لست أدري أيقدر كل الناس ما لهذا الاكتشاف، أو بتعبير أدق، ما لهذه الاكتشافات، فإنها تكون كتلة واحدة وتؤلف جميعا ما سمي ب «الثورة الديكارتية» من مغزى عند الإنسان في عصر ديكارت وعند الإنسان بالإجمال.
الكون اليوناني الذي نجده عند أرسطو وفلاسفة القرون الوسطى عالم منظم محدود، منظم من حيث المكان ومن حيث القيمة ومن حيث الكمال، عالم مرتب ترتيبا محكما تتقابل فيه درجات الوجود ودرجات القيم، هو سلم يصعد من المادة إلى الله.
هذا الكون جميل جدا يروع نفس اليوناني، وينطق صاحب الزبور بقوله: إن السماء والأرض تسبحان الله، وتمجدان صنع يديه، الحكمة الإلهية تتلألأ في هذا الكون حيث كل شيء موضوع في مكانه، وحيث كل شيء مرتب على أحسن وجه.
العلم يكشف عن هذا النظام الكامل والترتيب الكامل، فإن لكل شيء مكانه في هذا الكون، وإن في كل شيء ميلا لبلوغ مكانه والاستقرار فيه، وإنما يعنى العلم الطبيعي باستكشاف هذه الميول الطبيعية.
وفوق ذلك فإن هذا الكون، والأرض مركزه، مشيد كله لأجل الإنسان، لأجل الإنسان تشرق الشمس وتدور السيارات والسماوات، والله الغاية القصوى والمحرك الأول، وقمة هذا السلم المرتب، هو الذي ينفخ في الكون الحياة ويبعث الحركة.
والإنسان في مثل هذا الكون المصنع لأجله، أو على الأقل المصنوع على قدره موجود في بيئته.
هو يعجب بهذا الكون المملوء عقلا وجمالا، بل قد يعبده، ولكن العلم الطبيعي الذي أنشأه ديكارت يهدم هذا العلم الجميل هدما تاما.
ماذا يضع مكانه؟ الحق أنه لا يضع شيئا يذكر، لا يضع غير الامتداد والحركة، امتداد لا متناه ذهب منه النظام والترتيب والجمال، ملؤه لا شيء، فيه حركات بغير علة ولا غاية ولا نهاية، انتفت منه «الأمكنة الخاصة» للأشياء، وتساوت فيه الأمكنة جميعا والأشياء جميعا، فما الأشياء إلا مادة وحركة، ولم تعد الأرض مركزا للكون، بل لم يعد هناك مركز، ولم يعد هناك كون، وليس العالم مرتبا للإنسان، بل ليس مرتبا بالمرة، ولم يعد على قدر الإنسان، بل صار على قدر العقل.
هذا هو العالم الواقعي لا العالم الذي تظهرنا عليه حواسنا الخداعة، وإنما هو العالم الذي يجده العقل في ذاته، العقل الخالص الصافي المعصوم من الخطأ.
أنا هنا بإزاء انتصار حاسم فاز به العقل، ولكنه فجيعة إذ لم يعد في هذا العالم اللامتناهي الذي شيده العلم الديكارتي، مكان للإنسان ولا لله.
अज्ञात पृष्ठ