हमारी संस्कृति युग का सामना करती है
ثقافتنا في مواجهة العصر
शैलियों
ويستطرد الحكيم هنا، فيقول إن عصرنا الراهن قد ابتكر طريقة يستطيع بها رجل السلطان أن يسكت رجل الفكر، فهو اليوم لا يعذبه ولا يسجنه، كما كان يفعل الحكام السابقون، لكنه يستدرجه إلى حظيرة السياسة العملية، فيلغي بذلك وجوده؛ لأنك إذا أدمجت الفكر في العمل، لم يعد فكرا، «فواجب رجل الفكر إذن أن يحافظ على كيان الفكر، وأن يصون وجوده الذاتي حرا مستقلا.»
ولكن ذلك لا يعني أن «ينعزل» الفكر، فاستقلال الفكر شيء، وانعزاله شيء آخر؛ إذ المنعزل لا يؤثر في غيره، ولا يتأثر به، فكأنه معدوم بالنسبة إلى الآخرين، ولا فرق بين فكر ينعزل عن العمل، وفكر يبتلعه العمل ويذيبه؛ لأنه في كلتا الحالتين مفقود معدوم، أما استقلال الفكر عن العمل - بغير انعزال - «فهو أن يكون له كيان خاص وإرادة خاصة في مواجهة العمل، حتى يستطيع أن يتأثر به ويؤثر فيه.»
وأخيرا يجيء ميدان الأدب والفن، فها هنا يكون التعادل بين التعبير والتفسير، بين الأسلوب والموضوع؛ «فالأثر الأدبي أو الفني لا يكتمل خلقه ولا ينهض بمهمته إلا إذا تم فيه التوازين بين القوة المعبرة والقوة المفسرة»، لكن هذا قول يريد شرحا، فيشرحه المؤلف شرحا أسهب فيه، أما التعبير فيقصد به شيئا غير «الشكل»؛ لأنه الشكل مضافا إليه شيء آخر، هو الموضوع نفسه الذي سيق فيه، التعبير هو الشكل، والشيء الذي يتشكل فيه هو الأسلوب والموضوع معا، فإذا تعادل الأسلوب والموضوع، إذا تعادل الشكل والمضمون، كان لنا بذلك «تعبير» قوي، أما إذا طغى أحد الطرفين، كأن نزخرف الأسلوب ولا موضوع، أو أن نضع الموضوع العظيم في شكل سقيم، ففي كلتا الحالين لا نظفر بتعبير له شأن في دنيا الأدب والفن.
ولئن كان التعبير بالمعنى الذي يتعادل فيه الشكل والموضوع هو - كما يقول الحكيم «كل شيء في نظر الفن» - فهو ليس كل شيء في نظر التعادلية، «فقوة التعبير عند التعادلية يجب أن تقترن في الأدب والفن بقوة التفسير»، والمراد بالتفسير ذلك الضوء الذي يلقيه الأديب أو الفنان على موضع الإنسان في الكون ومكانه في المجتمع، أو بعبارة أخرى، فإن التعادلية تتطلب من الأدب والفن أن يضيف إلى عالمي المتعة والجمال ضوءا كاشفا يهدي الإنسان في طريقه إلى الكمال، أعني أن يكون للأدب والفن «رسالة»، فإذا اكتفينا بالتعبير وحده، كان لنا بذلك فن للفن، وإذا اكتفينا بالتفسير وحده، كان لنا بذلك فن ملتزم برسالته وكفى، لكن المطلوب تعادل بين خصائص الشكل الأدبي والفني ومضمون الرسالة المراد نشرها في آن معا.
وهنا يجد الكاتب نفسه أمام موضوع الالتزام وجها لوجه، ويرى لزاما عليه أن يرى كيف يكون التعادل بين حرية الأديب والتزامه، وفي رأيه أن الالتزام واجب، شريطة ألا يكون مصدره غير ذات الفنان؛ لأنه لو جاء من خارج الفنان، كان إلزاما، وفقد الأديب حريته، وفقد الأديب كيانه، لا، بل التزام الأديب برسالته هو، لا ينبغي أن يطول به الأمر؛ إذ لا بد من مراجعة الرسالة المراد تبليغها آنا بعد آن، وإلا أصبح الأديب عبدا لشيء مضى أوانه وتغيرت عليه الظروف.
ألا إن فلسفة الأمة هي مجموع فلسفات أبنائها الذين استطاعوا أن يتخذوا موقفا فكريا، واستطاعوا أن يصوغوا ذلك الموقف في عبارة يتبادلها الناس، ويحملها الزمن إلى الأجيال الآتية، وإذا كان هذا هكذا، فإننا لن نذكر الفلسفة العربية بعد اليوم، إلا وفي أذهاننا فكرة التعادلية التي بسطها أديبنا الحكيم في كتاب له بهذا العنوان.
شاهد على الصهيونية من يهود
لو كتب كاتب عربي في الصهيونية بما يفضحها ويشينها، لقيل: عدو كتب؛ ولو كتب فيها أوروبي محايد بما يظهر مواضع الخطر والشر والسوء، لقيل: مناهض للسامية تعصب؛ لكن ماذا يقال إذا كان الكاتب يهوديا، بل مديرا للمجلس اليهودي الأمريكي؟ إن له من يهوديته ما يعصمه من تهمة العداوة للجنس السامي، ومن أمريكيته ما يضمن عطفه مقدما على إسرائيل؛ وإذن فلشهادته قيمة مضاعفة؛ لأن يهوديته وأمريكيته معا لم تستطيعا أن تحجبا عنه الحق حين فتح عينيه ليراه.
وأما هذا اليهودي المرموق في يهوديته، فهو الدكتور «إلمر برجر»
Elmer Berger ، المدير التنفيذي للمجلس اليهودي في أمريكا؛ طاف بأقطار الشرق الأوسط، في زيارة أراد بها أساسا أن يستطلع حالة الأقليات اليهودية في تلك الأقطار، ليبعث برسائله تباعا عما يراه ويسمعه؛ فزار القاهرة وبغداد وبيروت ودمشق، والقدس العربية في الأردن، ثم ختم الجولة بزيارة القدس المحتلة في إسرائيل؛ كان تاريخ خطابه الأول يوم 7 من أبريل «نيسان» 1955م؛ أرسله من السفينة التي أقلته من أمريكا عبر المحيط الأطلسي، وأعقبه خطاب ثان من السفينة، ثم بدأت رسائله من القاهرة، حيث بعث بست رسائل خلال أسبوعين أقامهما بها، وتركها إلى بغداد ليبعث منها برسالة واحدة، ثم عقب عليها ببيروت فأرسل منها رسالتين؛ ثم دمشق فأرسل منها كذلك رسالتين؛ وبعدئذ أرسل من القدس العربية أربع رسائل، ومن القدس المحتلة أربع رسائل، ومن حيفا رسالة، وختم بأربع رسائل أرسلها وهو في طريق عودته؛ من الطائرة، ومن السفينة، ومن طنجة، ومن باريس؛ فمجموع الرسائل ست وعشرون، كتبت على مدى شهرين ونصف شهر، وقد جمعت في كتاب صغير، قرأته فلمست فيه الدقة والأمانة والصدق، وأحسست من عنوانه شجاعة كاتبه في مواجهة الصهاينة؛ إذ جعل العنوان: «على من يعرف الحق أن يعلنه»، وكانت الرسائل كلها موجهة إلى شخصين بالاشتراك، هما رئيس المجلس اليهودي ومقرره.
अज्ञात पृष्ठ