصور الدولة التي تسودهم في أوجه نقصها الذي يعكس بالضرورة نقص الأفراد؛ إذ الأمر - كما قيل - هو أنه كيفما يكون أفراد الناس، تكون الدولة التي تولى عليهم.
وإني لأزعم هنا بأن متوسط الفرد من أبناء الأمة العربية في عصرنا، يفلت من يديه زمام العقل، فتجمح عنده الشهوة والعاطفة جموحا يحجب عنه رؤية الأهداف واضحة، ومن ثم فهو يسد أمامه سبل الوصول.
فلننظر - إذن - إلى أوساط الناس من حولنا، فماذا نرى؟ نراهم على عداوة حادة مع العقل، وبالتالي فهم على عداوة لكل ما يترتب على العقل من علوم ومن منهجية النظر ودقة التخطيط والتدبير، فإذا انطلقت الصواريخ تغزو الفضاء ويرود أصحابها أرض القمر، تمنوا من أعماق نفوسهم أن تجيء الأنباء بفشل التجربة، وإذا سمعوا عن قلوب أو غير قلوب، تؤخذ من آدمي لتزرع في آدمي آخر، أحزنهم أن يتحقق النجاح، وأفرحهم أن تخفق المحاولة، وهاك هذين المثلين من خبرتي الخاصة، لم أقرأ عنهما في صحيفة أو كتاب، بل شهدتهما بعيني وسمعتهما بأذني:
أقيمت ندوة ثقافية كنت أحد أعضائها، وكان من المسهمين فيها كذلك عميد لإحدى كليات العلوم عندئذ، وكان السؤال المطروح هو: ماذا نرى في هذه الوثبة العلمية الجريئة، التي هي صعود الإنسان إلى أرض القمر؟ فكان مما قاله عميد كلية العلوم بإحدى الجامعات العربية أنه يعوذ بالله من هذا الشطط، الذي قد يؤدي بالكون إلى دمار، ثم تساءل قائلا: أليس يجوز أن يهبط الصاروخ على القمر بدفعة قوية فإذا القمر ينحرف عن مداره فتكون الطامة على البشر؟
أما المثل الثاني فهو أنه سئل قطب من أقطاب الطب في الأمة العربية: ما رأيك فيما سمعناه عن زرع القلوب في أبدان غير أبدانها؟ فاستعاذ بالله هو الآخر من شر ما يسمع، مؤكدا أنها محاولات مجنونة، لن تؤدي إلى شيء، وربما كانا هذان العالمان لا يعتقدان في صدق ما قالاه، وإنما قصدا به إلى إرضاء السامعين، فتكون الطامة أكبر؛ لأن الدليل عندئذ ينهض ليؤيد ما نزعمه، وهو أن مثل هذا القول هو ما يرضي الناس، ثم نكون قد خسرنا بالنفاق نزاهة العلم والعلماء!
أولئك هم علماؤنا، فما بالك بأبناء السبيل؟ ألا إن مضجع العلم الجاد خشن تحت جلودنا؛ ولذلك كان شرطا عليك إذا كتبت للصحف والمجلات ، أو أذعت في الناس حديثا، أن تكسو الحقائق العلمية التي تنوي عرضها على الناس بحشايا من ريش النعام؛ لئلا تتأذى أبدانهم اللينة، فعليك أن توهم الناس بأنك لم تقصد إلى العلم الجاف الكريه، وإنما قصدت إلى تسليتهم في أوقات الفراغ، وإذا لم تفعل ذلك فلا سبيل أمامك إلى صحافة أو إذاعة.
الرأي السائد فينا هو أن العلم يعوق مجرى الحياة، فليست وسيلتك إلى النجاح في أي ميدان تشاء: ميدان العمل، أو ميدان السياسة، أو غيرهما، هي أن تدقق، وإلا لما بلغت من الطريق أدناه، إن الساعات التي يصرفها الدارس العلمي في مشكلة واحدة من مشكلاته «النظرية» كفيلة أن يقفز بها «العمليون» إلى الذرى مالا وجاها وقوة .. أليس لكل شيء معيار يقاس به؟ والمعيار السائد بيننا هو: كم يعود هذا العمل المعين على صاحبه من نفوذ وسلطان وثراء؟ ولما كان الأغلب ألا يعود العلم على أصحابه من هذه الأشياء بمحصول وفير، كان لهؤلاء المنزلة الثانية في مجتمعنا، وذلك على أحسن الفروض.
الرأي الشائع فينا هو أن العقل بعلومه عدو للوجدان ومشاعره، ولما كانت الكثرة الكاثرة منا نصيرة الوجدان، فسحقا للعقل ومناهجه ونتائجه، إنه إذا كانت المفاضلة بين رأس وقلب، فلا تردد في اختيار القلب، وهل هي مصادفة أن تجد منا ألف شاعر كلما وجدت عالما واحدا؟ إنه لما كثرت علوم الغرب وامتلأت الدنيا بأجهزته ومكناته، قلنا عنه إنه «مادي» لعين، وأما نحن بما نسبح فيه من ملكوت الوجدان، فروحانيون أنقياء وأصفياء، كأنما العلم من وحي الشيطان، وكأنما أجهزته ومكناته قد ركبها الأبالسة، وحذار أن تذكر أمامهم أن العلم الذي يتجلى في هذه الآلات هو «عقل» تجسد، أو هو روح ظهرت فيما أبدعته، ليصبح مشهودا، بعد أن كان كامنا خافيا، شأن كل خالق وخلقه، حذار أن تقول شيئا كهذا؛ لأن الروحانية في حسابهم يستحيل أن تتدلى إلى دنس الصفائح المعدنية، تنشرها المصانع، وتطويها طيارة أو سيارة، أو ما شاءت .. إن أغلب الناس حولنا هم أقرب إلى الظن بأن الحقيقة إنما ينطق بها البلهاء، قبل أن ينطق بها العلماء.
ذكاء العقل إذا توقد خشي الناس لعنته؛ لأنه نافذ إلى الأعماق، وهم يريدون أخذ الأمور ب «البركة» من أسطحها، لا من أعماقها، ولأنه يتشكك قبل أن يستقر على عقيدة، وهم يريدونها عقيدة خلصت من شوائب الشك والبحث، وكثيرا ما تسمعهم ينعتون مثل هذا الشك المتسائل المتقصي «خوضا» فيما ينبغي ألا يخاض فيه؛ إعمال العقل - عند الناس - مجلبة للشقاء؛ لأن الحياة - عندهم - تسلم زمامها إلى الذين يقبلونها كما ترد إليهم عن عمى وصمم؛ فذو العقل يشقى في النعيم بعقله، وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم؛ لأن الشقاوة والنعيم يقاسان بمعايير البهائم؛ إذ هي تنعم أو تشقى بمقدار ما يصادفها من كلأ المراعي، إن كثرة الناس يؤذيها أن يكون الكون سائرا على قانون محكم، ويسعدها أن يكون هذا القانون ألعوبة يلهو بها أرباب القلوب الطيبة.
تلك وأشباهها هي الخصائص المألوفة في أوساط الناس من حولنا، وعلى غرار الأفراد تستطيع أن تتصور الدولة.
الفرق بين دفعة الغريزة (ونريد بالغريزة جانبي الشهوة والعاطفة اللذين أشرنا إليهما في التقسيم الأفلاطوني)، أقول إن الفرق بين دفعة الغريزة من جهة، وتخطيط العقل وتدبيره من جهة أخرى، هو أساس الاختلاف بين ما يسمى في الثقافة الغربية بالرومانسية من ناحية، والكلاسيكية من ناحية أخرى، وإني لأرانا - أعني الأمة العربية في حاضرها - على أساس هذه التفرقة غارقين إلى آذاننا في موجة رومانسية بكل ما في ذلك من خير وشر، لكني لا أدع هذا القول بغير تحفظ شديد؛ فأولا: قد شاعت لهاتين اللفظتين ترجمة عربية، فيقال عنها «الإبداع» (للرومانسية) و«الاتباع» (للكلاسيكية)، لكنني إذ أصفنا بالرومانسية فليس الجانب الإبداعي من معنى الكلمة هو ما أريد، وإنما أردت من معناها جانبا أساسيا آخر؛ هو الصدور عن العاطفة في الاتجاه وفي السلوك، لا عن العقل، وثانيا: أن من معنى «الاتباع» احتذاء الناس للأقدمين في الفكر وفي العمل، وليس هذا الجزء من معنى الكلاسيكية هو ما أردت نفيه بالنسبة إلينا؛ إذ إننا من ناحية اتباع الأقدمين كلاسيون إلى حد بعيد، ولكني أردت من الكلاسية جانبا أساسيا آخر؛ هو اهتداء الناس بالعقل وما يقتضيه من قواعد وقوانين.
نحن في حاضرنا الثقافي والعملي رومانسيون بمعنى الدفعة الغريزية والنفور من كل ما يحيط بالتفكير العقلي من ضوابط وحدود؛ فالرومانسية في جوهرها ضيق بالقواعد والقوانين، حتى لو كانت هذه القواعد والقوانين قد وضعت لضبط معايير الأخلاق ومعايير الفنون، فوسيلة الرومانسي في إدراك ما يدركه هي وجدانه لا منطق عقله، ما ينبض له قلبه هو الحق، واقذف في جهنم ما قد يمليه عليك منطق العقل إذا جاء مخالفا لما قد مالت إليه العاطفة، المنظر الريفي متروكا على طبيعته هو عند الرومانسي خير من مدينة تعج بظواهر الحضارة؛ وذلك لأن الريف هكذا جاء انبثاقة فطرية، وأما المدينة بحضارتها فمن نتاج العقل وعلومه، ولما كان المنظر الريفي أكثر ملاءمة للشاعر، وكانت المدينة الصاخبة أكثر ملاءمة للباحث العلمي، كان للشاعر عند الرومانسي أسبقية على رجل العلوم، وحسب الشاعر قيمة عنده أنه هو - دون الباحث العلمي - الذي يعبر عن الذات الإنسانية وما تختلج به من عاطفة وانفعال ورغبة؛ فذلك عند الرومانسي أهم من قوانين الفيزياء والكيمياء، ومرة أخرى أريد أن أتحفظ ببعض القيود على ما أوردته الآن؛ فما قد أوردته إنما يصف الرومانسي المخلص، الذي يصدر عن عقيدة صادقة لا يشوبها الرياء، الذي كثيرا ما يباعد بين القول والعمل، وأما الرومانسي العربي فهو قادر على هضم التناقض بين أن يكون شاعرا يتغنى بالطبيعة وهو على فطرتها، وبين أن يسكن في قلب الصخب الحضاري من المدينة.
وليست هذه أولى المفارقات التي يعيشها راضيا مطمئنا ولا هي آخر المفارقات، إنه لما حدث الانقلاب الصناعي في إنجلترا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وأخذ الناس رويدا رويدا يهجرون الريف إلى المدن؛ استدبارا لعصر سادته زراعة، واستقبالا لعصر جديد تسوده صناعة، غضب الشعراء لهذه الظاهرة المحزنة في حياة الإنسان، وراحوا يصورون المصانع والآلات والمدينة بهوائها الخانق، وكأنهم يصفون شيئا أقامه الشيطان لغواية الإنسان، لكن هؤلاء الشعراء - في رومانسيتهم تلك - قد اتسقوا مع أنفسهم ورفضوا حياة المدن، وتشبثوا بالعيش في ريفهم الهادئ الجميل، وجئنا نحن اليوم - أعني المثقفين العرب - وأردنا لأنفسنا حركة رومانسية من ذلك القبيل نفسه؛ لنعبر بها عن شيء من الرفض الذي نحسه تجاه الحضارة الغربية الجديدة، لكننا لم نستطع التوفيق بين القول والعمل - شأننا في سائر جوانب الحياة حتى أصبح ذلك طابعا يميزنا تمييزا واضحا عن عباد الله الآخرين - فأشدنا سخطا على «مادية» الحضارة الغربية ربما كان أكثرنا انتفاعا بنتاجها، وأعلانا صوتا في الدعوة إلى جمال الريف وسكونه؛ قد يكون أعمقنا انغماسا في حياة المدينة بكل صخبها ووهجها.
وليس هذا التعارض بين العاطفة والعقل مقصورا على أصحاب الفن والأدب، ولا على عامة الناس في حياتهم اليومية، بل إنه ليظهر كذلك على مستوى الفكر الفلسفي، فترى كلا من الطرفين المتنازعين يكبح جماح الآخر إذا ما طغى وجاوز حدوده؛ فقد يوغل الناس ذات عصر في تحكيم العقل حتى ليذهبوا إلى حد عبادته وإنكار كل ما عداه، فعندئذ يظهر الفلاسفة الداعون إلى أولوية العاطفة، كما حدث حين ظهر جان جاك روسو، إبان القرن الثامن عشر ليقاوم عباد العقل من أعلام حركة التنوير في فرنسا، وكما حدث أيضا حين ظهر برجسون في عصرنا الحديث هذا، داعيا إلى أولوية الوجدان، ليصد موجة عارمة طغت على أوروبا خلال القرن الماضي، لتحمل الناس على الإيمان بالعلم وحده، والعقل وحده. والعكس صحيح كذلك؛ فقد يوغل الناس في التنكر للعقل، حتى تراهم لا يحتكمون إلا لما جاء عن غير مصدره من عاطفة أو عرف وتقليد، فعندئذ ينهض الفلاسفة الداعون إلى الحد من هذه الدفعة اللاعقلية بضوابط العقل ومناهجه، كما حدث حين ظهر ديكارت في فرنسا، وفرانسيس بيكون في إنجلترا، على مشارف التاريخ الحديث، وكما حدث أيضا عندما ظهر أوجست كونت في أواسط القرن الماضي ليصد تيار الرومانسية الذي أعقب الثورة الفرنسية، وشمل بأمواجه كل ميدان من ميادين الفكر والفن والأدب.
على أن طريقة العاطفة أو الغريزة في إدراك حقائق الأشياء، قد تأخذ عند الفلاسفة صورة يسمونها بالمصطلح الفلسفي «حدسا» ويقصدون به رؤية الحقيقة رؤية مباشرة كأنما هي تحدث بنور إلهي، أو بلمعة من الوحي، فإذا «حدس» الفيلسوف - أو أي إنسان من عامة الناس - حقيقة ما على هذا النحو المباشر، لم يكن من حقنا مطالبته بإقامة برهان على صدق ما يزعمه؛ لأن إقامة برهان تتضمن اعترافا بوجود فكرة أخرى ذات أسبقية منطقية، هي التي نستند إليها في إقامة البرهان، فإذا كان الزعم عن فكرة ما هو أن رائيها قد رآها بلمحة من وجدانه لمحا مباشرا، كما يحس المتألم الألم، أو كما يحس النشوان نشوته، تبع ذلك ألا تكون الفكرة المرئية موضع شك عند صاحبها بأي وجه من الوجوه، وألا يكون هنالك عنده ما هو أوثق منها يقينا، فيرتد إليه يقيم به الدليل على صدقها.
على مثل هذه الرؤية المباشرة المزعومة، يعتمد المتصوفة، حين يزعمون لك أنهم قد «شهدوا» الحق شهودا مباشرا، فلا أدلة يستدل بها، ولا وسائط بين المرئي والرائي، وعلى مثل هذا الأساس الصوفي نفسه - بدرجات متفاوتة - تقوم الكثرة الغالبة من أحكامنا ورؤانا، لا أقول في حياتنا الخاصة وحدها، بل أضيف إليها شئون حياتنا العامة كذلك، فكم من قرار نتخذه، وقد يكون قرارا ذا نتائج بعيدة المدى في حياة الناس! ومع ذلك فإذا سألت الرجل المسئول الذي أصدر القرار: أين المبررات «العقلية» التي كانت بين يديك بمنزلة المقدمات، حتى لم تجد مفرا أمامك من اتخاذ قرارك هذا؟ لما وجدت لسؤالك عنده من جواب، إلا أن يكون موهوبا يرى الحقائق بمثل تلك البصيرة النافذة التي «تشاهد» الحق بحدس مباشر، وفي هذه الحالة لا يكون تحليل ولا تعليل.
وأي تحليل وأي تعليل تطالب به من ينظر أمامه فيقول: إني أرى بقعة صفراء؟ هكذا تكون الرؤية المباشرة، لولا أن رؤية اللون هنا قد جاءت إلى من أدركه عن طريق حاسة معلومة هي حاسة البصر، أما رؤية الحقائق عند أولئك الذين يدعون رؤيتها بموهبة حدسية خارقة، فكثيرا ما تكون ميلا مع دفعة الغريزة أو العاطفة، بل لماذا لا نسمي الأشياء بأسمائها الصحيحة ، فنقول إنها كثيرا ما تكون ميلا مع اندفاعة النزوة والهوى؟
ودعوى فلاسفة الرؤية الحدسية - مثل برجسون - ومن يلفون لفهم من صغار الناس في صغار الأمور، قائمة على أن الحدس فطرة لا تخطئ؛ لأنه كالغريزة أو لأنه هو نفسه الغريزة الملهمة التي تعرف طريقها المأمون؛ ولذلك فكلما اقترب الإنسان من حالة الغريزة الفطرية هذه، عددناه أقرب إلى رؤية الحق بصفاء روحه، كالأطفال أو كمن أصابتهم البلاهة والعته، أما إذا جاء الرأي ممن اكتملت له عوامل النضج، وقال لنا إنه رأي جاء بعد تحليلات وإحصاءات وتدقيق وتحقيق، فها هنا يغلب أن ننظر إليه نظرة المرتاب؛ لأن السماء - في ظننا - لا تفتح أبوابها لأمثال هؤلاء الحاسبين.
يقول برجسون: هنالك طريقان مختلفان أعمق اختلاف أحدهما عن الآخر في معرفتنا لحقائق الأشياء: أولهما يكتفي بأن يحوم حول الموضوع ناظرا إلى ظواهره الخارجية البادية للحواس، والآخر يقع في لب الموضوع وصميمه، فلا يقف عند الجانب المنظور من الشيء المراد معرفته، ولا هو يطمئن - كما يطمئن أصحاب الطريق الأول - إلى رموز اللغة يسوق فيها الحقيقة التي رآها، بل يغوص إلى الأعماق مجتازا الظواهر الخارجية ليدرك الجوهر الباطني إدراكا يستعصي بعد ذلك على التعبير بأدوات اللغة أو الأرقام؛ ولهذا كانت المعرفة في الحالة الأولى (وهي المعرفة العلمية) معرفة نسبية لا تبلغ مبلغ اليقين لأنها تتعرض للخطأ، وأما في الحالة الثانية (وهي الإدراك الصوفي)، فهنالك تكون المعرفة مطلقة اليقين.
وهذا الضرب من المعرفة اليقينية عن طريق الوجدان - حتى إن أنكرها العقل بمنطقه النظري المجرد - هو ما يصفه المتصوفة من أسلافنا؛ إذ يفرقون بين ما يسمونه بعلم القلوب، وعلم اللسان، فالمتصوف بوجدانه إذا ما كشف عن بصيرته الحجاب تبدلت حواسه بأخرى تمكنه من رؤية الغيب، كالذي يحدث للنائم في رؤياه؛ فما إن يغيب في نعاسه ويتحلل قليلا من أثقال الوجود المادي، حتى تنفتح له حواس أخرى إلى الغيب، فيرى ويسمع ويأكل ويتكلم ويمشي ويبطش ويصل إلى أقصى أرجاء الأرض، لا تحجبه أبعاد المكان، عندئذ يحيا في وجود أكمل من الوجود الدنيوي، وربما اكتسب في ذلك الوجود الخفي قوة الطيران والمشي على الماء والدخول في النار دون أن يحترق، فإذا كان مثل هذا هو ما يجده الإنسان من عامة الناس في نومه، فهو هو بعينه ما يحققه الصوفي في صحوه؛ لأن الجانب الشريف من وجوده له غلبة على الجانب الخسيس، فتراه قادرا في عالم الشهادة على فعل المعجزات (هذا كلام مأخوذ من بعض المتصوفة الأقدمين).
وخلاصة ما أردت قوله، هو أن المتصوفة - حديثهم وقديمهم على السواء مع اختلافات في العرض لا في الجوهر والأساس - متفقون على أن للإنسان قدرة على اكتساب ضرب من المعرفة لا عن طريق العقل ولا عن طريق الحواس؛ إذ يحدث - كما يقول برجسون - نوع من التعاطف بين الإنسان وما يدركه، تعاطفا يضع به الإنسان نفسه في صميم الشيء المدرك؛ ليقع منه على ما هو فريد فيه، لا يشاركه فيه شيء آخر، وما دام جانبا فريدا لا يتكرر في شيئين، بل يختص به الموضوع المدرك دون سواه، كان مستحيلا على التعبير اللغوي؛ لأن اللغة إنما تعبر عن الجوانب المشتركة العامة التي يتكرر وقوعها في مختلف الأفراد، ويسوق لنا برجسون مثلا لهذه الحالة الإدراكية التي يواجه بها الشخص المدرك صميم ما يدركه، معرفة الإنسان لنفسه، فهو إذا ما استبطن ذاته أدركها «بحدس» مباشر إدراكا لا يحتمل الشك ولا الخطأ، وهو في الوقت نفسه إدراك لا يتطلب تحليلا ولا تعليلا.
هذا الذي يقوله المتصوفة الأقدمون والمحدثون هو ما يؤمن بصدقه الكثرة الغالبة من أبناء الأمة العربية، لا فرق في ذلك بين أمي وعالم، ولا عجب أن وجد برجسون عند المشتغلين منا بالفلسفة رواجا وتأييدا، ويا ويل من غشيت عيناه عن الحق فاجترأ معترضا ليقول: لكن برجسون هذا لم يجد إلا الأداة الشائهة الناقصة - وأعني أداة اللغة ورموزها - ليبسط بها رؤيته الفلسفية التي قال عنها - شأن المتصوفة جميعا - إنها رؤية ليست مما تستطيع اللغة أن تحكيه، وتلك - عندنا نحن الذين غشيت أبصارهم عن الحق - هي العقبة التي يقع فيها حمار الشيخ ! فالمتصوفة يقولون، وجميع المؤيدين للرؤية الصوفية يقولون معهم: إن ما نراه من الحق لا يأتينا عن طريق الحواس الظاهرة، ولا هو مما يصاغ في كلمات؛ لأنه «حالات» يشعر بها الصوفي من الداخل، كشعوره بحلاوة العسل أو بمرارة الحنظل، والحالات لا توصف بأدوات اللغة، ومع ذلك تراهم يقولون ذلك لنا في «كلمات»!
قل لمن شئت: إن العقل الذي هو أداة العلوم مأمون الجانب، وينبغي الركون إلى تدبيره وحسابه، كلما هممنا بعمل نؤديه؛ تره يشيح بوجهه عنك حتى لو كان من رجال العلوم في أعلى مستوياتهم، طالما هو خارج معمله؛ لأن العقل عنده مكانه بين جدران المعمل لا يجاوزها، ولكن قل له: إن الإدراك الصوفي النافذ خلال الحجب والأستار قادر على رؤية الغيب رؤية حق وصدق، فقل أن تجد منه الشك والتكذيب؛ فالسائد فينا جميعا أن هذا الضرب من كشف المحجوب هو في مستطاع نفر مكرمين مقربين، وهؤلاء إذا ما اهتدوا بوجدانهم إلى الحق فلن يجد الباطل إليهم سبيلا.
فهل أصاب حقا هؤلاء جميعا في ظنهم بأن مثل هذا الإدراك الوجداني المباشر لما هو مغيب عن البصر وعن العقل صادق دائما؟ هل الرؤية المباشرة للمستور، وهي الرؤية التي يدعيها المتصوفة ويدعيها برجسون، كما يدعيها كل من اختار هذه الطريقة في النظر إلى الأمور، معصومة من الخطأ كما يظنون؟ لنأخذ المثل نفسه الذي ضربه برجسون للرؤية التي يستحيل عليها الخطأ، وهو مثل الإنسان يستبطن ذاته من داخل فيراها رؤية اليقين، فهل من الحق أن الإنسان في استبطانه يعرف حقيقة نفسه معرفة تبلغ حد اليقين؟ أيسهل عليه عندئذ أن يرى كل ما تنطوي عليه تلك النفس من حقد وحسد وخسة وغرور؟
لقد تناول برتراند رسل هذا الموضوع بالدراسة، في فصل من أهم ما أنتجه في بحوثه الفلسفية، وهو الفصل الذي يسميه «المنطق والتصوف»، ثم حدث أن أطلق هذا العنوان على كتاب له يضم ذلك الفصل مع فصول أخرى في موضوعات متفرقة، هناك يقول رسل في سياق حديثه عن الرؤية الحدسية التي تشبث بها برجسون ، ويتشبث بها المتصوفة، ويؤيدها الرأي العام السائد من حولنا، يقول: نعم، إن الإدراك الحدسي يفرض نفسه على صاحبه فرضا يحول بينه وبين أن يشك لحظة في صوابه، وكيف له أن يشك فيما يراه ماثلا أمامه؟ تلك خاصة لا تتوافر للإدراك العقلي؛ لأن إدراك العقل طريقه الاستدلال، والاستدلال معرض للخطأ، لكن هذا اليقين الجازم الذي يصاحب الإدراك الصوفي عند أصحابه، هو نفسه الذي قد يحول ذلك الإدراك إلى كوارث، فلو أن المعرفة الآتية إلينا عن طريق الوجدان معصومة من الخطأ؛ لكان اليقين الذي نشعر به إزاءها خيرا كل الخير، لكن تلك المعرفة معرضة للخطأ، كما يتعرض العقل للخطأ، وليس الأمر كما يزعمون لها من عصمة.
وها هنا يكون الفرق البعيد بين من يركن إلى عقله، ومن يركن إلى وجدانه، فأولهما يعلم أن أحكامه معرضة للخطأ؛ ولذلك تراه لا يكف عن مراجعتها، ثم هو لا يغضبه أن يظهر له في الناس من ينبهه إلى مواضع الخطأ في تلك الأحكام، وأما ثانيهما فلأنه واهم في ظنه بأن إدراكه الوجداني منزه عن الخطأ، تراه يقدم إقدام الواثق، ويصم أذنيه عن نقد الناقدين، وعندئذ قد تدهمه الداهية من حيث لا يحسب حسابها.
إننا نعطي الصدارة لعواطفنا، في أحكامنا وسلوكنا، ونفاخر الناس بأننا كذلك، وإن عواطفنا تلك لتخطئ، وكم أضلتنا عن سواء السبيل! فلو كنا نتعلم من أخطائنا كما تتعلم من أخطائها فئران التجارب العملية، لجاز أن يكون لنا اليوم موقف آخر، لكننا نصر على الركون إلى العاطفة إصرار الفراشة على النار الحارقة، ونترك عقولنا في أزمتها تنتظر لنا البعث الجديد.
الواقع وما وراء الواقع
الناس رجلان في طريقة النظر إلى الأشياء من حولهم، وكثيرا ما تتجاور الطريقتان في ثالث.
أما الأولى فهي أن يحصر الإنسان إدراكه في حدود الشيء الذي يدركه؛ فليس له من هذا الشيء إلا ما يقع عليه البصر أو ما تمسه الأيدي، أو غير ذلك من جوانب مما له صلة بهذه الحاسة أو تلك، فكأنما هو حيال ذلك الشيء أداة تصوير أو تسجيل، تلتقط ما هنالك من ظواهر الضوء والصوت والحجم والوزن، وما إلى هذه الحقائق التي يمكن إدراكها بالحواس، أو بمختلف الأجهزة التي تعين الحواس بكثير أو قليل من ضبط ودقة.
وأما الطريقة الثانية من النظر إلى الأشياء، فهي التي لا يكتفي أصحابها بالشيء كما تراه العين أو تسمعه الأذن أو تمسه الأصابع؛ لأن هذه «الظواهر» عندهم هي أشد جوانب الشيء تفاهة وقلة شأن، وإنما وراء هذه الظواهر «بواطن» هي التي تؤلف حقيقة الشيء ولبه وصميمه، وإذن فما تلك الجوانب الظاهرة للحواس إلا رموز تشير إلى حقيقة تخفت وتسترت، بحيث لا يكون إدراكها بالبصر والسمع واللمس، بل يكون إدراكها بقوة أخرى، يتفاوت الناس في أنصبتهم منها، وإن شئت فسمها «بصيرة»، تدرك ما لا يدركه البصر، فلئن كانت الأشياء كما نصادفها في دنيا الواقع المحس هي الحقيقة نفسها التي لا حقيقة وراءها من وجهة نظر الطائفة الأولى؛ فهي لا تعدو عند الطائفة الثانية أن تكون رموزا ترمز إلى مجهول وراءها، وإما أن يكون لديك من قوة البصيرة ما يمكنك من رؤية هذا الوراء المجهول، وإما ألا تكون هذه القوة الإدراكية من نصيبك، فعندئذ سوف تحدق بالعينين ما تحدق، دون أن ترى شيئا، فتنكر أن يكون لهذا الوراء الخافي وجود.
والطائفة الأولى هي زمرة العلماء، وأعني علماء الكيمياء والفيزياء وما شابههم من سائر العلماء الذين يتقصون بالنظر «ظواهر» الطبيعة ليستخرجوا قوانينها، وأما الطائفة الثانية فرجالها كثيرون، يتشكلون أنواعا وصنوفا، ولعل ذروتهم أن تكون في جماعة «المتصوفة» الذين ينشدون رؤية «الحق» عن غير طريق الحواس، بل عن غير طريق العقل، وإنما عن طريق ما يسمى «بالحدس» أو البصيرة أو العيان الروحاني المباشر.
على أنه كثيرا ما يحدث أن يكون للرجل الواحد هاتان النظرتان معا، يستخدم كلا منهما في مجال، فهو يتشبث بالواقع المحسوس إذا كان في مجال بيع أو شراء أو طعام وشراب، إنه لا يرضى وهو في هذا المجال العملي أن يدفع ماله ثمنا لدار يشتريها أو لثوب قماش، ثم يرضى بعد ذلك أن يعود خالي اليدين مما اشترى، على زعم له من البائع أن الدار التي اشتراها أو ثوب القماش، ما هو إلا رمز لما وراءه، فليترك هذا الرمز لينصرف إلى البحث عما يرمز إليه في دنيا الطي والخفاء، لا، إنه في مجال الحياة العملية يقبض على الواقع بكلتا يديه؛ لأنه آنئذ هو كل ما يعنيه، لكنه في ساعات الفراغ المتأمل، بعد أن يكون قد طعم وشرب واكتسى، لا بأس عنده في أن «يتفلسف» على النحو الذي يوهم بأن كل هذه الأشياء التي نشط لكسبها بياض نهاره، ليست إلا «ظواهر» طافية كرغوة الماء على سطح الوجود، وعلى الحكيم أن يمحو غشاوتها من أمام عينيه، ليرى بواطنها الخافية، التي هي الحق الثابت الدائم الذي لا يتبدل ولا يتحول ولا يزول، ومن هذا الطراز من الرجال، أعني الطراز الذي يتمسك «بالواقع» في حياته العملية - أو العلمية - ثم لا يلبث أن يتنكر له في حياته المسترخية المستريحة من قيود ذلك الواقع، أقول إن من هذا الطراز من الرجال تتألف الكثرة الغالبة من البشر، وأما الذين يحدون أنفسهم بحدود الواقع في كل الظروف، فقلة قليلة، وكذلك هم قلة قليلة أولئك الذين يصرون على مجاوزة الواقع إلى ما قد خفي وراءه في كل الظروف كذلك.
الفرق واضح - فيما أرى - بين أن يكون الشيء الواقع حقيقة مقصودة لذاتها، وبين أن يتخذ دليلا على سواه؛ فالضوء الأحمر في علامات المرور هو ضوء كأي ضوء آخر مما يقع على العين المبصرة، ولكنه قد يتخذ دليلا على أمر أصدره الشرطي بأن تقف السيارات العابرة حتى يأذن لها باستئناف الحركة، وعلم الدولة هو قطعة من قماش، كأي قطعة أخرى من قماش، لكنه قد يتخذ رمزا يدل على دولة قائمة واجبة الاحترام، وعقارب الساعة وهي تشير إلى أرقام رقمت على وجهها، هي قطع من معدن تتحرك كما يتحرك سواها من أجزاء المادة المتحركة، لكنها في كل وضع من أوضاعها تدل على «زمن»، ونستطيع أن نمضي في ذكر الأمثلة مئات وألوفا لأشياء نراها على وجه ونتخذ منها دليلا رامزا على وجه آخر، وأول هذين الوجهين هو الواقع كما تدركه حواسنا، والوجه الثاني هو ما وراء هذا الواقع، فإذا أنت توسعت في هذه التفرقة ووعيتها، وجدت الإنسان الحي: واقعه المحسوس بدن بكل ما فيه من أجهزة للهضم والتنفس وغيرهما، وما وراء هذا الواقع روح نستدلها ولا نراها، ووجدت الطبيعة كلها بما فيها من أكوان فلكية، واقعها هو هذا الذي تراه وتلمسه، ووراء هذا الواقع قوة عظمى تستدلها ولا تراها.
على أن الناس - كما أسلفنا القول - يختلفون درجات في محور التركيز: نفر قليل ينحصر في الواقع المرئي المحسوس غاضا نظره عن مهمة الرمز التي قد ينسبها آخرون إلى هذا الواقع، ونفر قليل آخر يجاوزون الواقع المرئي، لا يقفون عنده لحظة، إلا ريثما يطعمون بأقل الزاد، ويكتسون بأقل الثياب؛ لكي يسارعوا إلى ما وراءه، ثم كثرة كاثرة تحاول الجمع بين النظرتين، فتجعل من يومهم ساعات للواقع يقفون عنده من حيث هو، وساعات أخرى لما يفرضون وجوده وراء ذلك الواقع.
وعلى هذا النحو نفسه تختلف العصور، وتختلف الأمم، فمن عصور التاريخ ما تغلب عليه النظرة إلى الواقع كما تقع صورته على حواس المشاهدين - مثل عصرنا الراهن في جملته - ومنها ما تغلب عليه النظرة الأخرى التي تتخذ من هذا الواقع رمزا، ثم تحاول البحث وراءه عما يرمز إليه - مثل العصور التي اشتدت فيها روح التدين - ومنها عصور حاولت أن توازن بين النظرتين كما حدث في ظني إبان القرن الماضي حين كادت تتجاوز مثالية هيجل مع وضعية أوجست كونت، وكذلك تختلف الأمم كما تختلف العصور، ولقد جرى عرف الناس في أحاديثهم الجارية على أن ينعتوا الشعوب التي يغلب عليها الوقوف عند حدود الواقع لا يجاوزونها ما استطاعوا، بأنها شعوب «مادية» - كما نقول اليوم عن الشعب الأمريكي مثلا في وقفاته العلمية الصارمة - وأن ينعتوا الشعوب التي يغلب عليها الميل إلى مجاوزة الرمز إلى المرموز إليه - أعني مجاوزة الواقع إلى ما وراءه، بأنها شعوب «روحانية» - كما نقول نحن عن أنفسنا أحيانا، وعن الشعب الهندي، وعن الشرق كله بصفة عامة.
أما بعد هذا التمهيد الشارح، فإني أعرض للمشكلة الكبرى التي تشغلني وتشغل سواي من رجال الثقافة في الأمة العربية، وهي: كيف نلتمس لأنفسنا طريقا في عصرنا هذا، بحيث نعاصره حقا وفعلا وإيجابا، ونحافظ في الوقت نفسه على المقومات الأساسية التي تجعلنا أمة عربية؟
إن أغلب الظن عندي هو أن أوضح سمة تميز العربي في ثقافته - وذلك حين يكون هذا العربي في عصور قوته - هي أنه يوازن في دقة وبراعة بين وجهي الحياة؛ فللواقع المحدود المحسوس مجال، ولما وراءه مجال آخر، بحيث لا يطغى أحد المجالين على الآخر، بل يتكامل المجالان في حياة سوية متزنة، وربما كان المعنى المقصود من الحديث الشريف بأن يعمل الإنسان لدنياه كأنه يعيش أبدا، ولآخرته كأنه يموت غدا، هو وجوب مراعاته لهذا التوازن بين النظر إلى الواقع حين ينبغي أن يحصر رؤيته فيه، ثم النظر إلى ما وراءه باعتبار الواقع في هذه الحالة رمزا يشير إلى ما هو أرفع وأسمى؛ فالواقع مهما كانت قيمته، إنما هو جزئية عابرة تجيء وتمضي، وأما ما يمكن أن يشير إليه فمطلق أزلي لا يتعاوره الحدوث والفناء.
لكن الأمة العربية لم تكن دائما بهذه القوة التي توازن بين الطرفين في اتساق وتوازن، بل أصابها الضعف حينا، ولعلها ما زالت تئن من بعضه إلى يومنا، فماذا يصنع ضعيف البنية إلا أن يفر من حمل الأعباء الثقال؟ ماذا يصنع ضعيف المعدة سوى تجنب الطعام؟ ومثل هذا الفرار رأيناه في العربي الضعيف، حين رأيناه يفر من الواقع لائذا بما وراه، فتكون النتيجة أن يضيع منه الجانبان معا، عندئذ يكثر التواكل والتخاذل، وتشيع الخرافة، ويضيع الإيمان بالعلم وروابطه السببية! إذا أراد الناس قمحا ليأكلوا، فلماذا يلتمسونه على أرض الواقع ما دام في وسع أصحاب الخوارق أن يضعوا أيديهم في أوعيتهم الخالية فإذا هي مليئة بالخبز والأرز واللحم والمرق؟
على أن ضعف العربي الضعيف لم يظهر دائما في صورة الفرار من الواقع، بل كثيرا ما ظهر - وما يزال - في الوقوف عند الواقع المحسوس، لا وقفة العلماء يحللونه ويركبونه ويخترعون منه الأجهزة العلمية ويخلقون منه حضارة جديدة، بل وقفة الخلعاء يكثرون من الطعام والشراب والثياب والبذخ واللهو الفارغ، وسواء لها العربي الضعيف عن الواقع أو انغمس فيه، فهو في كلتا الحالتين صورة شائهة للثقافة العربية إبان قوتها.
ومع ذلك فهذا كلام جاء عرضا في سياق الحديث، وليس هو ما قصدت إليه، وإنما قصدت إلى بحث للثقافة العربية الحديثة عن وقفة تحقق بها ذاتها وتشارك بها عصرها في آن معا، وهي إنما تحقق ذاتها - ولا جدال في هذا - بأن تضيف إلى الواقع ما وراءه، ولكن كيف؟
تستطيع أن تقول عن عصرنا هذا أي شيء تريد، لكنك لا بد ناعته بأنه عصر علمي من الرأس إلى أخمص القدم، ولا ينفي عن العصر علميته هذه أن نراه يلجأ في دنيا الأدب والفن إلى ضروب يتحلل فيها من روابط المنطق، مستهدفا بذلك أن يزيح عن ظهره صرامة العلم ومنطقه ولو لبضع ساعات ليستريح، وإذا قلنا عن العصر إنه ذو طابع علمي ظاهر في أدواته وآلاته وتقنياته، فقد قلنا بالتالي إنه عصر يرتكز على «الواقع» وحده، وإلا فهل يترك عالم الضوء - مثلا - ظاهرة الضوء لينظر إلى ما وراءها؟ هل تريد لعالم الطبيعة الذرية أن يغض النظر عن الذرة التي هي موضوع بحثه ليبحث عن خفاء كامن خلفها؟ لا؛ فالعلم مربوط بالواقع أوثق الروابط، والعالم مشدود العنق إلى موضوع بحثه، يصب عليه المشاهدة، ويجري عليه التجارب، ليستخرج خصائصه وتفاعلاته مع غيره، ثم ليصوغ له القوانين آخر الأمر في صورة رياضية ليتمكن الإنسان بعد ذلك من إلجام الظواهر الطبيعية بكل ما استطاع من شكائم، فيركبها ويوجهها، كما يفعل مهرة الفرسان في جيادهم.
فإذا شاء العربي أن يعاصر زمانه، فلا مندوحة له عن العلم، ثم العلم، ثم لا ثم بعد العلم، وإنما عنيت العلم بمعناه الطبيعي، لا بالمعنى الذي يتصوره بعضنا حفظا لما ورد في صحائف الأقدمين، فلن تزداد عصرية لو رويت عن ظهر قلب ألف ألف بيت من الشعر، لكنك تزداد عصرية لو شاركت في العلم بالإلكترون وفي تسييره لخدمة الإنسان، وكما أن الحياة يقظة للنشاط المنتج، ونعاس للراحة والأحلام، فكذلك حياة الإنسان الثقافية: يقظتها في دراسة العلم الطبيعي وتطبيقاته، ونعاسها الحالم في رحاب الأدب والفن.
ولنترك المعاصرة ووسيلتها؛ فما أظن عليها بين أولي الرأي اختلافا ولا خلافا، ولنعد إلى سؤالنا الأهم والأعوص، وهو: ماذا عسانا أن نضيف إلى العلم من لدنا لنصبح عربا، بعد أن بتنا بالعلم معاصرين؟ .. الجواب هذه المرة يكمن فيما وراء الواقع؛ فلئن كان الواقع المرئي، الذي هو مجال العلوم الطبيعية، مشتركا بين الناس أجمعين، فإن ما وراء الواقع تختلف صورته باختلاف الأمم، بل إنها لتختلف في الأمة الواحدة باختلاف الأفراد في أنصبتهم من الثقافة.
ولو أمعنت النظر حولك في أحاديث الناس ومسالكهم لرأيت هذه الحقيقة ماثلة أمام عينيك، لا، بل إنك لتراها ملقاة أمامك على قارعة الطريق، لا تتطلب منك إمعانا للنظر، وهي أننا لا نكاد نغفل عما وراء الواقع في حياتنا لحظة؛ فذلك - كما أسلفت القول - هو طابعنا الثقافي الأصيل المميز، ولا عجب أن كنا نحن الأمة التي عن طريقها عرفت الدنيا رسالات السماء، ومعنى ذلك أننا بحكم الوراثة الثقافية نفسها معدون أتم إعداد لإضافة الباطن الخفي إلى الظاهر البادي، فإذا استطعنا - بالمشاركة في الحركة العلمية - أن نشارك عصرنا في هذا الظاهر البادي للبصر والسمع، فما أيسر علينا بعدئذ أن نميز أنفسنا بنظرتنا الخاصة إلى ذلك الخفي الباطن!
غير أن هذه الإضافة - إضافة الباطن إلى الظاهر - لسوء الحظ لا تتخذ عندنا صورة واحدة من الطراز الذي يعلو بصاحبه، بل إن لها عندنا صورتين: إحداهما قد تراها في قلة ضئيلة من المثقفين، وأما الأخرى فلها الشيوع في السواد الأعظم من الناس، أما في الحالة الأولى، فالماورائية تبني لنفسها نسقا متينا من القيم السامية، التي من شأنها أن تحدد الأهداف العليا ثم ترسم لها خطوات الوصول، وبذلك تصبح فعالة محركة نحو الأرقى والأفضل، وأما في الحالة الثانية، فالماورائية تتحول إلى مجموعة من السمادير والأوهام، فترين على القلوب وتغشى الأبصار، وما هي إلا أن تتجمد الحياة في شرايينها، فلا سير ولا حركة، بله أن يكون ارتفاع وارتقاء.
ونغض أنظارنا عن أصحاب الأوهام والسمادير، برغم كونهم الفئة الأكثر عددا والأوسع انتشارا؛ لأنهم إذ يجاوزون دنيا الواقع إلى ما وراءها، لا تقع أبصارهم في هذا «الوراء» الخصب الغني الملهم، إلا على ما يشتت الأذهان ويبعثر الجهود ويضل السائرين عن جادة الطريق، نغض النظر عن هؤلاء؛ لأنهم يلتمسون فيما وراء الواقع كل ما من شأنه أن يهدم بنيان العلوم، فالعلوم قائمة على اطراد القوانين، أما هؤلاء فيبحثون عن روايات يروونها ليثبتوا بها ألا قوانين ولا اطراد، فإذا كانت قراءة مخطوط معين تتطلب في الحياة الواعية العاقلة عيونا ترى، جعلوها لك أمرا ممكنا بغير رؤية، وإذا كان الانتقال من نقطة إلى نقطة أخرى تتطلب اجتياز المكان الواقع بينهما، جعلوا لك هذا الانتقال ممكنا بغير اجتياز للمكان، وهكذا وهكذا، ألوف الأمثلة والروايات يسوقونها لك ويروونها، ولو صدقت لكذب العلم، وبالتالي لاستحال علينا مشاركة العصر في علميته بكل عقولنا وقلوبنا.
نغض أنظارنا إذن عن هؤلاء برغم كثرتهم، ويكفي لإهمالهم من حسابنا أن نعلم أن أوهامهم هذه، ولو زيدت أضعافا مضاعفة، لما زادت غلال القمح حبة، ولا أقامت للمضيعين من الناس جدارا، ولا نسجت للعريان ثوبا، هي أوهام تهدم ولا تبني، وتقيد العقول لا تفك أغلالها ولا تفسح أمامها آفاق النظر.
نغض أنظارنا عن هذا اللون المريض من مجاوزة الواقع إلى ما وراءه؛ لنحصر تلك الأنظار في طريق آخر، يميزنا ونستطيع أن نفخر به ونفاخر، وذلك هو الطريق الذي نبني به وراء الواقع المادي منظومة من القيم، بينها وحدة واتساق، وفيها دينامية محركة، ولها القدرة على رسم حياة مثلى، يكون فيها العمل والأمل، وهي منظومة من القيم لم تعرف بها أمة كما عرفنا، ومن ثم فهي التي يمكن أن تمدنا بالطابع الفريد الذي يحقق لنا الأصالة، التي إذا أضيفت إلى المعاصرة عن طريق اكتسابنا للعلوم؛ حققنا وجودنا من طرفيه، فكنا بذلك عربا ومعاصرين في آن معا.
وهي مجموعة من قيم لن تحتاج منا إلى بحث طويل للكشف عنها؛ لأنها على أطراف أناملنا، نرددها ألف مرة كل يوم، يحفظها صبية المدارس، ويجريها الراشدون في أحاديثهم الجارية، لكن - وا أسفاه - يحفظها أولئك ويرددها هؤلاء ألفاظا، لكنهم لا يعيشونها حياة، وإنما عنيت القيم المتمثلة في أسماء الله الحسنى.
هذه الأسماء هي في حقيقتها دلالات تشير إلى قيم تضبط السلوك وتوجه مجرى الحياة إلى أهداف تليق بالإنسان كما تتصوره وتصوره الثقافة الإسلامية العربية، هي صفات تكون مطلقة بالنسبة إلى الله سبحانه، ومنقوصة متدرجة نحو الكمال بالنسبة إلى الإنسان، فلو استطعنا - عن طريق التربية بصفة خاصة، وعن طريق الفكر والنشر بصفة عامة - لو استطعنا ألا نجعلها مجرد ألفاظ نرددها على حبات المسابح، بل نجعل منها معايير حية نابضة نترسمها ونهتدي بهديها، إذن لكانت بين أيدينا منظومة منسقة كاملة من القيم التي تضاف إلى دنيا الواقع فتخرج الإنسان الكامل المتكامل. من وجهة نظر إسلامية، وفي ظروف هذا العصر، عصر العلم والصناعة.
إننا لنبصر بأعيننا ونلمس بأيدينا كيف انتهى العلم الطبيعي والصناعة التقنية في البلاد التي تقدم فيها العلم وتقدمت الصناعة، كيف انتهى بها هذا العلم وهذه الصناعة إلى حالة من العرج الحضاري، فكأنما هي تحجل على ساق واحدة، فكان ما كان من تمرد الإنسان على نفسه في الفن والأدب، حتى لقد أعلنوها صريحة بأنهم لم يعودوا يطيقون العقل والمعقول، واندفعوا وراء اللامعقول والعبث، فأي إضافة عظيمة تستطيع الثقافة العربية الأصيلة أن تضيفها إلى حضارة هذا العصر، لو أنها جسدت قيمتها في أبنائها أولا، فاستطاعت بذلك أن تعطي للعالم المعاصر معاني إنسانية في مقابل ما تأخذه من علم وتقنيات؟!
كان من بين ما أوحى إلي بهذه النظرة إلى الأسماء الحسنى، وهي النظرة التي تجعل منها قيما للسلوك البشري، كتاب صغير عميق ملهم، هو كتاب الإمام الغزالي: «المقصد الأسنى في أسماء الله الحسنى»؛ فالإمام في كتابه هذا يلقي على الأسماء الحسنى أضواء ساطعة تبرز معانيها الخافية ، وهو يعقب على شرحه لكل اسم منها بقوله: إن نصيب العبد من هذه الصفة كذا وكذا، فيبين للقارئ كيف يسلك في حياته العملية على ضوء هذه الصفة المعينة أو تلك من «المجموعة بأسرها».
وإنني لعلى ظن يبلغ درجة الرجحان الشديد، بأن المتأمل لهذه المجموعة من الصفات، يستطيع آخر الأمر أن يقيم منها بناء واحدا متسقا، وإنما قصدت ب «البناء المتسق» هنا ما نقصد إليه في دراساتنا الفلسفية حين نرتب القضايا ترتيبا تنازليا، يبدأ بالأعم وينتهي بالأخص، بحيث تجيء كل خطوة نتيجة منطقية لازمة لزوما ضروريا عن الخطوة السابقة عليها، وفي الوقت نفسه تكون مقدمة ضرورية بالنسبة للنتيجة التي تلزم عنها في الخطوة التي تليها، ولو استطعنا بناء هذه القيم على هذا النحو المتسق أوله مع آخره، كان لنا بذلك - لا مجرد عدد متناثر من القيم، بل - مجموعة «موحدة»، ويكون مثل هذا «التوحيد» في القيم عندئذ جانبا مهما من التوحيد الذي هو أميز ما يميز عقيدة المسلم، وعندئذ كذلك يكون هذا التوحيد في القيم ضامنا للإنسان ألا يتمزق سلوكه يمنة ويسرة، فلا يدري إلى أين يتجه؟ فمن نقائص عصرنا - بشهادة رجال الفكر أجمعين - أنه عصر أدى بشبابه إلى حالة من التمزق والتفسخ والضياع، لماذا؟ لأن القيم التي ينطوي عليها هذا العصر ليست كلها على اتساق بعضها مع بعض؛ فترى هذه القيمة المعينة تغري الناس بالتزام العقل الصارم (في دنيا العلوم مثلا)، بينما تغريهم تلك القيمة الأخرى بالخروج والعصيان وتفضيل الغريزة والوجدان على العقل ومنطقه (كما هو مشاهد في كثير من نتاج الأدب والفن، وفي تمرد الشباب)، فلو استطعنا نحن أن نقدم للعالم مجموعة متسقة الأجزاء من القيم الهادية للإنسان على طريق الحياة، كان هذا دورنا في بناء الحضارة المعاصرة.
ولا يتسع المقام هنا لبحث شامل كالذي اقترحته، فلأقنع بمثال واحد، لعلي أوفق به إلى توضيح ما أريد:
أعتقد أن لصفة «الحياة» في هذه المجموعة صدارة منطقية؛ فمنها تتفرع سائر الصفات، وفي ذلك يقول الزبيدي في شرحه لكتاب الغزالي «إحياء علوم الدين » (ج2): إن تأخير ورود «الحياة» بعد ذكر صفات أخرى؛ كالقدرة والعلم، هو بمنزلة تأخير المدلول عن الدليل؛ فمن شرط العالم القادر أن يكون حيا، ومع ذلك فكل ترتيب نجعل به صفة تسبق أخرى، لا يعني ترتيبا في الظهور؛ لأن هذه الصفات كلها أزلية معا.
وبعد هذا التحفظ أعود فأقول إن لصفة «الحياة» صدارة منطقية، فماذا نعني بها حين ندعو الإنسان إلى أخذ نصيبه منها فيكون «حيا»؟ المقصود «بالحياة» هنا جانبان أساسيان، هما «الإدراك» و«الفعل»، فللإنسان حياة بقدر ما لديه من إدراك ومن فعل، إنه قد يتنفس ويتغذى ويتناسل، ومع ذلك كله لا يعد «حيا» بهذا المعنى المقصود، شرط الحي أن يكون على وعي كامل بما يدور حوله وبما تعتلج به نفسه، ثم لا يقف أمام إدراكه هذا ووعيه موقفا سلبيا سكونيا؛ لأنه لو فعل لما تغيرت الدنيا على يديه، بل لا بد أن يكون «فاعلا» نشيطا منتجا مشاركا في دفع تيار الحياة بحياته، وإلى أين يدفعه؟ يدفعه إلى حيث تسمو وترتقي، فالواقف على جانب الطريق ينظر إلى ركب الحياة ولا يسهم في دفعه؛ ليس حيا، والذي يحاول الرجوع بتيار الحياة إلى وراء ليعود به إلى حيث بدأ؛ ليس حيا بمعنى الحياة الإيجابي الذي أسلفناه، الحي يقود ولا ينقاد، ويكون متبوعا لا تابعا، ما دامت «الحياة» بحكم تعريفها السابق خلقا وإبداعا وابتكارا وإضافة للجديد.
كان العربي من الأولين «حيا» لأنه ما انفك بانيا في كل مجال: بانيا في مجال الفكر وفي مجال الحرب وفي مجال السياسة، ولأنه كان تام الإدراك لدنياه، وشديد الفاعلية فيما حوله، والإدراك والفعل - كما أسلفنا - هما عصب الحياة بالمعنى المقصود، فإذا رأيت العربي من المتأخرين - وأعني العرب في حالتهم الراهنة - إذا رأيته سطيحا تحت وطأة المستعمرين، ينقاد لإمامتهم ولا يقود، ويأخذ من حضارتهم ولا يعطي، فاعلم أنه قد فقد من نفسه قيمة عليا من قيمه، ولو استردها لاسترد عروبته بها، إن العربي لا يكون عربيا لمجرد تكراره لهذه اللفظة ملايين المرات، إنما يكون العربي عربيا حين يتشرب القيم العربية الأصيلة ، وأولها صفة «الحياة» بالمعنى الذي قدمناه.
خط الحياة كخط الزمن، فانظر إلى ما شئت من الكائنات الحية؛ إلى شجرة - مثلا - تجدها تنوع فاعليتها - والحياة فاعلية - بتنوع مراحلها، إن الفعل الذي تبذله في بناء جذورها ليس كالفعل الذي تبذله في صنع الأوراق والثمر، هي شجرة واحدة من جذورها إلى ثمارها، لكنها لو قالت لنفسها عند مرحلة الثمر: لا، اتركي حاضرك وارجعي إلى ماضيك الجليل الجميل، لعادت إلى بناء الجذور مرة أخرى، ولألغت بذلك وجودها، وهكذا يفعل أعداء الحياة حين يدعوننا إلى العودة إلى ما كان، لقد كان لما كان خطره حين كان الملتقى الذي تنصب عليه فاعلية الأحياء، أما وقد انتقل الأمر إلى مرحلة تالية في عملية البناء وطريق السير، فلننصرف بالحياة وفعلها إلى هذه المرحلة الجديدة، شريطة أن نخصص منها جزءا لحفظ الجذور الأولى، وهكذا ترانا نضل طريقنا ونخطئ فهم الحياة، لو ظننا أن شرائح الزمن المتعاقبة يمكن أن يحل بعضها مكان بعض، فننزع المرحلة الأخيرة من سياقها لنردها إلى مكان المرحلة الأولى.
العربي مطالب بحكم تراثه أن يكون «حيا»، فالله تعالى هو «الحي» بالمعنى المطلق الذي يستحيل معه أن يتسرب إليه جمود وموت، وأما الإنسان فهو كذلك - أو ينبغي أن يكون - «حيا» بالمعنى النسبي الذي يعطيه من الحياة بمقدار ما يدرك وما يفعل.
ولو استرسلت في حديثي لأنتقل من صفة «الحياة» إلى سواها، مما يكون في مجموعه منظومة متسقة للقيم الضابطة لسلوك الإنسان ووقفته؛ لطال الحديث وفاض، فحسبي هذه «القيمة» الواحدة نموذجا لما أعنيه حين أدعو إلى أن تكون مجاوزتنا للواقع العلمي، مجاوزة لا تنقلنا إلى تخليط السمادير والأوهام والشطح والخرافة، بل تنقلنا إلى عالم القيم التي تؤيد العلم ولا تنقضه، وتبني الحضارة ولا تهدمها، وتجعل من الإنسان إنسانا يسير على ساقين، فها هنا العلم، وهناك ضوابط القيم.
لمسات من روح العصر
كان حديثا مشبوبا بانفعال ملتهب بيني وبين صاحبي، قال لي فيه: إنك ما تنفك داعيا إلى العصر والمعاصرة، كأنما ترانا وقد سدت في وجوهنا أبواب الحضارة، فلهونا خارج أسوارها، لا نسمع منها إلا صرير أقلامها وأصداء عجلاتها؟ ولست في الحق أرى ما تراه، إذا كان هذا هو الذي تراه، فها هي ذي مطابعنا تدور بألوف من الكتب والصحف والمجلات، فنتابع خلالها ما يجري في أنحاء العالم من شرقه إلى غربه، وها هي ذي معاهدنا وجامعاتنا تنتج العلوم وتخرج العلماء، وإذا أدرت البصر في أرجاء بلادنا رأيت يابسها وماءها وسماءها تعج بكل ضروب الأجهزة والمكنات، في البيوت وفي الشوارع وفي المصانع، وحيثما وجهت البصر، فماذا تريد؟ لا، بل إننا بعد أن نقلنا هذا كله من عصرنا فعاصرناه، زدنا عليه حفاظا على الأخلاق، فلم تنهدم أركانها هنا كما انهدمت هناك!
فقلت: إن أربعين سنة قضيتها في التعليم - والتعليم عندي معظمه حوار سقراطي، يخرج خبيء المعاني - قد علمتني بدورها درسا، هو أن الفجوة فسيحة فسيحة، وعميقة عميقة، عند الكثرة الكاثرة من الناس، بين فروع المعرفة وأصولها؛ أعني بين سطوحها البادية وأعماقها المضمرة، أو بين ما يظهر منها وما يخفى، فقلة قليلة جدا منا - نحن المثقفين ودع عنك سواد الناس - هي التي تريد، وإذا أرادت، تستطيع أن ترد الأفكار الدائرة على أطراف الألسنة في الأحاديث الجارية إلى جذورها المستورة، لتطمئن إلى ما بين الفكرة وجذورها من اتساق، فأنت لا تكاد تغوص مع محدثك إلى ما قد غيبه في حنايا الصدر من معتقدات دفينة راسخة الأسس، حتى ينكشف لك - ولا أقول ينكشف له؛ لأنه في معظم الحالات يرفض أن يرى - كم يكون من التضاد بين ما يعلنه من الفكر وما يخفيه من المعتقد، لا عن عمد خبيث منه، بل عن غير وعي، حتى تلفت إليه وعيه، وهو في أكثر الحالات - كما قلت - يغمض عينيه على أوجه التضاد حتى لا يراها فتفزعه، ولقد شهدت بعيني وسمعت بأذني عشرات من «العلماء» المتخصصين في فروع الفيزياء والكيمياء وغيرهما من ضروب «العلم» بأحدث معانيه، لا يقلقهم أن يقفوا في معاملهم وأمام تجاربهم طيلة نهارهم، حيث لا يأخذون إلا بما تشهد لهم به تجربة يرونها ويسمعونها، إن لم يكن بأجهزة السمع والرؤية، فلا أقل من أن يكون ذلك بالحواس العارية، حتى إذا ما خلعوا عن أجسادهم معاطفهم البيض، وخرجوا من معاملهم إلى حيث يستريحون ويسمرون؛ رأيتهم يديرون الحديث - بكل نفس مطمئنة - عن خوارق، إذا صدق ما يروونه عنها انهدمت علومهم من أساسها، وهيهات لك أن تشير إلى فجوة التضاد بين «علم» النهار و«خوارق» الليل!
فإذا سمعت الناس يحدثونك عن العصر وفكره وحضارته، وظننت أنهم قد أجروا في شرايينهم عصارة زمانهم، فلا تنخدع، وصابرهم على تحليل مكنوناتهم، وأغلب ظني أنك كاشف في دخائلهم رواسب قرون خلت، برغم ما قد صبغوا به جلودهم من ألوان القرن العشرين وزخارفه، وسأضرب لك أمثلة توضح ما أريد:
أحسب ألا خلاف على أن فكرة «التقدم» هي من أبرز ما يميز العصر الحديث كله، لثلاثة قرون مضين وإلى يومنا، فلا أظنك مصادقا في جموع الناس أحدا يرضى لنفسه أن يكون عدوا «للتقدم» في شتى جوانب الحياة العقلية والمادية؛ فمهما يكن مذهبه الذي يدعو إليه، فهو يزعم لنفسه وللناس أنه مذهب يعمل على تقدم الحضارة بكل فروعها، وإلا لما دعا إليه.
إلى هنا والناس على إجماع، فلنأخذ في تحليل الفكرة لنرى كم منهم يظل صامدا في دعوته إلى «التقدم»: إنك لكي «تتقدم» من حالة إلى حالة، لا بد أن تعد الحالة الأولى متخلفة بالنسبة للحالة الثانية، فالنقلة لا تكون تقدما إلا إذا كان وراء ذلك فرض هو أنها نقلة مما هو أسوأ إلى ما هو أفضل، لا مما هو حسن إلى ما هو حسن آخر، فضلا عن أن تكون نقلة من الأفضل إلى الأسوأ! ومعنى ذلك في عبارة صريحة هو أن «الماضي» دائما، وفي كل الظروف، أقل صلاحية من «الحاضر» دائما وفي كل الظروف؛ ذلك أن زعمنا أن الحضارة «تتقدم» وإلا فقدت هذه الكلمة معناها.
وها هنا نضع أصابعنا على ركيزة أولى، لا محيص لنا عن قبولها إذا أردنا أن نتشرب روح عصرنا، وهي أن نزيل عن الماضي كل ما نتوهمه له من عصمة وكمال؛ فمهما تكن وسائل الماضي الثقافية والحضارية ملائمة لظروف عصرها؛ فهي بالضرورة تفقد هذه الصلاحية في ظروف عصرنا، فإذا وجدت مكابرا يدعي بأنه عصري الوقفة والنظر، ثم وجدته - في الوقت نفسه - يتمنى لو كرت الأيام راجعة، بحيث تعود إلى الناس ما كان للأسلاف من رؤية وسلوك، فاعلم أن سطحه الفكري مناقض لأعماقه، وأنه بعيد عن عصره بعد ما بين السطح والأعماق! وليس يعني هذا بترا للماضي، كلا؛ فبغير الماضي لا تكون للحاضر هويته! وإنما يعني تطويرا له، فالشباب لا ينسخ الطفولة نسخا، لكنه يطورها، بحيث تظل هوية الشخص الواحد قائمة، والرجولة لا تنسخ الشباب، لكنها تطوره، ليكون حاضر الإنسان امتدادا لماضيه، امتدادا لا يكرر ذلك الماضي، بل ينبثق منه كائنا جديدا، يحمل من ماضيه بعض ملامحه، ويضيف إليها بحاضره ملامح أخرى.
إذا آمنا «بالتقدم» إيمانا يجاوز نطقنا باللفظة صوتا تفوه به الشفتان، كانت النقلة الفكرية بعيدة بعدا فسيحا؛ لأننا عندئذ سنقلب الميزان، فنجعل معيارنا هو المستقبل المرجو، بعد أن كان الماضي الذي خلفناه وراء ظهورنا؛ أي إن معيارنا بعدئذ لا يكون هو «المبدأ» بل «المنتهى»، لا ما قد كان بل ما سوف يكون، فلو سئلنا عندئذ: ماذا ترى في هذا السلوك المعين يسلكه الأفراد، أو في هذا التشريع المعين تسنه الدولة، أو في هذا الوضع أو ذاك من أوضاع الحضارة السائدة، لم يكن جوابنا عندئذ: انتظر حتى أقيسه إلى سلوك الآباء وتشريعهم وأوضاعهم الحضارية، بل يكون الجواب: انتظر حتى أحسب النتائج المترتبة على هذه الأشياء، فإذا وجدت النتائج مزيدا من علم ومن صحة ومن حرية ... إلخ، قبلت السلوك ورضيت بالتشريع وأقبلت على الأوضاع الحضارية الجديدة، إن المعول عندئذ لا يكون: ماذا كان بالأمس؟ بل يكون: ماذا سيكون غدا؟
كان «للمبادئ» رهبة تدنو من التقديس، إن لم تكن هي التقديس نفسه، وكان سر الرهبة كامنا في أن مصدر المبادئ مجهول، فازدادت بذلك ألغازا يصرفنا عن تحليلها والنظر في محتواها، هل يصلح مقياسا للعصر أو لا يصلح؛ ولذلك رأينا فلاسفة الأخلاق على طول الزمن، من اليونان الأقدمين إلى مشارف العصر الحديث، لا يسألون أنفسهم: ما حقيقتها؟ بل يسألون: من أين جاءت؟ وهنا اختلف الفلاسفة في ذلك مذهبا، فقال قائل: إنها منبثقة من فطرة الإنسان، سواء كانت هذه الفطرة عندهم «عقلا» أو «ضميرا» أو ما شاء لكل منهم مذهبه، وقال قائل آخر: بل نزلت من السماء وحيا يهدي البشر سواء السبيل، على أن ما نزل على الناس وحيا، وما انبثق من دخائلهم يتساويان آخر الأمر، كأنما الشريعة السماوية عقل ظاهر، والعقل في توجيهه شريعة باطنة، وهكذا أخذتهم الحيرة أمام «المبادئ» بين ظاهر وباطن، بين سطح وأعماق، على اختلافهم بعد ذلك في ماذا يكون السطح، وماذا تكون الأعماق: أيكون على السطح رغبات وأهواء ربما جمحت بصاحبها لولا أن في أعماقه عقلا يوجهها نحو ما ينبغي أن يكون؟ (هذا هو الفيلسوف الألماني «كانت» في القرن الثامن عشر)، أم يكون «العقل» هو القشرة السطحية البادية، وأما أعماقه فوجدان صادق، يوجه ويملي؟ (وهذا هو «جان جاك روسو» في القرن الثامن عشر أيضا)، ترى هل يكون على السطح الظاهر مجتمع يفرض على الأفراد ما أراده لهم من تقاليد، يتقيد بها هؤلاء الأفراد وكأنها قيود من حديد، وإذن لا نتوقع في الخفي الباطن إلا جيشانا وغليانا يلتمس طريقه إلى الخروج في ثورات الاحتجاج حينا بعد حين؟ (وهذا شيء قريب مما ذهب إليه «ماركس») أو لعل الذي خفي عن الأبصار هو تقاليد المجتمع وأوامر الدولة، خفيت عن الأبصار واتخذت لنفسها كيانا مطويا في حنايا النفس، ونطلق عليها «الضمير»، وأما الذي ظهر على السطح فهو النزوات الفردية التي تنزو بأصحابها أن يفلتوا من رقابة المجتمع والدولة، فما يلبثون أن يسمعوا صوت الضمير في أنفسهم صارخا ومؤنبا؟ أم هل يكون الظاهر وعيا صاحيا مدركا لكل ما فرض علينا من قيود، يبطنه اللاوعي أو اللاشعور، الذي إذا لم يجد لنفسه متنفسا في عالم الصحو التمسه في دنيا النعاس والأحلام؟ .. مذاهب اختلفت كما ترى في أي الجوانب هو ظاهر الإنسان وأيها هو باطنه؟ لكنها اتفقت جميعا على افتراض ظاهر وباطن معا، وما ذلك كله إلا لأنهم سلموا بمقدمة لم يجادلوها، وهي أن ثمة «مبادئ» ترسم صور السلوك الأمثل، فمن أين جاءت يا ترى؟!
والذي يفرض قيام هذه المبادئ قبل خوض التجربة الحية، إنما يكون قد خطا بالناس أجرأ خطوة نحو صورة من صور الاستبداد السياسي؛ لأن المبادئ قواعد، فإذا أنت جعلتني أقدم على حياتي ونصب عيني هذه القواعد الأولية فقد حددت الإطار العام لسلوكي، ثم ما هو إلا أن يخرج على الناس مارد من هؤلاء المردة الجبابرة، فيأخذ لنفسه حق تفسير هذه القواعد، ليضع أعناق العباد في أي شكيمة أراد، مسدلا على وجهه قناع «المثل العليا» التي يسعى إلى تحقيقها، والويل عندئذ لمن أخذته في الأمر ريبة أو اجترأ على طرح سؤال على الملأ! وفيم الريبة وفيم السؤال؟ إن «القواعد» بحكم طبيعتها ومنطقها تبرر نفسها، خذ قواعد لعبة الكرة مثلا، فهل يحق للاعب وهو في معمعان اللعب أن يسأل: لماذا يكون خط الجزاء هنا وليس هناك؟ ولماذا يجوز مس الكرة بالقدم ولا يجوز مسها بالأصابع؟ لا، إنها «قواعد» اللعبة التي تقبل ابتداء؛ لأنه بغيرها لا يكون لعب يمكن الحكم عليه بالصواب أو بالخطأ؛ ولذلك «فالحكم» في لعبة الكرة هو حاكم مطلق، وله أمره، وأمره نافذ، وهكذا قل في كل ضروب «القواعد»، بما فيها قواعد الأخلاق، فإذا نحن سلمنا بقيامها قياما مسبقا، فقد مهدنا الطريق أمام الحاكم المستبد، يظهر كلما ظهر الشخص الذي يريد ذلك ويستطيعه.
ومع الحاكم المستبد يظهر ما يسمونه بالبيروقراطية؛ أي ذلك الضرب من الحكومة الذي يجيز أن تهبط الأوامر من أصحاب المكاتب والمناصب، لتهوي على أرواح البشر وهم في ميادين نشاطهم، كأنها ضربات القدر، وقد تسألني: لكن القواعد الخلقية نراها مفروضة حيث يظهر الحكم المستبد والبيروقراطية، وحيث لا يظهران على السواء، فلماذا ترتب على قيامها الحالة الأولى، ولا ترتب عليه الحالة الثانية؟ والجواب هو أن الشأن في هذا هو كالشأن في أشياء كثيرة أخرى، فالماء يرويك من ظمأ، والماء يقضي عليك بالغرق فيه، والنار تنضج لك الطعام، والنار تدلع الحريق المدمر، فكذلك القواعد أيا كانت حين يقال عنها إنها مفروضة من حيث لا ندري، فهي إما تصلح أداة للحاكم المستبد، وإما تتخذ أداة لحكم الشورى، والفرق بين الحالتين هو أن الحاكم المستبد يطبق القواعد على الناس ويعفي نفسه منها، وأما الحاكم الديمقراطي فهو يطبق القواعد على الناس وعلى نفسه، سواء بسواء.
من أجل هذا كله، تسود عصرنا هذا فكرة أخرى، يريد أصحابها أن يحلوها محل «المبادئ» أو القواعد التي كان يقال إنها مفروضة علينا من حيث لا ندري، ألا وهي فكرة «الأهداف»، فنحن ندخل حياتنا - أو ينبغي لنا - وليس في أيدينا القيد، ولا في أرجلنا الأغلال، وإنما ندخلها وفي رءوسنا «أهداف» يراد تحقيقها، وكل سبيل نراه محققا لها، لا رؤية «فردية» شخصية، بل رؤية «جماعية» مشتركة، فهو السبيل النموذجي الأمثل، وواضح أنه كلما تبدلت الأهداف تبدلت السبل، وبالتالي تغيرت المثل العليا، وها هنا فليسأل من شاء أن يسأل: لماذا نسلك هذا السبيل ولا نسلك ذاك؟ لنبين له أن سبيلا منهما يؤدي إلى الهدف المقصود والآخر لا يؤدي.
إني لأخشى أن يكون هذا الاستطراد الطويل قد شتت معالم الطريق، فلنذكر أننا أردنا أن نوضح كيف أن الناس كثيرا ما يعيشون في القرن العشرين، بما يدور على ألسنتهم من كلمات، أما ما وراء ذلك في بواطنهم فهم يعيشون به في القرن العاشر! أأقول القرن العاشر؟ لماذا أظلم القرن العاشر وهو قرن الفارابي وابن سينا وإخوان الصفا؟ لماذا أظلمه وهو عصر المتنبي في الشعر، وأبي حيان التوحيدي في النثر، الذي يعمق بالفكرة ولا يزخرف باللفظ.
ولكي أسوق مثلا يوضح ما أردت توضيحه أخذت فكرة واحدة تصف العصر بغير حاجة إلى جدال، وهي فكرة «التقدم»؛ فهي حديثة الظهور في تاريخ الفكر، وأما قبل ظهورها على مر القرون الطويلة، فكان الأغلب على الناس ليس هو أن العالم يسير من نقص إلى كمال، بل أنه يسير من كمال إلى نقص، يكفي تصويرا لهذا الاتجاه المضاد قصص كثيرة كانت تروى لتؤكد أن العصر الذهبي إنما هو عصر مضى وهيهات له أن يعود، إذن ففكرة «التقدم» طابع يميز فكرنا المعاصر، وسل من شئت من الناس: هل تؤمن «بالتقدم»؟ وكن على يقين أنه سوف يجيبك بالإيجاب المصحوب بالدهشة على أن يكون ذلك موضعا لسؤال، لكن امض معه بعد ذلك في تحليل الفكرة لتخرج له مكنونها، فيعلم أنه يتحتم نتيجة لقبوله هذه الفكرة أن يكف عن دعوة الحاضر إلى اتخاذ الماضي نموذجا، وأن يمسك عن إقامه مثله العليا من مبادئ هبطت إليه من حيث لا يدري، لتقيده دون الحركة الحرة نحو تحقيق أهدافه، فعندئذ سترى أي شخص تخاطب، سترى ذلك الذي قبل فكرة «التقدم» لنفسه حتى يكون معاصرا، قد ثار عليك ثورة، أخشى عليك من آثارها؛ لأنها يغلب أن تركب صهوة الغضب الجموح، فصاحبنا - كما ترى - معاصر باللفظة، متخلف باللباب.
وبعد ذلك فلأنتقل بك إلى فكرة أخرى مما يميز العصر، لترى مرة أخرى كم من الناس حولك يقبلها بفروعها الظاهرة وجذورها الخافية معا، وكم منهم تكفيه ألفاظها على طرف اللسان، وأما أن تورطه في مضموناتها فدون ذلك خرط القتاد، كما كان قدماؤنا يقولون، وأعني فكرة «التغير» في مقابل «الثبات»، والتغير نسبي، والثبات مطلق.
الحق أنه خلال ما يقرب من قرنين من الزمن، بادئا من أوائل القرن التاسع عشر، وإلى يومنا الراهن، ودنيا الفكر بأسرها تدور حول محور جديد لم تألفه بهذا الاطراد وبهذا الإصرار، فيما مضى، ألا وهو محور «التطور»، والفرق بعيد عن ثقافة تقيمها على افتراض وجود الثوابت الأزلية الأبدية، وثقافة أخرى تقيمها على تطور لا يلبث على حالة بعينها حتى يتحول بها إلى حالة أخرى، ولقد كان افتراض الثوابت هو مشغلة الفلاسفة جميعا منذ نشأت على وجه الأرض فلسفة؛ وذلك أن هؤلاء الفلاسفة، كسائر عباد الله، نظروا حولهم فوجدوا تيارا دافقا من ظواهر ما تنفك تتحول وتتبدل؛ فألوان يتبع بعضها بعضا، وأشكال وطعوم، وكائنات تجيء وكائنات تذهب، وفصول تتعاقب، ونهار بعد ليل وليل بعد نهار ، إلى آخر هذا الخضم الهائل من ظواهر متغيرة، فسألوا أنفسهم: هل يمكن أن تكون هذه المتغيرات هي البداية والنهاية، والظاهر والباطن جميعا؟ ذلك عندهم محال، إذن فماذا يا ترى تكون الأسس الثابتة وراء هذه التحولات؟ وأخذ الفلاسفة يجيبون، وما زالوا إلى يوم الناس هذا يجيبون! كل بجواب يقترح به ثابتا يراه، أو عددا من ثوابت بحسب ما يرى، ثم أسموا هذه الثوابت «جوهرا»، وأما ما يطرأ عليها من تغيرات ظاهرة فهي «أعراض» لذلك الجوهر، بل هم لم يتصوروا كيف يمكن أن نقول عن شيء إنه تغير، دون أن يتضمن هذا القول افتراضا بأن له جانبا ثابتا هو الذي طرأ عليه ذلك التغير، كأنما هو ينضو ثوبا ويرتدي ثوبا، أما هو فهويته ثابتة لا تتغير بما نضا وما ارتدى، ولقد جعل أرسطو أسسا للتفكير الإنساني، بغيرها لا يكون تفكير على الإطلاق، وأولها ما أسماه «قانون الهوية»، الذي يتصور عملية التفكير أمرا محالا إذا لم يكن هنالك هوية ثابتة لكل شيء، هي التي ندير عليها عملية التفكير هذه.
ولست أطيل؛ لأنها قصة شرحها يطول، وحسبي الآن أن أقرر أمام القارئ بأن الخلفية الثقافية والفكرية كانت دائما وعلى امتداد التاريخ تفترض للأشياء حقائق ثابتة، ثم تجيء عليها موجات الظواهر المتغيرة، وتنحسر لتجيء سواها، فإذا استطعنا أن نعرف هذه الحقائق الثابتة بما يحددها ويعين قوانينها كنا بذلك قد أمسكنا بناصية الطبيعة كلها، في هذه الحالة - وأرجو من القارئ أن يتأمل ذلك على مهل لأهميته - في هذه الحالة يكون «الزمن» غير ذي شأن في علمنا بحقائق الأشياء؛ إذ ماذا يكون شأنه إذا كان الجوهر الثابت لكائن ما، هو بحكم تعريفه «ثابت» على حالة واحدة، فكان ماضيه كحاضره، وكما سوف يكون في مستقبله؟ ماذا يكون شأنه لو عمر ألف عام أو ألف ألف أو آلاف الملايين؟ إنه «ثابت» على جوهر واحد، ولا يتغير عليه إلا ما يطرأ من ظواهر، والظواهر ليست بذات موضوع في إدراكنا للحق كما هو قائم من أزله إلى أبده .. أو هكذا كانوا يقولون؛ ولذلك كانوا يؤمنون بأن لمحة واحدة تدرك بها إدراكا صحيحا لما هو قائم في هذه اللحظة الحاضرة من مجرى الزمن، كفيلة لك - إذا أحسنت الاستدلال - أن تكر بها راجعا إلى الماضي كله، وتجري بها قدما إلى المستقبل كله، فتعرف منها وحدها - عن طريق الاستدلال - كل ما مضى، وكل ما هو آت! ولم لا وامتداد الزمن، طال أو قصر، لا يغير من حقيقة الأمر شيئا؟
هكذا كانت الحال حتى جاء عصرنا بتصور جديد وضع «التغير» مكان الثبات، وجعل «التطور» أساسا وحيدا تفسر على ضوئه الأشياء، ولا يكون تباين بين شيئين أشد من التباين بين ثقافتين؛ إحداهما تجعل سكونية الثبات والدوام أساسها، وأخرى تجعل دينامية الحركة والتطور أساسا لها، ومصدر التباين بينهما كامن في فكرة كل منهما عن حقيقة «الزمن»: أهو خط أشبه بالخط الهندسي، ليس بين أي جزأين متساويين من أجزائه فرق جوهري؛ إذ لا فرق بين طول مقداره سنتيمتر في أول الخط وطول آخر بالمقدار نفسه في آخر الخط؛ أي إن الطول نفسه لا يدل بذاته إن كان قد تقدم في ترتيبه من التعاقب أو تأخر، وهكذا قل في «الزمن» على ضوء هذه الفكرة: فإذا كان القرن طوله مائة عام مما نعرف، فلا فرق في الجوهر بين قرن زمني جاء في قديم وآخر جاء في حديث، أم أن الزمن طبيعته ليست هندسية رياضية على هذا النحو، لكنها أقرب شبها بمخروط يتسع كلما استطال، وفي هذه الحالة يكون الفرق كل الفرق بين طولين متساويين تأخذهما من موضعين مختلفين؛ لأن أحدهما سيكون أغنى حصيلة من الآخر وأوسع أفقا.
هذا التطور المخروطي للزمن إنما يكون إذا ما تصورنا العالم متطورا ناميا، فهو الآن أغزر حياة منه في أي عهد مضى، وسوف يكون في مقبل الزمن أغزر حياة مما هو الآن، هذه واحدة، والأخرى هي أن الفكرة القديمة كانت تلازمها فكرة أخرى، هي أن الأشياء لا تتحرك بدفعة داخلية فيها؛ ولذلك فهي تحتاج دائما إلى محرك خارجي يحركها كيف شاء، وأما الفكرة التطورية بمعناها السائد في عصرنا (هي ليست بهذا المعنى عند دارون) فيلازمها أيضا فكرة أخرى، وهي أن العالم مدفوع متحرك من ذاته، كالكائن الحي حين ينمو بحركة ذاتية منبثقة من طبيعته، ولك على ضوء هذا القول أن تراجع فلاسفة التطور المعاصرين، من أمثال برجسون ومورجان وألكسندر ووايتهد، ومن شئت، لترى كيف انعكست هذه الفكرة الجديدة في فلسفاتهم، وإذن فأنت مساير لعصرك ظاهرا وباطنا، إذا وجدت نفسك على استعداد كامل لقبول هذا التصور بكل ما يقتضيه من نتائج، وأقل ما يقتضيه هو استحالة أن يكون الماضي أكثر رشدا من الحاضر وأخصب فكرا وأهدى سبيلا، أما إذا وجدت نتيجة كهذه لقمة عسرة الهضم في معدتك، لا تميل إلى الأخذ بها وأنت مطمئن؛ فلك الخيار، ولكن اعلم في يقين أنك معاصر باللفظة وحدها، عتيق إذا قيس أمرك بمضمونها وفحواها.
لعل موضوع الحديث لم يغب عن أبصارنا؛ فنحن نزعم منذ بدايته أن الناس كثيرا ما يظنون بأنفسهم المعاصرة، مخدوعين بما يحيط بهم من أدوات هي من نتاج العصر، حتى إذا ما حللنا مواقفهم الفكرية، لا من حيث ما «يقولونه» باللفظ عن أنفسهم، بل من حيث ما نكشف عنه في خفايا نفوسهم، وجدناهم لا ينتمون إلى هذا العصر إلا بأوهن الأسباب، وأخذنا نضرب الأمثلة؛ فمن خصائص هذا العصر إيمانه بالتقدم، وما أهون أن يصف الناس أنفسهم بأنهم من أخلص المناصرين للتقدم، فإذا ما بينت لهم على أي النتائج تنطوي هذه الفكرة جزعوا وأنكروا! ثم انتقلنا إلى مثل آخر يتصل بأسس الأخلاق، فهل تقاس أفضلية الفعل إلى مبدأ توارثناه جيلا بعد جيل على أنه النموذج الأسمى، أو تقاس تلك الأفضلية إلى هدف يتحقق أو لا يتحقق دون أن نكبل أنفسنا بأفكار مسبقة، ها هنا أيضا قد نجد من الناس من يظنون بأنفسهم عصرية الروح، حتى إذا ما واجهناهم بهذه النسبية الأخلاقية، التي هي من معالم العصر، أخذهم الفزع مما يسمعون، وبعدئذ عرضنا مثلا ثالثا، هو الانتقال من تصور الثبات المطلق لحقائق العالم إلى تصور التغير والتطور الذي يجعل كل حقيقة أمرا نسبيا مرحليا، ينسب إلى ما يؤدي إليه، وأوضحنا للقارئ بعض ما يترتب على هذه النظرة من رؤى عند مقارنة الماضي بالحاضر، على وجه الخصوص، وخيل إلينا أن هذا القارئ ربما أبت نفسه قبول هذه الرؤى. أمثلة تبين كلها كم منا لا يصلح لعصره بحكم تكوينه الفكري، مهما زعم أنه متجدد متطور مساير لحركة الزمن.
ولنضرب مثلا رابعا وأخيرا، هو تصور «الفردية» التي نود أن تتميز بها أشخاصنا وأوطاننا، فقد كانت الفكرة القديمة عن هذه الفردية أنها «ذات» مستقلة قائمة برأسها، حتى لو لم يكن في الدنيا سواها، وإنك لترى هذا التصور منعكسا في الفلسفة قديمها ووسيطها وحديثها على السواء (ولم أذكر المعاصرة منها لأنها تختلف)؛ فهذا هو سقراط يطالب الإنسان أن يعرف «نفسه» على ظن منه أن هذه المعرفة فيها مفتاح معرفته لسائر الأشياء؛ وذلك لأنك إذا أمعنت النظر في نفسك حتى عرفتها، عرفت بالتالي طرائقها في الإدراك، ومتى تظفر بالصواب، وكيف تزل في الخطأ، ومعرفة الإنسان لنفسه على هذا النحو لا تشترط أن يكون إلى جواره ناس آخرون، فهو وحده - كالجزيرة المعزولة - يمكن أن يستبطن ذاته من داخل، فيعلم ما يريد أن يعلمه، وذهب الزمان وجاء ديكارت بقولته المعروفة: «أنا أفكر، فأنا - إذن - موجود»، اكتفى بأن ينظر إلى دخيلة نفسه ليرى «الأنا» وهي تفكر، فجعل ذلك برهانا على وجوده، بل جعله أساسا لكل برهان سواه، ثم تبعه في ذلك ليبنتز، الذي أفاض القول في أن الذات الإنسانية - بل كل ذات مهما كان نوعها - هي كالذرة المصمتة، التي ليس لها نوافذ تطل منها على سواها، فهي في حقيقتها أقرب إلى شريط ملتف على نفسه، وما حياة الكائن الحي بعد ذلك إلا أن يبسط هذا الشريط شيئا فشيئا حتى ينتهي، وإذا خيل إلينا أن أفراد الناس يتبادلون الآراء وغيرها؛ ما قد يدل على أن بينهم صلات لا تكون إلا إذا كانت لديهم الوسائل التي يطلون منها بعضهم على بعض، أنبأنا ليبنتز هذا بأن ذلك وهم، فما التوافق الذي تراه بين فردين أو أكثر إلا كالساعات المضبوطة، كلها تدل على الزمن الصحيح دون أن يكون بينها «تفاهم»، ولا اتفاق بالتبادل.
صورة من فردية الفرد كان يسهل على الناس قبولها، وقد ظهرت في صورة أدبية أو فكرية كثيرة، فانظر - مثلا - إلى قصة روبنسن كروسو، وهو في فردانيته على الجزيرة المعزولة، وانظر في تراثنا الفكري العربي إلى ما تصوره ابن باجه في «تدبير المتوحد»، أو إلى ما تصوره ابن طفيل في «حي بن يقظان»، تجد تصويرا للفردية المستقلة بذاتها، بغض النظر عمن يحيط بها من آخرين، واتسعت فكرة الفردية هذه بعض الشيء لتشمل فكرة الإنسان عن قومه أو أمته، فكأنما هذا «القوم» أو هذه «الأمة» فرد ضخم متعدد الأعضاء، لكنه متميز كل التميز عن سائر الأقوام وسائر الأمم.
وجاء العصر الراهن بتعديل أساسي في هذا التصور لفردية الإنسان، وهو تصور انعكس بدوره في الفلسفة وفي الأدب، بل وفي مذاهب السياسة نفسها، وخلاصته أن الفردية القديمة ضرب من المحال؛ «فالأنا» لا وجود لها بغير «الأنت»، أعني أنك لكي تكون على علم بنفسك، لا مناص لك من مخاطبة سواك، فلئن قال سقراط «اعرف نفسك» فقد جاء عصرنا ليضيف إلى النفس سواها حتى يمكنها أن تعرف، فكان الأصوب أن يقال: «اعرف نفسك عن طريق معرفتك لسواك»، وإذا كان ديكارت يقول: «أنا أفكر فأنا موجود»، فقد قال له الفلاسفة المعاصرون (مثل هوسرل) تفكر في ماذا؟ فلا فكر إلا فيما عداه، وبالتالي فلا «أنا» إلا بسواها.
وسع هذا المعنى يكن لك اتجاه عصرنا في التصور «الجماعي» للفرد؛ فالفرد «عضو» لا مجرد فرد قائم بذاته، إنه عضو ينتمي حتما إلى جماعات مهما يكن نوعها، وبغير هذا الانتماء الضروري يفقد ذاته ويتيه في ضياع؛ ولذلك لم يعد انتماء الفرد إلى وطنه أو إلى أمته أمرا عرضيا له أن يختاره وله أن يرفضه، بل هو في صميم الصميم من وجوده، إذا تنكر له تنكر لحياته نفسها، وحتى إذا أصر على رفضه الانتماء لأمته، فعليه أن يبحث له عن مجموعة أخرى ينتمي إليها ، حتى إن كانت مجموعة غير مجتمعة في مكان واحد، كأن ينتمي إلى العلماء إذا كان صاحب علم، أو إلى رجال الفن، إذا كان منهم، أو إلى العمال إذا كان عاملا، أو إلى الشباب إذا كان في مرحلة الشباب ... وهكذا.
وهذه الفردية الجماعية - إذا صح هذا التعبير - ما تزال توسع من حلقاتها، حتى لتراها توشك أن تجمع الإنسانية كلها في مجموعة واحدة، فأنا «مصري» أنتمي إلى بني وطني، ولكن هذا الوطن المصري يظل قلق الوجود ما لم يدخل في دائرة أعم كالوطن العربي الكبير، وبهذا أصبح مصريا عربيا، وسرعان ما ترى الدائرة العربية أن وجودها يتطلب انتماء أوسع، فلا عجب أن نشهد العالم متكتلا في أحلاف تجمع أجزاءه على أساس الأهداف المشتركة، والأمل هو أن يجيء اليوم الذي يشعر الناس فيه بإيمان صادق - لا بمجرد ترديد اللفظ على طرف اللسان - أن هذا الانتماء الضروري الحتمي لن تكتمل دائرته إلا إذا أصبحت الأرض وطنا واحدا يسكنه مواطنوه الذين هم بنو الإنسان، وهيئة الأمم المتحدة بداية متعثرة نحو هذه الغاية القصوى، لكن الطريق قد يستقيم لها بعد حين. ذلك هو عصرنا، فإذا أحسست في نفسك نفورا من أن تدمج نفسك مع سواك في وحدة تربطكما معا في وجود واحد، كنت غريبا في عصرك بمقدار ما عندك من نفور.
لست أشك لحظة واحدة في أن أساسا عميقا لبناء الفكر القديم بشتى ظواهره قد تشقق بحيث أصبح البناء كله منهارا، أو على وشك الانهيار، ليحل محله أساس جديد يقام عليه بناء فكري آخر، فبعد أن كانت فكرة «الجوهر» - بمعناها الفلسفي - هي المحور الرئيسي للتفكير، ويقصد «بالجوهر» النواة التي تلتف حولها خيوط الظاهرة المعينة دون أن تتكشف هي لأي ضرب من ضروب الإدراك الحسي، وإنما يفرض وجودها لاستحالة تعليل الظواهر إلا بها؛ أقول بعد أن كانت فكرة «الجوهر» هي محور التفكير، رأينا اليوم أنه لم يعد لافتراض وجودهما ضرورة؛ إذ استطعنا أن نفسر الظواهر جميعا بغير حاجة إليها، كنا لا نتصور ظواهر الإنسان - مثلا - إلا معلقة على مشجب داخلي غير منظور، هو «الجوهر»، وهو الذي نطلق عليه اسم العقل أو النفس، أو ما له هذا المعنى من الأسماء، فأصبحنا اليوم نفهم هذه الظواهر على صورة أخرى، وهي أنها مجموعة متلاحقة من أحداث يرتبط بعضها ببعض بضروب من «العلاقات» حتى لنتوهم أنها قد أصبحت - لتماسكها - ذات هوية واحدة، على حين أنها في حقيقتها مجموعة أحداث يتكون منها قطعة من تاريخ، وعلى هذا الأساس نفسه نفهم اليوم كل شيء، فمثلا، ليست مدينة «القاهرة» شيئا محددا له ثبات ودوام، بل هي أفراد وأحداث تموج مع زيادة أو نقص، ويتصل بعضها ببعض على نحو يوحي بأن تلك المجموعة متماسكة في شيء واحد معين، على حين أن شأنها أقرب إلى خلية النحل، فيها مفردات وحركة، لكنها تتشكل في مجموعة ذات إطار تقريبي يحفظ لها نوعا من الهوية، وعلى هذا الغرار نفسه تستطيع أن تفهم الأشياء جميعا، من الذرة الصغيرة إلى المجرة الفلكية، ومثل هذا الفهم الجديد ينتهي بنا إلى نتائج بعيدة المدى؛ لأن أهمية «الكيانات» المعينة - أشخاصا وأشياء وأمما وأوطانا وغيرها - ستنتقل إلى «العلاقات» التي تربط مجموعة من الأطراف، ومن ثم جاءت صورة «الفردية الجماعية»، التي أشرنا إليها، وجاءت أيضا فكرة التغير الذي لا يجعل أمرا واحدا يستقر على وضع واحد، إلا ريثما يتحول إلى وضع جديد.
هذه الانتقالة البعيدة من رؤية الدنيا على أنها «أشياء» و«كائنات» إلى رؤيتها على أنها «علاقات»، قد نقلت منطق الفكر نفسه من إقامة التدليل والبرهان على أساس الإدراك الكيفي للأنواع والأجناس، إلى إقامة ذلك التدليل والبرهان على أساس رياضي بحت؛ ما أخرج لنا ما يسمونه اليوم بالمنطق الرياضي، الذي جاء ليحل محل المنطق الأرسطي القديم، كان أرسطو - مثلا - يكفيه دقة في العبارة أن يقال: «كل إنسان فان»، كأنما «الإنسانية» و«الفناء» أمران ندركهما بالبصر المباشر، مع أن كل فكرة من هاتين الفكرتين قوامها مجموعة ضخمة من التفصيلات التي يتركب بعضها على بعض بعلاقات تخضع لدقة الحساب، وإلا لظل معناها مرنا غامضا يختلف فيه المدركون ، كل على حسب خبرته وثقافته، أما اليوم فدقة الإدراك العلمي تقتضينا ألا نقبل ألفاظا عائمة المعاني كهذه، بل نحللها إلى الذرات الفكرية الصغيرة البسيطة التي تدخل في تكوينها، ونصوغ هذه الذرات الفكرية في دالة رياضية تضبط لنا روابطها الداخلية التي بررت أن نعدها تصورا ذهنيا واحدا، وأن تحليلا كهذا قمين أن يغوص بنا في تشكيلات من رموز، يبدو للوهلة الأولى أنها عقدت علينا ما كان بسيطا، مع أنها في الحقيقة حولت لنا ما كان غامضا إلى صيغة رياضية دقيقة، والحق أنه تحول لا يسيغه من ألف قبول المعاني المبهمة، حتى لقد وجدت هذه النزعة الفلسفية التحليلية الجديدة معارضة أشد المعارضة، وسخرية أمر السخرية، عندما أدخلها إلى الفكر العربي لأول مرة العبد الفقير لله كاتب هذه السطور، وممن كانت المعارضة وكانت السخرية؟ من أساتذة الفلسفة في الجامعات العربية أنفسهم، حتى لقد كتبوا يعارضون ويسخرون، والله وحده عليم بمقدار ما علموه من هذا الاتجاه الفلسفي المعاصر، وهل يكفي لإبداء الرأي فيه أو لا يكفي.
أما بعد، فلنعد إلى ما بدأنا به حديثنا: لقد عجب صاحبي الذي كنت أحدثه كيف أتشكك في مسايرتنا لروح عصرنا، ودنيانا قد امتلأت بعلوم العصر وأجهزته ومكناته، فأجبته بأن ذلك كله قشرة على السطح نقلناها، ولم تمس منا اللباب، وبينت له على مدار الحديث، بأمثلة كثيرة أوردتها، كيف يحدث غالبا ألا يكون عند الإنسان من الفكرة المعينة إلا اسمها، فيقبل الاسم ويظن أنه قد قبل كذلك معناه بكل أبعاده ولواحقه، حتى إذا ما تكشفت له تلك الأبعاد واللواحق أخذه الفزع والنفور.
وليس لأحد سلطان على أحد في أن يساير العصر أو أن يتنكر له، لكن الذي ليس من حقك ولا من حقي، هو أن تدعي الانتماء للعصر بفكره وثقافته عندما تكون في حقيقتك منطويا على ما يناقضه، فأحد أمرين: إما أن تعتد بما في دخيلة نفسك، فتمحو ما يبدو على ظاهرك، وإما أن تعتد بما هو ظاهر في لفظك، فتغير ما قد ترسب في طويتك من رواسب الماضي ، أما أن تعاصر زمانك بظواهر اللفظ وتعارضه بباطن الإيمان، فذلك موقف أقل ما يقال فيه إنه غموض في الرؤية، أو هو نفاق ثقافي لا ترضاه.
منطق جديد .. لفكر جديد
لم يكن تحليل الأشياء إلى «ذرات» تتألف منها، بالفكرة الجديدة التي جاء عصرنا ليستحدثها من العدم؛ إذ الفكرة قديمة قدم اليونان الأولين، فرأيناها عند ديمقريطس، ثم رأيناها عند نفر من فلاسفة العرب ومتكلميهم، ولبثت بعد ذلك قائمة تتردد ظهورا وخفاء. لكن الجديد فيما استحدثه عصرنا هو بناء الذرة كيف يكون، وإذا استطاع القارئ أن يتصور النقلة التي انتقلتها فكرة الذرة في عصرنا، استطاع بذلك أن يمسك بخيط رئيسي تتعلق به أوجه كثيرة من حياتنا العلمية والفكرية؛ مما ينتهي بنا إلى طابع عام يجعل من العصر الحاضر عصرا متميزا مما عداه، وإنه ليكفيه في هذا التصور أن يعلم أن «الذرة» الأولية بعد أن كانت - عند من جعلوها نهاية التحليل للوجود المادي - قطعة صماء لا ينفذ خلالها شيء؛ لأنها ملاء كلها ليس فيها خلاء بأي معنى من معانيه، وهي تستعصي على التجزئة بطبيعة الحال، وإلا لما كانت أولية بسيطة ينتهي عندها التحليل، أقول إن صورة الذرة - عند القائلين بها - بعد أن كانت على هذا النحو المصمت الصلب المليء، أصبحت عند عصرنا كيانا مخلخلا، يتشابه تكوينه مع تكوين المجموعة الشمسية - مثلا - فنوية أو نويات في مركزها، تدور حولها كهارب في أفلاك، إلى آخر تفصيلات هذه الصورة الجديدة للذرة، مما نستطيع مراجعته مبسطا في كثير جدا مما ينشر عن تبسيط العلم في الكتب والمجلات.
ولو كان قارئنا ممن ألموا بشيء من الدراسة الفلسفية - قليل أو كثير - لأدرك من فوره أن أهم فارق يميز هاتين الصورتين للذرة إحداهما من الأخرى، هو أن الذرة في صورتها القديمة كانت «جوهرا» (بلغة الفلاسفة)، وأما في صورتها الجديدة فهي «تاريخ»، وبين هاتين الفكرتين يكمن الفرق العميق بين فكر قديم وفكر جديد .. لكن مهلا، فمن حق القارئ علينا شيء من الأناة، حتى يستوثق أولا مما نعنيه - في الفلسفة - بكلتا هاتين الفكرتين : «الجوهر» و«التاريخ».
أما فكرة «الجوهر» فلست أطمع في شرح مفصل للكثير من وجهات النظر التي اتخذها الفلاسفة حيالها، ولا عجب؛ فقد كانت هذه الفكرة من أهم ما شغل الفلسفة قديمها ووسيطها وحديثها، وحسبي أن أقول عن «الجوهر» هنا إنه هو - من أي كائن - ما يستحيل إزالته؛ لأنه بزواله يزول الكائن، أي إنه مهما تغير الكائن حجما وشكلا ولونا، ففيه عنصر ذو دوام، هو الذي يعطي الكائن هويته منذ لحظة وجوده وإلى لحظة فنائه، بل إنه بالنسبة لبعض الكائنات - كالإنسان - قد لا يكون «لجوهره» فناء حتى بعد أن يفنى منه الجسد بكل ظواهره وتغيراته، خذ فردا من الناس تعرفه، وانظر، تجده متغيرا أبدا لا يستقر على حالة واحدة لحظتين؛ فقد كان رضيعا ثم أخذ يتغير ناميا، حتى بلغ ما بلغ، لكنه مع هذا التغير الذي لم يجمد دقيقة واحدة، كانت له «هوية» واحدة، عرف بها وما يزال معروفا، فعلى أي أساس دامت له هذه الهوية الواحدة برغم ما تعرض له من تحول مستمر؟ لقد كان ذلك على أساس ما نزعمه لأنفسنا في تكوينه، وهو أن مجموعة الظواهر المتغيرة فيه ليست هي حقيقته كلها، وإنما حقيقته هي «جوهره» وهو الذي تطرأ عليه التغيرات، حتى لقد قيل إنه بغير افتراض ذلك الجوهر، لما أمكن أن يكون للتغير نفسه معنى؛ إذ ما الذي يتغير؟ ما الذي يستوعب الخبرات على مر الزمن؟ إنه ذلك الجوهر المفروض، يدوم ما دام الشيء، وليطرأ عليه بعد ذلك من التحولات ما يجيء ويذهب، ما يظهر ويختفي، لكنه يبقى شيئا «واحدا» بفضل جوهره ذاك.
على أن الأمر في هذا العالم لم يقتصر على أفراد الناس، بل يمتد حتى يصبح هو الطريقة التي لا طريقة للناس سواها في تصورهم للأشياء كائنة ما كانت، فهذه كرة يلعب بها على مرأى مني الآن طفل صغير، تجرى بدفعته، وتنط، وتنضغط وتنبسط بضغطات من أصابعه، فهل كانت هذه «الظواهر» البادية هي كل حقيقة الكرة؟ كلا؛ لأنها لما اختفت تحت قطع الأثاث، ظل الطفل يبحث عنها، فحتى هذا الطفل قد أوحت إليه فطرته أن وراء ظواهر الكرة المتغيرة، «كرة» يبحث عنها إذا لم تعد لها ظواهر بادية، ومعنى ذلك أن لها «دواما» في افتراضنا، ما دامت «الظواهر» متغيرة لا تدوم؛ إذن لا بد أن يكون الدوام خاصا بحقيقة خافية، وهي «الجوهر» الذي جعل لكرة الطفل «هوية» متصلة يميزها بها من سواها، بل إنه بغير افتراض هذا الجانب الثابت الدائم، لما استطعنا أن نتحدث عن شيء، ألا ترانا نقول - مثلا - إن الكرة مستديرة، والكرة بيضاء، والكرة متدحرجة أو ساكنة، إلخ إلخ؟ فانظر إلى مجموعة الجمل التي يقولها المتكلم عن «الكرة» تجدها عنده «موضوعا» يراكم عليه ما يراه لها من صفات، ومن ثم كان التركيب اللغوي نفسه لعباراتنا التي نقولها عن الأشياء شاهدا على أننا «نفرض» قيام «موضوع» معين، تتبدل عليه الصفات وهو ذو ثبات.
ثم قارن هذه النظرة في تفسير فهمنا للأشياء بنظرة أخرى لا ترى من أي كائن إلا أحداثه التي تظهر، دون أن تضطر إلى افتراض حامل خفي يحمل تلك الأحداث الظاهرة، فهي نظرة لو سألت صاحبها: ما حقيقة هذا الفرد المعين من أفراد الناس، أو هذه الكرة التي يلعب بها طفلنا هناك؟ أجابك: حقيقة كل منهما سلسلة «الأحداث» التي وقعت، فاكتب لي تاريخا مفصلا لتلك الأحداث تكن لنا حقيقة الإنسان المعين أو الكرة المعينة أو ما شئت من كائنات؟ لكنك لن تطمئن لجوابه هذا، وستعاود سؤاله: إذا كان هذا الإنسان المعين لا يزيد على كونه خطا من أحداث تتابعت، فما الذي يجعل له «هوية» واحدة مستمرة منذ نشأته حتى هذه اللحظة؟ هنا يجيبك بأن «الهوية» الواحدة للكائن الواحد، ليست مرهونة بقيام عنصر مستقل، بل هي مرهونة بمجموعة «العلاقات» الرابطة لتلك الأحداث، فحتى لو وقع ما كاد يستحيل أن يقع، وهو أن يتشابه فردان في الأحداث التي تكون تاريخهما، فلن تكون الروابط بين تلك الأحداث واحدة في الحالتين، ومن ثم ينتج لنا «نمطان» أو تركيبتان مختلفتان، هما ما تميز بهما بين الفردين.
خلاصة القول : وجد الفلاسفة قبل عصرنا (فيما عدا استثناءات قليلة) أنه لا مندوحة لنا من «افتراض» جوهر ثابت لكل شيء، وكان ذلك منهم على أساس أنه بغير افتراض هذا الجانب الثابت لما أمكننا أن نفهم معنى للتغير، ولما استطعنا أن نسند إلى الأشياء صفات معينة، وأما فلاسفة عصرنا فمعظمهم على اتفاق بأن كيان الشيء - أي شيء - ليس في جوهر له مزعوم، إنما هو في تسلسل الأحداث التي تصنع تاريخه، مضافا إليها الطريقة الفريدة المتميزة التي ربطت بها تلك الأحداث، ولنلاحظ هنا أن افتراض «جوهر» للشيء، يتضمن أن ذلك الجوهر لا يتأثر بمر الزمن؛ فالروح - مثلا - هي الروح، سواء مرت عليها ساعة واحدة أو ألف ألف عام، والمربع هو المربع بالتعريف الواحد الذي يحدد فكرته، بغض النظر عن زمن يطول بالكون ملايين السنين، وأما أن تجعل حقيقة الشيء مساوية للأحداث التي صنعت تاريخه، فمعناه أن الزمن عنصر أساسي، لأن الأحداث إنما تحدث على فترة من الزمن، لا يكون الشيء المعين في أولها هو هو نفسه في آخرها، وهاتان الوقفتان تنعكسان - كما قدمنا - في تصور الإنسان للذرات الأولية؛ ما وصفها؟ فمع تصور الدوام والثبات كانت الذرة جسيما صلدا أصم لا ينقسم ولا يتفتت ولا خلاء فيه، ومع تصورنا لحقائق الأشياء على أنها تواريخ يمتد كل تاريخ منها ما امتدت سلسلة الأحداث التي تكون هذا الشيء أو ذاك، تكون الذرة - كما نعرفها الآن - كهارب دوارة في أفلاكها حول نواة، ويفصل الكهارب بعضها عن بعض وعن النواة خلاء، فما تنفك الذرة في حركة، يؤخذ منها بالإشعاع أو يضاف إليها.
ولكي نزيد المقارنة بين النظرتين وضوحا، نسوق لك الأمثلة؛ فقد كان الظن أن كل اسم من الأسماء الواردة في لغة الناس، إنما يدل - إذا دل - على مسمى معين ثابت بحكم التعريف القائم على طبيعة ذلك المسمى، أي القائم على «جوهره»، فإذا قلنا «إنسان» كانت الإشارة هنا إلى «حيوان ناطق»، أعني إلى كائن حي عاقل؛ لأن طبيعة الإنسان أو جوهره هو أنه حياة عاقلة ، لكن انظر معي إلى أسماء كهذه: «تجارة»، «مدينة»، «مسرحية»، «موسيقى»، ولنسأل أنفسنا: ماذا تسمى هذه الأسماء؟ هل هناك على أرض الواقع كيان معلوم القسمات محدود المعالم هو الذي أطلقنا عليه اسم «تجارة»؟ إن نظرة واحدة فاحصة تكفيك لتعلم أن ما هنالك هو مجموعة «علاقات» بين أفراد من الناس بعضهم مع بعض، فالذي أسميناه «تجارة» ليس «شيئا» ولكنه نمط من تفاعلات، كذلك قل في «المدينة» ولتكن هي مدينة القاهرة مثلا، إن ما جعلها كذلك هو مجموعة سكانها الذين يعيشون فيها، وهذه المجموعة تزيد وتنقص وتموت وتولد وتنشط وتتاجر، إنها كخلية النحل، يكون لها «شكل» عام، لكن المحتوى هو في حركة دائبة لا تستقر لحظة، وكذلك قل في «المسرحية» وفي «الموسيقى»، كلها أنساق من «علاقات» وأنماط من حركة وأطر من بناء، إنك لا تنتظر لترى موضوع المسرحية المعينة ومضمونها الفعلي لتقول إنها مسرحية، بل يكفيك أن تعلم أنها قد صبت في الإطار المعلوم الذي هو شكل المسرحية كما نعرفه أو كما نريده، ولقد يخيل إليك بعد هذه الأمثلة أن الكائنات صنفان: صنف له طبيعة «الأشياء» الثوابت ذات «الجوهر» المعلوم، وصنف آخر له طبيعة الهيكل البنائي، تحدده «العلاقات» الرابطة لأجزائه، لكن الجديد في وجهة النظر المعاصرة هو أن كل حقيقة في دنيا الواقع أو في عالم الفكر إنما تحددها طريقة بنائها، كما هي الحال بالنسبة إلى «الذرة» في التصور الحديث.
هاك مزيدا من أمثلة تبين أبعاد هذه الفكرة الخصبة الجديدة لتتمثلها في مختلف أبعادها؛ لأنها من الفكر المعاصر بمنزلة الركيزة التي يعتمد عليها البناء، إذا سئلت: ما الذي يجعل ملايين البشر نوعا واحدا؟ كان الجواب فيما مضى هو أنهم جميعا يتميزون بما يسمى عقلا، وأما الجواب الأصح فهو أنهم جميعا ذوو «بنية» واحدة، أو هم ذوو «تشريح» واحد؛ أي إن الطريقة التي تتصل بها الأعضاء بعضها ببعض ليكتمل بها بناء عضوي معين طريقة واحدة فيهم جميعا، كذلك قل في كل نوع حيواني على حدة، وكذلك قل في عالم الحيوان كله مأخوذا معا من حيث هو جنس واحد ، فالحيوان حيوان لطريقة تركيبه وأدائه لوظائفه، وهكذا الأمر في أنواع النبات، وفي النبات جملة، ما الذي يجعلنا نجمع الهملايا والألب والأنديز في اسم واحد هو «جبل»؟ إن ذلك ليس مرجعه نوع الصخور، بل مرجعه «البنية» التي على هيكلها العام قام الجبل .. تماما كما أصبحنا نحدد ذرة الهيدروجين أو ذرة الكربون بطريقة بنائها النوعي، ونحدد «الذرة» إجمالا - بغض النظر عن اختلاف أنواعها - بطريقة بنائها.
إن القطعة الموسيقية الواحدة قد تتعدد ظروف عزفها، بل قد تتفاوت إجادة العزف في كل مرة، لكننا نظل نقول عنها إنها قطعة موسيقية بعينها في جميع الحالات؛ لأن البنية الصوتية واحدة، ثم انظر! إن هنالك هذه القطعة الموسيقية كما تقع في مسمعك، وهنالك أيضا هذه القطعة الموسيقية نفسها مرقومة على «النوتة»، وهي نفسها كذلك مسجلة على شريط أو على أحد أقراص الحاكي، صور مختلفة، لكننا برغم ذلك نخلع عليها كلها هوية واحدة؛ لما بينها من تشابه في طريقة البناء.
وقل الشيء نفسه في مسرحية تمثل على المسرح كمسرحية هاملت، ثم تكون هي نفسها مكتوبة في كتاب، ويشاهدها آلاف المشاهدين، وتتعدد مرات تمثيلها بمجموعات مختلفة من الممثلين، وقد يلقطها شريط سينمائي لتعاد على الشاشة صورا متحركة، فما الذي يجعلك تقول على درجة تقرب من اليقين بأن الهوية واحدة برغم هذا التعدد والتنوع في الظهور؟ إنها البنية الواحدة.
إن الاعتماد على واحدية البنية في الحكم بواحدية الهوية لهو في صميم المنهج العلمي نفسه؛ فالعلماء يجرون التجارب في المعامل حتى إذا ما اتفقت تجربتان أو أكثر على نتيجة واحدة، كنا على اطمئنان معقول في قبولها؛ فما معنى «اتفاق» التجارب، أو «اتفاق» الشهادات عند مختلف المشاهدين؟ إن كل تجربة وحدة قائمة بذاتها، وكذلك كل مشاهدة يقوم بها مشاهد، لكن الذي يجمعها معا هو التشابه في البنية، فكأنما عديد التجارب المتشابهة قد اندمج بفضل هذه البنية الواحدة فأصبح تجربة واحدة، أو مشاهدة واحدة، إنهم ليقولون إن الموضوعية هي من أهم شروط النظرة العلمية، وما الموضوعية؟ هي أن ننظر إلى الأمر الواحد من زوايا مختلفة (أو بأعين عدة مشاهدين) فنجد أن البنية المرئية واحدة برغم اختلاف الزوايا التي ننظر منها.
إننا نقول عن خريطة جغرافية إنها صحيحة، إذا راجعناها على الواقع الذي تصوره فوجدنا الطرفين على بنية واحدة، أعني أن كل جانب من جوانب الواقع له ما يقابله على الخريطة، وتقول إن هذا الظل هو لتلك الشجرة إذا رأيت اتفاقا بينهما في البنية، برغم ما قد يكون بينهما بعد ذلك من اختلاف في الأبعاد المكانية وفي مادة المضمون الفعلي، وما أكثر ما تهتدي الشرطة إلى مجرم معين ارتكب عدة جرائم، بالأسلوب الذي يرونه مشتركا بينها! فالجرائم قد اختلفت وتعددت، لكن يوحد بينها أنها قامت كلها على بناء واحد، يقف المذيع أمام المذياع ويرسل موجات صوتية، تتحول إلى موجات كهرومغناطيسية، ثم تعود في الطرف الآخر إلى موجات صوتية كما كانت، والذي يجعلها - برغم هذه التحولات على الطريق - تثبت على صورة واحدة نسمعها في الطرف الآخر وكأننا نسمعها عند نطقها في الطرف الأول، هو أن البنية تظل واحدة من أول الطريق إلى آخره، بل لماذا لا نضرب المثل بأنفسنا إذا سمعنا محدثا يتحدث إلينا مباشرة، إنه يبعث موجات صوتية تنتقل على الهواء إلى الأذن، ثم تتحول في عصب السمع إلى حركة من نوع آخر، وتصل إلى المخ على أسلاك الجهاز العصبي، لكنها مع تحولاتها هذه تحتفظ ببنية واحدة هي التي تضمن أن يكون الصوت المسموع مطابقا للصوت المنطوق في الصورة وإن اختلفا في المادة، وهكذا وهكذا، أمثلة لا حصر لها من إدراكنا للأشياء من حولنا، ومن إدراكنا للأفكار العلمية وغير العلمية على السواء، كلها تؤكد أن اعتمادنا في معرفة دنيانا لم يعد على إدراكنا ل «جواهر» الأشياء، بل لطرائق بنائها وأدائها لوظائفها وفق ذلك البناء.
إلى هنا وقد أشرنا إلى لمحة من الوقفة العصرية في أحد جوانبها، وخلاصتها أن المعول في معرفتنا لحقائق الأشياء والمواقف، لم يعد على إدراكنا ل «جوهر» غيبي قائم فيها، بل المعول في ذلك إنما هو على إدراكنا لشكل بنائها، وبالتالي فهو على إدراكنا ل «العلاقات» المحددة لصورتها، وبقي أن نبين كيف أن هذا الفكر الجديد قد اقتضى منطقا جديدا.
لا بد لي بادئ ذي بدء أن أنبه القارئ إلى مجمل المعنى الذي يقصد إليه دارس الفلسفة بما يسمى «منطقا»؛ لأن هذه اللفظة كثيرا ما تستخدم في حياتنا الفكرية الجارية بمعان أخرى، ليست هي المعاني التي اصطلح عليها الدارسون، فباختصار شديد نقول إن المنطق هو استخراج للصور الشكلية التي نظن أن تفكيرنا العلمي يسير على نهجها، ولما كان هذا الفكر العلمي نفسه يتوقف إلى حد كبير على ما «نعتقد» أنه الواقع، كان المنطق كذلك - في صوره التي يتابع بها سير الفكر العلمي - متوقفا أيضا على ما «نعتقد» أنه حقيقة الواقع، كل ما هنالك من فرق بين «العلوم» المختلفة في موضوعات بحثها، وبين «منطقها»، هو أن للعلوم مادة معينة، كالضوء أو الصوت أو النبات أو الحيوان، وأما المنطق فهو يطرح من حسابه تلك المادة المعينة ليتابع «شكل» التفكير وكيف تتتابع خطواته، نتائج من مقدمات، لكن العلوم ومنطقها معا يرتبطان بأوثق الروابط مع ما «يعتقد» الإنسان - في العصر المعين - أنه طبيعة الوجود.
وكان أرسطو - كما نعلم - هو واضع «المنطق» كما عرفه عصره والعصور التالية لعصره حتى عهد قريب، فكيف كانت «العقيدة» عندئذ فيما يختص بطبيعة الوجود؟ كانت «الطبيعة» عندهم طبيعتين: إحداهما هي هذه الأشياء التي تظهر من حولنا وتختفي، هي هؤلاء الأناسي، وأفراد الحيوان والطير، هي هذه الشجرات والصخرات والأنهار والبحار، هي هذه الشمس وهذا القمر وتلك الكواكب والنجوم ... تلك هي إحدى الطبيعتين، ولما كانت كائناتها - كما ترى - متغيرة متحولة، فهي طبيعة لا تصلح أساسا لعلم ثابت مكين؛ إذ العلم الثابت لا بد أن يكون علما بما هو ثابت كذلك.
وهنا يأتي تصورهم لطبيعة أخرى، قوامها «الأفكار» لا مفردات الأشياء، والأفكار إنما تتعلق ب «الأنواع» لا بالأفراد الجزئية، ففكرتنا عن «المربع» ليست مرهونة بمربع يرسمه تلميذ على ورق؛ لأن الرسم - مهما دق - فلن يبلغ حد الكمال في استقامة الخطوط واكتمال الزوايا، وإنما ترتهن فكرتنا عن المربع بتعريف عقلي له، نحدد به جوهره، وهكذا قل في كل شيء، فكرتنا عن «الإنسان» لا ينبغي أن ترتكز على ما نشاهده في فلان أو فلان؛ لأن هؤلاء الأناسي قد يتفاوتون كمالا، لكن ليس فيهم واحد نستطيع أن نقطع بأنه هو فكرة الإنسان في غاية كمالها، وإذن ففكرتنا عن الإنسان قائمة على تعريف عقلي له، نحدد به جوهر حقيقته، وهلم جرا.
وعلى هذا الأساس - أساس «الجوهر» - أقام أرسطو «منطقه»؛ لأنه هو نفسه الأساس الذي أقام عليه العلم عندئذ بناءه، وتستطيع أن تدرك الفرق بين ما هو «فرد» متغير وبين ما هو «جوهر» للنوع، بأن تقارن الأسماء التي نطلقها على الأفراد بالأسماء التي نطلقها على الأنواع، قارن بين قولي «معاوية» وقولي «إنسان»؛ الأول اسم لفرد، ولذلك لم يكن يمثل عندهم «فكرة علمية»، وأما الثاني فاسم لنوع، ولذلك فهو يتضمن فكرة علمية لأنه يتضمن تعريفا محددا لنوع بأسره.
من نقطة الابتداء هذه انطلق أرسطو يبين لنا كيف تتحد في أذهاننا تصوراتنا الذهنية عن الأنواع، ثم كيف تتدرج الأنواع في سلم هرمي تحت أجناس أعم منها، وهذه تحت أجناس أعم ... وهكذا، فإذا نحن أحكمنا هذا البناء الهرمي الذي يشمل جميع «الأنواع» وأجناسها، كنا بمثابة من أحاط بعلم الطبيعة كما هي قائمة في عالم الثبات العقلي، لا كما هي منظورة في جزئيات العالم الحسي، ومن تصوراتنا الذهنية عن الأنواع نستطيع أن نبني أحكامنا على حقائق الوجود، بأن نربط بين تصورين منها ربطا يثبت أحدهما للآخر أو ينفيه عنه، وكلما انتهينا إلى حكم صادق من تلك الأحكام، كان لنا أن نستدل منه أحكاما أخرى، وهكذا دواليك.
الذي أكسب المنطق الأرسطي قوته الجارفة التي مكنته من البقاء أكثر من عشرين قرنا، هو أنه يساير إدراكنا الفطري للأشياء، فنحن بالفطرة أميل إلى الاعتقاد بأن ما تقع عليه أبصارنا، أو أية حاسة أخرى من حواسنا، كالكرسي والقلم والفنجان والنافذة والسمكة والطائر والسحابة والشجرة، إنما هو ذو كينونة مستقلة قائمة بذاتها، وما علينا بعدئذ إلا أن ننتقل من الكرسي الفرد إلى الكرسي بالمعنى العام، ومن القلم الفرد إلى القلم بالمعنى العام ... وهكذا، فتكون لدينا «التصورات» التي نبني عليها علمنا بالوجود، وحتى إذا وجد الإنسان بين يديه ألفاظا تسمى كائنات مجردة، كالحرية والجمال والفضيلة وغير ذلك، فلن يرى في الأمر بعد ذلك عسرا حين يجريها في الطريق الاستدلالي الذي رسمه المنطق الأرسطي؛ لأنه لن يطالب ب «تحليل» هذه المعاني بحيث يردها إلى عناصرها الأولية، فما عليه - مثلا - سوى أن يقول: إن كل ما في الكون قد جاء على نظام جميل، وهذا الواقع الفلاني هو جزء من الكون، وإذن فلا بد أن يكون على نظام جميل، فإذا لم تكن عيني ترى فيه النظام الجميل فلأنها عين عشواء، أما أن يحلل المتكلم معاني «الكون» و«النظام» و«الجمال» فليس ثمة ما يحتم عليه ذلك في منطق الفكر القديم.
فماذا - إذن - عن المنطق الجديد؟ أرجو ألا يكون القارئ قد نسي الجانب الذي ركزنا عليه القول في الفكر الجديد، وهو أننا نلتمس حقائق الأشياء في طرائق بنائها، لا في «جوهر» أنواعها، أعني أننا نلتمس تلك الحقائق في «العلاقات» الرابطة بين الأطراف، أكثر مما نلتمسه في الأطراف نفسها المرتبطة بتلك العلاقات، وذلك نفسه هو شأن «الرياضة»، فأنت حين تقول أن: «2 +3 = 5» تقولها ولا تدري ما هي «الأشياء» التي سترتبط بهذه العلاقة الرياضية؟ هل هي برتقالتان وثلاث برتقالات؟ أو هي كتابان وثلاثة كتب؟ ولم يبعد برتراند رسل عن الصواب قيد شعرة حين قال بطريقته الخاصة في التعبير: إن الرياضي هو الرجل الذي لا يعرف عم يتحدث. وكذلك الشأن في المنطق الجديد: هو منطق ل «العلاقات» لا لحقائق الأشياء المتعلقة بها، وإذا أحكمنا بناءه، كان لك أن تملأ إطار تلك العلاقات بأي شيء أردت.
إنها لم تكن مصادفة عمياء في تاريخ الفكر المعاصر، أن ظهرت فكرة الوحدات الذرية في أكثر من ميدان، وعلى فترة قصيرة، ففي وقت واحد تقريبا ظهرت النظرية الذرية في الفيزياء، كما ظهر كذلك تحليل الكائنات العضوية إلى «خلايا »، كأنما الخلايا في البيولوجيا هي المقابلة للذرات في الفيزياء، ثم ظهرت بعد ذلك بقليل نظرية برتراند رسل في «الذرية المنطقية» وهي ما نعنى به بصفة خاصة في هذا الحديث.
فلقد كان معظم الخطأ في التفكير، ينشأ عن خلط الإنسان بين ما هو «فرد» وما هو «مجموعة» حتى كاد ألا يفرق بين قولنا «هذه الشجرة» و«الشجر» أو بين قولنا «عباس العقاد» و«إنسان»؛ لذلك كان إذا ما صادف جملة تتحدث عن مجموعات (والأكثرية العظمى مما يقوله الناس أو يكتبونه هو عن مجموعات لا عن مفردات) ظن أنها تتحدث حديثا مباشرا عن الأشياء الواقعة، مع أن هذه الأشياء الواقعة لا تكون إلا مفردات، فإذا جاء كلام المتكلم عن مجموعات، كان معنى ذلك أن كلامه هذا يحتاج إلى خطوة وسطى ترده أولا إلى صورة لفظية تشير إلى مفردات، قبل أن يتوافر لنا إمكان التقابل بين البناء اللفظي وبناء الواقع الخارجي، فافرض - مثلا - أني قلت لك جملة كهذه: «العرب روحانيون.» وأردت أن تفهم عني القول فهما علميا دقيقا، فأول ما تصنعه هو أن تحلل هذه الجملة التي يدور فيها الخبر حول «مجموعة» هي «العرب»؛ أي أن تحللها إلى قائمة من جمل يكون موضوع الحديث في كل منها شخصا عربيا واحدا يقع لك في مشاهداتك، وبعد أن تحلل المقصود من لفظة «روحاني» إلى عناصرها المكونة لها، عندئذ يكون بين يديك عبارات عن أشخاص بأعينهم يتصفون بصفات معينة، فيكون التقابل بين العبارة والحالة الواقعة تقابلا مباشرا، وبتعبير مختصرا: لا بد أن تحلل الكلام المجمل إلى «ذراته» لتتمكن من مراجعة كل ذرة فكرية على الواقعة المفردة التي جاءت تلك الذرة لتصفها، أما أن تترك الكلام على إجماله، ثم يخيل إليك أنك قادر على الحكم بصوابه أو ببطلانه، فذلك هو المنزلق الذي يؤدي إلى الضلال، وأهم ما نلفت إليه النظر هنا، هو هذا المعيار: إذا وجدت أن الكلام المجمل العام يستعصي على الرد إلى ذرات فردية في دنيا اللفظ وفي دنيا الواقع الذي يقابل اللفظ، فاعلم أن أرجح الرأي عندئذ هو أنك بإزاء كلام بغير معنى.
لعلك قد سمعت بما يسمى في عصرنا ب «المنطق الرياضي» (أو المنطق الرمزي)، بل لعلك قد سمعت كذلك بالاتجاه الجديد الذي بدأه رجال التعليم في أقطار كثيرة من أرجاء الأرض (وبينها بعض الأقطار العربية)، وهو أن يتخذ تدريس الرياضة صورة جديدة تختلف اختلافا واضحا عن الصورة التي ألفناها في المدارس، وهو اتجاه جاء نتيجة مباشرة للمنطق الجديد الذي نتج بدوره عن اللفتة الفكرية الجديدة في عصرنا الراهن.
وخلاصة هذا الاتجاه هي أننا قد كشفنا آخر الأمر عن حقيقة مهمة، وهي أن تفكير الإنسان في حياته العادية وعن الأشياء المألوفة، إنما يجري - في أساسه - على أسلوب الرياضة في جريانها، لقد لبث الإنسان قرونا، يظن أن الفكر في مجال الرياضة له طريقته ورموزه التي نعرفها جميعا، وأما في الحياة المألوفة الجارية فقد تقول مثلا: «البرتقال أصفر»، فيكون قولك من نوع آخر لا يمت إلى الرياضة ورموزها بسبب، ومن ثم جاء المنطق الأرسطي القديم ليواجه حالات الفكر التي من هذا القبيل، بعبارة أخرى، كان الظن أن الرياضة إنما تهتم بدنيا «الكم»، وأما «المنطق» فيهتم بدنيا «الكيف».
فلما وقف نفر من أعلام الرياضة وأعلام المنطق خلال القرن الأخير، وقفتهم التي أرادوا بها أن يزدادوا تحليلا وفهما للعلاقة بين الرياضة والمنطق، وقعوا على هذا الكشف العلمي الخطير، وهو: أولا: أن أسس الرياضة (كفكرة العدد) يمكن تحليلها بأسرها إلى مفهومات من النوع الذي يتناوله المنطق بالدراسة، وثانيا: أن المنطق بدوره يمكن أن يقام له بناء جديد يقوم على الأسلوب الرياضي، بمعنى أن يقنن جهاز من الرموز تدار في إطاره عمليات الاستدلال، تماما كما تفعل الرياضة، حتى لا يتعثر الفكر بما تشتمل عليه ألفاظ اللغة العادية من مشحونات غامضة، وبهذا نكون قد ضممنا عالمي التفكير: التفكير فيما هو «كم» والتفكير فيما هو «كيف» في جهاز رمزي واحد، وهذا هو ما يحاوله أصحاب الفكرة الجديدة في تدريس الرياضة على أسس المنطق الرمزي.
أنكون قد شطحنا بالقارئ إلى سماء التجريد أكثر مما ينبغي؟ قد نكون، لكننا لن نأمل في إصلاح فكري إلا إذا تناولنا علة الفساد من جذورها، فالفكر العربي ما يزال إلى يومنا غارقا في ضروب من الفكر عتيقة ذهب زمانها، ولم يعد لها أثر عند قادة الحضارة العلمية الراهنة، وذلك من وجهين على الأقل؛ أحدهما: أنه ما يزال يضمن في تفكيره عن الكائنات أنها ثوابت في طبائعها، كأنما لكل كائن «جوهره» الذي لا يتغير مع الزمن، مع أن عصرنا - كما أسلفنا - قد استبدل بهذه الفكرة فكرة أخرى، وهي أن الكائن المعين أو الموقف المعين إنما هو «نمط من علاقات»؛ أي إن وجه الثبات هو في صورة البناء، لا في المضمون الذي يملأ تلك الصورة، إذ قد يتغير هذا المضمون مع ثبات الصورة، فيبقى للشيء ثباته ودوامه، وثانيهما: أنه (أعني الفكر العربي) لا يكاد يعبأ عند قبوله الأفكار التي تعرض عليه، بأن ينظر ليرى إن كان في دنيا الواقع «مفردات» تؤيدها؛ ليكون على استعداد لرفض أي فكرة لا يجد لها وسيلة للتطبيق.
أما عن الوجه الأول فانظر في حياتنا الاجتماعية كيف كان لوقفتنا المخطئة أبلغ الأثر، ويكفي أن نسوق مثلا واحدا: النظم الاجتماعية بما في ذلك النظم السياسية، فانظر إلى بلد أشرب أهله باللفتة الفكرية الجديدة، تجدهم هناك على عقيدة راسخة بأن الجانب الثابت من النظم الاجتماعية والسياسية هو بنية الإطار، وأما الأفراد أنفسهم فيجيئون ويذهبون، فليست العبرة بأشخاص الرجال في ذواتها، بل هي في الدور الذي يؤدونه في المجموعة المنغومة التي هم أعضاؤها؛ ولذلك فقد يجيء حاكم ويذهب حاكم، لكن إطار الحكم نفسه باق وثابت، إن الديمقراطية أو الدكتاتورية أو أي نظام سياسي شئت، إنما هي «تركيبة» معينة، إذا بقيت على طريقة بنائها بقيت صورة الحكم كما هي، مهما تبدل عليها أشخاص الحاكمين، قل مثل ذلك في مؤسسات التجارة والصناعة وغيرها من منظمات المجتمع المتطور، تجدها هناك قادرة على البقاء عشرات من السنين متوالية؛ بسبب أن أصحابها يحافظون على «كيانها» الذي بنيت على أساسه، برغم تبدل الأشخاص الذين يتولون أمورها، الأمر في كل هذا كالأمر في فريق الكرة - مثلا - حيث يكون الجانب المهم فيه هو الدور الذي يؤديه الفرد الواحد في موضعه من التكوين الجماعي، وليس هو أنه فلان بن فلان من الأسرة الكريمة الفلانية، إن المجتمع الحديث هو مجتمع من نظم قبل أن يكون مجتمعا من أفراد، وليس في ذلك حيف على الفرد، ما دمنا نفهم الفرد على أنه عضو في جماعة .. قارن كل هذا بما هو شائع في حياتنا، تجد الوزن كله - أو معظمه - في شخصية الفرد من حيث هو فرد، لا يربط علائقه بالنظام الذي هو عامل فيه بقدر ما يربطها بالأسرة التي جاء منها، المهم عندنا هو «من هذا الرجل؟» لا «أين موقع هذا الرجل من البناء الاجتماعي وماذا يؤديه؟» ولا غرابة أن نجد النظام - كائنا ما كان، سياسيا أو اجتماعيا أو تربويا أو غير ذلك - ليس له الأهمية الأولى بحيث يدخله الأفراد ليخدموه ثم يذهبوا عنه وهو أكثر رسوخا، بل إننا لنجد عندنا أن أيسر الأمور علينا هو أن يتحطم النظام القائم على يدي كل قادم جديد، ليقيم هذا القادم الجديد نظامه الخاص؛ إمعانا منه في توكيد شخصه هو على حساب أي بناء اجتماعي أو سياسي قائم.
وأما عن الوجه الثاني، الذي هو مراجعة القول على وقائع العالم، فحدث في أمره وليس عليك من حرج؛ لأنك مهما أسرفت فلا مبالغة فيما أسرفت به، فإننا أمام الأقوال لفي غيبوبة المنتشي بخمر، فننسى أن القول إنما يقوله صاحبه - في ميادين الجد - ليعني به شيئا من مفردات الواقع، ننسى ذلك إلى الحد الذي قد يميل بالرأي العام بين المثقفين - ودع عنك جمهور الناس - إلى ازدراء من يطالبهم بأن يكون معنى الكلام في دنيا التطبيق والعمل .. وإن الحديث في هذه الآفة ليطول، فإذا كان قادة الحضارة في عصرنا مشغولين «بالتكنولوجيا»، فنحن مشغولون - كما قلت مرة في إحدى المناسبات العامة - ب «الكلامولوجيا».
ألا إن في عصرنا لفكرا جديدا، ولهذا الفكر الجديد منطق جديد، فإما قبلناهما في شجاعة من أراد لنفسه مسايرة زمانه ، أو رضينا بالتخلف الفكري في غير شكاة ولا ضجر.
دماغ عربي مشترك
كنت أستطيع أن أجعل العنوان «عقل عربي مشترك»، أو «فكر عربي مشترك»، أو ما يشبه هذا؛ لأضمن به لفظا مألوفا، لكني تعمدت الإشارة إلى «الدماغ»؛ لأنه هو العضو الذي يجيء العقل أو الفكر وظيفة له، كما تكون العين عضوا والبصر وظيفته، والأذن عضوا والسمع وظيفته، وهلم جرا، والجانب المفقود في حياتنا الثقافية العربية - فيما أرى - ليس هو الوظيفة بقدر ما هو العامل الذي يعضونها في كيان؛ إذ قد نجد قطرات من «الفكر» مبعثرة هنا وهناك، في الكتب والصحف، لكنها تفتقر إلى «العضو» الذي يجمع أشتاتها في تيار واحد متجانس الطبيعة والهدف، برغم ما قد يكون فيه من كثرة وتباين، ولو كانت حياتنا الثقافية مكتملة النماء لجاءها توحيد الأجزاء من أعصابها وشرايينها، ولكنها ليست كذلك، فأصبح حتما أن نصطنع لها جهازا يوحدها حتى تسترد العافية.
وإننا إذ نبحث لأشلائنا الفكرية عن شريان يجعل منها كائنا حيا حساسا لما حوله، مستجيبا له على النحو الذي يكفل له البقاء والقوة، فإنما نساير عصرنا في صفة لعلها أبرز ما يميزه من صفات، فبينما غلبت على العصور السابقة نزعة فسيفسائية في بناءاتها الفكرية، ترى عصرنا أميل إلى دمج الأجزاء المنفصلة في تيار متصل، وهذا هو نفسه الفرق بين طريقتين في التفسير: التفسير بنظرة آلية تجاور بين الأجزاء ولا تسكبها في تيار، والتفسير بنظرة حيوية عضوية تسيل الأجزاء في خط موصول، النظرة الأولى سكونية في أساسها، والثانية حركية، فلو أمعنت النظر في الفكر الأوروبي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر (ولتذكر جيدا أن أوروبا هي القابضة على زمام الحضارة خلال الخمسة القرون الأخيرة، أحببنا نحن ذلك أم كرهناه، ثم أضيفت إليها الولايات المتحدة أخيرا)، أقول: إنك لو أمعنت النظر في الفكر الأوروبي خلال الفترة التي سبقت عصرنا، وجدته نابعا من أساس مشترك، هو تحليل الكل إلى أجزائه؛ بحيث لا يجعلون من الكائن - أيا ما كان - أكثر من حاصل جميع أجزائه ؛ «فالعقل» مثلا هو مركب قوامه مجموعة انطباعات حسية، تظل تتجمع داخل رءوسنا وتتشكل في طرائق تركيبها، فينشأ منها «الأفكار» من أدناها إلى أعلاها (راجع فلسفة هيوم)، و«المكان» مجموعة نقاط، و«الزمان» مجموعة لحظات، و«العالم» كله مجموعة عناصر أولية، و«الإنسان» نفسه - كأي كائن حي - مجموعة أعضاء تعمل معا كما تعمل أجزاء المكنة، وعلى أساس هذه النظرة التحليلية ظن رجال الفكر عندئذ أن عناصر الوجود كله أو مكوناته الأساسية قد يتصل بعضها ببعض، أو ينفصل بعضها عن بعض، فيتكون باتصالها أو بانفصالها تلك الظواهر الطبيعية المعينة، أو ذلك الكائن المعين من الكائنات، أما الكون في مجموعه فهو دائما ذو حاصل واحد، لا يزيد جزءا ولا ينقص جزءا، وإذا جاز لي أن أشبه الموقف الفكري عندئذ بتشبيه يقرب الصورة إلى الأذهان، قلت إن الأمر كان كما لو كان عندك ورقة نقدية بعشرة دنانير، هي كل ما لديك من مال، تستطيع أن «تفكها» - أي تحللها - إلى آحاد أو إلى قروش، أو إلى قطع من ذوات العشرة القروش، على ألا يزيد المجموع النهائي دائما عن عشرة، مهما تنوعت الصورة التي تضعها فيها من صنوف النقد المتاحة.
ذلك ما قد كان عليه تصور الناس لطبيعة الكون ولطبيعة الإنسان ولطبيعة الفكر والفن، فجاء عصرنا ليغير هذا التصور من أساسه، وذلك بأن أحل محل الكل الثابت الذي لا ينقص ولا يزيد، صورة أخرى للكون وللطبيعة ولعالم الأحياء - ومنه الإنسان - تجعل الكل ناميا أبدا، متطورا أبدا، فهو أبدا يزداد اتساعا ويزداد غزارة وحصيلة، ولقد اقتضت هذه الصورة الجديدة عدة نتائج، منها أن الشريحتين المتعاقبتين من الزمن، وإن تساوتا رياضيا فلن تتساويا في كثافة الخبرة وغزارتها؛ لأن الشريحة التالية في الترتيب لا بد بالضرورة أن ترث حصيلة الشريحة السابقة، ثم تضيف إليها ما قد استحدثته هي بفعل النمو والتطور، ومن النتائج كذلك - وهو ما يهمنا هنا في سياق حديثنا الراهن - أن تكون الأجزاء في أي كيان تختاره للنظر، متلاحمة بعضها في بعض ليتكون منها سيال واحد، فإذا أنت فككت هذا التيار الدافق إلى قطراته، كما تنثر حبات العقد، بطل أن يكون كائنا حيا ناميا، وبالتالي فاتت عليه فرصة النمو والتطور وبلوغ النضج والإثمار.
وعلى هذا الضوء المبدئي العام، نعود فننظر إلى موضوع حديثنا هذا الخاص، وهو حالة العقل العربي اليوم، فنقول إنه إذا ثبت صدق ما أزعمه له، وهو أنه حتى على فرض أن هنالك جملة أفكار تنبت على أرضنا هنا وهناك فهي أفكار مفرقة مجزأة، مرصوص بعضها إلى جوار بعض - على أحسن الفروض - لكنها غير مترابطة معا في كيان عضوي واحد، وإذن فلا أمل لها - إذا بقيت على هذه الحال - في أن تسعفها عوامل النمو والنضج والإثمار، ما لم ينشأ لها ما يقابل «الدماغ» من الجهاز العضوي في الفرد الواحد.
إن لأصحاب التفسير البيولوجي للتاريخ في عصرنا، وأظن أن في مقدمتهم جميعا المفكر الفرنسي المعاصر «تيار دي شردان»
Teilhard de Cardin ؛ رؤية للحقيقة - حقيقة الكون وحقيقة الإنسان - يصلون إليها عن طريق نظريتهم الخاصة في تفسير التطور، أحسبها معينة لنا أنفع العون فيما نحن الآن بصدد الحديث فيه، حتى وإن كانت لنا اعتراضات على تفسيرهم للتطور بصفة عامة، وأساس تلك الرؤية التي أشرنا إليها، هو أولا: أن ننظر إلى التطور فيما قبل ظهور الإنسان نظرة تختلف عنه فيما بعد ظهور الإنسان، وبالنسبة للإنسان وحده دون سائر الكائنات، فأما قبل ظهوره فقد كانت القوة الباطنية الدافعة قوة طاردة، بمعنى أنه كلما ظهر جنس حيواني معين إلى الوجود، فهو لا يلبث أن يتفرق في أنواع مختلفة، يتميز كل منها بخصائصه، برغم اشتراك الأنواع كلها في أرومة واحدة، وأما بالنسبة إلى الإنسان، فالقوة الباطنية الدافعة هي قوة ضامة أو جاذبة، تدأب على تجميع الأطراف نحو مركز واحد، حتى لا تتفرق أنواعا كما حدث في دنيا الحيوان والنبات؛ ولذلك لبث الإنسان بين سائر الكائنات الحية جميعا، وحيدا في كونه نوعا واحدا، ولم يتكاثر أنواعا متباينة، كما نرى مثلا في عالم الحشرات التي تزيد أنواعها على نصف المليون، وفي عالم الطير الذي تقرب أنواعه من تسعة آلاف، لكن الإنسان - وإن صمد على مجرى الزمان نوعا إنسانيا واحدا - فقد استعاض عن التنوع البيولوجي تنوعا آخر، هو التنوع في الثقافات. ومع ذلك فحتى هذا التشتت الثقافي، سرعان ما يجد له دائما مراكز حضارية كبرى، تجمع خيوطه في قبضتها الواحدة، فيظهر العصر وكأنه متميز بطابع فكري واحد.
وثانيا: تتميز رؤية الحقيقة من وجهة نظر التفسير البيولوجي للتاريخ بمبدأ هام، وهو أن البناء العضوي صفة لا تقتصر على الكائن الفرد، بل تتسع لتشمل مجموعات الأفراد؛ فما يصدق على الفرد الواحد من حيث الترابط والتعاون بين أعضائه الكثيرة المتنوعة، بحيث يصبح برغم كثرة أجزائه كائنا واحدا ذا هدف واحد ووجهة نظر واحدة؛ يصدق أيضا على «المجموعة» إذا تعضونت بحيث تصبح هي الأخرى - برغم كثرة أفرادها - وكأنها فرد واحد في اتجاهه وغاياته ووجهة نظره، وذلك بما يكون عندئذ بين هؤلاء الأفراد من ترابط وتعاون؛ شريطة أن يكون لهذه المجموعة من الخصائص العضوية الموحدة ما للفرد، وأهم تلك الخصائص أن يكون لها «دماغ» يتولى التوجيه والتوحيد، ولقد حرصت على ألا أقول هنا كلمة «رأس»؛ لأنها كلمة سرعان ما تتحول في أوهامنا إلى «رئيس»، ثم تتوالى بعد ذلك النتائج، التي لا بد لها - في مناخنا الثقافي الذي تغلغل في كياننا حتى العظام - أن تجعل بين الرئيس والأعضاء حاكما ومحكوما، ومستبدا وخاضعا، وآمرا ومطيعا، وهو ما لا يطوف لي ببال حين أريد الانتفاع بفكرة «الدماغ» في عملية التوحيد العضوي.
هي رؤية تنفعنا نفعا عظيما في إيجاد الوحدة الفكرية الحية النامية التي تبلغ النضج في حينه وتعطي الثمر في إبانه؛ ففي ضوئها نفهم لإحياء تراثنا العربي معنى وقيمة؛ إذ لو سألني سائل (وقد وقعت على السؤال مطروحا في بعض مجلاتنا العربية التي تشتعل على صفحاتها ألسنة من لهيب الثورة الفكرية الجامحة عند طائفة من شبابنا)، أقول إنه لو سألني سائل: فيم العناية بتراثنا الفكري وعصرنا قد اختلف كل هذا الاختلاف عن عصور آبائنا؟ لأجبته - على ضوء الفكرة العضوية التي أسلفنا ذكرها - أننا نحن مع هؤلاء الآباء تيار حيوي واحد ، إذا بترت جزءا منه؛ فني هذا الجزء بالذبول والضمور، فالموت. وليس هذا القول من قبيل التشبيهات البلاغية الجوفاء، لكنه تصوير دقيق لما يقع ويحدث؛ لأننا قد نسأل بدورنا: إذا نحن أهملنا تراث الآباء الفكري إهمالا تاما، فماذا تقترحون لحياتنا الفكرية عندئذ؟ أتقولون مثلا: نقتصر على نتاج أوروبا وأمريكا الآن؟ لكننا لو فعلنا ذلك، ألا يكون فيه «فناؤنا» الفعلي بأن جعلنا أنفسنا خلايا في جسم آخر، هو جسم أوروبا أو أمريكا أو كلتيهما، لو كانا متحدين في كيان واحد؟ وبالفعل هذا ما قد حدث لطائفة من رجال الفكر فينا، ملئوا شرايينهم بثقافة غربية خالصة، فكان وجودهم بيننا وجودا جغرافيا وجوارا مكانيا فقط، وأما أن يشاركونا في الوجود «الزماني»، أي الوجود الذي يمتد ليصل أمسنا بيومنا، ثم ليصل هذين معا بالغد، فذلك ما يستحيل عليهم؛ ومن ثم فهم لا يدخلون حلقات من تاريخنا الفكري، ومع ذلك كله، فلا بد لي من التحذير بأن يؤخذ كلامي هذا على أنه دعوة لقبول الثقافة الموروثة بقضها وقضيضها، بغثها وسمينها؛ فذلك ما لست أعنيه ولا أريده؛ لأنه لو حدث، كان هو الآخر موقفا يند عن وجهة النظر العضوية التي ننظر منها؛ لأنها نظرة تحتم علينا شيئين في آن معا: أن يكون الحاضر موصولا بالماضي في شريان واحد، وأن يكون الحاضر أغزر من الماضي وأضخم وأغنى، بما يستحدثه ويضيفه خلقا جديدا.
الوراثة في عالم النبات والحيوان مقصورة على ما تنقله الناسلات من الوالد إلى الولد، وأما في دنيا الإنسان فيضاف إلى هذا الجانب الجسماني وراثة أخرى، هي الوراثة الثقافية، فلا مندوحة لي - إذا أردت لنفسي «حياة» فكرية صحيحة - عن تشرب العقل العربي كما تجلى في تاريخنا الفكري، لا لأقف عنده خاشعا عابدا، بل لأتصرف فيه تصرف الأحرار فيما بين أيديهم من أدوات نافعة؛ فلئن أخذت قوامي وقامتي وبشرتي وسماتي عن طريق الناسلات العضوية، فلا بد أن يضاف إلى ذلك كله أن أسقى شراب الأقدمين من آبائي، شريطة أن يسري ذلك الشراب سريان العصارة الحية، وذلك هو على وجه الدقة جانب «التربية» الذي ينضاف إلى جانب التعليم والتدريب المهني؛ ليكون لنا من ذلك «المواطن العربي» إلى جانب الكائن البشري متمثلا في - أو مصبوبا في - «الفرد» البيولوجي، الذي هو واحد من آحاد تعد بالملايين من سكان الأرض، لا فرق بين واحد منهم وواحد.
نظرتنا إلى الجهاز الإدراكي كله عند الإنسان، إذا نحن أخذنا بمبدأ التفسير البيولوجي الذي أسلفناه، تعلو به درجة عن مستوى الإدراك الفردي؛ فإذا كان المخ عند الفرد الواحد مؤلفا من خلايا كثيرة تعضونت لتعمل معا؛ فالدماغ الجماعي المشترك خلاياه الكثيرة هم الأفراد من أصحاب الفكر العلمي، أو الخلق الفني، أو ما شئنا من مجالات النشاط العقلي، وإن تضامن المنتجين في كل ميدان بعضهم مع بعض، من شأنه أن يصعد بالوعي إلى درجة أعلى من درجته وهو عند الفرد الواحد، ولست أقصد بهذا ذلك الضرب من العقل الجمعي الذي قال به علماء الاجتماع في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن، بل أقصد إلى نوع من المشاركة يزيد فاعلية الأفراد، وإذا شئت توضيحا فقارن لنفسك بين حالتين: الأولى أن يخرج كاتب من كتابنا كتابا يبسط فيه فكرة معينة، فإذا به يجد الصدى بعد حين آتيا إلى مسامعه من سائر أجزاء الوطن العربي، فهو - مثلا - يخرج كتابه في القاهرة، فإذا هو محور للمناقشة والرد والتعديل والرفض عند حلقات المفكرين في لبنان أو الكويت أو العراق. والثانية أن يخرج الكاتب كتابه فإذا الذي يلقاه من الناس صمت أعمق من صمت القبور؛ في الحالة الأولى تكون عقل مشترك بدرجة ما، وفي الحالة الثانية بقي الفرد عند حدود فرديته.
إنني لا أفهم لإحياء التراث ودراسته معنى إلا أن ننظر إليه نظرة بيولوجية؛ بمعنى أنه يتيح لنا أن نجعل من «العربي» إنسانا واحدا امتدت حياته مئات السنين أو آلافها، بحسب العدد الذي نستطيع ربط بعضه مع بعض من حلقات الزمن ليتكون منها تيار واحد متصل، فإذا كان هذا هكذا بالنسبة إلى الماضين مع الحاضرين، فأولى به أن يكون أيضا بالنسبة للحاضرين بعضهم مع بعض، وإلا فهم حفنة من أفراد لا يتكون منهم جماعة عضوية واحدة، ومن باب أولى ألا يمكن ربطهم بماضيهم الموروث؛ وإني لأزعم أن رجال الفكر العربي المعاصر - مهما تكن قيمتهم الثقافية - مبعثرون على نحو يستحيل معه أن تلتقي روافدهم في نهر عظيم واحد، حتى لقد أمكن لهم - بحكم هذا التفكك - ألا ينتموا إلى عصر واحد من الناحية الفكرية، فمنهم من عاد بالتاريخ القهقرى ليعيش مع الأسلاف، ومنهم من عبر الحدود بعقله وخياله ليعيش مع أبناء هذا العصر من أصحاب الفكر في أوروبا وأمريكا، ومنهم من يتخبط في أعاصير الزمن فلا يدري هو نفسه في أي عصر يعيش.
كان من أهم ما يلفت النظر في الحياة الفكرية لآبائنا العرب الأقدمين تواصل قوي وثيق بين رجالها، حتى لتحسبهم في كل شريحة زمنية أسرة واحدة اجتمعت تحت سقف واحد، فها هنا كتاب يصدر في موضوع معين، فلا يلبث أن يرد عليه ناقد هناك بكتاب آخر، بل كان هؤلاء الرجال بالفعل يتنقلون ليلتقي أحدهم بأحدهم لقاء حيا، فيتبادلون الرأي، وكأن جميعهم أساتذة يعملون في جامعة واحدة، ثم لا يقتصر هذا التواصل على أبناء العصر الواحد، بل إنه ليجاوز هذه الحدود فيقوم النقاش بين لاحق وسابق، فكان لنا من ذلك كله نتاج فكري أمكن تسميته ووصفه باعتباره شجرة واحدة، وإن تنوعت فروعها وتباعدت، وهكذا الأمر في كل ثقافة قومية حية، وإلا لما استطعنا أن نفرق مثلا بين مجموعة الفكر في فرنسا ومجموعته في إنجلترا ومجموعته في أمريكا ... وهلم جرا، لكننا نستطيع التفرقة بما تتميز به كل مجموعة من طابع أصيل، نشأ بسبب ما يربط رجالها من روابط المتابعة الممزوجة بالنقد والتمحيص، لماذا تشيع الفلسفة التحليلية في إنجلترا، والفلسفة الوجودية في فرنسا، والفلسفة البرجماتية في أمريكا، والمادية الجدلية في الروسيا، إلا أن تكون هنالك الصلات القوية التي تجمع عددا من الرجال في فريق.
الحق أنه لولا هذا الدوران حول محور يجمع أشتات المجموعة الواحدة فيما يشبه الوحدة برغم تنوع الأفراد، لما أمكن لأي ثقافة أن تكتسب طابعها القومي المميز، وكذلك لولا ما يجمع المتفرقات من الثقافات القومية في فترة معينة من الزمن، لما أمكن للمؤرخ أن يميز عصرا من عصر، بل لانتفت فكرة التاريخ ذاتها؛ لأن التاريخ - بأي منظار نظرت إليه - هو التماس لروابط الوصل التي تحيل الحوادث المفككة في ظاهرها، حياة جارية موصولة الأجزاء.
على أن وسائل الربط في عالم الفكر قد اختلفت من عصر إلى عصر، ومن أمة إلى أخرى؛ فربما كانت مجالس الخلفاء والأمراء والوزراء في الحياة العربية القديمة وسيلة مهمة لذلك؛ ففي تلك المجالس كان يذكر الشاعر أو اللغوي أو الفقيه أو الفيلسوف مقرونا بما أذاعه في الناس من أدب وفكر، ليكون ذلك موضوعا لحديث الحاضرين، وموضعا للمعارضة أو التأييد، وبهذا الحوار المستمر خلق الجو المشترك للعصر الواحد، ثم للفكر العربي كله بصفة عامة؛ فأحسب أنا لو أرخنا لقصر واحد، كقصر الرشيد، أو قصر المأمون، أو قصر سيف الدولة الحمداني؛ لأرخنا لحركة فكرية أدبية بأسرها، وكذلك لو أرخت لجامع واحد من الجوامع التي كانت ملتقى الفقهاء والمفكرين - والجامع بهذا المعنى كان هو الجامعة - لتعقبت مدرسة فكرية كيف نشأت وعلى أي وجه تشعبت فروعها، وهكذا كان لنشاطهم الفكري مراكز تجمعه وتهيئ له طريق السير، ولا عجب أن أخذ أعلام الفكر في كل عصر يذرعون أرض العروبة من مشرقها إلى مغربها، ومن مغربها إلى مشرقها، كل يقصد إلى هذه المراكز يؤمها، ليأخذ ويعطي، فتندمج الروافد الكثيرة في نهر واحد عظيم.
وفي عصرنا هذا، في البلدان الرائدة، ربما كانت الملاحق الأدبية لكبريات الصحف هي التي تهيئ للناس مكان الالتقاء الفكري، الذي من شأنه أن ينسج - أسبوعا بعد أسبوع، وشهرا بعد شهر - مناخا ثقافيا مشتركا يطبع البلد الواحد، ثم يطبع العصر كله بما يميزه، وربما قامت الجامعات والمنتديات والمؤتمرات وغير ذلك من صنوف اللقاء المدبر المرسوم، بشيء من هذا التجميع؛ إنك لو سألتني - في مجال الدراسة الفلسفية - أين أجد الفلسفة الإنجليزية اليوم؟ لأجبتك جوابا يحقق كثيرا من الصواب: في مجلة
mind ، وفي الندوات الدورية التي تنظمها «الجمعية الأرسطية» هناك؛ لكن افرض ألا مجلة ولا جمعية تنظم ندوات الحوار حول الموضوع الواحد، فهل كان يسهل على الرأي المبعثر أن يتبلور فيما يسمى «فلسفة إنجليزية معاصرة»؟
وقد أتخيل قارئا «علميا» في تخصصه الدراسي يبتسم في شيء من تعجب الزراية - وكثيرا ما يفعلون - فيقول: لكن حديثك هذا كله هو عن الأدب والدراسة الأدبية، فما بالك وعصرنا عصر التكنولوجيا؟ والجواب عندي أيسر تناولا؛ لأن نظرة واحدة تكفيك لتعلم أن دنيا العلم التكنولوجي بأسرها، من غربها إلى شرقها، تسير وكأنها عقل واحد وصدر واحد؛ فكيف كان ذلك ليتحقق لولا الاتصال الوثيق بين المشتغلين في كل ميدان علمي، حتى لكأنهم يتجاورون في معمل واحد ومركز واحد للبحوث والتجارب؛ وفي سياق حديث كهذا قرأت يوما لكاتب أوروبي لفتة عجيبة، تأخذها منه أول الأمر وكأنها شطحات المتصوفة، ثم تمعن فيها النظر فإذا هي الحق أو ما يقرب منه؛ وذلك أنه كتب ليقول: إن الأجهزة العلمية اليوم تكون عالما متصلا بعضه ببعض، يكاد ينفصل وحده ليتولى تطوير نفسه بنفسه، ليخلق مرحلة رابعة من مراحل التطور الكوني: فمن المرحلة اللاعضوية، إلى المرحلة العضوية، إلى المرحلة العقلية في الإنسان، وأخيرا إلى مرحلة تتخلق فيها دنيا التقنيات؛ إن الأجهزة التقنية اليوم تتواصل أرجاؤها بحيث يستحيل أن تنمو هنا وتتخلف هناك، ولو أحكمنا تصور هذه الصورة التطورية الجديدة، أفزعتنا نتيجتها؛ لأنها لو صدقت كانت الجماعات البشرية التي تنفض أيديها من المشاركة في العلوم التقنية خلقا وإبداعا - اكتفاء بشراء أجهزة يصنعها الآخرون - قد أوشكت أن تصبح «نوعا» بشريا تطور بعده «نوع» بشري آخر.
ونعود إلى رجال الفكر العربي في عصرنا الراهن هذا لنلحظ عليهم ما قد أسلفناه، وهو أن أوصالهم مفككة، يكاد لا يدري أحد منهم عن أحد إلا أسماء وعناوين، فلا مشاركة ولا حوار، إنه ليس بالشيء المستبعد في حياتنا الفكرية أن تنبت فكرة هناك فلا نسمع بها هنا، فضلا عن أن تجد من يناقشها ليحييها؛ وأقتل ما يقتل التفكير مقابلته بالصمت؛ لأن المعارضة والموافقة كلتيهما زاد للنماء، في الوطن العربي «أفكار» مبعثرة، لكنها «هوامل» لا تجد «الشوامل» التي تجمعها وتصهرها (والإشارة هنا إلى كتاب التوحيدي «الهوامل والشوامل»)، والأمر يحتاج إلى تحليل وتوضيح، لم يفلح في صهرها كل ما نقيمه من مؤتمرات ومهرجانات ولمحات نقدية نتقاذفها حينا بعد حين؛ إنني لأكاد أعجز عن الجواب إذا سألني سائل: ما أهم القضايا الفكرية التي تشغل رجال الثقافة العربية؟ فلكل منهم قضية، ثم لا لقاء!
سل: ما التيار الفلسفي الأغلب بين المثقفين العرب؟ ولن تجد الجواب؛ فكل صوت مسموع في دنيا الفلسفة في أوروبا وأمريكا له بيننا صداه، ففينا المثاليون والتجريبيون والواقعيون والوجوديون والبرجماتيون والماديون الجدليون والشخصانيون.
سل: ما الاتجاه الأغلب بين المثقفين العرب في ميدان النقد الأدبي؟ ولنلحظ هنا أن الإجابة عن هذا السؤال لو وجدناها؛ لأشارت إلى طريقتنا المقبولة في الأداء الأدبي، ولكنك لن تجد الجواب؛ فكل مذهب في النقد مما يتردد في أوروبا وأمريكا، له عندنا مناصرون، فهنالك من يقيمون النقد على أساس بحثهم في القطعة الأدبية عن «نفسية» الكاتب، ومن يقيمونه على أساس بحثهم عن «الظروف الاجتماعية» كما انعكست في الثمرة الأدبية المنقودة، ومن يقيمونه على أساس بحثهم عن «الهدف المذهبي (الأيديولوجيا)»، هل وجد تعبيرا عنه أو لم يجد؟ وهكذا وهكذا؛ هنالك من يأخذون عن ت. س. إليوت، ومن يأخذون عن أ. أ. ريتشاردز، ومن يأخذون عن جان بول سارتر، ومن يأخذون عمن لست أدري من في روسيا أو غيرها ... عندنا من البضاعة الفكرية ألف صنف وصنف! أتقول إنها فاعلية وحيوية هذا التوثب لالتقاط الشاردة والواردة؟ قل ما شئت، لكني أقول إنها كالميازيب تصب ماءها دون أن تجد المجرى الأصيل الذي يوحد الماء في تيار؛ ليس في عقولنا الإطار القومي المعد لتشكيل المادة الوافدة في شكل يحمل الطابع العربي برغم اختلاف الأفراد، قل هذا نفسه في كل شيء؛ قله في الفنون على اختلافها، لقد كان للفن العربي طابع مميز تعرفه من أصغر قطعة فيه إلى أضخم مسجد أو قصر، ولم تمنع وحدانية الطابع هذه أن تكون لكل قطعة فرديتها ومميزاتها، ولكن ها هي ذي متاحف رجال الفن عندنا تفتح أبوابها هنا وهناك كل يوم، فزر منها ما شئت، ثم أنبئني عن الطابع الذي يغلب عليها.
كلا، ليس لنا مناخ فكري نعيش فيه؛ فتنوعنا أفرادا وامتنعت روح الفريق؛ لو كان الفيلسوف «ليبنتز» يبعث فينا اليوم حيا لما وجد خيرا منا مثالا يضربه لمذهبه الفلسفي الذي جعل كل فرد برجا مغلقا على نفسه بغير نافذة يطل منها على الآخرين؛ كل فرد منا هو روبنسن كروسو وحيدا في جزيرته، يشتق من رأسه ما يقوله وما يصنعه؛ لو كتب ابن طفيل كتابه «حي بن يقظان» وهو بيننا، لما مست به حاجة إلى أن يخلق بخياله جزيرة لبطله ينفرد فيها بتحصيل العلم كله مستقلا عن سواه؛ لأن في كل رجل منا عزلة تحقق لابن طفيل ما أراد.
اختر حفنة من المفكرين العرب، اخترها كما اتفق، تجدها قد مثلت كل عصور الفكر منذ فجر تاريخنا إلى اليوم، فيها القديم الذي لا يعرف عن الجديد حرفا، وفيها الجديد الذي لا يعرف عن القديم حرفا؛ فيها المستكين وفيها الثائر، فيها الداعية إلى غرب والداعية إلى شرق، فيها من كل صنف مما عرفت ومما لم تعرف ... أفنخطئ لو طالبنا لهذا الشتيت المبعثر ب «دماغ» مشترك يعضونه ويوحده؟
وهنا يأتي السؤال: وما الذي، أو من ذا الذي تريد له أن يكون المهيمن على توجيه هذه الطائفة الفكرية السائبة؟ وأول ما أؤكده وأحرص عليه أشد الحرص هو ألا يقوم فينا من يملي علينا ما نصنعه وما لا نصنعه؛ وإنما نريد من يخلق لنا وسيلة اللقاء الفكري بصورة فعالة جادة، نريد من يهيئ المناخ الملائم الذي يدعونا من تلقاء نفسه إلى ضرب من التجمع العقلي، حتى إن لم يجمعنا مكان واحد؛ نريد للفكرة تصدر في هذا الطرف فتجد الآذان لسمعها في ذلك الطرف؛ القطرات الفكرية موجودة تظهر آنا بعد آن، ونريد من يجعل منها نهرا، اللمعات الفرادى متناثرة بين الصحف، ونريد من يصنع منها سراجا.
ترى هل نتوقع شيئا كهذا من منظمة اليونسكو العربية مثلا؟ هل نسعى لإيجاد التعاون الصحفي (وهو قائم في بعض البلاد الأخرى) الذي من شأنه ألا يكون الاتصال مباشرا بين الكاتب والصحيفة، بل تتولى هذه الصلة نقابة أو ما يشبهها، فتأخذ من الكاتب مقالته لتنشرها في يوم واحد في عدة أقطار دفعة واحدة، فتنشر في الرباط والقاهرة وبغداد - مثلا - في يوم واحد، وعندئذ لا يكون الكاتب مغربيا أو عراقيا، وإنما يكون كاتبا عربيا.
لست أدعي معرفة الوسيلة، ولكني موقن بأنه لو تحقق لنا شيء من هذا اللقاء الفكري الحي الفعال فلن نلبث طويلا قبل أن تشهد الأمة العربية حركة فكرية يمكن وصفها وتقنينها، فيمكن لها - بالتالي - أن تدخل في تاريخ الفكر المعاصر فصلا من فصوله.
صراع الأجيال
فكرة «الجيل» فكرة غامضة، فلست تدري - إلا على وجه التقريب - متى يبدأ الجيل ومتى ينتهي؟ فالحياة تيارها دافق، يتعاقب فيها موج الأحياء لحظة بعد لحظة، وساعة بعد ساعة، ويوما بعد يوم؛ ولو استطعت أن تدرج الأحياء بحسب أعمارهم صعودا أو هبوطا، لوجدت خط البيان موصولا، يظهر فيه بين كل مولودين مولود؛ فهو خط يبدأ من كائنات شهدت نور الحياة لتوها، وينتهي عند كائنات عمرت كذا من السنين - فليس هناك حد أقصى نعرفه - وفيما بين البداية والنهاية أعمار تتفاوت، لكنها مسلسلة رياضية لا تترك بين حلقاتها ثغرة خالية، وأمام هذا التدرج المتصل، كيف يجوز الوقوف عند نقطة بحيث نقول عنها إن جيلا يبدأ هنا وجيلا ينتهي؟ إني لألحظ الأسرة المعينة وهي تحتوي على جد ووالد وولد، فأسأل: ترى هل تكون هذه الأسرة ممثلة لثلاثة أجيال: فالجد جيل، وابنه جيل ثان، وحفيده جيل ثالث؟ لكنني سرعان ما أجد أن من هو جد هنا قد يتساوى في عمره مع أب هناك، ومع حفيد هنالك، فتأخذني الحيرة إذا أردت أن أرسم خطا أفقيا يقسم مجموعة الأسر إلى أجيال، برغم أن الأسرة الواحدة قد أمكن فيها أن نرسم خطا عموديا يقسمها أجيالا متعاقبة.
ومع ذلك ففكرة «الجيل» - على غموضها - فكرة لازمة ونافعة، عند الحديث عن حركة التاريخ الحضاري، كيف تنتقل في سيرها إلى الأمام من «جيل» إلى «جيل»؟ حتى لقد قيل إنه يكفينا من تحديدها أن نعد القرن الواحد مشتملا على ثلاثة أجيال، كأنما مجرى الزمن - ومعه مجرى الحياة - يعرف في تدفقه هذه «المحطات» العرفية التي اتفق الناس على أن يؤرخوا بها الحوادث، فيقولوا عن سنة معينة إنها نهاية قرن، وعن سنة تليها إنها بداية قرن جديد؛ لكنه شيء كالقدر المحتوم، كتب على الإنسان في مناهج فكره ألا يجد أمامه مندوحة عن استخدام كلمات لازمة ونافعة في التفاهم، برغم بعدها البعيد عن الدقة الرياضية التي تعرف كيف تفرق بين المثلث والمربع والدائرة؛ فنحن - في تفاهمنا اليومي - نباين بين الكثبان والتلال والجبال، لكن هيهات لنا أن نتفق على ارتفاع معين يكون مرتفع الأرض قبله كثيبا، ويكون بعده تلا، ويكون بعد بعده جبلا. ونحن - في تفاهمنا اليومي - نباين بين ذوي الرءوس الصلعاء وذوي الرءوس المكسوة بفرائها، ولكن من ذا يستطيع القطع فيقول عند أي شعرة ينتقل الرأس من حالة الاكتساء إلى حالة الصلع؟
وأتوسع في هذا السياق قليلا - لأهميته عندي وأرجو أن تكون له أهمية عند القارئ - فأقول إن التفاهم اليوم كثيرا ما يكتفي من درجات التحديد بذكر الأضداد، فيكفيه أن يقال: حار وبارد، طويل وقصير، شاب وشيخ، ثقيل وخفيف، غال ورخيص ... وهلم جرا إلى مئات الأمثلة التي من هذا القبيل؛ مع أن الضدين في كل حالة من هذه الحالات هما طرفان أقصيان، ليس الذي بينهما خلاء وفراغ، فبينهما درجات متدرجة في تسلسل متصل، لا ينقطع عند ثغرة أو عند فجوة؛ فدرجات الحرارة مثلا تسير مع سلسلة الأعداد السالبة والموجبة في تتابع متلاصق، بادئا من درجة كذا تحت الصفر، إلى درجة كذا فوق الصفر، دون أن يكون في هذا الخط الطويل فاصل معين تقول عنده: هنا ينتهي الحار ويبدأ البارد؛ وقل هذا في حالة الشباب والشيخوخة - وهما طرفان متصلان بالحديث عن «الأجيال» - فإذا استطعنا أن نحدد بداية الشباب بحالة بلوغ الرشد، فلن نعرف بعد ذلك أين ينتهي إلا على سبيل التقريب الشديد؛ وإن الأمر ليزداد عسرا إذا احتكمنا إلى الشخص نفسه نسأله: متى تنتهي عندك مرحلة الشباب؟ ذلك لأنه لولا الشواهد الخارجية لما استطاع إنسان أن يعرف عن نفسه - محتكما إلى دخيلة نفسه - أشاب هو أم بلغ الكهولة أو الشيخوخة، وأعني بالشواهد الخارجية شيئا كشهادة الميلاد، أو ما يرويه الناس الآخرون من حوادث تدل على عدد ما عاشه من سنين، أو ما يصادفه في حياته من تحديات تقيس قدرته الجسدية فتشير إلى انحدارها بدرجة معينة؛ كان فيما مضى - مثلا - يستطيع أن يقفز على سلالم البيت قفزا، وهو الآن لا يستطيع، كان يستطيع أن يعدو في الطريق عدوا ليلحق بالسيارة أو بالقطار، وهو الآن لا يستطيع؛ كان يهضم صنوفا من الطعام، وهو الآن لا يقوى على هضمها، كان شعره أسود فدب فيه البياض، كان حديد البصر، قوي السمع، وهو الآن يتحسس الأشياء ليراها، ويكور كفه حول أذنه ليجعل منه بوقا يعينه على السمع، وهكذا، فمتى ذهبت القوة ودخل الضعف؟ في أي عام ابيض الشعر الأسود وتجعدت بشرة الوجه؟ إنه لا يدري، فكيف يدري متى خرج من جيل ودخل في جيل؟
لكن الفكرة شائعة ونافعة بأن الناس «أجيال»، بل إن الفكرة شائعة، وإن لم تكن نافعة كل النفع، بأن تلك الأجيال المتعاقبة في صراع لا ينتهي؛ فالجيل اللاحق ناشب بأظافره المحنقة المغيظة في أعناق الجيل السابق، الجيل اللاحق - هكذا يزعم أصحاب هذه الفكرة - ساخط دائما على سابقه، غاضب دائما، ثائر دائما، يريد أن يفلت من معاييره وأحكامه، ويظن أنه متسامح غاية التسامح إذا قبل أن يبقى من سلفه السابق على خيط رفيع يمسك على الأمة تاريخها، ويحتفظ لها بطابعها المميز؛ لأن هذا الدوام لا يرضيه إلا نفاقا؛ إن الشباب في بلد يظن أنه أقوى رباطا بالشباب في سائر البلدان، منه بالشيوخ في بلده، إنه يظن أن الرابطة بينه وبين شيوخ بلده رابطة مكانية لا تعني شيئا كثيرا، وأما الرابطة بينه وبين سائر الشباب في سائر الأقطار فرابطة زمانية تعني الكثير؛ فروح العصر مرهونة بعصرنا الزمني، لا بهذا المكان أو ذاك؛ المكان ثابت والزمان متحرك؛ إن النهر هو النهر، والوادي هو الوادي، والصحراء هي الصحراء منذ آلاف السنين، أما النصف الثاني من القرن العشرين فشريحة من الزمن، لم تقع قبل ذلك، ولن تقع بعد ذلك.
فإذا قبلنا قسمة التيار الزمني - الذي هو متصل في حقيقته - إلى مراحل منفصلة نطلق عليها اسم «الأجيال»، تيسيرا للتفاهم؛ فهل نقبل أن هذه الأجيال «متصارعة» دائما؟ أصحيح أن القيم الجديدة والأفكار الجديدة والنظم الجديدة هي من خلق الشباب، يملونها على الشيوخ، فإذا قبلوها كان خيرا، وإذا رفضوها وقع الصراع؟
الحق أني أكره الخبط العشوائي في أمثال هذه الأمور، وأتمنى أن ينبني الحكم فيها على إحصاءات من الواقع، فإذا فرضنا أن الجيل الأول - في الفترة المعينة - يتألف ممن هم دون الخامسة والثلاثين، وأن الجيل الأوسط يمتد من هذه السن إلى الستين، وأن الجيل الثالث يقع فيما فوق هذه السن، فكم هي نسبة الذين حرروا السياسة والاجتماع والاقتصاد والأدب والفن والعلم والتعليم من قيود التقاليد لتنطلق مع العصر الجديد، أقول كم هي نسبة هؤلاء من الجيل الأول، الذي هو جيل الشباب؟ وإذا وفقنا إلى هذه النسبة، لم تكن وحدها كافية؛ إذ لا بد أن نثبت معها أن أبناء الجيلين الأوسط والأعلى قد تنكروا للجديد؛ لأنهم إن قبلوه لم يكن ثمة بين الأجيال ما يزعمونه من صراع.
وليس بين يدي إحصاءات عن شيء من هذا كله، لكنني أتصور - بالانطباع المبهم العام - أن العشرينيات من هذا القرن، وكذلك الخمسينيات - وأنا هنا أضرب المثل من حياتنا الفكرية - كانتا فترتين من الفترات التي شهدت صراع الأجيال واضحا في كل هذه الميادين تقريبا: في السياسة، وفي الاجتماع، وفي الاقتصاد، وفي الأدب والفن، والعلم والتعليم، وإذا تجاوزنا قليلا في الحدود التي وضعناها للشباب، جاز لنا القول بأن الدعوة إلى الجديد في هذه الميادين كلها قد جاءت من الشباب، وأن هذه الدعوة قد لقيت اعتراضا - منطوقا أو صامتا - من الجيل الأقدم، ولكنه اعتراض أخذ يزول زوالا سريعا أو بطيئا في حومة الصراع؛ إذ كانت الدعوة إلى الجديد أقوى من الحفاظ على القديم.
فليست الحياة النيابية التي يشارك فيها الفلاحون والعمال بالنصف على الأقل هي كالحياة النيابية التي كانت الكلمة فيها مقصورة على أصحاب الجاه والمال، وليست الحياة الاجتماعية التي تنبني أساسا على الاعتزاز بالعروبة هي كالحياة الاجتماعية التي كان الاعتزاز فيها باللكنة الفرنسية أو الإنجليزية، تتردد بها الألسنة المعوجة في الصالونات، وليست الحياة الاقتصادية التي تجعل أموال الشعب ملكا للشعب، وتحرم على إنسان أن يستغل إنسانا، هي كالحياة الاقتصادية التي تكون فيها السيادة لمن يملكون على من لا يملكون؛ وليس الأدب من مسرح وقصة وقصيدة ومقالة، الذي يتحسس طبيعة الإنسان العربي كما تتجسد في سلوكه وفي خفايا ضميره وفي آلامه وفي آماله، هو كالأدب الذي يترك هذا الإنسان ليكتفي بما يطالعه في بطون الكتب قديمها وحديثها .. لا، ليست حياتنا الجديدة في الخمسينيات هي كسابقتها، ولا كانت الحياة الفكرية في العشرينيات كسابقتها، وكان التجديد في كلتا الفترتين من صنع الشباب بصفة عامة، وكانت هنالك مقاومة، وكان هناك صراع، سمي في العشرينيات صراعا بين القديم والجديد، وسمي في الخمسينيات صراعا بين الرجعية والتقدمية، وكان محور التقسيم في الحالة الأولى هو الحياة الفكرية؛ من أين نستقيها؟ هل نستقيها من الغرب أو من تراثنا العربي؟ وأما محور التقسيم في الحالة الثانية فهو - أساسا - وضع الفرد بالنسبة إلى المجتمع، أيكون الفرد من أجل المجتمع، أم يكون المجتمع وسيلة لسعادة الفرد؟ وفي كلتا الحالتين تأدى الصراع بين الأجيال إلى نصرة الجديد.
على أن صراع الأجيال يتجلى في أوضح صورة حين تشتد قبضة التقاليد على رقاب الناس، فلا تترك لهم خيارا في ملبس أو مأكل أو أي وضع من أوضاع الحياة، فتضيق النفوس بهذه القيود كلها، فينفجر الشباب ثائرا ساخطا غاضبا، حتى يتطرف في ثورته وسخطه وغضبه، بحيث لا يدع شيئا إلا حاول تغييره، فلا يبقي على ملبس قديم، ولا على مأكل، ولا على طريقة من طرق استخدام الفراغ، وهنا تتبدل العلاقات الاجتماعية بين الأفراد تبدلا جوهريا يقلب القيم القديمة رأسا على عقب.
وأوضح مثل أستطيع أن أقدمه لمثل هذه الثورة الغاضبة من الشباب على جيلهم القديم، هو ما شهدت بعضه وسمعت أو قرأت عن بعضه، مما حدث ويحدث في أوساط الشباب في إنجلترا، والمثل هنا واضح؛ لأن إنجلترا كانت هي القوة الاستعمارية الأولى في العالم لفترة طويلة من الزمن، وكان هذا الاستعمار يعود على أبنائها بثروات منهوبة، فكان تمسكها بتقاليدها عندئذ - برغم أنه قد بلغ حدا مضحكا في كثير من الأحيان - هو من قبيل الحرص على وضع نافع لها، ولم يكن للشباب عندئذ أن يثوروا على تلك التقاليد؛ إذ فيم الثورة عليها وهي تقاليد تعود عليهم بتلك البحبوحة كلها، وبتلك السيادة كلها؟! لكن التغير العميق الذي شمل العالم فيما بعد الحرب العالمية الثانية، والذي كان من أهم أركانه تحرر الشعوب من ربقة المستعمر، قد أفقد إنجلترا سلطانها وثراءها، فلم يعد هنالك في أعين الشباب ما يبرر أن يقيدوا أنفسهم بقيود تضر ولا تنفع، فانطلقوا في ثورة عارمة، هي التي نسمع عن أطراف منها في أنباء تلك الجماعات الغريبة التي تلجأ إلى الغريب الشاذ في ثيابهم وفي قص شعورهم وفي طرائق عيشهم؛ لكنهم لم يقفوا عند هذا الحد السطحي الظاهر، بل تجاوزوه إلى ميادين الأدب والفن، فكان لهم موسيقاهم ومسرحهم وقصتهم وشعرهم.
لقد مررت بإنجلترا صيف عام 1964م، وكنت لم أشهدها منذ أعقاب الحرب، أعني أنني لم أشهدها لما يقرب من عشرين سنة قبل ذاك، فعجبت لهذا التحول العميق يصيب أمة كهذه، في مثل هذه الفترة القصيرة، وكان من أظهر مظاهر هذا التحول هؤلاء الشبان الذين كنت أراهم في زيهم المميز - ولكل جماعة منهم زي خاص - فيصعب أن أميز فيه بين فتى وفتاة؛ لقد كان سلوكهم الاجتماعي أقرب جدا إلى سلوك الجانحين، حتى ليتعذر عليك أن تصدق أنهم في حقيقتهم هم الشباب العادي الذي يختلف إلى معاهد الدرس، أو ينتظم في مكاتب العمل، وبهذا كادت الفوارق تنمحي بين السلوك الجانح والسلوك المألوف ، أو قل بين سلوك الإجرام وسلوك الحياة المشروعة، ومعنى ذلك بعبارة أخرى أن انحراف السلوك عن العرف القديم، قد اتسع مداه، حتى كاد يكون بدوره عرفا لا حق لأحد أن يعترض عليه.
ليس الجديد في هذه الجماعات الثائرة من الشباب هو تمردهم على الأوضاع المألوفة؛ لأن شيئا من التمرد جزء لا يتجزأ من طبيعة الشباب، تشكمه تقاليد المجتمع فينشكم ويتجانس المواطنون في سلوكهم الاجتماعي المميز لهم، لكن الجديد في هذه الجماعات الثائرة من الشباب هو جرأتهم على مواجهة المجتمع بتمردهم، بحيث لا تكون للمجتمع قوة الشكم ولا يكون في وسعه أن يفرض التجانس بين أفراده؛ لقد كان للشباب دائما منظماتهم، لكنها كانت منظمات تجري - في الأغلب - على صور معروفة مألوفة من أوجه للنشاط في مجالات السياسة أو الفكر أو التعاون الاجتماعي، وما إلى ذلك، أما هؤلاء الشبان الثائرون اليوم فيرفضون هذه الصور المألوفة لنشاط الشباب؛ لأنهم بادئ ذي بدء يرفضون «النظام» في حد ذاته، لأنه يقتضي الولاء، وهم يحاربون أن يكون ثمة ولاء منهم لأحد أو لفكرة أو لنظام أو لشيء كائنا ما كان؛ ولك أن تعجب من جماعات «تنظم» نفسها لتحارب «النظام»!
ويعلل علماء الاجتماع عندهم هذه الظاهرة الاجتماعية بعوامل عميقة المدى في صلب المجتمع الإنجليزي ذاته، أو قل إنها عوامل تعتمل في أصلاب المجتمعات الأوروبية الغربية والأمريكية بصفة عامة؛ وأهم تلك العوامل فكاك الشبان من رقابة المجتمع الصغير، الذي كان فيما مضى لا يجاوز قرية أو حيا من أحياء مدينة؛ لأن النشأة والدراسة والعمل والزواج والسكن، كانت - في معظم الأحيان - تتم كلها في مثل هذه الدائرة الضيقة، وبذلك كان كل فرد يعرف جميع الأفراد في القرية أو الحي، ومن هنا كانت تنشأ معايير اجتماعية وأخلاقية، تضغط بقوة على الأفراد، فلا يملكون إلا أن ينصاعوا لها ولو بعد حين؛ لم تكن وسائل المواصلات بهذه الكثرة ولا بهذه السرعة، وبالتالي لم يكن العامل يسكن على مسافة من مكان عمله تمتد إلى عشرات الأميال أو مئاتها ، كما هي الحال اليوم، وقد أدى ذلك إلى أن يحيا الفرد الواحد معظم وقته بين «غرباء» لا يجاورونه ولا يساكنونه، ومن ثم لا تكون لهم عليه رقابة تحدد سلوكه؛ فهل ينتج عن هذا التباعد شيء سوى أن تتنوع صور السلوك بتنوع الأمزجة، بحيث لا يستطيع أحد أن يقول أيها هو الصواب وأيها هو الخطأ؟ لا، بل إن هذا التنوع سرعان ما انتهى إلى نتيجته الطبيعية، وهي أنه بدلا من أن يستهدف المواطن أن يتجانس مع سائر مواطنيه، كما كانت الحال من قبل، أصبح يستهدف التميز الشخصي، الذي يباين بينه وبين سائر الأفراد، فلا يشبههم في ملبس، ولا في طريقة التمتع بالفراغ، ولا في مزاج ثقافي بصفة عامة؛ وتسربت هذه العوامل كلها في نفوس الشباب، تم تجمعت وتبلورت حتى أصبحت عداء صريحا منهم للمجتمع القديم.
وازدادت الهوة اتساعا بين الجيلين بزيادة التغلغل الذي تغلغلت به التقنيات (التكنولوجيا) الحديثة في الصناعة وفي شعاب الحياة نفسها؛ لأنه إذا كان على الجيل الأصغر - فيما مضى - أن يخشى سطوة الجيل الأكبر، فما ذلك إلا لأن هذا الجيل الأكبر كانت في رأسه المعرفة، وفي يده المهارة، فلا مندوحة للجيل الأصغر من التبعية الصريحة، حتى يكسب لنفسه المعرفة ويكتسب المهارة، لكنه إذا ما تم له هذا الكسب والاكتساب، كان قد انتقل به الزمن من جماعة الشباب إلى جماعة الكهول، وهكذا دواليك؛ أما وقد أصبح الأمر موكولا لتقنيات تعمل بالأزرار، تضغطها إصبع من شاب، أو إصبع من كهل على حد سواء؛ فقد زال المبرر الذي يحتم على الجيل الأصغر أن يصغي بالتوقير والإذعان إلى أبناء الجيل الأكبر.
فسرى في الشباب ما يشبه التمرد، وهو في الحقيقة رغبة في استقلالهم وتقرير أشخاصهم على الأوجه التي يرونها، وليس لأحد أن يعترض ما داموا يؤدون أعمالهم بطريقة منتجة؛ بل ربما حدث - وكثيرا ما يحدث - أن يكون الشبان ألصق عهدا بالتقنيات الحديثة، وأمهر من سابقيهم على استخدامها، ومن هنا ينقلب الوضع القديم، ويكون الأولى بالاحترام والتوقير هو الشاب من الشيخ، لا الشيخ من الشاب، كما كان الأمر .
وإذا كان الشباب قد انتقل إلى مواقع القيادة في العمل وفي الأدب وفي الفن، فهل نستكثر عليهم أن يتوقعوا من القائمين على محال التسلية وعلى أدواتها من إذاعة مسموعة أو مرئية، ومن صحافة، وسينما ومسرح، وأندية، وغناء، ووسائل اللهو وتزجية الفراغ؛ أقول هل نستكثر على الشباب أن يتوقعوا من القائمين على هذه الوسائل كلها أن يقدموا لهم ما يتفق وميولهم الجديدة؟ وهكذا كان، فأصبح الشيوخ هم الذين يلتمسون وسائل المتعة التي تتناسب وأعمارهم وثقافاتهم فلا يجدونها إلا قليلا؛ لأن تلك الوسائل قد شغلت نفسها بما يرضي الشباب.
وانظر بعد ذلك إلى شبابنا نحن، بالقياس إلى جماعات الشباب التي رأيتها في إنجلترا سنة 1964م، والتي ما زلت أسمع عنها وأقرأ، فأجد شبابنا باعثا على الأمل من جهات عديدة، مثيرا لعدم الرضى في نفسي من جهات قليلة، أم يا ترى يرتد عدم الرضى عندي إلى غيرة جيل هابط من نشاط جيل صاعد؟ لست أدري.
وأما أنه باعث على الأمل؛ فذاك لأنهم - برغم التغيرات الحضارية التي أزالت عن الكبار مبررات احترامهم والإذعان لهم - لم يسخطوا السخط الذي يؤدي بهم إلى ضروب الانحراف التي ألمت بشباب المجتمعات الغربية؛ نعم إنهم يشبهونهم في طرائق ملء فراغهم بما يثير العاطفة ويحرك الشهوة، ويشبهونهم في البحث عن أسهل الطرق وصولا إلى القمة، بغض النظر عن قيمة تلك الطرق في تكوين شخصياتهم وفي تقوية أقدارهم الذاتية، وفي ملء صدورهم بما يشبع طبائعهم الإنسانية الفطرية؛ أعني أن شبابنا يشبه شبابهم في أنه قد جعل النجاح والمتعة مدارين تدور عليهما الحياة، فلا ضير عند هؤلاء وأولئك في أن تفرغ الرءوس من المعرفة وفي أن تخلو الصدور من القيم المثلى، وفي أن يحس الإنسان في دخيلة نفسه أنه إنما ينطوي على خلاء وخواء، ما دام هذا الإنسان الخاوي من داخل، قد ظفر بمكان مرموق من مجتمعه، يأمر فيه وينهي، ويحرك ويوجه ويدير.
لكن شبابنا لا يشبه شبابهم في الشعور الزائف بأن المجتمع قد أحبطهم فوجب عليهم أن يناصبوه العداء؛ ليس في حياتنا هذا الانفصام الغريب الذي يشطر المجتمع شطرين يتقاتلان: شباب وشيوخ، أو جيل جديد وجيل قديم؛ فمهما يكن بين الجيلين عندنا من أوجه التباين، فما يزال الشعور عميقا بأننا في مجتمع واحد يستهدف هدفا واحدا؛ وشبابنا لا يشبه شبابهم في اصطناعه لحياة التشرد عن مبدأ وعقيدة، وفي التنكر لروابط الانتماء إلى الأسرة، وفي أن يحلوا محلها روابط جديدة بانتماء جديد، تجعل الشباب فردا في مجموعة شباب يسخطون بطريقة واحدة، ويتشردون بطريقة واحدة، لا فردا في أسرة تراقب السلوك وتضبطه؛ وشبابنا لا يشبه شبابهم في هذا اليأس المرير الذي يدفعهم إلى الانحراف الجنسي، وإلى أخذ المخدرات بهذه الدرجة البشعة التي نسمع عنها ونقرأ؛ واختصارا، فإن الأمل في مستقبل أسعد ما زال يحرك شبابنا على الطريق، على حين يتحرك شبابهم على غير طريق؛ لأن المستقبل لم يعد يحمل لهم أملا يرتجى، أو هكذا يظنون.
فلو أضاف شبابنا إلى جذوة الأمل التي أغنتهم عن الانحراف، جدية في الوسائل المحققة لذلك الأمل؛ لو أضاف شبابنا إلى انفعالهم فكرا يسدده، وإلى عاطفتهم علما تستقيم به وتهتدي؛ لو أضاف شبابنا إلى سلامة الطوية سلامة فعل، وإلى وثبات الطموح رسوخا في العمل؛ لو أضاف شبابنا إلى رغبتهم في النجاح العملي وسائل الكد والكدح لا وسائل الوساطات التي تطير بهم على أجنحتها إلى ارتفاع لا يستند إلى عمد وركائز، لو أضاف شبابنا هذا كله؛ لما وجد فيه جيل الكهول وجيل الشيوخ شيئا يعاب.
ليس صراع الأجيال عندنا كالصراع الذي شهدناه في المجتمعات الغربية؛ لأن الأجيال عندنا - صغيرها وأوسطها وكبيرها - قد وجدت في العدو الخارجي المشترك ما يجمعها على هدف واحد، فلا يبقى للخلافات الداخلية بينها إلا حيز ضئيل سرعان ما ينتهي فيه الخلاف إلى اتفاق أو ما يشبه الاتفاق، فنحن اليوم على تفاوت أجيالنا، نوشك أن نتفق على معيار واحد لحياتنا الجديدة.
لحظة مع الماضي
إيماني لا يحد بضرورة أن ينسكب ماضينا في حاضرنا انسكابا لا يعرقل سيرنا، بل يجيء قوة محركة دافعة تزيد من عجلة السير؛ وذلك لأن من تراث الماضي ما يعرقل، ومنه ما يحرك ويدفع، وأغبى الغباء هو أن نغمض العين عن هذه الحقيقة الصارخة، ليس للحاضر الحي غنى عن ماض يمده بغذاء الحياة كما تمد الأم جنينها، وليس أدعى إلى تشتت وحيرة وضياع من حاضر يهدم الجسور الواصلة بينه وبين ما كان .. لكن كيف تكون الصلة بين حاضر وماض بحيث تحقق للإنسان حياة موصولة التيار معلومة الأهداف مكينة الأصول؟
لعل إجابة من الإجابات الصحيحة عن هذا السؤال - فلهذا السؤال أكثر من جواب واحد - هي ما نستخلصه من لمحة وردت عند «بروست»
، في حديثه عن الصلة بين الحاضر والماضي، في كتابه «البحث عن الزمن الضائع»، إذ يقول إن الفن من شأنه أن يجمد لحظات من الماضي تظل قائمة حية في الحاضر، فيتيح لنا هذا أن نحطم حواجز الزمن بيننا وبين أسلافنا بأن نعيش تلك اللحظات: «فإذا ما سمعنا الآن صوتا كنا قد سمعناه من قبل، وحين ننشق رائحة كنا قد نشقناها من قبل، فعندئذ - بالذكرى - نكون قد سمعنا ذلك الصوت ونشقنا تلك الرائحة في الماضي والحاضر معا، وحينئذ فقط يزول حاجز الزمن، وتبرز إلى الوجود المتصل المستمر حقائق الأشياء في جوهرها الخفي، وتستيقظ ذواتنا الأصيلة التي كانت قد خيل إلينا أنها ماتت واندثرت آثارها .. إن لحظة واحدة نعيشها اليوم مع من عاشوها في الماضي، كفيلة وحدها أن تفك عنا قيود الزمن التي فصلت حاضرنا عن ماضينا.»
وأحسب أني قد عشت لحظة كهذه مع أبي العلاء، حينما أوقفني التأمل عند قوله: «أبكت تلكم الحمامة أم غنت؟»
ها هي ذي حمامة على غصنها تبعث صوتا، هو عند الحقيقة الكونية «صوت» متميز بموجاته التي يتناولها علم الصوت في الفيزياء بالتحليل والقياس، فيعرف لهذه الموجات أطوالها وسرعاتها، هو «صوت» في الطبيعة الخارجية، قد تسجله آذان السامعين أو لا تسجله، لكنه هناك: حدث من أحداث الطبيعة، وإنما هو الإنسان بمشاعره ومنافعه، يصنف تلك الأحداث الطبيعية على مزاجه وهواه، فيقول: هذا «بكاء» وذلك «غناء»! ليس في حقائق الطبيعة بكاء وغناء، فهذان من ذات الإنسان وميوله، حقائق الأشياء كما هي واقعة، لا تفرق بين «نوح الباكي» و«ترنم الشادي»، فالنوح والترنم كلاهما «صوت»، كلاهما اهتزازات للهواء، كلاهما ينصاع في حدوثه وفي مساره لقوانين محددة معلومة عند علم الصوت في الفيزياء، وأما الذي جعل هذا الصوت نوحا، وذلك الصوت ترنما، فذلك هو الإنسان؟ «صوت البشير» شبيه «بصوت النعي» عند الحقيقة الموضوعية الخارجية التي لا تعبث بها وتحرفها أهواء البشر.
والفرق بعيد بعد السماء السابعة عن الأرض السابعة، بين نظرة تلقط الواقع كما وقع، ونظرة أخرى تلوي هذا الواقع فتسلكه في رغبات الإنسان، فيصبح منه ما هو محبب له وما هو كريه، ما هو خير وما هو شر، وحقائق الدنيا بريئة كل البراءة من الخير والشر، والحب والكراهية ... وماذا ينقص العربي المعاصر أكثر مما ينقصه من مثل هذه القدرة على التفرقة بين حقائق الدنيا الواقعة من جهة، وبين انطباعاته هو بتلك الحقائق من جهة أخرى؟ وليس العيب في أن يكون للإنسان أهواؤه بالنسبة لما يصادفه في عالم الأشياء، فيحب ما يحب، ويكره ما يكره، ولكن العيب كل العيب هو أن نخلط بين الجانبين ذلك الخلط الذي يجيز لنا أن نتحدث عن أوهامنا وأحلامنا، ثم نظن أننا إنما نتحدث عن أمور الواقع.
لقد عشت مع أبي العلاء هذه اللحظة التي تسيطر فيها النظرة المحايدة إلى الدنيا وأحداثها من حولي، النظرة التي تطرح من حسابها الفوارق الذاتية بين النوح والترنم، بين الغناء والبكاء، بين صوت البشير وصوت النعي، فكنت في تلك اللحظة مثلا مجسدا للصلة الثقافية حين تربط المعاصرين بالسالفين، وهكذا - فيما أظن - تجيء تلك الصلة بتراثنا نابضة بالحياة، لا مجرد لغو لا يكاد يتجاوز حدود الشفاه.
إنه لمما يلفت نظري في الفلسفة الأوروبية الحديثة كلها، منذ نشأت على أنقاض العصور الوسطى وإلى عهد قريب، حرصها الشديد على التمييز - في معرفة الإنسان لما حوله - بين نوعين من المدركات؛ أحدهما يصف الواقع كما يقع، والآخر يتولد في ذهن الإنسان عن ذلك الواقع ، ويطلق رجال الفلسفة على الصنف الأول من المدركات اسم الصفات الأولية، وعلى الصنف الثاني اسم الصفات الثانوية، فالأولى تفرض نفسها على الإنسان فرضا، ولا قبل له بتغييرها، وأما الثانية فيطهوها الإنسان لنفسه، فإذا كان أمامي برتقالة، فإن شكلها الكري هو من القبيل الأول، وأما مذاق طعمها فهو من القبيل الثاني. ولماذا حرصت الفلسفة الأوروبية الحديثة على إبراز هذه التفرقة بين النوعين من خصائص الأشياء وصفاتها؟ إنها فعلت ذلك لتميز بين ما يصلح للنظرة العلمية وما لا يصلح؛ فالصفات الأولية موضوعية ولذلك فهي صالحة للبحث العلمي، وأما الصفات الثانوية فذاتية من عندنا، ومن ثم فهي إن صلحت لأن يصفها الشعر والفن بكل أشكاله، فلا تصلح لأبحاث العلماء. «أبكت تلكم الحمامة أم غنت ...؟» سؤال قد يجيب عنه الإنسان محتكما إلى وجدانه الذاتي، فإذا كان الإنسان السامع حزينا عد صوت الحمامة بكاء، أو كان سعيدا مرحا، حسب الصوت غناء، وأما النظرة العلمية فهي ترفض السؤال من أساسه؛ لأن البكاء والغناء كليهما يخرج عن مجالها، وإنما تجيبك النظرة العلمية إذا سألتها عن موجة الصوت المسموع ما طولها وما سرعتها.
ولنوسع من البكاء والغناء، من نوح الباكي وترنم الشادي، من صوت البشير وصوت النعي، لنوسع هذا المجال الضيق كي نجعلها تفرقة بين الخير والشر بصفة أعم وأشمل، فنرى النتيجة واحدة في الحالتين: العالم الواقع لا يعرف خيرا ولا شرا. إنما هو أنت وهو أنا وهم غيرنا، الذين يصبون أهواءهم على وقائع ذلك العالم، فيقسمونها في أوهامهم خيرا هنا وشرا هناك، لكننا - مع ذلك - نلحظ تفاوتا شديدا بين الناس في مدى هذه الأوهام وتسلطها على حياتهم؛ فمن الناس من يلجم هذه الأوهام عند النظر الموضوعي إلى حقائق الموقف الذي يعنيهم أمره، ومنهم من لا يستطيع هذا الإلجام، فيعيش أوهامه في كل المواقف على حد سواء.
قد يتعذر على الإنسان بصفة عامة أن يفرق هذه التفرقة في حياته العملية، فيفصل فصلا رياضيا بين ما هو واقع، وبين الطريقة التي تأثر بها هو إزاء ذلك الواقع، لكنها تفرقة لا بد منها عند من يهمه معرفة «الحق» كما هو، كائنا ما كان وقعه على نفسه، وفي ذلك يقول برتراند رسل (في كتابه «التصوف والمنطق»): «إنه إذا أرادت الفلسفة أن تبلغ الحق فلا مندوحة للفلاسفة عن التزام النظرة العقلية المنزهة عن الهوى، وهي نظرة تميز رجل العلم.» وإذا أردت أن تقرأ لفيلسوف آمن بهذه النظرة العقلية النزيهة إلى حقائق الوجود، فأظن أن خير من تقرأ له في ذلك هو سبينوزا: «غير مجد» في ملتي واعتقادي
نوح باك ولا ترنم شادي
تلك هي اللحظة الإدراكية التي عشتها مع أبي العلاء، إنه لم يقل ذلك تجاهلا منه للفارق الشعوري عند الإنسان بين أن ينوح ساعة بكاء، وأن يترنم ساعة نشوة؛ فذلك فارق قائم لا بد أن يكون أبو العلاء قد أحسه في نفسه، كما لا بد أن يكون قد لحظه ألوف المرات في سلوك الآخرين، لكنه - برغم ذلك - فارق لا يغير من حقيقة الواقع شيئا، إن الفرق بين هاتين الحالتين الشعوريتين لا يتعدى حدود الذات ساعة بكائها وساعة نشوتها، وأما الوقائع الصلبة التي منها يتألف الموقف من حولنا فلا يتبدل منها مقدار أنملة، بسبب أن باكيا هناك ينوح أو أن شاديا يترنم .. الحالة الوجدانية تهز صاحبها، لكنها لا تهز من البعوضة جناحها.
ترى ماذا كان أبو العلاء يقول إذا ما بعث اليوم ليرانا نوشك أن نعلق أمورنا على مشاعرنا قبل أن نعقلها على مقومات الواقع الفعلي؟ إنه سيجد أمامه قوما يملئون الجو بانفعال الغضب، وصيحات الغيظ، ويظنون أن هذا وحده كفيل لهم بأن تنزاح عن أرضهم دبابات العدو وأن تختفي من سمائهم طائراته، قد يصفون العدو برذائل الأولين والآخرين؛ قد يصفونه بالغدر واللؤم والكذب والخداع، وإنها لصفات تميزه حقا، ولكن هل يجدي ذلك من أمر الواقع شيئا؟ إن الفرق بين عالم يسوده الخير والفضيلة، وعالم يسوده الشر والرذيلة، هو فرق كائن في نفوس البشر، كائن في رغباتهم وآمالهم، هو فرق يلحظه الناس بحسب ما يجدون العوائق أو لا يجدونها في طريق تحقيق أهدافهم، أما الواقع نفسه فسوف يظل واقعا إلى أن يغيره واقع آخر. يقول برتراند رسل في كتابه الذي أسلفنا ذكره: «الحب والكراهية ضدان أخلاقيان، لكنهما عند النظرة الفلسفية شبيهان أحدهما بالآخر، من حيث هما طريقتان في النظر إلى الأشياء، فإذا ما أردنا أن ننظر إلى المسألة نظرة فلسفية، وجب أن نحصر النظر في الصورة العامة، أو البنية العامة لذينك الموقفين إزاء الأشياء، بعبارة أخرى، فإنه يجب على صاحب النظرة الفلسفية أن يفرغ إطار الوقفة من مضمونها (فالإطار «عقل» والمضمون عاطفة).
وهكذا فلو حصرنا النظر في الحب والكراهية من حيث هما حالتان شعوريتان، كان الفرق الذي نراه بينهما فرقا في مضمون وجداني، مما يتصل بالذات ولا شأن للعالم الطبيعي الواقعي به، نعم، إن علم النفس قد يحدد لنا المميزات الخاصة التي تفرق حالة الحب عن حالة الكراهية، لكن النظرة الفلسفية تسقط من حسابها تلك المميزات الفارقة؛ لأنها «في النفس»، وليست «في الأشياء والمواقف».
الشبه الذي يشير إليه برتراند رسل بين الحب والكراهية من حيث هما موقفان، هو نفسه الشبه الذي أشار إليه أبو العلاء بين صوت البشير وصوت النعي، أتقول: إن هذه نظرة متشائمة تغم النفس وتضيق رحاب الأمل؟ قل ما شئت، لكنه الحق الواقع، وإلا فلماذا لا تطالب علماء الفيزياء والكيمياء أن يقيموا البرهان على الأهمية الأخلاقية لكهارب الذرات؟ لماذا لا تطالب عالم النبات أو عالم الحيوان بأن يتناول موضوعات بحثه بنظرة تتفق مع آمال الإنسان في دنيا النبات ودنيا الحيوان؟ لا، إن النظرة العلمية الموضوعية الناضجة هي تلك التي لا تمزج بين «الواقعة» وبين ما يشعر به الإنسان نحوها، وبمثل هذه النظرة الناضجة نظر أبو العلاء، فإذا هو يقرر أن لا جدوى - من حيث تغيير الواقع - من أن ينوح باك أو أن يترنم شاد، وإذا هو يقرر أن لا فرق - من حيث تغيير الواقع - بين أن يكون الصوت المسموع بكاء أو غناء، وإذا هو أخيرا يقرر الشبه التام - من حيث القدرة أو العجز عن تغيير الواقع - بين صوت النعي وصوت البشير.
هي لحظة عشتها مع الماضي، فإذا هذا الماضي منسكب في حاضري انسكابا هدم حواجز الزمن بيني وبين السلف، وهكذا - في ظني - يتحقق الربط المنشود في ثقافتنا بين عصرية وتراث.
رجل الفكر ومشكلات الحياة
هنالك نفر من الشباب الكاتب، لا يعجبهم العجب ولا الصوم في رجب، إلا أن تكتب لهم على نحو ما يكتبون، وأن تذهب معهم في مذاهب الفكر كما يذهبون! ولست أدري كيف تصطدم الفكرة بالفكرة ليولد الصدام فكرة أعلى وأكمل، إذا لم نختلف في الرأي ووجهات النظر؟ إن كل ما يطالب به الكاتب هو أن يكون مخلصا لنفسه، أمينا على فكرته، وقصاراه أن يبسط الفكرة بكل ما وسعه من وضوح وإيضاح، وفهم وإفهام، ولا عليه بعد ذلك أن تقع الفكرة من قارئها موقع القبول، بل لا على هذا القارئ نفسه إذا هو لم يقرأ ما يتفق مع هواه، وإلا لما أحدثت القراءة في نفسه حوارا داخليا وفاعلية منتجة؛ شريطة ألا يكون مصدر الاختلاف بين الكاتب والقارئ اختلافا في معاني الألفاظ التي يستخدمانها؛ لأنه لو حدث ذلك لكان أحدهما في واد والآخر في واد، لا يلتقيان ولا يتصادمان، إذا قال أولهما: هذا ثور، أجابه الثاني: إذن، فاحلبوه! لأن الثور عنده يعني البقرة، فلا المتكلم الأول قد أفهم، ولا السامع قد فهم عنه؛ أما أن يتفق المتحدثان - أو الكاتب وقارئه - على أن اللفظة الفلانية تعني كذا وكذا من العناصر التي تدخل في مكونات الشيء الذي جاءت تلك اللفظة لتسميه، ثم أن يختلفا بعدئذ على الحكم الذي ينتهيان إليه بالنسبة إلى ذلك الشيء المطروح أمامهما للبحث والنظر؛ فليس في مثل هذا الاختلاف بأس ولا ضرر، بل إن فيه لخيرا ونماء؛ لأنه اختلاف قمين - مع المحاورة والجدل - أن يجمع المختلفين على رأي مشترك.
إنني لو سئلت: ماذا ترى من الفوارق التي تميز كاتب اليوم من كاتب الأمس؟ لجاءتني الإجابة مسرعة بأن أول ما يميزهما من فوارق هو أن كاتب اليوم ألصق من زميله بالخبرة الحية، كأنما هو قد وضع أصابعه على عروق الحياة ليتحسس نبضها، ولا عجب أن رأينا كاتب اليوم يلجأ إلى القوالب الأدبية التي من شأنها أن تجسد الحياة بشخوصها الناطقة المتحركة، وأعني القصة والمسرحية، على حين أن كاتب الأمس كاد يقصر نفسه على «المقالة»؛ لأن بضاعته التي يعرضها «أفكار» على شيء من التجريد قليل أو كثير، وكل ما تتطلبه الأفكار من باسطها، هو أن يتناولها بالتحليل والتوليد حتى ينكشف مضمونها وفحواها؛ فلئن رأى كاتب اليوم نفسه مضطرا إلى الخوض في مواكب الناس الأحياء ليرى ويسمع، ويحس ويتأثر، ثم يخلو إلى نفسه ساعة ليصور ما قد رأى وسمع وأحس؛ فإن كاتب الأمس كان في مستطاعه ألا يبرح غرفة مكتبه؛ مراجعه على رفوفها، والمصباح أمامه، فليأخذ في القراءة والمراجعة، حتى إذا ما وقع على شيء يستحق أن يعرض على الناس، كانت له القدرة على عرضه في مقالة يكتبها، أو سلسلة مقالات تستوعب الموضوع إذا اتسعت رقعته وتباعدت أطرافه.
فإذا قلنا عن رجل اليوم إنه «كاتب» بالمعنى الأدبي الخالص لهذه الكلمة، كان الصواب أن نقول عن رجل الأمس إنه «قارئ»، ما دامت كتابته عرضا لمادة قرأها وأراد لغيره أن يقرأها معه.
لكن هذه التفرقة لا تنصب إلا على أديب القصة والمسرحية من جهة، وكاتب المقالات التحليلية العقلية من جهة أخرى، على أساس أن الأول له السيادة اليوم، والثاني كانت له السيادة أمس؛ فها هنا يجوز القول عن أديب اليوم إنه - في المحل الأول - ينصت إلى أحاديث الدار والدوار والمصنع والطريق، في الوقت الذي كان فيه كاتب الأمس يرجع إلى الكتاب والندوة وقاعة الدرس وعزلة التأمل، كما يجوز كذلك أن نقول عن أديب اليوم إنه يمس «مشكلات الحياة» في حضورها المباشر؛ لأنها مشكلات عملية تجري من حولنا، يوما بعد يوم، وساعة في إثر ساعة، وعن كاتب الأمس إنه كان يتعرض لمشكلات فكرية مجردة، بعدت صلتها المباشرة عن واقع الحياة الجارية؛ بل إن رواد الأدب القصصي والمسرحي في جيلنا الماضي - وهم أنفسهم الذين ما تزال لهم الريادة في القصة وفي المسرحية بين أدباء اليوم - كانوا بالأمس يكتبون القصة أو المسرحية فيما لم يكن يتصل بالحياة الجارية من قريب، ثم أصبحوا اليوم يكتبون وفي أذهانهم مشكلات الحياة اليومية كما تلمسها الأصابع وتبصرها العيون.
لكن هل يعني ذلك كله أن يوم الناس هذا قد خلا من كاتب المقالة العقلية التحليلية التي تتناول موضوعاتها تناولا مجردا، يعمم القول ولا يخصصه، ويبعد بالتجريد وبالتعميم عن المشكلات الحية كما تقع في المنزل والمصنع والطريق؟ كلا، بل مثل هذا الكاتب موجود - كما كان موجودا بالأمس - لأن وجوده محتوم بحكم وجود «الأفكار» التي تريد التحليل والتوضيح.
والخلاصة التي نريد أن نكتبها بالأحرف البارزة لتظهر للأعمى وللأعشى وللمبصر على حد سواء - قبل أن نمضي في الحديث - هي اختلاف طريقتين في تناول المشكلات: طريقة «الأديب» وطريقة «المفكر»؛ فرغم أن الأدب الخالص قد يجسد فكرا في ثناياه، وأن الفكر قد يصاغ في عبارة لها جمال الأدب وخصائصه؛ إلا أننا إذا ما تطرفنا هنا وهناك لنميز بين الطرفين، رأينا أنه حتى لو جعل كل منهما «مشكلات الحياة» المباشرة موضوعا له، لكان لكل منهما طريقته الخاصة.
فالأدب تجسيد لما يجرده الفكر، والفكر تجريد لما يجسده الأدب؛ على أن الأدب والفكر كليهما إذ يجيئان على مستوى رفيع؛ لا يجعلان من «مشكلات الحياة المباشرة» موضوعا لهما، لأن ذلك متروك للصحافة ولأصحاب التخصصات العلمية؛ فأما الأدب فيعالج تلك المشكلات بطرائقه الرامزة الخفية، وأما الفكر فيعالجها بالتحليل والتعليل اللذين من شأنهما أن يطيرا عن أرض الواقع المباشر إلى سماء التجريد.
لكن هنالك نفرا من الشباب الكاتب، لا يعجبهم العجب ولا الصوم في رجب؛ لأنهم في اللحظة نفسها التي يكرسون أنفسهم فيها «للفكر المجرد» يسوقونه في مقالات قصيرة أو طويلة، ويضطرون - شأنهم في ذلك شأن عباد الله المفكرين - أن يعلوا عن تفصيلات المشكلات كما هي واقعة، أقول إنهم في تلك اللحظة نفسها يوجهون اللوم لغيرهم من رجال الفكر على تقصيرهم في تناول «مشكلات الحياة»؛ وهل تكون للكاتب قيمة إلا بمقدار ما يواجه بفكره تلك المشكلات؟ هكذا يقول شبابنا الكاتب الغاضب، ولست على يقين من أنهم إذ يقولون ذلك قد وقفوا لحظة ليسألوا أنفسهم: إلى أية صورة تئول مشكلات الحياة عندما تصبح موضوعات للنظر عند رجل الفكر؟ إذ يجوز أن تبعد الشقة - في الظاهر - بين ما يتداوله المفكرون في عصر من العصور من ناحية، وما يعانيه الناس ويكابدونه في ساحات الأخذ والعطاء وأسواق البيع والشراء من ناحية أخرى، على حين يكون الطرفان - في حقيقة الأمر - على صلة وثيقة أحدهما بالآخر، برغم اختلاف الصورة في حالة الفكر عنها في حالة الواقع بتفصيلاته وكثرة عناصره المتشابكة.
إن «الحياة» التي يريد شبابنا الغاضب أن نقصر الفكر والكتابة على «مشكلاتها» لا تجيء في واقع الأمر إلا مجسدة في «أحياء» كلهم أفراد، يلتقون أو يفترقون على صور وأشكال لا سبيل إلى حصرها؛ أعضاء الأسرة الواحدة، والعمال في المصنع، والركاب في سيارة أو قطار، ومجموعة الناس في السوق، والطلاب اجتمعوا في غرفة الدراسة ... وهكذا وهكذا، على أن هؤلاء الأفراد إذ يجتمعون قد تتفق بينهم الأهداف والأساليب، وإذن فلا اختلاف، أو قد لا تتفق فيقع الصراع؛ إما على الهدف ماذا يكون، وإما على الوسيلة كيف تكون.
وإني لأتصور «المشكلات» التي قد تقع للناس في حياتهم على نوعين رئيسيين، ثم يعود أحد هذين النوعين فينشعب شعبتين: فأولا قد تكون مشكلات الناس «خاصة»، وقد تكون «عامة»، ولا أحسب الشباب الكاتب الغاضب الذين يحثوننا على تناول «مشكلات الحياة» دون سواها، لا أحسبهم يريدون منا أن نعالج بمقالاتنا مشكلات الناس الخاصة لنعرضها على الملأ - رضي أصحابها أو كرهوا - فنعرض للزوج وقد اختلف مع زوجته على شأن من شئون الحياة، أو نعرض للجار وقد اعترك مع جاره، فتلك - على أبعد الفروض - صور مما قد تسرع إليه صحافة الخبر حين تكون الصحافة لاهية في أمة عابثة. وهي نفسها المشكلات التي إذا مستها أصابع الفن بسحرها حولتها إلى أدب من مسرحية وقصة، وفي كلتا الحالتين لا يكون لرجل الفكر - من حيث هو كذلك - شأن بها في حد ذاتها؛ وأما المشكلات العامة التي تمس أبناء الإنسانية كلها، أو أبناء الوطن الواحد جميعا، أو مجموعات ضخمة من هؤلاء وأولئك، فهي التي تنشعب شعبتين: إحداهما مشكلات هي من شأن البحوث العلمية المتخصصة وحدها؛ لأنه لا حيلة «للفكر» بمعناه الأعم حيالها، فماذا يصنع رجل الفكر في مواجهة الأمراض المتوطنة؟ ماذا يصنع في توسيع الرقعة الزراعية؟ ماذا يصنع في تحسين الطرق وإقامة الجسور؟ لا شيء، وإذن فأحسب أن الشباب الكاتب الغاضب لا يريدون منا أن نعالج أمثال هذه المشكلات؛ وإذن فقد بقي نوع واحد هو الذي يجوز، بل يجب، أن يتناوله رجل الفكر بكل ما أوتيه من قدرة على التحليل والتعليل والحل، وهو المشكلات التي تكون عامة من جهة، وتنصب على علاقات الناس بعضهم ببعض من جهة أخرى، فماذا تكون العلاقة الصحيحة بين المواطن ومواطنه؟ بين المحكوم وحاكمه؟ بين المتعلم ومعلمه؟ ماذا تكون العلاقة بين الفرد الواحد وبقية الأفراد؟ بين الأمة الواحدة وبقية الأمم؟ وهكذا وهكذا.
إن هذه العلاقات الإنسانية كلها تتمثل في مواقف الواقع المحسوس؛ إما على صورة حسنة أو على صورة رديئة، لكن رجل الفكر إذ يتناولها يكاد لا يقف إلا لحظة قصيرة عند ما قد وقع منها بالفعل؛ ليجاوزه إلى ما وراءه من مبادئ ليقبل بعضها ويرفض بعضها، غير أنه إذ هو بإزاء مناقشة المبادئ المجردة تراه وقد بعد عن أرض الواقع بعدا يوهم المشاهد المتعجل أنه - أي رجل الفكر - قد شطح مع الخيال إلى أبراج عالية لا يكاد يسمع منها أنات المعذبين الذين يعانون في حياتهم مشكلاتها، ويكابدون أزماتها، انتظارا للفرج يأتيهم من حيث لا يعلمون.
تعالوا نطف بأبصارنا في تاريخ الفكر، لنرى كيف كانت وقفات المفكرين بإزاء مشكلات حياتهم؟ لعلنا نهتدي إلى الوقفة الصحيحة، حتى لا يلوم أحد منا أحدا على أنه يبلبل خواطر الناس دون أن يعالج لهم مشكلات الحياة التي يريدون لها حلولا على أيدينا.
هذا هو شيخ الفلاسفة سقراط، يواجه مشكلة من أعوص «مشكلات الحياة»، وأعني بها طريقة التوفيق بين واجب المواطن الصالح في إطاعة قانون دولته، وواجبه - في الوقت نفسه - في نقد تلك القوانين ومحاولة تغييرها إذا وجد فيها مواضع نقص وضرورة تغيير؛ فهل يلجأ المواطن في ذلك إلى التماس المؤامرات أو اصطناع وسائل العنف؟ أو هل يظل المواطن مطيعا للقانون حتى يتمكن من إقناع مواطنيه بالحجة العقلية ليغيروا من أوضاعه ما يراه معيبا فاسدا؟
تناول سقراط هذه المشكلة الحية التي مست حياته هو مسا مباشرا؛ ذلك أنه وهو في سجنه ينتظر الموعد المحدد لموته بجرعات مسمومة - كما حكم عليه رجال القضاء - جاءه تلميذه الغني أقريطون يعرض عليه الفرار من الدولة وقوانينها الجائرة، بعد أن أعد له الطريق برشوة الحراس، لكن سقراط - رجل الفكر - سرعان ما أسقط من الموقف تفصيلاته التي هو جزء منها، وارتفع بالمشكلة إلى مستواها المجرد المطلق، الذي يصلح للإنسان كائنا من كان، مهما يكن مكانه وزمانه، فانتهى به التفكير إلى أنه لا مناص للمواطن من إطاعة قانون دولته إلى أن يتاح له تغييره - إذا استطاع - بالحجة والإقناع، وفي محاورة أقريطون الجميلة الرائعة، التي تصلح إلى يوم الناس هذا أداة فكرية رادعة لمن يدبرون وسائل العنف للحصول على ما يريدونه لأنفسهم من أوضاع أمتهم، في هذه المحاورة الجميلة الرائعة، يتخيل سقراط قوانين الدولة وقد تجسدت أمامه تسائله وتحاسبه إذا هو فر من وجهها، كيف يجوز له أن يتمتع بحماية القوانين ثم يخونها ويخرج عليها غدرا؟ وهل تظل للدولة قوائمها ودعائمها إذا لم تعد لقوانينها قوة، وإذا قابلها الأفراد بالعصيان كلما حكمت عليهم بما لا يحبون؟
ها هنا كانت «مشكلة الحياة» خاصة برجل واحد في موقف واحد، لكنها تحولت عند رجل الفكر إلى مشكلة عقلية نظرية صرف، حتى لينسى قارئ المحاورة أن البحث قد بدأ خاصا بشخص معين في موقف معين؛ لأن هذا القارئ سيرى الماثل أمام عقله قضية عامة عن موقف المواطن، كائنا ما كان موطنه، تجاه قوانين دولته التي قد لا يكون راضيا عنها.
ونسوق مثلا آخر من الفكر العربي القديم، فقد اعترضت رجال الفكر عندئذ المشكلة نفسها التي تعترضنا اليوم - وهي كذلك من صميم «مشكلات الحياة» - وهي: هل نأخذ عن ثقافة اليونان أو لا نأخذ اكتفاء بثقافتنا المنبثقة من ظروفنا الخاصة؟ كان السؤال عندئذ - كما هو اليوم - حادا يتطلب الجواب الحاسم؛ لأنهم كانوا يجتازون عصرا - كعصرنا - تتدفق فيه التيارات الثقافية من كل صوب، وبخاصة في ميدان التفكير الفلسفي، فعلي أية صورة تشكلت المشكلة عند المفكرين؟
إنها ما لبثت أن اتخذت صورا مرسومة بالطابع النظري العقلي الذي ربما أنساك كيف بدأت؛ لأنك ستحصر النظر في موضوع البحث النظري وكأنه هو الموضوع، فها هما ذان رجلان يجتمعان في حضرة الوزير ابن الفرات (في منتصف القرن العاشر الميلادي) وهما أبو سعيد السيرافي، الذي لم يكن يؤمن بضرورة النقل عن ثقافة اليونان، وأبو بشر متى، الذي كان يرى ألا مندوحة عن ذلك، فبدأت بينهما مناقشة عن المنطق الأرسطي، الذي كان أبو بشر متى من علمائه: هل ينفع المتكلم باللغة العربية في شيء؟ ولم يكد أبو بشر يقول عن ضرورة هذا المنطق اليوناني للإنسان بغض النظر عن لسانه؛ لأنه «آلة من آلات الكلام يعرف بها صحيح الكلام من سقيمه، وفاسد المعنى من صالحه، كالميزان، فإني أعرف به الرجحان من النقصان»، حتى طفق السيرافي يتدفق حججا يقيمها على أن للغة العربية خصائصها المميزة، وصحة الكلام مرهونة بالإعراب من حيث اللغة، وبالعقل من حيث المعنى، ودراسة المنطق الصوري لا تغني أحدا عن التجربة الواقعية الفعلية بحقائق الأشياء المرتبط بعضها ببعض بتلك الصور التي يدرسها المنطق. وتشبيه المنطق بالميزان ناقص؛ لأن من الأشياء ما لا يوزن بميزان، فإذا كان المنطق الأرسطي ملزما لأحد فهو ملزم للمتكلم باللغة اليونانية التي على أساس تراكيبها قام ذلك المنطق، واختلاف اللغات بعضها عن بعض يقتضي حتما أن تكون هناك صور مختلفة في تركيب اللفظ الذي يعبر عن معنى معين، والمعاني لا تكون يونانية ولا عربية، إنما هي إنسانية عامة.
هكذا تمضي المناقشة بين الرجلين، على نحو لو كان قد سمعه واحد من شبابنا الكاتب لغضب متسائلا: ما هذا النقاش النظري، الذي لا يطفئ ظمأ الظمآن، ولا يشبع جوع الجوعان؟ لماذا لا تصبان اهتمامكما على «مشكلات الحياة»؟!
إلى أن ينبهه صديق هادئ بأن الجذور التي انبثق منها مثل هذا النقاش النظري، هي من صميم مشكلات الحياة؛ لأنها تمس المصادر التي يجوز أو لا يجوز للناس أن يغترفوا منها الفكر والثقافة. •••
واختر ما تشاء من أمثلة رجال الفكر في عصرنا؛ اختر مثالك من فلاسفة الوجودية في فرنسا، أو من فلاسفة التحليل في إنجلترا، أو من فلاسفة البرجماتية في أمريكا، أو من فلاسفة المادية الجدلية في روسيا؛ تجدك أمام نقاش نظري مجرد، لا يذكر لك شيئا عن زيد في حقله، وما يلاقيه من مشكلات في ري الأرض وحرثها، ولا يذكر لك شيئا عن عمرو في مصنعه، وما يعانيه هناك من طرق الحديد وتشكيل القضبان، لكنه نقاش إما يغوص بك في أغوار عميقة من النفس الإنسانية ليظهر ما كمن فيها من عوامل القلق والحيرة، لا نفس زيد ولا عمرو، لكنها «النفس» بمعناها المجرد المطلق، وإما يدخلك في دقائق جملة لغوية يحلو لرجل الفكر أن يحللها ليضع تحت المجهر طرائق الناس في لفتات تفكيرهم كيف تكون، وإما يرد لك كل شيء في حياتك إلى واقع مادي يتسلسل سيره في حلقات متتابعة من التطور النامي، ولن تجد في أية حالة من هذه الحالات أن «مشكلات الحياة» من أخذ وعطاء، وبيع وشراء، وطعام وشراب، وثياب ومسكن، قد حلت صعابها، لا كثيرا ولا قليلا؛ لأن الذي يحل هذه الصعاب هم أصحاب التخصصات العلمية في الزراعة والصناعة وتبادل السلع ونسج الأقمشة وبناء البيوت، لكنها - برغم ذلك - مناقشات ينفذ أصحابها من خلال المشكلات الراهنة إلى الأسس والمبادئ التي اندست في طواياها، لنعود هابطين مرة أخرى من تلك الأسس والمبادئ إلى أرض الواقع، فإذا هو مفهوم واضح، فنزداد بحياتنا وعيا، ونزداد لمشكلاتها إدراكا.
وبعد هذا كله، فإني أقرر أن رجل الفكر ملتزم أمام نفسه وأمام الناس؛ ملتزم بماذا؟ إنه ملتزم بالخوض مع الناس في مشكلاتهم، ولكن ذلك يتم له بطريقة «المفكر» لا بطريقة «الأديب» ولا بطريقة «العالم المتخصص » ولا بطريقة الصحفي الذي ينقل الخبر عن الشيء كما وقع؛ فلكل من هؤلاء طريقته إزاء المشكلة الواحدة، ومن الخير أن يلتزم كل منهم الطريقة التي يحسن أداءها، وقد يجتمع أكثر من طريقة واحدة في شخص واحد موهوب، فتراه يتعرض للمشكلة على صورة معينة هنا، وعلى صورة معينة هناك، كما يحدث لسارتر - مثلا - أن يعالج مشكلة ما بالفكر المجرد حينا، وبالقالب المسرحي حينا آخر.
كل هؤلاء يلتزمون «الحق»، لكن معيار الحق متعدد الصور بتعدد طرائق القول؛ فلئن كان الحق عند الصحفي - وهو ينقل للناس خبرا عن مشكلة من مشكلات الحياة الجارية - هو أن يرسم صورة كلامية دقيقة التطابق مع تفصيلات الحادث كما وقع، فإن الحق عند الأديب - وهو يعرض للمشكلة عينها في قصة أو مسرحية - هو أن يجيد تصوير أشخاصه في تفاعلهم حتى لو لم يلتزم، بل لا ينبغي له أن يلتزم تفصيلات الواقع كما وقع، والحق عند العالم المتخصص وهو يخطط للمشكلة حلا، هو نجاح التطبيق، وأما صاحبنا المفكر فصورة الحق عنده هي دقة التحليل أو سلامة التعليل الذي يستطيع بهما أن يجاوز حدود الواقع إلى حيث المبادئ الأولى التي على أساسها وقعت، أو إلى حيث النتائج القريبة والبعيدة التي عساها أن تترتب على تلك المشكلة.
خذ مثلا هذه المشكلة التي أعدها من أعقد مشكلات حياتنا الاشتراكية الجديدة، وأعني مشكلة التوازن بين احتفاظ الفرد بكيانه المستقل المسئول، وبين ضرورة أن يكون هذا الفرد على صلات وثيقة بينه وبين سائر المواطنين، بحيث ينصهر معهم في مجموع واحد متصل؛ وسل نفسك: كيف يمكن لرجل الفكر أن يتناول هذه المشكلة إذا هو قصر نفسه على ظواهرها البادية في حياة الناس اليومية، دون أن يتعمقها إلى أصولها وجذورها، التي ربما ارتدت إلى الحياة القبلية الأولى؛ ذلك أننا إذ نلاحظ سهولة أن ينصهر الفرد منا في أسرته، نلاحظ أيضا إلى جانب ذلك صعوبة أن ينصهر ذلك الفرد نفسه في مجموعة المواطنين، من عرفهم منهم، ومن لم يعرفهم، على حد سواء.
أفإن فلسفنا الموضوع، وشرحنا كيف تتحقق ذاتية الشيء - أي شيء - بوجوده وبصفاته وبعلاقاته مع سائر الأشياء، وأخذنا نوغل في الجانب الصوري الخالص، الذي يبين أن الكائن الواحد محال تعريفه إلا بربط الصلة بينه وبين سواه، أقول أفإن فعلنا شيئا كهذا قيل لنا: على رسلكم، واحصروا أنظاركم في مشكلات الحياة؟! ذلك هو ما يطالبنا به نفر من الشباب الكاتب!
ضمير الكاتب ودستور المثقفين
ضمير الإنسان - كاتبا أو غير كاتب - هو ما يضمره في دخيلة نفسه من مبادئ يستخدمها في التمييز بين الطيب من سلوكه والخبيث؛ ولندع رجال الفلسفة يختلفون فيما بينهم على مصدر تلك المبادئ: من أين جاءت؟ أهي نابعة من فطرة الإنسان من حيث هو إنسان ذو طبيعة خاصة، أم هي ما بثه المجتمع في أفراده من معايير وجدها على طول السنين صالحة لبقائه؟ أقول: لنترك رجال الفلسفة يختلفون فيما بينهم على الضمير كيف نشأ، وحسبنا أنهم متفقون جميعا على وجود طائفة من مبادئ مكنونة مطوية بين الجوانح، توحي إلى صاحبها بما ينبغي فعله في كل موقف معين، فإما استمع صاحبها إليها فهدأت نفسه واستراح، وإما عصاها فتمزقت نفسه بين باطن وظاهر.
لكن هذا القول إذا صدق على كل إنسان مرة؛ فهو يصدق على الكاتب ألف مرة، لأن الكاتب بحكم وصفه هذا لا يكتم ما بنفسه في صدره، بل يخرجه في كتابة تصل إلى أي عدد شئت من الناس، بحسب ما يكون لهذا الكاتب من جمهور قارئ؛ إن الكاتب لا يكتب لنفسه، وإلا لاكتفى بالتأمل الصامت، هذه حقيقة واضحة بذاتها، لا تحتاج إلى برهان يؤيدها؛ وإنما جاء وضوحها الذاتي هذا من أن كلمة «كاتب» لا يتم معناها إلا بما يضايفها، وهو «القارئ»، شأنها في ذلك شأن كلمات كثيرة أخرى، فهل تتصور «والدا» بغير ولد، أو «معلما» بغير متعلم، أو «حاكما» بغير محكوم؟ لا، وكذلك لا يكون كاتب بغير قارئ - موجود بالفعل أو بالإمكان - وإذا كان هذا هكذا؛ فقد أصبح واضحا أن ليس من حق الكاتب أن يكذب في الرسالة التي يريد نقلها إلى قارئه؛ الكاتب «متكلم» يثبت كلامه على الورق؛ والقارئ سامع، والفرض في المتكلم أنه ينقل إلى سامعه نبأ جديدا، أو رأيا يراه، وإذن فالواجب الخلقي يقتضيه أن يكون صادقا فيما ينقله، لا أقول أن يكون مصيبا؛ لأنه قد ينقل ما هو خطأ بالنسبة إلى الحقيقة الخارجية، لكنه عند نقله لم يكن يعلم عن تلك الحقيقة الخارجية إلا ما كان قائما في اعتقاده، فليس على «المخطئ» في الرأي حرج ولا ضير، لكن الحرج كل الحرج، والضير كل الضير، على «الكاذب» الذي يقول بظاهر لفظه - منطوقا أو مكتوبا - ما لا يعتقد هو في صوابه، وذلك هو الضمير وما يمليه على صاحبه.
ليكن الكاتب من أي طراز شئت، ليكن كاتب قصة أو مسرحية، ليكن شاعرا أو شارح فكرة أو صاحب رأي؛ فهو في كل حالة، وفي جميع الحالات، مطالب بالصدق؛ ليتسق ظاهر لفظه مع باطن ضميره، وما أصدق الذي قال إن «لسان الفتى نصف، ونصف فؤاده»! أما اللسان فهو النصف الخارجي الظاهر، الذي يتمثل في نطق المتكلم وفي كتابة الكاتب، وأما الفؤاد فهو النصف الداخلي، الذي نضمر فيه ما نضمره من مبادئ وأفكار، وكمال المرء هو في مطابقة النصفين، الباطن منهما (= الضمير) والظاهر (الكتابة والكلام وسائر أنواع السلوك)؛ لأنه لا يبقى بعد أن تختلج في فؤادك الفكرة ثم تصدق في التعبير عنها، لا يبقى بعد ذلك «إلا صورة اللحم والدم» التي يقيمها رغيف خبز وجرعة ماء.
فإذا سألتني: هل يكون لرجال الفكر والأدب والفن دستور يلتقون عنده جميعا، على اختلاف ما بينهم من وسائل التعبير، وعلى تباين ما تضطرب به أنفسهم وقلوبهم وعقولهم من مشاعر وأفكار؟ أجبتك: نعم، يكون لهم دستور ذو مادة واحدة هي أن يصدر كل منهم عن ضميره صدورا صادقا أمينا، فيخلص لنفسه وللناس؛ إنك إذا طالبت الكاتب أو الفنان ألا يخرج من ذات نفسه إلا ما يتفق مع أهوائك؛ كنت كمن «صادر على المطلوب» (في لغة المناطقة) لأنك عندئذ كمن يعلم النتيجة قبل مقدماتها، وكمن يرى النهاية قبل الطريق إليها؛ وإذن فما جدوى أن يكتب لك كاتب إذا كنت تعلم مقدما ما لا بد أن ينتهي إليه من نتائج؟ إن الأصل في الكتابة - بل في الكلام بكل أنواعه المفيدة - أن يحمل إليك جديدا لم تكن تعلمه قبل القراءة أو قبل الاستماع إلى حديث المتحدث، ومعنى ذلك كله - مرة أخرى - أن دستور المفكر والفنان الذي لا فكاك منه، هو صدقه مع نفسه ومع الناس، على اختلاف معنى «الصدق» في مجالي «الفكر» و«الفن»، مما لا مجال لتفصيل القول فيه الآن، لكن القاسم المشترك الأعظم في حالات الصدق كلها، هو التطابق بين طرفين، أحدهما داخلي وهو «الفكرة» أو «الرأي» أو «الشعور»، أو ما شئت من هذه المضامين، والآخر هو القول الذي جاء ليصوره؛ وأما انطباق هذا القول على الموقف الخارجي أو عدم انطباقه فأمران داخلان في باب الصواب والخطأ الذي يمكن فيه رد الخطأ إلى صواب، دون أن يكون في الأمر ما يمس أخلاق الكاتب أو الفنان، أعني: دون أن يكون فيه ما يخدش ضميره.
وأقول ذلك تمهيدا لإثبات خواطري التي خطرت بمناسبة ما طرحته مجلة «الاشتراكي» في عددها الحادي والعشرين، الصادر يوم السبت 13 من نوفمبر 1965م، أمام المثقفين جميعا ليكون موضوعا للمناقشة، وهو أن يكون لهم دستور قوامه جملة مبادئ اقترحتها إحدى اللجان المتخصصة في أمانة الدعوة والفكر الاشتراكي.
وينقسم المعروض قسمين رئيسيين؛ أحدهما للمبادئ العامة، والآخر لمشكلات التطبيق، وسأكتفي هنا بذكر ما قد عن لي من ملاحظات عن «المبادئ» الأحد عشر، تاركا ما قيل عن مشكلات التطبيق إلى فرصة أخرى.
كانت الإشارة دائما إلى الفن والأدب، ولم ترد إشارة واحدة إلى «الفكر» الذي يتناول القضايا بالتحليل والنقد والعرض والشرح، والذي يقدم الرأي الجديد فيما ينبغي تغييره من أوضاع الحياة، أو ما تنبغي إضافته أو حذفه، وكيف يكون ذلك ومتى؟ وميثاقنا الوطني مثل لهذا النوع من «الفكر» وهذا البيان نفسه المعروض للمناقشة ضرب من ضروب «الفكر»، فليس هو بالقصة ولا بالمسرحية ولا بقصيدة شعر، والنقد الأدبي والفني «فكر»، والفلسفة «فكر»، والاقتصاد والاجتماع «فكر »، فهل يراد بالدستور ألا يشمل الكتابة التي تدخل في هذه الأبواب؟! أغلب ظني أن الحذف هنا غير مقصود؛ لأن الغاية - كما جاء في العنوان الكبير الذي صدر به البيان المنشور - هي «وحدة فكرية للمثقفين»، وأصحاب «الفكر» هم بغير شك من هؤلاء المثقفين، الذين تراد لهم الوحدة؛ وإذن فلنفترض أن البيان حين أخذ يكرر الإشارة إلى «الأدب والفن»، كان مراده أن يتضمن معهما بقية ضروب النشاط الفكري، التي قد تجعل وسيلتها المقالة أو الكتاب أو الحديث أو الندوة، أو ما يجري مجراها من وسائل الاتصال بين صاحب الفكرة وقرائه أو المستمعين إليه، وربما جاز لنا أن نستثني العلماء المتخصصين في علومهم؛ لأن العلم الأكاديمي المتخصص - وإن يكن فكرا - إلا أنه لا يدخل في مفهوم «المثقفين» الذين نقصد إليهم بالدستور المقترح؛ إذ لا محل لإضافة الباحث في الجيولوجيا أو في الكيمياء أو في التشريح إلى جماعة «المثقفين» بالمعنى الذي نريده ليشمل رجال الأدب والفن والفكر، الذي ينصب على صور المجتمع وما يتصل بها من روابط وعلاقات، وما تقاس به من قيم، وما ترمي إليه من غايات وأهداف.
ألاحظ أن المبدأين (1) و(2) هما أقرب إلى «النداء» الموجه إلى أولي الأمر منهما إلى «المبادئ» يتعاهد عليها المثقفون في نشاطهم؛ فالمبدأ الأول يقرر أن الأدب والفن ضروريان للثورة؛ ولذلك لا ينبغي إهمالهما، والمبدأ الثاني يطالب بأن ينظر إلى «الثقافة» على أنها «خدمة» لا على أنها «سلعة» يطلب من ورائها الربح.
إلا أن أصحاب البيان - كأنما أرادوا أن يطمئنوا القائمين على خزانة الدولة على أموالهم - أضافوا إلى المبدأ الثاني إضافة يقررون بها شيئا هو أبعد شيء عن اتفاق المثقفين، وذلك أنهم قرروا أن الفن والأدب الجيدين الرفيعين من شأنهما حتما أن يجتذبا انتباه الجماهير وإقبالهم، ومن ثم يزداد الشراء، فتزداد الحصيلة النقدية، فلا تضيع على الدول أموالها «هذه النتيجة الأخيرة من عندي، وليست مذكورة بنصها في البيان»، فها هنا لا يكون اتفاق بيننا جميعا على الرأي، ما لم نحدد المعنى المقصود بكلمة «الجماهير»؛ ذلك لأنه مما لا جدال فيه أن «جمهور» القراء - وأتعمد ذكر الكلمة على هذه الصورة بدل كلمة «الجماهير» - أقول إن «جمهور» القراء على درجات متفاوتة من التحصيل ومن الاهتمامات الثقافية؛ فهنالك قاعدة واسعة عريضة من المواطنين بينها قدر مشترك من الثقافة الأولية، كما أن هنالك قمة ضيقة الدائرة، لها حظ موفور من الثقافة العليا، وحتم على من يخططون للثقافة في بلادنا ألا يغفلوا عن «الجمهور» بكل درجاته الثقافية، وبكل اهتماماته، ومن هذه الاهتمامات ما يشترك فيها عدد ضخم من المواطنين، ومنها ما ينحصر في قلة قليلة؛ وإذن فلا مناص من أن تتفاوت دخول المنتجات الثقافية؛ فمنها ما هو كفيل بسد نفقاته، ومنها ما لا بد فيه من التضحية المالية من قبل الدولة.
وإذا كان لي أن أقترح تعديلا على العبارة الواردة في المبدأ الثاني، وأعني العبارة القائلة: «وفن رفيع بلا جمهور ليس فنا على الإطلاق؛ لأنه في الغالب فن زائف يتعالى على الناس ...» فإنني أرى أن يزال التناقض اللفظي الكائن في المقابلة بين «على الإطلاق» و«في الغالب»؛ لأنه إذا كان الفن الذي لا جمهور له لا يعد فنا «على الإطلاق»، فهو كذلك «على الإطلاق» فن زائف، ولا يقتصر زيفه على «أغلب» الحالات دون «أقلها»؛ ولذلك أقترح أن تكون العبارة هكذا: «وفن بغير جمهور - قل ذلك الجمهور أو كثر - هو فن لا رجاء فيه»؛ فبهذه الصورة تتحقق لي معان كثيرة: (1) التخلص من تناقض القول «بأن فنا رفيعا ... ليس فنا»، (2) والتخلص من تناقض القول بين «على الإطلاق» و«في الغالب»، (3) والإشارة الضمنية بأن جمهور المستفيدين من النتاج الثقافي قد يكون كثيرا حينا وقليلا حينا آخر؛ بحسب الدرجة الثقافية أولا، وبحسب تنوع الاهتمامات ثانيا، (4) عدم التورط في تعريف بعينه من بين التعريفات الكثيرة للفن؛ فسواء كان الفن هو ما يجد جمهورا أو لم يكن، فإننا «لا نريد» إلا ذلك الفن الذي ينتفع به فريق من المواطنين، مهما يكن عددهم.
يشترط المبدأ الثالث أن تكون «حياة الناس في بلادنا» هي منابع الفن؛ ولهذا يلزم «الكتاب والفنانين الذين يبحثون عن جوهر بلادنا، وروح شعبنا الحقة أن يعيشوا بين الجماهير ...»
فأولا:
لست أدري لماذا نقصر منابع الفن على حياة الناس «في بلادنا»، وكان يكفي أن نقول «حياة الناس» على إطلاقها؛ لأن الكاتب أو الفنان كثيرا جدا ما يحتاج في عمله إلى مقارنة «بلادنا» بغيرها ليتضح «جوهر بلادنا» بهذه المقارنة نفسها، وفي ظني أنه كلما قصر الكاتب أو الفنان نفسه على حدود بلاده؛ ضاقت أمامه فرصة معرفة بلاده ضيقا شديدا، وهاكم رجال الأدب والفن عندنا منذ أول القرن العشرين، حتى الآن، منذ محمد عبده، إلى أي كاتب أو فنان ممن يعيشون معنا اليوم، فلن تجد بينهم واحدا كان له أثر دون أن يمتد أفقه ليشمل حياة الناس في بلاده وحياة الناس في بلاد أخرى؛ ليخرج من المقارنة بشيء يفيده ويفيدنا عن حقيقة بلادنا، وحسبي في هذا المقام أن أقول إنه لولا متابعتنا لتيارات القصة والمسرحية - مثلا - في غير بلادنا؛ لما ظفرنا بكل ما قد ظفرنا به من قصص ومسرحيات على أيدي أدبائنا من حيث النضج في الشكل والمضمون معا، ودع عنك ما نستضيء به في فهم بلادنا نفسها، من أفكار ومن فلسفات ومن مناهج بحث مما يستفيده الباحثون والدراسون لما يجري في غير بلادنا.
وثانيا:
أخشى أن يكون ما يدور في أخلاد الكتاب والفنانين حين يلتزمون بهذا المبدأ، هو أن المقصود ب «حياة الناس في بلادنا» هو الجانب المرئي الظاهر من مواضعات العيش؛ لأن التوصية الواردة في المبدأ بوجوب أن يعيش رجال الفن والأدب «في الريف والحضر والمناطق الصحراوية وعلى شواطئ البحر وفي منطقة البحيرات الشمالية وفي الصعيد ... إلخ»، أقول إن هذه التوصية قد توهم بأن المقصود هو شيء أشبه بالمسح الاجتماعي لأبناء البلاد في شتى بقاع سكناهم وأعمالهم؛ فالمادة المحصلة من مثل هذا المسح الاجتماعي - على ضرورتها - يقوم بها مختصون من غير رجال الأدب والفن عادة (وبالطبع لا يعني هذا ألا يطلع الأدباء والفنانون على وجوه الحياة في شتى أرجاء البلاد)، لكن الأديب والفنان يأخذ هذه المادة الاجتماعية - سواء أكانت من تحصيله هو أم كانت من تحصيل علماء الاجتماع - ثم ينفذ خلالها ليتصيد ما وراء السطح الظاهر من أصول وبواعث وقيم ومعايير، هي التي منها تتكون روح الشعب.
وإذن، فبينما نوجب على الفنان والكاتب أن يبحث عن روح الشعب وجوهره، لا يقتضي ذلك منا أن نوجب عليه التنقل بجسده هنا وهناك؛ وهل تنقل على هذا النحو توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ليتاح لهما أن يستخلصا كثيرا من العناصر الأساسية في روح الشعب على الصورة التي وفقا فيها إلى تحقيق هذا الهدف؟!
يقرر المبدأ الرابع أن «الفن في جوهره دعوة لشيء ما»، ثم يترك للفنان كامل الحرية فيما يدعو إليه بفنه، لأن ذلك متوقف على وجهة نظره فيما يحب وما يكره .. وإلى هنا أجد المبدأ يقاتل في غير معركة؛ لأنني أقلب نظري في كل ما أنتجه رجال الفن والأدب، لأرى أين يكون الأثر الفني أو الأدبي الواحد الذي نحاربه بناء على هذا المبدأ؟ فلا أجد شيئا.
لكن عبارة وردت في غضون العبارة التي صيغ المبدأ بها، أراها قلقة في موضعها، ومتناقضة مع جيرتها، وتلك هي العبارة التي قيل فيها إن القائلين بأن الفن ليس ذي رسالة يؤديها، قد يكونون من المغرضين الرجعيين الذين ينادون بالفن الفارغ الخالي من الهدف «لصرف الجماهير عن أهدافها»؛ أنفهم من هذه العبارة الأخيرة أن الكاتب أو الفنان محتوم عليه أن يخدم «أهداف الجماهير»؟ إذا كان الأمر كذلك فهناك إذن تناقض بين هذا القول وقول آخر وارد في المبدأ ذاته من جهة أخرى، وهو أن الكاتب أو الفنان حر في اختيار وجهة النظر التي يدعو إليها؛ ولو كان لي أن أختار أحد النقيضين الواردين في هذا المبدأ، لاخترت حرية الإنسان الكاتب الفنان في اختيار ما شاء من وجهات النظر إلى الحياة، ما يحب منها وما يكره.
ويوصي المبدأ الخامس رجل الفن أن يكون عطوفا على الشعب، وألا يقوم أخطاءه - التي هي نتيجة مباشرة للظلم والقهر مدى قرون طويلة - ألا يقوم تلك الأخطاء وأوجه النقص بالتشهير، ولكن بالعطف والهداية.
إنه إذا جاز توجيه مثل هذه التوصية إلى من هم غرباء عن الشعب؛ فلا يجوز أن يوجه لابن الشعب وربيبه، إن الكاتب أو الفنان لم يهبط على قومه من المريخ، وليس هو بالذي يجلس متفرجا من خارج، يشهد أفراد شعبه وهم يتحركون على المسرح، بل هو واحد منهم، وعلى مسرح واحد معهم؛ إن أحدا منا لا يتفرج على أحد، بل إن جميعنا بحارة على مركب واحد، تتنوع بيننا الواجبات، لكن المرفأ المقصود واحد؛ ولهذا فإني أحس من عبارة هذا المبدأ ظلا من الريبة يلقيها بعضنا على بعضنا بغير جدوى.
في المبدأ السادس تكرار لما ورد في المبدأ الثاني، لكنه تكرار يزيد الخطأ وضوحا؛ فهو مبدأ يقرر الارتباط القوي بين الفنان وبيئته - وجمهور الناس جزء جوهري من هذه البيئة - وإذن فلا بد أن يخاطب الأديب أو الفنان هؤلاء الناس. إلى هنا لا خلاف.
لكن عبارة المبدأ السادس تستطرد لتضع أمامنا مقدمة ونتيجة تنتج عنها في ظن أصحاب المبدأ، ولكنها لا تنتج عنها أبدا في ظننا؛ وفضلا عن عدم لزومها عن مقدمتها، فهي كذلك نتيجة تحمل رأيا لا نراه صائبا؛ أما المقدمة فهي ما أسلفناه من ضرورة أن يكون العمل الفني عملا اجتماعيا، بالإضافة إلى كونه في الوقت نفسه تعبيرا عن صاحبه؛ وأما النتيجة فهي قولهم: «ولهذا فإن الأعمال الفنية التي تخاطب أعدادا كبرى من الناس، وتحظى برضاهم أو اهتمامهم، هي بالضرورة أفضل من أعمال أخرى أقل منها جمهورا»، وهذا حكم يتضمن أن العمل الفني الواحد يخاطب «الجمهور» كله على اختلاف درجاته الثقافية، فكأنما توفيق الحكيم - مثلا - يخاطب بمسرحية «أهل الكهف»، فلاح الحقل، وعامل المصنع، كما يخاطب بها جمهور الثقافة الرفيعة، فإذا وجدنا مسرحية أخرى له أو لكاتب آخر قد لقيت إقبالا أكثر من الجمهور بكل درجاته الثقافية؛ تحتم أن تكون مسرحية أفضل! نعم، إن المبدأ السادس يشترط في العمل الفني ذي الجمهور الكبير جودة فنية، لكننا برغم هذا الشرط المفيد، نقول إنه إذا كان ثمة عملان فنيان، كلاهما جيد من الوجهة الفنية، أحدهما يخاطب فئة عالية الثقافة، والآخر يخاطب فئة أقل ثقافة وأوسع رقعة؛ فكلاهما يكون عندنا على درجة واحدة من الفضل؛ لأن كليهما حقق الغرض الذي من أجله أنشئ؛ ولو لم يكن الأمر كذلك، لانتفت الحكمة في أن نخصص في الإذاعة برنامجا خاصا، وفي التلفزيون قناة خاصة، وفي المسرح مسرحا خاصا، وفي المجلات والمؤلفات مطبوعات خاصة، نريد بها جميعا فئة قد لا تكون كثيرة العدد، لكنها بالغة التأثير.
لهذا أقترح في المبدأ السادس أن نبقي على المقدمة، وأن نحذف ما زعمناه نتيجة ضرورية لها، وهو في حقيقته ليس كذلك.
لست أظن أن ثمة خلافا في الرأي حول المبدأ السابع الذي يوصي بصيانة التراث الفني والأدبي الذي استطاع أصحابه أن يجاوزوا به حدود مصالحهم الشخصية أو الطبقية، إلى الجانب الإنساني المشترك بين البشر أجمعين.
وكذلك لا خلاف في الرأي حول المبدأ الثامن الذي يدعو إلى ضرورة الإجادة الفنية، فلا يكون الكم هو مدار إنتاجنا، بل لا بد أن يجيء الكيف في المرتبة الأولى، حتى إذا ما اتسع نطاق الإقبال عليه بين الجمهور، كان إقبالا على ثمرات ممتازة تسمو بالإنسان روحا وعقلا؛ ولكنني ألاحظ هلهلة في صياغة هذا المبدأ، قد تضيع علينا دقة المعنى المقصود، كما أنني أخشى أن يكون ثمة تناقض بين مضمون هذه المادة ومضمون المادة رقم 2؛ لأن الضغط هنا واضح على أن العمل الجيد لا يعود بالربح، وأن هدفنا ليس هو الكسب المادي، بل هو كسب العقول والأرواح، وهو الاتجاه الصحيح؛ على حين أن المادة رقم 2 قد يفهم منها أن العمل الفني يحكم على جودته بسعة الإقبال عليه من قبل الجمهور، وإذن تكون كثرة الإقبال هي الأصل، والحكم بالجودة فرع عنه، أي إن الحكم بجودة الكيف نتيجة متفرعة عن زيادة الكم، وليست تلك الجودة الكيفية حقيقة قائمة بذاتها، يمكن الحكم عليها بمعايير النقد الفني التي لا تركز على كثرة التوزيع أو قلته، فموضوع الكم والكيف في حاجة إلى مزيد من الإيضاح والتحديد.
وأما المبدأ التاسع الذي يقرر أن الفن أصدق من الطبيعة؛ فأرى أنه أقرب إلى الملاحظات العابرة التي تقال عند الموازنة بين خلق الطبيعة والخلق الفني، منه إلى «المبدأ» الذي يضعه المثقفون في دستور لهم ليلتزموه في إنتاجهم الفني والأدبي.
يضع المبدأ العاشر مواصفات للعمل الفني إذا أريد له أن يكون عالميا غير منحصر في حدود إقليمه المحلية، ومن تلك المواصفات أن الذي يقرر عالمية العمل هو مضمونه «وليس اللغة أو الوسيلة التي نفذ بها»، ونحن لا نتردد في قبول ذلك من حيث «اللغة»، لكننا نتردد في قبوله من حيث «وسيلة التنفيذ»؛ إذ ماذا تكون «وسيلة التنفيذ» سوى «الشكل» الفني الذي صب فيه المضمون؟ .. لقد سبق أن قررنا في المبدأ الرابع أن «على الاشتراكيين أن يؤكدوا في وضوح ضرورة الالتحام العضوي بين الشكل والمضمون في العمل الفني الواحد»، فكيف يجوز الآن أن نقول إن أحد هذين الجانبين فقط - وهو المضمون - هو الذي يؤدي إلى عالمية العمل، كأنما نريد أن نقول إن الفصل ممكن بين الجانبين، بعد أن قررنا التحامهما التحاما عضويا؟ هل يمكن مثلا أن يحتفظ شكسبير بكل مكانته في الأدب المسرحي، إذا نحن نقلنا «معانيه» مجردة عن القالب المسرحي الذي انصبت فيه تلك المعاني؟ هل يكون دانتي هو دانتي إذا غضضنا النظر عن هيكل بنائه الفني واكتفينا بمضمون المعاني التي يريد نقلها؟ لا، إن العمل الفني وحدة عضوية كما قرر البيان في مواضع مختلفة، وإذن فهو عالمي - أو محلي - من حيث هو كيان موحد، والذي يجعل العمل الفني عالميا، هو السبب نفسه الذي ذكر في المبدأ السابع، الخاص بضرورة احتفاظنا بالتراث، حين قررنا أننا نصون تراث الماضين إذا وجدناه يتناول الإنسان من حيث هو كذلك، ولا يقصر نفسه على إقليمه المحدود، فكذلك نحن اليوم، إذا أردنا لسوانا أن يقدر إنتاجنا، فعلينا ألا نقصره على إقليمنا المحدود، بل لا بد أن نعلو به إلى حيث يتناول الإنسانية جمعاء، متمثلة ومتجسدة فيما نبثه في أعمالنا من مثل الحق والخير والجمال.
وأما المادة الحادية عشرة - وهي الأخيرة - فأظنها لا تضيف شيئا إلى ما سبق ذكره في مواد أخرى، حين تقول إن للعمل الفني جانبين؛ أحدهما سياسي والآخر تقني، والمقصود بالسياسي خدمته لمصالح الشعب، والمقصود بالجانب التقني مراعاة الجودة الفنية.
نموذجان من ثورة الفكر
ليست ثورة الفكرة كثورة السياسة، فيها قعقعة المصفحات وهزيم الطائرات، وهتاف يثير غبار الطريق، وصياح يهز أمواج الصوت والصورة في أجهزة الإذاعة؛ لكن ثورة الفكر يغلب أن تجيء كقطرات الماء تنصب على الجلمود الأصم فتحسبها واهنة بلا أثر، وإذا بالأيام تمضي فإذا الجلمود الأصم قد تفسخ وأرهف السمع ليلتقي الرسالة، والعجب هو أن ثورات الفكر بصوتها الخافت الهادئ، هي التي تحرك النفوس - على مدى الزمن القصير أو الطويل - لتثور بذلك الهتاف والقعقعة والهزيم في دنيا السياسة والاجتماع.
وفي تراثنا ثورات فكرية مكتومة، نخشى أن يطول بها الصمت، فإذا هي كالعدم الذي لم يكن ولا هو كائن أو يكون، فما علينا نحن الكاتبين في هذا العصر إلا أن ننفض الغبار عن صفحاتها لعلها تفعل في الناس فعلها .. قال شكسبير - في مسرحية «العين بالعين» - على لسان أمير أراد أن يخبر حال إمارته متنكرا، فجاء بمن ينوب عنه في أثناء غيبة زعم أنها سفر إلى بلد آخر، وما هو في الحقيقة بسفر، بل تبديل ثوب بثوب ليخالط الناس وكأنه أحدهم، فيذوق بنفسه حلو الحياة ومرها، فأوصى نائبه ذاك بقوله: «... ألا إن السماء لتفعل بنا ما نفعله نحن بالشموع، فنحن لا نضيء الشموع لذاتها، وكذلك حسناتنا إذا هي لم تنشر ضوءها في الناس فهي عدم من العدم، إن النفوس السامية إنما اكتسبت سموها من سمو غاياتها، وإذا أقرضت الطبيعة أحدنا مثقال ذرة من كنوزها، فإنما تكون في إقراضها ذاك مثل ربة شحيحة، تعطي ما تعطيه مزهوة بنفسها، كما يفعل دائن القروض، له على المدين أن يشكر له الصنيع، وأن يدفع له ريع قرضه»، ولقد دس لنا الأسبقون في ثنايا ما أورثونا إياه كنوزا، هي كالشموع التي ذكرها شيكسبير، إذا لم تكن هادية بضوئها فهي كالعدم، أو هي كالقروض أقرضونا إياها، ويتوقعون منا أن نرد لهم قرضهم ، مضافا إليه زيادة الريع وعرفانا بالجميل.
لست أدري كم أحس القارئ في حياته العملية ما أحسسته في حياتي، لا أقول مرة، ولا عشر مرات، ولا مائة؛ لأنها مواقف تعد بالألوف، تلك التي أحسست فيها أن قدري عند الناس - ودع عنك الدولة - لم يوزن قط إلا بمقدار ما كان لي من سلطان نافذ الكلمة فعال الإرادة، ولما كانت حياتي قد خلت من كل سلطان، كنت كلما أردت قضاء لأمر؛ أجدني واحدا في زحام، لأرى بعيني كيف يكون الويل في بلادنا لمن ليس له نصير من أصحاب الإرادة النافذة؛ فالفرق بعيد بعيد في حياتنا العملية بين إنسان وإنسان، وليكتب أولو الأمر ما شاءوا في دساتيرهم المعلنة من مساواة بين المواطنين في الحقوق وفي الواجبات.
فالثورة الفكرية هنا هي أن تبدأ مع الناس من مرحلة الصفر، فتصدمهم بما لا يتوقعونه، قائلا: إن الإنسان وصنوف الحيوان سواسية، حتى إذا ما بهتوا لقولك، ثم زالت عنهم آثار الدهشة بعد حين، كان هينا عليك بعدئذ أن تقنعهم بما أردته، وهو أن أي إنسان كأي إنسان، أمام الله، وفي ساحات القضاء، وفي الطرقات والمطارات، ومكاتب البريد، ومخافر الشرطة، ومعاهد العلم، ودواوين الدولة، وأمام ضباط الجمارك والضرائب.
لنبدأ - إذن - من مرحلة الصفر، فنزعم بأن الإنسان وصنوف الحيوان سواسية .. قال ذلك «إخوان الصفا» في رسائلهم، ترى هل قالوه من أجل ثورة فكرية كالتي نريدها؟! .. ولكن كيف قالوه؟
ففي صفحات طوال من الجزء الثاني من «الرسائل» أجرى «إخوان الصفا» محاكمة بين بني الإنسان وأنواع الحيوان؛ إذ ترفع هذه الأنواع الحيوانية شكاتها إلى ولي الأمر، مما تعانيه من عنت الإنسان، رافضة أن يكون للإنسان فضل عليها، من حيث إنها - هي وهو معا - صنعة الله، فيسأل ولي الأمر بني الإنسان ماذا يقولون دفاعا عن أنفسهم؟ ويجيبون بما يظنونه مؤيدا لموقفهم من آيات القرآن الكريم، لكن الحيوان سرعان ما يقدم تأويلا لهذه الآيات، يبين أن الإنسان قد جاوز حدود الحق حين فهمها على الوجه الذي فهمها به.
وأما ولي الأمر هنا، فلا هو إنسان ولا حيوان؛ ليكون محايدا في نظرته وحكمه بين المتخاصمين، إذ هو ملك من الجان، يدعى «بيراست الحكيم»، وتبدأ الصورة الأدبية الرائعة التي رسمها المؤلفون، بأن جعلوا مقر «بيراست الحكيم» جزيرة في وسط البحر الأخضر، مما يلي خط الاستواء، وهي جزيرة طيبة الهواء والتربة، فيها أنهار عذبة وعيون جارية وأشجار مختلفة ألوانها وثمارها، وحدث ذات يوم أن طرحت الرياح العاصفة مركبا من سفن البحر إلى تلك الجزيرة، وكان على المركب قوم من التجار والصناع وأهل العلم، فخرجوا من مراكبهم إلى أرض الجزيرة وطافوا بها، فرأوا فيها من ضروب النبات ومن صنوف الحيوان من بهائم وأنعام وطيور وسباع ووحوش وهوام وحشرات، وكان الكل يألف الكل ويأنس له، فاستطاب القوم الجزيرة وما عليها، واتخذوها لهم موطنا، وأخذوا يبنون ويعمرون وينشطون بحياتهم على نحو ما اعتادوا في بلادهم أن يفعلوا، ولم تأخذهم عندئذ ريبة من أنفسهم، حين أرادوا استخدام ما شاءوا أن يستخدموه من صنوف الحيوان، لكن هذا الحيوان الذي لم يألف شيئا كهذا من قبل، هو الذي أفزعته هذه المصيبة التي نكب بها من حيث لا يدري، وأراد التمرد، ولكن هيهات أن يترك الإنسان له زماما بعد أن أمسكه بكلتا يديه.
فما هي إلا أن جمعت البهائم والأنعام زعماءها وخطباءها، وذهبت إلى «بيراست الحكيم» - وكان ملك الجن - وشكت إليه ما لقيت من جور بني آدم واعتقادهم فيها بأنها عبيد لهم، فبعث ملك الجن رسولا إلى أولئك القوم ودعاهم إلى حضرته، فذهبت منهم طائفة تمثلهم، قال لهم ملك الجن على لسان ترجمانه: ما الذي جاء بكم إلى بلادنا؟
قال قائل منهم: دعانا ما سمعنا من فضائل الملك وعدله، وها نحن أولاء بين يديكم لتحكم بيننا وبين عبيدنا الآبقين من صنوف البهائم والأنعام.
قال الملك: بينوا ما تريدون.
قال زعيم الإنس: نقول إن هذه البهائم والأنعام عبيد لنا، ونحن أربابها، لكننا نراها إما هاربة عاصية، وإما مطيعة وهي كارهة منكرة لحقوقنا فيها.
قال الملك: وما حجتكم، يا معشر الإنس، فيما زعمتم لأنفسكم على الحيوان من سلطان؟
قال زعيم الإنس: لنا على ذلك دلائل شرعية سمعية، وأخرى عقلية منطقية؟ .. وطفق الإنسي يقيم الحجة تلو الحجة، ويذكر من آيات الله ما يؤيد دعواه؛ كقوله تعالى:
والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ، وقوله:
وعليها وعلى الفلك تحملون ، وقوله:
والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة .
فتوجه الملك بالسؤال إلى جماعة الحيوان قائلا: قد سمعتم، يا معشر البهائم والأنعام، ما قال الإنسي من آيات القرآن مستدلا بها على صدق دعواه، فماذا تقولون في ذلك؟
فأناب الحيوان عنه البغل ليتكلم بلسانه، فقال: ليس في شيء مما قرأ هذا الإنسي من آيات القرآن دليل على زعمهم بأنهم أرباب لنا، وبأننا عبيد لهم، إنما هي آيات تذكرهم بما أنعم الله عليهم به؛ قال لهم القرآن الكريم:
سخرناها لكم ، كما جاء فيه في آيات متفرقة أن الله سخر لهم الشمس والقمر والسحاب والرياح، أفترى أيها الملك أنها قد أصبحت بذلك عبيدا للإنسان، وأن الناس قد أصبحوا أربابها؟! ألا إن الله تعالى خلق كل ما في السموات والأرض وجعلها مسخرة بعضها لبعض؛ جلبا للمنفعة ودفعا للخطر.
واستطرد البغل زعيم البهائم ليقول: أيها الملك، كنا وكان آباؤنا سكان الأرض قبل خلق آدم أبي البشر، قاطنين في أرجائها، تذهب وتجيء كل طائفة منا في بلاد الله طلبا للعيش، كل منا مقبل على شأنه في مكان يوافق مآربه من برية أو أجمة أو جبل أو ساحل أو تلال أو غياض أو رمال، آمنين في أوطاننا، معافين في أبداننا، ومضت على ذلك الدهور والأزمان، حتى جاء بنو آدم، وانتشروا في الأرض، برا وبحرا وسهلا وجبلا، وضيقوا علينا الأماكن والأوطان، وأخذوا منا من أخذوا أسيرا، من الغنم والبقر والخيل والبغال والحمير، وسخروها واستخدموها وأتعبوها بالكد والعناء في الأعمال الشاقة؛ من الحمل والركوب والشد في الدواليب والطواحين، بالقهر والضرب والهوان وألوان العذاب، فهرب منا من هرب في البراري والقفار، فشدوه بالغل والقيد، والقنص والذبح والسلخ، وشق الأجواف وقطع المفاصل، ونتف الريش وجز الشعر والوبر، ثم نار الوقد والطبخ والتشويه ، وأنواع من العذاب لا يبلغ الوصف كنهها.
فسأل الملك زعماء الإنس (بعد أن حصن نفسه بأعوانه وجنده من قبائل الجن): ماذا أنتم قائلون فيما تحكي هذه البهائم والأنعام من جور وعدوان؟
قال زعيم الإنس: إن لنا حججا عقلية تؤيد حقنا على هذه البهائم في أن تكون عبيدا لنا، نتحكم فيها تحكم الأرباب، من ذلك ما أنعم الله به علينا من صورة حسنة، وهيكل قويم، وحواس مدركة، ونفس ذكية، وعقل راجح.
فسأل الملك زعيم البهائم ماذا يقول في ذلك، فأجاب: إن الله جل ثناؤه ما خلقهم على تلك الصورة لتدل على أنهم أرباب، ولا خلقنا على هذه الصورة لتدل على أننا عبيد، لكنه تعالى فعل ذلك لعلمه أن تلك البنية أصلح لهم، وهذه أصلح لنا، وبيان ذلك أن بني آدم عراة، بلا ريش على أبدانهم، ولا وبر ولا صوف على جلودهم، يقيهم الحر والبرد، ولما كانت أرزاقهم من ثمر الأشجار، ودثارهم من أوراقها، وكانت الأشجار منتصبة في جو الهواء؛ خلقت قاماتهم منتصبة ليسهل عليهم تناول الثمر والورق منها، وأما نحن، فلأن أرزاقنا من حشيش الأرض؛ فقد جعلت أبداننا منحنية ليسهل علينا تناولها، وإذن فلا أحسن ولا أردأ في هذا الاختلاف بيننا وبينهم، بل هي طبيعة العيش في كلتا الحالتين وما تقتضيه.
فقال ملك الجن لزعيم البهائم: لكن ماذا تقول في قول الله عز وجل:
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ؟
فقال الزعيم: الآية تعني أنه تعالى خلقه في تناسب تام مع ظروفه، فلم يجعله طويلا دقيقا، ولا قصيرا لزيقا، بل جعله ما بين ذلك، وكذلك الأمر معنا، فنحن من هذه الناحية سواء.
قال زعيم الإنس لزعيم البهائم: من أين لكم اعتدال القامة واستواء البنية وتناسب الصورة، وقد نرى الجمل عظيم الجثة، طويل الرقبة، صغير الأذنين، قصير الذنب، ونرى الفيل عظيم الخلقة، طويل النابين، واسع الأذنين، صغير العينين؟
فأجاب زعيم البهائم: ذهب عليك أيها الإنسي أحسنها، وخفي عليك أحكمها! أما علمت أنك لما عبت المصنوع فقد عبت الصانع؟
إنه إذا كان ما زعمت لبني جنسك من حسن الصورة شيئا مرغوبا فيه لتنجذب ذكوركم إلى إناثكم، وإناثكم إلى ذكوركم؛ فلنا كذلك ما ينتج هذا التجاذب من ذكورنا وإناثنا، وأما عن جودة حواسكم ودقة تمييزكم، فليس ذلك بما تنفردون به من دون الحيوان؛ ففي الحيوان ما هو أدق منكم حاسة وتمييزا؛ فالجمل يرى موضع قدميه في أوعر الطرقات برغم ظلمة الليل، والجواد يسمع وطء السائر من بعد في سواد الليل، حتى لقد يوقظ صاحبه من نومه بركضة رجله حذرا عليه من عدو هاجم، وأما الذي ذكرته من رجحان العقل؛ فلسنا نرى لذلك أثرا بأشياء ليست من صنعكم، فالعقلاء إنما يفتخرون بأشياء هم صانعوها.
ولقد طلب البغل من طوائف الحيوان أن تتكلم كل طائفة عن نفسها، فتكلم الحمار، والثور، والكبش، والجمل، والخنزير.
وهكذا لبث الحوار قائما وممتعا، حتى إذا ما فرغ الفريقان من هجوم ودفاع، وبذل كل منهما في الأمر جهد طاقته، استشار ملك الجن أعوانه، فكاد الرأي بينهم جميعا يلتقي عند فكرة رأوها عادلة، وهي أن الحيوان صاحب حق، وأن بني آدم جائرون بما بين أيديهم من بهائم وأنعام؛ ولذلك أصدروا نصحهم لصنوف الحيوان الأسيرة أن تهرب كلها من قبضة الإنسان دفعة واحدة، وفي ليلة واحدة، وتبعد عن ديار بني آدم لتتحرر من ظلمهم، كما فعلت حمر الوحش والغزلان والسباع، لكن شيخ حكماء الجن أسر في أذن الرئيس أن ذلك الفرار قد يكون أمرا محالا؛ لأن الآدميين يقيدون ما في حوزتهم أثناء الليل، ويغلقون دونه الأبواب، فاقترح أحد الأعضاء على الرئيس أن يبعث بقبائل من الجن لتفتح الأبواب المغلقة، وتفك القيود عن البهائم، وتخبل الحراس حتى تبعد البهائم عن منطقة الخطر وتنجو بحياتها.
هذه خلاصة ما أورده إخوان الصفا في رسائلهم، ولمن شاء التفصيل المستفيض أن يرجع إلى الجزء الثاني من تلك الرسائل.
ولست أعلم ماذا يطوف برأس القارئ بعد قراءة هذا الحوار! أما أنا فقد أبى علي خيالي إلا أن أترجم صنوف الحيوان إلى طوائف من البشر أنفسهم، حاق بهم الظلم على أيدي قلة من ذويهم آلت إليهم قوة وجاه عريض وحكم نافذ، فكان لهم ما أرادوا ولم يتركوا لسواهم الأمل في إرادة، ولقد استرعى انتباهي في أثناء قراءتي للنص الأصلي عبارة رجحت بها أن يكون لهذا الحوار مغزاه البعيد في الحياة السياسية التي أحاطت بإخوان الصفا في عصرهم - وعصرهم هو القرن العاشر الميلادي - وذلك أن الكاتب حين أقام خطيبا من الإنس ليدافع عن حقوق بني جنسه، أفلتت منه هذه الإشارة الدالة: «فقام الخطيب من الإنس، من أولاد العباس، ورقي المنبر وخطب الخطبة، وقال ...» إذن فالأمر هو ما بين الحاكمين من أولاد العباس والمحكومين ممن كانت لهم ظلامة، وبقي على المؤرخين أن يبينوا لنا إلى أي الطوائف من سواد الناس رمز المؤلف - أو المؤلفون - بالبغل والحمار والثور والجمل والخنزير؛ فلكل منها شكاته الخاصة، فوق الشكوى العامة، وإذا صدق هذا الفهم لقول إخوان الصفا؛ إذن فقد كان ما قالوه نموذجا جميلا من ثورة الفكر التي نريدها.
أما النموذج الثاني الذي اخترته لثورة الفكر، فهو من صنف يختلف عن الأول اختلافا بعيدا، وقد اخترته من أوروبا في عصر جاء بعد إخوان الصفا بأربعة قرون، وإذا كان موضع الثورة الأولى تفاوت الناس في الأقدار، فموضع الثورة الثانية هو أفكار ينسجها الناس بأوهامهم ثم لا يلبثون أن يقحموها على الواقع كأنها جزء منه، فتزيغ أبصارهم وتضل خطاهم على طريق الحياة، وأما قطب هذه الثورة الثانية فهو وليم الأوكامي.
نحن في أوروبا إبان القرن الرابع عشر، على مبعدة قرن أو قرنين من حركة النهوض التي استيقظت بها أوروبا، ثم تبعها في اليقظة سائر أقطار الأرض على فترات متعاقبات ربما طالت هنا وقصرت هناك؟ كان البناء الفكري الثقافي كله قد تزعزعت أركانه وخارت قواه؛ انعكاسا لتدهور الحياة بشتى مقوماتها إذ ذاك، وكأنما إذا أراد الله لنظام فاسد أن يزول؛ أحاطه بما ينخر في عظامه، فلقد تكاثرت على أوروبا عندئذ عوامل الضعف: رجال الدين لم يعودوا يحافظون على الدين إلا في قشوره دون اللباب، وفي شعائره دون المحتوى، وما يسمى في التاريخ بحرب مائة العام، ثم وباء الطاعون الذي يرد ذكره في الكتب باسم «الموت الأسود»، فماذا يتخلف عن جو كهذا سوى اضطراب القيم وفوضى الأخلاق، وجدب الفاعلية العقلية، ونكسة تصيب الإنسان في ثقته بعقله، وتقذف به إلى دنيا الخرافة؟!
وفي هذا الجو نشأ وليم الأوكامي
William Of occam - نسبة إلى قرية إنجليزية تسمى أوكام - ولقد تعلم وليم في كيمبردج وأكسفورد معا، وقام بالتدريس في هذه الأخيرة، وأي تدريس! كان هنالك كتاب تقليدي صنفه بطرس لمبارد في أوائل القرن الثاني عشر، يقع في أربعة أجزاء، وعنوانه «مأثورات»، ويحتوي على مجموعة مختارة مما قاله آباء الكنيسة الأولون.
وكان العرف قد جرى في الجامعات الأوروبية أن يبدأ المدرس الناشئ في الجامعة، بأن تدور محاضراته حول مادة هذا الكتاب، ويكفينا لكي نعلم أهمية هذا الكتاب أن نذكر ما قاله عنه «روجر بيكون»، إذ قال: إن الجامعة في باريس تدرس هذا الكتاب أكثر مما تدرس الكتاب المقدس.
بدأ الأوكامي محاضراته بهذا الكتاب جريا مع العرف، لكنه لم يلبث أن انحرف، فيما يلقيه على طلابه، عن مألوف الطريق انحرافا خطيرا، من ذلك أنه أخذ يغلف محاضراته بمبادئ المذهب التجريبي، وهو مذهب يجعل هذه الدنيا مصدرا للعلم؛ ولذلك فهو مثير للفزع عند رجال اللاهوت الذين لا يرضون بديلا عن الكتاب المقدس مصدرا لكل علم حقيقي جدير بعناية الإنسان. وشاع في الأوساط الدينية ما انحرف به الأوكامي عن الخط المألوف، فاستدعاه البابا في مقره عندئذ بمدينة أفنيون بفرنسا، ليحاكمه على زندقته تلك، ولكن محاكميه أرجئوا إصدار الحكم عليه، وسجنوه في دير لطائفة الفرنسسكان بأفنيون، حيث لبث بضع سنين، لكنه هرب آخر الأمر من سجنه، ولاذ بالإمبراطور لويس في بافاريا - وكان معاديا للسلطة الدينية القائمة ويسعى إلى تبديلها - فكان ذلك من الأوكامي بمنزلة الخروج على البابا وعصيانه.
وشاءت له الأيام أن يخذله الإمبراطور، بمعنى أن هذا الإمبراطور قد عاد واستسلم في خشوع ذليل للبابا ليستعيد رضاه، وأما المفكر الثائر - وليم الأوكامي - فقد مضى قدما في ثورته، يخرج الرسالة تلو الرسالة، دفاعا عن «الفرد» وحقه في أن يستقل برأيه، وضرورة أن يصبح «الفرد» - لا الجماعة التي تحتويه - هو محور الاهتمام، أليس «الفرد» مسئولا أمام نفسه وأمام خالقه وأمام الناس عما يفعل؟ إذن فالحكم على الدولة نفسها إنما ينبثق من حصيلة المواقف الخلقية التي يقفها المواطنون أفرادا قبل أن يكونوا جماعات.
غير أن هذا وسواه من الأفكار التي أذاعها الأوكامي عندئذ في نشراته التي أمطر بها القارئين، إنما جاءت كلها تفريعات عن موقف له أساسي في فلسفة المعرفة، هو الذي اشتهر به في تاريخ الفلسفة، وهو الذي بقيت منه بقية لها المكانة البارزة في فلسفة بعض معاصرينا اليوم، ومن هؤلاء برتراند رسل، وهي ما يسمونه «نصل أوكام»
Occams Razor ، الذي سنتولاه بالشرح فيما بعد.
جاء الأوكامي في مناخ فكري عجيب؛ فالبابا يأمر أسقف باريس - مثلا - أن يراجع كل ما يدرس في جامعة باريس، ليستخرج منها ما هو مخالف للدين في رأيه، فأخرج له الأسقف أكثر من مائتي رسالة علمية يتداولها الدارسون، وكان بين ما صادره: كل رسالة يرد فيها - من قريب أو من بعيد - أن البدن (أي الحواس من بصر وسمع ... إلخ) يشارك في تحصيل العلم، ويتدخل في العمليات العقلية بأي وجه من الوجوه، من أين - إذن - يعرف الإنسان ما يعرفه عن العالم الذي حوله؟! إنه يعرفه بإدراكاته الباطنية التي تهتدي بالنور الإلهي؛ فلا شأن للإنسان بالأشياء نفسها ليعرفها، بل عليه أن ينتظر الإلهام الرباني يلمع بالنور في دخيلة نفسه فيعرفها. وأكثر الناس اعتدالا في ذلك الحين هم الذين قالوا: لنقسم المعرفة قسمين؛ قسم منها يأتي من تجربة الحواس للأشياء، وهي معرفة لا قيمة لها، وقسم آخر يأتي عن طريق الإلهام أو ما يشبهه، وهذا هو الجدير باهتمام الإنسان.
في هذا المناخ الفكري نشأ الأوكامي، فكانت ثورته التي أردنا عرضها في هذا المقال، ومحور فكرته الثائرة هو هذا المبدأ الذي اصطنعه وسماه ب «النصل» أو «الموسى» الذي أراد أن يجز به كل فكرة يثبت ألا ضرورة لافتراضها في تفسيرنا للعالم وظواهره، ومن ثم نشأت قاعدة «الاقتصاد في الفروض» التي يأخذ بها القائمون بالبحوث العلمية أساسا منهجيا معترفا به، وكان لها تطبيق خاص عند برتراند رسل كما أسلفنا.
لست أدري كم يعلم القارئ من نظرية «المثل» الأفلاطونية؛ إذ لا بد من الإلمام بطرف منها لنفهم موقف الأوكامي و«نصله» ذاك؛ لأن الأوكامي قد ظهر والنظرية الأفلاطونية هذه معقود لها السيادة بين رجال الفكر، وخلاصتها أن أفراد النوع الواحد، كأفراد الناس وأفراد الشجر وأفراد الطير ... إلخ، إنما خلقت على غرار نموذج عقلي سابق على الوجود المادي كله؛ أي إننا لو تصورنا أن هذا الوجود المادي كله قد انمحى، أو أنه لم يخلق أصلا، فتلك النماذج العقلية تظل هناك قائمة كما تقوم الكائنات الروحية كلها، فإذا أردنا الحكم على شيء ما بالجودة أو الرداءة، نظرنا: إلى أي حد يقترب ذلك الشيء من النموذج الأزلي الأبدي الروحاني القائم قبل الوجود المادي وخلاله وبعده، إذا كان لهذا الوجود المادي قبل وبعد.
فها هنا يحتج الأوكامي مستخدما «نصله البتار»، فكأنه يسأل: أإذا أردت معرفة هذه الشجرة أو هذا الطائر، فأخذت في تحليل خصائصه وطريقة تكوينه وما إلى ذلك، حتى لا يبقى من تلك الخصائص والطبائع شيء، فهل أزداد علما بالشجرة التي أحللها أو بالطائر الذي أفحصه إذا أنا أضفت زعما يقول إن هنالك فيما وراء السماء نموذجا لا ماديا للشجرة أو للطائر؟! إذا كانت الإجابة بالنفي، إذن فلا مناص من «بتر» هذه الزائدة من عملية العلم بالشجرة أو بالطائر.
والنص الحرفي لمبدأ «النصل» الأوكامي هو: «لمضيعة للوقت أن نستخدم أسسا كثيرة للتعليل والعلم بشيء معين إذا كانت تكفينا الأسس القليلة»، «ولا يجوز أن نفترض وجود عدة عناصر (في الكائن الذي نريد الإلمام بحقيقته) إلا إذا لم يكن لنا بد من افتراض وجودها.»
انظر كيف يتعلم الطفل ما يتعلمه منذ شهوره الأولى، إنه يرى مقعدا، فنلفظ له نحن بكلمة «كرسي» وتتكرر هذه العملية، فيرتبط الشيء عنده باسمه، ويكون بذلك قد «عرف» هذا الجزء من عالمه المحيط به، ولنلحظ هنا جيدا أنه ليس هنالك في هذه الحالة إلا طرفان: المقعد في دنيا الأشياء، ولفظ الكرسي في دنيا اللغة، ومعنى ذلك أن المعرفة كلها ترتد إلى ألفاظ وطريقة استخدامها وتركيبها لتجيء دالة على دنيا الأشياء، وأما ما عدا ذلك فليس له عند الأوكامي إلا «النصل» أو «الموسى» يبتره به بترا؛ لأنه زوائد لا تزيدنا من العلم بالأشياء، أو قل إنه وهم خلقه الإنسان لنفسه فأحدث لها الربكة بغير داع، ومن هذا القبيل نفسه ما كان يفرضه الفلاسفة دائما، وهو أن لكل شيء «جوهرا» مطويا خلف ظواهره، وأن معرفة أي شيء معرفة صحيحة إنما تكون بمعرفة ذلك الجوهر الخبيء، لا بالوقوف عند الظواهر البادية، فيجيء النصل الأوكامي ليبتر هذا «الجوهر» إذا وجدنا أن معرفتنا بظاهر الشيء قد أتاحت لنا العلم به.
وخلاصة الموقف الجديد هي أن الحواس وحدها - السمع والبصر واللمس وغيرها - هي وسيلتنا الوحيدة للعلم بالعالم، فإذا رأيتنا نأخذ بالقبول بعض القضايا العامة المجردة، التي قد لا تظهر العلاقة بينها وبين دنيا المحسوسات علاقة مباشرة، فاعلم أننا نستطيع بالتحليل أن نردها خطوة خطوة حتى نرتد إلى أصولها بين الأشياء المحسوسة، وإلا لحكمنا عليها بالبطلان.
وذلك هو لباب الثورة الفكرية التي أثارها وليم الأوكامي في أواسط القرن الرابع عشر، فجاءت من البشائر التي آذنت بقيام نهضة عقلية علمية في أوروبا، هي التي ننعم اليوم بآثارها.
أما بعد؛ فلقد اخترت للقارئ هذين النموذجين لثورة الفكر عامدا، فانظر إلى العربي المعاصر واسأل: ماذا أصابه من جوانب الضعف حتى صار إلى ما صار إليه من سلبية واسترخاء، برغم ما قد يدعيه لنفسه فيما يقول وما يكتب؛ لأنك تعرف حقيقة الإنسان من سلوكه وطرائق سعيه، لا مما يخطب به فوق المنابر أو ما تجري به الأقلام في أنهر الصحف من مقالات وقصائد! لا أعلم بماذا يجيء جوابك، لكنني أجيب فأقول: إن علل الضعف كثيرة؛ من بينها اثنتان بارزتان، إحداهما ما بين أفراد الناس من تفاوت في ممارسة الحقوق والواجبات، والأخرى مجاوزة الواقع إلى ما يخلقه الناس عن ذلك الواقع من أوهام، فكان من شأن الضعف الأول أن أهدرت كرامة البشر، وبالتالي غيض في أنفسهم معين الابتكار والخلق، وكان من شأن الضعف الثاني أن اهتزت صورة العالم الطبيعي في أعيننا، وبالتالي سدت المصادر الحقيقية التي تنشأ عنها العلوم، فاستعرنا من تاريخ الفكر الإنساني ثورتين: أولاهما من إخوان الصفا، نعالج بها العلة الأولى، وثانيتهما من وليم الأوكامي، نعالج بها العلة الثانية، وقصارى الكاتب أن يكتب، وليس في وسعه أن تنفتح له الأبصار والأسماع والقلوب.
الحضارة وقضية التقدم والتخلف
1
لطالما تعرض هذا الكاتب لهجمات الناقدين، طوال الخمسة والعشرين عاما الماضية (وأعني بها الخمسينيات والستينيات ونصف السبعينيات)، لماذا؟ لأنه ما فتئ خلال تلك الفترة ينادي بكل ما في إرادته من إصرار، وبكل ما لقلمه من صرير، ما فتئ ينادي بأن نلجم شهوة الحديث فينا بشكائم الدقة والتحديد؛ لعله يتاح للمتكلم والسامع، أو الكاتب والقارئ، أن ينتهي بهما الحديث أو الكتابة إلى اتفاق على رأي واحد، فيسلكوه في تيار الحياة الجارية عملا وسلوكا؛ ذلك لأنه مما يلاحظ، حتى للعين العابرة، أن أحاديثنا وكتاباتنا كثيرا ما تتخبط في أبحر ظلمات المعاني الغامضة، كأننا جماعة من الصم، يتحدث بعضنا إلى بعض دون أن يستمع أحد إلى أحد.
نعم، ما فتئ هذا الكاتب طوال هذه الأعوام يتعرض لهجمات الناقدين؛ لأنه رفع الصوت، وما يزال يرفعه في عصبية المخلص لدعوته، بأن تراعى - عند الحديث والكتابة - دقة التحديد في ضبط المعاني التي نجريها على الألسنة والأقلام، ما دام الموضوع المطروح يتسم بجدية العلم، ويمس حياتنا في أسسها وأركانها؛ إذن ففيم كانت هجمات النقد إذا كان هذا هو هدف الدعوة ولبها؟ والجواب هو أن علتها تكمن في رغبتنا الجامحة نحو أن تنساب من أفواهنا وأقلامنا خيوط اللفظ، لا نكاد نطلب منها إلا حلاوة جرسها في الأسماع، أما من أراد أن يقف بنا عند هذه اللفظة، أو عند تلك العبارة، سائلا ومدققا في المعنى المقصود، فجزاؤه عندنا هو الإهمال، وإنه لمجدود لو اكتفى منا بإهماله، دون أن نكيل له مع الإهمال صاعا من الشتائم أو صاعين.
فإذا كانت الدعوة إلى الدقة في تحديد المعاني هي أهم الهموم التي يحملها هذا الكاتب طوال ربع قرن مضى؛ أفلا يكون من أوجب واجباته على نفسه أن يتوخى هو مثل هذه الدقة التي يدعو الناس إليها؟! وموضوع حديثنا هذا هو عن «الحضارة» لنرى بعد ذلك موقفنا من حضارة عصرنا، أين نكون على درجات السلم، صعودا أو هبوطا، فحتم علينا - إذن - أن نحدد معنى الحضارة بصفة عامة وشاملة؛ لنستطيع بعدئذ أن نضيق دائرة الحديث لتنحصر في حضارة العصر وما يميزها دون سائر الحضارات التي شهدتها العصور السالفة، فإذا استطعنا ذلك في دقة ووضوح، كان الحكم على موقف الأمة العربية في مرحلتها الراهنة أمرا ميسرا لا عسر فيه.
ولكننا ما إن نهم بمثل هذا التحديد لمعنى «الحضارة» حتى نغوص في بحر متلاطم الموج؛ لكثرة ما يعترضنا من آراء تختلف إلى حد التناقض بين رأي ورأي، ذلك فضلا عما في تحديد أمثال هذه المعاني العامة من صعوبة شديدة حتى لو لم يكن اختلاف الرأي فيها بعيد المدى؛ فقد تكون الكلمة واضحة حين تجري في سياقها، لكنك إذا عزلتها وحدها، ووضعتها في مخبار التحليل والفحص، ألفيتها تقاوم وتروغ حتى ليستعصي عليك أن تمسك بأطرافها، فكأنما اللفظة من هذه الألفاظ العامة كائن حي بالمعنى الحقيقي لهذه العبارة، تنصاع لفهمك إذا جعلتها جزءا من عبارة، لكن اجعلها وحيدة وحاول أن تمسكها من جناحيها؛ تتمرد عليك وتنتقم، كانت وهي مسوقة في عبارة، وسيلة تتعاون مع غيرها على أداء معنى، أما وقد جعلتها غاية في ذاتها، تريد اختبارها هي، فما أسرع أن تنقلب بين يديك لغزا غامضا، وأن تتخذ لنفسها أعماقا وأبعادا، لم تتكن تتوقعها في بداية الطريق! وهذا هو الشاعر الفرنسي بول فاليري يحدثنا في ذلك، فيشبه اللفظة وهي تؤدي معناها داخل عبارة تضمها مع غيرها، بلوح من الخشب الرقيق، وضع على خندق ليعبر عليه العابرون، فلا بأس هناك إذا جرى عليه العابر خفيفا سريعا ، أما إذا وقف العابر عليه ليختبر قوته ، وراح يقفز بكل ثقله؛ فإن اللوح الخشبي لا يلبث أن ينكسر تحت قدميه.
لكننا، برغم هذا النصح من بول فاليري، لن نمر على كلمة «حضارة» خفافا سراعا، وسنقفز عليها ونقفز حتى تتهشم؛ لنرى أجزاءها جلية أمام أبصارنا.
2
نريد تعريفا للحضارة يحدد لنا الخصيصة الواحدة، أو مجموعة الخصائص التي لا بد من ظهورها في كل حالة حضارية، كما لا بد من اختفائها في كل حالة بدائية؛ لأنه إذا كانت الصفة أو الصفات التي نقع عليها ماثلة في المتحضر وغير المتحضر على سواء، إذن فهي ليست من التعريف الذي ننشده، مثلا إذا عن لنا أن نذكر الفن أو الأدب ليكونا تعريفا للحضارة، وقعنا في الخطأ الذي أحذر منه؛ لأنه ما دام الفن والأدب - كائنا ما كان نوعهما - موجودين في كل جماعة بشرية، أيا ما كان حظها من الحضارة؛ إذن فهما عنصران ضروريان، لكنهما وحدهما لا يكفيان للتعريف؛ فالشرط الأساسي الذي لا بد من توافره في أي تعريف كامل، هو أن نذكر الصفات الضرورية والكافية معا، فالبصر ضروري للإنسان، ولكنه لا يكفي لتعريفه، وإذن فلا يجوز أن نعرف الإنسان بأنه الكائن المبصر، وهكذا الحضارة لا يجوز تعريفها بأنها الحياة التي تحتوي على فن وأدب، برغم أن الفن والأدب عنصران ضروريان لا تخلو منهما حضارة.
فما هي الصفة - إذن - التي تجمع إلى كونها ضرورية للحضارة أن تكون كذلك كافية لتعريفها؟ وهي إنما تكون كافية إذا امتنع ظهورها من كل حياة أخرى مما يتفق الناس على أنها ليست في عداد الحضارات.
ولقد قلت: «مما يتفق عليه الناس» عن وعي وعن عمد؛ لأنه لا سبيل أمامنا في تعريف الحضارة، إلا أن نبدأ بأمثلة من عصور، أجمع العرف على أنها فترات ذات حضارة رفيعة؛ لكي نستخلص من هذه الأمثلة الواقعية التي شهدها التاريخ، والتي أقرها الخبراء في ميادين الثقافة، صفتها المشتركة التي تظهر فيها جميعا، ثم نستوثق من أنها صفة لا تظهر في غيرها، وسوف أغض النظر هنا عن سؤال يثيره الباحثون، وهو: هل الحضارة صفة تصف عصورا وجماعات، أو هي صفة تصف الأفراد أولا ومن مجموعة الأفراد المتحضرين تتكون حضارة معينة في عصر معين؟ سأغض النظر عن هذا السؤال لسبب بسيط؛ هو أن خبراء الرأي أقرب إلى الاتفاق عندما ينصب الحكم على جماعة بأسرها، أو على عصر بأكمله، منهم إلى الاتفاق عندما ينصب الحكم على هذا الفرد أو ذاك.
فأي الجماعات، أو أي العصور يمكن إجماع الرأي عليها بأنها نماذج للحياة المتحضرة حضارة رفيعة؟ نستطيع الاكتفاء بأربعة أمثلة لا أظن أحدا يجادل في رفعة حضارتها، وهي: أثينا في عهد بركليز، في القرن الخامس قبل الميلاد، بغداد في عهد المأمون، في القرن التاسع، فلورنسة في القرن الخامس عشر، باريس في عصر التنوير، إبان القرن الثامن عشر.
فما هو القاسم المشترك بين هذه الحضارات الأربع؟ إنه يقينا ليس الأجهزة الآلية؛ لأن هذه الحضارات جميعا قد خلت منها؛ إذ إن أوانها لم يكن قد آن بعد؛ ما يدل على أن الحضارة - من حيث هي حضارة وكفى غير مقيدة بعصر معين - تستطيع أن تقوم بغير الآلة كما تفهم في عصرنا، كلا، ولا كان القاسم المشترك بين الأمثلة الأربعة التي اخترناها نماذج للحضارة في اكتمالها، هو الفن أو الأدب أو غيرهما من وسائل الحياة الوجدانية؛ لأن ما تجده من هذه العناصر في واحدة من تلك الحضارات قد لا تجده في الأخرى، فضلا عن أن هذه العناصر جميعا قد تتوافر في شعوب وفي عصور لم نتفق على أنها موسومة بحضارة تذكر؛ ففي قلب الأدغال البدائية ربما رأيت من العقائد ومن الفنون نحتا وتصويرا وغناء ما يستحق التقدير في ذاته، لكنه وحده لم يستطع أن يقيم حضارة يسجلها لها التاريخ، لا، ولا القاسم المشترك هو القدرة العسكرية، وإلا وضعنا جنكيزخان وهولاكو في طليعة المتحضرين، وعددنا قبائل التتار أكثر حضارة من الشعوب التي اجتاحتها تلك القبائل، ولا النظم السياسية هي ذلك القاسم المشترك الذي نبحث عنه؛ فقد كانت أثينا بركليز أولجاركية الحكم، وكانت بغداد المأمون يحكمها خليفة ، وكانت السيطرة في فلورنسة لأسرة مديتشي، وكانت تحكم باريس التنوير ملكية مطلقة.
ولكن القاسم المشترك الذي تراه في تلك النماذج الأربعة جميعا، كما نراه في كل نموذج حضاري تختاره بعد ذلك، ولا نراه في أي شعب أو عصر منعوت بالبدائية والتخلف، هو الاحتكام إلى العقل في قبول ما يقبله الناس، وفي رفض ما يرفضونه، هذا الاحتكام إلى مقاييس العقل وحده قد يتبدى في صور تختلف باختلاف العصور، فربما ظهر في مجال السياسة، أو في مجال الحرب، أو في مجال التشريع، أو في مجال العلوم الطبيعية، لكن هذه المجالات المختلفة إن هي إلا تطبيقات مختلفة لمبدأ واحد، هو أن يكون الحكم للمنطق العقلي وحده دون سواه، فهذه العقلانية في وجهة النظر هي التي تراها ماثلة في كل حضارة مهما اختلف لونها، ولا تراها في أي جماعة بدائية مهما تعددت بعد ذلك صفاتها، وليس هذا الذي نسميه علما إلا عقلانية اتخذت لها منحى معينا من مناحيها الكثيرة؛ فلربما اتجهت النظرة العقلية تلك نحو الأفكار المجردة تنظمها وتنسقها في ترتيب هرمي يضع الأعم منها فوق الأخص، كما حدث لليونان الأقدمين، أو ربما اتجهت نحو تحليل ما نزل به الوحي من تشريع، كما حدث للعرب الأولين، أو اتجهت نحو ظواهر الطبيعة تستخرج قوانينها النظرية، كما حدث لأوروبا في عصورها الحديثة، أو اتجهت نحو تجسيد تلك القوانين العلمية النظرية في أجهزة يديرها الإنسان، أو تدير نفسها بنفسها، كما يحدث لعصرنا القائم.
3
عند هذا المنحنى من سياق الحديث، ينبغي الوقوف لحظة قصيرة نتساءل فيها عن المعنى المحدد الواضح لكلمة «عقل»، ما دمنا قد جعلنا الاحتكام إلى العقل أساسا تقام عليه الحضارات حيثما قامت، وبغيابه تنعدم الحضارة كلما انعدمت، فما هذا الذي نسميه «عقلا»؟ هو ببساطة شديدة ذلك النمط من أنماط السلوك الذي يتبدى عندما نحاول رسم الطريق المؤدية إلى هدف أردنا بلوغه؛ فليس الهدف المختار في ذاته «عقلا»؛ لأنه وليد الرغبة وحدها، وليست النقطة التي أبدأ منها السير على الطريق «عقلا»؛ لأنها مبدأ مفروض، أما «العقل » بمعناه الدقيق فهو ببساطة شديدة - كما قلت - رسم الخطوات الواصلة بين هذا المبدأ المفروض من جهة، وذلك الهدف المطلوب من جهة أخرى. فافرض مثلا أن أمة أرادت الحرية لأبنائها؛ إذن فهذه الحرية المنشودة هي الهدف المقصود، والفاعلية العقلية في هذه الحالة هي في دقة التصوير لما ينبغي أن يتخذ من وسائل لتحقيق ذلك الهدف، وبمقدار ما يكون لتصور الوسيلة من دقة تمكن الناس من السير على هداها فلا ينحرف بهم الطريق؛ يكون لدينا من قدرة عقلية في هذا المجال.
وننظر الآن إلى أثينا بركليز، وبغداد المأمون، وفلورنسة آل مديتشي، وباريس فولتير، فلا نخطئ فيها جميعا هذه الصفة البارزة؛ هي أن قبول الأشياء ورفضها لم يكن قائما على عواطف الحب والكراهية، والرضى والسخط، ولا كان قائما على التقاليد الموروثة قياما أعمى، بل كان القبول والرفض قائمين - على وجه التعميم الذي قد يشذ هنا أو هناك - كانا قائمين على حكم العقل ومنطقه، فكأنما الناس يسألون عند كل وقفة يقفونها من موضوع مطروح: هل الخطوة الفلانية إذا خطوناها أبلغتنا إلى الأهداف؟
وإن عقلانية كهذه في النظر إلى أمور الحياة والثقافة معا، لتستتبع صفات فرعية كثيرة، تنتج عنها كما تنتج الثمرات من شجراتها، ومن أول هذه النتائج النابعة من ذلك المبدأ العقلاني، أن تتخذ الأشياء نسبها الصحيحة بعضها من بعض، فيبدو الكبير كبيرا كما هو، والتافه تافها كما هو؛ فقد تهتم الدولة المتحضرة بمسألة علمية تريد لها أن تستقر في الناس، ولكنها تغضي عن توافه السلوك التي ربما اختارها هذا الرجل أو ذاك طريقة لحياته الخاصة، مع أنك إذا نظرت إلى جماعة غاب عنها العقل واستبدت بها النزوة في أحكامها؛ فقد تراها وهي تقيم الدنيا ثم لا تقعدها، تجاه سلوك خاص اصطنعه خالد أو زيد في حياته الخاصة، بينما تعشى عينها عن رؤية تيار بأسره في دنيا العلوم أو الفنون.
ومن النتائج التي تترتب على الوقفة العاقلة كذلك، إيثار الآجل على العاجل، إذا كان في العاجل خير قليل قد يعقبه شر كثير، أو كان في الآجل خير كثير قد يسبقه شيء من ألم التضحية.
ومن أبرز جوانب النظرة العقلانية أن ترد الظواهر إلى أسبابها الطبيعية؛ فلا يفسر المرض - مثلا - إلا بالجراثيم التي أحدثته، ولا يعلل سقوط المطر إلا بظروف المناخ ... وهكذا، ويترتب على هذا الربط السببي الصحيح أن نلتمس للأشياء أسبابها الطبيعية كذلك، فإذا أردنا غلالا زرعنا لنحصدها، وإذا أردنا قتالا حملنا له السلاح بمران واقتدار.
النظرة العقلانية تنظر إلى الواقع كما هو واقع، لتحوره إلى واقع جديد إذا أرادت، دون أن تقيم بينها وبين الواقع حائلا تنسجه الأوهام، ثم سرعان ما ننسى أنه أوهام، فإذا كان البدائي يخلق لنفسه الخرافة لينظر بمنظارها إلى وقائع الدنيا، فإن المتحضر هو الذي يواجه تلك الوقائع كما تبدو لبصره وسمعه، وبغير هذه الرؤية العارية المباشرة، كان يتعذر عليه أن يلجم الطبيعية ليسير وقائعها حيث أراد لها أن تسير.
على أن أبرز ما تتميز به النظرة العقلية إلى الكون؛ هو حب الإنسان للمعرفة، حيث يلم بأسرار البيت الذي هو ساكنه؛ فالعقلاني في نظرته ذو نهم نحو معرفة الحقائق والطبائع والعلل، لا يصده عن ذلك شيء من التحريم الذي يفرضه البدائيون على أنفسهم، من منا لا يذكر الحكايات التي كانت تحكى لنا ونحن صغار، عن القصر ذي الغرف الكثيرة، الذي يستباح الدخول في غرفه كلها إلا غرفة واحدة محرمة؟ ذلك هو الإنسان إذا ترك لفطرته: يتهيب نزع الستائر عن حقائق الأشياء، وحتى إذا جاز لنفسه أن ينزع بعضها، أوجب على نفسه أن يترك بعضها الآخر مسدولا على كوامنه، إلا من جعل السيادة لعقله، فذلك هو بروميثيوس - في أساطير اليونان - الذي نزع الشعلة من أيدي الآلهة ليضيء بها أركان الأرض فلا يترك منها ركنا خافيا في عتمة الظلام؛ هكذا كانت أثينا حين أمسكت بقبس النور لتتفحص الدنيا على ضيائه، وهكذا كانت بغداد المأمون حين أخذت تعب معارف الأولين عبا لم يكد يفرق بين شراب وشراب؛ فكل شراب من مورد العلم عندها سائغ، وهكذا كان عصر النهضة وعصر التنوير في أوروبا .
4
سلطان العقل - إذن - هو مدار القياس لدرجات الحضارة؛ فقل لي كم عقلت أمة في تدبيرها لأمورها؛ أقل لك كم صعدت في مدارج التحضر، وأقول سلطان العقل ولا أقول مضاء الإرادة؛ فالأولوية في البناء الحضاري للعقل وفكره، قبل أن تكون للإرادة وفعلها، نعم، إنه لا بد من التفكير العقلي من إرادة التنفيذ، لكنها عندئذ تكون إرادة ملجمة بتخطيط العقل، وأما إذا بدأنا الشوط بإرادة تفعل؛ فمن ذا الذي يضمن لنا ألا يجيء فعلها تخبطا أهوج، يتجه بنا نحو اليسار إذا كان الاتجاه إلى يمين هو الموصل إلى الهدف، أو يتجه بنا نحو اليمين عندما تقتضي حكمة العقل أن نسير إلى يسار؟
العقل هو وحده الفيصل بين الحق والباطل، وبه وحده يصبح الإنسان سيد مصيره، رغبات الإنسان قد تدفعه إلى سن القوانين وإقامة التقاليد، ثم قد تعود فتغريه بأن يتحلل مما قد سن أو أقام، وأما ما بني على العقل فهو ثابت على الدهر، لا يزول؛ ولذلك كان محالا علينا أن نحكي تاريخنا للحضارة متسلسل الحلقات، صاعد الخطوات، إلا إذا تعقبنا ما أنتجه العقل؛ لأن نتاجه - دون أي نتاج آخر - هو الذي يظل يكمل نفسه عصرا بعد عصر، يصلح من أخطاء نفسه، ويكشف الجديد ويوسع الرقعة قليلا قليلا، حتى يبسط سلطانه على الأرض والسماء، وأما الفن وأما الأدب وغيرهما من كائنات العالم الوجداني في الإنسان؛ فلا يأتي الجديد ليعلو درجة على القديم، بل ربما حدث أن تفوق القديم على الجديد، فليس من التناقض أن يكون هومر أعظم من شعراء القرن العشرين جميعا، أو أن يكون فنانو النهضة الأوروبية أروع فنا من رجال الفن في عصرنا، فكيف إذن يتسلسل التاريخ في حركة صاعدة إذا لم يكن اللاحق أعلى درجة من السابق؟ إن هذا التتابع الضروري لا يتحقق إلا في ميدان العلوم، التي هي رمز للعقل ونتاجه، وبالتالي يكون الجانب العلمي هو وحده مدار القياس لدرجات التقدم والتخلف بين الأفراد أو الشعوب.
إنني لأرجو هنا ألا يختلط الأمر على أحد؛ فنحن لا نقول إن أي حضارة يمكنها الاستغناء عن عالم الشعور بكل ما يفرزه لنا من فنون وآداب وغيرهما، ولكننا نقول - بكل قوة نستطيعها - إن عالم الشعور وما ينتجه ضروري لكل حضارة، لكنه وحده لا يكفي، والعقل دون سواه هو الجانب الضروري والكافي معا لتعريف الحضارة وقياس درجاتها.
يقول ألبرت شفايتزر عن الحضارة إنها بذل الجهد من أجل التقدم، وكلمة «التقدم» هنا هي التي تهمنا في سياق حديثنا؛ لأنه إذا كان التقدم إلى أعلى وإلى أمام، شرطا أساسيا للحضارة، كان الجانب العقلي وحده من الإنسان، بما ينتجه من العلوم، هو الذي يتقدم، بمعنى أن تجيء الخطوة التالية من خطوات الطريق تقدما نحو الهدف الأخير، بالنسبة للخطوة السابقة؛ فالفيزياء أو الكيمياء أو البيولوجيا، أو علوم النفس والاقتصاد والاجتماع، أو غيرها من فروع العلم؛ ليست اليوم كما كانت بالأمس، واختلاف يومها عن أمسها هو الاختلاف الذي يتحتم فيه أن تكون حصيلة الأمس أفقر من حصيلة اليوم، وأكثر منها تعرضا للخطأ، وأما الآداب والفنون فكلمة «التقدم» بالنسبة إليها ليست بذات معنى؛ فقد لا يستطيع شاعر من شعرائنا اليوم أن يجاري امرأ القيس، وقد لا يستطيع أحد من رواة الحكايات في يومنا أن يقترب من الذروة الأدبية التي بلغتها ألف ليلة وليلة، لا، إن التقدم لا يكون إلا في معرفتنا العلمية، وأما ما هو خاص بالوجدان، فلا أظن أن الأم العصرية الثكلى تبكي فقيدها على نحو أكمل من بكاء الأمهات بالأمس، ولا أن يفنى عاشق في عشق حبيبته بأكثر مما فني قيس في عشق ليلاه.
ومن فكرة التقدم هذه تنبثق لنا فروع، لا بد لنا أن نعيها حق الوعي؛ حتى لا يفلت منا جوهر الحضارة ولبها، التقدم الحضاري يقتضي حتما ألا نجعل الماضي مقياسا للحاضر، وكيف نجعله المقياس إذا كان هذا الحاضر أفضل منه بحكم فكرة التقدم نفسها؟ النظر إلى الماضي هو نظر إلى الوراء، على حين أن التقدم يقتضي أن نوجه النظر إلى الأمام، والانحصار في الماضي هو انحصار في نمط واحد من أنماط الحضارة، مع أن التقدم يحتم علينا الخروج من نمط أضيق نطاقا إلى نمط أوسع أفقا وأرحب إطارا، إن فكرة التقدم من حيث هي علامة نميز بها المسيرة الحضارية، توجب علينا أن نجاوز واقعنا المحدود إلى واقع آخر أكبر عظما وأعلى ارتفاعا، على أن نفهم «واقعنا» هذا بأنه يشتمل على الماضي والحاضر معا، فكلاهما واقع تم، فلا بد أن ننظر النظرة التي نرجو أن يجيء المستقبل أكثر تحضرا - بمعنى أغزر علما - من الحاضر والماضي على السواء.
5
على ضوء هذا الذي أسلفناه، نستدير إلى عصرنا وحضارته، إنه ليس بدعا يشذ عن القاعدة التي سارت عليها سائر العصور، فالحضارة فيه ما زالت قائمة على نفس الأساس الذي قامت عليه حضارات السالفين، والأساس هو العقل، غير أن العقل - كما أسلفنا - يوجه فاعليته إلى ميادين تختلف كيفا من عصر إلى عصر، وميدانه اليوم هو العلوم الطبيعية التي تتمثل في أجهزة، ولا تقف عند كونها صياغات رياضية نظرية، كما كانت الحال حتى عهد قريب، فلو كان الخليل بن أحمد بعقله الجبار الذي خلق ترتيبا معجميا من عدم، واستخلص عروض الشعر استخلاصا بلغ حدا مذهلا من كمال العقل الرياضي ودقته، وقنن لنحو اللغة بعض قوانينه؛ أقول لو كان الخليل هذا ولد في عصرنا؛ لجاز أن يكون من أضخم علماء الفيزياء النووية حجما وأوسعهم شهرة؛ فالفكر العقلي عنده، ويبقى الميدان الذي يوجهه إليه، وكذلك لو كان بلانك أو بور أو هيزنبرج رجلا من أهل البصرة في القرن الثامن لأخرج للناس معجما للغة، وعروضا للشعر، مدار التقدم الحضاري - أعود فأكرر - هو الفاعلية العقلية دون سواها، والذي يختلف في مراحل التاريخ هو ميدان النظر الذي تحدده ظروف العصر المعين.
ولقد حددت ظروف عصرنا هذا أن يكون الميدان هو الواقع الطبيعي، وأن يكون الهدف هو إيجاد الجهاز الذي يجسد الفكرة العلمية كائنة ما كانت، الأجهزة هي لغة العلم في عصرنا، ولا عجب أنه عصر الصناعة في ثورتها الثالثة؛ كانت الثورة الأولى حين حلت الآلة محل الأبدان، سواء أكانت أبدان البشر أم أبدان الحيوان، والثورة الثانية حين أصبحت الآلة تسير آلة سواها ، دون تدخل الإنسان فيما يسير وما يسير، والثورة الثالثة حين اتسع نطاق الآلة فلم يعد يقتصر على ما كانت الأبدان تفعله، بل امتد حتى شمل فاعليات العقول، ذلك هو عصر التكنولوجيا كما يسمونه، لا فرق في هذا المجال بين مجتمع في الشرق، أو مجتمع في الغرب، فما دام المجتمع متقدما بمقياس العصر، كان حتما أن يلقي زمامه إلى عقله أولا، وأن يوجه فعل العقل نحو العلوم الطبيعية وأجهزتها ثانيا، فإن فوتت عليه قدراته الاقتصادية أن يسهم في هذا الميدان بنصيب؛ كان لزاما أن يجعل منهاج تلك العلوم منهاجا له في أي ميدان يتاح له النظر فيه؛ فقد تعددت ميادين النظر: فهنالك ميادين العلوم الاجتماعية؛ علم النفس وعلم الاقتصاد وعلم الاجتماع، وهنالك مجالات الارتفاع بمستوى العيش؛ من حيث التغذية والسكن والتعليم والعلاج الطبي ووسائل الراحة وتأمين الأفراد ضد كوارث الزمن، هنالك كل هذه الميادين التي تتفاوت فيها الأمم في عصرنا ارتفاعا وانخفاضا؛ مما قد يوحي بأن أيا منها يصلح أن يكون أداة لقياس التقدم والتخلف، إلا أنها جميعا تلتقي في نقطة واحدة؛ هي النظرة العقلية بمنهاج العلم إلى كل أوجه الحياة.
ونسأل بعد هذا كله: أين تقف الأمة العربية اليوم من المسيرة الحضارية؟ وأجيب بجواب يختلط فيه قليل من الأسى وكثير من الأمل، الأسى للهوة اللاعقلية العميقة العميقة التي لا نزال نتخبط في ظلامها، والأمل في جيل جديد أراه على الطريق إلى العقلانية العلمية وضيائها.
قد أكون على غير هدى فيما أقول، ولكنني - على الأقل - أصدق القول مع نفسي، حين أقرر ما أراه أمامي واضحا، وهو: إما أن نعيش عصرنا بكل ما يقتضيه من أخلاق، وإما أن نكون قادرين على تحويره، بحيث نعيد صياغته على مثالنا، أما أن نتمرد عليه، ثم نعجز عن تحوير أي شيء فيه؛ فذلك حكم على أنفسنا بموت حضاري، لا يعلم إلا علام الغيوب متى تكون قيامته.
قل ما شئت عن عصرنا، ولكنك مضطر إلى أن تصفه بصفات ثلاث: فهو عصر علمي، وهو عصر تقني، وهو عصر مدار الأخلاق فيه على المنفعة، ولقد جمع مؤلف إنجليزي معاصر هذه الصفات الثلاث في صيغة مركزة، إذ قال إنه عصر «تقني بنتامي»، أما التقنية فهي تتضمن ذلك الضرب من العلوم، الذي يستهدف اختراع الأجهزة التي تجسد قوانينها، ولا يترك هذه القوانين في صورتها المجردة، وأما أنه عصر بنتامي؛ فالإشارة هنا إلى بنتام، فيلسوف المذهب المنفعي إبان القرن الماضي.
معنى ذلك أن جواز المرور الذي يبيح لنا الدخول في عصرنا، هو أن نطور من قيمتنا السائدة لكي تصبح قيما قائمة على علمنة، وعلى تقنية، وعلى منفعية في أسس التعامل السياسي والاقتصادي على أقل تقدير، فإذا لم تعجبنا هذه الصفات لكونها غريبة على ثقافتنا الموروثة، كان علينا أحد أمرين: إما أن نلوي عنق العصر حتى يرى الدنيا بأعيننا، وإما أن ننسحب من العصر إلى حيث شئنا أن يكون الاختفاء في ستر الظلام، لكن المفارقة العجيبة، هي أننا لا نخلق للدنيا المعاصرة فكرا يثنيها عن طرقها، وفي الوقت نفسه ترانا نقف من ثقافة العصر موقفا يقبل أسماءها المجردة ويرفض مضموناتها، بمعنى أننا على استعداد لقبول الاتجاه العلمي والتقني بل الاتجاه المنفعي في التعامل، على شرط أن يقف هذا القبول عند حدود هذه الأسماء، وأما ما يندرج تحت هذه الأسماء من مضمونات؛ فليست لدينا المعدات التي أعدت لهضمها، مما أحدث فينا ضربا عجيبا من الازدواجية الحضارية؛ فعلى سطح الأمور الظاهرة، نبدو وكأننا نعايش العصر في تصوراته، فإذا نفذنا إلى ما تحت السطح وجدنا أنفسنا ما نزال نطوي في صدورنا قيم حضارة ذهبت مع تيار الزمن.
سل من شئت: هل تحب أن تتابع العصر في عقلانيته وتقنياته؟ يجبك في استعلاء بأن العقلانية وما يترتب عليها هي جزء من ميراثنا الأصيل، لكن قل له إنها في عصرنا تستتبع عدة أمور: منها ألا تلقي بزمامك إلى العاطفة أيا كان نوعها، ومنها أن يتولى العمل من يحسن أداءه، لا من ينتمي إلى أصحاب الجاه بأواصر القربى، ومنها أن يكون الارتكاز كله على الواقع المادي الصارم، ومنها أن نصطنع في حياتنا نظرة علمانية تجعل محورها هنا على هذه الأرض، قبل أن يكون هناك في عالم آخر .. قل له هذا، يأخذه الفزع؛ لأنه عندما أعلن أنه من أنصار النظرة العقلية، لم يكن قد تخيل لنفسه أنها نظرة تلد كل هذا النسل العجيب؛ فهو عقلاني بالاسم، لا بالمضمون والنتائج، إنه يقبل من العصر تقنياته؛ لأنه يريد - كسائر عباد الله - أن ينعم بالسيارة والطيارة، وأجهزة التدفئة والتبريد، لكنه إذا علم بأن إدخال هذه الآلات في حياتنا معناه إدخال عادات جديدة في تلك الحياة، ومعناه إحلال قيم جديدة محل قيم قديمة، أخذه الهلع؛ لأنه في عمق نفسه لا يريد عن قيمه الموروثة بديلا.
وهكذا نقع في أزمة حضارية من طراز نادر؛ لأننا في الحقيقة بمنزلة من يحيا ثقافتين متعارضتين في وقت واحد: إحداهما خارج النفس، والأخرى مدسوسة في حناياها لا تريم، فترى حضارة العصر في البيوت والشوارع والأسواق، بينما تحس حضارة الماضي رابضة خلف الضلوع.
6
ونعود فنسأل: أين تقف الأمة العربية اليوم، من حيث التقدم أو التخلف على طريق الحضارة؟
إن معايير القياس كثيرة، أشرنا إلى بعضها؛ فهنالك المعيار الاقتصادي الذي يقيس التقدم بمتوسط الدخل، وهنالك المعيار الثقافي الذي يقيسه بدرجة انتشار التعليم، وهنالك المعيار الذي هو أشيعها قبولا، وهو معيار يقيس تقدم الأمة أو تخلفها بدرجة العلمنة والتصنيع؛ أي بدرجة تحولها إلى الحياة الصناعية المستندة إلى الأجهزة الآلية، وأيا ما كان المعيار الذي تختاره، فالشرط الضروري دائما هو أن تتغير طرائق العيش والتفكير، بحيث تساير روح التقدم العصري.
لكن هذا التقدم لا يعني شيئا إلا إذا عرفنا إلى أي هدف نتقدم، حتى يمكن قياس المسافة الفاصلة بين موقفنا الراهن وذلك الهدف الذي نتقدم نحوه، بعبارة أخرى: ما هو النموذج الكامل الذي نضعه نصب أعيننا في أثناء سيرنا، لنكون على يقين بحقيقة موقفنا: هل هو اقتراب أو ابتعاد عن ذلك النموذج؟ وإنه لعزيز على نفسي أن أقولها صريحة، وإنه كذلك لعزيز على نفوس القراء أن يسمعوها ، لكنه حق لا منجاة لنا عن مواجهته ، وهو أن نموذج القياس إنما هو الحياة العصرية كما تعاش اليوم في بعض أجزاء أوروبا وأمريكا، فقد شاء الله أن يكون هناك اليوم ينبوع الحضارة، كما كان ينبوعها في أرضنا ذات يوم.
وقد نوجز أهم معالم تلك الحياة الأوروبية الأمريكية التي هي حضارة العصر في بضع نقاط، تساعدنا على قياس موقعنا بالنسبة إلى الهدف: فمن تلك المعالم المميزة سرعة التغير، وسرعة قبول الجديد، فحياة الناس هناك توشك أن تتغير يوما بعد يوم، وعليهم أن يلاحقوها، والملاحقة معناها ألا يبهرنا ما قد فات ومات، حتى لا نقف طويلا عند أطلال، بل نوجه البصر دائما نحو غد وبعد غد؛ فالقوم هناك يؤمنون إيمانا لا تحده حدود بالعلم وقدرته على النمو المطرد، وبأنه كلما اطرد نموه قلب حياة الإنسان كما وكيفا.
فإذا أردنا قياس التقدم أو التخلف، فما علينا إلا أن نقيس المسافة بين حياة الفرد العادي في مجتمعاتنا بحياة الفرد العادي في مجتمعاتهم: في حصيلة العلوم، في دقة التخطيط، في غزارة الإنتاج، في مدى الحرية السياسية والاجتماعية، وغير ذلك مما يتفرع عن أصل واحد، يتلخص في قولنا عن حضارة العصر إنها: علمية تقنية منفعية.
إنني لعلى وعي بوجه الاعتراض هنا، وهو: لماذا نفني ثقافتنا في ثقافة غيرنا بحيث نجعل منهم نموذجا لنا نحتذيه؟ وأظن أن خير جواب يزيل عن أنفسنا القلق، هو أن ينحصر تفردنا الثقافي في تلك الجوانب التي تميز الشعوب، والتي هي في الوقت نفسه ليست مقياس التقدم الحضاري كما حددناه، وأعني بها جوانب العقيدة والفن وبعض تقاليد الحياة التي لا تتنافى مع الحركة العلمية بكل فروعها، وبهذا نتيح لأنفسنا أن نتحضر بحضارة العصر في أخص خصائصها، كما نتيح لها في الوقت نفسه أن نحتفظ بما يميزها عما سواها، وبهذا نتركها تساير العصر في نظراته العلمية، وتنطوي على ذاتها في ميادين الوجدان وطرائق التعبير عنه في العقائد والأدب والفن.
إن الحديث عن الحضارة وقضية التقدم والتخلف للأمة العربية، ما كان ليستثير نشاطنا الفكري ، لو أن بنا مواتا نزل بنا إلى حفرة الحضيض، وكذلك ما كان ليستثير نشاطنا لو أننا قد علونا في حضارة العصر إلى ذروة الأوج؛ ففي الحالة الأولى ينعدم الوعي، فلا فكر ولا نشاط، وفي الحالة الثانية تتحقق الطمأنينة والرضى، فلا قلق ولا تساؤل، لكننا من مدارج الصعود في منزلة بين المنزلتين؛ ولذلك كان لا بد لنا من مثل هذا النشاط الفكري، نتحسس به الطريق، حتى لا نضل عن الجادة المستقيمة لنبلغ ما نريد ونبتغي.
حياتنا بين الأمس واليوم
1
ولدت في أوائل هذا القرن، قبل أن تفجع البلاد في دنشواي بعام واحد، ولما اكتمل لي الوعي بالدنيا وأحداثها كان قد انقضى من القرن ثلاثة عقود، كنت قبلها أسمع عن أقطار الأرض البعيدة، وكأنني أسمع عن عالم من ضباب، وأسمع عن جسام الحوادث في وطني، فأفهم الجمل مفككة ومتناثرة، ولكني لا أكون لنفسي منها قصة مفهومة.
أما دنياي القريبة مني، التي ألفتها حولي؛ فقد كانت بسيطة إلى حد السذاجة، أعقد ما فيها هي الكتب التي صادفتني فطالعتها، والتي حدث أن كانت في مجموعها أميل إلى «الأفكار» المجردة التي تعرت عن دم الحياة ولحمها؛ ومن هنا كانت الفجوة سحيقة بين ساعات أقضيها داخل الكتاب، وساعات أقضيها خارجه؛ وليس بي حاجة هنا إلى القول بأنني عشت أربعين سنة في بيت لم يعرف جهازا واحدا من أجهزة الحضارة الحديثة؛ إما لأنها لم تكن قد وجدت بعد، وإما لأنني كنت لا أملك ثمن اقتنائها، فلا راديو، ولا تلفزيون، ولا ثلاجة، بل ولا النور الكهربائي استخدمته خلال سنوات طويلة من حياتي، وكان أول فيلم سينمائي شهدته هو فيلم «سفينة العرض» - في أوائل الثلاثينيات - وإني لأذكر الآن كيف خرجت من شهوده ذاهلا لهذا العالم العجيب الذي لم أفتح أبوابه قبل ذاك؛ حتى التلفون لم يدخل بيتي إلا بعد أن انقضى من القرن نصفه، وبدأ نصفه الثاني.
لم يكن غريبا علي عندئذ أن ألتقي مع ألوف الناس من رجال ونساء، فلا أجد بينهم إلا قلة قليلة جدا أصابت شيئا من التعليم، وخصوصا في عالم النساء؛ ولذلك كان أول فرض يرد على الخواطر بالنسبة إلى أي امرأة تربطك معها روابط الحديث أو المعاملة؛ أنها تجهل القراءة والكتابة، فإذا كان الأمر بينكما يقتضي توقيعا، توقعت منها أن تخرج ختمها لتختم، أو أن تعد إبهامها لتبصم؛ حتى لقد كان من المفارقات التي تلفت النظر أن ترى سيدة وفي يدها جريدة أو كتاب، ودع عنك أن ترى سيدة على وجهها منظار، وكنت تحس عن الفئة القليلة المتعلمة، أنها كنقطة الزيت في قدح الماء، لا تندمج فيه مهما تحركت في أرجائه، كأنما تلك الفئة في أمتها عنصر أجنبي دخيل.
ولم يكن غريبا علي أن أجد ألوف الناس من رجال ونساء، يولدون ويعيشون ويموتون في مكان واحد، كأنهم نبات ينمو ويذبل وهو في موضعه! كانت الأكثرية العظمى من أهل القرية تسمع عن العواصم القريبة منهم، وكأنهم يسمعون حكايات من ألف ليلة وليلة تروى لهم عن الهند والسند؛ ولا يدخل القرية رجل من المدينة - وهم يعرفونه من ثيابه - حتى يتجمع الغلمان يرقبونه من بعيد بنظرات متطلعة، ويطل النساء من نوافذ الدور وأبوابها، مسدلات على الوجوه أغطية تحجب منها شيئا وتترك شيئا للرؤية؛ وإذا لم يكن في متناول إحداهن غطاء رفعت إحدى ذراعيها على وجهها لتؤدي لها ما يؤديه الغطاء.
كنت إذا ذهبت إلى القرية خلال أشهر الصيف، لا ألبث أن أدخل مع الناس هناك في ضروب من الحديث، لم أفهمها كل الفهم، ولم أجهلها كل الجهل؛ هي ضروب من الحديث تكثر فيها كلمات «الحجز» و«البروتستو» و«المحضر» و«البورصة» و«البنك» و«الخواجة»؛ ولم يكن للناس من حديث في أواخر الصيف إلا عن أسعار القطن، ترتفع وتنخفض لأسباب مجهولة، فتسري موجة من الفرح أو موجة من الحزن، وكان الشعور العام هو أن تلك الأسعار الصاعدة الهابطة هي ضربات القدر، تأتي من حيث لا تدري كيف جاءت؛ وحدث ذات مساء، وجمع من الرجال يسمرون وهم جلوس على «دكتين» متقابلتين أمام دكان البقال؛ أن سأل سائل وهو جاد: من ذا الذي يرفع هذه الأسعار يوما ويخفضها يوما؟ وأجاب مجيب وهو جاد أيضا، فقال: لقد سمعت أن هاتفا من السماء يهبط ساعة الفجر، يعلن في همس غير مسموع بما يقرر أسعار اليوم. ولم يعترض أحد على الجواب.
وكان مألوفا غاية الألف أن تسمع عن أحد الموسرين أنه أفلس بين يوم وليلة، كأن الأمور تتحرك بأصابع العفاريت الخافية على الأبصار؛ فترى آثارها المفاجئة ولا ترى محركاتها، وكان من أعقد الألغاز التي حيرتني فترة طويلة من مرحلة الشباب، تلك الحالات الكثيرة التي كان يقترن فيها موت رب الأسرة بخراب أسرته ودمارها، من بيع وتبديد وإفلاس، ولم يكن من باب اللغو في الحديث أن تجري ألسنة الناس بهذه العبارة التي تقول إنه «موت وخراب للديار»؛ لكثرة ما اقترن الحادثان وكأنهما علة ومعلول. وكذلك كان مما له مغزى حقيقي من واقع الحياة، أن يطلب الرجل «الستر» في حياته، كأنما هو على يقين أن هذا الستر سينكشف يوما عن خواء، وإذن فالدعاء لله هو أن يجيء ذلك اليوم بعد وفاته.
لم أكن واسع المعرفة بالزراعة وحياة المزارعين - من ملاك الأرض أو مستأجريها - لكن المعرفة القليلة التي حصلتها من تتبع الحياة وأطوارها في بعض من عرفتهم، كانت كافية لرسم صورة تقريبية لتلك الحياة، كيف يجري تيارها وكيف تتعاقب أطوارها؛ فقد كان الشيخ .. (وهذا مثل حقيقي بقيت لي منه ذكريات) يملك نحو عشرة أفدنة ملكا خاصا (وتلك هي أحسن الحالات، فلا هو بمستأجر عليه أن يدفع الإيجار من محصوله، ولا هو مدين - أول الأمر - مطالب بدفع فوائد الدين من محصوله)، وكانت حياته أول أمرها تجري بين يديه عسلا ولبنا؛ لكن الأعوام لم تمهله إلا قليلا، حتى فاجأته بعيال من زوجتيه، بلغت عدتهم عشرة بين بنين وبنات؛ وأقول «فاجأته» لأنه كان يبدو على كر الأعوام، كأنه على غير وعي بتكاثر نسله؛ ثم أراد له الله عند المفاجأة بهذا العبء الثقيل أن تزداد فداحة العبء بمرض أصابه، تطلب منه السفر المتصل إلى المنصورة حينا، وإلى القاهرة حينا ؛ فأخذت حصيلة أرضه تعجز عن الوفاء بعيش عياله ونفقات علاجه؛ فكان لا مناص من اقتراض على المحصول قبل مجيئه، والقرض لا يكون إلا بفائدة مرتفعة، ويجيء وقت المحصول، ويجيء معه صاحب القرض، فالأرجح أن يقدم له محصول عيني لقاء ماله، وهنا تكون الخطوة الثانية من الغبن الفادح؛ إذ يغلب أن يأخذ الدائن ما يأخذه من ناتج الأرض بثمن قليل؛ بحيث لا يبقى لصاحب الأرض إلا نزر يسير من ناتج أرضه، ونزر أيسر منه من مال سائل؛ ويجيء العام التالي، فتزداد الحاجة إلى القروض، لا من أجل عياله وعلاجه فقط، بل فوق ذلك من أجل الإنفاق على الأرض لفلاحتها، لكن صاحب المال هذه المرة لا يكفيه أن يقرض ماله على محصول الأرض، لأن ذلك قد لا يكفي؛ وإذن فلا بد من رهن جزء من الأرض ضمانا للدين؛ ويحدث بالفعل أن يعجز الرجل عن سداد دينه، فتذهب القطعة المرهونة من أرضه، وهكذا دواليك، على مر عدد من السنين، ثم تزداد العلة بالرجل ويموت، فيقترن موته باجتماع الدائنين لتصفية ما تركه لأولاده، فإذا الباقي لأولاده صفر من الأرض، وبقية الديون، ومع ذلك كله فقد عاش الرجل «مستورا» - في عرف الناس - لم ينكشف عنه الستر إلا بعد موته، فكان العري والجوع نصيب أبنائه من بعده.
تلك كانت حياة الزارع، في حالات ليست هي أسوأ الحالات، فلا عجب - حين ضاقت الضائقة في الثلاثينيات الأولى - أن كان المعلم في المدرسة الإلزامية - وكان على الأغلب من أهل القرية - ذا مكانة عالية لا تدانيها إلا مكانة من يملكون رقعة كبيرة من الأرض؛ فهذا المعلم بأربعة جنيهاته كل شهر - فذلك هو راتبه عندئذ - كان أقدر على الشراء من مالك العشرين فدانا، أو ربما كان أقدر من مالك الثلاثين؛ ولذلك فسرعان ما كانت الأرض تنفرط من أيدي ملاكها، لتهبط في أيدي هؤلاء.
ومع ذلك فقد كانت الزراعة هي المبدأ والمنتهى، وكل ما عداها من أوجه النشاط والعمل، كان يبدو وكأنه من لوازمها وملحقاتها؛ ولهذا كانت الأصالة والعراقة لمن ملك الأرض - ولأن يملكها مالكها عن إرث خير من أن يملكها عن كسب بمجهود - أما من لا يملك أرضا فهو في المجتمع من نوافله وهوامشه، مهما بلغ من شأن في أوجه أخرى من أوجه الحياة، فكانت ملكية الأرض هدفا يسعى إليه كل من اجتمع له شيء من مال؛ لقد عرفت طبيبا جمع مالا من مهنته، ولم يكن له شأن بالأرض وزارعيها، لكنه اشترى بماله قطعة واسعة من أرض جرداء لا تنتج إلا القليل، فلما أبديت له عجبي قال: إن جزائي الأوفى هو أن يقال بين الناس إن الدكتور ذهب إلى العزبة، وإن الدكتور عاد من العزبة؛ ففي ذلك وحده ما يكفل لي أن تنفتح أبواب الجاه والمكانة.
كان العمل الزراعي يومئذ يدويا في معظمه؛ فلم يكن أحد ليتوقع أن تحرث الأرض بغير المحراث التقليدي، أو أن تدرس «الغلة» بغير النورج، أو أن تروى الأرض بغير الساقية والشادوف، ولم يكن أحد ليتوقع أن يحصد الحصاد بغير الأيدي، وأن تحش الجذوع بغير المنجل؛ فكنت تسير في الأرض الزراعية أميالا بعد أميال، قبل أن تصادف مكنة تدار ببخار أو كهرباء؛ العمل يدوي كله، والانتقال أسرعه على ظهر الدواب؛ ومن ثم انطبع الجو كله بالبطء والمهل؛ وعدت السرعة من عمل الشيطان، ومما يبعث آخر الأمر على الندم، وفيم الإسراع والزرع ينمو على مهل، والمحصول يجيء في أوانه من العام؟! لقد ضرب لي صديق في القرية موعدا أن نلتقي في صبيحة الغد، فزللت بالخطأ وسألته: في أي ساعة من ساعات الصبح تريدنا أن نلتقي؟ فما وجدت منه ومن الصحبة كلها إلا مر السخرية؛ فقد كدت أبدو في أعينهم «خواجة» لأنني أردت تحديد ساعة اللقاء؛ ففي كلمة «الصبح» تحديد لهم بما يكفي للحياة في الريف. وكان مما زاد في بطء الحركة رسوخا في النفوس أن صاحبها - نتيجة طبيعية لها - بطء شديد في تغير الأوضاع؛ أوضاع الفرد وأوضاع المجتمع، حتى تكاد بالنسبة لأي فرد - إذا عرفت كيف بدأ حياته - أن تجزم فيما يشبه اليقين كيف تنتهي. وكان من دواعي البطء الذي استحكمت في النفوس أسبابه؛ صعوبة اتصال الناس بعضهم ببعض إذا ما فرقت بينهم مسافة من الأرض؛ فالخطاب البريدي يحتاج إلى وقت طويل، والسفر يحتاج إلى وقت أطول، والأخبار تنتشر في أرجاء القطر الواحد - ولا أقول في أرجاء العالم - على فترة مديدة، قد تصل إلى بضعة أشهر؛ لم يكن في قريتنا مكتب للبريد، وكان لا بد لإرسال الخطاب أو لتسلم خطاب من الذهاب إلى القرية المجاورة حيث المكتب، وكان من ينوي السفر يعد له، مهما يكن من قصر المسافة، وقل في ذلك ما شئت بالنسبة إلى من يعتزمون السفر إلى أرض الحجاز لأداء فريضة الحج؛ فها هنا يكون الإعداد بما نظنه اليوم لا يتناسب إلا مع رحلة إلى المريخ!
2
لكن المفارقة العجيبة حقا هي ما كان بين هذه الصورة المعيشية من جهة، والصورة الفكرية والثقافية من جهة أخرى (وما زلت أتحدث عن الثلاثة العقود الأولى من هذا القرن)، فإذا كانت البساطة قد صحبت الأولى، فإن الحيوية قد صحبت الثانية؛ ففي الأولى سذاجة، وفي الثانية عمق؛ في الأولى نطاق محدود، وفي الثانية أفق واسع، حتى لأستطيع المجازفة بالقول فأزعم أن حياتنا - كما عرفتها إلى أن بلغت الثلاثين بل بعد أن جاوزتها - كانت مصابة بفصام خطير؛ فهنا بدن يعيش - أو يكاد - في امتداد العصر التركي، وهناك عقل يتابع ثقافة العصر في آخر تطوراتها؛ هنا المحراث والنورج والساقية والشادوف والمنجل - تراها حيثما توجهت على الأرض المزروعة بما يسودها من بساطة عيش وبطء حركة - وهناك لطفي السيد والعقاد وطه حسين وهيكل وسلامة موسى، تصادفهم في كل صحيفة ومجلة وكتاب.
لقد تجاورت في مجتمعنا أضداد نستطيع على وجه التعميم والإجمال أن نقول إنها أضداد استقطبتها حياة الريف في ناحية، وحياة المدن - أو قل حياة القاهرة - في ناحية أخرى؛ ففي الريف بلغ من الناس استسلامهم للخرافة حدا أقصى، وفي القاهرة بلغت النزعة العقلانية بأئمة الفكر شوطا بعيدا؛ في الريف كان الإنتاج، برغم حياة الشظف والفقر، وفي القاهرة كان الإنفاق في بذخ؛ في الريف امتداد للعصور الوسطى في وسائل العيش، وفي القاهرة القصور والمسارح وأماكن السهرات اللاهية؛ أضداد تجاورت حتى شطرت مجتمعنا مجتمعين لا يكادان يلتقيان، وقد انعكس هذا الانشطار في نوعين من التعليم: مدني هنا وديني هناك، وفي نوعين من المحاكم: مدنية هنا وشرعية هناك، وفي نوعين من أحياء السكنى وطرائق العيش: «إفرنجي» هنا و«بلدي» هناك، وفي نوعين من ضوابط السلوك؛ فالسلوك الجائز عند فريق «تفرنج» قليلا أو كثيرا، مجلبة للعار عند فريق آخر يرعى التقاليد.
على أن ما يعنيني الآن من هذه الأضداد ذلك التباين الحاد بين الحياة المعاشية في ركودها وبطئها وتخلفها، والحياة العقلية في نشاطها وحيويتها وسرعتها؛ وكان لا بد ليوم أن يجيء، يشتد فيه الجذب بين حياة الواقع المادي البطيئة وحركة العقل السريعة، بحيث لا يكون ثمة مناص من التصدع، وبحيث يتحتم على الحياة المادية البطيئة المتخلفة أن تعيد بناءها لتلحق بالفكر في طيرانه ووثوبه؛ وذلك هو ما حدث - بدرجة متواضعة أول الأمر - في الحركة الاقتصادية والصناعية التي بدأها رواد أوائل مثل طلعت حرب، ثم حدث بدرجة قوية طموح بالثورة الاقتصادية والاجتماعية الجذرية الشاملة، ثورة 23 من يوليو سنة 1952م، التي جاءت لتغير الصورة المعيشية تغييرا كاملا؛ فإذا كانت العين لم تألف - في السنوات التي رسمت صورتها سنوات العقود الثلاثة الأولى - أن ترى على الأرض الزراعية مكنة تدار ببخار أو كهرباء، فأحسبها اليوم واقعة على الآلات الزراعية المتقدمة، في الأرض المنزرعة وفي الأرض المستصلحة، بنسبة لا بأس بمقدارها، وإذا كانت العين خلال تلك الفترة لم تألف أن ترى في سماء المدن إلا المآذن فوق المساجد؛ فهي اليوم تألف أن ترى مداخن المصانع إلى جانب مآذن المساجد، فيكون ذلك عندها أجمل رمز وأصدقه، على أن حياتنا قد اتحد فيها دين ودنيا، كما أراد لهما الإسلام أن يتحدا.
تصدعت الحياة الاقتصادية البطيئة الراكدة بفعل الجذب الشديد الذي وقع عليها من ناحية الحياة الفكرية التي تقدمت حتى انقطعت كل صلة بينها وبين الركود الاقتصادي، كما يتبدى هذا الركود في حياة الفلاح المتوسط، وهل نخطئ إذا قلنا إن ثورة 1952م إن هي في صميمها إلا ثورة أريد بها أن تغير من أوضاع الحياة المادية تغييرا من شأنه أن يزيد من سرعة نشاطها لتلحق بالحياة الفكرية، حتى إذا ما توازيا، سار المجتمع بعدئذ في تكامله سيرا فيه اتزان بين الرأس والبدن؟!
انتقلت الحركة من الأسرع إلى الأبطأ، على نحو شبيه بما يحدث حين تنتقل الحرارة دائما من الجسم الأسخن إلى الجسم الأبرد إذا تلامسا؛ ضع قطعة من الحديد الساخن ملامسة لقطعة أخرى من الحديد البارد، تجد أن الحرارة تنساب من الأولى إلى الثانية حتى تتعادل بينهما درجة الحرارة، وليس في ذلك شيء من ضرورة التحتيم؛ فقد كان يمكن للعكس أن يكون هو الأمر الواقع، بحيث تزيد حرارة الحار، كما تزيد برودة البارد، على أن يظل مجموع الحرارتين ثابتا؛ كان يمكن لاتجاه السير أن يكون على هذا النحو العكسي، لكن هكذا وقع ما وقع، فرصدناه في قانون، يسمونه القانون الثاني للديناميكا الحرارية، وكذلك قل في الجانب الاقتصادي من الحياة، وفي جانبها العقلي، فإن الحركة تنتقل من أكثر الجانبين نشاطا إلى أقلهما، وقد حدث في مصر، كما عهدتها في العقود الأولى من هذا القرن، أن كان النشاط الأوفر في حياة الفكر، والنشاط الأقل في حياة الزراعة والصناعة، فانتقلت الحركة من الأولى إلى الثانية، لكنه انتقال تطلب ثورة كبرى لتحدثه، كما يتطلب المريض بالعصاب هزة كهربائية تصدمه ليفيق؛ على أني لا أريد أن أترك هذا الموضوع من الحديث، قبل أن أثبت ظنا يدور الآن في خاطري، وهو أن هذا الترتيب بين الحياتين قد يعكس في بلد آخر، بحيث يكون السبق للحياة الاقتصادية المادية على حياة الفكر، فعندئذ - فيما أظن - تجيء الثورة عقلية؛ ليزيد الفكر من حركته حتى يلحق بازدهار الحياة الاقتصادية، وربما كان ذلك هو ما حدث في القرن التاسع عشر في أوروبا، حين أحدثت الثورة الصناعية زيادة في الإنتاج، تلكأ دونها الفكر، فثار الفكر في منتصف القرن ليحدث في نفسه انقلابا يمكنه من سرعة السير.
وأعود إلى صورة بلدي كما رأيتها في النصف الأول من حياتي؛ لأرى كيف تبدلت، أما يزال الفرق شاسعا بين خط العرض الذي يعيش فيه مفكر القاهرة، وخط العرض الذي يعيش فيه زارع الأرض في الريف؟ هل ما تزال مسافة الخلف بين فلاح القرية اليوم وبين كاتب في القاهرة مثل الدكتور حسين فوزي، هي نفسها المسافة التي كانت بالأمس بين فلاح القرية وكاتب في القاهرة عندئذ كالعقاد؟ أو لأضع السؤال في صيغة أكثر توضيحا للنقطة المطروحة، فأقول: هل الصلة بين توفيق الحكيم حين أصدر مسرحية أهل الكهف في أوائل الثلاثينيات، وبين فلاح القرية حينئذ، شبيهة بالصلة بين توفيق الحكيم حين أصدر مسرحية الصفقة أو الأيدي الناعمة وبين فلاح القرية اليوم؟ لا أظن ذلك؛ فالمسافة قد قربت إلى درجة كبيرة بين الطرفين.
لم تكن مشكلات المفكرين بالأمس لتعني شيئا عند ساكن الريف؛ فماذا يهم زارع الأرض في الريف، بكل ما كان يحمله في حياته من أعباء ثقال، لا تترك له من نتيجة جهده طوال العام ما يملأ جوفه ويكسو عريه، ماذا يهمه إذا كانت ثقافة السكسون أفضل من ثقافة اللاتين أو كانت هذه أفضل من تلك؟! وقد كانت هذه مشكلة فكرية عندنا ذات يوم، ماذا يهمه إذا كان الشعر الجاهلي قد جنى على الشعر العربي المعاصر أو كان ذلك الشعر الجاهلي مصدرا لقوة هذا الشعر المعاصر؟! وقد كانت هذه مشكلة ثانية، بل ماذا يهمه إذا كتبنا بأحرف عربية أو كتبنا بأحرف لاتينية؟! وقد كانت هذه مشكلة ثالثة، لا، لم يكن يهمه شيء من هذا؛ ولذلك بترت العلاقة بترا بين سكان القرية وكاتب القاهرة؛ لتخلف الأول بالنسبة إلى الثاني من جهة، ولأن الثاني مهتم بأمور لا شأن للأول بها من جهة أخرى.
أما صورة اليوم فقد اختلفت اختلافا بعيدا؛ فالمشكلات التي يثيرها كتاب المسرحية والقصة الطويلة أو القصيرة، هي نفسها المشكلات التي تعتمل في نفس الريفي: علاقة الناس بعضهم ببعض، وعلاقتهم بالثروة ومصادرها وبالسلطان ومراكزه، وغير هذا وذلك مما يضرب في صميم الحياة، ثم جاء الراديو وجاء التلفزيون، فأثرا في نوع الكتابة بقدر ما أثرت الكتابة فيهما؛ فأصبح كاتب المسرحية مثلا لا يخط حرفا إلا والشاشة ماثلة أمام بصره، فماذا يصلح لها وماذا لا يصلح، وبالتالي: ماذا سيشاهد الريفي وماذا سيسمع بحيث يتأثر أو لا يتأثر؟
فبطء الحياة بالأمس، وبطء الحركة، وبطء الانتقال والاتصال؛ قد انقلب اليوم سرعة سريعة، مما أدى إلى أن سارت القرية أشواطا في سبيل وصولها إلى القاهرة؛ حلاق الصحة في القرية قد حل محله طبيب أو أكثر من طبيب، ومقرض المال للفلاح قد حل محله جمعيات تعاونية وبنوك ائتمان؛ فلا أظن أن الشيخ الذي قصصت قصته، لو كان يعيش اليوم، كان يفاجأ بما فوجئ به من إفلاس.
قلت إنه كان من المفارقات التي تلفت النظر أن ترى سيدة وفي يدها جريدة أو كتاب، وأنا أترك للقارئ أن يحدثنا هو عن المفارقة التي تلفت أنظارنا اليوم؛ إنها اليوم لمفارقة أن نرى فتاة قعيدة البيت لم تختلف إلى معهد أو جامعة، ولم تشغل نفسها بعمل بعد ذلك، إنك اليوم إذا طالبت امرأة بالتوقيع؛ فلا تتوقع منها ما كنت تتوقعه بالأمس، من أنها ستخرج ختمها لتختم أو ستمد إبهامها لتبصم، بل تتوقع منها أن تخرج قلم الحبر من حقيبتها لتوقع بعد أن تجادلك في مبررات التوقيع.
ترى إذا عاد الزمن بصديقي الطبيب، الذي وضع ماله في أرض لا يحسن زراعتها، ليقول الناس عنه إنه ذهب إلى العزبة وعاد من العزبة؛ كسبا للجاه وبعد الصيت، فهل يظل على رأيه بأن يغتصب الأرض من زارعيها بماله بغية الجاه؟ أو إنه سيجد ذلك - اليوم - ما يأباه الإدراك السليم؛ فالأرض للزرع لا لاكتساب السطوة والسلطان! لكنها كانت بقايا إقطاع تمكنت من النفوس، وذهبت اليوم وذهب ريحها.
تغيرت صورة الحياة بين أمسها ويومها، ومن ذا يعلم ماذا تكون غدا؟
إنسانية العلم
المذهب الإنساني في الفلسفة - أو «الإنسية» كما أرادنا المرحوم إسماعيل مظهر أن نسميه - هو في صميمه صرخة احتجاج على كل ضرب من ضروب الفكر أو الحياة، يؤدي إلى التضحية بالإنسان من حيث هو كائن حي متكامل بعاطفته وعقله ، التضحية به من أجل أي شيء آخر سواه، كأن يضحي بهذه الدنيا من أجل الآخرة، أو أن يضحي بالعاطفة من أجل العقل، أو أن يضحي بالروح من أجل المادة، أو بالمادة من أجل الروح، أو بالحياة الفكرية من أجل الحياة العملية، أو بهذه من أجل تلك؛ فلئن كانت العصور الوسطى - في أوروبا - قد سادتها روح تطالب الإنسان بأن يئد رغباته الجسدية وغرائزه الفطرية الحيوية، فإن ثورة كان لا بد لها عندئذ أن تجيء لتعيد الإنسان إلى إنسانيته بكل ما فطرت عليه؛ فليس الإنسان بإله، كلا، ولا هو بحيوان، إنما هو كائن أريد به أن يقف حلقة وسطى بين السماء والأرض، يأخذ من الأولى روحانيتها ومن الثانية ماديتها، ثم يجاور في شخصه بين الجانبين، والعكس صحيح كذلك؛ أي إنه إذا كانت الثورة الصناعية في القرن الماضي قد أرادت - في أوروبا أيضا - أن تقتلع الإنسان من جذوره الروحانية كلها لتضعه في المصانع آلة من آلاتها؛ فإن ثورة على الثورة كان لا بد لها أن تظهر لتعيد للإنسان إنسانيته - في الاتجاه المضاد هذه المرة - وهكذا كلما اقتضت ظروف الحضارة في عصر من العصور أن ينطمس من طبيعة الإنسان جانب لحساب جانب؛ تحتم أن يخرج للناس فيلسوف «إنساني» يصحح الخطأ ويعيد للإنسان توازنه المفقود.
وإنه لمن حسنات الثقافة الإسلامية - فيما له صلة بموضوع حديثنا - أنها في جوهرها ثقافة لا تضحي من الإنسان بجانب من أجل جانب؛ فهو مخلوق للدنيا وللآخرة معا، للجسد وللروح معا، للنشاط العملي في هذه الحياة وللسبحات الروحية في سبيل حياة آخرة؛ ولهذا لم تكن هذه الثقافة الإسلامية بحاجة ماسة إلى أنصار للمذهب الإنساني يصرخون احتجاجا على ذلك أو على هذا، كما كانت الثقافة الأوروبية بحاجة؛ لكننا لم ندع ثقافتنا الأصلية تسير في مجراها، فأدخلنا عليها عناصر اقتضتها ظروف حضارية حديثة، ومن ثم هبت علينا الأنواء التي تميل بشراع السفينة إلى اليمين أكثر مما ينبغي تارة، وإلى اليسار أكثر مما ينبغي تارة أخرى، إلى الإيغال في العقل ولوازمه مرة، وإلى الإيغال في العاطفة وملحقاتها مرة، فأصبحنا بحاجة إلى «مذهب إنساني» يظهر حينا بعد حين ليصحح الخطأ ويعيد تعادل الميزان.
وليس في هذا كله علينا من بأس نخشاه، لكن البأس هو في أن تقع الثقافة الأوروبية في خطأ فنقع فيه مثلها، حتى لو لم تكن حياتنا تستلزم الوقوع فيه! ذلك أن المصادفة البحتة قد أدت بأصحاب المذهب الإنساني في أوروبا إبان نهضتها، أن يرتدوا إلى تراثهم اليوناني واللاتيني؛ ليلتمسوا فيه صورة الإنسان المتكامل بعاطفته وعقله، وأن يغفلوا العلوم الطبيعية من الصورة التي أرادوا تصويرها، لحداثة تلك العلوم الطبيعية عندئذ؛ فجاءت الأجيال التالية، ليظن أبناؤها أن الصورة الإنسانية المثلى، التي تتوافر فيها القيم الرفيعة وتتحقق بها الغايات القصوى، هي في ثقافة إنسانية من النوع الذي رسمه أنصار المذهب الإنساني في أوروبا النهضة، بلا زيادة ولا نقصان؛ فإذا كان هؤلاء قد ارتدوا إلى التراث اليوناني واللاتيني، فلا مناص لنا - نحن أنصار المذهب الإنساني الحديث - من أن نرتد إلى هذا التراث نفسه بغير تحريف، وإذا كان هؤلاء الرواد قد أغفلوا ذكر العلوم الطبيعية في الصورة الإنسانية كما رسموها لمعاصريهم، فلا مناص لنا كذلك - نحن أنصار المذهب الإنساني الحديث - من إغفال تلك العلوم؛ وبهذا نقع في خطأ مزدوج، فلا التراث اليوناني واللاتيني بضرورة ليس عنها من محيص لمن يريد أن يهيئ للإنسان حياة ثقافية إنسانية متزنة العناصر، ولا إغفال العلوم الطبيعية بشرط محتوم لكي تتوافر للقيم الإنسانية ظروفها المواتية.
ومن هذا الخطأ المزدوج ترتبت عندنا - في ثقافتنا العربية الحديثة - نتائج، منها أن قادة التعليم الجامعي في بلادنا، اشترطوا دراسة اليونانية واللاتينية، كأنما هما لازمتان لا غنى عنهما لمن أراد أن تتكامل ثقافته، وكأنهما لم تكونا إبان النهضة الأوروبية لصيقتين بطبيعة الثقافة الأوروبية عندئذ، في خروجها من ضيق العصور الوسطى إلى رحابة العصور الحديثة؛ ومن تلك النتائج أيضا أن قر في أذهاننا أن القيم الإنسانية العليا لا تصاحب العلوم الطبيعية، ما دام قادة المذهب الإنساني في أوروبا إبان نهضتها قد أغفلوا تلك العلوم من الصورة المثلى، وكأنما إغفالهم هذا لم يكن صدفة محضة، بل كان ضرورة حتمية تدوم مع العصور جميعا؛ ولهذا أصبح مألوفا على ألسنة المتكلمين وأقلام الكاتبين، أن نسمع وأن نقرأ بأن المغالاة في العلوم الطبيعية على حساب الدراسات الإنسانية قد يكون مفسدة لكياننا الإنساني! ونريد بهذا الحديث بيان الخطأ في هذين الموضعين.
أما عن دراسة اليونانية واللاتينية؛ فأحب أن أجعلها واضحة منذ البداية. إن موضوع الحديث هنا ليس هو ضرورة هذه الدراسة من حيث إن هاتين اللغتين أصل ثقافي، لا بد من دراسته إذا أردنا أن ندرس فروعا كثيرة أخرى، كالفلسفة والقانون الروماني، بل إذا أردنا أن نكون على علم من الداخل بالمصطلح العلمي في فروع العلوم الطبيعية جميعا؛ فدراسة هاتين اللغتين ضرورة ليس لنا حيالها اختيار؛ لكن موضوع الحديث هنا هو السؤال عما إذا كانت دراسة هاتين اللغتين، وما كتب بهما من تراث يوناني وروماني، ضرورة تقتضيها النظرة «الإنسانية»، كما كانت الحال في نظر النهضة الأوروبية. والرأي عندي هو أن ما قد عد ضرورة إنسانية في أوروبا النهضة - وفي إيطاليا بصفة خاصة - إنما عد كذلك للصلة الشديدة التي كانت تربط الثقافة الأوروبية بسالفتيها من يونانية ولاتينية، فإذا أرادت تلك الثقافة أن تتنفس الهواء الطلق، بعد أن فكت عن خناقها قبضة اللاهوتيين إبان العصور الوسطى؛ فأين كانت لتجد ذلك الهواء الطلق تتنفسه إلا في تراثها، ولا سيما أن ذلك التراث يحمل في حصائله كل ما كان ينقص الإنسان الثائر على القيود، من قيم الحركة الفكرية، وحب الحياة؟!
فإذا أردنا نحن اليوم أن نصنع الصنيع نفسه، بأن نتيح للإنسان ثقافة تمكنه من اكتساب القيم الإنسانية التي ينشدها، فإنما يتحقق لنا ذلك، لا بضرورة التوسع في دراسة اليونانية واللاتينية، بل بضرورة الاستعانة بتراثنا نحن، كما استعانت أوروبا النهضة بتراثها؛ وبذلك تتحقق الموازاة بين الموقفين.
أقول ذلك عابرا، بعد أن لم تعد مسألة اليونانية واللاتينية قضية تشغل الأذهان، كما كانت تشغلها في الثلاثينيات؛ فقد راجعت ما قاله أستاذنا الدكتور طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر » (1938م)، وقد خصص للحديث في هذا الموضوع فصلا كاملا (من صفحة 275 إلى صفحة 299، في الجزء الثاني من الكتاب)، يعرض فيه رأيه في ضرورة اليونانية واللاتينية لا في تعليمنا الجامعي وحده، بل في التعليم الثانوي كذلك، ما دام هذا التعليم الثانوي مرحلة مؤدية إلى المرحلة الجامعية؛ وقد خيل إلي أن أستاذنا في دفاعه الحار، لم يقصر أهمية تلك اللغتين على كونهما مادتين دراسيتين بين المواد الدراسية الواجب قيامها في المدارس والجامعات، بل جاوز ذلك ليجعل لهما مكانة أخرى ممتازة، تشبه المكانة التي كانت لهما عند أنصار الدعوة «الإنسانية» في تاريخ أوروبا الحديث، يقول: «وأنا مؤمن أشد الإيمان وأعمقه وأقواه، بأن مصر لن تظفر بالتعليم الجامعي الصحيح، ولن تفلح في تدبير بعض مرافقها الثقافية المهمة، إلا إذا عنيت بهاتين اللغتين، لا في الجامعة وحدها، بل في التعليم العام قبل كل شيء»، ويقول أيضا: «إن التخصص في أي فرع من فروع الدراسات الأدبية، التخصص الصحيح، لا سبيل إليه إلا إذا استعد الطلاب له بمعرفة اللاتينية دائما، واليونانية أحيانا، فلا بد أن يهيأ الطلاب في المدارس العامة لهذا التخصص» (يقصد في المدارس الثانوية).
وإني لأقرن هذا الاهتمام كله من أستاذنا - وربما كان لذلك الاهتمام مبرراته في حينه - أقول إني لأقرن اهتمام أستاذنا بما ليس له صلة وثيقة مباشرة بحياتنا الثقافية، أقرنه برأي للفيلسوف الأمريكي «رالف بارتون بري» - وقد كان أستاذا للفلسفة في هارفارد معظم حياته العاملة، بل وبعد أن بلغ سن التقاعد سنة 1946م، إلى أن توفي منذ قريب - إذ يقول في كتابه «إنسانية الإنسان» ما ترجمته: «لقد كان حدثا تاريخيا عارضا هنا أن الماضي الذي شعر نحوه أصحاب المذهب الإنساني الإيطاليون في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، بذلك الإجلال العظيم، هو عصر الحضارة اليونانية الرومانية؛ كان هذا تاريخهم هم بالمعنى المزدوج، فقد كان بالنسبة إليهم ماضيهم المباشر الذي ارتبطوا به بالاستمرار الثقافي، بينما كان الأدب اللاتيني أدبهم القومي، وكانت اللغة اللاتينية لسان أجدادهم، إلى جانب كونها اللغة المتواضع عليها للعالم المثقف؛ أما الثقافة اليونانية فإنها كانت قد غزت الثقافة الرومانية، ولم يتطلب إحياء اللغة والأدب اليونانيين إلا متابعة النهر إلى منبعه، غير أن المعنى الذي كانت تحمله اليونانية واللاتينية لأصحاب المذهب الإنساني الإيطاليين، لم يعد يحمل المعنى نفسه لأي مكان آخر أو زمان».
وأكرر القول بأن الاعتراض هنا ليس موجها إلى دراسة اليونانية واللاتينية من حيث هما، وباعتبارهما جزءا من التراث الإنساني الذي لا بد من دراسته، بل هو موجه إلى أي اتجاه يريد أن يجعل منهما النبع الأساسي الذي نستمد منه قيمنا الإنسانية، إذا ما أردنا أن ننشئ للإنسان العربي الحديث شخصية متكاملة؛ إذ النبع الأساسي لهذا الإنسان العربي، هو المقابل العربي للتراث اليوناني اللاتيني بالنسبة لأوروبا، أعني أنه هو التراث العربي بما يحمله من قيم.
3
ذلك هو أحد الخطأين اللذين تورطنا فيهما مع من تورط، ممن جعلوا نموذج المذهب الإنساني الذي ينشد للإنسان أن يكون هدفا مقصودا لذاته، حرا في تفكيره، متحررا من قيوده، مستمتعا بحياته الدنيا؛ أقول ممن جعلوا نموذج هذا المذهب الإنساني هو ما أعلنه أنصار ذلك المذهب في أوروبا إبان نهضتها، فنقلوا عنهم حرفا بحرف، فإذا كان هؤلاء الأنصار قد عادوا إلى التراث الكلاسي ليحرروا الإنسان من نير العصور الوسطى؛ فلا بد لنا كذلك أن نعود إلى هذا التراث الكلاسي نفسه؛ على حين أن العبرة هي في «التراث» - ولكل تراثه - لا في ضرورة أن يكون ذلك التراث هو اليوناني الروماني دون سواه.
أقول إن ذلك هو أحد الخطأين، وأما الخطأ الثاني فهو أن نتورط مرة أخرى فيما فعله رجال النهضة الأوروبية، عند عودتهم إلى المذهب الإنساني بعد ظلام العصور الوسطى، وهو أن يغفلوا العلوم الطبيعية من حيث هي مصدر للقيم الإنسانية التي تجعل من الإنسان إنسانا؛ فكلما توسعنا في العلوم الطبيعية بغية إقامة حياة جديدة تساير العصر الحاضر في علمه وصناعته؛ أشفق المثقفون، خشية أن يكون ذلك التوسع مؤديا إلى جدب في القيم الإنسانية، على اعتبار أن هذه القيم تنشأ - أكثر ما تنشأ - من «العلوم الإنسانية» كالتاريخ والفلسفة ودراسة اللغة والأدب.
ونريد هنا أن نؤكد ما يصحح هذا الخطأ، بأن لا تعارض بين العلم الطبيعي والمذهب الإنساني؛ بل إن رجال النهضة الأوروبية أنفسهم - الذين نتخذهم نموذجنا في الدعوة الإنسانية - لم يعارضوا بين العلم الطبيعي والقيم الإنسانية، لم يقولوا إن هذه القيم لا تنشأ عن ذلك العلم، وهم إذا كانوا في دعوتهم الإنسانية قد أغفلوا العلم الطبيعي؛ فذلك لأن هذا العلم كان قد ولد لتوه في الحضارة الأوروبية قويا مكينا على أيدي جاليليو وكوبرنيق ونيوتن وغيرهم، فلم يكن بحاجة إلى من يؤكد ضرورته، وهو الوليد القوي الذي ولد من الثورة على القرون الوسطى؛ ليكون فجر العالم الجديد.
أنه مهما اختلفت الزوايا التي ينظر منها إلى المذهب الإنساني، ومهما اختلفت خصائص هذا المذهب باختلاف المتكلمين في فلسفته؛ فالرأي مجمع على أن الأساس الأول والهدف الأخير هما أن نكفل للإنسان حياة نعترف له فيها بحقوقه الإنسانية في هذه الدنيا وعلى هذه الأرض، وإذا كان ذلك كذلك؛ فبأي شيء نكفل له هذه الحقوق الإنسانية أكثر مما نكفلها له بالعلوم الطبيعية، وبخاصة في عصر تطبيقها على الحياة العلمية؟ أنكفلها له بأبراج عاجية - كما يقولون - يعتزل فيها المثقفون بثقافات «إنسانية» من النوع الذي لا يبني البيوت ولا يقيم الجسور ولا ينبت الطعام ولا ينسج الثياب؟! إن تلك الأبراج العاجية نفسها بحاجة إلى من يقيمها بالعلم وتطبيقاته؛ والحق أن الحلقة في هذا حلقة مفرغة؛ فالعلم وتطبيقاته على الحياة شرط أساسي لازدهار الحياة، ثم يجيء هذا الازدهار بدوره شرطا أساسيا لتقدم العلم وتطبيقاته؛ ولك أن تستعرض عصور التاريخ الحضاري، وستجد عندئذ أن تقدم العلم وارتفاع المستوى المعيشي يكادان يكونان متلازمين حيثما وقعا، فلم يتقدم العلم بدرجة ملحوظة إلا في عصر ازدهرت فيه ظروف العيش، ولم تزدهر هذه الظروف في عصر أو في بلد إلا ومعها تقدم في العلم؛ مما يؤكد العلاقة الوثيقة بين العلم الطبيعي وحياة الإنسان في هذه الدنيا وعلى هذه الأرض، وهي الحياة التي يدعو إليها المذهب الإنساني.
يخاف الخائفون من طغيان العلم وتقنياته، ومصانعه ومعامله وآلاته، أن يؤدي ذلك إلى جفاف العاطفة الإنسانية ويبوسها وذبولها، على اعتبار أن العاطفة لا مكان لها في حياة يسودها العلم وملحقاته! وإني لأنتهز هذه الفرصة لأشير إلى هذه المقابلة الزائفة التي كثيرا ما يقابل بها الناس بين العقل والعاطفة، حاسبين أن الأمر إما عقل أو عاطفة؛ وحقيقة الموقف هي أن لكل من العقل والعاطفة مهمة مختلفة، والمهمتان متكاملتان في كل عملية من مجرى النشاط اليومي؛ وذلك أن الإنسان يختار أهدافه بالعاطفة، ثم يخطط الخطط بالعقل لتحقيق تلك الأهداف.
إن كلمة «العقل» لا تطلق إلا على الحركة الانتقالية من المقدمات إلى نتائجها، ومن المراحل إلى غاياتها؛ وأما الإدراك لشيء بذاته، كأن أنظر - مثلا - إلى هذه البقعة اللونية الصفراء التي أمامي، أو كأن أركز الذهن في فكرة من الأفكار أو في مبدأ من المبادئ مجرد تركيز، دون انتقال منه إلى نتائجه التي تتفرع عنه، فذلك لا يندرج في مفهوم العقل، وله أسماء أخرى؛ فهو إدراك حسي في حالة البقعة اللونية، وهو إدراك حدسي في حالة التركيز الذهني على فكرة أو على مبدأ معين، لا تتزحزح عنه إلى ما يترتب عليه من أفكار وأعمال؛ ولذلك كان التخطيط لمراحل السير المحققة لهدف معين، فاعلية عقلية، كالسير في خطوات الحل لمسألة رياضية، أو في خطوات لبلوغ شاطئ البحر أو قمة الجبل، أو كالسير في خطوات تحقق مضاعفة الدخل القومي كذا مرة، وتوسيع الرقعة المزروعة كذا فدانا من الأرض، وهكذا وهكذا ... «العقل» سير منظم نحو هدف مقصود، وحيث لا «سير» فلا عقل، ثم لا يكون هنالك سير منظم إلا إذا كان هنالك هدف معلوم يجيء السير سيرا نحوه ليحققه.
وأما اختيار الهدف فعملية «إرادية» تتم بالرغبة - أي بالجانب العاطفي من الإنسان؛ إذ إن كل «ميل» عاطفة - والإرادة والرغبة والعاطفة والميل كلها أسماء تطلق على ما ليس بعقل في تيار النشاط الإنساني؛ افرض أنني اخترت لنفسي «هدفا» قريبا من أهداف حياتي اليومية، هو أن أكتب مقالة في المذهب الإنساني وعلاقته بالعلوم الطبيعية، فليس هذا الاختيار في حد ذاته عملية «عقلية»، لكنه اختيار كان يمكن ألا يكون، كان يمكن مثلا أن أختار موضوعا آخر للكتابة، أو أن أختار عدم الكتابة إطلاقا؛ الاختيار إرادة ورغبة وميل؛ لكنه إذا ما تم؛ أصبح الهدف المختار أمرا يريد أن يتحقق، فكيف يكون ذلك؟ ها هنا تبدأ العملية «العقلية»، ترسم المراحل والخطوات، حتى يتحول الهدف المختار من مجرد رغبة وميل إلى واقع ماثل محسوس.
وأعود إلى ما بدأت الحديث فيه، وهو خشية أنصار العاطفة أن يؤدي طغيان العلوم الطبيعية إلى وأد العاطفة، فنقول إنها على عكس ذلك تماما، ستضع في أيدينا وسائل كثيرة لتحقيق أهدافنا - ولا تنس أن الهدف قد اختارته العاطفة ولا دخل للعقل فيه - فبالعاطفة أردت مثلا أن أرقى بمستوى العيش في أسرتي، وبوسائل العلوم الطبيعية (أي بالعقل) استطعت تحقيق ما قد رغبت في تحقيقه، ولا تقل إن وسائل العلوم الطبيعية وتطبيقاتها منصرفة إلى راحة الجسد، ولا شأن لها بالجوانب الروحانية من الإنسان، لا تقل ذلك لأنه بغير الجسد لا ركوع ولا سجود ولا قراءة ولا بصر ولا سمع، فالجانبان إذن وجهان لكائن موحد واحد.
4
اختلاجة مذعورة نشهدها كلما سارت حضارة عصرنا خطوة نحو مزيد من العلم ومن التقنيات ومن المعامل ومن المصانع؛ خشية أن تضيع على الإنسان بساطة العيش أيام الرعي أو الزراعة اليدوية، والبديل الذي يقترحه المشفق المذعور، هو العلوم الإنسانية؛ لأنها هي التي تغرس القيم في النفوس، وحتى لو اضطرتنا الحضارة العلمية أن نزيد من اشتغالنا بالعلم الطبيعي، فلا بد عندئذ - هكذا يقول المشفق المذعور - من إدخال شيء من العلوم الإنسانية تخفيفا من وقع الحياة العلمية الصناعية على حياة الإنسان.
وهنا أيضا يحتاج الأمر إلى شرح وتوضيح؛ فمتى تؤدي الدراسة ومتى لا تؤدي إلى تكوين الإنسان على النحو الذي نريده، سواء كانت تلك الدراسة من العلوم الطبيعية أو كانت من العلوم الإنسانية؟ لماذا يظن أن دراسة التاريخ والجغرافيا والفلسفة تقيم الإنسان متكاملا معتقدا في القيم الإنسانية العليا، وأن دراسة البيولوجيا والكيمياء والطبيعة تفتت بناء الإنسان وتفقده المثل السامية؟!
إن الأمر مرهون بالهدف المقصود، وبطريقة الوصول إليه؛ فكل دراسة تشعر الإنسان بإنسانيته، من حيث هو كائن حر الفكر، حر الإرادة، يختار الأهداف كما يشاء، ويفكر لتحقيقها بغير معوقات وحوائل، لا بد مؤدية آخر الأمر إلى الإنسان الذي يريده المذهب الإنساني؛ فليس الخوف من العلوم الطبيعية في ذاتها، ولا من العلوم الإنسانية في ذاتها، بل الخوف هو من أن يدخل الدارس إلى رحاب هذه العلوم أو تلك، محدود النظر، فيفقد بهذا التحديد أول شروط الحركة الإنسانية، وأعني بهذه الشروط الأساسية أن يكون مطروحا أمامه في الأفق من المبادئ والأفكار ما يمكنه من الاختيار تحقيقا لأهدافه؛ وهذا هو بعينه ما يقال إنه موجود في الدراسات الإنسانية، ومعدوم في العلوم الطبيعية؛ إذ يقال إن هذه العلوم الطبيعية من شأنها التخصص الذي يضيق الأفق، ويسد طريق الاختيار الحر بين ممكنات كثيرة، لكن تحليلا أدق وأوفى للعلوم الطبيعية ومناهج البحث فيها، يبين أنها لو قدمت على الوجه الصحيح؛ لأتاحت الفرصة نفسها، من حيث اتساع الأفق، وإمكان المقارنة، وحرية الاختيار، التي تقدمها أي دراسة منهجية في ميدان العلوم الإنسانية.
ويقال فيما يقال إن العلوم الطبيعية من شأنها أن تحصر الانتباه والاهتمام في جانب المنفعة وحده دون سائر الجوانب التي يجاوز بها الإنسان في حياته حدود المنفعة، وبذلك النظر الجزئي إلى طبيعة الإنسان يفقد الإنسان تكامله، على حين أن العلوم الإنسانية عادة تنظر إلى الإنسان في فاعليته من حيث هو كائن متكامل، يحب المنفعة، ويحب الطموح، ويحب الخيال، ويحب التأمل، ويحب أشياء كثيرة جدا مما يجاوز به قيود اللحظة الراهنة؛ لكننا نقول إن العلوم الطبيعية إذا درست من حيث هي دراسة للبيئة التي يعيش فيها الإنسان، فعندئذ سيدخل الإنسان بكله ومجموعه في الصورة، ولا تكون البحوث العلمية بحوثا مجردة في الهواء، معزولة عن حياة الإنسان الفعلية، وأحسب أن الصيحة التي تدعو العلماء بقوة إلى أن يجعلوا علمهم في خدمة الإنسان، هي صيحة ترد للعلوم إنسانيتها التي أشفق المشفقون من ضياعها.
وإننا لندخل في مبحث طويل ، إذا طفقنا نعدد الجوانب الإنسانية التي يمكن لعلماء الطبيعة أن يحققوها، فضلا عن أنهم يهيئون «للإنسان» بيئة أصلح لعيشه، فهم في كل جهد يبذلونه إنما يستهدفون قيمة من القيم الإنسانية العليا، ألا وهي قيمة «الحق»؛ إذ يكشفون عن حقيقة العالم وأسراره.
العلوم الإنسانية علوم، والعلوم الطبيعية علوم؛ هذه تدرس البيئة، وتلك تدرس موضع الإنسان من تلك البيئة مكانا وزمانا؛ فهل نعيش لنرى يوما يفيق الإنسان إلى وحدته مع بيئته فتتدخل المجموعتان من العلوم في جهد بشري واحد، لا يكون فيه عالم للطبيعة جاهلا بتاريخ الإنسانية وأهدافها، ولا يكون فيه دارس للإنسان جاهلا بالبيئة الطبيعية التي يسكنها الإنسان؟!
الإعلاء من شأن الإنسان غاية متفق عليها، لكننا قد أخطأنا في سبيل تحقيقها خطأين؛ وقع أحدهما في ثلاثينيات هذا القرن حين ظننا أن ذلك لا يكون إلا إذا سلكنا السبيل نفسها التي سلكتها أوروبا في قرون نهضتها من عودة إلى تراث اليونان والرومان ففاتنا أن المهم هو رجوع الأمة المعينة إلى تراثها لتصل حاضرها بماضيها، ولكل أمة تراث. وأما الخطأ الثاني فنحن اليوم في سبيل الوقوع فيه، وهو التفرقة غير المشروعة بين علوم وعلوم، بحيث تفوتنا الوحدة التي يجب أن تتسق بها جوانب الإنسان كائنا واحدا، فيه العاطفة التي تميل نحو أهداف، وفيه العقل الذي يرسم مراحل السير مسددة نحو أهدافه.
سارتر في حياتنا الثقافية
1
عندما كتبت منذ بضع سنوات عن الفكر الفلسفي في بلادنا، ورددت نشاطنا في هذا الميدان إلى محورين، هما «العقل والحرية»، وقلت إنه إذا كان أسلافنا من فلاسفة العرب قد أداروا أعمالهم الفلسفية حول محاولة التوفيق بين «العقل» و«النقل»، فنحن أبناء اليوم - في محاولة شبيهة بتلك - نسعى إلى الجمع في خط واحد بين «التعقيل» و«التحرر»: التعقيل الذي نتخلص به من أوهام الخرافة وأخلاط الجهل وغيبوبة الدراويش، والتحرر الذي ننطلق به من أغلال المستعمر الأجنبي واستبداد الحاكم الداخلي؛ أقول أنني عندما كتبت هذا منذ بضع سنوات، لم أكن قد التفت إلى العلاقة الوثيقة بين هذا الموقف الفكري من جهة، وما جاء جان بول سارتر ليدعو إليه، دعوة تحمل التعبير القوي العميق الصادق عن روح العصر كله من بعض نواحيه.
فلما أن توجهت بفكري إلى هذا الضيف الكبير؛ إذ هو في زيارتنا هذه الأيام (مارس 1967م) بدعوة من جريدة الأهرام، تبين لي في جلاء هذه العلاقة القوية بين ما نحن جاهدون في سبيله، وما يدعو إليه الفيلسوف الفرنسي؛ ما لم يدع أمامي موضعا لتساؤل عن سر الجاذبية العقلية الشديدة التي قربت سارتر من جماعة المثقفين على اختلاف درجاتهم في هذه البلاد، وليس يعني هذا أن فكرنا نسخة من فكره؛ إذ يكفي أن نقول إن وجهتنا الفكرية قد بدأت أوائلها منذ منتصف القرن الماضي، وأخذت تتجمع قواها على مر السنين وعلى أيدي قادة الفكر منا، رائدا بعد رائد؛ يضاف إلى ذلك أن جانبا أساسيا من نظرة سارتر - وهو الجانب الخاص بفكرته عن الله - لم يكن - ولن يكون - جزءا من بنائنا الفكري؛ لكن الذي أعنيه هو أننا إذ نفكر في ظروفنا وفي عصرنا، نجد روح الفكرة عندنا متسقة في نواح رئيسية منها مع روح الدعوة التي يدعو إليها سارتر.
وإنك لتجد في حياتنا الفكرية ضروبا من النشاط، قد يخيل إليك أنها أشتات متناثرة لا وحدة بينها ولا رباط، لكنك ما إن تنظر إليها على ضوء مبدأ شامل ومحور جامع، حتى تجدها قد تجمعت وكأنما هي خطوات سائر واحد على طريق واحد، يسير نحو هدف محدد مقصود؛ فها هم أولاء أفراد بارزون من جماعة المثقفين في بلادنا، قد عنوا عناية خاصة بالوجودية بصفة عامة، وبوجودية جان بول سارتر بصفة خاصة، ينقلون عنها النصوص ويعلقون عليها بالبحوث، فنظن للوهلة الأولى أنها اهتمامات فردية خاصة لا تندمج ولا تتلاحم مع تيارنا الفكري العام، على حين أنها جهود تقع في صميم الصميم من ذلك التيار، ما دامت الروح السائدة فيه هي - كما كنت قد أوضحت في المناسبة التي أشرت إليها في أول هذا الحديث - نفسها الروح التي تسود العصر كله، والتي كان الفلاسفة الوجوديون بغير شك من أفصح الألسنة التي نطقت بالتعبير عنها.
وفي طليعة الطليعة ممن توجهوا بجهودهم في هذا الاتجاه الدكتور عبد الرحمن بدوي، الذي أثرى حياتنا الفكرية بنتاجه الخصب الغزير، فلم يكفه أن يخرج لنا في الأربعينيات الأولى فلسفة وجودية تدعو إلى الحرية العقلية وحرية الفعل دعوة قوية صريحة، بل طفق منذ ذلك الحين يلفت أنظارنا إلى المعالم الرئيسية في وجودية الفلاسفة الآخرين من رجال الغرب الحديث، ومن العرب الأقدمين، على السواء؛ ونخص بالذكر من جهوده العظيمة هذه آخر أعماله في هذا السبيل، وهو عمل ضخم كان وحده يكفي أن يكون ثمرة حياة نشيطة، وأعني به ترجمته لكتاب سارتر «الوجود والعدم»، وكأنما أراد الدكتور بدوي أن يقول لنا - بهذا العمل المضني - إذا أردتم أن تربطوا تياركم الفكري بتيار العصر كله؛ فلا يكون ذلك بالثرثرة الخفيفة المخطوفة الخاطفة، التي تجمع حبة من هنا وحبة من هناك، وإنما يكون بالرجوع إلى الأسس والأصول، وهاكم مني هذا الأصل والأساس.
ومن أهم النقول السارترية قبل ذاك، كانت الترجمة العربية التي أداها خير أداء الدكتور محمد غنيمي هلال لكتاب سارتر «ما الأدب؟» أو إن شئت دقة فهو - وإن يكن قد حمل هذا العنوان نفسه في أصله الفرنسي - ليس في أصله كتابا قائما بذاته، إنما هو الجزء الأكبر من المجلد الثاني من كتاب سارتر الذي عنوانه «مواقف»، والذي ظهر في عدة مجلدات. وأهمية هذا الكتاب في حياتنا الفكرية عظيمة، وحسبك أن تعلم أنه أدق وأوفى عرض لفكرة الأدب الملتزم؛ فما أكثر ما نتبادل الحديث عن التزام الأديب في مرحلتنا الاجتماعية والسياسية الراهنة! ولكن ما أقل ما يتسم حديثنا عنه بالدقة التي تحدده، مما عساه أن يؤدي إلى خلط واضطراب.
والذي يهمنا في هذا الصدد، ليس هو أن هذين الباحثين الجليلين قد نقلا إلينا نصين من أهم النصوص السارترية وكفى، بل هو أن في حياتنا الفكرية من العناصر ما يستلزم أن ندعمه بأمثال هذه النصوص؛ لما بيننا وبينها من رباط وثيق، وأخيرا أصدر سارتر كتاب «الكلمات» ليكون سيرة حياة، فنقله إلى العربية الدكتور خليل صابات، وبذلك اكتملت لنا صورة بوجهيها: الذات وما تدعو إليه.
لكننا نعلم أن سارتر قد جسد فلسفته النظرية في شخوص أدبية ومواقف روائية ومسرحية، ولقد قام أدباؤنا بنقل طائفة من روايات سارتر ومسرحياته - إما ترجمة كاملة أو تلخيصا لمادتها - أخص بالذكر منها مسرحية الذباب التي ترجمها الدكتور محمد القصاص .. وإنني ها هنا لألتمس المعذرة عند قارئي؛ لأنني قليل العلم بما ترجم عن سارتر في سائر الأقطار العربية الشقيقة؛ فقد قيل لي إن «المواقف» قد ترجمت كلها بجميع أجزائها كما ترجمت رواية الغثيان ومعظم المسرحيات.
على أن الترجمة لم تكن هي كل ما صنعناه بفلسفة سارتر، بل أضفنا إليها تأليفا عنه فيما لا يكاد يحصى من الكتب والمقالات، ولو كان لي أن ألفت النظر إلى مؤلف واحد قبل سواه، لذكرت الدكتور زكريا إبراهيم.
وقد بلغت عناية أدبائنا بسارتر أن تعقبوا كثيرا مما كتب عنه في أوروبا وأمريكا، وكان من أهم ما صدر تجميعا وتنسيقا لما قيل، كتاب مجاهد عبد المنعم مجاهد، وعنوانه «سارتر .. عاصفة على العصر».
وبديهي أننا لم نترجم ولم نلخص ولم نؤلف لنقف من هذا كله في صمم، بل كان لا بد أن تسري العصارة في مداد الأقلام عند طائفة من كتابنا؛ وإني لأسوق من هؤلاء مثلا واحدا بارزا، هو كاتبنا، النابضة كتابته بكل ما في حياتنا المتوثبة المتطورة من نبض سريع، الأستاذ أنيس منصور، وإني لأفتح كتابه «يسقط الحائط الرابع» لأقرأ في رأس أولى مقالاته قوله: «إن كل فلسفة لا تقاوم الجوع في العالم لا تساوي وزنها ورقا .. إن كل كاتب لا يتعذب عند رؤيته لطفل جائع هو كائن قد صفى حسابه مع ضميره، ومع مسئوليته، كاتبا وإنسانا ...» أقرأ له هذه البداية، فأهتف لنفسي: هذا كاتب قد تدفقت السارترية في دمائه.
2
لقد صبرت على قلق خلال الأسطر السابقة، وإني لموقن أنها لم تشتمل من جهود الجاهدين إلا لمحات موجزة سريعة، هي أشد ما تكون تقصيرا وقصورا، وموقن كذلك أن مئات القراء سيهمسون لأنفسهم وهم يقرءون: لماذا يذكر فلانا وفلانا ممن بذلوا جهدا في الفلسفة السارترية ترجمة أو تعليقا؛ ولكنني - فضلا عن قلة إلمامي بكثير جدا مما كتب في هذا السبيل - قد كنت على قلق يدفعني إلى الإسراع، حتى أوضح ما أردته حين قلت إن اتجاهنا نحو «العقل» و«الحرية» فيه مشاركة واضحة للدعوة السارترية - عن قصد أو عن غير قصد - ذلك لأنني أرجح أن يسأل سائل: أتعد الوجودية بكل أشكالها نزوعا نحو «العقل»؟ أليست مندرجة في النزعات «اللاعقلية» حتى ليوصف العصر كله أحيانا بأنه عصر «اللامعقول»؟ إن دارسي الفلسفة ليعلمون أن الفلاسفة ضربان متميزان - وإن يكن أحدهما مكملا للآخر - ففريق منهم يتجه باهتمامه نحو «الحياة» الإنسانية المتعينة المتجسدة في أفراد الناس، على حين يتجه الفريق الآخر باهتمامه نحو «الفكر» في تجريده الذي لا لحم له ولا دم، ولا قلب ولا تنفس؛ أما الأولون فيجعلون مجرى التجربة الداخلية مدار بحثهم أساسا، وأما الآخرون فمدارهم التصورات العقلية؛ الأولون منهجهم حدسي والآخرون منهجهم بناء النسق الاستنباطي، الذي يهبط فيه الاستدلال من المبدأ إلى نتائجه ... إلى آخر هذه الفوارق التي تميز فلاسفة الحياة من فلاسفة الفكر النظري. وإذا كان سارتر - بحكم فلسفته الوجودية - من الفريق الأول؛ ففيم القول بأن نزعتنا «العقلية» تقربه منا، وتقربنا منه؟
نعم، لقد خشيت أن يلحظ قارئ عند قراءته للأسطر الأولى من هذا الحديث شيئا من المفارقة، فأردت أن أسرع إلى بيان ما أعنيه؛ وهو تلك العودة التي عاد بها سارتر - مع غيره من فلاسفة العصر - إلى ربط الوجود الإنساني ب «الوعي» أو «اللاشعور» بعد أن كانت الموجة الفرويدية قد ربطته باللاوعي أو اللاشعور. والحق أن الموروث الفلسفي كله تقريبا لم يخرج على هذا التقليد، حتى جاءت مدرسة فرويد فشذت عن جادة الطريق؛ فلم يكن الإنسان عند أرسطو وسائر القدماء إلا الكائن «الناطق»؛ أي «المفكر» - والفكر والوعي مترادفان - ثم جاءت العصور الحديثة بادئة بأبي الفلسفة ديكارت، الذي أقام فلسفته على الكوجيتو المعروف : «أنا أفكر فأنا موجود»؛ أي إن الفكر الواعي هو شرط الوجود الإنساني ؛ وكذلك قل في مسار الفلسفة التجريبية، حين جعلت قوام المعرفة الإنسانية انطباعات الحس، فهي إذن «واعية». وتناول «كانت» المعرفة العلمية بتحليله الفذ، فردها إلى حدوس حسية ومقولات عقلية، وكلاهما يكون الحياة الواعية. وظهرت مدارس علم النفس التجريبي بشتى صورها، لكنها أجمعت على أن تجعل «الوعي» قوام الحياة النفسية عند الإنسان؛ إلا صاحبنا فرويد وأنصاره وتابعيه، فقد ضرب ضربته التي دوت في دنيا الثقافة بجميع أرجائها، وما تزال تدوي، وإن تكن صائرة إلى خفوت، وهي أن الإنسان حقيقته تكمن في اللاوعي؛ نعم، إنه يقيم النفس الإنسانية من ثلاثة طوابق؛ يجعل الوعي أحدها، يأتي دونه شبه الوعي، الذي يكمن فيه من ماضينا ما نستطيع أن نتذكره، وهناك دون هذا وذاك يقبع اللاوعي، الذي هو الأساس الخبيء في تحريك الإنسان، فيما يرى فرويد.
ويجيء «علم الظواهر» على يد هوسرل - أو «الظواهرية» أو «الظاهراتية»، كما قد تسمى عند مختلف الكتاب عندنا - فيلفتنا نحو «الوعي» مرة أخرى؛ أنه يعود بنا إلى ديكارت من جديد، ولكن بعد إضافة مهمة جدا؛ فلئن كان الوعي مجرد الوعي عند ديكارت شرطا للوجود الإنساني (أنا أفكر إذن أنا موجود)، بغض النظر عن علاقة ذلك الوعي بما يشير إليه من أشياء هي التي تكون موضع الوعي منا؛ فقد أكد هوسرل أن الوعي لا يكون إلا وعيا بشيء، فإذا قلنا إن ثمة وعيا بكرا خالصة نحدسه في ذواتنا من داخل، فقد قلنا حتما وبالضرورة إن ثمة أشياء وحالات هي التي نعيها بذلك الوعي، ومن ثم يتحتم وجود «الآخر» مع وجودنا الواعي.
وليس هوسرل و«علم ظواهره» هو موضوع حديثنا، لكنه سارتر الذي تبع هوسرل فيما ذهب إليه من أن الجذور الأولية في حياتنا النفسية إنما هي «الوعي» - ولا ذكر للاوعي الذي تعلق به فرويد ومدرسته - وعلى سبيل المقارنة نقول إن ديكارت كان يعلق الوجود على الفكر - أي الوعي - فجاء سارتر ليعلق الفكر - أي الوعي - على الوجود، فديكارت بمنزلة من يسألك : هل أنت ذو فكر؟ إذن فأنت موجود ولا شك في وجودك؛ وأما سارتر فبمنزلة من يسألك: هل أنت موجود؟ إذن فأنت ذو فكر ووعي.
وأعود إلى علاقتنا الفكرية بسارتر، فأقول إن أهم عوامل نهوضنا الفكري منذ الأفغاني ومحمد عبده، وإلى يومنا هذا، هو إخراج الناس من حياة لا واعية أو شبه واعية، إلى حياة واعية، قوامها الاحتكام إلى العقل وأحكامه، وانظر إلى حياتنا الفكرية اليوم، تجد كلمة «التوعية» مترددة في كل مجال؛ إدراكا منا لضرورة الارتكاز على «الوعي» الصاحي المفكر المتنبه اليقظان؛ وهذا الاهتمام بالوعي دون اللاوعي، هو ما قصدت إليه حين ربطت بين حياتنا الفكرية ودعوة سارتر.
وأما الدعوة إلى الحرية فأوضح من أن نلجأ في أمرها إلى تحليل، لكننا نلاحظ أن دعوتنا إلى الحرية كانت سطحا بغير قاع، ومن هنا كان اهتمامنا بفلسفة الحرية الإنسانية عند سارتر؛ لأنها فلسفة تعطينا القاع الذي نرتكز عليه؛ فلمن شاء أن يقلب ما شاء فيما أنتجناه منذ الأفغاني إلى اليوم، ولن يجد إلا دعوات متلاحقات إلى التحرر من هذا وهذا وذاك، والحرية في هذا وهذا وذاك، حتى لأكاد أقول إن أدباءنا ومفكرينا لم يكن لهم شاغل أساسي إلا موضوع الحرية من شتى وجوهها وفي مختلف تطبيقاتها. وحتى الدعوة إلى العقلانية كانت فرعا من الدعوة إلى الحرية؛ لأن الاحتكام إلى العقل هو ضرب من التحرر من قيود الجهل ومعوقاته .. دعونا إلى الحرية السياسية، وإلى حرية المرأة، وإلى حرية التعليم، وإلى حرية الأديب، وإلى حرية الباحث، وإلى الحرية الاقتصادية أخيرا، بمعنى ألا يكون العائق الاقتصادي حائلا دون الإنسان في طريق سيره وطموحه؛ ما أمكن ذلك.
وإني في هذه المناسبة لأذكر ما قاله سارتر في كتابه «ما الأدب؟» إذ يقول إن للكاتب موضوعا واحدا هو موضوع الحرية؛ يقول: «... فليكن المؤلف كاتب رسائل أو مقالات أو هجاء أو قصصيا، وليقتصر في حديثه على عواطف فردية، أو ليهاجم نظام المجتمع؛ فهو في كل أحواله الرجل الحر، يتوجه إلى الأحرار من الناس، وليس له سوى موضوع واحد، هو الحرية.» (ص76 من الترجمة العربية) أقول إني لأذكر هذا القول من سارتر، وأقرنه بما فعلناه خلال قرن كامل، فأعلم أن قوله يصف فعلنا.
وهل أترك هذه المناسبة دون أن أذكر شيئا عن هذه الأحكام القاسية التي قضى بها الأستاذ فتحي رضوان في كتابه «عصر ورجال» على مفكرينا وأدبائنا فيما بين الحربين، والسياسة أو الحياة؟ يقول عنهم: «كان الأمر عندهم تنقلا بين الشخصيات والأفكار والكتب، وكان ما يصدر عنهم انطباعات سريعة، من قراءات لا تستولي عليهم، ولا تملأ حياتهم ولا وجدانهم؛ وإنما أقصى ما تستطيعه هذه القراءات أن تدخل إلى نفوسهم نشوة الإعجاب بفكرة أو بشخص، ولكنها لا تلبث أن تنطفئ ليحل محلها إعجاب بفكرة أخرى وشخصية تالية .. ولذلك إذا فرغت من قراءة كل ما كتبه العقاد والمازني وهيكل؛ لا تعرف بالضبط ما الذي يريده أي منهم، ثم لا تعرف الفارق بين الواحد منهم والآخر ...» (ص24).
وإني لأجد هذا الحكم ظالما، فأنا أظن أني «أعرف بالضبط ما الذي يريده أي منهم»، وأعرف كذلك أن لا فرق بين أحدهم والآخر؛ ذلك لأنهم جميعا يديرون القول - أساسا - حول التحرر والحرية؛ تحرر من قديم، وحرية في بناء جديد؛ ولذلك كانوا في هذا الوجه متشابهين جميعا، لا ترى فارقا بين أحدهم والآخر إلا في الزاوية التي اختارها والطريقة التي سلكها في بلوغ الهدف؛ نعم، كتب هيكل عن روسو، وكتب العقاد والمازني معا «الديوان» في النقد، وكتب المازني حصاد الهشيم، وكتب علي عبد الرازق في الإسلام وأصول الحكم، وكتب طه حسين في الأدب الجاهلي؛ كل أولئك في سنوات متقاربة من العشرينيات، وكلهم يستقل في كتابته بمجال، لكنهم جميعا يدعون بما كتبوا إلى الحرية الأدبية والسياسية والعلمية والاجتماعية، وإلا فهل تستطيع أن تقرأ كتابا من هذه الكتب، ثم تتركه بغير أن تنزع إلى التحرر من هذا أو من ذاك، قليلا أو كثيرا؟
لا، إن موضوع الكتابة الأدبية عندنا كان هو «الحرية» من شتى وجوهها، لكن الذي نوافق عليه حقا، هو أنه لم تكن في أذهاننا عن الحرية فلسفة واضحة المعالم؛ قد يقال: أن تعشق الحرية فطرة لا تحتاج إلى فلسفة، لكن الفطرة نفسها تصبح أقوى تحريكا حين تنتقل إلى سطح الوعي اليقظان، وهذا هو ما تصنعه لنا فلسفتها؛ وكان مما حبب إلينا سارتر فلسفته في الحرية؛ إذ رأيناها ضرورية لسد الثغرة الموجودة في كياننا الثقافي، وقد تكون هناك فلسفات للحرية معاصرة غير فلسفة سارتر، وربما نقلنا بعضها إلى العربية كما نقلنا فلسفة سارتر، وربما تأثرنا بها جميعا، لكن ذلك لا ينفي - بل يؤيد - أننا أقبلنا على هذه الفلسفة بنفوس متفتحة وصدور رحبة. ولست أريد هنا أن أفصل القول في فكرة الحرية الإنسانية عند سارتر؛ لأن مراجعها أمام القارئ كثيرة، وحسبنا أن نذكر مسرعين أن سارتر يرادف بين الحرية والحقيقة الإنسانية؛ إذ الوجود عنده وجودان: وجود لذاته «وذلك هو الإنسان»، ووجود في ذاته «وتلك هي الطبيعة»، والوجود الأول حرية صرف، والوجود الثاني متقبل لما تفعله تلك الحرية فيه؛ وإنك لتمسخ الإنسان مسخا إذ أنت جعلته «شيئا» يتقبل حرية سواه، إلى آخر ما ذهب إليه سارتر في وجوديته.
ولست أرى نقطة التقاء بين حياتنا الفكرية في يومها الراهن وبين سارتر، أقوى من القول بالأدب الملتزم؛ فماذا يقول سارتر في التزام الأديب؟ إنه بادئ ذي بدء يخرج الشعر من الالتزام الذي يعنيه، ويقصر الالتزام على النثر وحده، ولكي يوضح ذلك سأل سؤالين، أجاب عن كل منهما إجابة مستفيضة؛ سأل: لماذا نكتب؟ ثم سأل: لمن نكتب؟
فأما عن السؤال الأول؛ فقد أجاب بأن الكاتب يكتب ليكشف عن حقيقة واقعة يعرضها أمام القارئ على صورة توحي له بأن يفعل إزاءها شيئا؛ فإذا وصف حالة من حالات الظلم مثلا، فهو لا يصفها ليزداد بها القارئ علما فحسب، ولا ليزداد بفن الكتابة فيها متعة فنية فحسب؛ بل يصفها لينشط القارئ بعدئذ للقضاء عليها، «فإذا تناولت هذا العالم، بما يحتوي عليه من مظالم، فليس ذلك لكي أتأمل في هذه المظالم في برودة طبع، بل لكي أردها حية بسخطي، وأكشف عنها وأبعثها مظالم على طبيعتها؛ أي مساوئ يجب أن تمحى، وبذا لا يكشف القارئ عن العالم في عمقه الذي صوره فيه الكاتب إلا بفضل بحث القارئ فيه وسخطه» (ص75 من الترجمة العربية). إننا لا نتصور بحال أن يكون الكاتب كاتبا حقا، إذا هو أجاز الظلم بما يكتبه؛ إذ لا نتصور أن يستمتع قارئ بما يقرأ إذا ما وجد فيه استعباد إنسان لإنسان «فالكتابة طريق من طرق إرادة الحرية، فمتى شرعت فيها - إن طوعا وإن كرها - فأنت ملتزم» (ص78).
خذ كاتبا من السود في أمريكا، هو رتشارد رايت، ومن أشهر مؤلفاته قصة «ابن الأقاليم» (1940م)، و«غلام أسود» (1945م)، وهذا الأخير سيرة ذاتية للكاتب؛ خذ هذا الكاتب الأمريكي الأسود، فماذا ينتظر منه أن يكتب فيه إلا قضية السود في أمريكا؛ يقول عنه سارتر: «أويستطيع امرؤ أن يفترض لحظة، قبوله إنفاق حياته في التأمل في الحق والجمال والخير الخالد؟ في حين تسعون في المائة من سود جنوب الولايات المتحدة محرومون فعلا من حق التصويت في الانتخاب؟! .. إنه إذا اكتشف أسود من سود الولايات المتحدة في نفسه أنه من الملهمين في الكتابة، فقد اكتشف في الوقت نفسه الموضوع الذي يكتب فيه» فلا مناص له من الكتابة في مشكلة السود، كتابة يوجهها إلى فئة السود المثقفين أولا، وإلى البيض المتعاطفين ثانيا؛ ولذلك تراه يوجه الكتابة وجهة تؤدي غرضها في تحريك هاتين الفئتين. إنه بداهة لا يكتب للبيض الذين يناصرون التفرقة العنصرية، لأنهم لن يقرءوه، ولا للسود الأميين، لأنهم لن يقرءوه، بل هو لا يكتب أساسا لمن هم خارج الولايات المتحدة. وهكذا، ترى أن الموقف قد حدد أمام الكاتب لا موضوع الكتابة فحسب، بل حدد له أيضا نوع القراء الذين يوجه إليهم الحديث، بالأسلوب الذي يقدر له أعمق التأثير في نفوسهم، وفي هذا إجابة عن السؤال الثاني.
إلا أننا إذ نرحب بالفيلسوف الفرنسي الكبير في بلادنا، فإنما نرحب برجل قد التقينا معه في كثير من الأهداف.
عندما يحلم العقلاء
للمصور الإسباني فرانسسكو جويا (1746-1828م) صورة جعل عنوانها «أحلام العقل» أو «رؤى العقل»، يصور بها رجلا منهوك القوى، جلس على كرسيه إلى جوار منضدة، مادا ساقيه على الأرض، ملتفة منها ساق على ساق، والرأس - مستورا بالذراعين - منكب على سطح المنضدة، وحول الجسد المهدود هومت كائنات غريبة مخيفة، منها ذوات الجناح كأنها الخفافيش، ركبت عليها رءوس البوم، ومنها الرابض على الأرض ربضة الفهد المفترس يتحفز لفريسته ..
ترى هل رقد الرجل في جلسته رقدة النعاس، أو غفا غفوة السارح في أحلامه؟ لسنا ندري، لكن تأويلات المؤولين من نقاد الفن، تذهب في تفسير الصورة مذاهب شتى، فتأويل منها يقول إن الصورة رمز للعقل إذا غفا، فتدهمنا مع غفوته وحوش الخرافة والضلال، وتأويل آخر يقول إنها رمز للعقل وقد انتصر بغزواته، فثمل مخمورا بنصره، وظن أنه قد أصبح وحده سيد الموقف ومالك الزمام، فما لبث أن أحاطت به أسباب الهلع والجزع.
التأويل الأول هو تأويل المؤمن بالعقل وقدرته، وهو يحث الناس على أن يمضوا مع عقولهم قدما في جرأة وبسالة؛ لتخلو الحياة من أوهامها وأشباحها، والتأويل الثاني هو تأويل المرتاب في العقل وقدرته، فيرى لزاما أن يستند العقل إلى إيمان حتى لا ينحرف عن جادة الهداية والصواب.
والمعنى هو على أي حال في بطن الفنان، لكني لا أعرف لماذا ذهب أصحاب التأويل مذاهب شتى، وقد أشار الفنان إلى مراده بعبارة كتبها على جانب المنضدة التي استلقى عليها الرجل برأسه وذراعيه، إذ كتب يقول: «إذا العقل استغنى عن الخيال؛ تولدت أشباح مخيفة .. أما إذا اقترنا فانتظر منهما المعجزات.» وإذن فقد أصاب صاحبنا المنهار ما أصابه؛ لأنه أراد أن يعتمد على العقل وحده غير متوكئ على خيال.
وما العقل؟ وما الخيال؟ قبل أن نمضي في الحديث .. لعل أوجز عبارة توضحهما وتقارن بينهما هي أن نقول إن العقل يعالج الواقع كما يقع، وأما الخيال فيصور الممكن، الذي لو أسعفته الظروف خرج من عالم الإمكان إلى عالم الواقع.
إنك - بالعقل - تشتري وتبيع وتبني البيوت وتنسج الثياب وتتقي البرد والحر، وبالعقل يحكم الحاكمون ويخطط الساسة، وبالعقل تصنع الأجهزة العلمية، وتجري البحوث ، وتركب العقاقير، وتهزم المرض .. لكنك - بالخيال - تصعد الجبال وأنت على كرسيك جالس، وتحيا حياة القصور إذا لم تكن من أهلها، وتفتك بالأعداء في ميدان القتال، وأنت راقد في مخدعك. إنك - بالخيال - ترسم لنفسك ما شئت من صور، وإنما يمتاز خيال من خيال بمدى قربه أو بعده عما يمكن تحقيقه لو زالت العوائق من الطريق، فإذا شطحت بخيالك نحو المستحيل، كان ذلك هو تخليط المجانين، وأما إذا قيدت خيالك بقيود المستطاع، كان هو الخيال الذي يحلم به العقلاء.
فإعفاء الخيال من قيود الواقع، يخلق للمجنون عالما كعالم الوحوش المجنحة، التي رسمها جويا في الصورة التي ذكرناها، كذلك يخلق تلك الوحوش أن نضرب في أرض الواقع صما بكما، لا نهتدي بفكرة تخيلناها ورسمناها في الأذهان لنسير على هداها.
ونسوق مثلا للعاقل كيف يحلم بالواقع المرجو قبل وقوعه، فيرسل لخياله العنان بمقدار ما يمكن ذلك الخيال من السير المستقيم الذي لا يكبو معه ولا يتعثر، مثل فرانسيس بيكون (1561-1626م) حين تخيل في كتاب له صغير، اسمه «أطلنطس الجديدة» ما يتمناه للإنسان من حياة علمية عملية، يتخلص فيها مما كان قد أحاط به إبان العصور الوسطى من جو كله «كلام في كلام». فهذا نص، وهذا تحليله، وهذا شرح لتحليله، وذلك هو الشرح على الشرح، والتحليل للتحليل! فينتقل الدارس من فقرة في كتاب إلى فقرة أخرى في كتاب، ثم من مقدمة على صفحة إلى نتيجة تلزم عنها على صفحة أخرى، وهكذا كانت رحلة الدارسين تبدأ على الورق وتنتهي على الورق: كلام يسبقه كلام ويلحقه كلام، ثم يقال عن أصحابه إنهم «علماء».
فحلم فرانسيس بيكون بيوم يغير فيه الإنسان معنى «العلم»؛ فلا يطلق هذه الكلمة العظيمة إلا على ذلك الضرب من الكلام الذي لا يكاد يثبته صاحبه على صفحات كتابه، حتى يثب إلى حياة الناس عملا ينفع، وله في مقارنة «العلم» بمعناه اللفظي القديم، و«العلم» بمعناه التطبيقي الجديد، تشبيهات رائعة؛ فهو بمعناه القديم كالغانية تكون للمتعة لا للثمر والإنجاب؛ هو بمعناه القديم كالطفل في وسعه أن يتكلم، لكن ليس في وسعه أن ينسل البنين، أنه بمعناه القديم كالمرأة العاقر، تناقش وتناقش، لكنها لا تلد.
إن العلماء بالمعنى القديم هم كالعناكب، ينسجون النسيج من أجوافهم، وإذا كان ذلك لا يقدم من الدنيا ولا يؤخر، فكذلك لا يقدم منها ولا يؤخر أن يجيء علماء من طراز جديد، يزعمون لأنفسهم أنهم علماء «تجريبيون»، ثم لا يزيدون على تكديس المعلومات فوق المعلومات، والإحصاءات فوق الإحصاءات، فذلك التجميع يجعل منهم طائفة من النمل، تخزن مخزونها دون أن تغير منه شيئا، وأما العلماء الذين كان يحلم بهم بيكون فهم كالنحل، يمتصون من الطبيعة رحيقا، ثم يصيرونه عسلا حلو المذاق.
العلم قوة - وهذه عبارة قالها بيكون - بمعنى أنه أداة لتغيير البيئة المحيطة بنا على النحو الذي يحقق أغراضنا، فإذا كنت قد حصلت «كلاما» تسميه علما، ثم لا تعرف كيف تستخدمه أداة للتغيير والخلق، فاعلم أنك لم تحصل من «العلم» شيئا.
يروي لنا الراوي في هذه «اليوتوبيا» العلمية، كيف أقلع مع رفقائه من بلاد بيرو، حيث صوبوا نحو شواطئ الصين واليابان، لكن الرياح أخذت تهب عليهم أثناء الطريق، مواتية حينا، معاكسة حينا، حتى طال بهم الأمر، وقل من خزائنهم الزاد، ثم شاءت لهم عناية الله أن يصادفوا في الطريق هذه الجزيرة التي أذهلهم أهلوها بمستوى عيشهم الرفيع، وبمحصولهم العلمي الغزير، وسرعان ما استضيفوا هناك في بيت هو بين البيوت آية فريدة، يطلق عليه «بيت سليمان»، خصص للبحوث العلمية، وهي بحوث لم يكن العالم قد سمع بمثلها إلى ذلك الحين، وإنما سمي بيت سليمان تذكيرا للباحثين برسالتهم، وهي أن يدرسوا النبات والحيوان - كما حاول سليمان أن يفعل - دراسة لا تترك من كائنات الأرض والبحر والهواء كائنا ما دامت فيه حركة وحياة، وإنهم ليطلقون على هذا البيت أحيانا اسما آخر، هو «معهد مخلوقات الأيام الستة» - وهي المخلوقات التي خلقها الخالق في ستة أيام، أعني أنها هي الكائنات جميعا.
أخذ الزائرون إلى بيت سليمان، حيث أدخلوا على رئيس البيت في غرفة جميلة، مزدانة بما علق على جدرانها، وبما فرشت به أرضها، وكان الرئيس متربعا على عرش وطيء لكنه عني بزخارفه، متشحا بوشاح رسمي على رأسه، صنع من الحرير الأزرق الموشى، وكان وحيدا في غرفته إلا غلامين معاونين، وقفا عن يمين عرشه ويساره، وقد ارتديا ثيابا ناصعة البياض. وبعد أن حياه الزائرون تحية الخشوع، انصرف الجميع إلا واحدا منهم - بحسب ما أوصوا بفعله قبل دخولهم - وأذن لهذا الواحد بالجلوس، ثم أخذ الرئيس يحدثه بالإسبانية عن بيت سليمان، فقال: بارك الله فيك يا بني، إنني سأقدم إليك الآن أنفس جوهرة في حوزتي، وذلك لأني سأصف لك - في سبيل محبة الله والإنسان - بيت سليمان، ولكي تكون الصورة التي أقدمها واضحة؛ سأسلك في تقديمها هذا الترتيب الآتي:
سأبدأ بأن أدلك على الغاية التي قصد إليها من إقامة هذا البيت، ثم أعقب على ذلك بذكر ما هنالك من معدات وأجهزة نستعين بها على أداء بحوثنا العلمية، وبعدئذ أنبئك بمختلف المناصب والمهام التي يشغلها ويؤديها العاملون في هذا البيت، وأخيرا أبين لك ما ينبغي لنا اتباعه هنا في هذا البيت العلمي من مبادئ ومن شعائر.
أما الغاية التي قصد إليها من إقامة هذه المؤسسة العلمية، فهي معرفة الكائنات من حيث علل حدوثها وما يسري فيها من حركات خافية؛ ابتغاء أن نوسع من رقعة السيادة للإنسان على عالم الأشياء.
وأما المعدات والأجهزة التي نستعين بها في بحوثنا فهي هذه: لدينا كهوف فسيحة وعميقة، تتفاوت فيما بينها سعة وعمقا، أما أعمقها فيبلغ ثلاثة آلاف وستمائة قدم، ولقد احتفرنا بعض هذه الكهوف تحت التلال العالية والجبال، فإذا ما أضفت ارتفاع الجبل إلى عمق الكهف؛ وجدت قاع الكهف على بعد ثلاثة أميال وأكثر، فانظر كم يبعد هذا القاع عن ضوء الشمس وتيار الهواء، وإننا لنسمي هذه الكهوف باسم «المنطقة السفلى»، ونستخدمها في أعمال كالتبريد وحفظ الأجسام من الفساد، كما نستخدمها في أن تفعل بالعناصر فعلا شبيها بما يتم في المناجم الطبيعية، وبذلك يمكن استخراج معادن جديدة نبتكرها لأنفسنا ابتكارا، بما نصنعه من تركيبات وتكوينات نضم بها العناصر بعضها إلى بعض في صور جديدة، ثم نتركها في أعماق الكهوف، لتفعل هناك فعلها على مر السنين، بل إنا لنستخدم تلك الكهوف (وقد يبدو هذا غريبا) في معالجة بعض الأمراض، وفي إطالة أمد الحياة لمن شاء من الزهاد أن يعتصم بتلك الصوامع، وكذلك نستخدم الكهوف في صناعة صنوف من الخزف تفوق ما يصنعه أهل الصين من ذلك، كما نستخدمها في تكوين مخصبات للأرض مختلفة الشكول.
وفي مقابل تلك الكهوف، أقمنا «الأبراج العالية» يبلغ أعلاها نحو نصف ميل. وكما حفرنا الكهوف تحت الجبال ليضاف ارتفاع الجبل إلى عمق الكهف، فكذلك أقمنا الأبراج فوق قمم الجبال لتزداد بها ارتفاعا، وبذلك يصل أعلى الأبراج أكثر من ثلاثة أميال، ونطلق على هذه الأبراج اسم «المنطقة العليا»، ونعد المنطقة التي تقع وسطا بين «العليا» و«السفلى» منطقة وسطى، وإنا لنستخدم هذه الأبراج بما يتناسب مع تفاوتها في الارتفاع وتباعدها في الموقع؛ نستخدمها في عمليات العزل والتبريد والحفظ، ونستخدمها مراصد فلكية نرصد بها مسار الشهب، ومهب الريح، وسقوط المطر والصقيع، وكما صنعنا في الكهوف فكذلك نصنع في الأبراج، بأن نجعلها ملاذا للزهاد، وإننا في كلتا الحالين لنمدهم بما يتطلبون في عزلتهم، لقاء أن نوصيهم بملاحظة ما نريد لهم أن يلاحظوه.
ولدينا بحيرات فسيحة، بعضها ملح الماء، وبعضها عذب، وفيها نربي الأسماك والطير، كما ندفن في قاعها بعض الأجسام الطبيعية؛ فقد وجدنا أن حالة الجسم الدفين تتغير على نحو وهو تحت تربة الأرض المعرضة للهواء، وتتغير على نحو آخر وهو تحت الماء، وعندنا برك (جمع بركة) أعددناها لنستخلص الماء العذب من الماء الأجاج، بعزلها الملح عن الماء، أو لتحول الماء العذب إلى ماء ملح، بحسب ما نريد. وكذلك أقمنا صخورا وسط البحر، وصنعنا خلجانا على شاطئه؛ لنجعل من هذه وتلك معامل للتجارب العلمية، إذا ما كانت تلك التجارب بحاجة إلى هواء البحر وبخره، كما أن لدينا تيارات مائية قوية الدفع، سريعة الجريان، وشلالات؛ لنستخدم هذه وتلك في إدارة الآلات، أو لإحداث السرعة في حركة الرياح إذا ما أردنا استخدام الريح السريعة القوية في إدارة الآلات أيضا.
واحتفرنا آبارا على نحو يجعلها قريبة من الينابيع الطبيعية؛ لتكون لها من الفوائد ما ندبر لها، كما أعددنا المراصد، ومعامل التفريخ التي نفحص فيها توالد الحشرات والزواحف، ومصحات مكيفة الهواء بالدرجة الحرارية التي نحتاج إليها لمختلف صنوف المرضى، وحمامات للاستشفاء، وكذلك عندنا حدائق وبساتين على أنواع مختلفة، لا نقصد فيها إلى التمتع بالجمال، قدر ما نبغي لها أن تكون معامل تجريبية لزراعة صنوف الشجر والعشب، وفي هذه الحدائق والبساتين تستخلص عينات تجريبية لأنواع العصير والشراب، المستخرجة من النبات والثمر، كما نستغل تلك المعامل التجريبية في خلق أنواع جديدة من النبات عن طريق التهجين، وكذلك نتحكم بالنسبة إلى بعض الزهر والثمر في توقيت نضجه، فنجعله ينضج قبل أوانه الطبيعي أو بعد أوانه، كما نجعله يحمل محصولا أوفر وأغزر مما أرادت له الطبيعة أن يحمل. ونزيد من حلاوة الثمر إذا أردنا ذلك، ونزيد من حجمه، وننوع درجات الطعم كما نشاء لكل فاكهة، كما ننوع من الشكل واللون والرائحة، وأضف إلى هذا كله أننا نستخرج من تلك المزارع التجريبية ما نراه يصلح في باب الطب والعلاج.
وقل هذا نفسه بالنسبة إلى ما عندنا من مرابي الحيوان التي لا نقصد فيها إلى جمال الجلد والريش، بقدر ما نقصد إلى التشريح وإلى التجارب على الكائنات الحية، لنهتدي بالنتائج إلى ما يمكن تطبيقه على الإنسان، وإلى جانب ما نجريه من تجارب العقاقير وما إليها، هنالك التجارب نجريها على إحداث التغيرات في أطوال الحيوانات وأحجامها، وفي الزيادة أو القلة من إخصابها، وفي تنويع ألوانها وأشكالها ودرجة الفاعلية فيها، فضلا عن المزاوجة بينها؛ ما يخرج لنا صنوفا جديدة، ولسنا في شيء من هذا كله نركن إلى المصادفات، بل إننا - في مجرى التجارب العلمية - لنكون على يقين من أي شيء نضيفه إلى أي شيء لينتج لنا كذا أو كيت من الكائنات.
ولن أطيل بك الوقوف عند ما لدينا من معاصر ومخابز ومطاعم، نخرج بها المآكل والمشارب بكل ما يشتهيه المذاق، لأنتقل بك إلى ما قد بلغناه في صنع الآلات وما نصنعه بها: الورق، وأنسجة التيل والحرير، والطنافس، وغير ذلك من أسباب الترف، كما أن لدينا من المعامل العلمية ما تعلو فيه درجات الحرارة وما تهبط، ومن المراصد ما يمكننا من دراسة الضوء والإشعاع واللون والشفافية، وكل ما يتصل بهذا الأصل من فروع، كالبحث في الأحجار الكريمة، وفي المنشورات الزجاجية، وغير ذلك، ولدينا كذلك من المعامل ما يمكننا من دراسة الصوت على اختلاف درجاته وتنوع مصادره، ويدخل هذا الباب دراسة النطق، وأصداء الصوت، وانعكاساته، ووسائل تقويته، وطرائق توصيله إلى مسافات بعيدة، وشبيه بذلك ما عندنا من معامل لإجراء التجارب على الروائح، فنستخرج العطور، وفي هذه المعامل نفسها تجرى التجارب على الطعوم، وهكذا لا نترك شيئا مما تراه العين، أو تسمعه الأذن، أو يذوقه اللسان، أو يشمه الأنف، إلا وأخضعناه للتجارب التي تمكننا من الإمساك بزمامه، ومن إنتاج الجديد فيه.
وبعد أن أفاض الرئيس في وصفه لما يحتوي عليه بيت سليمان من أجهزة علمية ومن تجارب، ختم حديثه بموجز عن إدارة هذا البيت، وما يتبع فيه من أوضاع، وبارك لزائره، وتمنى له ولبلاده التقدم والصعود.
كان ذلك حلما حلم به عاقل عاش في القرن السادس عشر، حين لم يكن يعرف الناس من أمور دنياهم إلا قليلا، جاءهم عن طرق خبرات القرون الطويلة، ولم يكن قد طاف برءوسهم أنه هو العلم الطبيعي وتطبيقه الذي في يده أن يثب بالحياة طيرانا إلى أجواز الفضاء، وغوصا إلى جوف الأرض وأغوار الماء، بهذا وحده وبأمثاله يتغير وجه الدنيا.
لكن هذا كله كان عند فرانسيس بيكون خيالا يتخيله، لا واقعا يعيشه، ثم جاء العلم بعدئذ ليصير الخيال علما وعملا، وفي هذا التكامل بين الخيال المقيد البناء، والعلم الذي يتحول إلى عمل، يقيم الإنسان لنفسه حياة مطردة السير إلى أمام، وإلى أعلى، ناجيا من أشباح الخرافة والجهالة التي رسمها «جويا» في صورته «أحلام العقل»، رسمها خطرا مخيفا يدهم الإنسان إذا ما عقله غفا، حالما كان ذلك العقل ، أو صاحيا.
من برتي إلى برتراند
منذ أن كان الفتى «برتي» في سن المراهقة الباكرة - وبهذا العمر «برتي» كان يدلله ذووه - شغل نفسه بالفلسفة وقضاياها، ولم ينقطع عنها حتى بلغ برتراند رسل من عمره ما بلغ، فماذا تتوقع من عقل فلسفي لم ينفك طوال ثمانين عاما نشيطا منتجا سوى أن يجيء فكره كالنهر الغزير في فيضانه، يهدم هنا، ولكنه يخصب الأرض هناك، ويظل ينعرج في دفعه يمنة ويسرة، لا توقفه الصخور العاتية على طول الطريق؛ لأن له - برغم انعراجاته ودورانه - قصدا واحدا، يجري إليه، يحكم طبيعة المجرى الذي يتدفق فيه، أجل، ماذا تتوقع من فيلسوف لبث يعاني الفلسفة من الخامسة عشرة حتى جاوز الخامسة والتسعين إلا أن يغير من رأيه في مواضع ويثبت عليه في مواضع؟ ولكم شهدت بعيني، وسمعت بأذني، نفرا من دارسي الفلسفة - لا أقول من طلابها الناشئين، بل ممن بلغوا من دراستها شوطا بعيدا - شهدتهم وسمعتهم يهاجمون الرجل لأنه ناقض نفسه في هذا الموضع أو ذاك؛ ألم يذكر في كتابه «مشكلات فلسفية» (صدر 1912م) أن للمعاني الكلية - مثلا - وجودا أوليا لا يقبل التحليل مما يدرجه في زمرة المثاليين، ثم عاد ليقول عنها في كتابه «المعرفة البشرية» (صدر 1948م) ما ينفي ذلك؟ هكذا كنت أسمع وأرى هجمات الهاجمين، فأدرك الظلم في تلك الهجمات؛ لأنها تنسى عشرات السنين التي تفصل عند الرجل كتابا عن كتاب، وتنسى أن الرجل إنسان يتطور وينمو ويفكر، ثم يعيد التفكير مدى ثمانين عاما نشيطة منتجة، هي التي تخللت في عمره ما بين الخامسة عشرة والخامسة والتسعين. ولست أعرف في تاريخ الفلسفة، من أوله إلى آخره، فيلسوفا عمر بقدر ما عمر برتراند رسل، كلا، ولا أعرف من صرف في التفكير الفلسفي ثمانين عاما كاملة كما حدث لفيلسوفنا برتراند، مات سقراط في السبعين، وأفلاطون في الثمانين، وأرسطو في الثالثة والستين، وديكارت في الرابعة والخمسين، وبيكون في الخامسة والستين، وإسبينوزا في الثالثة والأربعين، وليبنتز في السبعين، ولوك في الثالثة والسبعين، وباركلي في الثامنة والستين، وهيوم في الخامسة والستين، وكانت في الثمانين، وهيجل في الحادية والستين، ومن فلاسفة المسلمين مات الكندي في نحو السبعين، والفارابي في نحو الثمانين، وابن سينا في السابعة والخمسين، وابن رشد في الثانية والسبعين، وكان جون ديوي من أطول الفلاسفة عمرا؛ إذ مات وهو في الثالثة والتسعين، على أن طول العمر في ذاته ليس بذي مغزى كبير، بالنسبة إلى طول الفترة التي قضاها الفيلسوف مشتغلا بالفلسفة. فإذا عرفنا أن برتراند رسل لم ينقطع عن اشتغاله بها مدة ثمانين عاما كاملة، أدركنا على الفور أن قد كان أمامه من فرصة المراجعة والتبديل ما لم يكن أمام غيره.
كتب برتراند رسل عن «محاولاته الأولى» يقول: بدأت أفكر في المسائل الفلسفية في الخامسة عشرة من عمري، ومنذ ذلك الحين إلى أن التحقت بكيمبردج بعد ذلك بثلاثة أعوام، كنت أفكر بمفردي، ومن قبيل الهواية؛ فلم أكن قد اطلعت بعد على أي كتاب فلسفي، حتى قرأت «منطق» جون استيوارت مل في الشهور الأخيرة قبيل التحاقي بالجامعة .. ولم يكن «برتي» قد أتم عامه السادس عشر حين كتب مذكراته الفلسفية الأولى، وكانت - في معظمها - تدور حول ما ساوره عندئذ من شكوك في مسائل العقيدة وفي خلود الروح، لكنه كان يخشى الردع والسخرية من ذويه، وذووه متدينون على الأغلب، لا يريدون لوليدهم كثرة التفكير في موضوعات كهذه، يحسن أخذها مأخذ التسليم لينصرف الإنسان إلى سواها مما يتصل بالحياة العلمية وشواغلها، كان يخشى الردع والسخرية، لو وقع ذووه هؤلاء على مذكراته، فكتبها كلها بالرموز، ولم يفصح عن مدلولات رموزه تلك إلا بعد أن جاوز الثمانين، وتقرأ هذه المذكرات الأولى، فترى علائم النضج المبكر واضحة قوية؛ فاقرأ - مثلا - ما يقوله في تلك المذكرات بتاريخ 29 من أبريل سنة 1888م، (أي حين كان عمره ستة عشر عاما): «قطعت على نفسي عهدا أن أجعل العقل رائدي في كل الأمور، وألا ألقي بالا للميول التي ورثتها - في جانب منها - عن أجدادي، والتي اكتسبتها تدريجا بفعل الانتخاب الطبيعي، والتي ترجع - في جانب آخر منها - إلى ما تلقيته من تربية ؛ فما أشده من عبث لو أننا احتكمنا إلى هذه الميول في مسائل الصواب والخطأ! فالجانب الذي ورثته من تلك الميول إنما هو بمثابة المبادئ التي تهدي في طريق المحافظة على النوع، أو قل إلى المحافظة على ذلك الجزء الذي أنتمي إليه من النوع؛ وأما الجانب الذي يرجع إلى التربية، فهو يجعل الصواب والخطأ مرهونين بما قد ربيت عليه؛ ومن الجانبين معا يتكون لدى الفرد ما يسمى ب «الضمير» ومع ذلك تراهم يوهموننا بأن هذا الضمير هو هبة من الله، هذا الضمير الذي دفع مارية السفاحة إلى حرق من حرقتهم من البروتستانت؛ نعم، إنهم مع ذلك يقولون لنا إن الواجب يقتضي من الإنسان أن يتبع «ضميره». وعندي أن ذلك ضرب من الجنون؛ أما أنا فسأحاول أن أذهب مع «العقل» إلى أقصى مداه، وسيكون مثلي الأعلى هو ما يؤدي آخر الأمر إلى أكبر قدر من السعادة لأكبر قدر من الناس وبالعقل وحده أستطيع أن أحقق هذه الغاية من أيسر الطرق.»
واعجب لهذا الفتى الناشئ يتناول في مذكراته تلك، ما قد ساوره من قلق شديد إزاء المسلمات الرياضية في علمي الهندسة والحساب؛ يقول في ختام يوميته المؤرخة 3 من يونيو من نفس العام: «إن بعض براهين إقليدس - وخاصة ما كان منها متصلا بالتطابق - قد أثار قلقي إلى حد بعيد، حتى لقد أنبأني معلم الهندسة أن هندسة لا إقليدية قد نشأت، فأمتعني هذا النبأ، برغم أني لم أعلم عن تلك الهندسة يومئذ إلا مجرد اسمها، ولم يكن الذين يعلمونني حساب اللامتناهي على علم بالبراهين الصحيحة التي تقام على نظرياته الأساسية، وكانوا يحاولون إقناعي بأن أسلم بالمغالطات السائدة، فآخذها مأخذ الإيمان، وكذلك أدركت أن الحساب يصلح في التطبيق العملي، لكنني لم أفهم قط لماذا كان ذلك ...»
بهذه الشكوك الفلسفية في دنيا اللاهوت، وفي دنيا الرياضة، بدأ الفتى «برتي»، وظل يكتم شكوكه وراء رموزه، حتى دخل جامعة كيمبردج، وهناك أفصح عما كان يضمره.
ذهب الفتى إلى كيمبردج، فانفتح أمامه عالم جديد، «لقد وجدت للمرة الأولى» هكذا يروي عن نفسه في ترجمة قصيرة كتبها عن حياته «أنني إذا ما صرحت بفكري، صادف عند السامعين قبولا، أو كان عندهم - على الأقل - جديرا بالنظر: كان وايتهد هو الذي اختبرني في امتحان الدخول، وقد ذكرني لكثيرين ممن يكبرونني بعام أو بعامين، فكان من نتيجة ذلك أنه لم يمض أسبوع واحد، حتى التقيت بمن أصبحوا بعد ذلك أصدقاء العمر كله .. وكانوا يتميزون بقدرتهم العقلية وتحمسهم وأخذهم الأمور مأخذ الجد؛ كانوا يتناولون باهتمامهم أمورا كثيرة خارج نطاق عملهم الجامعي، فيولعون بالشعر والفلسفة، ويناقشون السياسة والأخلاق، وشتى نواحي العالم الفكري ...»
كان ماكتاجارت بين هؤلاء الأصدقاء في كيمبردج، وهو الفيلسوف الهيجلي، فسرعان ما حمل جماعة الأصدقاء على دراسة هيجل؛ وفي ذلك يقول رسل في ترجمته القصيرة لحياته: «وقد علمني ماكتاجارت كيف أنظر إلى الفلسفة التجريبية الإنجليزية نظرة ترى فيها فجاجة وسذاجة؛ وأخذت أميل إلى العقيدة بأن هيجل - وكذلك «كانت» بدرجة أقل - يتصف بعمق هيهات أن تجد له مثيلا في أئمة الفلسفة الإنجليزية: لوك، وباركلي، وهيوم»، على أن الطالب الشاب لم يدخل كيمبردج ليدرس الفلسفة، وإنما دخلها ليدرس الرياضة؛ وهكذا فعل لثلاثة أعوام، وبعدئذ لم يستطع لنفسه دفعا عن الدخول في دنيا الفلسفة بكل ما تستطيعه تلك النفس من جهد واهتمام؛ حتى لقد عني وهو يعد رسالته التي أراد بها أن يظفر بدرجة الزمالة من الجامعة - وكان موضوع الرسالة «أسس الهندسة» - أقول إنه قد عني في تلك الرسالة أن يقيمها على مبادئ الفلسفة الكانتية، وقد عقب عليها ببحث عن العدد والكمية، أقامه على مبادئ الفلسفة الهيجلية؛ لا، بل ذهب به إعجابه عندئذ بهيجل إلى حد الرغبة في محاكاته، فأراد أن يبني لنفسه بناء جدليا كاملا للعلوم كلها، على غرار ما فعل هيجل؛ واستمع إليه يروي عن نفسه: «إني لأذكر ذات صباح، إذ كنت سائرا في متنزه «تير جارتن» في برلين، كيف وضعت لنفسي خطة مؤداها أن أكتب سلسلة من الكتب في فلسفة العلوم، صاعدا بها صعودا متدرجا نحو ما هو أكثر تعينا، فأبدأ بتجريد الرياضة، ثم أنتقل خطوة خطوة إلى نهاية التعيين في علم الحياة (البيولوجيا). وكذلك رجوت عندئذ أن أكتب سلسلة أخرى من الكتب، أعالج بها المشكلات الاجتماعية والسياسة، بادئا هذه المرة بالعلوم المتعينة، ومنتهيا بما هو مجرد، ثم أقيم آخر الأمر بناء - على غرار ما قد صنع هيجل - فأكتب موسوعة أجمع فيها بين النظر والتطبيق؛ تلك خطة أوحى إلي بها هيجل ...»
لكن هذه الوقفة الكانتية الهيجلية لم يطل أمدها مع الفيلسوف الشاب؛ إذ ما جاء عام 1898م - وكان عندئذ قد بلغ من عمره ستة وعشرين - إلا وقد أعلن تمرده على هذين الإمامين، وشاركه في التمرد جورج مور؛ وكان مدار الثورة عندهما هو اعتقادهما - على نقيض ما ذهب إليه كانت وهيجل - أن الأشياء موجودة في دنيا الواقع، وليست هي من خلق الذهن؛ فحتى لو لم يكن في العالم ذات واحدة واعية، لظل العالم معمورا بأشيائه تلك التي نصادفها فندركها فتصبح بعد إدراكها أجزاء من تيار الخبرة في طوايانا؛ وكأنما قسم الثائران ثورتهما قسمين ليضطلع كل منهما بنصيب، أما مور فنصيبه هو أن يدحض المذهب المثالي في جملته، وأما رسل فكان عليه أن يدحض أهم أركان ذلك المذهب المثالي، وهو فكرة «الواحدية» التي تضم شمل الكون كله في بناء واحد متماسك الأطراف متكافل الأجزاء؛ ولما كان الرباط الذي يصل المذهب المثالي في جملته بفكرة الواحدية الذهنية، هو مبدأ العلاقات الباطنية أو المحايثة في مصطلح الفلاسفة، كان من أهم ما اهتم به رسل عندئذ هو إثبات أن العلاقات «خارجية» لا «باطنية»، ولكن ما هذه؟ وما تلك؟
أما القول بالعلاقات «الباطنية» بين الأشياء؛ فمؤداه أن أي فكرتين مرتبطتين إحداهما بالأخرى بأية علاقة، كقولنا - مثلا - إن العدد أربعة «ضعف» العدد اثنين، فإن هذه العلاقة يمكن رؤيتها في كل من الطرفين على حدة، فلو حللت العدد أربعة تحليلا كافيا وجدت بين عناصر معناه أنه «ضعف» العدد اثنين، فإذا جاء قائل بعد ذلك ليقول صراحة إن العدد أربعة هو ضعف العدد اثنين، لم يكن في قوله جديد؛ إذ كل ما فيه هو التصريح بما كان متضمنا في كل من الطرفين المتعلقين أحدهما بالآخر بالعلاقة المذكورة، وهي علاقة «ضعف» أو علاقة «نصف» إذا عكسنا اتجاه الجملة ، وقلنا إن العدد اثنين هو نصف العدد أربعة؛ على هذا النحو تستطيع أن تتصور فكراتنا جميعا، فتجدها متضمنة بعضها في بعضها، حتى ليمكنك استنباط بعضها من بعضها؛ إلى أن تبني منها نسقا واحدا مترابطا، كل جزء منه كاف وحده - إذا حللته تحليلا كافيا - أن يدلك على بقية الأجزاء، ومن ثم كان صدق الفكرة - أي فكرة - معتمدا على أنها مستنبطة من بقية فكرات النسق، ومن ثم كذلك كان النسق الفكري كله واحدا لا تعدد فيه، كأي كائن عضوي حي بالنسبة لأجزائه.
وأما القول بالعلاقات «الخارجية» الذي أعلنه رسل في ثورته على هيجل بصفة خاصة؛ فمؤداه أن هنالك من العلاقات التي تربط الأشياء بعضها ببعض ما لا يمكن استخراجه من مجرد تحليلنا للأطراف المرتبطة بتلك العلاقات؛ مثال ذلك أن يرتبط حادثان بعلاقة «قبل»، فإذا قلنا إن الحادثة «س» وقعت «قبل» الحادثة «ص»، كان هذا التتابع الزمني مما لا نجده في عناصر «س» ولا في عناصر «ص»، وإنما المرجع فيه إلى مقياس الزمن الذي يدلنا على ذلك، وليس مقياس الزمن هذا جزءا من «س» ولا جزءا من «ص». وأهمية أن تكون العلاقات «خارجية»، أو أن يكون بعضها على الأقل خارجيا؛ هي أنك إذا أخذت بهذا المبدأ، انتهيت إلى نتيجة، هي أن العالم مكون من حقائق متعددة متكثرة، يرتبط بعضها ببعض على أنحاء مختلفة، نحتاج في إدراكها - إدراك تلك الصور المختلفة للعلاقات بين الأشياء - إلى بحوث ومشاهدات، خارج بنية الأشياء نفسها؛ وإذا كان ذلك كذلك، فليس العالم في حقيقته «واحدا» كما ذهب المثاليون، ولكنه عالم «متعدد» يحتاج في معرفته إلى مشاهدات وتجارب، ولم يعد يكفي فيه أن يقبع الفيلسوف في عقر داره ليستنبط أفكارا من أفكار، حتى يستوي أمامه البناء كاملا متكاملا.
ذلك هو لب الثورة الفلسفية التي خرج بها رسل من تبعيته لهيجل، وهو لم يزل شابا في السادسة والعشرين من عمره. وكان ما أثار انتباهه إلى تلك الثورة، دراسته لفلسفة ليبنتز حينئذ تمهيدا للقيام بتدريسها؛ إذ شاءت المصادفة لماكتاجارت، الذي كان مفروضا له أن يحاضر عن ليبنتز في كيمبردج سنة 1898م، أن تضطره ظروفه إلى السفر إلى نيوزيلنده، فطلب من تلميذه وصديقه برتراند رسل، أن يؤدي هذا الواجب بدلا منه، فكان أن عكف على دراسة ليبنتز، وهي الدراسة التي أخرجها كتابا بعنوان: «عرض نقدي لفلسفة ليبنتز»، فوجده يبني ميتافيزيقاه على أساس من منطق تحليلي قوامه «العلاقات الباطنية»؛ فمهما تكن القضية التي يقدمها القائل، لتكن - مثلا - أن الزجاج قابل للكسر، أو أن الأرض كروية الشكل، فمحمولها كامن في موضوعها، بحيث إذا حللت ذلك الموضوع تحليلا كافيا وجدت فيه المحمول، حلل فكرة «الزجاج» تجد كامنا فيها فكرة قابليته للكسر، أو حلل فكرة «الأرض» تجد كامنا فيها فكرة أنها كروية الشكل، وهكذا؛ وعلى هذا الأساس المنطقي أقام ليبنتز فلسفته عن «المونادات» (أو الذرات الروحية)، ليقول إن جميع الأحداث التي تصدر عن كائن ما، قد انبثقت من طبيعته، إلى آخر ما قال ... ومن هنا ثارت الثورة في نفس رسل، وفك عن عقله قيود «العلاقات الباطنية»، وانطلق - على حد تعبيره - «كما لو كنت نبتة أخرجت من بيت زجاجي دفيء؛ لتنبت على صخرة في البحر يلطمها الموج.»
ونستطيع القول، ونحن في مأمن من الخطأ، إن فيلسوفنا الشاب عندئذ، قد تمخضت له ثورته الفكرية عن بضعة مبادئ فلسفية، لم يغير رأيه فيها منذ ذلك الحين وإلى يومنا هذا؛ منها: مبدأ العلاقات الخارجية، ومبدأ التعدد في الكون، وهو مبدأ ينتج بالضرورة عن المبدأ الأول، ومبدأ أن صدق كل حقيقة جزئية مكفول لها بغض النظر عن بقية الحقائق الجزئية الأخرى، ومبدأ أن منهج التحليل الذي يحلل الفكرة إلى عناصرها ليعيد تركيبها عن فهم؛ هو مبدأ قديم، ومبدأ أن صدق القضايا التجريبية مرهون بمطابقتها للواقع التي جاءت تلك القضايا لتصورها، ومبدأ أن وقائع العالم الخارجي قائمة فيه، سواء وجدت الذات الواعية التي تعيها أو لم توجد.
3
على أن الحد الفاصل الذي قسم حياة برتراند رسل الفلسفية مرحلتين، تختلف أولاهما عن ثانيتهما، هو عام 1900م، والمؤتمر الفلسفي الذي أقيم في باريس عامئذ، وبصفة خاصة لقاؤه مع الرياضي الإيطالي بيانو؛ فها هنا قل إن شئت إن «برتي» قد أسلم زمامه ل «برتراند». قل إن مرحلة التحسس قد ذهبت؛ لتحل محلها مرحلة الرسوخ، أو قل إن الفيلسوف الرياضي قد ظهر من الرجل عندئذ، لتودع الفلسفة على يديه صفحة وتبدأ صفحة أخرى، وأعجب العجب أن هذا الذي ظهر من الرجل ليجعل منه فيلسوفا لعصره غير منازع، هو نفسه الذي لا يعرفه عنه إلا الدارسون المتخصصون، وأما المثقفون بالمعنى العريض فيعلمون عنه أشياء أخرى، كان يمكن أن تجتمع كلها، بل أن تجتمع أضعاف أضعافها في رجل، ثم لا تجعل منه فيلسوفا لا صغيرا ولا كبيرا.
فما الذي سمعه رسل من بيانو، ليحدث الانقلاب؟ هما شيئان قبل سواهما: الأول أن ثمة فارقا بين قولنا «سقراط فان»، وقولنا «كل الإغريق فانون»، ولم يتنبه أرسطو في منطقه على هذا الفارق، وحسب أن الصورتين متشابهتان منطقيا، وأن كلا منهما قضية حملية، تنسب محمولا إلى موضوع، مع أن تقدم المنطق الحديث والرياضة الحديثة كليهما موقوف على إدراك هذه التفرقة. ومن أهم ما نلاحظه مسرعين عن الفرق بين هاتين الصيغتين: أن قضية «سقراط فان» تتحدث عن فرد معين، ومن ثم يتحتم أن تكون ذات مقابل فعلي في دنيا الواقع، على حين أن قضية «كل الإغريق فانون» تتحدث عن الرابطة التي تربط فكرتين عامتين مجردتين إحداهما بالأخرى؛ فكرة أن يكون الإنسان إغريقيا وفكرة أن يكون فانيا؛ وهنا لا يشترط لصدق هذه الرابطة وجود واقعي على الإطلاق، فحتى لو لم يكن هنالك على أرض الواقع إغريق، فسيظل في مستطاعنا أن نقيم هذه الرابطة بين الفكرتين، على اعتبار أن الصيغة التي تربطهما يدخلها معنى الشرط، كأنك تقول: إذا حدث أن وجد في الدنيا إنسان إغريقي فهو معرض للفناء؛ وكأي جملة شرطية أخرى، يكون قوام الجملة ارتباطا افتراضيا لا شأن للواقع الفعلي في تكوينه؛ وهكذا قل في كل قضية كلية، بالمقارنة إلى أي قضية جزئية.
وأما الشيء الثاني الذي وجده رسل عند بيانو في ذلك المؤتمر الفلسفي، فهو أن الفئة ذات العضو الواحد ليست هي بذاتها ذلك العضو الواحد؛ فإذا قلنا عبارة كهذه: «جرم سماوي يدور حول الأرض»، كان ذلك بمثابة وصف يحدد نوعا بأسره، حتى يثبت أن ما ينطبق عليه هذا الوصف هو كوكب واحد، وهو «القمر»، والفرق بين التسميتين هو أن التسمية الأولى تنطبق على القمر وعلى غيره مما قد نكتشف أنه يدور حول الأرض، على حين أن التسمية الثانية هي «اسم علم»؛ أعني اسم فرد واحد لا ينطبق إلا على مسماه الواحد المعين ... وقد تقول: وما أهمية ذلك؟ فنجيب إن الخلط بين الحالتين يؤدي إلى خلط في منطق المجموعات، أعني أنه يؤدي إلى خلط في منطق الأعداد الرياضية، وفي ذلك ما فيه من تعويق لتطور العلم الرياضي.
وهذا ينقلنا فورا إلى فكرة من أهم ما ورد في فلسفة رسل الرياضية - وفي فلسفة غيره من الفلاسفة الرياضيين كذلك، مثل فريجه الألماني - وأعني بها تعريف العدد بالفئة، أعني تعريف مفهوم رياضي أساسي بمفهوم منطقي أساسي، ومن ثم ينفتح الطريق أمام وصل الرياضة بالمنطق وصلا يؤدي إلى جعلهما علما واحدا لا سبيل إلى شقة شقين إلا جزافا واعتباطا؛ فما هو العدد؟ كان الجواب عند الفلاسفة الحدسيين، أنه كائنات ميتافيزيقية يراها الإنسان بحدسه رؤية مباشرة، فيدركها؛ أي إن الرائي بحدسه يعلم معنى «الواحد» ومعنى «الاثنين» ومعنى «الثلاثة» - إلى آخر صف الأعداد الطويل - بمجرد رؤيته لصورة الفكرة في ذهنه؛ حتى جاء هؤلاء الفلاسفة الرياضيون - وعلى رأسهم رسل - فحللوا العدد إلى ما هو أبسط منه؛ إذ جعلوه دالا على مجموعة الفئات الصغيرة التي تكون كل مجموعة منها ممثلة له؛ فلو أتيح لك أن تجمع - في تصورك - جميع الثالوثات التي في العالم بأسره، ثم تحزمها كلها في حزمة واحدة، لكان لك بذلك مجموعة كبيرة تضم مجموعات صغيرة متشابهة من حيث تكوينها؛ وهذه المجموعة الكبيرة هي التي تكون معنى العدد ثلاثة؛ هذا هو المقصود حين يقال إن العدد عبارة عن فئة من فئات - فئة كبيرة تضم فئات صغيرة متشابهة البنية - كل منها يدل بمجرد تكوين بنيته على العدد المراد تعريفه. وبهذا التحليل ترتد الرياضة كلها إلى منطق صرف، ما دمت قد استطعت رد مصطلحها الأساسي إلى مصطلح منطقي، فبدل قولك - مثلا - ثلاثة، أصبحت تقول فئة كبيرة تضم فئات ثلاثية كثيرة؛ وبذلك تكون قد استغنيت عن مجوعة كبيرة من الكائنات كان يظن أنها موجودة وجودا فعليا كما توجد سائر الكائنات، وأعني بها الأعداد، وتكون أيضا قد ألغيت ركنا من البناء الميتافيزيقي لم يعد له داع، ما دامت الأعداد الرياضية - وسائر الحقائق الرياضية - قد تحولت إلى تيسيرات لفظية لا أكثر ولا أقل.
وعاد رسل من مؤتمر باريس؛ ليشرع توا في تأليف كتابه «أصول الرياضة»، وانكب عليه انكبابا، حتى فرغ من مسوداته ليلة رأس السنة: 31 من ديسمبر سنة 1900م، لكنه صدر من المطبعة سنة 1903م، بعد مراجعات وتعديلات أجراها فيه قبل طبعه.
وفي الوقت نفسه تقريبا، اتفق مع وايتهد على أن يشتركا معا في كتاب «مبادئ الرياضة»، الذي استنفد منهما عشر سنوات (1900-1910م)، أضيفت إليها ثلاث سنوات أخرى قبل أن تخرجه المطبعة كاملا في مجلداته الثلاثة، يقول رسل في طريقة التأليف المشترك لهذا الكتاب - الذي يعد فاصلا بين عهدين في تاريخ الفلسفة المعاصرة جميعا - ما يأتي:
لقد كرسنا - وايتهد وأنا - كل وقتنا طيلة الأعوام الممتدة من 1900م إلى 1910 للعمل الذي صار فيما بعد كتاب «مبادئ الرياضة» (برنكبيا ماثماتيكا)، وبالرغم من أن المجلد الثالث من هذا الكتاب لم ينشر إلا سنة 1913م، فإن دورنا في تأليفه (باستثناء قراءة تجارب طبعه) قد انتهى سنة 1910م، عندما حملنا أصول الكتاب بأكملها إلى مطبعة جامعة كيمبردج ... وكانت المشكلات التي عالجناها من نوعين: مشكلات فلسفية، وأخرى رياضية؛ ويمكن القول إجمالا إن وايتهد قد ترك لي المشكلات الفلسفية؛ وأما المشكلات الرياضية فإنه هو الذي ابتكر لها الجانب الأكبر من الرموز - إلا ما كان مأخوذا من «بيانو» - وقمت أنا بالجانب الأكبر من العمل الخاص بالمسلسلات، وقام وايتهد بالباقي؛ غير أن هذا كله لا ينطبق إلا على المسودات الأولى؛ لأننا أعدنا كتابة كل جزء من الأجزاء ثلاث مرات، وكنا كلما فرغ أحدنا من مسودة أولى، أرسلها إلى الآخر، فكان هذا يجري فيها تعديلات قد تكون كبيرة أحيانا، وبعدئذ يقوم صاحب المسودة الأولى بصياغتها في صورتها الأخيرة؛ لذلك لا يكاد يوجد في المجلدات الثلاثة سطر واحد لم يكن إنتاجا مشتركا بيننا.»
قلنا إن رسل قام بالجانب الفلسفي - بصفة عامة - من هذا المؤلف الجسيم، بينما قام وايتهد بجانبه الرياضي - بصفة عامة أيضا - وبقي أن نذكر بعض تفصيلات عن الجانب الفلسفي الذي اضطلع به رسل؛ فنقول - ابتداء - إن الهدف الرئيسي من الكتاب كله هو - كما يقول رسل - «إثبات أن الرياضة البحتة بأكملها تترتب على مقدمات منطقية خالصة، وأنها (أي الرياضة البحتة) تستخدم مدركات عقلية لا يمكن تعريفها إلا على أساس من المنطق.» وواضح من ذلك - عند دارسي الفلسفة والرياضة - أن الكتاب بهدفه هذا قد جاء لينقض الفلسفة الكانتية، التي أسست المدركات الرياضية على مبادئ خاصة بها، لا على المدركات المنطقية من حيث هي كذلك؛ ومن أجل هذا يقول رسل: إنني عددت الكتاب في أول الأمر بمثابة جملة اعتراضية جاءت في سياق تفنيدنا لذلك المتعجرف السوفسطائي، كما وصفه جورج كانتور، وهو وصف أضفت إليه ابتغاء مزيد من التحديد قولي: «ذلك المتعجرف السوفسطائي الذي لم يكن يعرف من الرياضة إلا قليلا.»
وكان من أهم الجوانب الفلسفية التي تعرض لها كتاب «مبادئ الرياضة» هذا، تحليله للفئات (أي الأنواع) المنطقية تحليلا تبدت بعده في صورة دالات القضايا؛ فقولك مثلا «إنسان» أو «قط» أو ما شئت من هذه الأسماء الدالة على مجموعات يمكن تحليله بحيث يتحول كل اسم من هذه الأسماء إلى عبارة فيها مجهول، مثل «س يتصف بكذا وكذا»، ومن هنا فهي عبارة ليست بذي معنى وحدها، ولا يكون لها معنى إلا إذا ملئت «س» بمعلوم معين، فإذا ملأنا الفجوة بهذا المعلوم، تحولت «دالة القضية» إلى قضية كاملة يمكن التحقق من صدقها أو عدم صدقها.
وهنالك تفرقة مهمة بين قضية تشير إلى مجموعة قضايا، وقضية أخرى تشير إلى واقعة معينة؛ وهي تفرقة لو أفلتت منا وقعنا في متناقضات لا سبيل إلى الخروج منها، اعترضت الفكر الإنساني منذ اليونان الأقدمين، ولم يعرفوا كيف يكون الخلاص. ومن الأمثلة التاريخية لهذه المتناقضات مثل - وكثيرا ما يجعلون هذا المثل رمزا يشير إلى مجموعة كبيرة منها - يروى عن إبمنديز الأقريطي، حين قال عن أهل بلده أقريطش إنهم جميعا كذابون، فها هنا تنشأ المفارقة الشهيرة: إذا كان أهل أقريطش جميعا كذابين، وإذا كان إبمنديز من أهل أقريطش؛ إذن فهو كذاب، ويترتب على تلك الصفة فيه أن يكون قوله هذا الذي قاله عن أهل أقريطش كاذبا، وإذن فنقيضه هو الصدق، أعني أن أهل أقريطش جميعا صادقون، وإبمنديز واحد منهم، إذن فهو صادق؛ هكذا ترى أن إبمنديز لا يكون صادقا في قوله هذا إلا إذا كان كاذبا، ولا يكون كاذبا في قوله هذا إلا إذا كان صادقا.
أصبح هذا المثل التاريخي عنوانا على موقف يتكرر في الفكر الإنساني أشكالا وألوانا، حتى حدثت التفرقة على يدي رسل، بنظريته المسماة «نظرية الأنماط»، ومؤداها أنه لا يجوز أن تعد القضية المشيرة إلى قضايا من نفس المستوى مع القضية التي تشير إلى وقائع؛ فافرض أنك قلت عن فلان من أهل أقريطش إنه كاذب، وعن فلان الثاني إنه كاذب، وعن فلان الثالث إنه كاذب، وهلم جرا؛ فهذه كلها قضايا تشير إلى وقائع، أما إذا لخصت هذه القضايا وعممتها في قضية تقول: «أهل أقريطش كلهم كذابون» فهذه قضية تشير إلى قضايا؛ ولذلك فهي من مستوى أعلى ويكون لها حكم غير الحكم الذي يكون للقضايا التي هي من المستوى الأدنى. وأراني هنا أضعف من أن أقاوم الإغراء بأن أذكر للقراء مثلا كثيرا ما تعرضت له عند نقد الناقدين للوضعية المنطقية؛ إذ هم كثيرا ما يقولون: ما دام الوضعيون المنطقيون يقولون إن القضايا العلمية هي إما قضايا رياضية وإما قضايا في العلوم الطبيعية، وما عدا هذين الفرعين هو من قبيل الكلام الخالي من المعنى، فنحن إذا طبقنا هذا المعيار نفسه على قول الوضعيين المنطقيين، وجدنا أنه قول لا هو من قبيل القضايا الرياضية ولا هو من قبيل قضايا العلم الطبيعي، وإذن فهو قول فارغ من المعنى؛ وهنا يكون الرد بنظرية الأنماط التي قدمها رسل في كتاب «مبادئ الرياضة»؛ لأن قول الوضعيين المنطقيين ينصرف إلى أقوال، وإذن فهو من نمط منطقي أعلى، ولا يجوز أن نطبق عليه ما نطبقه على المستوى الأدنى؛ ولتوضيح ذلك أفرض أنني كتبت على رأس هذه الصفحة جملة تقول: إن جميع الأقوال الواردة في هذه الصفحة مكتوبة باللغة العربية؛ فإذا وجدت بعد ذلك أن من بين الأقوال الواردة في هذه الصفحة ما هو صواب وما هو خطأ، فلا ينصرف ذلك على الجملة العليا؛ لأن لها صدقها وحدها أو عدم صدقها.
على أن نظرية الأنماط المنطقية إنما أوردها رسل ليقابل بها مشكلة رياضية هامة، كان قد أثارها كانتور الرياضي، وهي مشكلة خاصة بالعدد الذي يكون هو أكبر الأعداد، ولا يكون هناك عدد أكبر منه في السلسلة العددية؛ يقول كانتور في هذا الصدد إنه ليس هناك مثل هذا العدد، ويجيء رسل شارحا لذلك؛ لأنه ربما قيل إننا لو عددنا الأشياء كلها الموجودة في العالم؛ فقد يكون آخر عدد نصل إليه هو أكبر عدد يمكن الوصول إليه، لكن رسل ينبه على أننا نستطيع أن نكون من الأشياء فئات فئات؛ أي أن نجمعها مجموعات مجموعات، وعندئذ نجد أن مجموع الفئات أكبر من مجموع الأشياء الداخلة في تكوينها، وعلى سبيل المثال افرض أن كل ما في العالم ثلاثة أشياء؛ هي: أ، ب، ج؛ فمن هذه الأشياء الثلاثة تستطيع أن تكون مجموعات عددها 32؛ أي ثمانية مجموعات، ومن هنا يتعذر أن نصل إلى مرحلة نقول عندها: هذه أكبر مجموعة، أو أكبر عدد يمكن تصوره؛ ومن هذا المدخل تناول رسل مشكلة الفئة التي لا تكون عضوا في نفسها، ف «الإنسان» اسم لفئة الأناسي، لكن «الإنسان» ليس واحدا منهم، كما تحزم الملاعق كلها - وهذا هو المثل الذي يسوقه رسل - فلا تكون حزمة الملاعق ملعقة مضافة إليها، وكذلك ما يقال عن فئة الأعداد كلها، لا يكون عددا من بينها؛ وعلى وجه الجملة ليس لأي اسم كلي معنى على نفس المستوى الذي يكون فيه لاسم العلم (بفتح اللام) معنى.
ومن هذه النقطة ينتقل رسل إلى التفرقة المنطقية بين نوعين من التسمية: التسمية بواسطة عبارة وصفية، والتسمية باسم علم (بفتح اللام)، ومن قبيل التسمية الأولى أن تقول «مؤلف الأيام»، ومن قبيل التسمية الثانية أن تقول «طه حسين»؛ وليس هنا مكان الإسهاب في أهمية هذه التفرقة، وحسبنا أن نقول إن العبارة الوصفية لا يكون لها معنى إلا وهي في جملة، أما وهي وحدها فلا معنى لها، على خلاف اسم العلم، فمحال من الوجهة المنطقية أن يكون بغير مسمى يشير إليه، ويكون هذا المسمى هو معناه، ولو وجد اسم علم بغير مسماه كان اسما زائفا، لا يجوز قبوله اسما من الأسماء؛ وأظنك إذا عرفت أن نظرية العبارات الوصفية هذه قد تعد من أهم ما أسهم به رسل في المنطق، عرفت بالتالي أنها جديرة بالدراسة الجادة، وقد جاءت لتصحح موقفا غريبا كان قائما، وهو أنه ما دام هناك عبارة وصفية مفهومة فلا بد أن يكون لها مسماها في عالم الواقع؛ مما أدى بالإنسان إلى افتراض وجود كائنات بعدد ما خلقه خياله من عبارات وصفية.
4
ويخرج فيلسوفنا من موجة المنطق الرياضي التي غمرته ثلاثة عشر عاما، ليلفت بصره فورا نحو الطبيعة الخارجية كيف ركبت؟ ويصدر سنة 1914م كتابه «علمنا بالعالم الخارجي» فيبدؤه بتحليل للإدراك الحسي؛ لأنه في رأيه الوسيلة التي نعرف بها ذلك العالم، وأول ما يلفت إليه أنظارنا هو الفارق الفسيح بين الصورة كما تقع في إدراكنا، والصورة كما هي في لغة علماء الطبيعة المحدثين، أو قل الفارق الفسيح بين العقل والمادة؛ فأنت تعلم بالطبع ما إدراكك للمنضدة التي أمامك، فقارن هذه الصورة المدركة بدنيا الإلكترونات والبروتونات وسائر هذه الكائنات الدقيقة التي يقول لنا علم الطبيعة الذرية إن المنضدة هي مجموعة منها.
ويأخذ رسل في التحليل المتقصي لعله يبلغ من الأمر شيئا، فينتهي إلى نظريته في أن العالم كله «أحداث»؛ سواء في ذلك المادة أو العقل، ومن ثم يلتقي عنده العقل والمادة في أنهما معا من هيولى محايدة، لا هي مادة ولا هي عقل، إنما هي مجموعات من أحداث، ترتب على هذا النحو فتكون ما يسمى بمادة، أو ترتب على ذلك النحو فتكون ما يسمى بعقل؛ ولشرح ذلك نقول في إيجاز شديد: افرض أنك وضعت أي عدد شئت من اللوحات الحساسة في نقاط متفرقة من المكان، وأنها جميعا معرضة لأشعة الشمس، فعندئذ ترتسم صورة الشمس على اللوحات الحساسة جميعا، مهما كان موضعها، ما دام الطريق بينها وبين الشمس خاليا من الحوائل؛ فما معنى ذلك؟ معناه أن ثمة نوعا غريبا من «الأحداث» هو حال في نقاط الفضاء، بسبب الشمس، وأن هذه الأحداث إذا ما وقعت على لوحة حساسة تبين وجودها؛ فإذا سألتني بعد هذا: أين مكان الشمس؟ أجبتك بأن لها ثلاثة ضروب من المكان؛ أولها هو المكان الذي تحل فيه الشمس ذاتها، وثانيها هو أي نقطة شئت من نقاط الفضاء لا يحجبها حائل عن الشمس؛ لأن أي نقطة في الفضاء فيها أحداث لها بنية الشمس وصورتها، إذا لم تكن ظاهرة للوهلة الأولى، فهي تظهر لو وضعت في تلك النقطة لوحة حساسة، وثالث الأمكنة هو الذي يحل على اللوحة الحساسة حين ترتسم عليها الشمس؛ وإذا سألتني بعد ذلك: وما حقيقة الشمس بين هذه الظواهر كلها؟ أجبتك بأن حقيقتها هي هذه الظواهر كلها، فاجمع هذه الظواهر كلها وهذه الأحداث كلها؛ تكن لك الشمس كما هي واقعة.
وننتقل بعد ذلك خطوة أخرى فنقول: إن اللوحة الحساسة حين تضعها في أي نقطة شئت من نقاط الفضاء، وحين تلتقط لك من تلك النقطة ما كان حالا فيها من «أحداث» تحمل صورة الشمس، أقول إن تلك اللوحة الحساسة عندئذ لا تعكس صورة الشمس وحدها، بل إنها تعكس كذلك كل ما هو متجمع في مكانها من أحداث، بحيث نرى على سطح اللوحة شمسا وجسوما أخرى ارتسمت صورتها عليها.
فلو تصورنا أن اللوحة الحساسة كائن عضوي حي، لجاز القول - إذن - إن هذا الكائن «يدرك» مختلف الأشياء التي تكون أحداثها متجمعة في النقطة المكانية التي يحل فيها ذلك الكائن؛ وبهذا نصل إلى التفرقة بين ما يسمى ب «مادة» وما يسمى ب «عقل»؛ فمادة الشمس هي حاصل جمع أحداثها الساقطة على أي جهاز حساس - والجهاز العصبي جهاز حساس - مهما يكن مكان تلك الأجهزة وزمانها؛ وأما «العقل» فهو ما يتجمع على جهاز حساس واحد في لحظة بعينها من مختلف الانعكاسات الآتية إليه من هنا وهناك؛ وهكذا ترى أن «الأحداث» هي المادة الخامة التي يتكون منها المادة والعقل معا، وأن الفرق هو في طريقة التجميع والترتيب؛ ومن ثم كان في فلسفة رسل ما يسمى ب «الهيولى المحايدة» التي منها يتكون العقل وتتكون المادة في آن واحد؛ فبعد أن كان الفلاسفة إما ماديين يحولون كل شيء إلى مادة، وإما عقليين يحولون كل شيء إلى فكر، جاء رسل وسبقه على الطريق نفسه وليم جيمس، فأخذ بالهيولى المحايدة التي لا هي مادة بالمفهوم القديم، ولا هي عقل بالمفهوم القديم، لكنها أصل للمادة والعقل معا.
5
وتقع الحرب العالمية الأولى سنة 1914م، فينصرف فيلسوفنا إلى مناهضتها بكتابات أدت به إلى السجن؛ لمجرد أنها تدعو إلى السلام في عالم مجنون. وما كادت الحرب تدنو من ختامها حتى يأخذه اليأس، فيعود من جديد إلى دنيا الفلسفة يلوذ بها - مع نزهة حينا بعد حين يقضيها مع شئون البشرية في أحكامها العامة وفي علاقات أفرادها - فلئن كان قبل الحرب قد شغلته التحليلات المنطقية الرياضية، ثم شغله تحليل العالم الطبيعي، فإنه هذه المرة قد غاص في دخيلة الإنسان لتحليل العقل، وما يتصل بهذا التحليل من بحوث في المنطق وفي المعرفة، فله محاضرات عن «الذرية المنطقية» (1918م) جمعت في كتاب (1924م)، وله محاضرات عن «تحليل العقل» جمعت كذلك في كتاب (1921م)، ومحاضرات عن «المعنى والصدق» جمعت هي الأخرى في كتاب (1940م)، وله كتاب في «المعرفة الإنسانية» (1948م)، إلى جانب عشرات من الكتب الأخرى.
ولو شئنا موجزا في سطور يلخص برتراند رسل كما هو في دنيا الفلسفة، قلنا: إنه ينتمي إلى مدرسة «الواقعية الجديدة»، التي تعترف بأن للأشياء الخارجية وجودها المستقل عن عقل الإنسان المدرك لها. فسواء وجد على وجه الأرض ناس أو لم يوجدوا، وسواء كانت في الكون كله ذات واعية مدركة أو لم يكن؛ فهنالك العالم الخارجي بأشيائه قائم. ثم هو فيلسوف يتخذ «التحليل» منهجا له، بمعنى أنه يتناول الأفكار مهما يكن ميدانها، ليحاول تفتيتها وفكها إلى عناصرها الأولية، حتى يتبين له آخر الأمر إن كانت أفكارا أصيلة أولية، أو كانت مما يمكن ردها إلى سواها، فإذا كانت الأخيرة كان معنى ذلك أنه يستغني عنها، مكتفيا بالأصل الذي ترد إليه، وقد لبث طول عمره الفلسفي الطويل يبتر ويجذ ويقص، هادفا إلى أن يصل إلى أقل عدد ممكن من الأفكار تكون هي الأفكار البسيطة الأولية التي لا بد من قبولها بغير تعريف، لنعرف بها سواها الذي ينبثق عنها، وتسمى هذه العملية في عالم الفلسفة بنصل أوكام (أوكام فيلسوف من العصور الوسطى، كان يدعو المفكرين إلى القصد في عدد الكائنات، بحيث لا نضيف من عندنا ما لا تقتضيه ضرورة افتراض وجوده)، فحتى الفكرتان «مادة» و«عقل» استطاع أن يستغني عنهما بفكرة واحدة هي «الهيولى المحايدة» التي قوامها «أحداث». ويأخذ رسل بما قد وصل إليه علم الطبيعة النووية في تحليله للعالم، بل إن فلسفة «الأحداث» التي يرد إليها كل شيء، هي انعكاس لعلم الطبيعة الحديث بما قد رد المادة إليه من كهارب، حتى لقد انعدمت الشقة التي كانت تباعد بين المادة والعقل، وأصبحت المادة طاقة، والطاقة مادة، ولا فرق بين الاثنتين. وهو في علم النفس يساير الاتجاه التحليلي نفسه، فيأخذ بالمذهب السلوكي الذي يفتت السلوك إلى وحدات بسيطة هي الأفعال المنعكسة الفطرية والشرطية، لكنه يجد أن السلوكية لا تفسر كل ضروب السلوك وكل جوانب الخبرة، فيكملها بما يغطي هذه الزوائد الفائضة؛ ويتنبه رسل على العلاقة الكائنة بين عالم اللغة وعالم الأشياء، فمتى تصور اللغة هذا العالم ومتى لا تصوره؟ ولذلك ينصرف بعنايته إلى الدراسات اللغوية من جانبها المنطقي ويربط الصلة بين اللغة والوقائع الخارجية ربطا وثيقا.
تلك لمحة عن رسل الفيلسوف، لعلها تضيء صورة في أذهان عامة القراء، وهي الصورة المشرفة في حد ذاتها، والتي تصوره رجلا يسهم في رسالة السعادة والعدالة والسلام.
تعادلية الحكيم
وقفة الأديب ووقفة الناقد مختلفتان، اختلاف المرحلتين اللتين تكمل إحداهما الأخرى، لا اختلاف الضدين اللذين ينفي أحدهما ما يثبته الآخر، فالأديب يصور الإنسان تجسيدا في أفراد ومواقف، وأما الناقد فيتناول بالتحليل هذه الأفراد والمواقف؛ لعله أن يقع على مبدأ كامن وراءها، يكون هو عندئذ مبدأ الأديب قد أضمره في طويته ليخرجه للناس متجليا فيما خلقه لهم من تلك الأفراد والمواقف، فوقفة الناقد من أدب الأديب ومخلوقاته، أشبه ما تكون بوقفة العالم من الطبيعة وكائناتها، كل منهما يجد نفسه إزاء كثرة من وقائع وحقائق، فيحاول استقطابها في أم واحدة تربطها جميعا بصلة الرحم.
وكثيرا ما يكون الأديب والناقد رجلين، يفحص أحدهما عمل الآخر، وقليلا ما يجتمع الأديب والناقد في رجل واحد، يكون اليوم أديبا ثم يصبح في غد ناقدا لأدبه، مستخرجا منه أصوله ومبادئه، وقد كان توفيق الحكيم بكتابه «التعادلية» واحدا من هؤلاء القلة، التي التقى فيها خلق الأديب وتحليل الناقد، فقد جاءته - فيما يروى لنا - رسالة من قارئ جاد، يسأله فيها عن مذهبه في الحياة والفن، مستخلصا من كتبه، ليرى صاحب هذه الرسالة إن كان قد أصاب أو أخطأ في استخلاص ذلك المذهب لنفسه؛ ذلك أن ذلك السائل قد انتهى بعد قراءته لكتب الحكيم إلى رأي، هو أن تلك الكتب في مجموعها تحاول تفسير «الإنسان» في وضعه العام من الكون بزمانه ومكانه، وفي وضعه الخاص من المجتمع بأجياله وبيئاته، فانتهز أديبنا الحكيم فرصة سؤال السائل، وهم بالإجابة ليعدها للنشر؛ لأنها ربما جاءت على صورة محددة يمكن وصفها بأنها مذهبه في الحياة والفن، فكان هذا الكتاب الذي بين أيدينا: «التعادلية».
قرأت الكتاب، فخيل إلي وأنا ماض بين صفحاته، أنني إنما أستمع إلى فيلسوف من فلاسفة اليونان الأقدمين، يتكلم العربية ويرتدي ثياب أوروبا العصرية، لكن الفكر واللغة والثياب لم يكن بينها - مع ذلك - تنافر، بل جاءت كلها في وحدة متسقة تنسيك اختلاف وجوهها، فأديبنا الحكيم في «تعادليته»، ينظر إلى الكون وإلى الإنسان، النظرة نفسها التي نظر بها فلاسفة اليونان، وهي نظرة تحاول جمع الأضداد في وحدة، وهل تستطيع أن تقرأ نظرات الحكيم في هذه المحاولة، فلا يرد على خاطرك قول هرقليطس - مثلا - بأن حقيقة الكون أضداد تتعادل: النهار والليل، والشتاء والصيف، والحرب والسلم، والشبع والجوع، والبارد والحار، والرطب واليابس، واليقظة والنوم، والحياة والموت؟ أو هل تستطيع أن تقرأ تعادلية الحكيم، ثم لا تذكر قول أنبادقليس في المحبة والكراهية، في التجاذب والتنافر، اللذين يعلل بهما هذه الحركة الدائبة في الكون من اتصال وانفصال يسببان كون الأشياء وفسادها؟ أو هل تستطيع أن تقرأ تعادلية الحكيم دون أن يمثل أمام بصرك مبدأ «الوسط الذهبي» الذي يتوسط المتطرفات فيكون هو الفضيلة والحكمة؟ وهكذا أخذت أصداء الفلاسفة اليونان الأقدمين تتردد في سمعي كلما مضيت بين صفحات التعادلية.
فالتعادلية بصفحاتها التي لا تكاد تزيد على مائة وثلاثين صفحة من القطع الصغير، سياحة تطوف بك على ميادين الفكر، لتقف بك عند كل ميدان منها لحظة، تعطيك فيها الجرعة المركزة الموجزة، التي ربما تفجرت في نفسك بعدئذ تساؤلات وتأملات؟ إنها سياحة تطوف بك على الميتافيزيقا والأخلاق والجمال والاقتصاد والاجتماع والسياسة والبيولوجيا، وغيرها من فروع العلم والمعرفة، ليدلك المؤلف عند كل واحد منها على موقفه إزاءه، وكيف يراه بالعين التي تجمع الضدين في فعل واحد موحد، بديهي أن هذه السياحة السريعة لا تمكن الدليل من الوقوف الطويل عند كل منظر وكل أثر ليطنب القول ويسهب، فهو مضطر أن يخطف الحجة خطفا، وإذا لم يكن هذا يكفيك في إقناع العقل، فالمعول عندئذ إنما يكون على القلب، الذي قد ترضيه نغمة الإيمان في إيجازها، ما دامت تفوح بالصدق وبالعمق في آن معا.
أما المسألة الميتافيزيقية فيطرحها المؤلف في سؤالين؛ يسأل أحدهما عن الإنسان، إن كان في هذا الكون وحيدا؟ ويسأل الآخر عن حرية الإنسان في هذا الكون؟ وقبل أن يدلي الحكيم بجوابه عن السؤالين، يقدم الرأي الذي يسود عصرنا، ثم يعلله، وبعدئذ ينقضه برأيه هو، الذي يقيمه على «التعادل».
فلقد أجاب العصر الحديث فعلا عن هذين السؤالين، فيما يقول أديبنا الحكيم «بأن الإنسان وحده لا شريك له في هذا الكون، وأنه إله هذا الوجود، وأنه حر تمام الحرية، وبهذا الجواب الذي قضى على تعاليم الأديان، ختم العصر الحديث على نفسه بطابع المادية» .. ذلك هو جواب العصر، وأما تعليله - كما يراه الحكيم - فهو «أن التعادل الذي كان قائما حتى مطلع القرن التاسع عشر بين التفكير ونشاط الإيمان، قد اختل منذ ذلك الوقت، بتوالي انتصارات العلم العقلي، واستمرار جمود الجانب الديني»، ويلحظ الحكيم أن هذا الاختلال في التعادل بين العقل والقلب، قد «كانت له نتيجته الطبيعية التي لا بد أن تلازم كل اختلال في التوازن .. وهو القلق.»
هكذا شخص الحكيم اعتلال عصرنا، وهكذا رد الاعتلال إلى علته، ثم استنتج منه نتيجته الطبيعية، وأردف موضحا كيف كانت العلاقة بين العقل والقلب - تعادلا أو اختلالا للتعادل - هي موضوع مسرحيته «أهل الكهف»، وذلك عندما وضعت تلك العلاقة في إطار مشكلة الزمن، كما كانت هي موضوع مسرحيته «شهرزاد»، وذلك عندما وضعت تلك العلاقة في إطار مشكلة المكان، وينتهي الحكيم من ذلك كله إلى تحديد موقفه من السؤالين السابقين؛ فليس الإنسان في هذا الكون وحيدا ومسيطرا سيطرة مطلقة، بل هنالك إلى جانبه قوى غير منظورة، من شأنها أن تحد من حريته، وأن تكن حافزة له على الكفاح نحو الأرقى، أما القوى غير المنظورة فإدراكها عنده يكون بإيمان القلب، وأما فكرة الأرقى التي تتطلب الكفاح، فإدراكها يكون بالعقل، ولا بد من إيمان وعقل يعملان معا في تعادل.
وعلى هذه القاعدة الأساسية - قاعدة التعادل بين الإيمان والعقل - يستأنف الحكيم حديثه عن الحرية الإنسانية، فيقول إن الجانب العقلي من الإدراك كفيل وحده بأن يشهد بالحرية للإنسان دون الحيوان، وما العقل إلا مشاهدات واستدلال من المشاهدات، أما المشاهدات في هذا الصدد فتقوم على أن الحيوان كله يولد مكبلا بمعرفة محددة معينة - هي الغرائز - يتصرف على أساسها فيما يصادفه من مواقف، بغير حاجة منه إلى تعلم وتدريب، على خلاف الإنسان الذي يولد عاجزا، حتى عن المشي والكلام، ولا يختزن في جوفه حضارته، كما يفعل النحل والنمل، ولذلك كان علمه اكتسابا، وكانت حضارته من صنعه وبإرادته، تلك هي المشاهدات، وأما النتيجة التي تستدل منها فهي أن الحيوان مجبر والإنسان حر، وعندئذ يتولد سؤال جديد عن هذه الحرية الإنسانية، أمطلقة هي أم مشروطة ومقيدة بحدود؟ هي حرية - عند الحكيم - مقيدة بقوى خارجية «أسميها أحيانا القوى الإلهية .. حرية الإرادة في الإنسان عندي إذن مقيدة، شأنها في ذلك شأن حرية الحركة في المادة.»
تلك هي النتيجة التي ينتهي إليها إذا نظر إلى الأمر بأداة العقل، فإذا ما استدار إلى الأداة الإدراكية الأخرى - القلب - ليرى ماذا تقول في ذلك، وجد عندها النتيجة نفسها، وهي أن الإنسان حر الإرادة حرية قد تتدخل فيها القوى الكونية المجهولة، وإذن فهي نتيجة لا اختلاف عليها بين عقل وإيمان، ومن ثم كانت هي إحدى الأفكار الرئيسية التي بنيت عليها مسرحياته، أعني أنها هي «مأساة الحياة كما تتكشف عن عجز الحرية الإنسانية»، فتستطيع أن تقول هنا إن «إرادة الإنسان في كفتها تعادلها الإرادة الإلهية في كفة أخرى، والعقل البشري في كفة يعادله الإيمان في كفة»، وبهذا التعادل بين القوى يعيش الإنسان. ويسوق المؤلف لمثل هذا التعادل أمثلة من «أهل الكهف» و«شهرزاد» و«سليمان الحكيم»، وغيرها.
تلك هي وقفة الحكيم الميتافيزيقية في حقيقة الإنسان بالنسبة إلى الكون، وإلى حريته بإزاء هذا الكون، وهو موقف يترتب عليه موقفه الأخلاقي، فما دام الإنسان حر الإرادة - ولو إلى حد محدود - فهو إذن مسئول عما يفعل، وما دمت قد ذكرت المسئولية الخلقية فقد أثرت مشكلة الخير والشر، «والخير والشر في رأيي لا شأن لهما بالإنسان الفرد، ولا وجود لهما إلا بالمجتمع»، وهو رأي نثبته هنا كما أراده صاحبه، ولكنه رأي يدعو إلى شيء من التأمل قبل قبوله، فهل يا ترى يجوز للمنعزل وحده في جزيرة أن ينتحر مثلا؟ فإذا قلنا إن ذلك لا يجوز ، لأن فيه افتئاتا على الحياة، التي ليس هو وحده صاحبها، فقد قلنا بذلك إن الانتحار شر، حتى ولو لم يكن المنتحر فردا في مجتمع، لكنني أترك أمثال هذه الوقفات الجانبية لأنصرف إلى رأي الحكيم، كما أراده في تعادليته؛ فالخير - عنده - لا يكون إلا فعلا إراديا يؤدي إلى نفع الغير، والشر هو الفعل الإرادي الذي يؤدي إلى ضرر الغير؛ أي إن أديبنا الحكيم - إذا نسبناه إلى إحدى مدارس الأخلاق - انتمى إلى مدرسة المنفعة، التي تقيس الفعل بنتائجه لا بشيء في طبيعة الفعل نفسه، ولست أريد أن أستطرد هنا مرة أخرى لأقول إن القائلين بهذا المذهب هم عادة الفلاسفة الذين يركنون في عملية الإدراك إلى الحس والعقل وحدهما، لا الفلاسفة الذين يعترفون بإدراك القلب؛ إذ لهؤلاء قول آخر يجعل الخير والشر صفتين في الأفعال نفسها، بغض النظر عن نفعها وضررها، وبغض النظر عن انعزال الإنسان أو اشتراكه مع غيره في مجتمع.
ومهما يكن من أمر، فالحكيم في تعادليته يرى أن الخير والشر كليهما ضروري ليعادل أحدهما الآخر، ويضرب أمثلة من مسرحياته كيف جمع الطرفين في كل شخصية من شخصياته، وينتقل المؤلف إلى فكرة العقاب، ليرى فيه رأيا طريفا، هو أن فعل الضرر بالناس لا ينبغي أن يقابله سجن يحرم صاحبه من حريته؛ إذ التعادل لا يكون بين الشر والحرية، وإنما يكون بين الشر والخير، ومؤدى ذلك هو أن أجعل الشرير الذي فعل فعلا ضارا يؤدي فعلا نافعا، ليتعادل نفعه للناس مع ضرره.
وفكرة الخير والشر تنتج عنها فكرة الضمير، وهنا يحاول الحكيم أن يحدد معنى «الضمير» بقوله «إنه شعور الذات بشر لحق الغير لم يقدم عنه حساب»، فالمذنب الذي يعاقب على ذنبه لا يؤنبه ضميره على شيء، كأنما الضمير لا يتحرك إلا إذا كان صاحبه مدينا إزاء المجتمع بضرر ألحقه به، ولم يدفع مقابله من النفع ما يتعادل معه، وهذا التعادل بين الضرر والنفع، أي بين الشر والخير، هو ما يسميه المجتمع بالعدل، وإذن «فالعدل هو المظهر الأخلاقي للتعادل، والضمير إذن هو الشعور بالعدل»، وكما يقال إن للفرد الواحد ضميرا، كذلك يقال إن للمجتمع بأسره ضميرا، يؤدي المهمة نفسها، أعني أنه يؤرق المجتمع إذا ما أحس أنه أوقع الضر بغيره، أو أحس بأن طائفة منه أضرت بطائفة أخرى من أبنائه، ومن هنا تقوم الثورات الاجتماعية لترد إلى المظلوم حقه.
ويعتقد الحكيم أن مسألة الضمير هذه مقصورة على الأفراد داخل الجماعة الواحدة، أما إذا انتقلت إلى السياسة وإلى الاقتصاد، فإنك ها هنا تجد التعادل قائما بين الأطراف المتضادة، قيامه في دنيا الحيوان والنبات؛ ففي السياسة لا بد أن تتعادل القوى، ومحال أن يقوم في العالم قوة واحدة بغير قوى أخرى تعادلها. ويضرب المؤلف لنا أمثلة من التاريخ، تدل على أنه حتى إذا قامت قوة واحدة، نراها من الفور قد انقسمت على نفسها شطرين يتعادلان؛ كما حدث للإمبراطورية الرومانية مثلا.
والأمر في السياسة الداخلية شأنه شأن الأمر في السياسة الخارجية؛ لأنه في السياسة الداخلية لا بد من تعادل بين الحاكم والمحكوم، ولما استطاع الشعب في العصور الحديثة أن يحكم نفسه بنفسه، نشأت الأحزاب التي يعادل بعضها بعضا، «فإذا تغلبت طائفة في النهاية وابتلعت كل ما عداها من الطوائف والطبقات، واتحدت في قوة واحدة، تشمل الدولة كلها، فإن هذه القوة أيضا لا تلبث أن تولد قوة أخرى خفية تعارضها وتجاهد في الظهور، وقد تخنق وتكبت وتهزم وتخفق، ولكنها لا بد يوما أن توجد؛ لأن قانون التعادل الذي نرى مظهره في الشهيق والزفير هو الذي يعمل هنا أيضا، ونرى مظهره في وجود حركة توازن حركة؛ لأن هذا هو شرط الحياة.»
ذلك هو شأن السياسة - خارجيها وداخليها على السواء - أما في الاقتصاد فإن قانون التعادل يفعل كذلك فعله بصورة واضحة، فلا بد أن يكون هناك توازن بين العرض والطلب، كالتوازن بين الشهيق والزفير، وكذلك الأمر في ضرورة التعادل بين الصادرات والواردات، وبين الإيرادات والمصروفات، وهكذا.
وإن فكرة التعادل هذه لتراها في الطبيعة نفسها على صورة الفعل ورد الفعل، فكل فعل له الفعل الذي يرد عليه ليحدث التعادل ، مهما يكن المجال الذي يحدث فيه ذلك الفعل، وإذن فالتعادل هو قانون الطبيعة وقانون الإنسان معا.
وهكذا ينقلنا إلى الميدان البيولوجي لنرى أن عملية الحياة نفسها وتطورها قائمة على التعادل؛ ففضلا عن التعويض الذي تلجأ إليه طبيعة الكائنات الحية لتوازن بجوانب القوة جوانب الضعف، ولتعوض النقص هنا بالزيادة هناك، فإذا كانت النحلة رقيقة الجناح، فهي حادة الإبرة، أقول إنه فضلا عن عملية التعويض هذه، فإن الطبيعة في تطورها تستخدم أداة الفعل ورد الفعل في سيرها قدما وإلى أعلى وأقوى، فإذا رأيت الشجرة تنتقل من خضرة يانعة في الربيع إلى صفرة ذابلة في الخريف، ثم إلى خضرة يانعة في الربيع التالي، وهلم جرا، فقد تظن أن سيرها يتم في خط مستقيم، أو أنها تسير في خط يدور على نفسه، فلا يتقدم خطوة إلى الأمام، وبذلك لا يكون ثمة «تطور»، لكن حقيقة الأمر هي أن هذه الدورة تلازمها دفعة إلى الأمام يظهر أثرها في الأجيال القادمة من الكائن الحي، وحتى أجرام السماء في سيرها تتحرك في هذين الاتجاهين معا: تدور حول نفسها وحول الشمس، لكنها في الوقت نفسه «تسير في الفضاء إلى الأمام في إطار المجموعة الشمسية بأكملها»، وقل شيئا كهذا في الإنسان وحضارته، فقد يتعاوره الظلام والنور في حركة كحركة الليل والنهار، ولكنه مع ذلك يسير إلى الأمام في خلال دورات من الفعل ورد الفعل، وإنك لتجد هذه الفكرة عن التطور في مسرحية شهرزاد.
ويطبق الحكيم فكرة التعادلية في ميدان علم الاجتماع، كما طبقها في ميادين الميتافيزيقا والأخلاق والسياسة والاقتصاد والبيولوجيا، فيجيء التطبيق هنا على صورة التضاد بين الفكر والعمل تضادا لا بد أن ينتهي إلى التعادل بينهما، لولا أني أوثر ألا أعرقل سير الفكرة التعادلية باعتراضات جزئية ترد على خاطري كلما مضيت في صفحات هذا الكتاب، لوقفت هنا وقفة أناقش فيها هذه القسمة إلى فكر بلا عمل، وعمل بلا فكر - هذا إذا أخذنا الفكر بمعناه الذي يأبى أن يدخل في أحلام اليقظة وشطحات الوهم - لكن الحكيم على كل حال يضاد بينهما، إلى الحد الذي قد ينتصر أحدهما على الآخر فيخضعه لسلطانه، وهنا تجد إما أن رجل الفكر خاضع لرجل العمل، وإما أن تجد رجل العمل خاضعا لصاحب الفكر، ولكن هذا التضاد قد يقف عند حد التعادل بين الضدين، فلا خضوع لجانب منهما للجانب الآخر، وعندئذ يتم التعادل وتصلح الحياة.
وإن التعارض بين العمل والفكر، لهو الذي تراه - فيما يقول أديبنا الحكيم - فيما نشأ من صراع على طول التاريخ بين الملوك من جهة، ورجال الدين من جهة أخرى، ولئن استطاع الفكر في صورته الروحية هذه أن يصمد لأصحاب السلطان، فقد عجزت صور الفكر الأخرى كالفلسفة والأدب والفن، عن هذا الصمود؛ ولذلك نرى أصحابها قد ذلوا لأصحاب السلطان، وهنا يقترح الحكيم اقتراحا جميلا، وهو أن سر ضعف رجال الفكر أمام أصحاب الحكم، هو تفككهم، ولو تكاتفوا وتآزروا لتكونت منهم قوة تعادل قوة الحكام، ولنلاحظ أن رجال الحكم في عصرنا هذا، برغم أنهم جاءوا إلى مراكز الحكم بانتخاب الشعب، فإن شعور الجفوة ما زال قائما بين رجل التنفيذ من جهة، ورجل الفكر من جهة أخرى؛ لما يخشى أن يوجهه رجل الفكر من نقد وتوجيه.
ويستطرد الحكيم هنا، فيقول إن عصرنا الراهن قد ابتكر طريقة يستطيع بها رجل السلطان أن يسكت رجل الفكر، فهو اليوم لا يعذبه ولا يسجنه، كما كان يفعل الحكام السابقون، لكنه يستدرجه إلى حظيرة السياسة العملية، فيلغي بذلك وجوده؛ لأنك إذا أدمجت الفكر في العمل، لم يعد فكرا، «فواجب رجل الفكر إذن أن يحافظ على كيان الفكر، وأن يصون وجوده الذاتي حرا مستقلا.»
ولكن ذلك لا يعني أن «ينعزل» الفكر، فاستقلال الفكر شيء، وانعزاله شيء آخر؛ إذ المنعزل لا يؤثر في غيره، ولا يتأثر به، فكأنه معدوم بالنسبة إلى الآخرين، ولا فرق بين فكر ينعزل عن العمل، وفكر يبتلعه العمل ويذيبه؛ لأنه في كلتا الحالتين مفقود معدوم، أما استقلال الفكر عن العمل - بغير انعزال - «فهو أن يكون له كيان خاص وإرادة خاصة في مواجهة العمل، حتى يستطيع أن يتأثر به ويؤثر فيه.»
وأخيرا يجيء ميدان الأدب والفن، فها هنا يكون التعادل بين التعبير والتفسير، بين الأسلوب والموضوع؛ «فالأثر الأدبي أو الفني لا يكتمل خلقه ولا ينهض بمهمته إلا إذا تم فيه التوازين بين القوة المعبرة والقوة المفسرة»، لكن هذا قول يريد شرحا، فيشرحه المؤلف شرحا أسهب فيه، أما التعبير فيقصد به شيئا غير «الشكل»؛ لأنه الشكل مضافا إليه شيء آخر، هو الموضوع نفسه الذي سيق فيه، التعبير هو الشكل، والشيء الذي يتشكل فيه هو الأسلوب والموضوع معا، فإذا تعادل الأسلوب والموضوع، إذا تعادل الشكل والمضمون، كان لنا بذلك «تعبير» قوي، أما إذا طغى أحد الطرفين، كأن نزخرف الأسلوب ولا موضوع، أو أن نضع الموضوع العظيم في شكل سقيم، ففي كلتا الحالين لا نظفر بتعبير له شأن في دنيا الأدب والفن.
ولئن كان التعبير بالمعنى الذي يتعادل فيه الشكل والموضوع هو - كما يقول الحكيم «كل شيء في نظر الفن» - فهو ليس كل شيء في نظر التعادلية، «فقوة التعبير عند التعادلية يجب أن تقترن في الأدب والفن بقوة التفسير»، والمراد بالتفسير ذلك الضوء الذي يلقيه الأديب أو الفنان على موضع الإنسان في الكون ومكانه في المجتمع، أو بعبارة أخرى، فإن التعادلية تتطلب من الأدب والفن أن يضيف إلى عالمي المتعة والجمال ضوءا كاشفا يهدي الإنسان في طريقه إلى الكمال، أعني أن يكون للأدب والفن «رسالة»، فإذا اكتفينا بالتعبير وحده، كان لنا بذلك فن للفن، وإذا اكتفينا بالتفسير وحده، كان لنا بذلك فن ملتزم برسالته وكفى، لكن المطلوب تعادل بين خصائص الشكل الأدبي والفني ومضمون الرسالة المراد نشرها في آن معا.
وهنا يجد الكاتب نفسه أمام موضوع الالتزام وجها لوجه، ويرى لزاما عليه أن يرى كيف يكون التعادل بين حرية الأديب والتزامه، وفي رأيه أن الالتزام واجب، شريطة ألا يكون مصدره غير ذات الفنان؛ لأنه لو جاء من خارج الفنان، كان إلزاما، وفقد الأديب حريته، وفقد الأديب كيانه، لا، بل التزام الأديب برسالته هو، لا ينبغي أن يطول به الأمر؛ إذ لا بد من مراجعة الرسالة المراد تبليغها آنا بعد آن، وإلا أصبح الأديب عبدا لشيء مضى أوانه وتغيرت عليه الظروف.
ألا إن فلسفة الأمة هي مجموع فلسفات أبنائها الذين استطاعوا أن يتخذوا موقفا فكريا، واستطاعوا أن يصوغوا ذلك الموقف في عبارة يتبادلها الناس، ويحملها الزمن إلى الأجيال الآتية، وإذا كان هذا هكذا، فإننا لن نذكر الفلسفة العربية بعد اليوم، إلا وفي أذهاننا فكرة التعادلية التي بسطها أديبنا الحكيم في كتاب له بهذا العنوان.
شاهد على الصهيونية من يهود
لو كتب كاتب عربي في الصهيونية بما يفضحها ويشينها، لقيل: عدو كتب؛ ولو كتب فيها أوروبي محايد بما يظهر مواضع الخطر والشر والسوء، لقيل: مناهض للسامية تعصب؛ لكن ماذا يقال إذا كان الكاتب يهوديا، بل مديرا للمجلس اليهودي الأمريكي؟ إن له من يهوديته ما يعصمه من تهمة العداوة للجنس السامي، ومن أمريكيته ما يضمن عطفه مقدما على إسرائيل؛ وإذن فلشهادته قيمة مضاعفة؛ لأن يهوديته وأمريكيته معا لم تستطيعا أن تحجبا عنه الحق حين فتح عينيه ليراه.
وأما هذا اليهودي المرموق في يهوديته، فهو الدكتور «إلمر برجر»
Elmer Berger ، المدير التنفيذي للمجلس اليهودي في أمريكا؛ طاف بأقطار الشرق الأوسط، في زيارة أراد بها أساسا أن يستطلع حالة الأقليات اليهودية في تلك الأقطار، ليبعث برسائله تباعا عما يراه ويسمعه؛ فزار القاهرة وبغداد وبيروت ودمشق، والقدس العربية في الأردن، ثم ختم الجولة بزيارة القدس المحتلة في إسرائيل؛ كان تاريخ خطابه الأول يوم 7 من أبريل «نيسان» 1955م؛ أرسله من السفينة التي أقلته من أمريكا عبر المحيط الأطلسي، وأعقبه خطاب ثان من السفينة، ثم بدأت رسائله من القاهرة، حيث بعث بست رسائل خلال أسبوعين أقامهما بها، وتركها إلى بغداد ليبعث منها برسالة واحدة، ثم عقب عليها ببيروت فأرسل منها رسالتين؛ ثم دمشق فأرسل منها كذلك رسالتين؛ وبعدئذ أرسل من القدس العربية أربع رسائل، ومن القدس المحتلة أربع رسائل، ومن حيفا رسالة، وختم بأربع رسائل أرسلها وهو في طريق عودته؛ من الطائرة، ومن السفينة، ومن طنجة، ومن باريس؛ فمجموع الرسائل ست وعشرون، كتبت على مدى شهرين ونصف شهر، وقد جمعت في كتاب صغير، قرأته فلمست فيه الدقة والأمانة والصدق، وأحسست من عنوانه شجاعة كاتبه في مواجهة الصهاينة؛ إذ جعل العنوان: «على من يعرف الحق أن يعلنه»، وكانت الرسائل كلها موجهة إلى شخصين بالاشتراك، هما رئيس المجلس اليهودي ومقرره.
وفيما يلي لمحات مما ورد في هذه الرسائل، ومنها يرى القارئ صورة لإسرائيل بالقياس إلى الوطن العربي، فبينما وجد الزائر اليهودي في أرجاء الأمة العربية سعة الصدر وسماحة النفس واعتدال الرأي وتسامح العقيدة وروح الإخاء؛ ما لم يسع الزائر اليهودي إزاءه إلا أن يعبر عن دهشته العميقة للفارق الفسيح بين ما وجده وما سمعه ورآه، وبين ما كان قد تسلل إلى وطنه ووهمه خلال الدعاية الصهيونية التي تطن في أرجاء العالم بعامة، وفي الولايات الأمريكية بخاصة؛ أقول إنه بينما وجد كل هذه الجوانب في البلاد العربية، ما لم يكن يتوقع شيئا منه؛ رأى العنت كل العنت - وهو اليهودي المرموق في يهوديته، والأمريكي البارز في أمريكيته - رأى هذا العنت كله من إسرائيل، قبل دخوله فيها وبعد دخوله.
فهذا هو خطابه الأول، يكتبه على ظهر السفينة وهي تعبر به المحيط، يذكر فيه حادثتين وقعتا له قبل أن يغادر بلاده بأيام قلائل؛ يقول عن إحداهما: ... إنكما تعلمان ما كنت قد لقيته من مصاعب حين أردت أن أحصل على تأشيرة الدخول في إسرائيل؛ فقد كتبت خطابا رسميا إلى أفرام هارمان - القنصل العام الإسرائيلي في نيويورك - بالإضافة إلى الطلب العادي الذي كنت قد قدمته قبل ذلك ببضعة أسابيع، وانتهى الأمر إلى أن دعيت إلى مقابلة السيد هرمان على غداء، وبدل أن نتحدث على الغداء عن تأشيرة الدخول التي طلبتها، دار الحديث عن السبب الذي يدعوني إلى الذهاب إلى إسرائيل، وما هو إلا أن تأدى بنا الحديث - بما اقتضاه منطق السياق - إلى مناقشة طويلة جدا حول مسائل مذهبية ... وأظن أنني أستطيع تلخيص ما دار بيننا حتى ساعة متأخرة من عصر ذلك اليوم، بقولي إنه كان حديثا هادئا ومنبها للتفكير، لكننا انتهينا منه إلى إدراكنا بأن ما بينه وبيني في الرأي هو ما بين القطبين؛ إذ لم يكن بيني وبينه أرض مشتركة على الإطلاق؛ فهو - كأغلبية رجال الحكومة الإسرائيلية - علماني إلى أعماقه، لا يسري فيه أدنى شعور بالعقيدة اليهودية؛ وهو يكرس نفسه لما يسميه «الأمة اليهودية» (فلا يكفيه أن يتحدث عن دولة يهودية) ... فهو يقول إن مصالح الأمة اليهودية في العالم تأتي أولا، ومنها تنبثق الدولة؛ لأنك - هكذا قال - إذا ضمنت أن يتماسك يهود العالم في شعب واحد؛ فقد ضمنت أن يتكفل هذا الشعب الواحد بإعادة دولة إسرائيل، إذا ما أصابها سوء.
وقد جرنا الحديث إلى محاولة إسرائيل تهجير اليهود من أوطانهم إليها، وعلمت منه كيف كان خلال الحرب العالمية الثانية (أي قبل نشأة إسرائيل) يمثل «الوكالة اليهودية» في رومانيا، وكيف حاول عندئذ جمع المال والنفوذ، ليستطيع بهما أن يخرج يهود رومانيا؛ ليبعث بهم إلى فلسطين، لكنه لم ينجح إلا بقدر ضئيل، ولما أبديت له رأيي في حوادث شمالي إفريقيا، التي حدثت بتحريك من الصهاينة، قال لي إن إسرائيل في الحقيقة ليست بحاجة إلى يهود عرب، ثم قال: «إنني لعلى استعداد أن أعطيك عشرة من اليهود العرب لأستبدل بهم يهوديا أمريكيا واحدا»؛ وأضاف ما معناه أن إسرائيل الصهيونية إنما تفعل ذلك لإنقاذ اليهود ممن يحيطون بهم، فاعترضته متعجبا كيف تريد إسرائيل الصهيونية هذه أن تجعل من نفسها إلها يعمل على تخليص عباده، وتساءلت لماذا تظن إسرائيل أن يهود أمريكا مثلا يحبون مغادرة وطنهم الأمريكي ليقيموا فيها؟ ولما أبديت له رأيي بأن اليهودي حيث كان، إذا هو أدمج نفسه في أبناء وطنه، يشاركهم ويسايرهم كما ينبغي له أن يفعل؛ اختفت كل مشكلة اليهود كما يتصورها، أقول إني لما أبديت له ذلك، أجاب من الفور بأن مثل هذا الدمج مضاد لأهداف إسرائيل، لأن من شأنه أن يفتت «الشعب اليهودي»، ولا تصبح بين أفراده تلك الرابطة التي هي في رأي الصهيونية جديرة بالاهتمام الأول. ثم دار بيننا حديث طويل عن يهود أمريكا، أما أنا فوجهة نظري هي أن تبقى اليهودية بالنسبة إليهم عقيدة دينية لا تمس ولاءهم لأمريكا في شيء، وأما هو فوجهة نظره - وهي وجهة نظر الصهاينة جميعا - أن جزءا من العقيدة الدينية اليهودية نفسها ينبغي أن يكون إقامة الرابطة التي تربط بين يهود العالم في أمة واحدة؛ يقول ذلك عن العقيدة الدينية اليهودية مع اعترافه في أثناء الحديث أنه لا يعبأ بهذه العقيدة من حيث هي، ولا يريد لها إلا أن تكون أداة لتحقيق أغراض السياسة الصهيونية؛ حتى لقد صارحته بوجهة نظري، وهي أن إسرائيل تريد في حقيقة أمرها أن تباعد بين اليهود وديانتهم، مصطنعة لهم موقفا دنيويا سياسيا صرفا، وبينت له أن انشطار اليهود على هذا النحو، بحيث يصبحون فريقين: فريقا يستهدف جمع اليهود تحت راية السياسة، بغض النظر عن العقيدة الدينية، وفريقا آخر يريد لليهود أن يظلوا مواطنين حيث هم، مع احتفاظهم بعقيدتهم الدينية، ليس هو بالأمر الجديد، بل ظهرت بوادره منذ الثورتين الأمريكية والفرنسية، في القرن الثامن عشر.
كانت تلك المقابلة مع هارمان إحدى الحادثتين اللتين قال الكاتب في أول خطابه إنه صادفهما قبيل مغادرته نيويورك، وأما الحادثة الثانية فهي أنه حضر مع زوجته احتفالا راقصا، اكتفيا فيه بالجلوس والمشاهدة، فشاركهما على المائدة رجل وزوجته، وسرعان ما دخلوا معا في حديث، تبين منه أن هذا الرجل يعمل في وزارة الخارجية الأمريكية، وأنه من خبراء الشرق الأوسط، ولما علم أن محدثه هو مدير الجمعية اليهودية الأمريكية - التي لا تناصر الصهيونية وجهة نظرها بالنسبة لإسرائيل - قال له ما معناه إنه لو ترك لرأيه الحر، لما رأى غير هذا الرأي المعارض للسياسة الصهيونية، وأن الوجود الإسرائيلي لا يقوم على أساس عادل، إلا إذ بترت العلاقة بينهما وبين الصهيونية العالمية.
ونقفز في صفحات الكتاب لنصل إلى الرسائل المبعوثة من القاهرة، وأهم ما ورد في الرسالة الأولى (تاريخها 14 من أبريل 1955م)، لقاء بين الكاتب وحاخام اليهود بالقاهرة، حايم ناحوم، «وهو شيخ جليل في الثالثة والثمانين من عمره، وكان قبل هذا حاخام اليهود في الإمبراطورية التركية، وقد لبث في مصر ثلاثين عاما، وهو اليوم كفيف البصر، لكنه من نفاذ الرأي ويقظة الوعي في درجة لا تستطيع أن تتخيل درجة أبعد منها؛ ولأنني أعلم التضليل الذي يذاع في أمريكا عن اليهود في البلاد العربية، فإنني أؤكد هنا أن الاجتماع بالحاخام كان في منزله، ولم يحضره أحد من رجال الحكومة ... وإنه لمن باب التفكهة أن أذكر - في مواجهة التفرقة الباطلة التي تذيعها الدعاية الصهيونية للتمييز بين العربي واليهودي - أن الحاخام يلقب ب «الأفندي» عند المصريين لولا أن هذا اللقب لم يعد يستعمل بصفة عامة في كل أنحاء البلاد بعد الثورة، على أني أريدكما أن تعلما أن اللقب كان يراد به الاحترام؛ ولذلك لم تكن دهشتي عظيمة حين ذهبنا إلى شقة الحاخام ناحوم، لأراه هناك جالسا وعلى رأسه الطربوش العربي، وتساءلت ماذا يا ترى يكون الرجع إذا ما ظهر الرجل في حفلة يقيمها الصهاينة في نيويورك؟
تحدثت مع الرجل ساعتين، وطرقنا بالحديث موضوعات كثيرة، فوجدته عدوا للصهيونية، لا يرغب في شيء رغبته في التنصل منها، وقد قص علي قصة منذ كان في الماضي مقيما في تركيا، كيف جاء عندئذ وفد صهيوني يطلب منه التوسط لدى السلطان ليسمح للصهيونيين بشراء الأرضي في فلسطين، فأفهمهم أن مثل هذه الوساطة تسره لو كان يعلم أن الأراضي تباع لليهود من حيث هم «أفراد» يعتزمون أن يكونوا مواطنين في فلسطين، لكنه لن يتوسط في ذلك ما دام يعلم أن الأراضي إنما تشترى تحقيقا لخطة «جماعية» يراد بها خدمة الحركة الصهيونية».
ومضى الكاتب في رسالته ليقول إنه لا بد لمن يريد أن يرى الحقيقة بعينيه، أن يحضر إلى هنا ليرى كيف تمارس العقيدة اليهودية بكل شعائرها في حرية تامة، وكيف يشارك المواطنون اليهود سائر أبناء وطنهم في نشاط الثورة؛ ثم يؤكد الكاتب - وكأنما هو في عجب مما يرى - أن ليس في مصر علامة واحدة تدل على اضطهاد السامية (وفاته أن يعلم أن العرب هم أنفسهم ساميون)، وقد أثبت الكاتب في رسالته هذه ما أنبأه به الحاخام ناحوم، من أنه في الأسبوع الماضي، دعي مع قادة المسلمين والمسيحيين، للمشاركة في الاحتفال برفع العلم المصري لأول مرة على مدينة السويس؛ فأين هذه المساواة في المواطنة برغم اختلاف الديانات؟ أين هي مما يذيعه دعاة الصهيونية في أمريكا؟
وفي رسالة تالية أرسلها من القاهرة (بتاريخ 22 من أبريل 1955م) يؤكد الكاتب ما ذكره في رسالته السابقة، وما يغيب عن أذهان الأمريكيين بفعل ضلالات الدعاة، من أن اليهود هنا هم عرب من العرب، يتكلمون العربية، ويرتدون ما يرتديه العرب، ويبيعون للعرب، ويشترون من العرب؛ ويقول إنه لتأخذه الدهشة الممزوجة بالعار حين يتذكر كيف يجلس الأمريكيون في جهلهم، بل كيف يبدون استحسانهم أحيانا، كلما وقف بينهم سفراء إسرائيل، ووزراء إسرائيل، يخطبون فيهم لجمع التبرعات، مصورين البلاد العربية في حديثهم في صورة بشعة، ما أبعدها عن الحقيقة كما تراها عين الرائي! أفلا يجدر بهؤلاء المنصتين هنا في إعجاب أن يجيئوا إلى هنا ليروا كيف يعيش خمسون ألفا من اليهود، مواطنين عاملين أحرارا، شاركوا حياة بلادهم في ماضيها، وفي حاضرها، وفي رسم مصيرها؟
واتصل الكاتب بصحفي يهودي في مصر، وطلب منه أن يكتب له تقريرا عن حالة اليهود في هذه البلاد؛ فكتب الصحفي يقول:
يتمتع اليهود المصريون والأجانب في مصر، بحرية كاملة في عقيدتهم، وفي التعبير عن أنفسهم وفي مزاولة أعمالهم، وقد شارك اليهود في مصر - قبل حملة فلسطين وبعدها - في اقتصاد مصر وتجارتها إلى حد بعيد؛ وحتى حين نشبت الحرب في فلسطين، لبث اليهود المصريون يتمتعون بحقوقهم كاملة، ويؤدون واجباتهم كاملة، من حيث هم مواطنون مصريون، ولم يشعر اليهود المصريون قط بأي اضطهاد أو تمييز عنصري؛ فقد كان يمثلهم نواب في البرلمان المصري، وحدث في أيام الحرب الفلسطينية أن كان عنهم نائبان في البرلمان، هما أصلان قطاوي، في مجلس الشيوخ، ورينيه قطاوي، في مجلس النواب.
وبعد ثورة 23 من يوليو 1952م، ازداد شعور اليهود باحترام حكومة الثورة لهم؛ إذ إن هذه الحكومة لم تدع فرصة واحدة تمر - دينية كانت أو اجتماعية - دون أن تنتهزها لتبين لليهود المصريين أن ليس عندها قط ما تميز به بين مواطنيها من المسلمين والمسيحيين عن مواطنيها من اليهود، فرئيس الوزراء يشارك بنفسه في أعياد اليهود، ويزور معابدهم؛ ولما شكلت حكومة الثورة في مصر لجنة خاصة لوضع دستور جديد للبلاد، عينت فيها عضوا يمثل اليهود، هو الأستاذ زكي العريبي، المحامي المصري المعروف؛ وإنك لتجد في القاهرة والإسكندرية وغيرهما من البلاد المهمة في مصر، مدارس يهودية يديرها يهود، حيث يستطيع التلاميذ اليهود أن يتعلموا العبرية بلا تدخل من أي موظف حكومي، بأية صورة من الصور.
وبرغم حالة التوتر القائمة بين الدول العربية عامة، ومصر خاصة، وبين إسرائيل؛ فإن اليهود المصريين يقومون بدورهم في حياة مصر الاقتصادية والتجارية، ولهم رءوس أموال ضخمة مستثمرة في المصانع والشركات، وفي مؤسسات الاستيراد والتصدير، وفي البنوك.
نعم، إن عددا من فقراء اليهود، تحت تأثير الدعاية الصهيونية، قد هاجروا من مصر إلى إسرائيل، لكن هذا العدد أخذ يتناقص بشكل ملحوظ منذ قامت الثورة، ويرجع التناقص أساسا إلى عاملين: أولهما التمييز في إسرائيل بين اليهود العرب واليهود الوافدين من أوروبا؛ فقد جاءت الأنباء ممن هاجروا إلى إسرائيل بأن اليهود العرب هناك يكلفون بأداء أحط الأعمال شأنا، كالعمل في المجاري، برغم أنهم قد يكونون ممن ظفروا بقسط عال من التعليم، على حين أن اليهود الوافدين من أوروبا يعاملون كما لو كانوا سادة، وكما لو كان اليهود العرب عبيدا لهم وخدما؛ وأما العامل الثاني، فهو ما يشعر به اليهود المصريون - في حكومة الثورة - بمساواة تامة بينهم وسائر المواطنين من مسلمين ومسيحيين، فهم يختارون لأنفسهم من ضروب الأعمال ما يشاءون، على حين أن زملاءهم في إسرائيل يجبرون على الأعمال التي تختارها لهم السلطات.
على أن الدعاية الصهيونية - برغم هذه الحقائق - ما تزال تجد سبيلها إلى نفوس عدد من اليهود الفقراء، الذين قد يتوهمون أنهم مصادفون ثراء في إسرائيل، فيهاجرون بمعونة تأتيهم من عملاء الصهيونية، فترسل لهم تذاكر السفر مجانا إلى مرسيليا، كما ترسل لهم إعانات مالية لإعداد أنفسهم بالثياب وغيرها من لوازم السفر. وإن الحكومة هنا لتعلم مقصد المهاجرين، ومع ذلك فهي لا تقف في سبيل هجرتهم.
ويقول هذا الصحفي اليهودي المصري في تقرير: إنني لأرى - باعتباري مواطنا مصريا يعتنق اليهودية دينا - أن الدول العظمى قد اقترفت أفحش خطيئة ضد يهود العالم، بأن أقامت دولة إسرائيل؛ لأنها بذلك قد عزلت اليهود في معظم أرجاء الدنيا، إذ نظر إليهم على أنهم موالون لهذه الدولة الوليدة، وأنهم ليسوا على ولاء للبلاد التي يعيشون فيها، وحسبوا كما لو كانوا مواطنين إسرائيليين يقيمون خارج بلادهم. وفي الوقت الذي عارضت فيه تلك الدول العظمى بكل قوتها، النازية والفاشية، واتهمتهما باضطهاد اليهود في ألمانيا، وفي الوقت الذي لم تدخر فيه تلك الدول العظمى جهدا في إيواء اللاجئين اليهود الذين طردوا من ألمانيا؛ فهي لم تصنع - حتى الآن - شيئا قط لإعادة اللاجئين العرب إلى ديارهم في فلسطين، أو لتعويضهم، وتركتهم خلال السنوات السبع الماضية (من 1948م إلى 1955م، وهي تاريخ كتابة هذا التقرير)، مشردين في الصحراء، بلا مأوى. وإننا نحن اليهود المصريين لنشعر بالمفارقة حين نرى أنفسنا في مأمن من وطننا، ثم نرى هؤلاء اللاجئين يتجرعون العيش المر في حياة متوترة قلقة.
وفي رسالة أخرى من القاهرة، وصف الكاتب مقابلة له مع شيكوريل، يقول فيها: قابلنا السيد شيكوريل في مكتبه الكائن في متجره - وهو أكبر متجر في مصر، مليء بصنوف السلع، جميل البناء، حديثه - وكان معه في مكتبه الحاخام ناحوم ونائب مدير المتجر، الذي هو عضو بارز في الجالية اليهودية. إنك حيثما توجهت هنا في لقاء على ميعاد، كانت أول خطوة في مراحل العمل هي أن تشرب فنجانا من القهوة التركية، وبهذه البداية بدأت زيارتنا للسيد شيكوريل، فقلما يبدأ حديث جاد إلا بعد أن تكون هذه الشعيرة قد تمت. وبدأت أنا الحديث - كما رجاني السيد شيكوريل أن أفعل - بأن أخبرتهم عن المجلس اليهودي الأمريكي، وعن دهشتي السارة التي دهشتها حين سمعت الحاخام ناحوم وهو يحدثني عن اليهود في مصر، والطمأنينة التي يتمتعون بها في حياتهم. وشرحت لهم كيف أن ضجة الدعاية الصهيونية في أمريكا، والدعوة هناك لجمع المعونات لإسرائيل، قد ضللت حتى أولئك الذين أرادوا منا أن يحصلوا على معلومات صحيحة عن حالة اليهود في البلاد العربية، فكان كل ما سمعناه تقريبا هو التهم التي وجهتها الصهيونية وإسرائيل إلى العرب بأنهم يريدون إبادتهم، وبأنهم يضطهدون الساميين. فأكد لي السيد شيكوريل صحة ما سمعته قبل ذاك من الحاخام ناحوم، وأن هذه التهم كلها باطلة بطلانا تاما، نعم، إن هناك شعورا بالقلق، لكنه شعور ناجم من التحول العميق الذي تتحول به البلاد من حياة إلى حياة، لا من اضطهاد موجه إلى اليهود بأية صورة من الصور. ولئن كان الفقر الشديد شائعا بين اليهود هنا، فهي حالة تصدق على مصريين كثيرين من ديانات أخرى، وإن مثل هذا الفقر لهو نفسه أحد العوامل الهامة التي أدت إلى قيام الثورة. وقد اتهم السيد شيكوريل وكلاء الصهيونية باستغلالهم لأمثال هذه الظروف القائمة، مع علمهم أنها لا تمت بصلة على الإطلاق بعلاقة اليهود بغيرهم .. ويعتقد السيد شيكوريل أنه برغم جهود الصهيونية نحو تهجير اليهود، فليس هنالك إلا عدد قليل جدا من يهود مصر يفكرون أقل تفكير في الهجرة إلى إسرائيل.
ولعل أقوى حجة قدمها السيد شيكوريل في حديثه، هي خبرته الشخصية التي صادفها في عمله؛ فقد أحرق متجره في حريق القاهرة، الذي حدث في يناير سنة 1952م - وكان ذلك قبل الثورة - فواجه هو وشركاؤه هذا السؤال: هل يعيدون بناء المتجر في القاهرة؟ أو يقررون بأن الأمل في المستقبل مسدود أمام اليهود المصريين؟ «وإن جوابنا عن هذا السؤال» هكذا استطرد شيكوريل في حديثه «لتراه قائما في هذا البناء الجديد، الذي يعد من أجمل المباني في مصر؛ فهو كاف وحده للدلالة على ما نظنه بالنسبة إلى مستقبل اليهود في مصر.»
ومضى الكاتب يقص في رسالته هذه عن حديث فرعي دار في مكتب السيد شيكوريل؛ «وذلك أن الجالية اليهودية أرادت أن تقيم لنا - زوجتي وأنا - احتفالا تكريميا، وأراد السيد شيكوريل أن يستطلع مسئولا في الحكومة رأيه في ذلك، وجاءنا شاب نابه واشترك معنا في الحديث، فأكد لنا رغبة أولي الأمر في أن يحضر بعضهم هذا الحفل؛ لأنهم حريصون أشد الحرص على أن يظهروا للجالية اليهودية ما يكنونه لهم من رعاية لأوجه نشاطهم الاجتماعي. وإذن فالحكومة لم تكتف بمجرد الموافقة على إقامة الاحتفال، بل أرادت المشاركة فيه. إن رجال الحكومة هنا يعلمون ما يتهمهم به الصهيونيون من اضطهاد للسامية، ويريدون أن يبطلوا الاتهام، وقد كان أروع جانب من حديث الشاب اللامع الذي جاءنا موفدا من الحكومة، حين أخذ الحاضرون يحددون مكان الاجتماع، فكان رأي شيكوريل أن يكون الاجتماع في مكان ما من ممتلكات الجالية اليهودية، فأصر الشاب على أن يكون الاجتماع في فندق سميراميس، تاركا الاختيار الأخير للسيد شيكوريل، لكن وجهة نظره في تفضيل الفندق للاجتماع، أقامها على أساس أنه بينما الحرية التامة مكفولة لكل فئة دينية أن تمارس شعائرها على أي نحو شاءت، فإن الحكومة حريصة على الفصل بين النشاط الاجتماعي والعبادة الدينية، وأن اجتماعا كهذا إذا ما أقيم في فندق عام، كان دليلا على الفصل بين الجانبين.» ويقول صاحب الرسالة إنه بعد حوار طريف بين شيكوريل من طرف، وهذا الشاب النابه من طرف آخر، سئل ماذا تختار لنفسك أنت، وأنت موضع التكريم؟ فأجاب بأنه برغم أنه لا يهتم بمكان الاحتفال أين يكون، لكنه يؤيد الشاب في وجهة نظره؛ لأنها هي نفسها وجهة النظر التي ينظر منها المواطن الأمريكي.
ويكمل الكاتب رسالته هذه بوصف لزيارة قام بها لمديرية التحرير، وللجهود التي رآها مبذولة هناك، واستطرد ليثني على العزيمة الماضية التي لا تكل ولا تمل، عزيمة الحكومة والزعماء في بعث الحياة بعثا جديدا. ثم يصف زيارته للمحلة الكبرى ومصانعها، وللمراكز الاجتماعية في الريف، ويختم بحديث دار بينه وبين دبلوماسي في وزارة الخارجية، تحدثا فيه عن سياسة مصر تجاه إسرائيل، فوضع له هذا الدبلوماسي النقط فوق الحروف؛ مما جعله على علم تام بموقف العرب من هذه المصيبة التي أصيب بها العرب على أيدي المستعمرين.
ونخطو خطوا خلال الرسائل المرسلة من بغداد ودمشق وبيروت، وفيها معلومات قيمة وملاحظات جديرة بالنظر، لنصل مسرعين إلى رسائل الكاتب من القدس بقسميها: العربي والمحتل.
ففي رسالة من القدس العربية، يكتب (بتاريخ 21 من مايو (أيار) 1955م) قائلا إنه يكتب والشعور يتملكه بأنه قد بعد عن دنيا الواقع بعدا لم يحس له نظيرا من قبل. وإنه لمن المفارقات الغريبة أن يكون هذا الشعور باللاواقع منبثقا من حقيقة واقعة، وهي أن الكاتب يكتب ما يكتبه، وهو قابع فوق المركز العصبي للمشكلة، التي استنفدت كل طاقاتهم وقدراتهم العقلية مدى أعوام طوال: «فها هو ذا حائط بأكمله من حوائط غرفتنا في الفندق مصنوع من زجاج، يؤدي بنا إلى شرفة رائعة، لو وقفت فيها استطعت بالفعل أن أنفذ ببصري خلال نوافذ البيوت في القدس المحتلة. وقد اجتمعت هذا المساء - في حفل ساهر - بأناس عرب، كانوا فيما مضى يعبرون هذه الرقعة الصغيرة، عائدين إلى منازلهم: لكنهم الليلة لا يستطيعون إلا أن ينظروا من بعيد، وأن يتذكروا. وإنه لمن هراء القول أن يناقش بعضنا بعضا في من هو المسئول عن كون هؤلاء الناس واقفين هنا وليسوا هناك؛ لأنه إذا كان صندوق الحلوى الزجاجي يحول بين الطفل والحلوى، فإنها عندئذ تكون حقيقة لا تغيرها حقيقة أخرى، وهي أن ثمة خلافا في الرأي عن اسم الصانع الذي صنع زجاج الصندوق! ويكفي أن تكون الحلوى ممتنعة على هؤلاء الناس هنا، بعد أن كانوا هم أصحابها.»
ويمضي الكاتب بعد ذلك في التعبير عما يشعر به في هذه الرقعة المليئة بذكريات التاريخ، التي يمر عليها الزمن وكأنما هي في أزلية أبدية لا تشارك الزمن في عبوره: «فاليوم الذي انقضى عليه الآن ثلاثة آلاف عام، واليوم الذي سنصبح عليه غدا في هذا المكان، موصولان في وحدة زمنية واحدة؛ ففي موضع قريب من قبة الصخرة كان العمل قائما لرصف طريق يمتد إلى بيت لحم، وعندما أزالت آلات الهرس بعض الأنقاض من الطريق، انكشف جزء «جديد» من جدار قديم؛ مما اضطر القائمين بالعمل أن يدوروا بالطريق في انحناءة بحيث يحافظون على الأثر المكشوف، إلى أن يقرر علماء الآثار المتخصصون ما إذا كان هذا الجدار «الجديد» القديم جزءا من «المعبد» الأصلي.»
وهنا يستطرد الكاتب ليعود إلى بعض ملاحظاته التي وقعت له في زيارته لسوريا ولبنان. وبعد ذلك يمضي في رسالتين متتابعتين يشرح ويحلل ويصف كل ما رآه في معسكرات اللاجئين، بروح ساخطة على الصهيونية التي أحدثت هذه الفظائع على رقعة كان ينبغي أن تكون آمنة مطمئنة.
ويدخل القدس المحتلة بإسرائيل، فكان أول ما أثار حيرته ودهشته وغيظه أن ذلك الرجل «أفرام هارمان» قنصل إسرائيل العام في نيويورك، كان قد أذن له بدخول إسرائيل، لكنه فيما يبدو قد سجل الإذن على صورة تثير شكوك الواقفين على الحدود؛ يبدأ الكاتب رسالته قائلا: «هذا ختام اليوم الأول - أو على الأصح نصف اليوم - لنا داخل إسرائيل؛ لقد عبرنا بوابة «مندلبوم» في الساعة الثانية بعد الظهر، وأن هذه «البوابة» في حد ذاتها لظاهرة تثير الاهتمام، وترمز للموقف كله هنا؛ فبوابة مندلبوم هي «نقطة عبور» تمتد بضع مئات من الياردات على شارع كان يوما ما شارعا عاما عاديا في القدس قبل حرب 1948م، وهو شارع يصل المدينة القديمة بالمدينة الجديدة، وأما اليوم، فعند مكان معين منه، يقوم منزل كان يسكنه فيما مضى رجل بهذا الاسم «مندلبوم»، وترى هنالك كوخا صغيرا لشرطة الأردن. أما المنزل فقد ضرب أثناء الحرب وهجره ساكنوه، فإذا ما غادرت كوخ الشرطة الأردنية دخلت في جزء يمتد بضع مئات من الياردات، هو جزء حرام لا يتبع أحدا بعينه، لكنك لا تسير عبر هذا الجزء إلا إذا كنت من قبل قد أخطرت الحراس على جانبيه (الأردني والإسرائيلي) حتى إذا ما قطعته ألفيت كوخا صغيرا آخر، حيث الشرطة الإسرائيلية تراجع أوراقك، داخلا كنت أو خارجا.»
وبعد هذه المقدمة القصيرة، يذكر لنا الكاتب أنه لولا شعوره بواجبه نحو نفسه، ولولا ما تذرع به من عناد، لما اجتاز الحدود الإسرائيلية أبدا. ثم يقص قصة ذلك الشعور كيف نشأ عنده، فيقول إنه كان قد قضى معظم الصباح محاولا الحصول على استمارة معينة تسجل عليها تأشيرة الدخول في إسرائيل ؛ لأنه لو سجلت له هذه التأشيرة في جواز سفره، لما استطاع بعد ذلك أن يدخل البلاد العربية بذلك الجواز؛ وهو يشهد بأن الموظفين في الجانب الأردني كانوا أكثر من مجرد معاونين له، فقد تطوع أحدهم بالمجيء من داره لا لشيء إلا ليضع له تأشيرة الخروج من حدود الأردن، لكنه ما إن بلغ حدود إسرائيل حتى بدأت المتاعب؛ فبرغم أن الأمر عادي ومألوف، فقد اضطر إلى أن يشرح للحراس على الحدود لماذا يريد أن توضع له تأشيرة الدخول على الاستمارة لا في جواز السفر؛ فأعجب العجب أن «ضابط الهجرة قد غافلني لحظة أدرت فيها بصري إلى السيارة التي كانت زوجتي فيها مع القنصل الأمريكي، ووضع التأشيرة على جواز السفر، لا في الاستمارة المنفصلة التي قدمتها له»، وبرغم أن الرجل أخذ يعتذر عن «الخطأ»، فإن الزائر يقول في رسالته: «لكنني على يقين من أنه خطأ متعمد.»
يدخل الزائر مع زوجته بسيارة القنصل الأمريكي في إسرائيل، فإذا بمندوب سياحي يلاقيه، ليصحبه في سيارة أعدها له إلى فندق الملك داود، وهنا اقترح القنصل أن يأخذه في سيارته هو؛ حتى لا ينقلوا الحقائب من سيارة إلى أخرى بغير داع، فما هو إلا أن أبدى مندوب السياحة غيظه الشديد، قائلا إن الزائر على كل حال عليه أن يدفع أجرة السيارة التي أعدت له، سواء استخدمها أو لم يستخدمها. وهنا يعلق الكاتب بقوله إنه عندئذ أحس بأن المسألة يستحيل أن تكون مجرد حسرة على بضعة جنيهات إسرائيلية، خصوصا أنه لم يقل إنه ممتنع عن الدفع، بل «لا بد أن يكون عند المندوب رغبة في أن ينفرد بنا - دون القنصل - حسب تعليمات وجهت إليه، وقد أثبتت الحوادث بعدئذ صدق ما أحسسته.»
وأخذ الكاتب يقارن بين ما تمتع به من حرية اختيار لما يراه وما لا يراه حين كان في البلاد العربية جميعا، وما يجده الآن في إسرائيل من شعور بالتوجيه الذي يرسم له ما يراد له فعله، سواء صادف عنده قبولا أو لم يصادف؛ «إنني لأشعر بأسف تجاه هؤلاء الإسرائيليين، إنهم في الحقيقة لا يفهموننا نحن رجال الجمعية اليهودية، ولا يفهمون العرب.» لم يكد يستقر الزائر في فندقه عشرين دقيقة حتى جاءه رجل من وزارة الخارجية، ثم ما هو إلا أن طفق يلقنه بما أرادوه له من دعاية: كيف أن إسرائيل «يحاصرها» العرب، وكيف يهدد «المتسللون» طمأنينتهم وأمنهم، وكيف أن العرب لا يريدون معهم سلاما، بل يدبرون أخذا بالثأر! ولقد صارحه الكاتب - فيما يروي - بأنه إذا كان العرب «يتسللون» لأعمال جزئية محدودة، فإسرائيل «تقاتل» قتالا على نطاق واسع، وإنه لا يرى أن مثل هذا الفعل من جانب إسرائيل - وهو متكرر - يمكن أن يكون طريقا موصلا إلى إقناع العرب بحسن الجوار. وأضاف الكاتب إلى محدثه الإسرائيلي بأنه لم يحضر ليسمع محاضرة عن التسلل العربي، بل حضر ليرى على الطبيعة الجانب الصهيوني من إسرائيل (يلاحظ أن كاتب هذه الرسائل يظن أن لو نزعت إسرائيل من صلاتها بالصهيونية العالمية، بحيث أصبحت دولة مقتصرة على حدودها، وعلى سكانها؛ فربما أمكن تثبيت السلام بينها وبين العرب).
يذكر الكاتب مضايقات كثيرة لاقاها من دليله الإسرائيلي، فإذا طلب منه أن يدبر له لقاء مع هذا الشخص أو ذاك، راوغه ليقابل غير من يريد، وإذا رافقه الدليل في أماكن سياحية، أخذ يضيف من الملاحظات الصبيانية ما ضاق له صدر الزائر، الذي لم يسعه إلا أن يكتب: «لقد ظننت أن اليهود هنا سيتمكنون من العيش «العادي» خالين من العقد التي لاحقتهم من هتلر ومن اضطهاد السامية؛ لكنني - بعد يوم ونصف - أشهد بأنني لم أجد ما توقعته؛ فهم إذا حدثوك، فإما أن يبرروا سياستهم العدوانية تجاه العرب، بأن «العرب يكرهونهم»، وإما أن يبرروا لك ضرورة اعتمادهم على اليهود الأمريكيين، ليزودوهم بالمال الذي يخلصون به اليهود من هذا البلد أو من ذاك .. إنه لواضح غاية الوضوح أن هؤلاء الناس ليسوا هم الشعب العادي الصحي المتفتح الذي قيل لنا إن الدولة «اليهودية» كفيلة بأن تنشئه؛ بل هم بالغو الحساسية لشتى المركبات النفسية التي تعتمل في حياتهم، وليس أقل تلك المركبات شأنا شعورهم بالذنب تجاه اللاجئين العرب، وإدراكهم لضرورة اعتمادهم على صدقات الأمريكيين.»
يذهب الزائر مع دليله إلى جبل صهيون، الذي يقال إن داود قد دفن فيه، ويصعد إلى القمة سلالم كثيرة، حتى إذا ما بلغها لم يجد ما توقعه من عناية ونظافة، فيسأل دليله عن سبب ذلك، فيجيبه الدليل بأن رواده على الأغلب هم من اليهود الذين وفدوا من بغداد، ثم يضيف إضافة يسخر منها الكاتب، إذ يقول: «إننا نحن (الغربيين) لم نعد نقصد إلى هذا المكان إلا نادرا.» وهنا يعلق الكاتب بقوله إن ما أغاظه من هذه الملاحظة وأمثالها من الدليل، هو هذا التناقض المنطقي في أقوال الإسرائيليين؛ لأنهم كلما نقلوا يهودا من وطنهم، وعدوهم بجنة إسرائيل، فإذا ظل اليهود الوافدون من هذا البلد أو ذاك على عاداتهم القديمة، فأين إذن الجنة التي وعدتموهم بها في إسرائيل؟! فيم هذا التفاخر عند الإسرائيلي الوافد من الغرب، على زميله الوافد من الشرق، ما دام الزعم الأساسي هو أن إسرائيل ستضم اليهود إخوة، وتخلصهم من اضطهاد غير اليهود؟ ويلاحظ الكاتب في رسائله بأنه كلما وقع في رحلاته على جزء نظيف، قال له الدليل إن هذا من صنعهم هم - يقصد اليهود الغربيين - وكلما وقع على جزء قذر، قال له الدليل إنه مستقر لجماعة من يهود الشرق؛ مثال ذلك حين مر بأحد «الكيبوتزات» - أي أماكن الحياة الجماعية - (ولاحظ أن الكيبوتزات هي موضع الفخر عند الإسرائيليين) فهاله أن يرى ما رآه من كآبة وقذارة، فالساحات تنتثر في أرجائها القمامة والصفائح الفارغة وبقايا السيارات القديمة المهجورة؛ ولما دخل قاعة الطعام المشتركة، وجدها من القذارة بدرجة لم يكن يتصورها قط؛ فعندئذ سارع الدليل بقوله: إن هذا ليس هو الكيبوتز المثالي، وسأريك غيره لترى النظافة وجمال التنسيق، ومر الزائر بقرية قديمة يسكنها يهود من اليمن، ولما لحظ الدليل على وجه الزائر دهشة من تأخر الحياة، أسرع بتعليقه على الموقف بأن أهل اليمن هكذا عاشوا في بلدهم، وهكذا يحبون أن يعيشوا! وهنا يسأل الكاتب في خطابه: هل يسع الإنسان سوى أن يتساءل في تعجب: ففيم إذن زعمتم أنكم ستخلصون هؤلاء الناس مما كانوا فيه من مرض وفقر، وطلبتم المعونة المالية لتتمكنوا من عملية الخلاص هذه؟! ثم يضيف الكاتب من عنده أنه لا يشك في أن الإسرائيليين حين وضعوا هؤلاء اليمنيين في تلك القرية، وتركوهم بغير عناية، فإنما فعلوا ذلك صدورا عن تعصب عنصري من ناحية اللون؛ لأن هؤلاء اليهود الوافدين من اليمن - كما يقول الكاتب - يكادون يكونون سود البشرة، ولم يرد الإسرائيليون «البيض» أن يمزجوهم مع سائر المجتمع؛ فماذا إذن بقي للصهيونية من دعوى تدعيها بأنها هي البلسم الشافي الذي سيقلب أرض اليهود جنة ونعيما، بالمعنى المادي والمعنى النفسي على السواء؟
إنه كتاب صغير، فيه ست وعشرون رسالة، بعث بها مدير المجلس اليهودي الأمريكي إلى صديقين له من رجال ذلك المجلس، تقرؤه فتجد بين سطوره نكهة لم نألفها عند الأمريكيين خاصة، فيأخذك شيء من الأمل إلى الاعتقاد بأن الإنسانية لن تعدم صوت الصدق يرتفع آنا بعد آن، فتطوي الكتاب وأنت تردد لنفسك عنوانه الدال: على من يعرف الحق أن يعلنه.
هذه الأفعى .. كيف تسللت؟!
هل أنسى تلك الساعة الباكرة من ذلك الصباح الصيفي الجميل، في يوم من شهر يونيو سنة 1931م، عندما نزلنا - شقيقي وأنا - في محطة اللد بفلسطين الحبيبة، نستبدل فيها قطارا بقطار، قاصدين إلى القدس؛ لنراها لأول مرة؟ هل أنسى تلك الساعة الباكرة من ذلك الصباح الصيفي الجميل، ولم تكن الشمس قد ظهرت بعد في الأفق، إلا طلائع من نورها سبقت لتنشر في الفضاء ضوءا رماديا هو أحب أضواء السماء إلى نفسي، وكان الهواء رطبا ينعش الوجوه بلمسته الرقيقة، ولم يكن على رصيف المحطة أحد في انتظار القطار - سوانا - إلا رجل يرتدي سروالا قصيرا، يبلغ إلى ما فوق ركبتيه، وقميصا فيه جيبان على الصدر منتفخان. كان معنا حقيبة وضعناها على أرض الرصيف، ولم يكن مع الرجل شيء، أخذنا نحن نذرع الرصيف بخطوة وئيدة، جيئة وذهابا، وأخذ الرجل كذلك يذرعه في اتجاه مضاد لاتجاهنا، فكنا نلتقي معه عند نقطة يختلف وضعها كل مرة، لاختلاف السرعتين، نحن في ذهابنا وهو في جيئته؛ فننظر إليه بأعين مرتابة، وينظر إلينا بعين تحملق في شر وسوء! حتى وقف ذات مرة عند حقيبتنا، فوقفنا، وبادرناه بتحية الصباح بالإنجليزية؛ إذ حسبناه من القوم، لأن سمته من سمتهم، فأجاب التحية في عبوس يشيع القشعريرة في البدن، وبدأت بسؤاله: بريطاني أنت، أليس كذلك؟ فأجاب: لا، فسألته: وماذا تكون قوميتك إذن؟ فأجاب: يهودي، فقلت في دهشة السذاجة البريئة: إنني لم أسألك ما عقيدتك في الدين، بل سألتك ما قوميتك؟ وهنا قال: نعم، يهوديتي هي قوميتي ... تبادلت مع شقيقي نظرات التعجب، وصمتنا وصمت، وجاء القطار، فاتخذنا منه مكاننا إلى القدس.
ولم نكد نخلو إلى أنفسنا في القطار، حتى تبادلنا السؤال والجواب فيما رمى إليه الرجل بقوله إن يهوديته هي قوميته، ولكن هل كان في علمنا عندئذ ما يلقي لنا الضوء؟ كان قد مضى على فراغنا من الدراسة عام، وكان كلانا ممن يتابعون ما يصدره المفكرون والأدباء، حتى ليمكن القول إننا كنا عندئذ خير مثال يضرب للمتعلم المثقف العليم بما يدور به الفكر في بلدنا على الأقل، ومع ذلك فلم يكن لنا من الدراية ما يكفي أن ندرك أبعاد هذا التوحيد الذي زعمه الرجل بين قوميته ويهوديته؛ ذلك لأننا لم نكن نعلم بما يكفينا أن نلم بما كان يجري على أرض فلسطين، ولست إلى هذا اليوم أدري، أكان التقصير منا أم كان من رجال الفكر والأدب؟
ونزلنا بالقدس في فندق متواضع، ولم نكد نضع حقيبتنا في الغرفة، حتى خرجنا، إلى أين؟ لماذا لا نجلس قليلا في هذا المقهى المقابل للفندق وهو يعج بالناس؟ إن ذكرى اللحظة ما زالت ماثلة في عيني ومسمعي: الضوء ساطع، الظل عميق، فالفواصل حادة بين الظل والنور؛ المكان متفجر بالصوت، فالباعة يعلنون عن بضاعتهم، ورواد المقهى يخبطون على المناضد، ويتصايحون، وقوة الحياة بادية. جلسنا، ولعلنا قد أثرنا حب السؤال في بعض المشاهدين، عمن نكون؛ لأن مشيتنا المترددة، ونظراتنا المتطلعة، ووقفتنا المتسائلة، كلها تعلن أننا قد هبطنا الدار لتونا، فما هي إلا أن قدم شاب وسيم إلينا نفسه، نسيت الآن اسمه، لكنه كان - فيما أذكر - قريب التخرج من دراسة القانون، وكان يشتغل بالمحاماة، واستأذن وجلس، فما فرح أحد بلقاء أحد كما فرحنا به وفرح بنا! وكان أول ما نطق به من سؤال: ما أنباء «القضية» في مصر؟ «قضية»؟! وتبادلت مع شقيقي نظرة تستفهم المعنى؛ أية «قضية» تعني يا صديقي؟ هنا أعاد علينا الشاب ذكر «القضية»، ولكن في حرارة المتحمس هذه المرة؛ «قضية العروبة أعني، قضية الوطن العربي ما أعنيه، قضية هذه الأرض الطاهرة فلسطين، التي تكاد تذهب نهب الناهبين، هي بعض ما أسأل عنه ... ما أنباء ذلك كله في مصر؟» فكيف أنسى ما اعتراني من خجل، وما وثب إلى ذهني فورا - ولم أعلنه - بما يربط حديث هذا الشاب المتحمس، بعبارة ذلك المتغطرس في محطة اللد، الذي ربط بين قوميته ويهوديته؟
وطفق الشاب الصديق الجديد يحكي ويحكي ويحكي، وأخذنا نحن ننصت لنتعلم، ولتضطرب قلوبنا لما علمناه؛ إذن فها هنا النكبة نازلة بالعرب وبالعروبة ونحن في عمى وفي صمم؟! إنه لم يكن قد مضى - حينئذ - إلا عام واحد على ضحايا حادث البراق؛ وما حادث البراق؟ هو الحادث المفجع الذي كان أشعل أول ثورة دامية في فلسطين سنة 1928م. والبراق عند المسلمين هو حائط المبكى عند اليهود، وأراد اليهود أن يستولوا عليه بعد أن كان في قبضة المسلمين، فثار المسلمون، وامتدت ثورتهم من القدس إلى سائر مدن البلاد وقراها، حتى لقد اضطرت حكومة الانتداب البريطاني إلى استخدام القوة لقمع الثورة، وصدرت أحكام بالسجن على ثمانمائة عربي، أحكام بالإعدام على عشرين؛ منهم ثلاثة نفذ فيهم الحكم من عام واحد من تلك الجلسة التي جلسناها نحن في المقهى بالقدس، نستمع إلى زميلنا الشاب يشرح لنا الأحداث، وهم الثلاثة الذين خلدهم الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان في قصيدته «الثلاثاء الحمراء»؛ لأن إعدام هؤلاء الشهداء الثلاثة قد وقع يوم الثلاثاء السابع عشر من شهر يونيو سنة 1930م. ومضى الزميل الشاب يروي كيف وضع الانتداب البريطاني أمورا خطيرة في أيدي اليهود، مكنتهم من النكاية بالعرب، والعبث بحقوقهم.
فبدر من أحدنا سؤال بريء: وما شأن اليهود في هذه الأرض العربية؟ فكان لا بد للراوية أن يروي القصة من بدايتها.
إنها رواية تروى بين قصص المستعمرين؛ لأنها رواية عن مستعمر لم يميزه عن سائر المستعمرين في القرنين التاسع عشر والعشرين، إلا أنه أشدهم جبنا، وأخسهم نذالة؛ ففي القرن التاسع عشر شب في قلوب الأوربيين سعار منهوم تجاه أفريقيا وآسيا، كل يريد أن يلتهم من الذبيحة قبضة؛ تسابق البريطاني والفرنسي والألماني والإيطالي والبرتغالي، تسابقوا إلى الغنائم، فللأسبق الظفر؛ لأن الغنيمة بغير صاحب قوي يحميها .. فدبت في نفس الصهيوني عندئذ فكرة، لماذا لا يكون بين المستعمرين مستعمرا، وتلفت في أرض الغنائم، ووقع بصره على فلسطين العربية؛ إذن لتكن هذه نصيبي.
لكن سائر المستعمرين وراءهم حكومات تئويك وتئويهم أيها الصهيوني، ألست بريطانيا مع البريطانيين، أو فرنسيا مع الفرنسيين؟ لا، لا، إنني بريطاني وزيادة، وفرنسي وزيادة، والزيادة هي أني من آل صهيون؛ فإذا كان سائر المستعمرين يخططون لأنفسهم أن يدخلوا هذه الأرض أو تلك ليقيموا بين أهلها مستغلين لهم ولها، فهدفي أنا الصهيوني هو استعمار من لون فريد؛ لأنني سأحول الأرض المستعمرة وطنا؛ ولما لم تكن الأرض التي اخترتها لاستعماري الفريد أرضا خلاء، بل هي مأهولة بسكانها، تحتم أن يلحق بالخطة الاستعمارية خطة فرعية، هي أن أحل مكانهم، وأسكن بيوتهم، وليذهبوا ما شاءت لهم الأقدار أن يذهبوا.
هكذا بذرت البذرة الأولى في رأس الصهيوني، فلكي نزداد فهما للرواية بكل فصولها؛ فلنفهم الصهيونية على أنها حركة استعمارية نشأت مع بقية الحركات الاستعمارية الأوربية في وقت واحد، وإن اختلفت الدوافع والأهداف، فإذا كان المستعمرون الآخرون يريدون ثراء وتجارة وتسلطا، فالصهيوني في استعماره يريد وطنا يحوله فيما بعد إلى دولة، ولاحظ أنني أقول «يحوله فيما بعد»، لأنه بادئ ذي بدء لم يجرؤ أن ينطق ولو مرة واحدة على الملأ بأنه يريد فلسطين العربية ليجعل منها «دولة» يهودية؛ لأنه خشي المقاومة؛ فاكتفى في البداية بقوله إنه يريد فلسطين العربية «وطنا» له، فها هنا تقل المقاومة؛ لأن الوطن الواحد قد يسعه ويسع الأكثرية العربية، كما يكون البلد الواحد في سائر أقطار الأرض «وطنا» للأقلية والأكثرية على السواء؛ أما إذا أعلنت أقلية ما، في أرض ما، بأنها تريد أن تجعل من نفسها «دولة» فعندئذ تكون المقاومة. وأدرك المستعمر الصهيوني ذلك، فلم يعلن نيته عن «الدولة»، واكتفى برغبته في «وطن».
ولماذا وردت على الصهيوني عندئذ فكرة «الوطن» هذه؛ ألم يكن بالفعل قائما في وطن؟ ألم يكن مواطنا في بلد ما؛ في إنجلترا أو في ألمانيا أو في فرنسا، أو في أية داهية تبتلعه من وجه الأرض وتخفيه؟ لا، إنه أراد أن ينفرد وحده بحركة استعمارية تميزه، ولما كانت الموجة الاستعمارية التي عمت أوروبا في القرن التاسع عشر، قد صحبتها موجة شقيقة لها، هي موجة التعصب القومي، فلم يكن بد أمام الصهيوني - حتى تكون محاكاته كاملة وتامة - أن يقرن استعماره هو الآخر بجانب قومي، فكيف يكون ذلك إلا أن يجعل الأرض التي اختارها ليستعمرها وطنا قوميا له في الوقت نفسه، وبهذا تتم له العناصر كلها: استعمار وقومية معا؟! ولما كان لكل «قوم» ذوي «قومية» حدود جغرافية، فليجعل هو حدود قوميته عنصرا وديانة، فتكون قوميته هي يهوديته، كما قال لنا اليهودي المتعجرف في محطة اللد.
الصهيونية حركة استعمارية، فيها مقومات الحركات الاستعمارية التي أنبتتها، ثم زادت عليها أنها تخفت في جبن، وخبثت في نذالة، فهي الأفعى تسللت مقنعة بعنصر ودين، ولو كان العنصر والدين قوام الصهيونية - مجردا من الاستعمارية - لاتخذت الصورة نفسها التي تتخذها مشكلات العنصرية والأقليات الدينية، وهي على وجه الأرض كثيرة.
ثم لم تترك الصهيونية صلتها بالاستعمار على هذه الصورة المجردة، فربطتها بمستعمر معين في ظروف معينة، هو المستعمر الذي ربط أواصر استعماره بأرض فلسطين، وأعني بريطانيا.
وكانت بريطانيا أول الأمر واحدة من آحاد، كانت ذئبا من قطيع الذئاب الأوروبية الهاجمة على فرائسها في أفريقيا وآسيا، لكنها كانت تختلف عن بقية الذئاب بأنها ابتلعت قارة الهند بأسرها بين ما ابتلعته، فإذا كان الآخرون يبحثون عن فتات هنا وهناك، فهي أيضا تبحث معهم، لكن عينيها وقلبها وفؤادها موصولة بالغنيمة الضخمة؛ كيف تصونها وتحميها! ومن هنا كانت أهمية كل طريق مؤدية إليها، ومن أهمها قناة السويس. وكمن يمتلك في يده جوهرة نفيسة، يخشى عليها السطو، فيحيطها بغلاف من ورائه غلاف، ومن وراء الغلاف غلاف، ثم يضع هذا كله في صندوق يحويه صندوق؛ فكذلك أرادت بريطانيا أن تصون الهند بصيانة قناة السويس، وأن تصون القناة بصيانة ما يحيط بها، ثم ما يحيط بالمحيط! ومن هذه الأغطية المحيطة أرض فلسطين العربية، لكنها أرض - كغيرها من الأراضي العربية - تحت حكم الأتراك؛ فماذا تصنع يا ترى؟ أتتركها مع الأتراك لتكون لها ذريعة تتذرع بها كلما طمع طامع أوروبي كفرنسا أو غيرها؟ أم تنتزعها من الأتراك لتطمئن على حوزتها لها؟ لقد أرادت لنفسها البديل الأول في بادئ الأمر، حتى نشبت الحرب العالمية الأولى، وانضمت تركيا إلى أعداء بريطانيا، فلم يكن لها مناص عندئذ من أن تختار البديل الثاني؛ لكنها لكي تختار هذا البديل الثاني كان يجب أولا أن تتحرر الأرض العربية من تبعيتها للسلطان التركي؛ ومن ثم كان تحريكها للثورة العربية على الأتراك؛ لتتمهد لها الخطوة الأولى على أيدي العرب أنفسهم؛ فلما تم لها ما أرادت، همت بالخطوة الثانية، وهي أن تكون لها هي السلطة، لا في مصر وحدها - أرض القناة - بل في هوامشها كذلك، ومنها فلسطين.
وها هنا لمحت الأفعى فريستها على مبعدة، فزحفت زحفا كان أوله وئيدا، وكان آخره افتراسا؛ فلماذا لا تتعاقد الصهيونية مع بريطانيا، كما يتحالف شيطان مع زميله الشيطان على شر يدبرانه؟ فتعمل الصهيونية بأموالها ونفوذها على ترشيح بريطانيا في مؤتمر الصلح أن تعين دولة منتدبة لحماية هذه القطعة من الأرض حتى يحين الظرف المناسب لاستقلالها، خشية أن تسارع إليها فرنسا أو غيرها، وماذا في مقابل ذلك؛ في مقابله أن يعد بلفور سنة 1917م، وعده المشئوم، بأن تكون فلسطين وطنا لليهود (ولم تكن نية «الدولة» قد كشف عنها الغطاء بعد)؛ وهكذا حبكت خيوط المؤامرة بين مستعمرين؛ فنفذ المستعمر البريطاني ما اتفق عليه، وأصدر إعلانه ذاك، وبعدئذ تقدم المستعمر الصهيوني فدفع الثمن، وهو أن يسعى في مؤتمر الصلح لتنصيب بريطانيا دولة منتدبة على فلسطين.
ولم تكد بريطانيا تتسلم زمام الأمور هناك، حتى أطلقت يدها في إفساح الطريق أمام شريك السوء؛ فكان أول مندوب سام لها في فلسطين صهيونيا، ليطهو الوليمة على مزاجه، وفتحت الأبواب واسعة أمام المهاجرين اليهود، وأعطيت الأرض التابعة للحكومة لبعض هؤلاء الوافدين يستعمرونها، وأذنت لليهود أن يقيموا لأنفسهم مدارسهم الخاصة، ومنظماتهم العسكرية الخاصة، وأغمضت العين عن عصابات الإرهاب. وماذا عن العرب في ذلك الحين؟ لم ينقطعوا عن احتجاجهم، يطلبون من الدولة المنتدبة أن تطمئنهم على مصيرهم، فترد الدولة المنتدبة بحرمان يقع على العرب بعد حرمان! ومضت السنون، فإذا بالجماعة اليهودية تزداد أضعافا مضاعفة؛ في العدد، وفي المناصب الرئيسية، وفي النفوذ، بمقدار ما يتضاءل العرب.
وقامت الحرب العالمية الثانية وانتهت، وكان المارد قد نما حتى لم يعد حضن الحاضنة يكفيه، فأعلنت الحاضنة فطام ربيبها، فانطلق العظيم المارد يبرطع في ظل حامية أخرى أغنى وأقوى، تمخضت عنها الحرب الثانية؛ هي الولايات المتحدة الأمريكية، فعملت على أن تعلن إسرائيل «دولة» كسائر الدول.
صنع المسخ، وقال له صانعوه: كن «دولة»، فلم يكن؛ لأنه يعوزه كل مقومات الدولة السوية، ولذلك النقص في تكوينه؛ لجأ إلى سياسة ذات شعب ثلاث، لا يلجأ إلى أي منها إلا من ركبته عقدة النقص، فزادته مرضا على مرض؛ أما هذه الثلاثة الأثافي فهي العنصرية أولا، والعنف ثانيا، وشهوة التوسع ثالثا.
أما العنصرية فهي علة كامنة في صلب الصهيونية؛ لأنها هي الدعامة التي على أساسها زعمت أن لها كيانا قائما بذاته ، فإذا كانت الجماعات في مختلف جهات الأرض يربط أفرادها لغة أو حضارة أو تاريخ، أو وحدة اقتصادية، أو وحدة ثقافية، أو غير ذلك من العوامل التي تربط الأفراد في جماعة؛ فإن إسرائيل وحدها، دون خلق الله جميعا، هي التي لا يرتبط أفرادها بشيء من ذلك، وإنما تتخذ رباطها من عنصريتها، زاعمة أن اليهود جميعا يرتدون إلى أصل واحد، فلا الديانة نفسها ولا اللغة عند الصهيونية بكافية للترابط، وإنما الرابط عندها هو انتماء الأفراد إلى أصل عرقي واحد، وهو الشيء الذي لا تجد على وجه الأرض واحدا من علماء الأجناس يعترف بوجوده؛ فالجنس النقي الخالص من الأخلاط، خرافة خلقتها أوهام الطامعين تحقيقا لأطماعهم، وحق لهم أن يلوذوا بهذا الوهم؛ لأنهم لو قالوا إن رباطنا هو العقيدة الدينية، وجدوا أن العقيدة متباينة فيما بينهم أشد التباين، ولو قالوا إنها اللغة العبرية، وجدوا أن العبرية لم يكد يتكلم بها أحد ولا أن يكتبها أحد قبل مولد الصهيونية.
وقد تولدت نتائج عن العنصرية الصهيونية، منها أن يتكتل اليهود تكتلا يترك فجوة بينهم وبين سواهم، كأنهم أثر خرب أحاط به خندق. ومنها أن شطح المنعزلون مع الوهم فظنوا أن انعزالهم ذاك علامة تفوق، وإذا بدأت جماعة من الناس بعزل نفسها بنفسها تعذر عليها بعد ذلك أن تنساب في جسم الأمة التي يعيشون بين ظهرانيها. ولكن ها هنا العجب أشد العجب؛ فقد صنع اليهود الصهيونيون هذه العزلة بأيديهم عامدين متعمدين، ليقولوا للناس انظروا كم تضطهدنا الشعوب الحاقدة، لكنهم في الوقت نفسه يسرون لأنفسهم قائلين: إياكم والاندماج في سائر الناس؛ فالعدو الأكبر للصهيونية ليس هو الاضطهاد العنصري كما يزعمون، بل عدوهم الأكبر هو من يقول لهم: ها نحن أولا قد فتحنا لكم صدورنا لتخالطوا وتختلطوا وتفنوا فينا ونفنى فيكم! هذا هو عدوهم، وإن حسب أنه هو الصديق؛ لأن تجارتهم كلها قائمة على أساس العزلة العنصرية، لقد حدث لكاتب هذه السطور في أثناء مقامه في أمريكا، وبعد أن ألقى محاضرة عن موقف العرب وإسرائيل، أن سئل: لماذا تضطهدون العنصر السامي؟ فقال للسائل: لكننا نحن العرب ساميون فكيف نضطهد السامية؟! فأخذت الحاضرين دهشة، كأنما هم يسمعون هذه الحقيقة لأول مرة، غير أنني لا أعلم كم من هؤلاء الحاضرين قد أدرك بأن اضطهاد السامية هذا بضاعة زيفت عليهم؛ وإنما زيفت عليهم البضاعة ليجدوا الأساس الذي ترتكز عليه الصهيونية في إقامة دولة لهم هم وحدهم، تجمع أشتاتهم، كأن للمسيحيين دولة، وللمسلمين دولة، وللبوذيين أو للهندوكيين دولة!
وإنه لمما يلفت النظر في هذا السبيل؛ أن اليهود حينما فتحت لهم أبواب فلسطين يهاجرون إليها أفواجا أفواجا - قبل أن تكون فكرة الدولة اليهودية لأحد في حساب - مضوا في مبدئهم إلى نهايته، وصمموا على ألا يخالطوا عرب فلسطين، وحرموا على أنفسهم أي شيء مما ينتجه العرب، بما في ذلك الأيدي العاملة؛ فبدا للغافلين عندئذ أن انعزال اليهود في فلسطين ليس كانعزال المستعمرين في البلاد التي استعمروها عن أهل البلاد؛ فانعزال هؤلاء المستعمرين عن الأهالي كان غطرسة وكبرياء وترفعا، وأما اليهود النازحون إلى فلسطين - هكذا بدا للغافلين - فلو أرادوا غطرسة كتلك لاستخدموا الأيدي العاملة من العرب، أما وهم يتولون أعمال أنفسهم بأنفسهم؛ إذن فالمسألة مسألة «عنصرية يهودية» اعتزلت لا أكثر ولا أقل، ولكن لم يكد يحقق اليهود أملهم في قيام دولتهم، حتى أبدوا للعرب الذين ظلوا بأرضهم لم يهجروها، كل صنوف الغطرسة والكبرياء والترفع، أعني أنهم اصطنعوا نحو هؤلاء العرب كل ما يصطنعه أي مستعمر نحو «الأهالي» الوطنيين في البلد الذي يستعمره؛ لا، بل كانوا أنكى من أي مستعمر آخر وأضل سبيلا؛ لأن الأول يبقي على من يستعمره ليستخدمه، على أقل تقدير، وأما الثاني فقد أراد أن يمحو أبناء البلد المستعمر (بالميم المفتوحة) محوا، ويستأصلهم استئصالا من الأرض؛ تماما كما أراد أن يصنع النازيون باليهود حلا لإشكالهم، فإذا ما بقي منهم أحد على أرضه، عومل بأشنع ما عرف العالم من تفرقة واضطهاد.
لقد بقيت في فلسطين المحتلة جماعة من أهلها لم ينزحوا عنها، فكيف تظنهم يعاملون هناك على أيدي اليهود، سادة آخر الزمن؟ إنهم أولا ينحصرون في مناطق لا يتعدونها، وهم وحدهم هناك خاضعون للأحكام العسكرية؛ يتولى الأحكام في مناطقهم ضباط عسكريون، لا قضاة مدنيون، ومن أيسر الأمور أن يحكم على من يريدون الحكم عليه بالنفي عن البلاد، والبقية العربية هناك هي وحدها - دون سائر سكان البلاد - لا ينتقل أفرادها من مكان إلى مكان إلا بتصريح، وهي وحدها التي لا يسمح لها بحرية الكلمة، ولا بحرية الاجتماع، ولا بإصدار الصحف، ولا بتكوين الأحزاب السياسية، وهي وحدها التي يقف التعليم لأبنائها عند حد محدود لا يعدوه، وهي وحدها التي تقام أمامها العراقيل في ميادين العمل، حتى ينال منهم التعطل قبل أن ينال من سواهم! والخلاصة أن تلك البقية العربية هناك لا تتمتع بحقوق المواطنة الكاملة.
وإلى هذا الحد، ومن أجل هذه الأهداف، يستغل اليهود مبدأهم المصطنع بأنهم مجموعة من البشر اضطرها الناس إلى التقوقع، فكان أن أصبحت في عزلة عن الناس، هي عزلة اختاروها اختيارا ليتخذوا منها منطلقا ينقضون منه في ستر الخفاء على فرائسهم، ما لم تكن تلك الفرائس منهم على يقظة وتنبه.
التقوقع اليهودي - إذن - هو أحد الأسلحة التي تستخدمها الصهيونية تحقيقا لأغراضها، وأما المبدأ الثاني فهو اصطناع وسيلة الإرهاب والعنف عندما تتاح لهم أول فرصة لاصطناعها؛ وهم إذ يستخدمون العنف لا يستخدمونه استخدام الباسل الجريء، بل يستخدمونه كما يستخدمه الذليل الجبان؛ فهم بعد أن استغلوا موقف العرب الأعزل من السلاح، وانقضوا عليهم بجماعاتهم الإرهابية المسلحة أيام الانتداب البريطاني، بل تحت رعاية ذلك الانتداب، لم يترددوا حين سنحت لهم الفرصة في أواخر أيام الانتداب أن يستديروا بإرهابهم نحو من كانوا بالأمس حماتهم من الإنجليز أنفسهم؛ ولما قامت دولتهم ونشب القتال بينهم وبين الدول العربية، وتدخلت منظمة الأمم المتحدة، لجئوا إلى رصاصهم الغادر يسكتون به كل من تحدثه نفسه الشريفة من رجال الأمم المتحدة أن يميل نحو الإنصاف والصدق. ولما عقدت الهدنة بينهم وبين جيرانهم العرب، أغوتهم نذالتهم حينا بعد حين بهجمات في الظلام، يعقبها هروب واختفاء. ثم توجت خستها في تواطئها مع شريكتيها على العدوان على مصر، فيما يسمى بحرب السويس سنة 1956م.
ويبقى من مبادئهم الثلاثة مبدأ التوسع على حساب الآخرين، بتخطيط مدبر في الخفاء؛ فكما أخذوا يدبرون سطوهم على فلسطين العربية خطوة فخطوة، حتى أصبح الوهم حقيقة في أعينهم، مضوا في تدبيرهم للتوسع في أرض جيرانهم؛ ومبدؤهم هنا هو كمبدئهم في أي ميدان آخر؛ أي إنهم يخططون في ظلمة الليل، وينكرون ويكذبون إذا ما كان ضوء الصباح، ويظلون كذلك إلى أن يظنوا أن الغدر قد تكاملت لهم أسبابه، فعندئذ يفاجئون ويباغتون! أما إلى أي حد يريدون أن يتسع ملكهم على الأرض؛ فجواب ذلك بحسب الظروف، حتى لقد يلجئون إلى التوراة يستخرجون منها أحيانا ما ينبغي لهم أن يمدوا ملكهم إليه، لكن عبارة «من النيل إلى الفرات» كثيرا ما ترد في غضون أحلامهم.
وما دروا أن لحظة واحدة من لحظات العزيمة العربية، قد تقوض بنيانهم فوق رءوسهم، إن لم يكن اليوم، ففي الغد القريب.
العنصرية والعسكرية معا
1
كثيرا ما يضيق بالإنسان خياله، حتى لينحبس في حدود الواقع لا يجاوزها، فيتعذر عليه عندئذ أن يتصور إمكان الخروج من هذا الواقع نفسه إلى واقع آخر يملأ مكانه؛ كالذي يشخص ببصره إلى جبل راسخ، فلا يتسع خياله إلى جواز أن تتحول صخور الجبل إلى عمائر ومعابد تقام لتعمر بها المدن، أو كالذي ينظر إلى البحر فلا يسعفه الخيال لينفذ خلال اللحظة الحاضرة إلى ما سوف يتولد عنها، حين يتبخر شيء من ماء هذا البحر ليسقط مطرا على يابسة، فتسيل الأنهار، وتلد تربة الأرض نباتا مختلف الطعوم والألوان؛ فأشد المفكرين إخلاصا للواقع واحترام حدوده، لا ينفي أن يتحول الأمر من واقع إلى واقع جديد؛ بل إنه بغير هذا التحول الذي ما انفك ساريا في صلب الطبيعة منذ الأزل، وسيظل ساريا في صلبها إلى الأبد، ما كان ليصبح للدنيا تاريخ يقص قصة كائناتها، بل ما كان ليكون لها وجود بالمعنى الذي يفهمه الإنسان ولا يفهم سواه.
لقد شهد التاريخ الإنساني - في رأي توينبي - نحو عشرين حضارة، منها ست عشرة ذهبت مع الريح كأن لم تغن بالأمس، وبقيت هذه البقية القليلة من حضارات تحاول أن تثبت أقدامها في الأرض لئلا تزول، وبينها حضارة واحدة واثقة بنفسها شامخة برأسها راسخة بجذورها، هي الحضارة الغربية، وهي كلما سمقت بقامتها؛ ازدادت منافساتها انزواء في عتمة الخفاء! على أن هذه الحضارة الغربية نفسها، قد أخذت اليوم تغوص بأقدامها في وحل الطريق، بما يعترضها وما يكتنفها من مشكلات انبثقت لها من طبيعة تكوينها، لكنها ما زالت في حيويتها، ولها من القدرة - بعلومها وفنونها - ما يمكنها من تناول هذه المشكلات الطارئة عليها، بمعالجات تزيلها أو تخفف من حدتها، وهكذا دواليك، تتعاقب عليها الحالتان، كما تتعاقبان على كل كائن حي: أزمات فانفراجات لها.
وإن صنوف المشكلات والأزمات التي تعترض الحضارات في طريق صعودها؛ لهي من الكثرة بحيث يستحيل حصرها، وكل ما يسعنا فعله هو أن نستقطبها في أقل عدد ممكن من الرءوس؛ لتسهل الرؤية ويتحدد النظر؛ فإذا أخذنا بما انتهى إليه توينبي في هذا الصدد؛ قلنا إن جميع الحضارات التي سلفت وزالت، إنما تحطمت على إحدى صخرتين، أو على الصخرتين معا، وهما: الروح العسكرية التي تميل بأصحابها إلى شن حروب لا تنقطع، حتى ينهد كيانهم من الداخل، ثم الروح العنصرية التي قد يشتط بها أصحابها إلى إيجاد ضروب من التفرقة بينهم وبين سواهم من البشر، بحيث يجعلون لأنفسهم المكانة العليا في تلك التفرقات، ولغيرهم المكانة الدنيا؛ فإذا ما طبقنا هذه القاعدة الحضارية على الوجود الإسرائيلي، أيقنا بمصيرها المحتوم؛ لأنها جمعت القبيحين اللذين يعملان على هدم الحضارات ومحوها، إذ جمعت في كيانها: العسكرية والعنصرية معا.
2
إن ذبول الحضارات وموتها قلما تجيء عوامله من خارج حدودها، وإنما تجيء تلك العوامل دائما من صلب كيانها؛ بل لعل هذه الحقيقة العجيبة أن تكون سمة لكل حياة - حياة الفرد أو حياة المجموع على حد سواء - فكأنما كل حالات الذبول والموت هي حالات انتحار، نبعت عواملها من الداخل. ولو فرضنا وجود أمة سليمة من داخلها، فيكاد يستحيل على مثل هذه الأمة أن تزول ، حتى لو غزاها الغزاة؛ فهي سرعان بعدئذ ما تقوم قائمتها عندما تزول عنها غمة الغزو - ولا بد لها أن تزول - وربما تعرض أولئك الغزاة أنفسهم، بعد حين يقصر أو يطول، للضعف والفناء، إذا ما كانت طويتهم الاجتماعية مصابة بمرض.
ومن ذا الذي لا يقفز إلى ذهنه في هذا السياق مثل أثينا وإسبرطة من تاريخ اليونان الأقدمين؟! فقد كانت أثينا معافاة من الوجهة الحضارية، وأما جارتها إسبرطة فقد لعبت برأسها الروح العسكرية، فما كادت المدنيتان تتلاقيان على ساحة الحرب (وكان ذلك في القرن الخامس قبل الميلاد) حتى حققت إسبرطة العسكرية نصرا على أثينا المترعة بحب الحكمة والتزام الحياة المعتدلة المتزنة المعلية من شأن الحق والخير والجمال: ولكن كم بقيت أثينا في جسم الحضارة الإنسانية على مدار التاريخ وكم بقيت إسبرطة؟ إن ما كان بين أثينا وإسبرطة من اختلاف النظر والتكوين؛ قريب جدا مما هو اليوم بين العرب وإسرائيل، وسأنقل إلى القارئ صورة لمدينة إسبرطة كما صورها المؤرخون، ثم أترك له أن يرى لنفسه كيف أنه يقرأ عن إسبرطة القديمة، فيحسب أنه إنما يقرأ وصفا لإسرائيل الحديثة، فإذا وجدنا شبه التطابق بين الجماعتين؛ جاز لنا أن نحكم على مصير الثانية بما حكم به التاريخ على مصير الأولى.
كان الجيش عماد السلطة في إسبرطة، ومناط فخرها؛ لأنها وجدت في شجاعته ونظامه ومهارته أمنها ومثلها الأعلى وكان كل إسبرطي يدرب تدريبا عسكريا، ويؤمر بأن يكون على أهبة استعداد لدعوة الحرب، وبفضل التدريب العسكري العنيف أمكنهم تكوين فرقة حربية من المشاة المتراصة الثقيلة قاذفات الحراب، غايتها أن تقذف الرعب في قلوب الأثينيين بصفة خاصة، وكان الجيش في إسبرطة هو المحور الذي صيغت حوله قوانين الأخلاق؛ فالفضيلة عند الإسبرطي هي أن يكون قاسيا عنيفا، والسعادة مكانها ميدان القتال.
كانت هذه السياسة الإسبرطية في تدريب المواطنين جميعا تدريبا عسكريا، وإعدادهم جميعا للحرب، قد حتمت على القائمين بالأمر فيها أن ينزعوا الأطفال من أمهاتهم وهم بعد في أيام الرضاعة؛ لتتولى الحكومة تنشئتهم على الخشونة والصرامة ونضوب كل عاطفة من القلوب! ولم يكن أصحاب السلطان ليترددوا لحظة في سحق الطفل الضعيف بأن يلقوا به من قمة عالية ليهوي مهشما على سنان الصخور! ويروي فلوطرخس (بلوتارك) عن الرائد الإسبرطي ليكرجوس أنه كان يسخر من احتكار الأزواج لزوجاتهم: ويقول إن من أسخف السخافات أن يعنى الناس بكلابهم وجيادهم، فيبذلوا كل ما في مستطاعهم ليحصلوا على أقوى السلالات وأجودها، ثم تراهم مع ذلك في حياتهم البشرية يعزلون زوجاتهم في حصانة ليختصوا بهن في نسل الأبناء، وقد يكونون ضعاف العقول ومرضى الأبدان.
كانوا يجمعون الناشئة في مراكز التعليم والتدريب، ويعرضونهم لأشق الأعمال وأغلظ ضروب العيش، لا حبا في رياضة الأجسام - فقد كانت أثينا مولعة برياضة الأجسام - بل كان ذلك سبيلا إلى كسب المهارة في القتال ... ويستطيع القارئ أن يتعقب صورة الحياة الإسبرطية بتفصيلاتها في أي كتاب يروي عن حياة اليونان (ونذكر له في هذا الصدد كتاب «قصة الحضارة» تأليف ول ديورانت، على سبيل المثال).
وبينما كان الإسبرطي مشغولا بالحرب والإعداد لها؛ كان على مقربة منه يوناني آخر، هو ابن أثينا، يحيا حياة أخرى، مدارها القيم العليا التي تنشد حياة السلم قبل أن تفكر في الحرب، وهي إن حاربت؛ فمن أجل سلام يجيء بعد حرب. وشاء الله للمدينة المتحضرة بقيمها أن يكون لها النصر آخر الأمر.
3
ومن إسبرطة التي ضربنا بها مثلا لقوة عسكرية بلغت مداها، فلم تلد آخر الأمر لأصحابها إلا زوالا في عالم النسيان، ننتقل إلى مثل آخر نضربه للغاية نفسها، هو جنكيز خان، وأستأذن القارئ في أن أنقل أسطرا كنت كتبتها عنه منذ سنين، قلت فيها:
الرجال الأعلام، والأحداث الجسام، هي المعالم المضيئة التي يستهديها الرائي، إذا ما كر ببصره راجعا؛ ليرى كيف سارت الإنسانية في طريقها، منذ فجرها حتى بلغت هذا الذي بلغته في يومنا الراهن. وعبرة التاريخ تأتينا من المصلحين ومن المفسدين على حد سواء؛ فمن الأولين نأخذ الدرس كيف نبني، ومن الآخرين نتعلم أي صنف من الرجال نتجنب. ولقد كان جنكيز خان من هؤلاء الرجال الذين يهبطون على عباد الله الآمنين، يهبطون وكأنهم الإعصار المجنون الذي يقتلع النبت من جذوره، ويهدم البناء من أساسه، ثم يمضي والأرض من خلفه بلقع يباب! وما ظنك بهذا الرجل وقد ظهر من لا شيء، ليعدو بجياده وجياد أتباعه الذين أخذوا يتزايدون في سرعة مذهلة، أقول إنه ظهر من لا شيء ليعدو بجياده فوق السهول هنا ، وعلى متون الجبال هناك، كأنه الشيطان المريد؛ فما هو إلا أن بسط سلطانه من حدود الصين القصوى على شاطئ المحيط الهادي شرقا، إلى قلب أوروبا وإلى عواصم المسلمين غربا. حتى إذا ما استقر له هذا السلطان العريض في سنوات قلائل، سأل ضابطا من أتباعه ذات يوم: ماذا يعود على الإنسان بالسعادة القصوى؟ فأجابه الضابط: جواد سريع يجوب به السهول الخضراء، وعلى رسغه باز يطير ليعود بطراد الصيد، فقال الطاغية ليصحح تابعه: كلا، بل السعادة أقصى السعادة هي أن تسحق العدو سحقا، حتى يجثو خاشعا عند قدميك، ثم تسلبه كل ما يملك، ومن حوله نساؤه يعولن باكيات!
ذلك مثل أعلى عند الهمج الطغاة، ولكنه ليس بالمثل الأعلى عند من هذبته الحضارة وصقلته الثقافة. ولقد كان ذلك هو الحلم الذي طاف برأس هذا الرجل العجيب، منذ أول صباه، حتى ليروى أنه ما كاد يكون له نفر قليل من الأتباع، حتى جمعهم في مجلس، ليعلن فيهم قائلا: لقد زعم لنا الحكماء الكهول أن القلوب والعقول إذا تباينت استحال عليها أن تجتمع في جسد واحد، لكنني سأجعل من حياتي برهانا على كذب ما زعموه، وسأجمع في شخصيتي شتى أرجاء العالم من حولي، مهما اختلف أهلوها عقولا وقلوبا. ثم استمع إليه وهو في بدء قوته يقول لخلصائه: لئن اعتمد التاجر على بضاعته التي يعرضها للبيع كسبا للربح، فاعتمادنا نحن على شيئين: الدهاء والقوة - وبالدهاء والقوة امتد له السلطان - وبسط سلطانه من أقصى اليابس إلى أول المحيط! وإننا لنعجب - كما عجب مؤرخ فارسي - حين قال: ألم يصل إلى أسماعكم أن عصابة من الرجال، موطنها عند مشرق الشمس، قد نهبت الأرض نهبا على ظهور جيادها، حتى طرقت أبواب قزوين؟ لقد نشروا الدمار بين الشعوب، وبذروا الهلاك على طول الطريق، ثم عادوا سالمين، يحملون الغنائم إلى سيدهم، وكل ذلك قد تم في أقل من عامين.
لكن هذا البهرج لا يخدع من آتاه الله حكمة، فهذا حكيم من الصين، كان الطاغية قد اصطفاه، حذره يوما قائلا: لقد غزوت إمبراطورية وأنت على صهوة جوادك، ولكنك لن تستطيع أن تحكمها وأنت على صهوة هذا الجواد. وقد صدق الحكيم؛ لأن الحكم قوامه فكر وبصيرة ورؤية وسياسة وبناء، وهذه كلها لا تجيء خطفا، كما قد يجيء الغزو خطفا. ثم حدث لهذا الطاغية مرة أخرى أن سمع بحكيم صيني؛ فأرسل إليه يدعوه للشورى، وجاءه الحكيم واثقا من قوة روحه - وإن لم تكن في يده قوة السلاح - حتى مثل أمام الطاغية؛ فلما استنصحه الطاغية ماذا يفعل وقد غزا ما غزا، وحكم ما حكم؟ قال الحكيم: النصح عندي هو أن تعيش في سلام، وأن تكف عن إزهاق أرواح الناس.
ولكن من نشأ نشأة جنكيز خان، ومن نجح نجاحه، هيهات أن يعرف الحياة المسالمة، وأن يكف عن سفك الدماء إلا مرغما، أفتدري من ذا الذي أرغمه، وأوقفه، ورده على أعقابه أو على الأصح: رد أتباعه؛ لأنه كان قد لقي حتفه ورجع مع الراجعين جثمانا محمولا على عربة؟ إنهم هم العرب المسلمون، وإنه لفضل لهم يضاف إلى أفضال في تاريخهم المجيد، أن يكونوا دعامة للحضارة وللثقافية، كلما أحاق بالحضارة وبالثقافة خطر داهم ... فليست عظمة الإنسان في أن ينتفخ كالفقاعة الفارغة، ثم ينفجر جداره الهش، فيذهب كأن لم يكن منذ لحظة، بل عظمة الإنسان هي في أن ينتج ما يمكث في الأرض تراثا للإنسانية خالدا.
4
لم يكن السؤال الضخم الذي ألقته الحضارات البشرية على نفسها هو: كيف يكون النصر في الحروب؟ بل كان: كيف يمكن التغلب على الحروب لتزدهر الحياة في ظل السلام؟ وهو سؤال جاءت محاولات الإجابة عنه في إحدى صور ثلاث: الصورة الأولى هي أن تحاول الدولة القوية بسط سلطانها على بقية العالمين - إذا أمكن ذلك - لتسكت فيها كل صوت للمعارضة، ومن ثم فهي تخرج من معارك الحروب بحالة من الصمت الأخرس عند المغلوب، وتخيل لنفسها أنها في حالة السلام المنشود، ولا عليها عندئذ أن تفرق بين استسلام وسلام. والصورة الثانية هي أن تعقد الدولة الراغبة في كتم أنفاس الآخرين أحلافا مع مجموعات من دول تجد صوالحها محققة في التحالف معها، بحيث يكون لتلك الأحلاف من القوة ما يضمن لها أن تظل سيوف الأعداء مشلولة في أغمادها؛ فتعد هذا الشلل سلاما، ما دام قد كفل لها امتناع القتال. والصورة الثالثة أن تسعى الدولة الراغبة في اجتناب الحرب نحو إقامة حالة من التوازن بين سائر القوى؛ لعل هذا التوازن أن يحقق السلام.
ولما كانت روح «العسكرية» هي التي استبدت بإسرائيل؛ رأيناها تبدأ شوطها لا بالبحث عن سلام، بل بالبحث عن طريق للنصر في حروب تشنها؛ حتى إذا ما وجدت حولها عالما يسعى إلى السلام، سايرت بدورها هذا التيار الساعي إلى السلام باللفظ لا بالحقيقة؛ ولذلك اختارت لنفسها الصورة الأولى من الصور الثلاث التي أسلفناها، أعني الصورة التي تفرض بها سيادتها العسكرية المطلقة، فإذا استطاعت بذلك أن تخنق أصوات العرب في حناجرهم، فلم يرتفع لهم لفظ مسموع، ولم تصطك لهم سيوف بسيوف؛ قالت للعالم: ها هي ذي منطقتنا قد شملها السلام المطلوب.
لقد عرف التاريخ هذه الصورة من سلام مفروض بقوة الغالب منذ قديم؛ عرفها مثلا في السيادة التي فرضتها روما على العالم بقوة جيوشها، حتى سكت الصوت وانصرفت الشعوب إلى حقولها تزرع لنفسها ولسيدتها روما معا. ومثل هذا السلم المفروض بقوة السلاح، كان هو الأمل الذي راود نابليون، وراود هتلر. وهو نفسه الأمل الذي يراود الولايات المتحدة الأمريكية في يومنا الحاضر.
ولهذا الاتفاق في تصور السلام بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية؛ نتج بينهما التحالف الذي يوشك أن يكون دمجا لهما في دولة واحدة! وهكذا تولدت الصورة الثانية - من الصور الثلاث التي ذكرناها - فأصبح السلام الذي تدعي إسرائيل أنها تسعى إليه سلاما من الصورتين الأوليين معا ؛ فهو سلام يراد فرضه بقوة السلاح أولا، وهو سلام يراد فرضه عن طريق تحالف القوى ثانيا.
ونستطيع القول - استطرادا مع منطق حديثنا هذا - إنها في المرحلة الأخيرة التي انبثقت من حرب أكتوبر 1973م، قد ترغم على سلام من الصورة الثالثة، وهو السلام الذي يقوم نتيجة لتوازن القوى توازنا يمنع إحدى الكفتين من الطغيان على الكفة الأخرى، لا اختيارا منها، بل إرغاما يجيء أساسا من القوة الذاتية لتلك الكفة الأخرى، موضوعة في ظروف دولية متوازنة.
جاء ما يلي في البحث الذي قام به «جانيس تيري» وعنوانه «سياسة إسرائيل تجاه الدول العربية» (وتجده ضمن مجموعة البحوث المنشورة في كتاب «تهويد فلسطين»).
لقد جعلت إسرائيل مبدأها في التصرف إزاء الدول العربية المجاورة لها، أن تشتد حالة التوتر على تلك الحدود، فيتحقق لها بذلك غرضان: الأول هو أن تتوثق الروابط بين المواطنين في إسرائيل؛ لأنهم من فئات متباينة، والخطر الخارجي وحده هو الكفيل بصهرهم في شعب موحد. والثاني هو أن تحصل على تأييد المؤيدين في الخارج، حينما يرونها في خطر لم تنقطع أسبابه.
وبناء على هذا المبدأ؛ رأت القيادة الإسرائيلية أن التفوق العسكري الساحق هو وحده الذي يرغم الدول العربية على الرضوخ. ومما يلاحظ أن الفترة الممتدة من 1948م إلى 1954م، قد تميزت ببناء إسرائيل لقوتها العسكرية التي قدرت لها أن تنزل الهزيمة بأي هجمة عربية محتملة الحدوث؛ ذلك فضلا عن اعتقاد القيادة الإسرائيلية بأن الجيش أداة فعالة في ميدان التأهيل الاجتماعي للمهاجرين اليهود الوافدين من بيئات متباينة. ومن أقوال بن جوريون: «إن العداء المستمر من جانب العرب قبل إنشاء دولة إسرائيل، هو الذي أدى إلى قيام مجتمع يهودي أكثر تماسكا في إسرائيل.» وما دامت هذه عقيدتهم؛ فقد حرصوا أشد الحرص على أن تظل حالة التوتر على الحدود قائمة، مع ضمان قوتهم العسكرية في كل ما عسى أن ينشب بين الجانبين من قتال؛ ولم ينقطع بن جوريون عن تكرار مبدئه في فرض حل للنزاع بالقوة، وهو مبدأ أخذه عنه أتباعه، ومنهم جولدا مائير، وموشي ديان، وغيرهما من الأسماء التي حفظناها عن ظهر قلب؛ فلطالما ردد موشي ديان قوله بأن النصر العسكري الحاسم هو وحده الطريقة التي تحمل العرب في نهاية الأمر على قبول إسرائيل، مستندا في ذلك إلى عقيدة عنده بأن العرب لا يحترمون إلا القوة.
هكذا حاولت إسرائيل أن تحقق «سلاما» بالصورة الأولى، أعني سلاما مفروضا على أعدائها بقوة السلاح، ولما أن باءت بالفشل، لأن مثل هذا السلام المنشود لم يتحقق لها برغم انتصاراتها العسكرية المتوالية، فلا الفلسطينيون استناموا ولا الدول العربية المقهورة اعترفت بالأمر الواقع؛ فطفقت الحروب تتوالى، ولكن لا سلام كما ظنوا لأنفسهم أول الأمر! فكان لا بد من تجربة السلام من الصورة الثانية؛ بالبحث عن حليف قوي في مستطاعه أن يحرك الدنيا على هواه. وأخذ هذا الحليف يتبدل معها بتبدل الظروف؛ فآنا كان الحليف بريطانيا، وآنا كان بريطانيا وفرنسا معا، وأخيرا ألقت السفينة الحائرة رواسيها على الولايات المتحدة الأمريكية، ومع ذلك فلم يجئ يومها خيرا من أمسها.
انعقدت أواصر الحلف بينها وبين أمريكا لأنهما شبيهتان في عدة وجوه جوهرية؛ فكلتاهما أرادت أن تنزع شعبا من أرضه لتأخذ مكانه؛ وفي ذلك أفلحت أمريكا بالفعل، وفي ذلك أيضا أرادت إسرائيل أن تفلح، وعاونتها الفالحة الكبرى على أن تظفر بمثل ما ظفرت به هي من قبل، وكأنما عميت أبصارهم عن الفرق الشاسع بين الموقفين! وكلتاهما عنصري حتى الصميم، فقصة التفرقة العنصرية في أمريكا أمرها معروف، وأرادت الأخت الوليدة أن تحاكي أختها الكبرى في عنصريتها، وها هنا أيضا قد عميت أبصارهم عن اختلاف الوضع بين الموقفين؛ إن بين الأشباه في النزعة العنصرية تحالفا خفيا أو ظاهرا، وهو تحالف ظاهر بين أمريكا وإسرائيل، وكلتاهما يدين باصطناع القوة في كتم الأنفاس؛ ليتاح لهما بعد ذلك أن يصفوا حالة الصمت بأنها حالة سلام، وكلتاهما ينطوي على شعار يوجه خطى سيره، وهو أن تزدهر له تجارته متوسلا بذريعة الدين! هل تذكر ما قاله الرحالة فاسكو دي جاما عندما وصل إلى الهند، حين قال لمن لقيه من أهل البلاد : لقد أتينا إلى هنا بحثا عن المسيحيين والتوابل؟ إن هذا القول يمكن ترجمته فإذا هو مطابق لما فعلته أمريكا طوال أعوام مديدة حين كانت شديدة الحرص على إرسال بعثاتها التبشيرية، كأنما هي المسيح الثاني على الأرض؛ فلسان حالها عندئذ كان يصرخ بعبارة فاسكو دي جاما أو ما يشبهها. وأما إسرائيل فلو نطقت بما جاءت هنا من أجله، لقالت - على غرار ما قاله دي جاما - لقد جئنا بحثا عن الصهيونية والبترول.
فهو تشابه شديد في الأهداف والوسائل، بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، كان من شأنه حتما أن يقفا معا في معسكر واحد.
قال الرئيس سوكارنو في خطبته التي افتتح بها مؤتمر باندونج سنة 1955م: «إننا - نحن الإندونيسيين وإخواننا من مختلف الشعوب الآسيوية والأفريقية - نعلم جيدا بأن الاستعمار قد استحدث لنفسه أساليب جديدة ينفذ بها إلى بلداننا، وذلك عن طريق السيطرة الاقتصادية والعقلية والجسمية، بواسطة مجموعة صغيرة ولكنها دخيلة ...» وهو قول ينطبق انطباقا كاملا على موقف الاستعمار الأمريكي الجديد، الذي جاء يطرق أبواب الشرق العربي، ليحل محل الاستعمار بصورته الكلاسيكية، الذي كانت أقامته من قبل بريطانيا وفرنسا في هذا الوطن العربي. ولقد كانت «المجموعة الصغيرة الدخيلة» التي اختارها الاستعمار الجديد هي إسرائيل! وجاءت الأداة متلائمة مع الذراع الممسكة بها؛ للتشابه الذي ذكرناه بينهما.
ولقد فات الذراع وأداتها معا (أمريكا وإسرائيل) أن تدركا أهم عناصر الموقف، وتصرفتا كما لو كان ذلك العنصر الجوهري المهم ليس له وجود، ألا وهو الشعب وقوته، وأعني بالقوة هنا - أول ما أعني - قوة العقيدة التي قوامها - بالإضافة إلى الإيمان بالدين والوطن - أفكار ملأت الرءوس عما ينبغي أن يكون من حقها في العصر الجديد. نعم، فقد توهمت الذراع وأداتها أن القوة لا تكون إلا مركبا من قوة الجيش والطيران والأسطول، وقوة السلاح الذري وغير الذري من نتاج العلم التكنولوجي الجديد، وقوة الأحلاف العسكرية، وقوة المواد الخام والصناعة ووسائل المواصلات والمواقع الاستراتيجية وما إلى ذلك؛ وفي ذلك يقول «تشستر بولز» في كتابه «الأبعاد الجديدة للسلام» (وله ترجمة عربية بعنوان: الآفاق الجديدة للسياسة العالمية)؛ يقول إنه سأل يوما أحد عشر رجلا من صانعي السياسة في أمريكا، ماذا يفهمون من كلمة «القوة»، وكان السؤال واردا في سياق الحديث عن عوامل الصراع بين القوتين الكبريين في العالم، فلفت نظره أن أحدا من الأحد عشر رجلا لم يطرأ بباله أن يذكر لا قوة «الشعوب» ولا قوة «الأفكار»، فلم يذكروا إلا عوامل من قبيل ما أسلفناه، فإذا غضوا أنظارهم - فيما يختص بالشرق العربي - عن قوة الشعب العربي في عقيدته، وفي إيمانه بوطنه وبتاريخه، وفي الأفكار الثورية الجديدة التي تسللت إلى حياته الثقافية، فلم يكن مستبعدا بعد ذلك أن تظن الذراع الأمريكية وأداتها الإسرائيلية بأن السيطرة على هذه البلاد بقوة السلاح والعلم والصناعة أمر سهل ووشيك الوقوع.
كان لا بد للشعب العربي العريق المتحضر أن يثور، ولم تكن ثورته وليدة الأمس القريب، بل هي ثورة تستطيع أن ترتد بها إلى ما يقرب من أوائل القرن الماضي، ولكنها خلال تلك الفترة الطويلة - التي هي فترة ولادة جديدة للأمة العربية المعاصرة - ترددت في ثورتها بين درجات متفاوتة من العنف والهدوء، وفي لحظات هدوئها كانت تتخذ صورة عملية تطويرية بطيئة لكنها بعيدة الأثر، إلى أن ظهرت الحركة الصهيونية على مسرح الأحداث، وظهرت معها بعد الحرب العالمية الثانية راعيتها الكبرى أمريكا؛ فمنذ ذلك الحين، لم تهدأ الثورة العربية يوما واحدا، تظهر في جو العلانية مرة، وتتأجج نيرانها خفية في الصدور مرة، وتشتد حتى تبلغ درجة الحرب مرة ثالثة.
ولئن كانت عدة إسرائيل هي قوة السلاح وقوة العلم والصناعة؛ فقوة الأمة العربية مكمنها إيمان بعقيدة، وإيمان بمجد قديم، ثم إيمان بفكر اشتراكي جديد، وجدت فيه وسيلة تؤدي بها إلى مرحلة جديدة من تاريخها الطويل. نعم، إنه لا بد من قوة السلاح وقوة العلم والصناعة، لكننا إذا كنا لنوازن بين طرفين من حيث القدرة على البقاء الطويل: أحدهما هو قوة الوسائل المادية، والآخر هو قوة العقائد والأفكار، كان السداد في اختيار الطرف الثاني (وهذه موازنة نظرية صرف، نسوقها لتوضيح الموقف) فقد كانت لبريطانيا جيوش في مصر والعراق والسودان والهند وغيرها، وكانت لهذه البلاد عقائد وأفكار، فذهبت الجيوش وبقيت الأفكار. وكانت لفرنسا جيوش في لبنان وسوريا وتونس والجزائر والهند الصينية وغيرها، وكانت لهذه البلاد عقائد وأفكار، فذهبت الجيوش وبقيت العقائد والأفكار. ووقفت أمريكا بجيوشها مع كاي شيك ضد ماوتسي تونج المؤيد بالفكر والعقيدة، فذهب الأول وبقي الثاني ... هذه هي حركة التاريخ، لن يشذ فيها صراع الأمة العربية مع إسرائيل؛ فمع إسرائيل القوة التكنولوجية الأمريكية مضافة إلى أساطير، ومعنا التراث التاريخي الحي والفكر الثوري، أضفنا إليهما القوة التكنولوجية، فلأي الكفتين يكون الرجحان في المدى الطويل، إذا لم يكن في المدى القريب؟
ويسألني السائل (وقد أتي السؤال من الأستاذ الفاضل رئيس تحرير مجلة المعرفة)، يسألني الرأي في هذه القسمة بين شطرين: العرب والقوى التقدمية من جهة، وإسرائيل والاستعمار من جهة أخرى، وإني لأحسبها قسمة كان محالا أن يحدث نقيضها؛ لأن الجوهر الأساسي في موقف الأمة العربية هو قوة الشعب وقوة الفكر عند هذا الشعب، وهو جوهر يتجانس مع الموقف التقدمي في أهم دعائمه؛ أي أن يكون الاعتماد الأساسي على الشعب وفكرته، وكذلك من الناحية الأخرى يتجانس الجوهر الأساسي في موقف إسرائيل ومثيله في موقف أمريكا، فكلاهما يرتكز أساسا على إهمال الشعب وفكرته، مكتفيا بالسلاح وسطوته، والمال وغوايته.
अज्ञात पृष्ठ