وما أدري كيف يغلبني الميل إلى عرض أكثر الجوانب من شخصية أبي العتاهية، مع رغبتي في إيجاز هذا الفصل، ولعل السر في ذلك خوفي من مشاركة من عاصروه في الغض من قيمته الأخلاقية، فقد كانت لهم من دنيا ذلك الشاعر شبهات تبرر التجني عليه، أما نحن فلم يبق أمامنا إلا هذه الثروة الأدبية، وهي الأصل الأول في تقدير قيمته الذاتية، أما لغو المعاصرين فليس بحجة؛ لأن الحسد يحمل الناس على ارتكاب جريمة الإفك والبهتان.
والواقع أن المرء يحسد على السمعة الطيبة أكثر مما يحسد على الثراء العريض، ولا سيما في عالم المنازعات الأدبية، وأكثر الرواة والشعراء لعهد أبي العتاهية كانت سمعتهم مما تلغط به الجماهير، وكانت لهم أندية يكثر فيها اللغو، وتقع فيها الآثام حول موائد الشراب، وكان من العزيز عليهم أن يطير عنهم أبو العتاهية فيحلق في سماء الفضيلة، ويثير شعره دموع بعض الخلفاء.
قيمته الذاتية
هذا، ولا بد من الإشارة إلى أن شعور أبي العتاهية بتفاهة الدنيا تمثل له عند الموت، في صورة جديدة، فقد أعلن يأسه من وفاء الأصدقاء، وزهده في بكاء الباكيات، حين اشتهى أن يغنيه مخارق:
سيعرض عن ذكري وتنسى مودتي
ويحدث بعدي للخليل خليل
إذا ما انقضت عني من الدهر مدتي
فإن غناء الباكيات قليل
30
وقد نظم أبياتا لتوضع على قبره، وكذلك فعل أبو نواس، والكتابة على القبور سنة قديمة عرفها المصريون والآشوريون، ولكنها كانت في الأغلب وصايا يراد بها زجر من يطمعون في انتهاب ما في القبور من الذهب والثياب، أما أبو العتاهية وأبو نواس فكان شعرهما في التحذير من عواقب العيش، والمشرف على الموت يحب أن يكون أفصح الناس في وصف الدنيا بالغدر وسرعة الزوال، ومن يعش حتى يمد يده لمصافحة الموت يعرف صحة هذا الفرض!
अज्ञात पृष्ठ