على أن إخفاق هذه المحاولة الأولى لا يوقف ديكارت، فهو يقول لنفسه ولنا: إني ما أزال شابا والمستقبل كفيل بالنجاح، ثم يجعل من الضرورة فضيلة ويستأنف السفر، وتطول أسفار ديكارت ست سنين، ست سنين نكاد لا نعلم عنها شيئا، في سنة 1622 نلقاه بفرنسا، وفي سنة 1624 في البندقية، فروما، وفي سنة 1626 يعود إلى باريس.
ماذا صنع أثناء هذه السنين الست؟ نحن نجهل ذلك، إنه من غير شك ثابر على الدرس، وعلى ملاحظة العادات والأخلاق، وعلى التفكير النافع أينما حل، ومن غير شك تابع مهمته الكبرى، مهمة تنظيف عقله والبحث عن تلك الأمور البسيطة السهلة التي يجب البدء بها، لقي بباريس الجو المعهود، بل كان الجو قد ساء، أصبح الرجل المثقف شاكا صراحة، لا يحفل بشيء، ويسخر من كل شيء، أصبح زنديقا، بل إن مرسين يزعمه ملحدا، ويعد خمسين ألف ملحد بباريس. الخطر عظيم! لذلك حشد الدين قواته جميعا للنضال، وانهالت على الملحد المسكين كتب ضخمة بأقلام جاراس ومرسين وسيلون وغيرهم.
لم يساهم ديكارت في هذا النضال بادئ الأمر، الحق أنه مشغول جدا فإنه اهتدى أخيرا إلى الأمور البسيطة التي يجب البدء بها، وهي بالذات الأفكار التي كان يعتبرها الفلاسفة أصعب الأفكار، الحركة والامتداد والمدة، وبالأخص اللامتناهي، وهو شارع في وضع أسس العلم الجديد، العلم الذي يبدأ بالفكرة لا بالموضوع ويتبع نظام الأسباب لا نظام المواد، إنه يدون منطقه «قواعد تدبير العقل»، يعارض فيه عقم القياس الصحيح صوريا بثراء الحدس العقلي للحقيقة وخصبه، وهو إلى ذلك مختلف مع أنصار الدين.
إنه مؤمن من غير شك، بل إنه متدين تدينا عميقا، وإن كان ذلك على طريقته هو، ولكن من يدري لعلها خير الطرق؟ أجل لم تكن ديانته ديانة بسكال، ولكنها لم تكن دونها صدقا ولا عمقا، إنه ينكر الإلحاد، وهو لا يحب الشكاك «الذين يشكون لأجل الشك»، وهو إلى جانب الأسرار المقدسة التي جاء بها الوحي يؤمن بحقيقة دينية في متناول العقل البشري، يؤمن بوجود الله، ووجود النفس، ويؤمن بإمكان البرهان على هذه الحقيقة الدينية ووجوبه.
وسينهض ذات يوم بهذا البرهان بتشجيع بيريل، وجيبيف، وبتأثير القديس أوغسطينوس.
كيف يستطيع أن ينقم من الشكاك والزنادقة عدم اقتناعهم ب «البراهين» والحجج المنصبة عليهم؟ ليس لهذه البراهين من قيمة، وإنه ليعلم ذلك، وإنه الوحيد الذي يعلم ذلك حق العلم، أما أنصار الدين فلا يعلمون، ومن ثمة فلا قيمة لما يصنعونه.
ماذا يصنعون؟ ماذا يصنع مرسين مثلا؟ الأمر في غاية البساطة؛ إنهم يجمعون كل ما اخترعه الناس من أدلة، ويبرهنون على وجود الله بجميع الوسائل: بالمنطق والعلم الطبيعي والميتافيزيقا، يسردون جميع التقاليد وجميع الحوادث «العجيبة» التي تدل على وجود فائق للطبيعة، ولا يعرضون لهذه الحوادث والتقاليد بأقل نقد، هم ليسوا مؤمنين فقط، هم أكثر من ذلك، هم سذج، وديكارت يعلم أن أول واجبات العقل أن يخضع كل هاته الحوادث والتقاليد للنقد والقياس والحكم، وأنه إذا فعل لم يجد فيها سوى حديث خرافة؛ إذ إن العقل لا يستطيع أن يقبل ما هو معارض له.
أما الأدلة المنطقية والطبيعية والميتافيزيقية فليست تساوي شيئا هي الأخرى، إنها كلها أو أكثرها ساقطة؛ لأنها كلها أو أكثرها قائمة على المنطق القديم والعلم الطبيعي القديم والتصور القديم للكون، وقد هدم ديكارت هذا كله.
فهو بكتابه «قواعد تدبير العقل» يعارض المنطق القياسي القديم الذي وضعه أرسطو - منطق المتناهي - بمنطق جديد حدسي قائم على تقدم اللامتناهي في حكم العقل، وهو يستبدل بالعلم الطبيعي القديم الذي يبدأ بالإدراك الحسي للعالم الملون الصائت الذي نعيش فيه علما طبيعيا قوامه الأفكار الواضحة، علما طبيعيا رياضيا يستبعد من العالم الواقعي كل كيفية ويقدم لنا صورة أو فكرة من العالم أغرب وأبعد عن التصديق من كل مخترعات الفلاسفة، إلا أنها مع ذلك صحيحة.
أما الكون، ذلك الكون اليوناني الذي نجده عند أرسطو وفلاسفة القرون الوسطى فقد كان العلم الحديث هزه بأيدي كوبرنك وغليليو وكبلر، فجاء ديكارت يهدمه هدما.
अज्ञात पृष्ठ