الإهداء
الجزء الأول
دعاء
فاتحة الكتاب
أغراض الكتاب
اشتقاق كلمة تصوف
التصوف في الأدب
كلام الشعراء في الزهد
ذخائر منسية من الأدب الصوفي
أخيلة أدبية في وصف الدنيا
حكم ابن عطاء الله السكندري1
مكانة ابن عربي في الأدب والتصوف
مصرع الحلاج
صراحة الجيلاني
المنظومات الصوفية
منظومات ابن عربي
منظومات اليافعي
أشعار النابلسي
منظومات حسن رضوان
المدائح النبوية
الهيام في حب الله
أشواق ابن الفارض
أخبار الصوفية
نقل الأقاصيص الغرامية إلى الجواء الصوفية
صور المجتمع الإسلامي في كتب الصوفية
حياة اللهجات العربية في مؤلفات الصوفية
أثر التصوف في الفنون
خاتمة الجزء الأول
الجزء الثاني
كيف نشأ التصوف في الأخلاق
الأدعية والأوراد
آداب الدعاء
دعاء الاستسقاء
أدعية زين العابدين
أدعية التوحيدي
الاستغاثات والأحزاب
الوصايا والنصائح
وصايا ذي النون المصري
الشجاعة الأدبية
الدنيا في أذهان الصوفية
المقامات والأحوال
التجريد والأسباب
آداب الطعام
آداب الصيام
آداب الزواج
أدب الأخوة
الحب الحب الحب!
الموسيقا والغناء
الآداب الصوفية عند الشعراني
المهلكات والمنجيات
خاتمة الكتاب
الإهداء
الجزء الأول
دعاء
فاتحة الكتاب
أغراض الكتاب
اشتقاق كلمة تصوف
التصوف في الأدب
كلام الشعراء في الزهد
ذخائر منسية من الأدب الصوفي
أخيلة أدبية في وصف الدنيا
حكم ابن عطاء الله السكندري1
مكانة ابن عربي في الأدب والتصوف
مصرع الحلاج
صراحة الجيلاني
المنظومات الصوفية
منظومات ابن عربي
منظومات اليافعي
أشعار النابلسي
منظومات حسن رضوان
المدائح النبوية
الهيام في حب الله
أشواق ابن الفارض
أخبار الصوفية
نقل الأقاصيص الغرامية إلى الجواء الصوفية
صور المجتمع الإسلامي في كتب الصوفية
حياة اللهجات العربية في مؤلفات الصوفية
أثر التصوف في الفنون
خاتمة الجزء الأول
الجزء الثاني
كيف نشأ التصوف في الأخلاق
الأدعية والأوراد
آداب الدعاء
دعاء الاستسقاء
أدعية زين العابدين
أدعية التوحيدي
الاستغاثات والأحزاب
الوصايا والنصائح
وصايا ذي النون المصري
الشجاعة الأدبية
الدنيا في أذهان الصوفية
المقامات والأحوال
التجريد والأسباب
آداب الطعام
آداب الصيام
آداب الزواج
أدب الأخوة
الحب الحب الحب!
الموسيقا والغناء
الآداب الصوفية عند الشعراني
المهلكات والمنجيات
خاتمة الكتاب
التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق
التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق
تأليف
الدكتور زكي مبارك
الإهداء
حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق الأول
مولاي
كان من حظي أن أتشرف بإهداء كتاب «الأخلاق عند الغزالي» إلى جلالة الملك فؤاد الأول، وهو الكتاب الذي نلت به إجازة الدكتوراه أول مرة، فليكن من حظي أن أتشرف بإهداء كتاب «التصوف الإسلامي» إلى جلالة الملك فاروق الأول، وهو الكتاب الذي نلت به إجازة الدكتوراه ثالث مرة.
وإني لأرجو أن ينال هذا الكتاب من عطف مولاي الملك ما يتوجه بالقبول، والسلام.
المخلص زكي مبارك
مصر الجديدة في 23 شعبان سنة 1357 / 17 أكتوبر سنة 1938
جلالة الملك فاروق الأول الذي ورث أباه العظيم في رعاية الدراسات الجامعية.
مقدمة
بقلم حضرة صاحب العزة الأستاذ الكبير محمد جاد المولى بك المفتش الأول للغة
العربية بوزارة المعارف
القاهرة: 21 شعبان سنة 1357 / 25 أكتوبر سنة 1938 (1)
ما وقع بصري على الأستاذ الدكتور زكي مبارك إلا تذكرت هجومي عليه في سنة 1924 إذ انتدبتني وزارة المعارف عضوا باللجنة التي أدى أمامها امتحان الدكتوراه بالجامعة المصرية أول مرة، كما انتدبت المغفور له الأستاذ أحمد عبده خير الدين وكيل دار العلوم الذي انتاشه منا الموت منذ شهور فمضى مأسوفا عليه من جميع من عرفوا قلبه الطيب وأخلاقه العالية.
كنت في تلك الأيام لا أعرف الدكتور زكي مبارك معرفة شخصية، وإنما كنت أعرفه عن طريق ما يكتب في الصحف والمجلات، فكنت أتصوره شابا بعيد الهمة كلفا بنقد الشعراء والكتاب والمؤلفين محبا للظهور بمظهر السيطرة والاستعلاء.
ولما اطلعت على رسالته التي قدمها لامتحان الدكتوراه في تلك الأيام وهي (الأخلاق عند الغزالي) رأيت فيها ما صدق ظني فيه: رأيته يهجم على حجة الإسلام الغزالي ويقسو عليه، فلم أجد بدا من أن أتشدد في حسابه لأعجم عوده وأسبر غوره.
ولكن امتحانات الدكتوراه علنية يحضرها من يشاء، وكان من الحاضرين يومئذ حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ عبد المجيد اللبان وجمهور من أفاضل العلماء بالأزهر الشريف، فلما أخذت في محاسبة الدكتور زكي مبارك على ما صنع في نقد الغزالي تكشفت جوانب أثارت فضيلة العالم الجليل الشيخ اللبان فتدخل وتدخل معه جماعة من جلة العلماء، وكاد الجمهور يموج من الغيظ، ولولا حكمة رئيس اللجنة يومئذ، وهو حضرة صاحب العزة الأستاذ الدكتور منصور فهمي بك، لاضطرب النظام وانفرط عقد الامتحان.
وحين خلت اللجنة للمداولة أسفر نقاشها عن منح زكي مبارك إجازة الدكتوراه بدرجة «جيد جدا» واقترحت أن ينص في محضر الجلسة على أن اللجنة غير مسئولة عما في الرسالة من الشطط والجموح، ولكن الأستاذ الدكتور منصور فهمي بك أقنعنا بأن من المفهوم أن امتحان الدكتوراه هو محاولة عقلية يخطئ الطالب فيها ويصيب، وأن الرسالة لن تخرج إلا ممحصة، وكان ذلك مفهوما عندي وإنما قصدت الاحتياط لنفسي ولزملائي. (2)
وكنت أظن المشكلة انتهت عند هذا الحد، ولكني تبينت مع الأسف أن هجومي على الدكتور زكي مبارك كانت له عواقب، فقد حمل عليه جماعة من العلماء في جريدة المقطم وجريدة الأخبار، يحمل لواءهم حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير الشيخ يوسف الدجوي أمد الله في حياته النافعة، والأستاذ الشيخ أحمد مكي تغمده الله برحمته.
وعند ذلك عرفت أن الدكتور زكي مبارك قد يقضي حياته في المضاولة والمجادلة لما استقر في النفوس من أنه باحث متعسف مشاغب.
كان ذلك الحادث كافيا لأن يوجه نظري إلى هذه الشخصية الجديدة وإلى تعقب ما تؤدي من النفع أو الضر للدراسات الأدبية والفلسفية، ولكن من الذي يستطيع أن يتعقب الدكتور زكي مبارك؟
وكيف يمكن ذلك وهو لا يسكت أبدا، ولا يترك فرصة لمن يريد أن يحكم له أو عليه؟
تراه حينا يجادل في الدقائق الفقهية كما صنع حين حقق نسب كتاب الأم فتضيفه إلى الفقهاء، وحينا تراه يجادل في المعضلات النحوية فتضيفه إلى النحويين وتنظر إلى كتاب «النثر الفني» أو كتاب «الموازنة بين الشعراء» فتحسبه رجلا لا يحسن غير النقد الأدبي.
وتقرأ رسائله الغرامية ودراساته الطريفة للعشاق من الشعراء فيخيل إليك أنه شاب لا يعرف غير الاصطباح والاغتباق بهوى الغيد الرعابيب.
وتنظر رسالة «اللغة والدين والتقاليد» فتعده من كبار المصلحين وتنظر مقالاته في التربية والتعليم فتراه من أقطاب المربين، وتقرأ هجومه على الكتاب والشعراء والمؤلفين فتخاله من الهدامين وتسمع عن أخباره في الأندية والمجالس وأحاديث رحلاته إلى البلاد الشرقية والغربية وانتقاله من العمامة إلى الطربوش ثم إلى القبعة والسدارة فتعتقد أنه من المولعين بدرس أخلاق الأمم والشعوب.
وفي وسط هذا الضجيج قرأت في الصحف أنه سيؤدي امتحان الدكتوراه في جامعة فؤاد الأول فأرجأت ما كان عندي من الأعمال الحافزة وقصدت إليها لأشاهد الدكتوراه الثالثة؛ لأنه كان قد نقل ميدان مشاغباته إلى جامعة باريس وكذلك حضرت مع النظارة لأرى «هذا التلميذ» الذي اشتركت في امتحانه منذ ثلاثة عشر عاما وكونت فيه رأيه قد لا يرضيه لو اطلع عليه فماذا رأيت؟ وماذا لاحظت؟
رأيت طالب الدكتوراه في سنة 1924 غير طالب الدكتوراه في سنة 1937 كان الطالب الأول يجادل لجنة الامتحان بلا تهيب ولا تلطف ولا أقول بلا تأدب أما الطالب الجديد فكان آية من آيات الأدب والذوق، وكان مثالا من أمثلة التواضع والاستحياء: يستمع السؤال بهدوء، ويجيب عليه بذكاء مقرون بالتحفظ والاحتراس، فماذا صنعت الثلاثة عشر عاما بالدكتور زكي مبارك؟
لقد تغير تغيرا تاما وانقطعت الصلة بين حاضره وماضيه أشد انقطاع، وكذلك يصنع العلم بأبنائه الأوفياء فهو يجعلهم متواضعين مهذبين لا يعرفون العنف ولا الغطرسة ولا الكبرياء. (3)
وبالغ الدكتور في الأدب والذوق فعرض علي رسالته الجديدة لأقدم إليه بعض الملاحظات، بوصف أني من المشتغلين بدراسة فلسفة الأخلاق وقد نظرت في الرسالة الجديدة فرأيت الدكتور زكي مبارك لم يتغير ولم يتبدل، فمؤلف كتاب «التصوف الإسلامي» هو عينه مؤلف كتاب «الأخلاق عند الغزالي» بل هو في كتابه الجديد أخطر وأفتك، ولكن ماذا أملك في مقاومته هذه المرة؟
إن جامعة فؤاد الأول منحته درجة الدكتوراه في الفلسفة برتبة الشرف وهي شديدة الضن بالألقاب إلا على المستحقين، ولا سيما أن اللجنة التي أدى امتحانه أمامها قد ضمت نخبة من أكابر العلماء من بينهم معالي الأستاذ مصطفى عبد الرازق بك والدكتور منصور فهمي بك والدكتور عبد الوهاب عزام والأستاذ شفيق غربال .
ومن واجبي أن أحترس في الثناء فأصرح بأني لا أتفق والدكتور زكي مبارك في كل ما عرضه من الآراء في كتاب التصوف الإسلامي، ولا غرو في ذلك فالباحثون قلما اتفقوا على رأي واحد، إن المهم عندي وعند جميع المنصفين أن يكون الباحث حسن النية مستقلا في آرائه الفلسفية، والدكتور مبارك من هذه الناحية متفوق كل التفوق: فهو في كتابه هذا يدرس التصوف دراسة من يفهم أسرار التصوف.
والعقل الفلسفي ظاهر كل الظهور في هذا الكتاب، فالمؤلف أثابه الله يدرس الوجوه المختلفة للرأي الواحد، وقد يصل حاله إلى الغرابة في بعض الأحايين حين يعرض عليك عدة صور لرأي من الآراء ثم تراه متشيعا لكل صورة كأنها رأيه الوحيد وكأنه أشخاص يتحاورون لا شخص واحد.
وذلك هو العقل الفلسفي فيما أعرف، وهو لا يتوفر للباحث إلا حين تنضج مواهبه ويكبر عن التعصب لرأي من الآراء.
لقد ألف المسلمون مئات أو ألوفا من المصنفات في التصوف، وما كنا في حاجة إلى كتاب جديد.
فالمزية الصحيحة للدكتور زكي مبارك هي أنه لم يؤلف كتابه في الدعوة إلى التصوف، أو الهجوم على التصوف، وإنما ألف كتابه في نقد التصوف فبين ما فيه من محاسن وعيوب، وكشف عما فيه من ضعف وقوة، بصراحة فائقة وحماسة رائعة، وأسلوب متين.
وأصرح مرة ثانية بأني قد أخالف هذا المؤلف في كثير من الآراء التي عرضها في كتاب التصوف الإسلامي، ولكني أتمنى أن يكون قدوة لسائر المؤلفين، فما ينقصنا اليوم غير الابتكار، وهو أول شرط في جودة التأليف. (4)
وأنا بعد هذا التحفظ أشهد أن هذا الكتاب يفيض بقوة الروح، وأعتقد أنه يغرس الشعور بالتبعة الخلقية ويوجه القارئ إلى فهم أسرار المعاني، وتسجيل هذا الرأي يريحني من الإحساس الذي أرقني منذ سنة 1924 حين حرضت الجمهور علنا على الشك في آراء الدكتور زكي مبارك، الرجل الفاضل المخلص الذي أنفق شبابه في الدراسات الأدبية والفلسفية.
كتب الله له دوام التوفيق، ونفع بمؤلفاته، وأطال في حياته.
كلمة المؤلف
بقلم محمد زكي عبد السلام مبارك
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
أما بعد، فهذا كتاب التصوف الإسلامي، وهو كتاب شغلت به نفسي نحو تسع سنين، وأنفقت في تأليفه من الجهد والعافية ما أنفقت، في أعوام عجاف لو ابتلي بمثلها أصبر الصابرين وأشجع الشجعان لألقى السيف وطوى اللواء، فقد كنت في حرب مع الناس ومع الزمان، ويا ويح من ابتلته المقادير بإفك الناس وغدر الزمان.
ولكن الله عز شأنه لم يخلق الشر إلا لحكمة عالية، فقد قويت عزيمتي بفضل ما عانيت في حياتي من ضروب الاضطهاد، واستطعت أن أقيم الدليل على أن الظلم قد يعجز عن تقويض عزائم الرجال.
وهل كان من هواي أن أسرف على نفسي مثل الذي أسرفت فأقضي عشرين سنة في الحياة الجامعية بين القاهرة وباريس كانت كلها نضالا في نضال؟!
هل كان من هواي أن تخلو حياتي من الهدوء والطمأنينة فلا أصبح ولا أمسي إلا في عراك وكفاح؟!
هل كان من هواي أن أنتهي إلى ما انتهيت إليه، فلا يكون لي من نعيم الحياة إلا ما أصوره بقلمي من حين إلى حين لأوهم نفسي أني أعايش الأحياء؟!
تباركت يا ربي وتعاليت، فلولا لطفك وتوفيقك لما استطعت بفضل الجد أن ألقى أهل زماني بالاستطالة والكبرياء.
ومن هم أهل زماني؟
هم الكسالى الظرفاء الذين حرمهم الله نعمة البلاء بإقذاء العيون تحت أضواء المصابيح. •••
ينقسم هذا الكتاب إلى قسمين: التصوف في الأدب، والتصوف في الأخلاق.
وقد كان هذا الموضوع فيما يظهر غامضا أشد الغموض، فقد طلب مجلس الأساتذة بكلية الآداب أن نقدم له مذكرة نشرح بها الغرض من هذا الكتاب ليقبل أو يرفض جعله موضوع رسالة لامتحان الدكتوراه، وقد أجبنا يومئذ بأننا نريد أن نبين كيف استطاع التصوف أن يخلق فنا في الأدب ومذهبا في الأخلاق، وهو موضوع يستحق الدرس بلا جدال.
وكان مجلس الأساتذة على حق، فقد كنا في حيرة مظلمة الأرجاء، وكنا لا ندري كيف نتوجه، وكل ما كنا نملك حينذاك هو الاطلاع على العناصر وتصور ما لها من أهمية لو وضعت في نظام واضح مقبول.
ولكن السبيل إلى ذلك كان في غاية من العسر والصعوبة، فقد كنا جمعنا ألوفا من الجذاذات لا ندري كيف نربط بعضها ببعض، وكيف نسوي منها رسالة للدكتوراه في الفلسفة تستوفي الشرائط الجامعية.
وتجسم الخطر حين نظر المؤلف فرآه يخترق المصاعب وحده بلا هاد ولا معين، فقد كان ظفر بإجازة الدكتوراه قبل ذلك مرتين، مرة من الجامعة المصرية ومرة من جامعة باريس، وكان ذلك كافيا لأن ينصرف عنه الأساتذة ويتركوه يكتب ما يشاء كيف شاء.
ولكن أولئك الأساتذة الذين اعتمدوا على كفايته العلمية لم يتركوه بلا حساب، فقد تدخلوا في تصميم الرسالة وخربوها بأيديهم مرتين، فخرج منها كتاب نشر منذ سنين هو كتاب «المدائح النبوية في الأدب العربي».
والشر قد يكون بابا من الخير في بعض الأحيان. •••
نوقش هذا الكتاب بجلسة علنية في مساء اليوم الرابع من أبريل سنة 1937، ناقشته لجنة عنيفة قهرت المؤلف على التواضع، وهو خلق لم يعرفه من قبل، واقترحت أن يحذف أشياء وأن يضيف أشياء.
وقد رجع المؤلف إلى الكتاب فنظر فيه من جديد وأضاف إليه طائفة من الفصول في الأدب والأخلاق، وحرر بعض الهوامش التي تحدد ما كان يحتاج إلى تحديد في بعض المواطن، وانتفع بإقامته في العراق فتعقب الصلات بين التصوف والتشيع، وقد أعانه ذلك على إمداد كتابه بحيوية جديدة سيرى القارئ شواهدها وهو ينتقل من بحث إلى بحث. •••
هذا، وقد يجد القارئ ما يثيره في مواضع كثيرة من هذا الكتاب، فإن وجد ما يشوكه ويؤذيه فليرجع إلى ما شاكه وآذاه بالدرس والتأمل مرة أو مرتين أو مرات ليوافق أو يعترض على هدى وبصيرة، وليتذكر أن الدراسات الفلسفية لا تقوى ولا تجود إلا إن سلمت سلامة تامة من الرياء وتخوف العواقب.
والمؤلف يرجو أن يتذكر القارئ أيضا أن الصوفية كانوا من أقطاب الحرية الفكرية، فمحاربة هذه الحرية باسم الغيرة عليهم خطأ لا يقع فيه رجل حصيف.
وفي ختام هذه الكلمة الوجيزة أدعو الله تباركت أسماؤه أن يسبغ على هذا العمل الخالص لوجهه الكريم حلة القبول؛ إنه قريب مجيب.
الجزء الأول
دعاء
«اللهم إني أعوذ بك أن أقول قولا حقا فيه رضاك ألتمس به أحدا سواك.
وأعوذ بك أن أتزين للناس بشيء يشينني عندك.
وأعوذ بك أن أكون عبرة لأحد من خلقك.
وأعوذ بك أن يكون أحد من خلقك أسعد بما علمتني مني.»
أحبك يا ربي وأعبدك
ومن أنت يا ربي؟ أجبني فإنني
رأيتك بين الحسن والزهر والماء
فاتحة الكتاب
صفحة من أيام المؤلف في صحبة الصوفية
هذا كتاب في التصوف، والتصوف يوجب نكران الذات، ولكني مضطر إلى الحديث عن نفسي في مطلع هذا الكتاب؛ لأبين كيف أقبلت على هذا الضرب من التأليف.
كنت في حداثتي - كأكثر من ينشأون في الريف - أشهد مجالس الصوفية، وكانت لأبي صلات روحية بأهل الطريق، وكنت أعرف وأنا طفل أني موصول العهد برجل صالح اسمه محمد سعد، وكذلك درجت على احترام أرباب التصوف، وتقديمهم على سائر الناس.
وفي سنة 1912 وأنا طالب في الأزهر اشتدت رغبتي في صحبة الصوفية، وألح الشوق، فأخذت أتنقل من ناد إلى ناد حتى تعرفت إلى رجل فاضل من أساتذة الأزهر الشريف كان يومئذ من كبار الصوفية فأخذت عنه العهد، وبدأت أقوم بالأوراد على طريقة الشاذلية، وكان في صوتي من المرونة ما يساعد على إلقاء الأناشيد، فكنت من المقدمين في الإنشاد.
وفي سنة 1915 رآني ذلك الشيخ صالحا للأستاذية في الطريق فأضاف اسمي إلى قائمة الخلفاء، وكان لي في سنتريس وغير سنتريس مريدون وأتباع، وأذكر أني كنت أحسبني يومئذ من الموفقين.
وفي سنة 1918 قام بيني وبين الشيخ الطماوي نزاع، فقد كان يراني قليل الرعاية للتقاليد الصوفية، وتأملت فرأيت السبب تافها كل التفاهة، فقد غاظه أن أتكلم في حضرته وقد - وضعت رجلا على رجل - وهي جلسة تدل فيما يقال على تعاظم وكبرياء، وحاسبت نفسي فرأيت أني لم أفعل ذلك عن عمد، ثم خطر بالبال أن الصوفية إنما يدعون علم القلوب، فلو كان ذلك الرجل من الملهمين لما آخذني على هفوة شكلية لم يكن لي في وقوعها قصد، ولم تسبقها نية سوء.
وانتهى ذلك الحادث بالقطيعة، ومرت أيام عانيت فيها من الضجر والغيظ ما عانيت، وحاولت أن أصلح ما بيني وبين الشيخ، ولكني لم أفلح في جذب نفسي إليه، فقد اقتنعت بأن الصوفية أرباب ظواهر، وإن ادعوا أنهم أرباب قلوب!
وفي ظلال تلك الأزمة ألفت كتاب «الأخلاق عند الغزالي» الذي نلت به إجازة الدكتوراه من الجامعة المصرية في سنة 1924 وهو كتاب تجنيت فيه على التصوف، ورميت أشياعه بالغفلة والجهل، وجعلت سلوكهم سببا في انحطاط الأمم الإسلامية.
وما كاد ينشر هذا الكتاب حتى ضعفت حماستي لما أقمته عليه من أساس العقل؛ لأن الدنيا كانت بدأت تريني أني تحاملت على الغزالي وتعجلت الحكم على آرائه في سياسة النفس؛ فقد كان يدعو إلى النفرة من الناس، وكنت أرى ذلك من الجبن في الحياة الاجتماعية، ثم تكشفت بعض الحقائق فرأيت المروءة تقضي في أحيان كثيرة بالهرب من الناس. ومن ذا الذي سلم أديمه من عدوان الخلق فلم يتمن الاعتصام من شرهم بالعزلة في شواهق الجبال؟!
وكذلك عدت أستروح بذكرى التصوف وأضمر له الشوق والحنين!
وفي سنة 1927 لقيت الأستاذ ماسينيون في باريس، وقرأت معه فقرات من كتاب الزهرة، وعرفت ميله إلى درس العلاقة بين الحب العذري وبين التصوف، فتسرب إلى صدري بصيص من ضوء الفكرة التي يقوم على أساسها هذا الكتاب. وفي خريف سنة 1930 وشتاء سنة 1931 حضرت دروس الأستاذ ماسينيون بالكولليج دي فرانس في العلاقة بين التصوف والحب الرقيق فازدادت الفكرة وضوحا، وصحت عزيمتي على درس أثر التصوف في الأدب والأخلاق.
المراد من التصوف
ولكن هل التصوف الذي أعرفه اليوم هو التصوف الذي عرفته من قبل؟ هيهات!
لقد كنت أعرف التصوف موصولا بإشارات ورسوم وتقاليد، فعدت لا أعرفه إلا في القلب والروح، وأمست التقاليد تخيفني وترهبني؛ لأنها علامة زهو واستطالة وكبرياء.
كنت أقول مع الغزالي: «التصوف أمر باطن لا يطلع عليه، ولا يمكن ضبط الحكم بحقيقته، بل بأمور ظاهرة يعول عليها أهل العرف في إطلاق اسم الصوفي، والضابط الكلي أن كل من هو بصفة إذا نزل في خانقاه الصوفية لم يكن نزوله فيها واختلاطه بهم منكرا عندهم فهو داخل في غمارهم، والتفصيل أن يلاحظ فيه خمس صفات: الصلاح، والفقر، وزي الصوفية، وألا يكون مشتغلا بحرفة، وأن يكون مخالطا لهم بطريق المساكنة».
1
ثم تبينت أن هذا التعريف يقفني عند شخصية «الدرويش»، وعقلية الدرويش تستحق الاهتمام، ولكن من الخطأ أن تكون كل شيء في التصوف؛ لأنها شخصية ضعيفة، قليلة الأثر في الأدب والأخلاق.
على أن الغزالي نفسه لم يجعلها محور التصوف، بل نص على أن التصوف أمر باطن لا يطلع عليه، ولا يمكن ضبط الحكم بحقيقته، فهو يتصور أن للتصوف حقيقة غير التي درج عليها أهل العرف والاصطلاح.
والحق أن الغزالي لم يقل كلمته هذه إلا في سياق كان يوجب تضييق الحدود وهو بيان الشخصية التي يصرف إليها المال الذي ينص على أنه موهوب للصوفية، وشخصية الدرويش هي الشخصية الصالحة لأخذ الهبات والصدقات.
وقديما حار الناس في تعريف التصوف، وتشعبوا فيه إلى مئة رأي
2
بل زادت أقوالهم في ماهيته على ألف قول،
3
وفي ذلك مخلص لمن يريد أن يقف به عند معنى خاص، كأن يقول: «التصوف هو كل عاطفة صادقة، متينة الأواصر، قوية الأصول، لا يساورها ضعف، ولا يطمع فيها ارتياب».
وهذا التعريف قريب من قول أبي علي الروذباري: «التصوف الإناخة على باب الحبيب وإن طرد عنه»،
4
وقول الجنيد وقد سئل عن التصوف: هو أن يميتك الحق عنك ويحييك به.
5
وكيف يقصر التصوف على أصحاب الرسوم والأشكال وهو من رسوم القلوب وأشكال الأرواح؟!
إن التصوف خليق بأن يصحب كل نزعة شريفة من النزعات الوجدانية، والأساس أن يكمل الصدق ويسود الإخلاص بحيث لا تملك النفس أن تنصرف عما آمنت به واطمأنت إليه في عالم المعاني، وكذلك يتمثل التصوف في صور كثيرة: فيكون في الحب، ويكون في الولاء، ويكون في السياسة حين تقوم على مبادئ تتصل بالروح والوجدان.
ومن شواهد التصوف في الحب قول جميل:
وإني لأرضى من بثينة بالذي
لو ابصره الواشي لقرت بلابله
بلا، وبأن لا أستطيع وبالمنى
وبالأمل المرجو قد خاب آمله
وبالنظرة العجلى وبالحول تنقضي
أواخره لا نلتقي وأوائله
فهذا «الزهد» في الوصل تصوف، وإن لم يذكر اسم صاحبه بين أسماء الصوفية، وإنما كان الزهد تصوفا؛ لأنه من دلائل الصدق وقوة العلاقة الروحية.
وهل يمتري أحد في روح التصوف حين يقرأ هذا الشعر المنسوب إلى قيس بن الملوح:
وأحبس عنك النفس والنفس صبة
بذكراك والممشى إليك قريب
مخافة أن يسعى الوشاة بظنة
وأحرسكم أن يستريب مريب
لقد جعلت نفسي وأنت اخترمتها
وكنت أعز الناس عنك تطيب
فلو شئت لم أغضب عليك ولم يزل
لك الدهر مني ما حييت نصيب
أما والذي يبلو السرائر كلها
ويعلم ما تبدي به وتغيب
لقد كنت ممن تصطفي النفس خلة
لها دون خلان الصفاء حجوب
فما رأيكم في هذا «التوحيد» في الحب؟ ألا ترونه من التصوف؟ فإن لم يكن هذا الترفق تصوفا فما عساه أن يكون؟
وهل تذكرون هذه الأبيات:
لو جز بالسيف رأسي في مودتكم
لمر يهوي سريعا نحوكم رأسي
ولو بلي تحت أطباق الثرى جسدي
لكنت أبلى وما قلبي لكم ناسي
أو يقبض الله روحي صار ذكركم
روحا أعيش به ما عشت في الناس
لولا نسيم لذكراكم يروحني
لعدت محترقا من حر أنفاسي
فأين تجدون ظلال المادة في هذه الأبيات؟ أليست ضريما من قبس الروح؟ فكيف لا تكون من التصوف في الحب؟
وهل تذكرون ابن الدمينة؟ إن ذلك الشاعر لمن أقدم الصوفية في عالم الحب، ومع ذلك لم أجد من تنبه إلى ما في شعره من نفحات التصوف، وكيف ينكر صفاء الروح على من يقول:
وإني لأستحييك حتى كأنما
علي بظهر الغيب منك رقيب
ولو أن ما بي بالحصا فلق الحصا
وبالريح لم يسمع لهن هبوب
ولو أنني أستغفر الله كلما
ذكرتك لم تكتب علي ذنوب •••
بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له
ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب
ولم يعتذر عذر البريء ولم يزل
به سكتة حتى يقال : مريب
لقد ظلموا ذات الوشاح ولم يكن
لنا في هوى ذات الوشاح نصيب
يقولون: من هذا الغريب بأرضنا
أما والهدايا إنني لغريب
6
غريب دعاه الشوق واقتاده الهوى
كما قيد عود بالزمام أديب
7
ألا لا أبالي ما أجنت صدورهم
إذا نصحت ممن أود جيوب •••
يثاب ذوو الأهواء غيري ولا أرى
أميمة مما قد لقيت تثيب
ألا ليت شعري عنك هل تذكرينني
فذكرك في الدنيا إلي حبيب؟
وهل لي نصيب في فؤادك ثابت
كما لك عندي في الفؤاد نصيب؟
فلست بمتروك فأشرب شربة
ولا النفس عما لا ينال تطيب
فلا خير في الدنيا إذا أنت لم تزر
محبا ولم يطرب إليك حبيب
وكيف ينكر الصدق في الحب على من يقول:
ليهنك إمساكي بكفي على الحشا
وإذراء عيني دمعها في زيالك
ولو قلت: طأ في النار أعلم أنه
هوى منك أو مدن لنا من وصالك
لقدمت رجلي نحوها فوطئتها
هوى منك لي أو غية من ضلالك
أرى الناس يرجون الربيع وإنما
ربيعي الذي أرجو جدا من نوالك
أبيني، أفي يمنى يديك جعلتني
فأفرح أم صيرتني في شمالك
لئن ساءني أن نلتني بمساءة
لقد سرني أني خطرت ببالك
ولكن، هل معنى هذا أن كل محب صادق الحب يضاف إلى الصوفية؟
لا. فلو فعلنا ذلك لكان أكثر الشعراء من أرباب التصوف، وإنما نقصر هذا الوصف على من وقف قلبه عند هوى واحد، فالمجنون متصوف، والعباس بن الأحنف متصوف؛ لأن المجنون صورته القصة رجلا لا يعرف في الدنيا غير ليلاه، والعباس يشهد شعره بأنه وقف هواه على «فوز» وشارف حدود الفناء في الحب حين قال:
إذا لم يكن للمرء بد من الردى
فأكرم أسباب الردى سبب الحب
ولو أن خلقا كاتم الحب قلبه
لمت ولم يعلم بحبكمو قلبي
التصوف في الحب والمودة والولاء والسياسة
أما التصوف في المودة فهو قريب من التصوف في الحب، ومن شواهده ما حدث به أبو محمد الزهري قال: كان لثعلب عزاء ببعض أهله، فتأخرت عنه لأنه خفي عني، ثم قصدته معتذرا ، فقال لي: يا أبا محمد! ما بك حاجة إلى أن تتكلف عذرا، فإن الصديق لا يحاسب.
8
وأبرع شاهد على التصوف في الوداد قول التوحيدي:
قلت لأبي سليمان محمد بن طاهر السجستاني: إني أرى بينك وبين ابن سيار القاضي ممازجة نفسية، وصداقة عقلية، ومساعدة طبيعية، ومواتاة خلقية، فمن أين هذا؟ وكيف هو؟
فقال: يا بني! اختلطت ثقتي به بثقته بي، فاستفدنا طمأنينة وسكونا لا يرثان على الدهر، ولا يحولان بالقهر، ومع ذلك فبيننا بالطالع ومواقع الكواكب مشاكلة عجيبة، ومظاهرة غريبة، حتى إنا نلتقي كثيرا في الإرادات والاختيارات والشهوات والطلبات، وربما تزاورنا فيحدثني بأشياء جرت له بعد افتراقنا من قبل فأراها شبيهة بأمور حدثت لي في ذلك الأوان، حتى كأنها قسائم بيني وبينه، أو كأني هو فيها أو هو أنا، وربما حدثته برؤيا فيحدثني بأختها فنراها في ذلك الوقت، أو قبله بقليل، أو بعده بقليل.
وقال بعد كلام: فقلت: هل تجد عليه في شيء، أو يجد عليك في شيء؟
فقال: وجدي به في الأول قد حجبني عن موجدتي عليه في الثاني، على أنه يكتفي مني فيما خالف هواي باللمحة الضئيلة، وأكتفي أنا أيضا منه في مثل ذلك بالإشارة القليلة، وربما تعاتبنا على حال تعرض على طريق الكناية عن غيرنا، كأننا نتحدث عن قوم آخرين، ويكون لنا في ذلك مقنع وإليه مفزع، وقلما نجتمع إلا ويحدثني عني بأسرار ما سافرت عن ضميري إلى شفتي، ولا ندت عن صدري إلى لفظي، وذاك للصفاء الذي نتساهمه، والوفاء الذي نتقاسمه، والباطن الذي نتفق عليه، والظاهر الذي نرجع إليه، والأصل الذي رسوخنا فيه، والفرع الذي تشبثنا به. والله ما يسرني بصداقته حمر النعم، وإذا كنت أعشق الحياة لأني بها أحيا، كذلك أعشق كل ما وصل الحياة بالحياة، وجنى لي ثمرتها، وجلب إلي روحها، وخلط بي طيبها وحلاوتها.
9
والتوحيدي ينظر إلى الصديق نظرة تصوف، وقد علل ميل الرجل إلى أهله وأحبابه بعلل دنيوية، ثم قال على لسان من أنطقه بالحديث: وكل هؤلاء مع شرف موقعهم مني وانتسابهم إلي دون الصديق الذي حريمي له مباح، وسارحي له مراح، أرى الدنيا بعينيه إذا رنوت، وأجد فائتي عنده إذا دنوت، إذا عززت له ذل لي، وإذا ذللت له عز بي، وإذا تلاحظنا تساقينا كأس المودة، وإذا تصامتنا تناجينا بلسان الثقة، لا يتوارى عني إلا حافظا للغيب، ولا يتراءى لي إلا ساترا للعيب.
10
والصداقة على هذا النحو تصوف في الوداد، فقد جمعت أقصى معاني الصدق والإخلاص، ومن الصدق جاءت الصداقة؛ لقيامها على رباط من العطف وثيق.
وشواهد التصوف في الولاء تجل عن الإحصاء، ويكفي أن نشير إلى أظهر ما وعى التاريخ.
كان المتوكل عقد لولده المنتصر والمعز والمؤيد ولاية العهد، ثم تغير على المنتصر دون أخويه، وكان يسميه المنتظر ويقول له: «أنت تتمنى موتي، وتنتظر وقتي!».
11
ودس المنتصر لأبيه من يقتله وهو في مجلس الشراب، فقال البحتري يبكيه وكان في مجلسه ساعة القتل:
فأين الحجاب الصعب حيث تمنعت
بهيبتها أبوابه ومقاصره
وأين عميد الناس في كل نوبة
تنوب وناهي الدهر فيهم وآمره
تخفى له مغتاله تحت غرة
وأولى لمن يغتاله لو يجاهره
تعرض نصل السيف من دون فتحه
وغيب عنه في خراسان طاهره
ولو عاش ميت أو تقرب نازح
لدارت من المكروه ثم دوائره •••
ومغتصب للقتل لم يخش رهطه
ولم تحتشم أسبابه وأواصره
صريع تقاضاه السيوف حشاشة
يجود بها والموت حمر أظافره
أدافع عنه باليدين ولم يكن
ليثني الأعادي أعزل الليل حاسره
ولو كان سيفي ساعة الفتك في يدي
درى الفاتك العجلان كيف أساوره
حرام علي الراح بعدك أو أرى
دما بدم يجري على الأرض مائره
وهل أرتجي أن يطلب الدم واتر
يد الدهر والموتور بالدم واتره
أكان ولي العهد أضمر غدرة
فمن عجب أن ولي العهد غادره
فلا ملي الباقي تراث الذي مضى
ولا حملت ذاك الدعاء منابره
ما رأيكم في هذا الرثاء؟ لقد سبقنا إلى تقديره أبو العباس ثعلب حين قال في هذه القصيدة: «ما قيلت هاشمية أحسن منها، وقد صرح فيها تصريح من أذهلته المصائب عن تخوف العواقب».
12
ولا يمكن تقدير ما في هذا الولاء من التصوف إلا إذا تذكرنا الظروف التي قيلت فيها هذه القصيدة: فذلك خليفة قتل، وكان ابنه هو القاتل، وهو الذي تولى الخلافة من بعده، والبحتري لم يكن إلا شاعرا يعيش على هامش الحياة، فلا صولة ولا جاه ولا مال ولا أنصار، فكيف يتفق له أن يقف هذا الموقف بلا قلب مؤزر بشجاعة الصوفية؟
إن أهم ثمرات التصوف هي الشجاعة، وهي التي خلقت من البحتري رجلا قويا في ذلك اليوم العصيب.
وكذلك يقال فيمن رثوا البرامكة ولم يبالوا بغضب الرشيد، وكيف تنكر الشجاعة الصوفية على رجل مثل سليمان الأعمى أخي مسلم بن الوليد، وقد قام يندب البرامكة على مسمع من الرشيد بهذا الشعر الصارخ:
أصبت بسادة كانوا عيونا
بهم نسقى إذا انقطع الغمام
فقلت وفي الفؤاد ضريم نار
وللعبرات من عيني انسجام
على اللذات والدنيا جميعا
ودولة آل برمك السلام:
جزعت عليك يا فضل بن يحيى
ومن يجزع عليك فلا يلام
هوت بك أنجم المعروف فينا
وعز بفقدك القوم اللئام
أألهو بعدكم وأقر عينا
علي اللهو بعدكم حرام
وكيف يطيب لي عيش وفضل
أسير دونه البلد الشآم
وجعفر تاويا بالجسر أبلت
محاسنه السمائم والقتام
أمر به فيغلبني بكائي
ولكن البكاء له اكتتام
أقول وقمت منتحبا لديه
إلى أن كاد يفضحني القيام:
أما والله لولا خوف واش
وعين للخليفة لا تنام
لطفنا حول قبرك واستلمنا
كما للناس بالحجر استلام
ولنتذكر أن مثل هذا الشعر قيل في أوقات الشدائد يوم كان الباكون على البرامكة معرضين للقتل، أليس هذا الولاء الصادق من شعب التصوف؟
وكان في الأندلس شاعر اسمه محمد بن عيسى، وهو المعروف بابن اللبانة، وهو شاعر كان منقطعا إلى المعتمد بن عباد، وله فيه مدائح، فلما أفل نجم المعتمد وخانته أيامه، وغدر به زمانه، ظل ابن اللبانة ملتزما عهد الوفاء، وكانت له مع أبناء أميره المغلوب نوادر تدل على غزارة المروءة ونبل الطبع؛ ومن حديث ذلك أنه «كان للمعتمد على الله ولد يلقب بفخر الدولة، رشحه للملك من بعده، وجعله ولي عهده، ولقبه بالمؤيد بنصر الله، فعاقته الفتنة عن مراده، وحالت الأقدار بينه وبين إصداره وإيراده، فما برح بفخر الدولة تغير الأيام بعد الفتنة إلى أن أسلم نفسه في السوق وتعلم من الصنائع صنعة الصواغ».
13
ومر ابن اللبانة بذلك الأمير الذي جنت عليه الليالي فحولته إلى صانع ينفخ الفحم في دكان صائغ، فتمثل ما كان عليه، وتفجع لما صار إليه، واندفع يبكيه بهذه القصيدة العصماء:
أذكى القلوب أسى، أبكى العيون دما
خطب وجدناك فيه تشبه العدما
أفراد عقد المنى منا قد انتثرت
وعقد عروتنا الوثقى قد انفصما
شكاتنا فيك يا فخر الهدى عظمت
والرزء يعظم فيمن قدره عظما
طوقت من نائبات الدهر مخنقة
ضاقت عليك وكم طوقتنا نعما
وعاد كونك في دكان قارعة
من بعد ما كان في قصر حكى إرما
صرفت في آلة الصواغ أنملة
لم تدر إلا الندى والسيف والقلما
يد عهدتك للتقبيل تبسطها
فستقل الثريا أن تكون فما
يا صائغا كانت العليا تصاغ له
حليا وكان عليه الحلي منتظما
للنفخ في الصور هول ما حكاه سوى
هول رأيناك فيه تنفخ الفحما
وددت إذ نظرت عيني إليك به
لو أن عيني تشكو قبل ذاك عمى
والله لو أنصفتك الشهب لانكسفت
ولو وفى لك دمع المزن لانسجما
لم يرحم الدهر فضلا أنت حامله
من ليس يرحم ذاك الفضل لا رحما
شقيقك الصبح إن أضحى بشارقه
وأنت في ظلمة فالصبح قد ظلما
أليس هذا الولاء من التصوف؟ وإلى من كان يرغب ابن اللبانة حين يهدي مثل هذا الشعر الموجع؟ لقد ذهبت دولة ابن عباد، وأصبح ابنه شريدا طريدا لا يجد قوت يومه إلا عن طريق العمل المرهق لمن نشأ في قصور الملوك.
إن هذه النفحة من الولاء هي بلا جدال من أشرف ما تجود به النوازع الروحية.
الزهد في قلوب الأغنياء والفقراء، والفاسقين والمتقين
وفي بعض المذاهب السياسية تصوف، فأصحاب هتلر هم اليوم صوفية، والصادقون من أنصار موسوليني صوفية، وأولئك وهؤلاء لهم أشباه في التاريخ الإسلامي ، فالخوارج في حقيقة الأمر سياسيون، ولكنهم في صدقهم وصلوا إلى أبعد غايات التصوف، ولهم أخبار هي نهاية النهايات في الروحانية.
هل سمعتم بأخبار مرداس وقد حبسه عبيد الله فيمن حبس من الخوارج؟
لقد رأى صاحب السجن شدة اجتهاد مرداس وحلاوة منطقه فقال له: إني لأرى لك مذهبا حسنا وإني لأحب أن أوليك معروفا، أفرأيت إن تركتك تنصرف ليلا إلى بيتك أتدلج إلي؟ قال: نعم. فكان يفعل به ذلك. ولج عبيد الله في حبس الخوارج وقتلهم، فكلم في بعض الخوارج فلج وأبى وقال: أقمع النفاق قبل أن ينجم، لكلام هؤلاء أسرع إلى القلوب من النار إلى اليراع.
فلما كان ذات يوم قتل رجل من الخوارج رجلا من الشرط فقال ابن زياد: ما أدري ما أصنع بهؤلاء! كلما أمرت رجلا بقتل رجل منهم فتكوا بقاتله، لأقتلن من في حبسي منهم. فأخرج السجان مرداسا إلى منزله كما كان يفعل، وأتى مرداسا الخبر، فلما كان السحر تهيأ للرجوع فقال له أهله: اتق الله في نفسك فإنك إن رجعت قتلت. فقال: إني ما كنت لألقى الله غادرا! فرجع إلى السجان فقال: إني قد علمت ما عزم عليك صاحبك. فقال: أعلمت ورجعت؟!
14
والخوارج تضرب بهم الأمثال في قوة العقيدة وصحة الدين، وقد يكون تصوفهم راجعا إلى هذه الناحية، ولكنا نرى التصوف في مذهبهم السياسي قبل أن نراه في عقيدتهم الدينية.
وكذلك نقول فيمن تشيعوا لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب وقدموه على سائر الخلفاء، فهم في حقيقة الأمر سياسيون، وما حاربهم الأمويون والعباسيون إلا خوفا من سيطرتهم على المنافع الدنيوية، وصدق أولئك وهؤلاء في الثبات على مبادئهم السياسية هو نفحة من التصوف، وذلك الصدق هو الذي سجل أخبارهم على جبين الزمان.
15
والخلاصة أن التصوف ليس وقفا على أولئك الدراويش الذين يعيشون عيش التسول، ويتخذون شمائل الزهاد، صادقين أو كاذبين؛ إنما التصوف نزعة روحية يحسها الأغنياء كما يحسها الفقراء، ويدركها الفاجر كما يدركها العفيف، وكم لفتة من لفتات الصدق تقع من رجل معروف بالطيش هي أقرب إلى التصوف والروحانية من أعمال كثير من المرائين الذين يلبسون مسوح الرهبان، ويضمرون غرائز اللئام من السباع والحشرات!
إن الرجل الذي يجود بدرهم مما يملك أقرب إلى الزهد من الفقير الذي يعف عن دينار مما لا يملك، وليس الزهد أن تطيب نفسك عن مغانم قد تنال وقد لا تنال، وإنما الزهد أن تطيب نفسك عن مال تعمر به خزائنك، ثم تجود به طائعا للفقراء والمعوزين.
إن من الإجرام في الحياة العقلية والوجدانية أن نصف المفلسين والعجزة بالزهد والعفاف، إن الزهد أن تترك بعض ما تملك، والعفاف أن تكون عند القدرة مسيطرا على هواك. أما أولئك الدراويش الذين لا يقدرون على فسق ولا زيغ فهم طفيليون في عالم الأخلاق. وإنما يتبين الخلق عند الغنى والعافية، فمن شاء أن يدرس التصوف حق الدرس فلينظر في حياة أرباب الثروة الضافية والشباب السليم، أولئك هم المجاهدون في عالم الأخلاق، وأولئك هم الصوفية وإن لم يرتدوا المرقعات ولم يلزموا المحاريب.
إن المال عزيز على مالكيه، وهم لا يبذلونه طائعين، وإنما يتبرعون طاعة لرغبة قاهرة من المعاني النفسية، وهي معان لا يخضع لها المرء إلا إن تصوف.
والشباب غلاب قهار، ولا يسلك الشاب مسلك التجمل إلا طاعة لرغبة عاتية من المعاني النفسية، وهي معان لا يخضغ لها المرء إلا إن تصوف.
وما أريد أن أحكم بأن كل تفضل زهد، أو أدعي أن كل تجمل عفاف، وإنما أقول: بأن الزهد لا يدل على قوة النفس إلا حين يتضمن معنى الحرمان، والحرمان مما تملك أقسى وأصعب من الحرمان مما تؤمل؛ لأن الملك يغريك بالحرص، ويطمعك في المزيد. أما المأمول فهو سراب، والخفة إليه لا تضمن في جميع الأحوال، فالزهد فيه فضيلة الفارغين.
وكذلك العفاف لا يكون إلا عند القدرة والعافية. أما عفاف العجزة والمفلسين فهو من الفضائل الخسيسة التي لا يتمدح بها إلا الرعاع في عالم الأخلاق.
فإن أردتم مثالا للزهد الذي أعنيه فإني أذكركم بالرجل الصالح إبراهيم بن أدهم الذي ترك ماله وجاهه؛ ليتقرب إلى الله بعيش الفقراء .
وإن أردتم مثالا للعفاف فإني أذكركم بألوف الشبان الذين يجاهدون أنفسهم وأهواءهم في سبيل المجد، ويقضون الليل والنهار في العمل الشريف، ولو غفت عنهم مطامحهم العالية لصرعتهم الشهوات.
قد تقولون: وأين هذا من التصوف؟ وأجيب بأن التصوف لا يكون إلا في النفس، وفي النفس عوالم كثيرة بعضها أخطر من بعض، ومن الخطأ أن نقف عند حدود الاصطلاح في عوالم لا تحدها رسوم ولا حدود.
فإن كان التصوف من النقص فلا تقصروه على أولئك الدراويش المساكين، فهم أضعف من أن يتفردوا بالنقص، وإن كان التصوف من الفضل فلا تقصروه على أولئك الدراويش المدعين، فهم أصغر من أن يتفردوا بالفضل!
التصوف في هذا الكتاب
ولكن ما هذا الإلحاح في إسباغ ثوب التصوف على كثير من النوازع الوجدانية؟
نحن لا نريد في هذا الكتاب أن نخرج به عن حدود الاصطلاح، فلن نتكلم عن التصوف في الحب أو الصداقة أو الولاء، ولن نستقصي المعاني التي اصطبغت بروح صوفية وإن بعدت عن الدين، لن نفعل شيئا من ذلك، ولكنا لن نقف عند حرفية التصوف، فنحن نمقت الحروف والحرفيين، ونؤثر المعاني والمعنويين في جميع أبواب الحياة، وكان لا بد أن نلح في بسط هذا الفرض لنأمن اعتراض من يقف في فهم التصوف عند حدود الحروف.
التصوف في هذا الكتاب هو الصدق في العواطف الدينية، الصدق الصادق الصدوق الذي لا يثنيه وعد، ولا يرهبه وعيد، فالكميت عندنا من الصوفية وإن لم ينسبه أحد إلى التصوف؛ لأن حبه لأهل البيت تحول إلى عاطفة دينية رقيقة صادقة جلبت عليه الذل والويل، ودعبل عندنا من الصوفية وإن أنكر ناس أن يكون طبع هذا الرجل صالحا لقبول التصوف؛ لأن تشرد ذلك الشاعر وهيامه من أرض إلى أرض خليق بأن يجعله من الصوفية، فقد كان يضمر من الحب لأهل البيت فنونا من العطف قضت عليه بالزهد في دنيا الخلفاء والأمراء.
16
وأبو نواس الفاجر الفاسق الزنديق هو عندنا في بعض أطواره من الصوفية، فقد مرت به لحظات كان قلبه فيها أرق من الهواء وأطهر من الماء.
أنكون أغير من الله على حرمات الله؟!
إن لأبي نواس أشعارا في الندم هي أقوى وأصدق من كل ما نظم أبو العتاهية في الزهد، وليس بكثير أن يغفر الله لذلك الشاعر الذي ظلم نفسه ثم أناب، فما الذي يضر لو جعلنا أشعار أبي نواس في الزهد من آثار التصوف؛ وإن كان لم يلبس الصوف إلا ليخدع بعض الناس، وليصل إلى مزالق المجون؟!
إن غاية الدرس أن نكشف عن الدقائق المستورة في الآثار الأدبية، وقد يهدينا الدرس مثلا إلى وصف بعض أشعار ابن الفارض الكذب، ونعت بعض أبيات أبي نواس بالصدق، وليس من المستحيل أن يضل مثل ابن الفارض أو أن يهتدي مثل أبي نواس، ولكن جرت العادة أن تؤول هفوات الصالحين، وأن تنسى حسنات المذنبين، فلنجرؤ مرة على التصريح بأن الخضوع لسلطان العرف لا يخلو من جبن أو ضلال، وأن آفة الباحثين أن ينحرفوا عن جهل أو رياء، عصمنا الله من غفلة الجهلة وتزوير المرائين!
فالفكرة الدينية التي يقوم على أساسها التصوف هي ذاتها أساس هذا الكتاب، والتغاضي عن حرفية التصوف لن يخرج الكتاب عن روح التصوف، فالعناية بالأشكال كانت مما أنكره كبار الصوفية، وأباه العظماء من رجال الأخلاق.
الشخصية الأدبية والشخصية الخلقية
بقي أن ننظر في الغرض من هذه الفصول الطوال.
ولنسارع فنقرر أن الصلة بين شطري هذه الفصول وثيقة، فالشطر الأول في الأدب، والثاني في الأخلاق، والأدب في الأصل من صفات النفس، ثم أطلق على جمال التعبير عما تضمر النفوس، ولا عبرة بما اندرج في فن الأدب من التعابير عن المعاني التي تمثل النزق والطيش، فذلك ضرب من الاصطلاح، والمهم أن ننص على أن الأدب الذي يهمنا درسه في هذه الفصول هو تعبير عن خوالج نفسية صادقة يتقبلها الخلق الجميل بأحسن القبول، والشخصية الأدبية هنا هي شخصية خلقية، والرجل الصالح يعظ بالقدوة ويعظ بالقول، فهو شعلة هادية حين يعمل وحين يقول، وليس من المبالغة أن نحكم بأن هذا الكتاب في جملته وتفصيله ليس إلا صورة واحدة من الصور لعلم الأخلاق، والأدب فيه هو أدب النفس، أو هو خليق بأن يكون له في تاريخ الأدب قسم خاص، وكيف لا يكون التعبير عن الخلق من صور الخلق؟ أم كيف يكون من الفضول أن نضيف ما أنشأته الأخلاق إلى علم الأخلاق؟ إن الأدب الصوفي صورة من التصوف؛ لأنه نشأ عن التصوف، كما أن الأدب الماجن من المجون؛ لأنه نشأ عن المجون.
فإن أردتم تفسير ذلك بشاهد من التقاليد الأدبية فإنا نذكر أن القدماء من رجال القرن الثالث، وهم من أقدم من عرفنا من المؤلفين، كانوا يضعون روائع الأدب الصوفي في باب الزهد، وكأنهم كانوا يفهمون أن أدب النساك من الزهد، أو من وسائل الزهد، وما نحسبهم كانوا مخطئين، والذي نفعله اليوم هو رجعة إلى تقاليد ذلك العهد، فنحن نريد أن نضع ملامح جديدة للشخصية الخلقية، وهي عندنا روح يشعر ولسان يبين.
لهذا نرجو ألا يتهمنا أحد بالتحزب للشخصية الخلقية، فما نريد بذلك أن نتحيف من سلطان الشخصية الأدبية، وإنما نريد أن نضع الحق في نصابه وأن نسترد ما انتزعه الأدب من الأخلاق.
فإن سألتم: وهل عند رجال التصوف أخيلة أدبية؟
فإنا نجيب بأن الأدب كل الأدب هو ما أثر عن الصوفية، وإن تجاهله أهل العلم في مصر وغير مصر، بحيث لا نجد له أثرا في البرامج التعليمية، ولا نجد منه شاهدا فيما يتخيره أساتذة المدارس في مختلف الأقطار العربية للحفظ والتسميع.
ارجعوا إلى محصول وزارة المعارف في التأليف، ودلوني على فصل واحد أريد به التذكير بما في كلام الصوفية من أخيلة أدبية، فإن لم تجدوا فتذكروا أن هذه النزعة من وجوه الابتكار في هذا الكتاب، فنحن لن نخلق ما لم يخلق، ولكنا سنكشف عن عالم جديد كان الناس عرفوه ثم جهلوه، وليس من القليل أن نكشف عن موجود مجهول.
قد يقال: إن مدرسي وزارة المعارف لم يغفلوا التصوف، وكيف وهم يحدثون تلاميذهم عنه في دروس الإنشاء!
وهذا صحيح، فالمدرسون يحدثون تلاميذهم عن الصوفية، ولكن كيف؟
كل ما يفعلون هو دعوة الطلبة إلى الكتابة عن البدع والخرافات التي تقع في الموالد العمومية. أما روح التصوف والكلام عما فيه من صور الأدب والأخلاق فأشياء لا تخطر بالبال!
وهناك مظهر لجحود وزارة المعارف لفضل التصوف، فقد اهتم كثير من الفضلاء بالتأليف في علم النفس، أفتدرون إلى من يتوجه أولئك الفضلاء؟
كل همهم أن ينقلوا ما قال الفرنجة في علم النفس، وما رأينا واحدا منهم فكر فيما كتب الصوفية عن الأهواء والشهوات وأصول الخير والشر والضر والنفع، ولو رجعوا مرة إلى إحياء علوم الدين أو حكم ابن عطاء الله لعرفوا أن هناك مصادر للدرس تصلح للنقل والاقتباس.
ولنجرؤ مرة ثانية فنقول: إن الشخصية الخلقية لم تكن يوما من الشواغل الأساسية بقدر ما كانت في كتب الصوفية، ولم يكتب علم للحق ولوجه الحق على نحو ما كتب الصوفية في الأخلاق.
إن الرجل الصوفي حين يؤلف في أدب النفس يجمع بين الصورة القولية والصورة العملية، فهو شعلة من اليقظة الروحية فيما يعمل وفيما يقول.
ونحن في هذا الموطن لن نخلق ما لم يخلق، ولكن سنذكر بأصول أضاعها أهلوها، وذهبوا يتسولون في حياتهم العقلية، وليس من القليل أن تذكر من عضة الجوع وراح يستجدي الجيران بأن في بيته بقايا من الزاد هي أنفع له من بذل ماء الوجه في السؤال!
أيكون معنى هذا أننا ننهي عن الاستفادة مما كتب الأجانب في علم النفس؟
لا، ولكنا نستجهل من يتوهم أن علم النفس لم يخلق إلا بالأمس، وفي بدع اليوم أن يبحث الباحثون عن المعارف التي عرفها القدماء جدا من كهنة مصر إلى فلاسفة اليونان، فليكن من البدع المقبولة أن نتعرف إلى ما كتب المسلمون في علم النفس وعلم الأخلاق، وهم أقرب إلينا مما كتب كهنة المصريين وفلاسفة اليونان.
ما هذا الطغيان؟ أكان للصوفية حقا أدب رفيع يلام على إغفاله أساتذة المدارس في الأقطار العربية؟
إي والله! كان للصوفية أدب هو أعلا وأشرف من أدب البحتري والمتنبي وأبي العلاء، ولكن طافت بالناس طائفة من الجهل فتوهموا أن لا صلة بين الأدب والدين، وراحوا يقفون فيما يتخيرون عند الكتاب والشعراء الذين ألفوا الروح المدنية، واتخذوا غذاءهم من الكئوس المترعة والوجوح الصباح.
إليكم هذا الشاهد النفيس، وهو دعاء لبعض الصالحين:
اللهم إني أستغفرك من كل ذنب قوي عليه بدني بعافيتك، ونالته يدي بفضل نعمتك، وانبسطت إليه بسعة رزقك، واحتجبت فيه عن الناس بسترك، واتكلت فيه على أناتك وحلمك، وعولت فيه على كريم عفوك.
ألا ترون قوة المعنى وطرافة الخيال في هذا الدعاء؟ أليس هذا من البوارع في الصور الأدبية؟... ثم انظروا قول مطرف وهو يستعيذ:
اللهم إني أعوذ بك أن أقول قولا حقا فيه رضاك ألتمس به أحدا سواك، وأعوذ بك أن أتزين للناس بشيء يشينني، وأعوذ بك أن أكون عبرة لأحد من خلقك، وأعوذ بك أن يكون أحد من خلقك أسعد بما علمتني مني.
17
ثم انظروا هذه المناجاة:
وعزتك وجلالك، ما أردت بمعصيتي مخالفتك، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بنكالك جاهل، ولا بعقوبتك ولا بنظرك مستخف، ولكن سولت لي نفسي، وأعانني على ذلك شقوتي، وغرني سترك المرخي علي؛ فعصيتك بجهل، وخالفتك بجهل، فالآن من عذابك من يستنقذني؟ وبحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عني.
18
وهذه الشواهد - عند التأمل - لا تقل خطرا عن الرائع المتخير من كلام الكتاب الفحول.
التصوف في الأدب وفي الأخلاق
يضاف إلى ذلك ما في إشارات الصوفية من بوارق الذكاء، والذكاء هو السر في الروعة الأدبية، ولننظر هذا الشاهد وقد أثبته ابن قتيبة في عيون الأخبار:
19
كان فتى يجالس سفيان الثوري ولا يتكلم، وكان سفيان يحب أن يتكلم ليسمع كلامه، فمر به يوما فقال له: يا فتى! إن من كان قبلنا مروا على خيل وبقينا على حمير دبرة. فقال الفتى: يا أبا عبد الله! إن كنا على الطريق فما أسرع لحوقنا بالقوم!
وللصوفية مواقف في الرثاء لم أر من اهتم بها ممن جمعوا المتخير في الرثاء، وانظروا كيف تكون جودة المعنة، وقوة السبك، ومتانة الديباجة، في قول ابن السماك يوم مات داود الطائي ، وهو رثاء فريد عرف قائله كيف يحدد خصائص من بكاه:
إن داود - رحمه الله - نظر بقلبه إلى ما بين يديه من آخرته، فأعشى بصر القلب بصر العين، فكان كأنه لا ينظر إلى ما إليه تنظرون، وكأنكم لا تنظرون إلى ما إليه ينظر، فأنتم منه تعجبون وهو منكم يعجب، فلما رآكم راغبين مذهولين مغرورين قد أذهلت الدنيا عقولكم، وأماتت بحبها قلوبكم، استوحش منكم، فكنت إذا نظرت إليه نظرت إلى حي وسط أموات.
يا داود! ما أعجب شأنك بين أهل زمانك! أهنت نفسك وإنما تريد إكرامها، وأتعبتها وإنما تريد راحتها، أخشنت المطعم وإنما تريد طيبه، وأخشنت الملبس وإنما تريد لينه، ثم أمت نفسك قبل أن تموت، وقبرتها قبل أن تقبر، وعذبتها ولما تعذب، وأغنيتها عن الدنيا لكيلا تذكر، رغبت نفسك عن الدنيا فلم ترها لك قدرا إلى الآخرة، فما أظنك إلا وقد ظفرت بما طالبت، كان سيماك في سرك ولم يكن سيماك في علانيتك، تفقهت في دينك وتركت الناس يفتون،
20
وسمعت الحديث وتركتهم يحدثون، وخرست عن القول وتركتهم ينطقون، لا تحسد الأخيار ولا تعيب الأشرار، ولا تقبل من السلطان عطية ولا من الإخوان هدية، آنس ما تكون إذا كنت بالله خاليا، وأوحش ما تكون آنس ما يكون الناس، فمن سمع بمثلك، وصبر صبرك، وعزم عزمك! لا أحسبك إلا وقد أتعبت العابدين بعدك، سجنت نفسك في بيتك فلا محدث لك، ولا جليس معك، ولا فراش تحتك، ولا ستر على بابك، ولا قلة يبرد فيها ماؤك، ولا صفحة يكون فيها غذاؤك وعشاؤك، مطهرتك قلبك، وقصعتك تورك.
21
داود! ما كنت تشتهي من الماء بارده، ولا من الطعام طيبه، ولا من اللباس لينه، بلى! ولكن زهدت فيه لما بين يديك، فما أصغر ما بذلت، وما أحقر ما تركت في جنب ما أملت، فلما مت شهرك ربك بموتك، وألبسك رداء عملك، وأكثر تبعك، فلو رأيت من حضرك عرفت أن ربك قد أكرمك وشرفك، فلتتكلم اليوم عشيرتك بكل ألسنتها، فقد أوضح ربك فضلها بك.
22
وكان الصوفية - إلى جانب هذا الإبداع الأدبي - يحولون ثمار الأدب إلى معان روحية، كالذي صنع الشعبي حين قال: ما أعلم لنا وللدنيا مثلا إلا ما قال كثير:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
لدينا ولا مقلية إن تقلت
وكذلك فعلوا في أكثر الأناشيد، فالشعر الذي يعبر عن نوازع حسية نقلوه في أناشيدهم إلى عواطف روحية، وقد أخذوا «ليلى» من «المجنون» فصيروها رمزا لمن يناجون في عالم الأرواح، والصلة قريبة بين عالم الحس وعالم الروح عند من ينظرون بعيون القلوب.
أرأيتم كيف كان للصوفية مكان بين أرباب الآداب؟
أما مكان الصوفية بين أرباب الأخلاق فهو الصدر، وهم أساتذة الناس في هذا الباب.
دعوا المتصوفين الجهلاء الذين يفسدون وهم يزعمون أنهم يصلحون، فإنما يحملون أوزارهم وأوزار أتباعهم يوم الدين، وتعالوا ننظر كيف كان ينظر الصوفية الموفقون إلى دقائق الأخلاق. ألا تذكرون ما نقلناه آنفا من مرثية ابن السماك لداود الطائي؟ ألا تذكرون كيف قال: «كان سيماك في سرك، ولم يكن سيماك في علانيتك»؟
إن هذه اللمحة لمن الدقائق في شرح أحوال القلوب.
وذكر الذين يلبسون الصوف عند الحسن البصري فقال: ما لهم، تفاقدوا تفاقدوا تفاقدوا، أكنوا الكبر في قلوبهم، وأظهروا التواضع في لباسهم؟! والله لأحدهم أشد عجبا بكسائه من صاحب المطرف بمطرفه!
23
ألا ترون كيف فطن إلى خفايا الرياء؟!
والذي ينظر في كتب الصوفية لا يحتاج إلى من ينبهه إلى ما فيها من مظاهر الذكاء والعقل والورع في فهم الأخلاق، وأهمية كتب القوم ترجع إلى ما فيها من الإلحاح في إحياء العزيمة والقلب، والتنفير من الإثم الظاهر والإفك الباطن، والدعوة إلى تظهير النفس من أدران الغفلة والرياء.
الصوفية قوة هائلة في الأخلاق، لا ريب في ذلك، ولكن معاذ الحق أن يغيب عنا أنهم لم يكونوا دائما موفقين، فقد كانت لهم هنوات وهفوات، واستطاع فريق منهم أن يلحق بالعالم الإسلامي ضررا غير قليل، ولو كانت مذاهبهم من الخير المحض أو الشر المحض لما احتجنا إلى تأليف هذا الكتاب، فغايتنا أن ننبه إلى أن لهم محاسن خلقية ينبغي أن تعرف ، ففي الناس من ينكر عليهم كل فضل، وأن لهم مساوي خلقية يجب أن تعرف، ففي الناس من يسند إليهم كل فضل. وما ندعي أننا سننص في هذا الكتاب على جميع ما وفقوا إليه، أو خلطوا فيه، من المذاهب الأخلاقية، فذلك يحتاج إلى مجلدات، ولكننا سنبرز طوائف من مذاهبهم تشعر القارئ بخطرهم في عالم الأخلاق، وسنجتهد في توجيه القارئين إلى أهمية النظر الفاحص الذي لا يكتفي بلمحة واحدة، وإنما يتعقب الظواهر الخلقية فيدرسها من جميع الجوانب ليرى أين يكون الشر والخير، والضر والنفع، ويعرف كيف يختلف الناس حول الظاهرة الواحدة فيقبلها هذا ويرفضها ذاك.
كلمة عن المصادر ومنهج التأليف
لقد أطلنا القول في تحديد الغرض من هذا الكتاب، فلنذكر بإيجاز كيف تخيرنا المصادر وكيف وضعنا التصميم.
أما المصادر الأصلية فهي كتب التصوف أولا، والتجارب الشخصية ثانيا. وأما المصادر الفرعية فهي كتب الأدب والأساطير، وهذه المصادر الفرعية تبدو أحيانا أقوى وأصدق؛ لأن الناس فيها يتكلمون بلا تحفظ ولا احتياط، فلا يستغرب القارئ إن رآنا نرجع إلى قصة عنترة بن شداد أو أخبار أبي نواس.
وأما التصميم فبنيناه على غرض الكتاب، فجعلنا الشطر الأول في الأدب، والثاني في الأخلاق، ولا ننكر أننا وجدنا صعوبة في تمييز بعض الشطرين من بعض؛ لأن فصول الكتاب يمكن إضافتها جميعا إلى الأدب أو إلى الأخلاق، ثم رأينا أن نسلك مسلك النحاة في التفرقة بين البدل وعطف البيان، فكل أثر كانت الصورة الأدبية هي الأظهر فيه أضفناه إلى الأدب، وكل أثر كانت الوجهة الخلقية هي الباعث عليه أضفناه إلى الأخلاق، مع الاعتراف بأن عناصر هذا الكتاب لا يمكن فصل بعضها من بعض إلا بعنف شديد.
ولنقيد أننا وقفنا في هذا البحث عند الأنواع الأدبية والخلقية، ولم نهتم بالزمان والمكان إلا قليلا، فالمدائح النبوية مثلا لم يكن يهمنا منها إلا درس النوع. أما التسلسل الزماني وتعقب الأقاليم التي ازدهر فيها هذا النوع فهو من المباحث الثانوية في هذا الكتاب، وكذلك يقال فيما كتبناه عن الدعاء والأخوة، والحب ، والطعام، والزواج ، والغناء، إلى آخر ما اهتممنا به من المسائل الأدبية والخلقية.
وعند التأمل يظهر أنه لم يكن يحسن بنا غير ذلك، فكتابنا هذا يراد به أثر التصوف في الأدب والأخلاق، أي عرض ما أنشأ التصوف من أدب وما أنشأ من أخلاق. أما الدراسات التي تصف تسلسل هذه الأنواع في مختلف عهود التاريخ، وتنقلها من إقليم إلى إقليم، وسيادتها هنا وانهزامها هناك، فهي دراسات تجيء في المكان الثاني بعد وضوح أغراض هذا الكتاب.
على أننا نظلم أنفسنا حين نقول: إننا أغفلنا الجوانب التاريخية والإقليمية إغفالا تاما، فقد بذلنا جهدا عظيما في إعطاء بعض الأنواع ملامح تميزها من الوجهة التاريخية والإقليمية، ولكنا لم نشأ أن نسترسل في ذلك؛ لئلا يفسد علينا الاسترسال تصميم الكتاب. •••
أما بعد، فإني أعترف بأن هذا البحث فوق طاقتي، وكان من الصعب أن ينهض به رجل واحد، ولكن من المؤكد أن القارئ سيتذكر أن المؤلف طالب يتقدم للامتحان، والطالب يكتفى منه بما يقع في طاقة الطلاب، وإني لمطمئن إلى أني مثلت دور الطالب الذي لا يملك غير الصبر والجهد. أما الزمن فمن الكثير أن يصبر الطالب على درس موضوع واحد أكثر من سبع سنين، وما أضيق وقت الطالب حين يتجاوز الأربعين!
أليس كذلك؟!
أغراض الكتاب
أشرنا إلى أن هذا الكتاب ينقسم إلى قسمين: قسم الأدب وقسم الأخلاق، فلنتبع ذلك شيء من التفصيل فنقول:
الغرض من تأليف هذا الكتاب هو إبراز الملامح الأدبية والخلقية للنزعة الصوفية، وقد دعانا ذلك إلى البدء بالكلام عن اشتقاق التصوف؛ لأن الباحثين اختلفوا فيه اختلافا شديدا، وأثر عنهم فيه كثير من الآراء والأقاويل.
ثم مضينا فبينا نشأة الصوفي منذ كان الصوفية يسمون القراء والزهاد والنساك، وأشرنا إلى ما أثر عنهم من الكنايات والإشارات، وبسطنا القول فيما تفردوا به من الألفاظ والتعابير التي تعين مقاصدهم وهم يتحدثون عن أدواء النفوس وأحوال القلوب.
ثم رأينا أن نقف وقفة عند آثار المرحلة الأولى من التصوف وهي الزهد، فتكلمنا بالتفصيل عن شعر أبي العتاهية؛ لأن زهدياته كانت طليعة الأدب الصوفي في اللغة العربية.
وأقبلنا بعد ذلك على عرض الخصائص التي امتاز بها أدب التصوف، ودرسنا طوائف من الصور الأدبية التي جاءت في وصف الدنيا أو شرح ما عانى الأنبياء والأصفياء من مكاره الحياة.
ثم عطفنا على الأدب الصرف الذي أثر عن الصوفية، فرأيناه ينقسم إلى مجموعات نثرية ومجموعات شعرية، وساقنا ذلك إلى الكلام عن حكم ابن عطاء الله، وهي تمثل ازدهار هذا الفن من الناحية النثرية، والكلام عن المنظومات التي أثرت عن أمثال ابن عربي واليافعي والنابلسي وحسن رضوان، وقفينا على ذلك بالحديث عما أثر عن الصوفية من طرائف الأقاصيص. •••
وكان لا بد لنا بعد ذلك من الإقبال على صميم المذاهب الصوفية من الوجهة الذوقية؛ لأن الأخلاق العملية ليست كل شيء عند أولئك القوم، فعبادتهم في الأغلب ترجع إلى قوة التأمل وطهارة الوجدان، وقد رأينا مذاهبهم في جوهرها ترجع إلى شعب ثلاث: الأولى عاطفة الحب الإلهي، والثانية نظرية وحدة الوجود، والثالثة حب الرسول.
أما الحب الإلهي فقد عقدنا له فصلين، تكلمنا في الفصل الأول عن نشأة هذا الفن في اللغة العربية، وتكلمنا في الفصل الثاني عن أشواق ابن الفارض.
وإنما اهتممنا بالحب الإلهي؛ لأنه يمثل السمو في أذواق الصوفية؛ إذ كانوا يتشهون الفناء في الله، ويرون الأنس به أشرف الأغراض.
وللصوفية في هذا التسامي منطق طريف، فهم يرون أتباع الشرع طلاب جنات ونعيم، أما هم فيرون أنفسهم عشاقا لرب الجنة، وشتان بين من يصافي المالك ومن يتعلق بالمملوك.
وهيام الصوفية بالحب الإلهي حولهم إلى أقباس روحية وذوقية، وجعل حياتهم أوتارا دقاقا تصدح بأعذب الألحان في عالم الأرواح والأذواق.
والحب الإلهي هو الذي جعل الصوفية لا يرون غير المعاني، ولا يعبأون بالأعمال، أليس فيهم من يقول: ذلة العاصي أشرف من كبرياء المطيع؟
1
وربما كان من الواجب أن ننص على أن الحب الإلهي كان في حقيقته من الوسائل للظفر بالجنة الروحية، وربما جاز لنا أن نقول: إنه يشبه المذهب الفلسفي الذي يسمى
Quiétisme
وهو المذهب الذي يؤمن أصحابه بأن حب الله كاف في الوصول إلى نعمة الإخلاص.
وتظهر أهمية هذه العاطفة السامية حين ننظر أثرها في الأدب، ونتعرف ما تركت من أقباس الحنان، وقد وقف الصوفية في التعبير عنها موقفين مختلفين: موقف المنشئين وموقف المنشدين. أما المنشئون فهم الأدباء الكبار الذين استطاعوا قرض الشعر في التشوق إلى الذات الإلهية، وأما المنشدون فهم الذين عجزوا عن النظم، ولكن لم يعجزوا عن تحويل الأشياء الحسية إلى معان روحية، فكان شعراء النسيب ملاذهم حين يغنون.
وقد رأينا كيف يختلف حال البيت الواحد في موطنين: فله في كتب الصوفية نفحات لا نجدها حين نعثر عليه في كتب العشاق.
وإنما كان ذلك كذلك لأن الصوفية يضفون على الأشعار الحسية أثوابا من الذوق والروح حين ينقلونها من عالم الأرض إلى عالم السماء. •••
وعن الحب الإلهي تنشأن نظرية وحدة الوجود، فالصوفية لم يكفهم أن يكون لهم وجود ذاتي يمتاز عن وجود الناس، ولم يكفهم أن يعرفوا بالشوق إلى ذات الديان، وإنما وثب فريق منهم فادعوا أنهم جزء موصول بحقيقة أزلية هي حقيقة واجب الوجود.
فالفريق الذي يحب الله كان يتشرف بنسبة العاشق إلى المعشوق، أما الفريق الثاني فلا يرى عاشقا ومعشوقا، وإنما يرى شوقا يتمثل في حنين الجزء إلى الكل، وهي وثبة جريئة في عالم المعقول.
وهذه النظرية لها مكان في هذا الكتاب، وكان يمكن أن يفرد لها بحث خاص، ولكننا اكتفينا بما أوردناه في درسها وشرحها ونقدها عند الكلام عن ابن عربي؛ لأنه أشهر من دافعوا عن هذه النظرية؛ ولأن درسها في أثناء الحديث عنه يهيئ لها جوا قد لا نستطيع تهيئته حين نفردها بالحديث.
ويحسن أن ننبه إلى أن هذه النظرية شغلت كثيرا من الصوفية، وشطرتهم شطرين: شطرا يؤثر الرفض، وشطرا يؤثر القبول. وكان لمعتنقيها ضحايا أشهرهم الحلاج.
ولكن لا بد من الاعتراف بأن التصوف في جملته يرجع إلى هذه النظرية؛ إذ كان الصوفي الحق لا يهمه إلا الفناء في الله، فإن لم يكن فناء الجزء في الكل فهو فناء العاشق في المعشوق، وربما كان تهيبهم من إعلان هذه النظرية نوعا من التقية وإيثار السلامة من مكايد الناس.
والذي يتأمل آراء الصوفية في مختلف الشئون يراهم لا يقيمون وزنا للظواهر، وإغفال الظواهر لا يستقيم إلا لمن يؤمن إيمانا جازما بأن هناك حقيقة علوية خليقة بأن تشغله عمن سواها من كل موجود.
وكان من همنا في هذا الكتاب أن نبين أثر هذه النظرية في المعاني الأدبية والذوقية، وقد وصلنا من ذلك إلى بعض ما نريد. •••
وعن نظرية وحدة الوجود ينشأ حب الرسول الذي أبدع في اللغة العربية فنا جديدا هو فن المدائح النبوية.
وإنما نشأ حب الرسول عن وحدة الوجود؛ لأن من قالوا بهذه النظرية قرروا أن محمدا عليه السلام هو أول مظهر للذات الأحدية، وأنه خاتم النبيين، وأول الأولين، وآخر الآخرين، وأنه البرزخ بين الذات الأحدية وسائر الموجودات.
وقد نظرنا فيما ترك حب الرسول من الآثار النثرية والشعرية، وسيراه القارئ فيما بعد، فليكن هذا الإجمال في انتظار ذلك التفصيل. •••
ثم رأينا أن نبين كيف نستفيد من كتب التصوف في الدراسات الأدبية فقررنا أنها سجل لصور المجتمع الإسلامي وحياة اللهجات، وساقنا ذلك إلى اتخاذ مؤلفات الشعراني وثيقة صورنا بها المجتمع المصري في القرن العاشر، راجين أن تتاح الفرصة لدرس سائر المجتمعات الإسلامية وفقا للصور الباقية في كتب الصوفية.
وساقتنا الحماسة إلى كتابة فصل أكملنا به القسم الأول، وهو فصل تحدثنا فيه عن أثر التصوف في الفنون، والصلة بين الأدب والفن لا تحتاج إلى من يقيم عليها الدليل. •••
أما القسم الثاني فقد ابتدأناه بدرس مفصل عن نشأة التصوف في الأخلاق، ثم مضينا فتكلمنا عن الأدعية والأوراد والاستغاثات والأحزاب والمقامات والأحوال والتجريد والأسباب وآداب الزواج والطعام والصيام والسماع، وما إلى ذلك مما يمثل مذاهب الصوفية في الحياة الاجتماعية والمعاشية والذوقية.
وختمنا الكتاب بدرس آداب المريدين كما يراها الشعراني؛ لأنه في نظرنا من كبار الباحثين في الآداب العملية؛ ولأن آراءه لا تزال تسيطر على الجماهير من أهل هذه البلاد. •••
ولا بد من النص مرة ثانية على أنه كان من الصعب أن نفصل بين مظاهر الأدب والأخلاق فصلا تاما في فصول هذا الكتاب، فكل نص أدبي يحمل في سطوره معاني أخلاقية، وكل حكمة خلقية أو ذوقية تحمل في ثناياها صورة أدبية، ومن أجل ذلك قاسيت ضروبا من العناء في ربط فصول هذا الكتاب بعضها ببعض، ولم أصل إلى نظامه الحاضر إلا بعد جهد عنيف.
ولو كان هذا الكتاب في تاريخ التصوف لكان المنهج أوضح وأسهل، ولو كان في شرح المذاهب الصوفية لما لاقينا في نظامه كثيرا من العناء، ولكنه وقع في موضوع كانت طرافته كالأزهار تحميها الأشواك، فتعبنا وأتعبنا، ولولا الصبر لأعيتنا وعورة الطريق «وكلما عظم المطلوب وشرف صعب مسلكه، وطال طريقه، وكثرت عقباته» كما قال الغزالي طيب الله ثراه.
وسبحان من لو شاء لجزانا بفضله وكرمه، وأسبغ على عملنا حلة القبول.
اشتقاق كلمة تصوف
قدم التصوف في الجزيرة العربية
كان الأستاذ مصطفى عبد الرازق نشر كلمة في مجلة المعرفة
1
عن اشتقاق كلمة تصوف، وكانت كلمته سببا في إثارة الجدل حول هذه اللفظة، فرأينا من المفيد أن نتعقب هذه الكلمة لنرى أي الآراء أرجح في تعرف أصلها القديم، وهي تحتمل أربعة فروض: الأول أن يكون الصوفي منسوبا إلى صوفة، والثاني أن يكون منسوبا إلى الصوف، والثالث أن يكون مشتقا من الصفاء، والرابع أن يكون منسوبا إلى كلمة «سوفيا» اليونانية.
دلالة الصوف على الخشونة والتواضع
أما صوفة الذي قيل: إن الصوفي نسب إليه فهو اسم رجل كان انفرد بخدمة الله سبحانه وتعالى عند بيته الحرام، واسمه الغوث بن مر، فانتسب الصوفية إليه لمشابهتهم إياه في الانقطاع إلى الله، وإلى القارئ ما يقول ابن الجوزي في ذلك:
أنبأنا محمد بن ناصر عن أبي إسحاق إبراهيم بن سعيد الحبال قال: قال أبو محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ قال: سألت وليد بن القاسم: إلى أي شيء ينسب الصوفي؟ فقال: كان قوم في الجاهلية يقال لهم: صوفة انقطعوا إلى الله عز وجل وقطنوا الكعبة، فمن تشبه بهم فهم الصوفية. قال عبد الغني: فهؤلاء المعروفون بصوفة ولد الغوث بن مر بن أخي تميم بن مر. وبالإسناد إلى الزبير بن بكار قال: كانت الإجازة بالحج للناس من عرفة إلى الغوث بن مر بن أد بن طابخة ثم كانت في ولده، وكان يقال لهم: صوفة، وكان إذا حانت الإجازة قالت العرب: أجز صوفة. قال أبو عبيدة: وصوفة وصوفان يقال لكل من ولي من البيت شيئا من غير أهله أو قام بشيء من أمر المناسك. قال الزبير: حدثني أبو الحسن الأثرم عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي قال: إنما سمي الغوث بن مر صوفة؛ لأنه ما كان يعيش لأمه ولد، فنذرت لئن عاش لتعلقن برأسه صوفة ولتجعلنه ربيط الكعبة، ففعلت، فقيل له: صوفة ولولده من بعده. قال الزبير: وحدثني إبراهيم بن المنذري عن عبد العزيز بن عمران قال: أخبرني عقال بن شبة قال: قالت أم تميم بن مر وقد ولدت نسوة: لله علي إن ولدت غلاما لأعبدنه للبيت.
2
فولدت الغيث بن مر فلما ربطته عند البيت أصابه الحر فمرت به وقد سقط واسترخى فقالت: ما صار ابني إلا صوفة؛ فسمي صوفة، وكان الحج وإجازة الناس من عرفة إلى منى، ومن منى إلى مكة لصوفة، فلم تزل الإجازة في عقب صوفة حتى أخذتها عدوان، فلم تزل في عدوان حتى أخذتها قريش.
3
وهذا الكلام المهم في موضوعه لم يخترعه ابن الجوزي، فقد كان معروفا، وأشار إليه الزمخشري في أساس البلاغة، والفيوزآبادي في القاموس المحيط.
صورته في الأخيلة الشعبية
والواقع أن التنسك كان معروفا في الجاهلية، وقد حدثنا ياقوت عن حنظلة بن أبي عفراء الذي بنى دير حنظلة بالقرب من شاطئ الفرات «وكان قد نسك في الجاهلية وتنصر وبنى هذا الدير فعرف به»،
4
وحدث الخطيب البغدادي بسنده عن ابن المبارك عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله تعالى:
يا أخت هارون
قال: كان رجلا صالحا في بني إسرائيل حضر جنازته أربعون ألفا ممن اسمه هارون سواه،
5
والصلاح هنا هو التنسك، وأخت هارون هي مريم وكانت بأرض موصولة بالبلاد العربية.
وكان في الجاهلية لفظة هي «الديان»، وكان في الجاهليين يزيد وعبد المسيح «ابنا الديان» مدحهما الأعشى فقال:
فإن تفعلا خيرا وترتديا به
فإنكما أهل لذاك كلاكما
وإن تكفيا نجران أمر عظيمة
فقبلكما ما سادها أبواكما
6
والديان المتنسك في الدين، ومثله الرباني وهي كلمة قديمة عرفتها العربية والسريانية، وظلت من ألفاظ التمجيد، وقد وصف البويطي بأنه «كان إماما ربانيا كثير العبادة والزهد»،
7
والربانيون فوق الأحبار درجة.
8
وقد فسر الرهبان في القرآن الزهاد.
9
وروي عن النبي أنه قال: «لا صام من صام الأبد».
10
وصيام الأبد نوع من التصوف كان موجودا قبل النبي، ولولا ذلك ما نهى عنه، وكان الذين يصومون الأبد يحيون سنة جاهلية يحسبونها من كمال الدين.
وليس ما يمنع أن يكون التصوف عرف في الجاهلية باسمه ورسمه ثم كانت له رجعة في الإسلام، فذلك مصير كثير من الآراء الأدبية والدينية والاجتماعية.
والفرض الثاني أن يكون الصوفي منسوبا إلى الصوف، وقد تعقبنا هذا الفرض فرأيناه أصح الفروض وإن استضعفه الألوسي،
11
ولتأييد هذا الفرض شواهد كثيرة جدا قيدناها في مطالعاتنا، وسنكتفي منها بالمهم في هذا الباب.
فقد حدث اليافعي أن لباس الصوف كان غالبا على المتقدمين من سلف الصوفية لكونه أقرب إلى الخمول والتواضع والزهد؛ ولكونه لباس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقد جاء أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كان يركب الحمار ويلبس الصوف، وعنه
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «مر بالصخرة من الروحاء سبعون نبيا حفاة عليهم العباء يؤمون البيت الحرام». وعنه
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «يوم كلم الله تعالى موسى عليه السلام كان عليه جبة من صوف وسراويل من صوف وكساء من صوف». وقيل: إن عيسى عليه السلام كان يلبس الصوف والشعر ويأكل من الشجر ويبيت حيث أمسى. وقال الحسن البصري (رضي الله عنه): لقد أدركت سبعين بدريا كان لباسهم الصوف.
12
وهذا الكلام صريح في أنه كان مفهوما أن الأنبياء والصالحين كانوا يؤثرون لبس الصوف.
وروي عن النبي أنه قال: «من لبس الصوف، وأكل خبز الشعير، وركب الأتان؛ فليس فيه شيء من الكبر».
13
وروي عنه أنه قال: «البسوا الصوف وشمروا وكلوا في أنصاف البطون تدخلوا في ملكوت السماء».
14
ويؤيد هذين الأثرين ما جاء في مرثية عمر لرسول الله إذ قال:
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد اتبعك في قلة سنك، وقصر عمرك، ما لم يتبع نوحا في كثرة سنه، وطول عمره، ولقد آمن بك الكثير وما آمن معه إلا القليل. بأبي أنت وأمي يا رسول الله لو لم تجالس إلا كفؤا لك ما جالستنا، ولو لم تنكح إلا كفؤا لك ما نكحت إلينا، ولو لم تواكل إلا كفؤا ما واكلتنا، فلقد والله جالستنا ونكحت إلينا وواكلتنا، ولبست الصوف، وركبت الحمار، وأردفت خلفك، ووضعت طعامك على الأرض، ولعقت أصابعك؛ تواضعا منك.
15
وهذا النص على جانب عظيم من الأهمية، ومن المحتمل أن يكون الصوفية لبسوا الصوف أول الأمر ليصح لهم الاقتداء بتواضع الرسول، ولا سيما إذا تذكرنا أن الرسول أقبل على أهل الصفة فواساهم، ولم يكن عندهم غير جباب الصوف.
16
والصوف قديما كان مظهر التخشن والتقشف، وقد وصفوا ابن أدهم بأنه حمل جلده على ضعفه خشونه الصوف،
17
وأخذوا على المرائين أنهم يعذبون أنفسهم بلبس الصوف،
18
وحدث المبرد أن محمد بن جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك قال: قال أبي لأبيه يحيى بن خالد بن برمك - وهم في القيود والحبس: يا أبت! بعد الأمر والنهي والأموال العظيمة أصارنا الدهر إلى القيود ولبس الصوف والحبس».
19
فلبس الصوف هنا علامة الذل وسوء الحال، وفي هذا المعنى قول أبي تمام في تقلب الزمان:
كانوا برود زمانهم فتصدعوا
فكأنما لبس الزمان الصوفا
20
وقول أبي فراس يخاطب سيف الدولة بن حمدان:
يا واسع الدار كيف توسعها
ونحن في صخرة نزلزلها
يا ناعم الثوب كيف تبدله
ثيابنا الصوف ما نبدلها
21
وقول الشريف الرضي يصف أباه بالوقار:
ما التذ لبس الصوف إلا
من تعمم بالقتير
متخدد الخدين مغبر
الذوائب والضفور
أسر الوقار طماحه
والقد أملك بالأسير
وكان مكتوبا على أحد جوانب دير هند :
إن بني المنذر عام انقضوا
بحيث شاد البيعة الراهب
تنفح بالمسك ذفاريهم
وعنبر يقطبه القاطب
والقز والكتان أثوابهم
لم يجب الصوف لهم جائب
22
ومعنى هذا أن لبس الصوف كان يعيب المياسير.
وفي مثل هذا ما حدثوا أن إبراهيم بن أدهم كان من أبناء الملوك فخرج يوما متصيدا فأثار ثعلبا أو أرنبا وهو في طلبه، فهتف به هاتف: يا إبراهيم! ألهذا خلقت؟ أم بهذا أمرت؟ ثم هتف به أيضا من قربوس سرجه: والله ما لهذا خلقت، ولا بهذا أمرت، فنزل عن دابته وصادف راعيا لأبيه، فأخذ جبة الراعي من صوف ولبسها وأعطاه فرسه وما معه، ثم دخل البادية.
23
فالصوف من لباس الرعاة، وابن أدهم حين جاءه الهاتف ترك فرسه وما معه وتصوف؛ أي: لبس الصوف ليلحق بالزهاد.
24
وقال عبد الله بن شداد: «أربع من كن فيه برئ من الكبر: من اعتقل البعير، وركب الحمار، ولبس الصوف، وأجاب دعوة الرجل الدون»، وهذا الكلام أثبته الجاحظ في البيان والتبيين،
25
وهو يفسر ما نقلناه آنفا من رثاء عمر بن الخطاب للرسول، فقد عد من تواضعه - عليه السلام - ركوب الحمار ولبس الصوف.
ومن كلام ابن الجوزي: «كان الزهد في بواطن القلوب فصار في ظواهر الثياب، كان الزهد حرقة فصار اليوم خرقة، ويحك! صوف قلبك لا جسمك، وأصلح نيتك لا مرقعتك».
26
والصوف في هذا الكلام علامة الزهد.
وذكر الذين يلبسون الصوف عند الحسن فقال: أكنوا الكبر في قلوبهم، وأظهروا التواضع في لباسهم، والله لأحدهم أشد عجبا بكسائه من صاحب المطرف بمطرفه.
27
وفي أخبار الحاكم أنه في سنة أربع مئة لبس الصوف يوم عاشر رمضان وركب الحمار وأظهر النسك.
28
وتلك رجعة إلى سيرة الرسول التي رأيناها آنفا في مرثية عمر بن الخطاب.
وعبر دعبل الجسر ببغداد وأبو سعد واقف على دابته عند الجسر وعليه ثوب صوف مشبه بالخز مصبوغ، فضرب دعبل بيده على فخذه وقال: دعي على دعي.
29
يريد أنه يدعي الجاه بلبس ثوب مشبه بالخز، مع أن ثوبه في الحقيقة من صوف، وهو لباس الفقراء.
وسئل أبو علي الروذباري فقيل له: من الصوفي؟ فقال: من لبس الصوف على الصفا.
30
فلبس الصوف عنده إشارة الزهد ولكنه لا يغني عن الصفاء.
وقيل لأبي الحسين بن سمعون: أيها الشيخ! أنت تدعو الناس إلى الزهد في الدنيا والترك لها، وتلبس أحسن الثياب، وتأكل أطيب الطعام، فكيف هذا؟ فقال: كل ما يصلحك لله فافعله، إذا صلح حالك مع الله بلبس لين الثياب وأكل طيب الطعام فلا يضرك.
31
كأنهم كانوا ينكرون أن يلتئم لين الثياب مع الزهد، أما أخشنها فهو الصوف.
وقال الجنيد: إذا رأيت الصوفي يعنى بظاهره فاعلم أن باطنه خراب.
32
والظاهر هو خشونة الثوب.
وأنشد أبو حيان في جاهل لبس صوفا وزهد فيه:
أيا كاسيا من جيد الصوف نفسه
ويا عاريا من كل فضل ومن كيس
أتزهى بصوف وهو بالأمس مصبح
على نعجة واليوم أمسى على تيس
33
ومعناه أن لبس الصوف لا يغني عند عري النفس عن الفضل والذكاء.
المرقعات في البيئات الصوفية
والواقع أن الصوف كان شارة الزهد، وهو المراد بزي الصوفية الذي وصف به المقري أحد الفقهاء،
34
والذي جعله الغزالي من صفات من يصرف إليهم ما يوصى به للصوفية،
35
وبه يوجه قول ياقوت: «وكان التوحيدي صوفي السمت والهيئة»،
36
والصوف هو «شعار الصالحين» الذي أضافه الثعالبي إلى الكنايات،
37
ومن أجل ثوب الصوف ظن جماعة أن يحيى بن أكثم من الصوفية حين رأوه ولم يعرفوه،
38
ونقل المستر مرجوليوث عن قاموس دوزي من كتاب اسمه رياض النفوس: «رأيت رجلا عليه جبة من صوف فقلت له: يا صوفي».
39
وكلف أبو نواس بغلام نصراني ولم يدر كيف يحتال في أمره «فعمد إلى جبة صوف قصيرة فلبسها، وسروال قصير، ونعل رقيق، وتزيا بزي الزهاد» إلى آخر الحكاية.
40
فالفجرة كانوا يعرفون أن لبس الصوف يدفع عنهم الشبهات.
وكانت الجماهير لا تتمثل الصالحين إلا في الثياب الصوفية، قال الزبيدي نقلا عن كتاب بهجة الناظرين وأنس العارفين: ومما حدثنا به من أدركنا من المشيخة أن الإمام أبا حامد الغزالي لما حضرته الوفاة أوصى رجلا من أهل الفضل والدين كان يخدمه أن يحفر قبره في موضع بينه، ويستوصي أهل القرى التي كانت قريبة إلى موضعه ذلك بحضور جنازته، وألا يباشره أحد حتى يصل ثلاثة نفر من الفلاة لا يعرفون ببلاد العراق: يغسله اثنان منهما، ويتقدم الثالث للصلاة عليه بغير أمر ولا مشورة. فلما توفي فعل الخادم كل ما أمره به، وحضر الناس، فلما اجتمعوا لحضور جنازته رأوا ثلاثة رجال خرجوا من الفلاة، فعمد اثنان منهم إلى غسله، واختفى الثالث ولم يظهر، فلما غسل وأدرج في أكفانه، وحملت جنازته، ووضعت على شفير قبره ظهر الثالث ملتفا في كسائه وفي جانبه علم أسود، معمما بعمامة من صوف، وصلى عليه وصلى الله بصلاته، ثم سلم وانصرف وتوارى عن الناس.
41
والقصة مصنوعة، ولكنها تمثل رأي الجماهير في لباس الصوف.
وفي قصة عنترة بن شداد - وهي تمثل النزعات الشعبية - أنه بينما كان النمرود جالسا في منظره عالية تشرف على خارج المدينة نظر إلى جماعة من الأحبار العباد عليهم لباس الشعر والصوف ... إلخ.
42
ويؤكد التزام الصوفية للبس الصوف حرصهم على المرقعة؛ أي: الثوب المرقع، ومن رأي ابن الجوزي أنهم لما سمعوا أن النبي كان يرقع ثوبه وأنه قال لعائشة: لا تخلعي ثوبا حتى ترقعيه وأن عمر بن الخطاب كان في ثوبه رقاع اختاروا المرقعات،
43
وكذلك صارت المرقعة عنوانا عليهم، وروي عن الثوري أنه قال: «كانت المرقعات غطاء على الدر فصارت جيفا على مزابل»،
44
ونظر محمد بن محمد الكتاني إلى أصحاب المرقعات فقال: «إخواني! إن كان لباسكم موافقا لسرائركم فقد أحببتم أن يطلع الناس عليها، وإن كان مخالفا لسرائركم فقد هلكتم ورب الكعبة».
44
وقال محمد بن عبد الحق لبعض أصحابه: «لا يعجبنك ما ترى من هذه اللبسة الظاهرة عليهم، فما زينوا الظواهر إلا بعد أن خربوا البواطن».
44
وهذا التقريع لا يوجه إلا لقوم يلبسون المرقعة بلا انقطاع؛ ولذلك كره بعض شيوخهم لبس المرقعة خوفا من طوارق الرياء ومن التعرض للسؤال،
45
ولا يكون لبس المرقعة بابا إلى الرياء إلا حين تكون علامة قاطعة على التصوف وهي لا تعرض صاحبها للصدقات إلا لدلالتها على الفقر والبؤس.
ويؤيد ذلك الملحظ ما حدث النضر بن شميل إذ قال: قلت لبعض الصوفية: تبيع جبتك الصوف؟ فقال: إذا باع الصياد شبكته فبأي شيء يصطاد؟!
46
وكانوا يرون نزع المرقعة علامة الإقبال على الدنيا، ويذكرون أن محمد بن أحمد بن موسى قدم بغداد وأقام بها مدة يتكلم بلسان الوعظ، ويشير إلى طريقة الزهد، ويلس المرقعة، ويظهر عزوف النفس عن طلب الدنيا، فافتتن به الناس لما رأوا من حسن طريقته، وكان يحضر مجلس وعظه قوم لا يحصون، ثم إنه قبل ما كان يوصل به بعد امتناع شديد كان يظهره من قبل، وحصل له ببغداد مال كثير، ونزع المرقعة ولبس الثياب الناعمة الفاخرة وجرت له أقاصيص وصار له تبع وأصحاب.
47
وترقيع الثياب في الأصل من علامات الفقر، ومنه قول عروة بن الزبير: لقد تصدقت عائشة (رضي الله عنها) بخمسين ألفا وإن درعها لمرقع،
48
وهذه الخمسون ألفا لا يمكن أن تكون دنانير.
وينكر ابن الجوزي أن يكون للمرقعة أصل في السنة،
49
وهذا يدل على أن الصوفية كانوا يتسامون إلى جعل المرقعة من السنن النبوية، وذلك دليل جديد على تشبثهم بالمرقعات.
على أنه لا موجب لكل هذا العناء في الاستقصاء، فالصوفية كانوا يعرفون نسبتهم إلى الصوف، قال أبو سليمان الداراني لرجل لبس الصوف: إنك قد أظهرت آلة الزاهدين، فماذا أورثك هذا التصوف؟ فسكت الرجل. فقال له: يكون ظاهرك قطنيا وباطنك صوفيا.
50
ودخل أبو محمد ابن أخي معروف الكرخي على أبي الحسن بن بشار وعليه جبة صوف، فقال له أبو الحسن: يا أبا محمد! صوفت قلبك أو جسمك؟ صوف قلبك والبس القوهي على القوهي.
50
وكان لبس الصوف يؤكد الخشوع كقول من قال: «رأيت امرأة متبتلة تلبس صوفا».
51
وهذا كله ظاهر، ولكن يهمنا أن نقيد في هذا البحث أن لبس الصوف كان من تقاليد النصرانية، وهي في أصلها تصوف وروحانية، روى ابن قتيبة بسنده قال:
بلغني أن عيسى خرج على أصحابه وعليه جبة من صوف وكساء وتبان
52
حافيا مجزوز الرأس والشاربين ، باكيا شعثا مصفر اللون من الجوع، يابس الشفتين من العطش، طويل شعر الصدر والذراعين والساقين، فقال: السلام عليكم يا بني إسرائيل! أنا الذي أنزلت الدنيا منزلها، ولا عجب ولا فخر، أتدرون أين بيتي؟ قالوا: أين بيتك يا روح الله؟ قال: بيتي المساجد، وطيبي الماء، وإدامي الجوع، ودابتي رجلي، وسراجي بالليل القمر، وصلائي في الشتاء مشارق الشمس، وطعامي ما تيسر، وفاكهتي وريحاني بقول الأرض، ولباسي الصوف وشعاري الخوف، وجلسائي الزمنى والمساكين، أصبح وليس لي شيء، وأمسي وليس لي شيء، وأنا طيب النفس غني مكثر، فمن أغنى وأربح مني؟
53
إيثار المسيح والرهبان لزي الصوفية
وهذا النص صريح في إيثار المسيح للبس الصوف.
وقال ابن سيرين: كان عيسى عليه السلام يلبس الصوف ونبينا يلبس الكتان، وهو أحب إلينا أن نقتدي به.
54
وكانت المسوح - وهي ثياب الرهبان - مما يحمد لبسه في الجاهلية، و«كان أمية بن أبي الصلت قد نظر في الكتب وقرأها، وليس المسوح تعبدا»،
55
وكان عيسى عليه السلام يقول: يا بني إسرائيل! ما لكم تأتونني وعليكم ثياب الرهبان وقلوبكم قلوب الذئاب الضواري، البسوا لباس الملوك، وألينوا قلوبكم بالخشية،
56
فهو يعرف الثياب، ولكنه ينكر القلوب.
ولعله لأجل هذا - أي: نسبة الصوف إلى الرهبان - كان من زهاد المسلمين من يرى لبس الصوف بدعة، فقد قال سفيان الثوري لرجل عليه صوف: لباسك هذا بدعة،
57
والجاحظ يحدثنا أن النصراني يلبس الصوف حين يتنسك
58
وفي رسائل إخوان الصفا أن راهبا قدم في ثوب من صوف.
59
احترام كلمة راهب في الأدب القديم
والواقع أن كلمة «راهب» كان يلحظ فيها شيء من المعاني التعليمية، وقد قال الرشيد:
كان أبو العباس عيسى بن علي راهبنا وعالمنا أهل البيت.
60
وكان في كلمة «القس» معنى الخشوع، ومنه عبد الرحمن القس الذي لقب بذلك لورعه، وهو الذي عشق سلامة المغنية
61
التي سميت سلامة القس، وكان صوفيا أضرعه الحب فقال:
قد كنت أعذل في السفاهة أهلها
فاعجب لما تأتي به الأيام
فاليوم أعذرهم وأعلم أنما
سبل الضلالة والهدى أقسام
وهذا لا ينافي نهي الرسول عن الرهبانية والتبتل، فقد كان عيسى في ثيابه وشمائله مضرب المثل في الزهد، وكان المسلمون يتقصون أخباره وأخبار أصحابه، ولا ينكرون على بعضهم غير الرياء.
ولم يكن المسلمون في الصدر الأول ينظرون إلى النصرانية كما نظروا إليها فيما بعد، وكما ينظرون اليوم؛ لأن المودة بين الديانتين كان لها وجود، وكان النبي أثنى على القسيسين والرهبان وفقا لكلمة القرآن المجيد
لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون * وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين .
62
وهذا خليق بأن يمنح الرهبان شيئا من الجاذبية، وأن يحبب إلى الزهاد الاقتداء بهم في لبس الصوف.
نقض الرأي القائل بنسبة الصوفي إلى الصفاء أو نسبته إلى (سوفيا) من اللغة اليونانية
أقول هذا ولا أجزم بأن في لبس الصوف رجعة إلى التقاليد المسيحية، ولكن القارئ عرف أن النبي محمدا كان يستحب لبس الصوف تواضعا، وأن النبي عيسى كان يستحب لبسه كذلك تواضعا، وأن الرهبان في المسيحية والزهاد في الإسلام كان يستحبون لبس الصوف، وفي مجموع ما أسلفنا من الشواهد مقنع لمن يرتاب في نسبة الصوفي إلى الصوف.
يضاف إلى ذلك ما روي من أن كلمة «صوفي» وردت في كلام منسوب إلى الحسن البصري وهو من التابعين فقد قال: رأيت صوفيا في الطواف فأعطيته شيئا فلم يأخذ وقال: معي أربعة دوانق يكفيني ما معي،
63
ويشبه هذا قول سفيان: لولا أبو هاشم الصوفي ما عرفت دقائق الرياء،
64
ويؤيد هذا وذاك ما جاء في كلام بعض المؤلفين من أن مكة كانت خلت قبل الإسلام في وقت من الأوقات حتى كان لا يطوف بالبيت أحد وكان يجيء من بلد بعيد رجل صوفي فيطوف بالبيت ثم ينصرف
65
فاللفظة على ذلك قديمة، وقدمها يرجح نسبتها إلى من استحبوا الصوف من الأنبياء.
والفرض الثالث نسبتها إلى الصفاء، وليس هذا الفرض إلا حذلقة من بعض الصوفية الذين عبر أبو الفتح البستي عن غرورهم حين قال:
تنازع الناس في الصوفي واختلفوا
فيه وظنوه مشتقا من الصوف
ولست أنحل هذا الاسم غير فتي
صافى فصوفي حتى لقب الصوفي
وقد سخر منهم أبو العلاء فقال:
صوفية ما رضوا للصوف نسبتهم
حتى ادعوا أنهم من طاعة صوفوا
66
وقد استبعد ذلك القشيري وهو من أقطاب الصوفية.
والفرض الرابع - وهو نسبتها إلى سوفيا اليونانية - ليس إلا ضربا من الإغراب، وقد قال به أبو الريحان البيروني سنة 440 وقال به فون هامر من المستشرقين وتعصب له الأديب عبد العزيز الإسلامبولي،
67
والأستاذ محمد لطفي جمعة في مقال كتبه في المعرفة،
68
ومقال كتبه في البلاغ.
وكلمة «سوفيا» اليونانية معناها الحكمة، ومنها فيلسوف: أي محب الحكمة وكانت الفلسفة عند اليونان القدماء تهتم بالعلوم الطبيعية، وكان كثير من فلاسفتهم أطباء، وقد ترجمها العرب فسموا الطب الحكمة، وكلمة حكيم لا تزال تؤدي معنى كلمة طبيب، والفلسفة نفسها سماها العرب الحكمة، وقالوا: تاريخ الحكماء، فهم عرفوا من «سوفيا» الفلسفة والطب. أما الحكمة الروحانية فمن البعيد أن يكونوا لمحوها؛ لأنهم كانوا يرون اليونان من عبدة الأوثان.
على أنه ما الذي يمنع من أن تكون «سوفيا» بمعنى الحكمة الروحانية جاءت من كلمة صوف، وهي قديمة في العربية؟ إن التصوف قديم جدا عند العرب، وهو أساس المسيحية، ولبس الصوف كان علامة التقشف، فليس من المستبعد أن ترحل كلمة صوف إلى معابد اليونان.
ولا يفوتنا أن نقيد أن العرب كانوا مولعين بحفظ ما يدخل لغتهم من الألفاظ الأجنبية، ولو كان «التصوف» من «سوفيا» لنصوا عليه في كثير من المؤلفات فلم يبق إلا أن يكون ورودها في كلام البيروني بابا من الإغراب.
خاتمة البحث
وقد بقيت فروض لا تقوى على احتمال البحث كالنسبة إلى الصف بالفتح، والصفة بالضم، والصفة بالكسر، وعند التأمل نجد هذه الفروض لم تعرف إلا بعد الصدر الأول حين استقل الصوفية نسبتهم إلى الصوف!
وغرام بعض الكاتبين من أهل هذا الزمان برد الصوفي إلى سوفيا اليونانية يمثل إحدى النزعات العصرية، ففي أهل هذا الزمن من يرد كل كلمة عربية إلى أصل أجنبي حين يرد لها مشابه في لغة أجنبية، فإذا وجدت اللفظة في العربية والعبرية فالأصل للعبرية، وإذا وجدت في العربية والسريانية فالأصل للسريانية. أما اليونانية فهي عند كثير من المعاصرين سيدة اللغات في الشرق القديم!
وليس معنى هذا أننا نجعل العربية أصلا في جميع الأحوال، ولكنا نتحرز حين نجد التأويل يمت إلى نزعة يغلب عليها التجني والافتعال.
هذا ولست أدعي أكثر من أني عانيت مشقة عظيمة في إعداد هذا البحث وسأظل راضيا عنه إلى أن توجد نصوص جديدة تحمل على الشك فيما قدمت من البينات.
69
التصوف في الأدب
الفرق بين النظرة الأدبية والنظرة الخلقية
بينا في فاتحة الكتاب كيف كانت للوصفية آثار أدبية، ونعود إلى هذا المعنى بشيء من التفصيل فنقول:
كان الصوفية يعرفون باسم القراء والزهاد والنساك، وكان ملحوظا فيهم أنهم من أقطاب الأدب والبيان، ومن المؤكد أن الجاحظ حين اهتم بهم لحظ فيهم شيئين: جودة الأدب وقوة الأخلاق؛ ولذلك نراه يقول في مطلع كتاب الزهد:
1 «نبدأ باسم الله وعونه بشيء من كلام النساك في الزهد، وبشيء من ذكر أخلاقهم ومواعظهم»، فهو يرى في «الكلام» صورة غير صورة «الأخلاق والمواعظ».
والفرق واضح بين قول ابن سيرين: «ما حسدت أحدا على شيء قط»
2
وقول أبي الدرداء: «كان الناس ورقا لا شوك فيه، وهم اليوم شوك لا ورق فيه».
فالعبارة الأولى خلق محض، والعبارة الثانية أدب صرف، وكانت الأولى خلقا محضا؛ لأنها تعبر تعبيرا ساذجا عن معنى من أشرف المعاني الخلقية، وكانت الثانية أدبا صرفا؛ لأن جمالها يرجع إلى ما وشاها به القائل، وكلتا العبارتين صدرتا عن أنفس مشبعة بروح التصوف. •••
وقد يجتمع الأدب والخلق في تعبير واحد، كقول أبي حازم: «الدنيا غرت أقواما فعملوا فيها بغير الحق، ففاجأهم الموت: «فخلفوا ما لهم لمن لا يحمدهم وصاروا إلى من لا يعذرهم، وقد خلقنا بعدهم فينبغي لنا أن ننظر إلى الذي كرهناه منهم فنجتنبه، وإلى الذي غبطناهم به فنستعمله ».
3
والخلق في هذه العبارة يتمثل في التربية النفسية التي دعا إليها صاحب هذه الحكمة، أما الأدب فيتمثل في قوله: «خلفوا ما لهم لمن لا يحمدهم، وصاروا إلى من لا يعذرهم»، وهو كلام يبدو لمن يتأمله غاية في روعة الخيال.
وشبيه بذلك هذه الفقرة:
رأى بعض النساك صديقا له من النساك مهموما فسأله عن ذلك فقال: كان عندي يتيم أحتسب فيه الأجر فمات، قال: فاطلب يتيما غيره فإن ذلك لا يعدمك إن شاء الله تعالى! فأجاب: أخاف أن لا أصيب يتيما في سوء خلقه. فقال: أما إني لو كنت مكانك لم أذكر سوء خلقه.
4
ففي هذه الفقرة خلق، وفيها أدب، أما الخلق ففي المعنى كله، وأما الأدب ففي الذكاء الذي يتمثل في الاستدراك الأخير، وهذا الذكاء في هذا المقام من صور الخلق ولكنه بالأدب ألصق.
وكذلك هذه الفقرة: «صام رجل سبعين سنة، ثم دعا الله في حاجة، ولم يستجب له، فرجع إلى نفسه فقال: (منك أتيت) فكان اعترافه أفضل من صومه».
والفطنة إلى أن الاعتراف كان أفضل من الصوم فيها خلق، وفيها أدب، أما الخلق ففي تصور القيمة المعنوية للوم النفس، وأما الأدب ففي الذكاء الذي يمثله هذا التعقيب.
وقال شيخ من أهل المدينة: ما كنت أريد أن أجلس إلى قوم إلا وفيهم من يحدث عن الحسن وينشد للفرزدق.
5
فما معنى هذا؟ معناه أن الحديث عن الحسن البصري كانت فيه متعة أدبية لا تقل عن إنشاد شعر الفرزدق، والحق أن النساك والزهاد والصوفية كانت لهم كلمات تشوق القلب والوجدان، ومن الإطناب أن نكثر الشواهد، فلنكتف بخطبة عمر بن ذر يوم مات ابنه وقد وقف على قبره فقال: «يا ذر، والله ما بنا إليك من فاقة، وما بنا إلى أحد سوى الله من حاجة. يا ذر، شغلني الحزن لك عن الحزن عليك»، ثم قال: «اللهم إنك وعدتني بالصبر على ذر، صلواتك اللهم ورحمتك، وقد وهبت ما جعلت لي من أجر على ذر لذر، فلا تعرفه قبيحا من علمه، اللهم وقد وهبت له إساءته إلي فهب لي إساءته إلى نفسه، فإنك أجود وأكرم»، فلما انصرف عنه التفت إلى قبره فقال: «يا ذر، قد انصرفنا وتركناك، ولو أقمنا ما نفعناك».
6
وكلام الزهاد والنساك كثير جدا، اهتم به الجاحظ وابن قتيبة، وغيرهما من المؤلفين، ولا شك في أن الصور الأدبية كانت مما لحظه من جمع كلام أولئك الرجال.
اهتمام المؤلفين بأدب النساك
وكان أكثر الصوفية معروفين بسعة الإطلاع وكثرة الحفظ، وكان في شريش صوفي حافظ للشعر فلا يعرض في مجلسه معنى إلا وهو ينشد عليه، فاتفق أن عطس رجل بمجلسه فشمته الحاضرون فدعا لهم، فرأى الصوفي أنه إن شمته قطع إنشاده بما لا يشاكله من النظم، وإن لم يشمته كان تقصيرا في البر ... إلى آخر ما حدث صاحب نفح الطيب.
7
وهذا الخبر في جملته فكاهة، ولكنه دليل على هيام الصوفية بالثقافة الأدبية.
حرص الصوفية على الثقافة الأدبية
لا مفر من الاعتراف بأن الصوفية كان لهم وجود أدبي ملحوظ، وكيف لا يكون الأمر كذلك وقد عرفت عنهم ألفاظ وتعابير دونها المؤلفون، وتلك الألفاظ والتعابير هي ثروة لغوية يقام لها وزن حين تدرس المصطلحات، وقد يقال: إن لكل قوم ألفاظا وتعابير حتى النجارين والحدادين، ولا يكون ذلك عنوانا على سلطتهم الأدبية، ونجيب بأن ألفاظ الصوفية جرت في الأغلب حول معان وجدانية وروحية ونفسية واجتماعية: فهي ألصق بالحياة الأدبية.
ولنقيد هنا بعض ما عرف عنهم من الألفاظ، ولنتخير ما قد يحتاج إلى معرفته قارئ هذا الكتاب.
8
المريد:
هو المتجرد عن إرادته.
المراد:
هو المجذوب عن إرادته، مع تهيؤ الأمور له، فجاوز الرسوم والمقامات في غير مكابدة.
السالك:
هو الذي مشى على المقامات بحاله لا بعلمه.
السفر:
عبارة عن القلب إذا أخذ في التوجه إلى الحق.
المسافر:
هو الذي سافر بفكره في المعقولات والاعتبارات.
الطريق:
عبارة عن مراسم الحق تعالى المشروعة التي لا رخصة فيها.
الوقت:
عبارة عن حالك في زمان الحال، لا تعلق له بالماضي ولا بالمستقبل.
الأدب:
يريدون به أدب الشريعة، ووقتا أدب الخدمة، ووقتا أدب الحق . وأدب الشريعة الوقوف عند رسومها، وأدب الخدمة الفناء عن رؤيتها مع المبالغة فيها، وأدب الحق أن تعرف ما لك وما له.
المقام:
عبارة عن استيفاء حقوق المراسم على التمام.
الحال:
هو ما يرد على القلب من غير تعمد ولا اجتلاب، وقيل: هو تغير الأوصاف على العبد.
الانزعاج:
هو أثر المواعظ في قلب المؤمن، وقد يطلق ويراد به التحرك للوجد والأنس.
القطب:
وهو الغوث، عبارة عن الواحد الذي هو موضع نظر الله من العالم في كل زمان.
الأوتاد:
عبارة عن أربعة رجال، منازلهم على منازل أربعة أركان من العالم: شرق وغرب وشمال وجنوب، مع كل واحد منهم مقام تلك الجهة.
الأبدال:
هم سبعة، ومن سافر من القوم عن موضعه وترك جسدا على صورته حتى لا يعرف أحد أنه فقد فذلك هو البدل.
النقباء:
هم الذين استخرجوا خبايا النفوس وهم ثلاث مئة.
النجباء:
هم أربعون وهم المشغولون بحمل أثقال الخلق.
الإمامان:
هما شخصان أحدهما عن يمين الغوث ونظره في الملكوت، والآخر عن يساره ونظره في الملك، وهو أعلى من صاحبه الذي يخلف الغوث.
المكان:
عبارة عن منازل في البساط لا تكون إلا لأهل الكمال الذين تحققوا بالمقامات والأحوال وحازوهما، أما المقام الذي فوق الجلال والجمال فلا صفة له ولا نعت.
القبض:
حال الخوف في الوقت، وقيل: وارد يرد على القلب يوجب الإشارة إلى عتاب وتأديب، وقيل: أخذ وارد الوقت.
البسط:
هو عند ابن عربي حال من يسع الأشياء ولا يسعه شيء، وقيل: هو حال الرجاء، وقيل: هو وارد يوجب الإشارة إلى رحمة وأنس.
الهيبة:
هي أثر مشاهدة جلال الله في القلب، وقد يكون عن الجمال الذي هو جمال الجلال.
الأنس:
أثر مشاهدة جمال الحضرة الإلهية في القلب وهو جمال الجلال.
التواجد:
استدعاء الوجد وقيل: إظهار حالة الوجد من غير وجد.
الوجد:
ما يصادف القلب من الأحوال المغنية له عن شهوده.
الوجود:
وجدان الحق في الوجد.
الجلال:
من نعوت القهر من الحضرة الإلهية.
الجمع:
إشارة إلى حق بلا خلق.
جمع الجمع :
الاستهلاك بالكلية في الله.
البقاء:
رؤية العبد قيام الله على كل شيء.
الفناء:
عدم رؤية العبد لفعله بقيام الله على ذلك.
الغيبة:
غيبة القلب عن علم ما يجري من أحوال الخلق لشغل الحس بما ورد عليه.
الحضور:
حضور القلب بالحق عند الغيبة عن الخلق.
الصحو:
رجوع إلى الإحساس بعد الغيبة بوارد قوي.
السكر:
غيبة بوارد قوي.
الذوق:
أول مبادئ التجليات الإلهية.
الشرب:
أوسط التجليات.
المحو:
رفع أوصاف العادة وقيل: إزالة العلة.
الإثبات:
إقامة أحكام العبادة وقيل: إثبات المواصلات.
القرب:
القيام بالطاعة وقد يطلق القرب على حقيقة قاب قوسين.
البعد:
الإقامة على المخالفة وقد يكون البعد منك ويختلف باختلاف الأحوال فتدل على ما يراد به قرائن الأحوال.
الحقيقة:
سلب آثار أوصافك عنك بأوصافه.
الخاطر:
ما يرد على القلب والضمير من الخطاب ربانيا كان أو ملكيا أو نفسيا أو شيطانيا من غير إقامة وقد يكون كل وارد لا عمل لك فيه.
9
علم اليقين:
ما أعطاه الدليل.
عين اليقين:
ما أعطته المشاهدة.
حق اليقين:
ما حصل من العلم بما أريد به ذلك الشهود.
الوارد:
ما يرد على القلب من الخواطر المحمودة من غير تعمل ويطلق بإزاء كل ما يرد على كل اسم على القلب.
الشاهد:
ما تعطيه المشاهدة من الأثر في القلب، فذلك هو الشاهد وهو على حقيقة ما يظهر للقلب من صورة المشهود.
الروح:
يطلق بإزاء الملقى إلى القلب من علم الغيب على وجه مخصوص.
السر:
يطلق فيقال: سر العلم بإزاء حقيقة العالم به، وسر الحال بإزاء معرفة مراد الله فيه، وسر الحقيقة ما تقع به الإشارة.
الوله:
إفراط الوجد.
الوقفة:
حبس بين المقامين.
الفترة:
خمود نار البداية المحرقة.
التجريد:
إماطة السوي والكون عن القلب والسر.
التفريد:
وقوفك بالحق معك.
اللطيفة:
كل إشارة دقيقة المعنى تلوح في الفهم لا تسعها العبارة وقد تطلق بإزاء النفس الناطقة.
الرياضة:
رياضة أدب وهو الخروج عن طبع النفس، ورياضة طلب وهو صحة المراد له، وبالجملة هي عبارة عن تهذيب الأخلاق النفسية.
المجاهدة:
حمل النفس على المشاق البدنية ومخالفة الهوى على كل حال.
الفصل:
فوت ما ترجوه من محبوبك.
الذهاب:
غيبة القلب عن حس كل محسوس بمشاهدة محبوبه كائنا المحبوب ما كان.
الزاجر:
واعظ الحق من قلب المؤمن وهو الداعي إلى الله.
السحق:
ذهاب تركيبك تحت القهر.
المحق:
فناؤك في عينه.
الستر:
كل ما يسترك عما يفنيك، وقيل: غطاء الكون، وقد يكون الوقوف مع العادة وقد يكون الوقوف مع نتائج الأعمال.
التجلي:
ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب.
التخلي:
اختيار الخلوة والإعراض عن كل ما يشغل عن الحق.
المكاشفة:
تطلق بإزاء الأمانة بالفهم، وتطلق بإزاء تحقيق زيادة الحال، وتطلق بإزاء تحقيق الإشارة.
المشاهدة:
تطلق على رؤية الأشياء بدلائل التوحيد، وتطلق بإزاء رؤية الحق في الأشياء، وتطلق بإزاء حقيقة اليقين من غير شك.
المحادثة:
خطاب الحق للعارفين من عالم الملك والشهادة كالنداء من الشجرة لموسى (عليه السلام).
المسامرة:
خطاب الحق للعارفين من عالم الأسرار والغيوب.
اللوائح:
هي ما يلوح من الأسرار الظاهرة من السمو من حال إلى حال وعند ابن عربي ما يلوح للبصر إذا لم يتقيد بالجارحة من الأنوار الذاتية لا من جهة القلب.
الطوالع:
أنوار التوحيد تطلع على قلوب أهل المعرفة فتطمس سائر الأنوار.
اللوامع:
ما ثبت من أنوار التجلي وقتين وقريبا من ذلك.
البواده:
ما يفجأ القلب من الغيب على سبيل الوهلة، إما لموجب فرح أو لموجب ترح.
الرغبة:
رغبة النفس في الثواب، ورغبة القلب في الحقيقة، ورغبة السر في الحق.
الرهبة:
رهبة الظاهر في تحقق الوعيد، ورهبة الباطن لتقليب العلم، وهبة لتحقق أمر السبق.
الاصطلام:
نوع وله يرد على القلب فيسكن تحت سلطانه.
الغربة:
تطلق بإزاء مفارقة الوطن في طلب المقصود، وتقال: الغربة في الاغتراب عن الحال من النفوذ فيه، والغربة عن الحق غربة عن المعرفة من الدهش.
الهمة:
تطلق بإزاء تجريد القلب للمنى، وتطلق بإزاء أول صدق المريد وتطلق بإزاء جمع الهمم لصفاء الإلهام.
الفتوح:
فتوح العبادة في الظاهر، وفتوح الحلاوة في الباطن، وفتوح المكاشفة.
الوصل:
إدراك الغائب.
نماذج من اصطلاحات الصوفية
تلك كلمات تخيرناها من رسالة ابن عربي في اصطلاحات الصوفية، وبقيت كلمات كثيرة، وما ذكرناه فيه الكفاية؛ لأن الغرض هو التمثيل لا الاستقصاء، وللقارئ أن يرجع إلى هذه المصطلحات في تعريفات الجرجاني وقاموس عبد الرازق، فإن الشرح هناك يختلف عما هنا بعض الاختلاف، واهتمام المتقدمين بجمع ألفاظ الصوفية يدل على مكانتهم الأدبية. وألفاظهم كما رأيت تمثل المعقولات أكثر مما تمثل المحسوسات، فهي من الألفاظ التي لا تنبت إلا في جو الخواص.
ألفاظ الصوفية في التعبير عن بعض المعاني المعاشية والاجتماعية
وكانت للصوفية ألفاظ في أبواب من الحياة دونها المؤلفون، من ذلك كنايتهم عن الأطعمة، فالحمل: هو الشهيد ابن الشهيد، والقطائف: قبور الشهداء، والفالوذج خاتمة الخير، والأرز بالسكر: هو الشيخ الطبري بالطيلسان العسكري، واللوزينج أصابع الحور
10
والخبز: أبو جابر، والسكباج أم القدور والقلية: زلزل المغني، والطباهج. الزرزور الصناج، والمضيرة: الشيخ اليهودي والخل: أبو عامر الغضبان، والخيار: أبو الأخضر، والقثاء: أبو القرون، والبصل: أبو القمصان، والدجاج: أم حفص، والفروج بنات المؤذن، والسكر، أبو شيبة الخوذي
11
والخوان: أبو جامع، والرقاق: أبو حبيب، والثريد: أبو رزين، والبقل: أبو جميل، واللحم: أبو الخصيب، والخبيص: أبو الطيب، والتمر أبو عون، والفالوذج، أبو سائغ.
12
مذهب الصوفية في إيثار الغموض
والصوفية في جميع العصور كانت لهم رموز وإشارات، ولو دون المؤلفون كل ما اصطلح عليه الصوفية لكان من ذلك شيء كثير، والذي يتأمل ألفاظهم يراها تدل على لباقة وذكاء: فألفاظهم المعاشية والاجتماعية وضعت في الأصل لستر معانيهم عن عامة الناس.
والصوفية في العصر الحاضر لهم تعايير خاصة بهم، وتنفرد كل طائفة بجملة من الاصطلاحات، والشاذلية الذين صحبتهم فأحمدت صحبتهم، لهم كلمات لا تزال في البال على قدم العهد: فالحلواء التي توزع على الإخوان بعد الحضرة اسمها النفحة، والورد الأكبر اسمه وظيفة، والاسم الذي يلقن لكبار المريدين هواسم السر، والرفيق اسمه (أخينا) والمتكلم اسمه (الفقير) وإذا طلب أحدهم من أخيه حاجة كان من الأدب أن يبدأ الخطاب بهذه العبارة: «نعم سيدي» ورئيس الحضرة (المقدم) والرفاق اسمهم (الإخوان) والعقوبة اسمها (المناصفة )، وإذا دعا المقدم الإخوان إلى إبداء الرأي قال: (تذاكروا يا حبايب).
وقد لاحظت أن تعايير الصوفية تختلف وفقا لمنشأ المذهب، فالشاذلية مثلا ألفاظهم في الأكثر مغربية، والأحمدية ألفاظهم مصرية، وهكذا دواليك.
والذي ينظر في مناقب الصوفية - وهي كثيرة جدا - يجد فروقا ظاهرة فيما نسب إلى القوم من الألفاظ والتعايير والاصطلاحات، ومن الطريف أنهم قد يتعايرون بالألفاظ، كما يتفق ذلك لأهل الديانات، فيسخر بعضهم من ألفاظ بعض. واختلافهم في الألفاظ والتعابير من دلائل الحيوية وقوة الشخصية، ولو لم يكن لهم في الدنيا وجود ملحوظ لما احتاجت كلماتهم إلى من يجمعها ويضع لها مختلف التأويلات.
أساس البيان عند الصوفية
وألفاظهم في الطعام خاصة تدل على شيئين: الأول استطراف الجمهور لما أذاعوا من التعايير، وما كان يصح ذلك لولا اهتمامهم بالصور الأدبية، والثاني كلفهم بالطعام، وهذا معقول؛ لأن الحرمان الذي درجوا عليه جعل للطعام في أنفسهم حرمة قوية عبروا عنها بتلك الصور الشعرية التي خلدوا بها أسماء طائفة من الأطعمة المشتهاة، ولعل منهم من لا يزال يغازل الأطعمة بالطريف المستملح من الكنى والألقاب، والشوق يبعث الخيال!
هل كان نظم الشعر مما لا يحسن بالنساك؟
ومذهب الصوفية في الغموض معروف، وقد وصل صداه إلى ميادين النقد الأدبي، فرأينا الثعالبي يعيب على المتنبي «امتثال ألفاظ المتصوفة واستعمال كلماتهم المعقدة ومعانيهم المغلقة» في مثل قوله في وصف فرس: «سبوح لها منها عليها شواهد» وقوله:
أفيكم فتي حي يخبرني عني
بما شربت مشروبة الروح من ذهني
وقوله:
نال الذي نلت منه مني
لله ما تصنع الخمور
وقوله:
كبر العيان علي حتى إنه
صار اليقين من العيان توهما
وقوله:
وبه يضن على البرية لا بها
وعليه منها لا عليها يوسى
وقوله:
ولولا أنني في غير نوم
لكنت أظنني مني خيالا
قال الصاحب: ولو وقع قوله:
نحن من ضايق الزمان له في
ك وخانته قربك الأيام
في عبارات الجنيد والشبلي لتنازعته المتصوفة دهرا طويلا.
13
وعرض الصفدي ما روي أن أعرابيا لقيه رجل لم يكن يعرفه قبل ذلك فقال له : كيف كنت بعدي؟ فقال له الأعرابي: ما بعد ما لا قبل له؟ ثم قال: «وأما قول شرف الدين بن الفارض:
حديثي قديم في هواها وما له
كما علمت بعد وليس له قبل
فأمر خارج عن العقل؛ لأن العقل لا يمكن أن يتصور شيئا لا قبل له ولا بعد إلا واجب الوجود، ولكن الصوفية يحيلون مثل هذه الأشياء على الذوق ويقولون في مثل هذه الأمور: إنها من وراء العقل».
ثم قال بعد أن روى حكاية شيخ تكلم على طرائق الصوفية في حضرة ابن دقيق العيد بكلام لم يفهم منه غير المفردات:
وهؤلاء القوم يسلم لهم حالهم، فإنهم قد جاء منهم علماء كبار مثل الشيخ محيي الدين بن عربي وقطب الدين بن معين، وفي كلامهم من هذا النوع كثير.
وحدثنا أن السنجاري عارض تائية ابن الفارض بتائية طويلة «حط فيها عليه» منها قوله:
ولست كمن أمسى على الحب كاذبا
مضلا لأرباب العقول السخيفة
يمن على الجهال من عصبة الهوى
بنسبته في الحب من غير نسبة
فيزعم طورا أنه عين عينها
ويزعم طورا أنها فيه حلت
ويجمع ما بين النقيضين قوله
وذاك محال في العقول السليمة
ومضى فذكر شيئا من أخبار الصوفية في التعمل والغموض، ثم قال: ومما يلحق بكلام الصوفية وليس منه قول بعض الفضلاء:
ما يقول الفقيه أيده الله
ولا زال عنده الإحسان
في فتى علق الطلاق بشهر
قبل ما بعد قبله رمضان
وشاهد التعقيد الذي يشبه كلام الصوفية «أن البيت الثاني ينشد على ثمانية أوجه: بالتقديم والتأخير والتغيير مع استعمال اللفظ في الحقائق دون المجاز وصحة الوزن، وكل بيت منها يشتمل على مسألة من الفقه في التعاليق الشرعية والألفاظ اللغوية، وتلك المسألة تشتمل على سبع مئة وعشرين مسألة من المسائل الفقهية والتعاليق اللغوية بشرط التزام المجاز في الألفاظ وطرح الحقائق وعدم ذكر الوزن إلخ. إلخ».
14 •••
وقد أطال الصفدي في شرح هذه المعميات، وليس يعنينا إلا حكمه بأن هذا النمط من القول: «يشبه كلام الصوفية».
وكتب ابن عربي إلى عمر بن الفارض يستأذنه في شرح التائية فأجابه:
كتابك المسمى بالفتوحات المكية شرح لها.
15
وفي كلا الأثرين غموض، ولا مانع من أن يشرح الغموض بالغموض، فنفى النفي إثبات!
ومن كلام ابن عربي:
يا من يراني ولا أراه
كم ذا أراه ولا يراني
وقد سأله بعض إخوانه لما سمع هذا البيت: كيف تقول: إنه لا يراك وأنت تعلم أنه يراك؟ فقال:
يا من يراني مجرما
ولا أراه آخذا
كم ذا أراه منعما
ولا يراني لائذا
قال المقري: «من هذا وشبهه تعلم أن كلام الشيخ - رحمه الله - مئول، وأنه لا يقصد ظاهره، وإنما له محامل تليق به ... فأحسن الظن به ولا تنتقد، بل اعتقد، وللناس في هذا المعنى كلام كثير، والتسليم أسلم، والله بكلام أوليائه أعلم».
16
وما نريد أن نحكم بأن الغموض هو خير المذاهب الأدبية، وأن الصوفية صاروا بإيثار الغموض خير الناس، لا، وإنما نريد أن نقول: إن وجودهم الأدبي كان ظاهرا جدا، وأن مذهبهم في التعبير شاع حتى وصل صداه إلى ميادين النقد الأدبي، وليس الغموض بالمذهب المذموم على الإطلاق، فله في مصر وغير مصر أنصار وأشياع، وليس من المستكره أن يعمد الكاتب إلى معانيه فيفصح عن بعض ويرمز إلى بعض، بل قد يكون من مظاهر الأريستوقراطية العقلية أن لا يفكر الكاتب إلا في الخواص، وهذه الأريستوقراطية ليست مذمومة في جميع الأحوال؛ لأن الكاتب لا يحسن به دائما أن يخاطب جميع الناس، فللوضوح مقامات، وللغموض مقامات، وكانت معاني الصوفية أدق من أن ترسل إلى مختلف الجماهير في ألفاظ واضحة المدلول.
أصل التحامل على الشعر والشعراء
وأذواق الصوفية كانت مما ضرب به المثل في الحياة الأدبية، ومن ذلك «مدام الصوفي» في قول جمال الدين عبد القاهر التبريزي يصف الشبابة:
وناطقة بأفواه ثمان
تميل بعقل ذي اللب العفيف
لكل فم لسان مستعار
يخالف بين تقطيع الحروف
تخاطبنا بلفظ لا يعيه
سوى من كان ذا طبع لطيف
نصيحة عاشق ونديم راع
وعزة موكب ومدام صوفي
17
وكانت طرائقهم في الإنشاء معروفة أيضا، فقد تحدث المقري عن أبي المطرف بن عميرة قال:
وأما الكتابة فهو فارسها الذي لا يجارضى، وصاحب عينها الذي لا يبارى، وله وعظ على طريقة ابن الجوزي.
18
وكانت لهم آراء معروفة في المذاهب الأدبية، فهم الذين قاوموا القصاص، ومقاومة القصاص تقوم على نزعة خلقية؛ لأن القصاص في رأيهم «يخلطون ويغلطون ويقدمون ويؤخرون»
19
ولكنها في الجوهر تقوم على استنكار مذهب من المذاهب الأدبية التي تعتمد أولا وقبل كل شيء على حسن البيان، ومعنى هذا أن البيان عندهم يجب أن ينهض على أساس من الخلق الصحيح.
دفاع خواص النساك عن الشعر والغناء
قد يقال: إن النساك كان يستكثر عليهم نظم الشعر، فإن المرزباني نقل بسنده أن ابن شهاب قال: أتيت عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود يوما في منزله فإذا هو مغيظ ينفخ، فقلت له: ما لي أراك هكذا؟ قال: دخلت على عاملكم هذا - يعني عمر بن عبد العزيز - ومعه عبد الله بن عمر بن عثمان فسلمت فلم يردا علي السلام، فقلت:
ألا فابلغا عني عراك بن مالك
فإن أنت لم تفعل فأبلغ أبا بكر
فقد جعلت تبدو شواكل منكما
فإنكما بي موقران من الصخر
وطاوعتما بي غادرا ذا معاكة
لعمري لقد أورى وما مثله يورى
20
فلولا اتقا الله اتقائي فيكما
للمتكما لوما أحر من الجمر
فمسا تراب الأرض منها خلقتما
وفيها المعاد والمقام إلى الحشر
ولا تأنفا أن تغشيا فتكلما
فما حشي الأقوام شرا من الكبر
ولو شئت أدلى فيكما غير واحد
علانية أو قال عندي في السر
فإن أنا لم آمر ولم أنه عنكما
ضحكت له حتى يلج ويستشري
وكيف تريدان ابن سبعين حجة
على ما أتى وهو ابن عشرين أو عشر
لقد علقت دلواكما دلو حول
من القوم لا رخو المراس ولا نزر
قال ابن شهاب: فقلت له: مثلك يرحمك الله مع نسكك وفضلك وفهمك يقول الشعر؟ فقال: إن المصدور إذا نفث بري.
21 •••
أيكون هذا شاهدا على أن النساك ما كان يليق بهم أن ينظموا الشعر؟ هو ذاك، ولكن له تأويل، فإن الحملة التي وجهت إلى الشعر على أثر ما كان من لدد اليهود وتوثب شعراء المشركين كانت أثرت تأثيرا عميقا في حياة المسلمين من الوجهة الأدبية، فرأيناهم يسرفون في بغض الشعر والنيل من الشعراء، وكان من ذلك أن قيل لسعيد بن المسيب: إن قوما بالعراق يكرهون الشعر فقال: نسكوا نسكا أعجميا. وسئل ابن سيرين في المسجد عن رواية الشعر في رمضان، وقد قال قوم: إنها تنقض الوضوء، فقال:
نبئت أن فتاة كنت أخطبها
عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول
ثم قام فأم الناس ...
وسئل ابن عباس: هل الشعر من رفث القول؟ فأنشد:
وهن يمشين بنا هميسا
إن تصدق الطير نن... لميسا
وقال: إنما الرفث عند النساء، ثم أحرم للصلاة.
ورأينا الناس يزعمون أن الإمام الشافعي قال:
ولولا الشعر بالعلماء يزري
لكنت اليوم أشعر من لبيد
ولا يزال شيوخ الأزهر مختلفين في بدء الشعر بالبسملة؛ لأنه فيما يرون ليس من الأمور ذوات البال. ولا أدل على هوان الشعر في نظر الفقهاء من قول الغزالي: «وأما الشعر فكلام حسنه حسن وقبيحه قبيح»، وهذا كله من أثر الحملة التي وجهت إلى الشعر والشعراء.
وقد اهتم ناس من أهل الأدب بتصحيح هذا الموقف، منهم ابن رشيق الذي أتعب نفسه بذكر نماذج من أشعار الخلفاء والأئمة والقضاة؛ ليقيم الحجة على أن الشعر مباح. وحسب الشعر هوانا أن تقول: إنه مباح.
22
والظاهر أن تلك الحملة كانت حملة عامية، فإن الذين أثاروها بعد الرسول هم العوام، والذين قاوموها هم الخواص، فقد حدث محمد بن سلمة عن أبيه قال: أتيت عبد العزيز بن المطلب أسأله عن بيعة الجن للنبي
صلى الله عليه وسلم
بمسجد الأحزاب ما كان بدؤها، فوجدته مستلقيا يتغنى:
فما روضة بالحزن طيبة الثرى
يمج الندى جثجاثها وعرارها
بأطيب من أردان عزة موهنا
وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها
من الخفرات البيض لم تلق شقوة
وبالحسب المكنون صاف نجارها
فإن برزت كانت لعينك قرة
وإن غبت عنها لم يغمك عارها
فقلت له: أتغني أصلحك الله وأنت في جلالك وشرفك؟ أما والله لأحملنها ركبان نجد! قال: فوالله ما اكترث بي وعاد يتغنى:
فما ظبية أدماء خفاقة الحشا
تجوب بظلفيها متون الخمائل
بأحسن منها إذ تقول تدللا
وأدمعها تذرين حشو المكاحل:
تمتع بذا اليوم القصير فإنه
رهين بأيام الصدود الأطاول
قال: فندمت على قولي وقلت له: أصلحك الله، أتحدثني في هذا بشيء؟
فقال: نعم حدثني أبي قال: دخلت على سالم بن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهم) وأشعب يغنيه:
مغيرية كالبدر سنة وجهها
مطهرة الأثواب والعرض وافر
لها حسب زاك وعرض مهذب
وعن كل مكروه من الأمر زاجر
من الخفرات البيض لم تلق ريبة
ولم يستملها عن تقى الله شاعر
فقال له سالم: زدني! فغناه:
ألمت بنا والليل داج كأنه
جناح غراب عنه قد نفض القطرا
فقلت: أعطار ثوى في رحالنا
وما احتملت ليلى سوى طيبها عطرا
فقال له سالم: والله لولا أن تتداوله الرواة لأجزلت جائزتك فإنك من هذا الأمر بمكان.
23
والواقع أن هذا الضرب من التزمت كان كثير الوقوع في البيئات الإسلامية، ومن الرجعة إليه ما نراه اليوم عند الوهابيين من مقاومة الموسيقا والغناء وما نراه عند ناس من أهل مصر إذ يقاومون بعض الفنون الأدبية، ولو اقترح بعض المصلحين إدخال الثقافة الموسيقية في المعاهد الدينية لما قوبل اقتراحه بغير السخرية والاستهزاء.
ولكن هذا التزمت لم يحل بين الصوفية وبين الأدب، ولم يصرفهم عن الموسيقا والغناء؛ لأنهم يملكون عنصرين من أنفس عناصر الاستعداد: وهما الإخلاص والصفاء، وكذلك انطلقوا ينظمون وينشئون في فنون مختلفة لا يصدهم عرف، ولا يعوقهم خوف، فكان منهم أقطاب في الموسيقا والغناء.
والتزمت الذي أحيطوا به لا يخلو من فضل، فهو نفسه دليل على قوة الحاسة الخلقية، وشاهد على أنهم لا يلهون حين ينظمون ويغنون، وإنما يتبعون وحي الوجدان.
وفي هذا الكتاب تنهض الحجج الدوامغ على أن الصوفية كانوا من قادة الفكر والبيان، فسيرى القارئ كيف ابتدعوا فن المدائح النبوية، وكيف تدرج هذا الفن إلى أن صار من القوى الأدبية، وسيرى كيف أنشأوا فن المناجاة الذي يتمثل في حب الذات الإلهية وفي الأدعية والأوراد، وكيف أوحى الزهد أكرم الشعر إلى كبار الشعراء، وكيف كان بغضهم للدنيا مما عاد على الأدب بكثير من النفحات الوجدانية، وكيف أجادوا القول في الوصايا والنصائح إلى آخر ما تتفرق عناصره في قسم الأدب وقسم الأخلاق من هذا الكتاب.
وليتذكر القارئ أن «أدباءنا» هؤلاء لم يكونوا من المحترفين، وهذا نقص من جانب، وفضل من جانب، هو نقص حين ننظر إلى بعض ما نراه في أدبهم أحيانا من ضعف النسج، وهو فضل حين نراهم سلموا في الأغلب مما تورط فيه الأدباء المحترفون، حين أثقلوا أدبهم بالزخرف والتنميق.
كيف نفهم أدب الصوفية؟
وقارئ هذه الفصول مرجو أن ينظر إلى أدب الصوفية برفق، فهم يؤثرون المعاني ويسيرون في ظلال الأذواق. وقد تكون اللمحة منهم أصدق شعرا وأوفى معنى من ديوان ينظمه أديب من أهل الاحتراف. فإن رآنا القارئ نستجيد ما لا يستجيد فليتفضل بالتروي قبل أن يحكم علينا بالتعصب، فلأدب القوم موازين غير ما وضعه أمثال الآمدي والجرجاني وأبي هلال.
والقارئ مرجو أيضا أن يتسامح إن رآنا نظلمهم في بعض الأحيان، فما ندعي أننا أحطنا خبرا بجميع مذاهبهم الذوقية، ومن الخير أن نعترف بأن حظنا من التصوف أقل من القليل، وأننا لا نملك من أدوات هذا الأدب الصوفي إلا رسما ضئيلا جدا من رسوم الصفاء.
وفي ظلال هذا التحفظ نشرع في درس الأدب الذي أنشأه التصوف، راجين أن لا يضيع ما أنفقنا فيه من العمر والعافية، والله وحده هو المستعان.
كلام الشعراء في الزهد
الزهد بعد المجون
نذكر في هذا الفصل أشياء من كلام الشعراء في الزهد، ولا نقول: الصوفية، فلهؤلاء وجهة غير وجهة أولئك، إنما نريد الشعراء الذين عرفوا في بعض أدوار حياتهم بالمجون، ثم غزتهم المعاني الروحية فنقلتهم من حال إلى حال.
والماجنون حين يزهدون يصبح شعرهم قيثارة تندب بأوتار الندم والخوف، ويمسون ولهم شمائل تنفح بالوداعة واللين، ومن أمثلة ذلك حديث آدم بن عبد العزيز الأموي، وكان ماجنا منهمكا في الشراب، وكان يصحب يعقوب بن الربيع أخا الفضل بن الربيع، وكان يعقوب أيضا من أهل الخلاعة والمجون، ثم تاب آدم بن عبد العزيز ونسك، واتفق أن استأذن يوما على يعقوب بن الربيع، وكان يشرب، فقال يعقوب: ارفعوا الشراب، فإن هذا قد تاب وأحسبه يكره أن يحضره! فرفع الشراب وأذن له، فلما دخل آدم قال: إني لأجد ريح يوسف! فقال يعقوب: هو الذي وجدت، ولكنا ظننا أن يثقل عليك لتركك له. قال: إي والله، إنه ليثقل علي ذاك! قال: فهل قلت في ذلك شيئا منذ تركته؟ قال: نعم! وأنشد:
ألا هل فتى عن شربها اليوم صابر
ليجزيه عن صبره الغد قادر
شربت فلما قيل: ليس بنازع
نزعت وثوبي من أذى اللوم طاهر
1
حديث آدم بن عبد العزيز
ونبدأ هذا الفصل بالكلام عن أبي نواس؛ لأنه أظهر شخصية تكلمت في الزهد بعد المجون، ويمتاز أبو نواس بالإخلاص في كل ما لهج به من المعاني الشعرية، فهو مخلص في زندقته، ومخلص في فجوره، ومخلص في تقاه، ولا تكاد تشعر بأن أبا نواس يعبث، إنما يتكلم بكلام أصحاب المبادئ: فهو يشك عن إخلاص، ويلحد عن إخلاص، ويفسق عن إخلاص، ويتوب عن إخلاص، فهو أنموذج لقوة الروح وحياة الوجدان، في مسالك الهوى ومسارب الضلال. وأول ما تنبهنا له من شعور أبي نواس بلوعة الندم قوله في مطلع قصيدة يمدح بها الأمين:
يا دار ما فعلت بك الأيام
ضامتك والأيام ليس تضام
عرم الزمان على الذين عهدتهم
بك قاطنين وللزمان عرام
2
أيام لا أغشى لأهلك منزلا
إلا مراقبة علي ظلام
ولقد نهزت مع الغواة بدلوهم
وأسمت سرح اللهو حيث أساموا
وبلغت ما بلغ أمرؤ بشبابه
فإذا عصارة كل ذاك أثام
وهذه «العصارة» ظلت تلاحق أبا نواس بمرهوب الخيال، ولعله كان يقاسي اعتلاج هذه المرارة حين قال يدافع عن اقتراف الشهوات:
غدوت على اللذات منهتك الستر
وأفضت بنات السر مني إلى الجهر
وهان علي الناس فيما أريده
بما جئت فاستغنيت عن طلب العذر
رأيت الليالي مرصدات لمدتي
فبادرت لذاتي مبادرة الدهر
وهذا الشعر يمثل مذهبه في تعليل الفسوق، فهو يخاف من الليالي ويراها تنتهب مدته في الحياة، فيسبق لاقتناص ما يستطيع اقتناصه من طيب اللذات.
إخلاص أبي نواس في ميادين اللهو والجد
ثم ننظر فإذا عمر أبي نواس يميل إلى الغروب، وعندئذ ينفر من اللذات تجملا فيقول:
أيا من بين باطية وزق
وعود في يدي غان مغني
إذا لم تنه نفسك عن هواها
وتحسن صونها فإليك عني
فإني قد شبعت من المعاصي
ومن إدمانها وشبعن مني
ومن أسوا وأقبح من لبيب
يرى متطربا في مثل سني
ونراه يفزع عن قرب أجله فيقول:
سهوت وغرني أملي
وقد قصرت في عملي
ومنزلة خلقت لها
جعلت لغيرها شغلي
يظل الدهر يطلبني
وينحوني على عجل
فأيامي تقربني
وتدنيني إلى أجلي
أو يجزع من الشيب فيقول:
انقضت شرتي
3
فعفت الملاهي
إذ رمى الشيب مفرقي بالدواهي
ونهتني النهى فملت إلى العد
ل وأشفقت من مقالة ناه
أيها الغافل المقيم على السهو
ولا عذر في المقام لساه
لا بأعمالنا نطيق خلاصا
يوم تبدو السماء فوق الجباه
ثم نراه ينظر إلى العمر نظرة فلسفية إذ يقول:
إن مع اليوم فاعلمن غدا
فانظر بما ينقضي مجيء غده
ما ارتد طرف امرئ بلذته
إلا وشيء يموت من جسده
والبيت الثاني يمثل عند الشعور به أقصى غايات الخوف والجزع.
نوازعه الزهدية
ولأبي نواس نظرات في الناس والحياة، فالناس عنده يتسللون من الهالكين، وإذا انتسب الرجل فهو ابن فلان الهالك ابن فلان الهالك، وهكذا دواليك إلى آدم، فنسبهم في الهلاك نسب عريق، والحياة عنده عدو يلبس ثوب الصديق.
أرى كل حي هالكا وابن هالك
وذا حسب في الهالكين عريق
فقل لقريب الدار: إنك ظاعن
إلى منزل نائي المحل سحيق
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت
له عن عدو في ثياب صديق
وهذه النظرة على جانب من الدقة وطرافة الخيال، فأنساب الناس مطمورة في التراب، والدنيا تبدو في زينتها وتبسم كل يوم، ولكنها تعطينا اللذات بثمن غال عزيز، هي تأخذ العمر والعافية، وأي شيء أثمن من العمر والعافية؟
رأيه في الدنيا والناس
وأبو نواس، على ما به، يثق بالله، ويدعو إلى الثقة به، ويرى الحاجة إلى الناس من علامات ضعف اليقين، ويقول:
لو لم تكن لله متهما
لم تمس محتاجا إلى أحد
الاهتمام برواية زهديات أبي نواس
وشهرة أبي نواس بالخلاعة والمجون لم تمنع أهل الفضل من رواية شعره. في الزهد، وقد اختار له ابن أبي الحديد
4
الرائية التي يقول فيها يخاطب الآدميين:
يا بني النقص والعبر
وبني الضعف والخور
وبني البعد في الطبا
ع على القرب في الصور
وفي البيت الثاني نظرة فلسفية لا تكثر على أبي نواس وقد خبر طوائف كثيرة من خلق الله!
وحدث أحمد بن يحيى ثعلب قال: كنت أحب أن أرى أحمد بن حنبل فصرت إليه، فلما دخلت عليه قال لي: فيم تنظر؟ فقلت: في النحو والعربية، فأنشدني أبو عبد الله أحمد بن حنبل:
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل
خلوت، ولكن قل: علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ما مضى
ولا أن ما تخفي عليه يغيب
لهونا عن الأيام حتى تتابعت
ذنوب على آثارهن ذنوب
فيا ليت أن الله يغفر ما مضى
ويأذن في توباتنا فنتوب
5
وهذه الأبيات من شعر أبي نواس، وحسبه شرفا أن يروي شعره أحمد بن حنبل.
وفي ديوان أبي نواس باب اسمه باب الزهد يشتمل على قصائد ومقطوعات تمثل رأي الشاعر في بعض الأزمات النفسية والأخلاقية، فليرجع إليه القارئ إن شاء. ولكن لا بد من الإشارة إلى أن هذا الشاعر يتفق له أحيانا أن ينطق بأبيات هي نماذج من الندم الموجع وهو يتحدث عن المجون، وتعليل ذلك سهل: فلبعض النفوس الجوامح صبوات إلى ما في الرشد من طمأنينة وأمان.
شعر أبي العتاهية
وبعد أبي نواس يأتي أبو العتاهية، وكان أولى بالتقديم لغلبة الزهد على شعره، ولكنا نرى القليل من زهديات أبي نواس أحفل بروح الصدق من كثير أبي العتاهية.
كان أبو العتاهية غزير البحر، لطيف المعاني، سهل الألفاظ ، كثير الافتنان قليل التكلف، إلا أنه كثير الساقط المرذول مع ذلك، وأكثر شعره في الزهد والأمثال.
6
وكان في صباه لا يتخير أصدقاءه من خيار الناس، فلما تقدمت به السن مال إلى الرزانة والجد، ولكن ماضيه في صحبة الفارغين ظل يلاحقه طول حياته، وظل معاصروه يتهمونه بتكلف الزهد ويتقولون عليه الأقاويل.
قال الجاحظ: وزعم لي بعض أصحابنا قال: دخلت على أبي العتاهية في بعض المتنزهات وقد دعا عياشا صاحب الجسر وتهيأ له بطعام وقال لغلامه: إذا وضعت قدامهم الغداء فقدم إلي ثريدة بخل وزيت، فدخلت عليه وإذا هو يأكل منها أكل متكمش غير منكر لشيء، فدعاني فمددت يدي معه، فإذا بثريدة بخل وبزر بدلا من الزيت، فقلت له: أتدري ما تأكل؟ قال: نعم! ثريدة بخل وبزر فقلت: وما دعاك إلى هذا؟ قال: غلط الغلام بين دبة الزيت ودبة البزر
7
فلما جاءني كرهت التجبر وقلت: دهن كدهن فأكلت وما أنكرت شيئا.
8
وهم بهذا يتهمونه بالشح على نفسه، ويرونه من أهل الحرص على ما يملك وليس ذلك من أخلاق الزاهدين.
وقال ثمامة بن أشرس: أنشدني أبو العتاهية:
إذا المرء لم يعتق من المال نفسه
تملكه المال الذي هو مالكه
ألا إنما مالي الذي أنا منفق
وليس لي المال الذي أنا تاركه
إذا كنت ذا مال فبادر به الذي
يحق وإلا استهلكته مهالكه
فقلت له: من أين قضيت بهذا؟ قال: من قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت».
فقلت له: أتؤمن بأن هذا قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأنه الحق؟ قال: نعم. قلت: فلم تحبس عندك سبعا وعشرين بدرة في دارك
9
ولا تأكل منها ولا تشرب ولا تزكي ولا تقدمها ذخرا ليوم فقرك وفاقتك؟ فقال: يا أبا معن، والله إن ما قلت لهو الحق، ولكني أخاف الفقر والحاجة إلى الناس، فقلت: وبم تزيد حال من افتقر على حالك، وأنت دائم الحرص، دائم الجمع، شحيح على نفسك، لا تشتري اللحم إلا من عيد إلى عيد؟ فترك جواب كلامي كله ثم قال لي: والله لقد اشتريت في يوم عاشوراء لحما وتوابله وما يتبعه بخمسة دراهم. فلما قال لي هذا القول أضحكني حتى أذهلني عن جوابه ومعاتبته، فأمسكت عنه وعلمت أنه ليس ممن شرح الله صدره للإسلام.
10
وفي هذه القصة فكاهة، واختراعها يدل على غرام من عاصروا أبا العتاهية بتعقب أخباره وحمل الناس على الارتياب في حقيقة ما كان يعلن من الزهد.
وحدثوا أنه كان لأبي العتاهية جار ضعيف، سيئ الحال، متجمل عليه ثياب، فكان يمر بأبي العتاهية طرفي النهار، فيقول أبو العتاهية: اللهم أغنه عما هو بسبيله، شيخ ضعيف، سيئ الحال، عليه ثياب متجمل، اللهم أعنه واصنع له وبارك فيه. فبقي على هذا الحال إلى أن مات الشيخ نحوا من عشرين سنة، وما تصدق عليه قط بدرهم ولا دانق، وما زاد على الدعاء شيئا. قال المحدث: فقلت له يوما: يا أبا إسحاق، إني أراك تكثر الدعاء لهذا الشيخ وتزعم أنه فقير مقل، فلم لا تتصدق عليه بشيء؟ فقال: أخشى أن يعتاد الصدقة، والصدقة آخر كسب العبد، وإن في الدعاء لخيرا كثيرا.
11
بخله وحرصه على المال
والكلام عن بخل أبي العتاهية وشحه ومنعه الزكاة كثير جدا يجده القارئ في الأغاني وغيره، والأقاصيص المروية عنه بعضها صحيح وبعضها منحول، ولكنها في جملتها تدل على أن معاصريه تلقوا مسلكه في الزهد بالغمز والسخرية، واستكثروا عليه أن يكون من أهل الحكمة والدين.
وقد كانت له بالفعل آراء فيها تطرف، ولم يسلم من التهمة بالزندقة، وكان من العسير أن تمر الأزمان العقلية في زمانه ولا تمسه بشيء من السوء، وقد استطاع خصومه أن يهيجوا عليه العامة، وأن يدعوا أنه زنديق، وأن يتهموه بالتهاون بالجنة وابتذال ذكرها في شعره إذ يقول:
كأن عتابة من حسنها
دمية قس فتنت قسها
يا رب لو أنسيتنيها بما
في جنة الفردوس لم أنسها
12
ولاتهامه بالزندقة أخبار كثيرة، وذلك يدل على أن معاصريه لم يتقبلوا زهده بأحسن القبول، وما ظنكم برجل كان الخواص من أحبائه يذكرون أخبار زهده بالسخرية، فقد حدث مخارق أن أبا العتاهية دعاه لزيارته، فلما حضر وجد الشواء والشراب والفاكهة والريحان، فشرب ما شاء، ثم قال له أبو العتاهية: غنني في قولي:
أحمد قال لي ولم يدر ما بي
أتحب الغداة عتبة حقا
فغناه، فشرب قدحا وهو يبكي أحر بكاء، ثم قال: غنني في قولي:
ليس لمن ليست له حيلة
موجودة خير من الصبر
فغناه وهو يبكي وينشج، ثم شرب قدحا آخر وقال: غنني، فديتك، في قولي:
خليلي ما لي لا تزال مضرتي
تكون مع الأقدار حتما من الحتم
قال مخارق: وما زال يقترح علي كل صوت غني به في شعره فأغنيه ويشرب ويبكي حتى صار العتمة فقال: أحب أن تصبر حتى ترى ما أصنع، فجلست فأمر ابنه وغلامه فكسرا كل ما بين أيدينا من النبيذ وآلته والملاهي، ثم أمر بإخراج كل ما في بيته من النبيذ وآلته فأخرج جميعه، فما زال يكسره ويصب النبيذ وهو يبكي حتى لم يبق من ذلك شيء، ثم نزع ثيابه واغتسل، ثم لبس ثيابا بيضا من صوف، ثم عانقني وبكى، ثم قال: السلام عليك يا حبيبي وفرحي من الناس كلهم، سلام الفراق الذي لا لقاء بعده، وجعل يبكي، وقال: هذا آخر عهدي بك في حال تعاشر أهل الدنيا، فظننت أنها بعض حماقاته، فانصرفت وما لقيته زمانا، ثم تشوقته فأتيته فاستأذنت عليه فأذن لي فدخلت، فإذا هو أخذ قوصرتين
13
وثقب إحداهما وأدخل رأسه ويديه فيها وأقامها مقام القميص، وثقب الأخرى وأخرج رجليه منها وأقامها مقام السراويل. فلما رأيته نسيت كل ما كان عندي من الغم عليه والوحشة لعشرته، وضحكت والله ضحكا ما ضحكت مثله قط. فقال: من أي شيء تضحك؟ فقلت: أسخن الله عينك! هذا أي شيء هو؟ من بلغك عنه أنه فعل مثل هذا من الأنبياء والزهاد والصحابة والمجانين؟ انزع عنك هذا يا سخين العين.
14
اتهامه بالزندقة
ما لنا ولأخبار أبي العتاهية نتحدث عن الصحيح منها والمنحول، ونسرد ما أضيف إليه على سبيل الفكاهة والسخرية ، إنه لا شك في أن أبا العتاهية شغل بتقويم نفسه، وأقبل في بعض أدوار حياته على التنسك والزهد، ولا يخرج حاله عن فرضين: الأول أن يكون مخلصا، الثاني أن يكون مرائيا، فإن كان مخلصا فشعره شاهد ذلك الإخلاص، وإن كان مرائيا فهو ورياؤه وأشعاره من مظاهر التصوف؛ لأن التخلق بأخلاق الزهاد لا يكون إلا إن صح لهم اسم وصيت، ولا جدال في أن الزهاد كان لهم سلطان في ذلك العهد، وكان يسر أبا العتاهية أن يقف من الخلفاء ذلك الموقف المشرف الذي كان يقفه عمرو بن عبيد وعبد الله بن المبارك، وقد صح له شيء من تلك الأحلام، فذكر بالخير في مجلس الرشيد ومجلس المأمون.
15
سخرية معاصريه من تزهده
غير أنه لا ينكر أن مجموعة أخبار أبي العتاهية تمثله رجلا يضجره القلق، ويقل في حياته الأمن والاطمئنان، ودليل ذلك ما حدث به أبو عكرمة عن شيخ له من أهل الكوفة قال: دخلت مسجد المدينة ببغداد بعد أن بويع الأمين محمد بسنة، فإذا شيخ عليه جماعة وهو ينشد:
لهفي على ورق الشباب
وغضونه الخضر الرطاب
ذهب الشباب وبان عني (م) غير منتظر الإياب
فلأبكين على الشبا
ب وطيب أيام التصابي
ولأبكين من البلى
ولأبكين من الخضاب
إني لآمل أن أخلد (م)
والمنية في طلابي
قال: فجعل ينشدها وإن دموعه لتسيل على خديه، فلما رأيت ذلك لم أصبر أن ملت فكتبتها، وسألت عن الشيخ فقيل لي: هو أبو العتاهية.
16
فهذه الحسرة على الشباب وأيام التصابي تصوره رجلا مغلوبا على اللذات، وتطعن في صحة زهده، ولو كان زهده عن إخلاص مطلق لرمى بذكريات الشباب حيث رمتها الأيام.
ولسنا نقول: بأن الزهد يقضي على جميع الصبوات القلبية، وأن بكاء الشباب لا يمر بقلب رجل زاهد، وأن الحسرة على أيام التصابي لا تكون إلا من رجل مزعزع اليقين، لا، ولكنا نتخذ من ذلك شاهدا على أن الرجل ظل يعيش إلى أخريات أيامه بقلب مفتون بأيام الصبوة والفتك، وإن كان شعره في الزهد ملأ الدنيا وغزا صوامع الرهبان.
17
قلقه الروحي وحزنه على الشباب
أما شعر أبي العتاهية في الزهد فكان في الأغلب سهلا لينا، وكانت له في ذلك سياسة يكشف عنها حديث نقله صاحب الأغاني عن كتاب هارون بن علي، قال: حدثني علي بن مهدي عن ابن أبي الأبيض قال: أتيت أبا العتاهية فقلت له: إني رجل أقول الشعر في الزهد، ولي فيه أشعار كثيرة، وهو مذهب أستحسنه لأني أرجو أن لا آثم فيه، وسمعت شعرك في هذا المعنى فأحببت أن أستزيد منه، فأحب أن تنشدني من جيد ما قلت، فقال: اعلم أن ما قلته رديء. قلت: وكيف! قال: لأن الشعر ينبغي أن يكون مثل أشعار الفحول المتقدمين، أو مثل شعر بشار وابن هرمة، فإن لم يكن كذلك فالصواب لقائله أن تكون ألفاظه مما لا تخفى على جمهور الناس مثل شعري، ولا سيما الأشعار التي في الزهد، فإن الزهد ليس من مذاهب الملوك، ولا من مذاهب رواة الشعر ولا طلاب الغريب، وهو مذهب أشغف الناس به الزهاد وأصحاب الحديث والفقهاء وأصحاب الرياء والعامة، وأعجب الأشياء إليهم ما فهموه، فقلت: صدقت. ثم أنشدني قصيدته:
لدوا للموت وابنوا للخراب
فكلكم يصير إلى تباب
ألا يا موت لم أر منك بدا
أتيت وما تحيف وما تحابي
كأنك قد هجمت على مشيبي
كما هجم المشيب على شبابي
18
وهذا اعتذار عن إيثار السهولة واللين، وهو لا يمنع أن يقع للشاعر شيء من الكلام الجزل. كأن يقول:
طول التعاشر بين الناس مملول
ما لابن آدم إن فتشت معقول
يا راعي الشاء لا تغفل رعايتها
وأنت عن كل ما استرعيت مسئول
إني لفي منزل ما زلت أعمره
على يقين بأني عنه منقول
وليس من موضع يأتيه ذو نفس
إلا وللموت سيف فيه مسلول
لم يشغل الموت عنا مذ أعد لنا
وكلنا عنه باللذات مشغول
ومن يمت فهو مقطوع ومجتنب
والحي ما عاش مغشي وموصول
كل ما بدا لك فالآكال فانية
وكل ذي أكل لا بد مأكول
ولأبي العتاهية في زهدياته مذاهب ، فتارة يدعو إلى اليأس من الناس، كأن ينفر من الثقة بالأصدقاء فيقول:
ليخل امرؤ دون الثقات بنفسه
فما كل موثوق به ناصح الجيب
أو يتهمهم بضعة النفس والتبعية للأغنياء فيقول:
وابغ ما اسطعت عن الناس الغنى
فمن احتاج إلى الناس ضرع
19
قد بلونا الناس في أخلاقهم
فرأيناهم لذي المال تبع
أو يحكم بأنهم لا يتعارفون إلا بفضل ما ستروا من نوازع الشر فيقول:
وفي الناس شر لو بدا ما تعاشروا
ولكن كساه الله ثوب غطاء
أو يصفهم بالفضول فيقول:
وللناس خوض في الكلام وألسن
وأقربها من كل خير صدوقها
وما صح إلا شاهد صح غيبه
وما تنبت الأغصان إلا عروقها
أو يرميهم بالبخل فيقول:
لو رأى الناس نبيا
سائلا ما وصلوه
أنت ما استغنيت عن صا
حبك الدهر أخوه
فإذا احتجت إليه
ساعة مجك فوه
وتارة يدعو إلى القناعة فيقول:
متى تنقضي حاجات من ليس واصلا
إلى حاجة حتى تكون له أخرى
وإن امرأ يسعى لغير نهاية
لمنغمس في لجة الفاقة الكبرى
وفي هذين البيتين صورة جيدة للشقاء الذي يتتابع وفقا لتتابع الرغائب، وقد زاد هذا المعنى إيضاحا حين قال من كلمة ثانية:
ليس على المرء في قناعته
إن هي صحت أذى ولا نصب
من لم يكن بالكفاف مقتنعا
لم تكفه الأرض كلها ذهب
وتارة يسلك مسلك التخويف من عواقب الحياة، وله في ذلك معان جيدة كقوله في نقص الأنفس من حيث تكون الزيادة في الفتوة:
ونفس الفتى مسرورة بنمائها
وللنقص تنمو كل ذات نماء
وقوله يصف يقظة الموت:
لم يشغل الموت عنا منذ أعد لنا
وكلنا عنه باللذات مشغول
وقوله في الترهيب من الغرور بما يملك الرجال:
يا رب ذي نشب تكنفه
حب الحياة وغره نشبه
قد صار مما كان يملكه
صفرا
20
وصار لغيره سلبه
21
يا صاحب الدنيا المحب لها
أنت الذي لا ينقضي تعبه
إن استهانتها بمن صرعت
لبقدر ما تسمو به رتبه
وإن استوت للنمل أجنحة
حتى يطير فقد دنا عطبه
إني حلبت الدهر أشطره
فرأيته لم يصف لي حلبه
حلم الفتى مما يزينه
وتمام حلية فضله أدبه
ولأبي العتاهية لحظات يقف فيها موقف الواعظ، كأن يقول:
الحرص داء قد أضر
بمن ترى إلا قليلا
كم من عزيز قد رأيت
الحرص صبحه ذليلا
فتجنب الشهوات واحذر
أن تكون لها قتيلا
فلرب شهوة ساعة قد
أورثت حزنا طويلا
من لم يكن لك منصفا
في الود فابغ به بديلا
وعليك نفسك فارعها
واكسب لها فعلا جميلا
ولقلما تلقى اللئيم
عليك إلا مستطيلا
والمرء إن عرف الجمي
ل وجدته يبغي الجميلا
اضرب بطرفك حيث شيء
ت فلا ترى إلا بخيلا
وقد يتشاءم من الوجود كله ويرى الراحة في الاستهانة به فيقول:
يا رب برق شمته
عادت مخيلته عجاجا
ولرب عذب صار بع
د عذوبة ملحا أجاجا
ولرب أخلاق حسا
ن عدن أخلاقا سماجا
كدر الصفاء من الصد
يق فلا ترى إلا مزاجا
وإذا الأمور تزاوجت
فالصبر أكرمها نتاجا
هون عليك مضايق ال
دنيا تعد سبلا فجاجا
من عاج من شيء إلى
شيء أصاب له معاجا
22
وقد تغلب عليه الحكمة، والرغبة في النصح، كأن يدعو إلى صيانة الوجه عن السؤال فيقول:
ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله
عوضا ولو نال الغنى بسؤال
أو يدعو إلى القناعة بالقليل فيقول:
متى تمسي وتصبح مستريحا
وأنت الدهر لا ترضى بحال
وقد يجري قليل المال مجرى
كثير المال في سد الخلال
إذا كان القليل يسد فقري
ولم أجد الكثير فلا أبالي
أو يحبب إليهم الصمت فيقول:
الصمت أجمل بالفتى
من منطق في غير حينه
لا خير في حشو الكلا
م إذا اهتديت إلى عيونه
طريقته في نظم أشعار الزهد
بقيت مسألة أكثر الرواة من الكلام عليها، ولكنا لا نفهمها، فقد حدثوا أن أبا العتاهية امتنع عن الغزل، وأن ذلك غاظ الرشيد فحبس من أجله أبا العتاهية؛ ولذلك أخبار طوال ذكر بعضها في الأغاني، وبعضها في زهر الآداب، وليس من المستحيل أن يقع ذلك من الرشيد، ولكنه سخف لا يبعد أن يكون من وضع الملفقين، وهذا البحث يوجب أن نشير إلى بعض تلك الأخبار، فلنكتف بما نقل محمد بن صالح عن أبي العتاهية. قال: كان الرشيد مما يعجبه غناء الملاحين في الزلالات
23
إذا ركبها، وكان يتأذى بفساد كلامهم ولحنهم، فقال: قولوا لمن معنا من الشعراء يعملوا لهؤلاء شعرا يغنون فيه، فقيل له: ليس أقدر على هذا من أبي العتاهية، وهو في الحبس، قال: فوجه إلي الرشيد: قل شعرا حتى أسمعه منهم، ولم يأمر بإطلاقي، فغاظني ذلك، فقلت: والله لأقولن شعرا يحزنه، ولا يسر به، فعملت شعرا ودفعته إلى من حفظه الملاحين، فلما ركب الحراقة سمعه، وهو:
خانك الطرف الطموح
أيها القلب الجموح
لدواعي الخير والشر
دنو ونزوح
هل لمطلوب بذنب
توبة منه نصوح
كيف إصلاح قلوب
إنما هن قروح
أحسن الله بنا أن
الخطايا لا تفوح
24
فإذا المستور منا
بين ثوبيه نضوح
كم رأينا من عزيز
طويت عنه الكشوح
صاح منه برحيل
صائح الدهر الصدوح
موت بعض الناس في الأر
ض على قوم فتوح
سيصير المرء يوما
جسدا ما فيه روح
بين عيني كل حي
علم الموت يلوح
كلنا في غفلة وال
موت يغدو ويروح
لبني الدنيا من الدن
يا غبوق وصبوح
رحن في الوشى وأصبح
ن عليهن المسوح
كل نطاح من الده
ر له يوم نطوح
نح على نفسك يا مس
كين إن كنت تنوح
لتموتن وإن عمر
ت ما عمر نوح
قال: فلما سمع الرشيد ذلك جعل يبكي وينتحب، وكان الرشيد من أغزر الناس دموعا في وقت الموعظة، وأشدهم عسفا في وقت الغضب والغلظة، فلما رأى الفضل بن الربيع كثرة بكائه أومأ إلى الملاحين أن يسكتوا.
25
وهذا الحديث يدل على ثلاثة أمور: الأول أن الملاحين لذلك العهد كانوا يلحنون، وذلك معقول، فما نظن أن الفصيح ساد سيادة مطلقة في جميع الطبقات في أي عصر من العصور، وليس هذا خاصا باللغة العربية: فسائر اللغات كذلك؛ لأن الإفصاح في أغلب الأحيان من سمة الخواص.
والثاني أن أبا العتاهية كان معروفا بسهولة الشعر، وبأنه أقدر الناس على النظم الفصيح الذي يفهمه العوام.
والثالث أن أبا العتاهية كان لا يخلو من الميل إلى الأذى، فهذا الشعر الجيد لم ينظم لوجه الحق، وإنما نظم لإيذاء الرشيد، وهذا الميل الخبيث كانت له أسباب فما كان يعقل أن ينظم أبو العتاهية أبياتا تصلح لبشاشة الغناء وهو سجين، ولكن التعريض بالرشيد وإنذاره بزوال الدنيا والملك هو في هذا الموقف من نزغات الشيطان.
صور من خوالجه الزهدية
ولا ننكر أن في هذا شيئا من روح الشجاعة وهي من أهم آثار التصوف وقد شجع في موطن آخر حين كتب إلى الرشيد، وقد توانى في إخراجه من الحبس.
أما والله إن الظلم لوم
26
وما زال المسيء هو الظلوم
إلى ديان يوم الدين نمضي
وعند الله تجتمع الخصوم
لأمر ما تصرفت الليالي
وأمر ما توليت النجوم
27
تموت غدا وأنت قرير عين
من الغفلات في لجج تعوم
تنام ولم تنم عنك المنايا
تنبه للمنية يا نئوم
سل الأيام عن أمم تقضت
ستخبرك المعالم والرسوم
تروم الخلد في دار المنايا
وكم قد رام غيرك ما تروم
أخباره مع الرشيد
ولا بد من الإشارة إلى أرجوزته المزدوجة التي سماها «ذات الأمثال» وهذه الأرجوزة من بدائع أبي العتاهية
28
وقد جرى ذكرها بحضرة الجاحظ وأنشد المنشد قوله:
يا للشباب المرح التصابي
روائح الجنة في الشباب
فقال الجاحظ للمنشد: قف، ثم قال: انظروا إلى قوله:
روائح الجنة في الشباب
فإن له معنى كمعنى الطرب الذي لا يقدر على معرفته إلا القلوب، وتعجز عن ترجمته الألسنة، إلا بعد التطويل وإدامة التفكير، وخير المعاني ما كان القلب إلى قبوله أسرع من اللسان إلى وصفه.
28
وتلك الأرجوزة تجمع بين الحكمة والزهد، فهي دستور أبي العتاهية في الأخلاق، ولنكتف منها بهذه الشذرات:
حسبك مما تبتغيه القوت
ما أكثر القوت لمن يموت
الفقر فيما جاوز الكفافا
من اتقى الله رجا وخافا
هي المقادير فلمني أو فذر
إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر
لكل ما يؤذي وإن قل ألم
ما أطول الليل على من لم ينم
ما انتفع المرء بمثل عقله
وخير ذخر المرء حسن فعله
إن الفساد ضده الصلاح
ورب جد جره المزاح
من جعل النمام عينا هلكا
مبلغك الشر كباغي هلكا
إن الشباب والفراغ والجده
مفسدة للمرء أي مفسده
ما عيش من آفته بقاؤه
نغض عيشا طيبا فناؤه
ما تطلع الشمس ولا تغيب
إلا لأمر شأنه عجيب
ما زالت الدنيا لنا دار أذى
ممزوجة الصفو بألوان القذى
الخير والشر بها أزواج
لذا نتاج ولذا نتاج
من لك بالمحض وليس محض
يخبث بعض ويطيب بعض
لكل إنسان طبيعتان
خير وشر وهما ضدان
إنك لو تستنشق الشحيحا
وجدته أنتن شيء ريحا
والخير والشر إذا ما عدا
بينهما بون بعيد جدا
عجبت حتى غمني السكوت
صرت كأني حائر مبهوت
كذا قضى الله فكيف أصنع
الصمت إن ضاق الكلام أوسع
وهذه الأرجوزة التي يقال: إن له فيها أربعة آلاف مثل
29
لا يمكن أن تصدر إلا عن رجل مشغول بالأخلاق، وابتداع الحكم والأمثال لا بد له من صفاء، والصفاء ليس من حظ النفوس المقتولة بالشواغل الدنيوية، فلا مفر من الاعتراف بأن أبا العتاهية استطاع أن يخلص من دنياه بعض الخلاص، ليفرغ لنظم أشباه هذه الأمثال.
أرجوزته المزدوجة
وما أدري كيف يغلبني الميل إلى عرض أكثر الجوانب من شخصية أبي العتاهية، مع رغبتي في إيجاز هذا الفصل، ولعل السر في ذلك خوفي من مشاركة من عاصروه في الغض من قيمته الأخلاقية، فقد كانت لهم من دنيا ذلك الشاعر شبهات تبرر التجني عليه، أما نحن فلم يبق أمامنا إلا هذه الثروة الأدبية، وهي الأصل الأول في تقدير قيمته الذاتية، أما لغو المعاصرين فليس بحجة؛ لأن الحسد يحمل الناس على ارتكاب جريمة الإفك والبهتان.
والواقع أن المرء يحسد على السمعة الطيبة أكثر مما يحسد على الثراء العريض، ولا سيما في عالم المنازعات الأدبية، وأكثر الرواة والشعراء لعهد أبي العتاهية كانت سمعتهم مما تلغط به الجماهير، وكانت لهم أندية يكثر فيها اللغو، وتقع فيها الآثام حول موائد الشراب، وكان من العزيز عليهم أن يطير عنهم أبو العتاهية فيحلق في سماء الفضيلة، ويثير شعره دموع بعض الخلفاء.
قيمته الذاتية
هذا، ولا بد من الإشارة إلى أن شعور أبي العتاهية بتفاهة الدنيا تمثل له عند الموت، في صورة جديدة، فقد أعلن يأسه من وفاء الأصدقاء، وزهده في بكاء الباكيات، حين اشتهى أن يغنيه مخارق:
سيعرض عن ذكري وتنسى مودتي
ويحدث بعدي للخليل خليل
إذا ما انقضت عني من الدهر مدتي
فإن غناء الباكيات قليل
30
وقد نظم أبياتا لتوضع على قبره، وكذلك فعل أبو نواس، والكتابة على القبور سنة قديمة عرفها المصريون والآشوريون، ولكنها كانت في الأغلب وصايا يراد بها زجر من يطمعون في انتهاب ما في القبور من الذهب والثياب، أما أبو العتاهية وأبو نواس فكان شعرهما في التحذير من عواقب العيش، والمشرف على الموت يحب أن يكون أفصح الناس في وصف الدنيا بالغدر وسرعة الزوال، ومن يعش حتى يمد يده لمصافحة الموت يعرف صحة هذا الفرض!
الأشعار القبرية
وهناك شاعر أثرت عنه مقطوعات في الزهد، وهو رجل صوفي النزعة، ولم يقع له في شبابه من النزق والطيش أشباه لما وقع لأبي العتاهية وأبي نواس، وإن كان عرف طوائف من الصبوات، ذلك الشاعر هو الشريف الرضي، الذي حن إلى ملاعب الظباء بالحجاز حنينا هو غاية الغايات في قوة الروح.
نموذج من شعر الشريف الرضى في الزهد
ولا يمكن القول: بأن الشريف من أقطاب هذا الفن، فشعره في الزهد قليل، ولكنه على كل حال من شواهد هذا الباب، ولننظر هذه القصيدة وهي تصور سخريته من الرغبة في استبقاء المال:
يا آمن الأقدار بادر صرفها
واعلم بأن الطالبين حثاث
خذ من تراثك ما استطعت فإنما
شركاؤك الأيام والوراث
لم يقض حق المال إلا معشر
وجدوا الزمان يعيث فيه فعاثوا
تحثو على عيب الغني يد الغنى
والفقر عن عيب الفتى بحاث
المال مال المرء ما بلغت به
الشهوات أو دفعت به الأحداث
ما كان منه فاضلا عن قوته
فليعلمن بأنه ميراث
ما لي إلى الدنيا الغرورة حاجة
فليخز ساحر كيدها النفاث
طلقتها ألفا لأحسم داءها
وطلاق من عزم الطلاق ثلاث
سكناتها محذورة وعهودها
منقوضة وحبالها أنكاث
أم المصائب لا يزال يروعنا
منها ذكور نوائب وإناث
إني لأعجب من رجال أمسكوا
بحبائل الدنيا وهن رثاث
كنزوا الكنوز وأغفلوا شهواتهم
فالأرض تشبع والبطون غراث
أتراهم لم يعلموا أن التقى
أزوادنا وديارنا الأجداث
والزهد - في هذه القصيدة - له معنى غير الزهد المعروف، فهو هنا دعوة إلى إنفاق المال في الشهوات ودفع العاديات، فالشاعر يحب المال، ولكنه يرى استبقاءه من الحمق، وهذا وجه الزهد. أما الحرمان فليس من أغراض هذا الشاعر وتلك أيضا صوفية، وللتصوف وجوه كثيرة، منها هذا الوجه، ومن الصوفية من يوسع على نفسه في يومه، ويترك الغد للأقدار، ولنقيد أن «الشهوات» في هذه القصيدة لا يراد بها الشهوات الحسية، وإنما المراد بها مطالب العيش المترف الذي بجانب التقشف ويقبل على الطيبات.
وهذه اللمحات من الزهد لا يخلو منها ديوان شاعر إلا في القليل ومن السهل على القارئ أن يتعقبها ويدرس ما فيها من مختلف النوازع النفسية، فلنقف عند هذا الحد، فإنما نريد التنبيه لا الاستقصاء.
واجهة من ضريح علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - في النجف وأكثر الصوفية يرجعون نظام الخرقة إلى علي بن أبي طالب ويرونه أول من أذاع المعاني الروحية.
ضريح الحسن البصري بضواحي البصرة والحسن البصري أخذ عن علي بن أبي طالب، وإليه يرجع الفضل في تأسيس قواعد التصوف. (انظر تفصيل ذلك في الباب الأول من الجزء الثاني.)
ذخائر منسية من الأدب الصوفي
كيف جهل مؤرخو الأدب بلاغة الصوفية
نتكلم في هذا الفصل عن طوائف من الأخيلة والمعاني والصور لم يهتم بها رجال الأدب، ولم يحسبوا لها أي حساب. ولعل السر في إغفال مؤرخي الأدب لهذه الفنون أنهم لم يضعوا البلاغة الصوفية في الميزان؛ لأن الصوفية كانوا انحازوا جانبا عن صحبة الأدباء؛ ولأن الأدباء أنفسهم كانوا أقبلوا على الصور الحسية إقبالا شغلهم عن الأدب الذي يصور أحوال الأرواح والقلوب، فظنوا أدب الصوفية بعيدا عن المجال الذي تسابقوا فيه : مجال التشبيب والوصف والحماسة والعتاب.
ولو أن رجال الأدب وعلماء البلاغة نظروا في الأدب الصوفي نظرة جدية لا تخذوا منه شواهد في المجازات والتشبيهات، ولرأوا فيه كلمات متخيرة تصلح نماذج لإصابة المعنى والغرض. ولكنهم انصرفوا عنه فلم نر في مؤلفاتهم النقدية غير شواهد من كلام الشعراء والكتاب والخطباء الذين سبقوا في ميادين غير ميادين الأرواح والقلوب.
بكاء داود وبكاء يحيى
وأول ما راعني من هذا الأدب المجهول الصورة التي وضعها الصوفية لبكاء داود عليه السلام: فقد حدثوا أنه بكى أربعين يوما ساجدا لا يرفع رأسه حتى نبت المرعى من دموعه، وحتى غطي رأسه. فنودي: يا داود، أجائع أنت فتطعم، أم ظمآن فتسقى، أم عار فتكسى؟ فنحب نحبة هاج لها العود فاحترق من حر خوفه. ثم أنزل الله عليه التوبة والمغفرة فقال: يا رب اجعل خطيئتي في كفي. فصارت خطيئته في كفه مكتوبة. فكان لا يبسط كفه لطعام ولا لشراب ولا لغيره إلا رآها فأبكته. وكان يؤتى بالقدح ثلثاه ماء، فإذا تناوله أبصر خطيئته فما يضعه على شفته حتى يفيض القدح من دموعه.
1
وحدثوا أنه لما طال بكاؤه ولم ينفعه ذلك ضاق ذرعه، واشتد غمه، فقال: يا رب، أما ترحم بكائي! فأوحى الله إليه: يا داود، نسيت ذنبك وذكرت بكاءك؟ فقال: إلهي وسيدي، كيف أنسى ذنبي، وكنت إذا تلوت الزبور كف الماء الجاري عن جريه، وسكن هبوب الريح، وأظلني الطير على رأسي، وأنست الوحوش إلى محرابي! إلهي وسيدي، فما هذه الوحشة التي بيني وبينك؟ فأوحى الله إليه: يا داود، ذاك أنس الطاعة، وهذه وحشة المعصية. يا داود! آدم خلق من خلقي، خلقته بيدي، ونفخت فيه من روحي، وأسجدت له ملائكتي، وألبسته ثوب كرامتي، وتوجته بتاج وقاري، وشكا إلي الوحدة فزوجته حواء أمتي، وأسكنته جنتي؛ ثم عصاني فطردته عن جواري عريان ذليلا. يا داود، اسمع مني والحق أقول: أطعتنا فأطعناك، وسألتنا فأعطيناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإن عدت إلينا على ما كان منك قبلناك.
وحدثوا أنه كان إذا أراد أن ينوح مكث قبل ذلك سبعا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب، ولا يقرب النساء، فإذا كان قبل ذلك بيوم أخرج له المنبر إلى البرية فأمر سليمان أن ينادي بصوت يستقري البلاد وما حولها من الغياض والآكام والجبال والبراري والصوامع والبيع، فينادي فيها: ألا من أراد أن يسمع نوح داود على نفسه فليأت. فتأتي الوحوش من البراري والآكام، وتأتي السباع من الغياض، وتأتي الهوام من الجبال، وتأتي الطير من الأوكار، وتأتي العذراى من خدورهن، ويجتمع الناس لذلك اليوم، ويأتي داود حتى يرقى المنبر ويحيط به بنو إسرائيل، وكل صنف على حدته محيطون به، وسليمان قائم على رأسه، فيأخذ في الثناء على ربه فيضجون بالبكاء والصراخ، ثم يأخذ في ذكر الجنة والنار فتموت الهوام وطائفة من الوحوش والسباع والناس، ثم يأخذ في ذكر الجنة والنار فتموت الهوام وطائفة من الوحوش والسباع والناس، ثم يأخذ في أهوال القيامة وفي النياحة على نفسه فيموت من كل نوع طائفة. فإذا رأى سليمان كثرة الموتى قال: يا أبتاه قد مزقت المستمعين كل ممزق، وماتت طوائف من بني إسرائيل ومن الوحوش والهوام، فيأخذ في الدعاء. فبينا هو كذلك إذ ناداه بعض عباد بني إسرائيل: يا داود، عجلت بطلب الجزاء على ربك. فيخر داود مغشيا عليه، فإذا نظر سليمان إلى ما أصابه أتى بسرير فحمله عليه. ثم أمر مناديا ينادي: ألا من كان له مع داود حميم أو قريب فليأت بسرير فإن الذين معه قتلهم ذكر الجنة والنار.
2
صورة الزهد في الزهد
أرأيتم هذه الصور في وصف بكاء داود؟ إن هذه صور أدبية رائعة تمثل بعض أحوال النفوس وهي لا تقل روعة عن نظائرها من الصور الوصفية، التي تمثل مقامات الأدباء بين أيدي الخلفاء والملوك.
وأي بلاغة أروع وأمتع من هذه العبارة النفسية التي قيلت في تصوير السماحة الربانية:
أطعتنا فأطعناك، وسألتنا فأعطيناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإن عدت إلينا على ما كان منك قبلناك.
هذه صورة من صور الصفح تستحق الإعجاب، وكلمة «على ما كان منك» من العبارات المتخيرة الدقيقة الصنع، وهي إشارة إلى قصة داود التي قصها القرآن إذ قال:
وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب * إذ دخلوا على داوود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط * إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب * قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب ۩ * فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب * يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب .
وحسرة داود أشار إليها القرآن إشارة تشبه إيماءة الطرف، فجاء الصوفية فوشوها توشية طريفة وعرضوها في صور مختلفة لا تخلو من سحر وفتون. ولم يفتهم أن يجعلوا بكاء داود من فنون الرياضات فقالوا: إنه كان إذا أراد أن ينوح مكث قبل ذلك سبعا لا يأكل الطعام، ولا يشرب الشراب، ولا يقرب النساء.
وتسامى بهم الخيال فجعلوا بكاء داود من المواسم الروحية التي يتجمع لها الوحوش والسباع الهوام والعذارى أيضا؛ ثم جعلوا نهاية تلك الملطمة الوجدانية مختومة بأشلاء الصرعى من السباع والوحوش والناس.
ومن الواضح أن هذه كله من صنع الخيال، فلا مجال فيه لتحقيقات التاريخ. وما دخل التاريخ في الصور الأدبية؟ التاريخ يعرف أن داود فتن امرأة واصطفاها لنفسه، وأن الله أدبه أظرف تأديب، ثم جاء الخيال خيال الأقاصيص فلون تلك الحقيقة بما شاء.
دقائق نفسية
ويشبه هذه الصور ما حدثوا به عن يحيى بن زكريا، فقد قالوا: إنه دخل بيت المقدس وهو ابن ثماني حجج فنظر إلى عبادهم قد لبسوا مدارج الشعر والصوف،
3
ونظر إلى مجتهديهم قد خروا للتراقي وسلكوا فيها السلاسل وشدوا أنفسهم إلى أطراف بيت المقدس فهاله ذلك، فمر بصبيان يلعبون فقالوا له: يا يحيى هلم بنا لنلعب، فقال: إني لم أخلق للعب. ثم أتى أبويه فسألهما أن يدرعاه الشعر ففعلا. فرجع إلى بيت المقدس فكان يخدمه نهارا. ويصيح فيه ليلا، حتى أتت عليه خمس عشرة سنة، فخرج ولزم أطواد الأرض، وغيران الشعاب، فخرج أبواه في طلبه فأدركاه على بحيرة الأردن، وقد أنقع رجليه في الماء حتى كاد العطش يذبحه وهو يقول: وعزتك وجلالك لا أذوق بارد الشراب حتى أعلم أين مكاني منك. فسأله أبواه أن يفطر على قرص كان معهما من شعير، ويشرب من ذلك الماء، ففعل وكفر عن يمينه، فمدح بالبر. فرده أبواه إلى بيت المقدس، فكان إذا قام يصلي بكى حتى يبكي معه الشجر والمدر، ويبكي زكريا لبكائه حتى يغمى عليه، فلم يزل يبكي حتى خرقت دموعه لحم خديه، وبدت أضراسه للناظرين. فقالت له أمه: يا بني، لو أذنت لي أن أتخذ لك شيئا تواري به أضراسك عن الناظرين! فأذن لهما فعمدت إلى قطعتي لبود فألصقتهما على خديه، فكان إذا قام يصلي بكى، فإذا استنقعت دموعه في القطعتين أتت إليه أمه فعصرتهما، فإذا رأى دموعه تسيل على ذراعي أمه قال: اللهم هذه دموعي، وهذه أمي، وأنا عبدك، وأنت أرحم الراحمين. فقال له زكريا يوما: يا بني، إني سألت ربي أن يهبك لي لتقر عيناي بك. فقال يحيى: يا أبت إن جبريل أخبرني أن بين الجنة والنار مفازة لا يقطعها إلا كل بكاء. فقال زكريا: يا بني، فابك.
4
فهذه الصورة في بكاء يحيى صورة رائعة، ومع روعتها لم يتحدث عنها أحد من الأدباء. ولو أن هذه الصورة نفسها أضيفت إلى مجنون ليلى لعدوها من الروائع، وتحدث عنها صاحب الأغاني وصاحب مصارع العشاق. لو نظمت هذه الصورة في أخبار رجل من أصحاب العشق الحسي لكانت متعة الأسمار والأحاديث، ولكنها أضيفت إلى أخبار من قضوا صرعى في ميادين الأشواق الربانية فتجاهلها الأخباريون.
أرأيتم قول يحيى:
اللهم هذه دموعي، وهذه أمي، وأنا عبدك، وأنت أرحم الراحمين.
أرأيتم كيف كانت تقابل هذه العبارة الرقيقة الباكية لو قالها شاعر في حضرة أحد الملوك؟
وبكاء الشجر والمدر، ما رأيكم فيه؟
ستضيفونه إلى بكاء السباع والوحوش والهوام في قصة داود، وتجعلونها جميعا من الأساطير! ولكن أكل أسطورة خبل في خبل وضلال في ضلال؟
إن أمثال هذه الأساطير لها صلة وثيقة بفهم الصوفية لحقيقة الوجود، فهم لا يرون أنفسهم منفصلين عن عوالم الجماد والنبات والحيوان. هم يحسون كأن الدنيا تتوجع لهم وتشفق مما يعانون؛ ويتجسم هذا الإحساس فيريهم أن الشجر والمدر والسباع والوحوش تذرف الدمع حين يأخذون في البكاء.
وهذه الشطحات تستحق العطف؛ لأنها تصدر عن ناس فنوا فناء تاما في الحب الإلهي، وبدت لهم ذنوبهم أثقل من الجبال، وخيل إليهم أن رحمة الله لا تنال بغير الدمع والأنين.
والبكاء في ذاته نفحة من النفحات الشعرية؛ لأنه لا يكون إلا من فيض الوجد وقوة الإحساس، وهو من وسائل الإفصاح عن أوجاع القلوب.
صورة أدبية ليوم الحساب
وقد تقع في كتب الصوفية صفحات من الأدب النبيل، ولكنها تظل من الأدب المجهول؛ لأن الأدباء شغلوا بالمحسوس عن المعقول، وإلا فأي صورة أبرع من الصورة التي وضعها الغزالي للزهد حين قال:
إن الكاره للدنيا مشغول بالدنيا، كما أن الراغب فيها مشغول بها، والشغل بما سوى الله حجاب عن الله، وهو ليس في مكان حتى تكون السموات والأرض حجابا بينك وبينه، فلا حجاب بينك وبينه إلا شغلك بغيره، وشغلك بنفسك وشهواتك شغل بغيره، فالمشغول بحب نفسه مشغول عن الله، والمشغول ببعض نفسه مشغول أيضا عن الله، بل كل ما سوى الله مثاله مثال الرقيب الحاضر في مجلس يجمع العاشق والمعشوق، فإن التفت قلب العاشق إلى الرقيب وإلى بغضه واستثقاله وكراهة حضوره فهو في حال اشتغال قلبه ببغضه مصروف عن التلذذ بمشاهدة معشوقه. ولو استغرقه العشق لغفل عن غير المعشوق ولم يلتفت إليه. فكما أن النظر إلى غير المعشوق لحبه عند حضور المعشوق شرك في العشق ونقص فيه، فكذا النظر إلى غير المعشوق لبغضه شرك فيه ونقص. ولكن أحدهما أخف من الآخر، بل الكمال في أن لا يتلفت القلب إلى غير المحبوب بغضا أو حبا، فإنه كما لا يجتمع في القلب حبان في حالة واحدة، فالمشغول ببغض الدنيا غافل عن الله، كالمشغول بحبها، إلا أن المشغول بحبها غافل وهو في غفلته سالك في طريق البعد، والمشغول ببغضها غافل وهو في غفلته في طريق القرب.
5
أترون ما في هذه الصورة من الحسن؟ إن الكاتب يريد أن يقول: إن الزهد هو أن تزهد في الزهد، هو أن تخلو نفسك خلوا تاما من كل ما سوى الله، فلا تحب ولا تبغض، ولا تمدح ولا تقدح، ولا تثني ولا تلوم. وهذه الصورة تبدو جافية لمن يغفل أقدار المعاني. هي كالحسناء التي غفلت عن حسنها العيون؛ لأنها لا تعرف الزينة ولا تحسن أساليب الإغواء.
ومع ذلك نرى الكاتب قرب معانيه كل التقريب فضرب المثل بما بين العاشق والمعشوق. والصوفية يرون الناس لا يفهمون غير المحسوسات، ومن أجل ذلك يضربون بها الأمثال. وهم أنفسهم يرون العشق الحسي درجة من درجات العشق الروحي؛ لأن العشق في الأصل لا ينسجم إلا بين روح وروح.
ولكن لا مفر من الاعتراف بأن هذه الصور لا يقدرها حق قدرها إلا من يرى البلاغة في المعاني. أما الذين يقفون عند الألفاظ ويستهويهم بريق البديعة فالغزالي عندهم لا يعد في البلغاء.
قوة التعليل
وقد تجد في أجوبة الصوفية أعاجيب من الأدب الرفيع.
حدثوا أن سفيان الثوري كان يرد ما يعطي ويقول: لو علمت أنهم لا يذكرون ذلك افتخارا به لأخذت.
5
وعوتب بعضهم في رد ما كان يأتيه من صلة فقال: إنما أرد صلتهم إشفاقا عليهم، ونصحا لهم؛ لأنهم يذكرون ذلك ويحبون أن يعلم به فتذهب أموالهم وتحبط أجورهم.
6
وقال بشر: ما سألت أحدا قط شيئا إلا سريا السقطي؛ لأنه قد صح عندي زهده في الدنيا فهو يفرح بخروج الشيء من يده ويتبرم ببقائه عنده فأكون عونا له على ما يحب.
والبلاغة في هذه الأجوبة ترجع إلى معانيها، وهي معان شريفة متصلة بالأحوال النفسية، وما فيها من مراقبة النفوس يسمو بها إلى أرفع درجات البيان.
كيف تقرأ كتب التصوف
ولا ينبغي أن ننسى ما كتب الصوفية في الترغيب والترهيب. لا ينبغي أن ننسى ما صوروا به الفضائل والرذائل، وما جرت به أقلامهم في مصاير الصالحين والطالحين، فلهم في هذا الباب صور تخلب العقول وتفتن القلوب، ولا ينظر في كتبهم رجل له ذوق إلا عجب من غفلة الناس عن أدبهم الأصيل.
انظروا قوة التصوير في شرح قول عمر بن الخطاب: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا»، فقد عرض الغزالي لشرح هذا النصح فقال:
وإنما حساب المرء لنفسه أن يتوب عن كل معصية قبل الموت توبة نصوحا، ويتدارك ما فرط من تقصيره في فرائض الله تعالى، ويرد المظالم حبة حبة، ويستحل كل من تعرض له بلسانه، ويده، وسوء ظنه، بقلبه، ويطيب قلوبهم حتى يموت ولم يبق عليه مظلمة ولا فريضة: فهذا يدخل الجنة بغير حساب وإن مات قبل رد المظالم أحاط به خصماؤه: فهذا يأخذ بيده، وهذا يقبض على ناصيته، وهذا يتعلق بلببه، وهذا يقول: ظلمتني، وهذا يقول: شتمتني، وهذا يقول: استهزأت بي، وهذا يقول: ذكرتني في الغيبة بما يسوءني، وهذا يقول: جاورتني فأسأت جواري، وهذا يقول: عاملتني فغششتني وأخفيت عني عيب سلعتك، وهذا يقول: كذبت في سعر متاعك، وهذا يقول: رأيتني محتاجا وكنت غنيا فما أطعمتني، وهذا يقول: وجدتني مظلوما وكنت قادرا على دفع الظالم عني فداهنت الظالم وما راعيتني، فبينما أنت كذلك وقد أنشب الخصماء فيك مخالبهم، وأحكموا في تلابيبك أيديهم، وأنت مبهوت متحير من كثرتهم، حتى لم يبق في عمرك أحد عاملته على درهم، أو جالسته في مجلس، إلا وقد استحق عليك مظلمة بغيبة أو خيانة أو نظر بعين استحقار، وقد ضعفت عن مقاومتهم، ومددت عنق الرجاء إلى سيدك ومولاك لعله يخلصك من أيديهم، إذ قرع سمعك نداء الجبار جل جلاله:
اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم
فعندئذ ينخلع قلبك من الهيبة، وتوقن نفسك بالبوار، وتتذكر ما أنذرك الله تعالى على لسان رسوله حيث قال:
ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار * مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء
فما أشد فرحك اليوم بتمضمضك بأعراض الناس وتناولك أموالهم! وما أشد حسراتك في ذلك اليوم إذا وقف ربك على بساط العدل، وشوفهت بخطاب السياسة وأنت مفلس فقير عاجز مهين لا تقدر على أن ترد حقا أو تظهر عذرا. فعند ذلك تؤخذ حسناتك التي تعبت فيها عمرك، وتنقل إلى خصمائك عوضا عن حقوقهم.
7
فما رأيكم في هذه الصورة؟ أترون خصب اللغة وقوة الخيال؟ أترون استقصاء المعاني في أحوال المعاملات؟ أترون الدقة في تصوير الإيذاء الذي يكون باليد واللسان وسوء الظن بالقلب؟ أترون قوة السخرية من الظالم حين يؤخذ بظلمه يوم الحساب؟ أترون المفاجأة في الانتقال من حال إلى حال؟
هذه صورة فنية لها أمثال تعد بالألوف، ولكن الأدباء نسوا أدب الصوفية كل النسيان.
نماذج من حكم الصوفية
ولا تنس أن أدباء الصوفية قد يعللون ما يصنعون من الصور والتهاويل فيجمعون بين جمال الحقيقة وروعة الخيال، من ذلك ما وصفوا به عذاب القبر إذ قالوا: إن الكافر يسلط عليه في قبره تسعة وتسعون تنينا، والتنين تسعة وتسعون حية، لكل حية سبعة رءوس، يخدشونه ويلحسونه وينفخون في جسمه إلى يوم يبعثون. «ولا ينبغي أن تعجب من هذا العدد على الخصوص، فإن أعداد هذه الحيات والعقارب بعدد الأخلاق المذمومة من الكبر والرياء والحسد والغل والحقد وسائر الصفات، فإن لها أصولا معدودة، ثم تتشعب منها فروع معدودة، ثم تنقسم فروعها بأقسام تلك الصفات بأعيانها، وهي المهلكات بأعيانها، تنقلب عقارب وحيات، فالقوي منها يلدغ لدغ التنين، والضعيف يلدغ لدغ العقرب
8
وما بينهما يؤذي إيذاء الحية؛ وأرباب البصائر يشاهدون بنور البصيرة هذه المهلكات وانشعاب فروعها، إلا أن مقدار عددها لا يوقف عليه إلا بنور النبوة».
9
ولا يقف الغزالي عند هذا التعليل الفلسفي، بل يمضي فيذكر أن لا غرابة في أن نرى الميت ساكنا وهو يعذب، فإن النائم قد يبدو ساكنا وهو يقاسي أمر الآلام ، حين يعاني مضجرات الأحلام. «والحية بنفسها لا تؤلم، بل الذي يلقاك منها هو السم؛ ثم السم ليس هو الألم، بل عذابك في الأثر الذي يحصل فيك من السم، فلو حصل مثل ذلك الأثر من غير سم لكان العذاب قد توفر»،
9
وكذلك يلقى الكافر في قبره عذاب العقارب والحيات، وإن لم تر العين أنه ملسوع أو ملدوغ.
الأدب الصوفي هو أدب المعاني
وجملة القول: أن كتب الصوفية تفيض بالأخيلة والصور والتعابير في روعة وقوة. ويزيد في جمال الأدب الصوفي أنه موصول بعلم النفس وأن له غاية نبيلة هي غرس الخلق الشريف في أنفس الرجال.
ولا يستطيب كتب التصوف إلا من يقبل عليها وهو يعرف أنها عصارة القلوب، وأنها آداب ناس عرفوا الدنيا وأهلها ثم ملوا المجتمع وانقلبوا عليه يصفون عيوبه ومقاتله بأقلام تنضح بالسم الزعاف.
هذا، وينبغي أن نعرف أن أدب الصوفية لم يجهل كله: فقد تنبه كثير من المؤلفين إلى ما في أجوبتهم من جوامع الكلم، فساقوا منها نماذج تفيد من يتطلع إلى مكارم الأخلاق.
وإليكم شذرات من أجوبة القوم:
قيل لسهل بن عبد الله المروزي: ما لك تكثر التصدق؟ فقال: لو أن رجلا أراد أن ينتقل من دار إلى دار، أكان يبقى في الأولى شيئا؟
وقيل للربيع بن خيثم وقد اعتل: ندعو لك بالطبيب؟ فقال: قد أردت ذلك فذكرت عادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا، وعلمت أنه كان فيهم الداء والمداوي فهلكوا جميعا.
وقيل لبعض الزهاد: ما أبلغ العظات؟ فقال: محلة الأموات.
وقيل للحسن البصري: كيف ترى الدنيا؟ فقال: شغلني توقع بلائها عن الفرح برخائها.
وقيل للفضيل: إن ابنك يقول: وددت أني في مكان أرى الناس ولا يرونني. فقال: يا ويح ابني، أفلا أتمها فقال: لا أراهم ولا يرونني!
وقيل لبعض الصوفية: أي شيء أعجب عندك؟ فقال: قلب عرف الله ثم عصاه.
وقيل لآخر: ما لك كما تكلمت بكى كل من يسمعك، ولا يبكي من كلام واعظ المدينة أحد؟ فقال: ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة.
وقيل للربيع بن خيثم : ما نراك تغتاب أحدا. فقال: لست عن حالي راضيا حتى أتفرغ لذم الناس.
وقيل لعبد الله بن المبارك: حتى متى تكتب كل ما تسمع؟ فقال: لعل الكلمة التي تنفعني لم أكتبها بعد.
وقيل لصوفي: ما صناعتكم؟ فقال: حسن الظن بالله، وسوء الظن بالناس.
وقيل للشبلي: لم سمي الصوفي ابن الوقت؟ فقال: لأنه لا يأسف على الفائت، ولا ينتظر الوراد.
وقيل لابن السماك: ما الكمال؟ فقال: الكمال أن لا يعيب الرجل أحدا بعيب فيه مثله حتى يصلح ذلك العيب من نفسه، فإنه لا يفرغ من إصلاح عيب حتى يهجم على آخر فتشغله عيوبه عن عيوب الناس، وأن لا يطلق لسانه ويده حتى يعلم: أفي طاعة أم في معصية؟ وأن لا يلتمس من الناس إلا ما يعلم أنه يعطيهم من نفسه مثله، وأن يسلم من الناس باستشعار مداراتهم، وتوفية حقوقهم، وأن ينفق الفضل من ماله ويمسك الفضل من قوله.
وقيل للشبلي: من الرفيق؟ فقال: من أنت غاية شغله.
10 •••
ولهذه الحكم نظائر كثيرة مبعثرة في كتب الصوفية، وليس المهم هو الاستقصاء، وإنما المهم هو توجيه الأنظار إلى ذلك الأدب المجهول، وهو أدب خلا في جملته من الزخرف، ولكنه حافل بدقائق المعاني، والمعاني هي كل البلاغة عند أرباب القلوب.
ضريح الجنيد وبجانبه ضريح السري السقطي في بغداد وهما من أقطاب الصوفية.
أخيلة أدبية في وصف الدنيا
الدنيا في القرآن والحديث
أكثر الصوفية من الأخيلة الأدبية في وصف الدنيا، وهم في هذا مسبوقون بالقرآن والحديث وكلام الأنبياء. ففي القرآن المجيد:
اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما
وفيه:
واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح
وفيه:
إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس .
وفي الحديث الشريف: «ما لي وللدنيا؟ إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة في يوم صائف ثم راح وتركها». وفيه: «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بماذا يرجع». وقال أحد أصحاب الرسول: «كنت مع الركب الذين وقفوا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
على السخلة الميتة، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : أترون هذه هانت على أهلها حتى ألقوها؟ قالوا: ومن هوانها ألقوها، يا رسول الله! قال: فالدنيا أهون على الله من هذه على أهلها». وفي المسند عنه
صلى الله عليه وسلم : «إن الله ضرب طعام ابن آدم مثلا للدنيا وإن قزحه وملحه فلينظر إلى ماذا يصير»
1
وفي الحديث: «مثل هذه الدنيا مثل ثوب شق من أوله إلى آخره فبقي معلقا في خيط في آخره فيوشك ذلك الخيط أن ينقطع».
وقال عيسى (عليه السلام): «يا معشر الحواريين! أيكم يستطيع أن يبنى على موج البحر دارا؟ قالوا: يا روح الله، ومن يقدر على ذلك؟ قال: إياكم والدنيا فلا تتخذوها قرارا»،
2
وقال: «الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها».
وفي كلام الرسول وأحاديث الأنبياء شيء كثير من أمثال هذه الأوصاف والتشبيهات، وهو كما قلنا أساس ما وصفت به الدنيا من الأخيلة الأدبية في كلام الصوفية.
الدنيا في كلام المسيح
وللصوفية في وصف الدنيا صور مختلفة، منها الموجز، ومنها المفصل، وهي كلها ترجع إلى معنى واحد: هو وصف الدنيا بالنضرة وكثرة التقلب وسرعة الزوال.
فمن الصور الموجزة قول يونس بن عبد الأعلى: ما شبهت الدنيا إلا برجل نام فرأى في منامه ما يكره وما يحب، فبينما هو كذلك انتبه.
3
وقول ابن القيم: «أشبه الأشياء بالدنيا الظل، تحسب له حقيقة ثابتة وهو في تقلص وانقباض، تتبعه لتدركه فلا تلحقه»، وقوله: «وأشبه الأشياء بها السراب، يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا»، وقوله: «وأشبه الأشياء بها المنام يرى فيه العبد ما يحب وما يكره فإذا استيقظ علم أن ذلك لا حقيقة له».
4
وقوله: «وأشبه الأشياء بها عجوز شوهاء قبيحة المنظر والمخبر، غدارة بالأزواج، تزينت للخطاب بكل زينة، وسترت كل قبح»، وما حدث عوف عن أبي العلاء: «رأيت في النوم عجوزا كبيرة عليها من كل زينة الدنيا، والناس عكوف عليها متعجبون ينظرون إليها، فجئت فنظرت وقلت: ويلك من أنت؟ قالت: أما تعرفني؟ قلت لا: قالت: أنا الدنيا». وما قال الفضيل: «بلغني أن رجلا عرج بروحه قال: فإذا امرأة على قارعة الطريق عليها من كل زينة الحلي والثياب، وإذا هي لا يمر بها أحد إلا جرحته، وإذا هي أدبرت كانت أحس شيء رآه الناس، وإذا أقبلت أقبح شيء: عجوز شمطاء زرقاء عمشاء، فقلت: أعوذ بالله! قالت: لا والله لا يعيذك الله حتى تبغض الدرهم! قال: من أنت؟ قالت: أنا الدنيا».
5
قال ابن القيم: «ومثلت الدنيا بمنام، والعيش فيها بالحلم، والموت باليقظة، ومثلت بمزرعة، والعمل فيها بالبذر، والحصاد يوم المعاد. ومثلت بدار لها بابان: باب يدخل منه الناس وباب يخرجون منه، ومثلت بحية ناعمة الملمس، حسنة اللون، وضربتها الموت. ومثلت بطعام مسموم، لذيذ الطعم، طيب الرائحة، من تناول منه بقدر حاجته كان فيه شفاؤه، ومن زاد على حاجته كان فيه حتفه. ومثلت بالطعام في المعدة، إذا أخذت الأعضاء منه حاجتها فحبسه قاتل أو مؤذ، ولا راحة لصاحبه إلا في خروجه. ومثلت بامرأة من أقبح النساء قد انتقبت على عينين فتنت بهما الناس، وهي تدعو الناس إلى منزلها، فإن أجابوها كشفت لهم عن منظرها وذبحتهم بسكاكينها وألقتهم في الحفر».
6
صور الدنيا في كلام الصوفية
وعند درس ما مر بنا من الصور نجد القرآن يؤثر تشبيه الدنيا بالنبات، ونجد الصوفية يؤثرون تشبيهها بالمرأة، والتشبيه الأول مرجعه إلى طبيعة الجزيرة العربية التي لا يستحب فيها شيء كما يستحب النبات البهيج، والتشبيه الثاني مرده إلى كلمة أثرت عن عيسى - عليه السلام - إذ رأى الدنيا في صورة عجوز عليها من كل زينة، فقال: كم تزوجت؟ قالت: لا أحصيهم. قال: فكلهم مات عنك أو كلهم طلقك. فقالت: كلهم قتلته. فقال عيسى: بؤسا لأزواجك الباقين، كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين!
7
والبيئة التي عاش فيها عيسى عليه السلام كانت توحي بمثل هذا التشبيه.
وقد وردت هذه الصورة أيضا في قول ابن عباس: «يؤتى بالدنيا يوم القيامة في صورة عجوز شمطاء، زرقاء، أنيابها بادية، مشوه خلقها، فتشرف على الخلائق فيقال: أتعرفون هذه؟ فيقولون: نعوذ بالله من معرفة هذه، فيقال: هذه الدنيا التي تشاجرتم عليها... ثم يقذف بها في جهنم».
8
تشبيهات ابن القيم
أما الأخيلة المفصلة فكثيرة، وأهمها ما دونه ابن القيم في عدة الصابرين، وهو يمثل شهوات الدنيا في القلب بشهوات الأطعمة في المعدة ويقول: «وسوف يجد العبد عند الموت لشهوات الدنيا في قلبه من الكراهة والنتن والقبح ما يجده للأطعمة اللذيذة إذا انتهت في المعدة غايتها، وكما أن الأطعمة كلما كانت ألذ طعما وأكثر دسما وأكثر حلاوة كان رجيعها أقذر، فكذلك كل شهوة كانت في النفس ألذ وأقوى فالتأذي بها عند الموت أشد، كما أن تفجع الإنسان بمحبوبه إذا فقده يقوى بقدر محبة المحبوب».
9
ويمثل الدنيا وأهلها في اشتغالهم بنعيمها عن الآخرة وما يعقبهم من الحسرات بقوم ركبوا سفينة فانتهت بهم إلى جزيرة، فأمرهم الملاح بالخروج لقضاء الحاجة وحذرهم الإبطاء، وخوفهم مرور السفينة فتفرقوا في نواحي الجزيرة، فقضى بعضهم حاجته وبادر إلى السفينة فصادف المكان خاليا، فأخذ أوسع الأماكن وألينها وأوفقها لمراده، ووقف بعضهم في الجزيرة ينظر إلى أزهارها وأنوارها، ويسمع نغمات طيورها، ويعجبه حسن أحجارها، ثم حدثته نفسه بفوت السفينة وسرعة مرورها وخطر ذهابها فلم يصادف إلا مكانا ضيقا فجلس فيه، وأكب بعضهم على تلك الأحجار المستحسنة، والأزهار الفائقة، فحمل منها حمله، فلما جاء لم يجد في السفينة إلا مكانا ضيقا، وزاده حمله ضيقا، فصار محموله ثقلا عليه ووبالا، ولم يقدر على نبذه، بل لم يجد من حمله بدا، ولم يجد له في السفينة موضعا فحمله على عنقه، وندم على أخذه فلم تنفعه الندامة، ثم ذبلت الأزهار، وتغير أريجها، وآذاه نتنها. وتولج بعضهم في تلك الغياض ونسي السفينة وأبعد في نزهته، حتى إن الملاح نادى بالناس عند دفع السفينة فلم يبلغه صوته لاشتغاله بملاهيه، فهو تارة يتناول من الثمر، وتارة يشم تلك الأنوار، وتارة يعجب من حسن الأشجار، وهو على ذلك خائف من سبع يخرج عليه، غير منفك من شوك يتشبث في ثيابه ويدخل في قدميه، أو غصن يجرح بدنه، أو عوسج يخرق ثيابه
10
ويهتك عورته، أو صوت هائل يفزعه. ثم من هؤلاء من لحق السفينة ولم يبق فيها موضع فمات على الساحل. ومنهم من شغله لهوه فافترسته السباع ونهشته الحيات. ومنهم من تاه فهام على وجهه حتى هلك.
11
وهذه الصورة ظل لصور كثيرة يجدها القارئ فيما أثر من أقاصيص الأدب القديم، يوم كان العرب يسيحون في البحار، أو يتمثلون ما يصادف رواد البحار من صور الأمن والخوف، والنعيم والشقاء.
ومن أحسن الأمثلة - في رأي ابن القيم - ملك بني دارا لم ير الراءون ولم يسمع السامعون أحسن ولا أوسع ولا أجمع لكل ملاذ النفوس منها، ونصب إليها طريقا، وبعث داعيا يدعو الناس إليها، وأقعد على الطريق امرأة جميلة قد زينت بأنواع الزينة، وألبست أنواع الحلي والحلل، وممر الناس كلهم عليها، وجعل لها أعوانا وخدما، وجعل تحت يدها ويد أعوانها زادا للمارين السائرين إلى الملك في تلك الطريق، وقال لها ولأعوانها: من غض طرفه عنك، ولم يشتغل بك عني وابتغى منك زادا يوصله إلي فاخدميه، وزوديه ولا تعوقيه عن سفره إلي، بل أعينيه بكل ما يبلغه في سفره، ومن مد إليك عينيه ورضى بك وآثرك علي وطلب وصالك فسوميه سوء العذاب، وأوليه غاية الهوان، واستخدميه، واجعليه يركض خلفك ركض الوحش، ومن يأكل منك فاخدعيه به قليلا ثم استرديه منه واسلبيه إياه كله، وسلطي عليه أتباعك وعبيدك، وكلما بالغ في محبتك وتعظيمك وإكرامك فقابليه بأمثاله قلى وإهانة وهجرا، حتى تتقطع نفسه عليك حسرات.
12
وغاية هذا المثال دار الملك، والمراد بها الجنة، والعائق هو المرأة، وهي الدنيا الغرور.
وعرض ابن القيم مثالا آخر، وخلاصته أن ملكا خط مدينة في أصح المواضع وأحسنها هواء، وأكثرها مياها، وشق أنهارها، وغرس أشجارها، وقال لرعيته: تسابقوا إلى أحسن الأماكن فيها، فمن سبق إلى مكان فهو له، ومن تخلف سبقه الناس إلى المدينة فأخذوا منازلهم، وتبوءوا مساكنهم فيها، وبقي المتخلفون من أصحاب الحسرات، ثم نصب لهم ميدان السباق وجعل على الميدان شجرة كبيرة لها ظل مديد، وتحتها مياه جارية، وفي الشجرة من كل أنواع الفواكه، وعليها طيور عجيبة الأصوات، وقال لهم: لا تغتروا بهذه الشجرة وظلها فعن قليل تجتث من أصلها، ويذهب ظلها، وينقطع ثمرها، وتموت أطيارها، وأما مدينة الملك فأكلها دائم، وظلها مديد، ونعيمها سرمدي، وفيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فسمع بها الناس فخرجوا في طلبها على وجوههم، فمروا في طريقهم بتلك الشجرة على أثر تعب ونصب وحر وظمأ، فنزلوا كلهم تحتها واستظلوا بظلها وذاقوا حلاوة ثمرها، وسمعوا نغمات أطيارها فقيل لهم: إنما نزلتم تحتها لتحموا أنفسكم، وتضمروا مراكبكم للسباق. فقال الأكثرون: كيف ندع هذا الظل الظليل، والماء السلسبيل، والفاكهة النضيجة والدعة والراحة، ونقتحم هذه الحلبة في الحر والغبار والتعب والنصب والسفر البعيد والمفاوز المعطشة التي تتقطع فيها الأمعاء، وكيف نبيع النقد الحاضر بالنسيئة الغائبة إلى الأجل البعيد، ونترك ما نراه إلى ما لا نراه، وذرة منقودة في اليد أولى من درة
13
موعودة بعد غد. خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به، ونحن بنو اليوم، وهذا عيش حاضر كيف نتركه لعيش غائب في بلد بعيد لا ندري متى نصل إليه؟ ونهض من كل ألف واحد وقالوا: ما مقامنا هنا
14
في ظل زائل تحت شجرة قد دنا قلعها وانقطاع ثمرها، وموت أطيارها، ونترك المسابقة إلى الظل الظليل الذي لا يزول، والعيش الهنيء الذي لا ينقطع، إلا من أعجز العجز
15
وهل يليق بالمسافر إذا استراح تحت ظل أن يضرب خباءه عليه، ويتخذه وطنه خشية التأذي بالحر والبرد؟ وهل هذا إلا أسفه السفه؟ فالسباق السباق والبدار البدار! فاقتحموا حلبة السباق، ولم يستوحشوا من قلة الرفاق، وساروا في ظهور العزائم، ولم تأخذهم في سيرهم لومة لائم، والمتخلف في ظل الشجرة نائم، فما كان إلا قليل حتى ذوت أغصان تلك الشجرة، وتساقطت أوراقها، وانقطع ثمرها، ويبست فروعها، وانقطع مشربها، فقلعها قيمها من أصلها، فأصبح أهلها في حر السموم يتقلبون، وعلى ما فاتهم من العيش في ظلها يتحسرون، ثم أحرقها فصارت هي وما وحولها نارا تلظى، وأحاطت النار بمن تحتها فلم يستطع أحد منهم الخروج، فقالوا: أين الركب الذين استظلوا معنا تحت ظلها، ثم راحوا وتركوه؟ فقيل لهم: ارفعوا أبصاركم تروا منازلهم! فرأوهم من البعد في قصور مدينة الملك وغرفها يتمتعون بأنواع اللذات، فتضاعفت عليهم الحسرات وهذا جزاء المتخلفين.
16
وبقيت عند ابن القيم أمثلة لا تقل قيمة عما أسلفناه، وهي تدور حول محور واحد، ولا تختلف إلا بالصور والأشكال، وهذا وجه البراعة عند أولئك الناس، فالمعنى واحد، ولكن الأداء يختلف، كأنما يتسابقون في التزيين والتلوين. فإذا تأمل القارئ هذا عرف كيف استطاع التصوف أن يخلق ما شاء من الصور الأدبية، وكيف انتقلت الأخيلة على أقلام الصوفية من لون إلى لون، في براعة وحذق، وقوة تصوير وتهويل.
والمعاني النفسية لا تقل في هذا خطرا عن المعاني الأدبية، ففي هذه الصور تصغير وتحقير لمن ينسون الآجل الخالد حين يفتنهم العاجل العابر بما فيه من زخرف وبريق، وفي هذا وذاك هداية للنفس ومتعة للخيال.
حكم ابن عطاء الله السكندري1
سيرورة الحكم العطائية
اهتمام العلماء بالحكم العطائية
نحن مقبلون على التعرف إلى سفر من أسفار الأدب العالي: هو مجموعة الحكم التي نظمها ابن عطاء الله السكندري، وكانت هذه المجموعة مما يدرسه كبار العلماء في الأزهر الشريف، وكان المرحوم الشيخ محمد بخيت يدرسها للجمهور بعد العصر من أيام رمضان في مسجد الحسين، وقد حضرت عليه طائفة من تلك الدروس، وأنست بمعاني الحكم العطائية أشد الأنس.
واهتمام علماء الأزهر بدرس حكم ابن عطاء الله هو صورة جديدة للحفاوة بتلك اللآلئ النفيسة، فقد اهتم بها الناس من قبل، وظفرت بعدة شروح، أشهرها شرح الرندي وشرح الشرقاوي ، ولا تزال على كثرة ما لقيت من الشرح والدرس تبعث في قلوب المريدين أنوارا لم يتنورها الشارحون.
تهيب الشراح لأسرارها
وإنما قلنا هذا لأن الحكم العطائية نظمت نظما غنائيا روعي فيه أن تكون إشارات إلى أحوال النفوس، والنفوس تتغير وتتبدل، وتعتورها ألوان من الكدورة والصفاء، فما يفهمه هذا قد لا يفهمه ذاك، وما يرتضيه قوم قد يرفضه آخرون.
الجامع الأزهر وفيه كان ابن عطاء الله السكندري يلقي دروسا على الجمهور في شرح معاني التصوف.
ومن أجل هذا أضيفت حكم ابن عطاء الله إلى الرمزيات، وتهيبها الشراح فصرحوا بأن كلامهم ليس إلا طوافا حول ذلك السر المكنون، وفي ذلك يقول الرندي:
ولا قدرة لنا على استيفاء جميع ما اشتمل عليه الكتاب، وما تضمنه من لباب اللباب؛ لأن كلام الأولياء والعلماء بالله منطو على أسرار مصونة، وجواهر حكم مكنونة، لا يكشفها إلا هم ولا تتبين حقائقها إلا بالتلقي عنهم، ونحن في هذه الكلمات التي نوردها، والمناحي التي نعتمدها، غير مدعين لشرح كلام القوم، ولا أن ما نذكره فيه هو حقيقة مذاهبهم، حسبما يفعله كل مصنف، فإنا إن ادعينا ذلك كان منا إساءة أدب، تئول بنا والعياذ بالله إلى العطب. وكنا قد تعرضنا للخطر والضرر في تعاطي ما لا يليق بنا من شرح كلام السادة من أهل الله تعالى من غير خوف ولا حذر، وإنما نورد ذلك على حسب ما فهمناه من كلامهم، وما انتهى إلينا علمه من مذاهبهم، فإن وافقنا فيه حقيقة الأمر، وعثرنا على مكنون السر، كان ذلك من النعم التي لا نحصي لها شكرا، ولا نقدر لها قدرا، وإن خالفنا ذلك، ولم نهتد إلى تلك المسالك، أحلناه على نقصنا وجهلنا، وانتقى عنا التغرير بقولنا وفعلنا، واقتصر الأمر في ذلك علينا، وكانوا هم مبرئين مما قلنا ونوينا.
وهذا الكلام يذهب بصاحبه إلى تقديس الحكم العطائية، وهو يشبه ما يقوله علماء الأزهر في هذه الأيام عن ترجمة القرآن، إذ يصرون على أن تصدر الترجمة بمقدمة ينص فيها على أن هذا هو ما فهموه من القرآن ، وقد يكون الله أراد معاني لم يهتدوا إليها ولم تخطر لهم على بال.
سر البلاغة
والحق أن الحكم العطائية على جانب عظيم من الوضوح، وما يقوله الرندي ليس إلا بابا من التأدب في فهم كلام القوم. ولكن هذا لا يمنع من الاعتراف بأن الحكم العطائية فيها غموض، ولكن أي غموض؟ هو الغموض الذي يوصف به كل كلام وصل إلى غاية عالية من البيان.
وأحب أن أشرح هذه النقطة فأقول:
يوجد في الكلام البليغ صور وإشارات تتفاوت في إدراكها العقول، وقد يكون النص البليغ واضحا في لفظه ومعناه، ومع ذلك يظل كالحسن الفائق لا تجتلي فتنه بنظرة ولا نظرتين، وإنما تطالع فيه العين كل يوم بابا جديدا من أبواب الفتون، أو كالبحر تعرف هوله وجلاله، ثم ترى فيه كلما واجهته ضروبا جديدة من الهول والجلال.
وقد يتفق لنا في أحوال كثيرة أن نحمل النصوص معاني لم يردها الكتاب أو الشعراء، فنعد ذلك تفوقا في الفهم، وهو في حقيقة الأمر ضلال مقبول.
والألفاظ في الأصل صور ضئيلة جدا للمعاني، والمعاني أيضا صور ضئيلة جدا للحقائق، والحقائق في عظمتها وجبروتها لا تدرك كل الإدراك، وهل كان الألم على لذعه صورة كاملة للداء؟ وهل كان الدمع على حرارة صورة مقاربة لما يتوجع له القلب، وهل كان تموج البحر على صخبه صورة تامة لما في أحشائه من تقلب وهياج؟ وهل كان التماسك البادي بين أجزاء الوجود صورة واضحة لما فيه من قوات الكهرباء؟
إن الغرور يوهمنا أشياء كثيرة، واللغات بين الناس من أهم أسباب الأوهام فقد ظنناها حددت المعاني كل التحديد، ولو أن ذلك كان صحيحا لارتفعت أسباب الخلاف.
ولكن هل كانت العقبة الوحيدة هي الاختلاف في فهم النصوص؟
لا، لا، فقد يتلاقى الرجلان عند صورة واحدة من المعنى، ثم يختلفان اختلافا شديدا في تصور المعنى الواحد؛ لأنهما يختلفان في صحة الجسم وعافية الروح.
فإذا قلت: إنك تترجم القرآن ترجمة صحيحة فأنت صادق، وإذا قلت إنك لا تترجم إلا ما فهمت فأنت صادق؛ أنت صادق في الأولى لأن القرآن في الأصل جاء لهدايتك فلم يكن له أن يحتجب وينتقب.
وأنت صادق في الثانية؛ لأن القرآن رمز لمعان يختلف في فهمها الناس بفضل ما يختلفون في دقة الفهم وقوة الإدراك.
وكذلك صح للشراح أن يجزموا بأنهم لم يصلوا في فهم الحكم العطائية إلى الأعماق.
أسلوب ابن عطاء الله
والحكم العطائية عبارة عن طائفة من الفقرات القصيرة المختلفة الأغراض وهو يخاطب المريد بصيغة المفرد، ويسجع في بعض الأحيان، وطريقته في البلاغة تختلف، فحينا يجرد المعاني تجريدا تاما من الصور والأخيلة، كأن يقول: «من علامة الاعتماد على العمل، نقصان الرجاء عند وجود الزلل».
2
وكأن يقول: «تنوعت أجناس الأعمال، لتنوع واردات الأحوال».
3
وحينا يوشي معانيه بالخيال توشية طريفة، كأن يقول: «ادفن وجودك في أرض الخمول، فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه».
وكأن يقول: «لا ترحل من كون إلى كون فتكون كحمار الرحا
4
يسير والمكان الذي ارتحل إليه هو المكان الذي ارتحل منه، ولكن ارحل من الأكوان إلى المكون».
5
وتارة يقف عند المعنى فيديره في صورة واحدة لا تختلف إلا فيما تربط به القافية، كأن يقول: «كيف يتصور أن يحجبه شيء، وهو الذي أظهر كل شيء». «كيف يتصور أن يحجبه شيء، وهو الذي ظهر بكل شيء». «كيف يتصور أن يحجبه شيء، وهو الذي ظهر في كل شيء». «كيف يتصور أن يحجبه شيء، وهو الظاهر قبل وجود كل شيء». «كيف يتصور أن يحجبه شيء، وهو أظهر من كل شيء». «كيف يتصور أن يحجبه شيء، وهو الواحد الذي ليس معه شيء». «كيف يتصور أن يحجبه شيء، وهو أقرب إليك من كل شيء». «كيف يتصور أن يحجبه شيء، ولولاه ما كان وجود شيء».
6
وتارة يغرب في إيراد المعاني إغرابا مقصودا كأنما يريد أن يقصر خطابه على الخواص، ولذلك شواهد كثيرة جدا، نكتفي منها بهذه الفقرة:
شتان بين من يستدل به أو يستدل عليه، المستدل به عرف الحق لأهله فأثبت الأمر من وجود أصله، والاستدلال عليه من عدم الوصول إليه، وإلا فمتى غاب حتى يستدل عليه، ومتى بعد حتى تكون الآثار هي التي توصل إليه.
7
فإن هذه الفقرة لا تفهم إلا بعد أن نعرف أنه يقسم أهل الله إلى قسمين: مرادين ومريدين: فالمرادون يستدلون بالله على الأشياء والناس: لأنه الأصل، والمريدون يستدلون بالأشياء والناس على الله، وذلك لوجود الحجاب. ولو أنهم وصلوا إلى لباب الحقائق لعرفوا أن الله لم يغب حتى يستدل عليه، ولم يبعد حتى تكون الآثار هي التي توصل إليه.
8
كيف نستدل على الله
وليس بين الحكم العطائية رباط وثيق، فهي مجموعة من الأقوال نظمت في أوقات مختلفة ثم ضم بعضها إلى بعض بلا ترتيب مقصود، وقد يتفق للكاتب أن يفتن ببعض المعاني فيكررها في صور مختلفات مرتين أو مرات، وإليكم هذه الفقرة:
إرادتك التجريد مع إقامة الله إياك في الأسباب من الشهوة الخفية، وإرادتك الأسباب مع إقامة الله إياك في التجريد انحطاط عن الهمة العلية.
9
فإن هذا المعنى هو عينه الذي عبر عنه بقوله في فقرة ثانية:
ما ترك من الجهل شيئا من أراد أن يحدث في الوقت غير ما أظهره الله فيه.
10
وهو نفسه الذي عبر عنه بقوله في فقرة ثالثة:
لا تطلب منه أن يخرجك من حالة ليستعملك فيما سواها، فلو أرادك لاستعملك من غير إخراج.
11
وهو أيضا المراد بقوله في كلمة رابعة:
أرح نفسك من التدبير، فما قام به غيرك عنك لا تقم به لنفسك.
12
فهذه الفقرات كلها تنتهي إلى غرض واحد: هو أن يقف المريد حيث أقامه الله فلا يضجر من النقص ولا يطمع في المزيد.
التجريد والأسباب
ومحصول هذه الحكم الأربع يكشف عن جانب من آراء ابن عطاء الله، فهو يدعو إلى احترام الواقع، ولا يرى عملا أفضل من عمل، ما دامت الأعمال كلها بإرادة الله. حدث عن نفسه قال:
دخلت على الشيخ (رضي الله عنه) وفي نفسي العزم على التجريد، قائلا في نفسي: إن الوصول إلى الله تعالى على هذه الحالة بعيد مع الاشتغال بالعلوم الظاهرة ووجود المخالطة للناس، فقال لي من غير أن أسأله: صحبني إنسان مشتغل بالعلوم الظاهرة ومتصدر فيها فذاق من هذه الطريق شيئا فجاء إلي فقال: يا سيدي، أخرج عما أنا فيه وأتجرد لصحبتك، فقلت له: ما الشأن ذا، ولكن امكث فيما أنت فيه، وما قسم الله لك على أيدينا فهو إليك واصل. ثم قال الشيخ - ونظر إلي - وهكذا شأن الصديقين لا يخرجون من شيء حتى يكون الحق سبحانه وتعالى هو الذي يتولى إخراجهم. فخرجت من عنده وقد غسل الله تلك الخواطر من قلبي، ووجدت الراحة بالتسلم إلى الله تعالى.
13
وهذه النظرة إلى الأعمال الدنيوية أدق وأصح من نظرة الغزالي الذي يدعو في مواطن كثيرة إلى ترك العلوم الظاهرة، وينصح بالتجريد المطلق، ويقبح ما يتصل بالجاه من أعمال الناس.
وعلى ذلك يكون الاهتمام بالعمران وبالمعاش وبالمجتمع مما لا ينافي أدب المريد في نظر ابن عطاء الله، وإنما يشترط لذلك أن يعرف المريد أنه يقف حيث أقامه الله، وأن لا غرض له من التشبث بأعمال المعاش.
حقوق الصديق
ولكن الرضا عن الحال غير الرضا عن النفس، فلك أن ترضى عن حالك التي أقامك الله عليها في مرافق الحياة، أما نفسك فالرضا عنها أصل كل معصية وغفلة وشهوة،
14
ورفيقك الذي تصحبه يجب أن يكون من الذين لا يرضون عن أنفسهم «ولأن تصحب جاهلا لا يرضى عن نفسه خير لك من أن تصحب عالما يرضى عن نفسه، فأي علم لعالم يرضى عن نفسه، وأي جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه».
15
وابن عطاء الله يكثر من الكلام عن الصحبة، ولكن «لا تصحب من لا ينهضك حاله، ولا يدلك على الله مقاله»،
16
والصحبة أصل كبير من أصول القوم، وفيها منافع وفوائد؛ ولذلك استمر عليها شأنهم قديما وحديثا
17
وللصحبة آداب ذكرناها في قسم الأخلاق، ولكن لا بأس من التذكير بأنهم يرون الصديق الحق من لا يزيدك عنده البر ولا ينقصك عنده الجهل؛ ولذلك قيل: كن مع أبناء الدنيا بالأدب، ومع أبناء الآخرة بالعلم، ومع العارفين كيف شئت. وقيل لبعض الصالحين: إن فلانا يحبك ويكثر ذكرك ، فقال: إنه لحبيب إلي، وأجله وأعرف قدره، ولكن يهون علي أن ألقى الشيطان ألف مرة، ولا ألقاه مرة واحدة، قيل له: وكيف ذلك؟ قال: أخشى أن أتزين له ويتزين لي. قال المكي: وكانت هذه الطائفة من الصوفية لا يصطحبون إلا على استواء أربعة معان لا يترجح بعضها على بعض، ولا يكون فيها اعتراض من بعض على بعض إن أكل صاحبه الدهر كله لم يقل له: صم، وإن صام الدهر كله لم يقل له صاحبه: أفطر، وإن نام الليل كله لم يقل له صاحبه: قم فصل، وإن صلى الليل كله لم يقل له صاحبه: قم بعضه، وتستوي أحواله عنده فلا مزيد لأجل صيامه وقيامه، ولا نقصان لأجل إفطاره نومه.
17
وسر هذا الأدب هو الفرار من هوى النفس، فأنت لا تلوم الصديق في سرك أو جهرك إلا وأنت تعتقد أنك أفضل منه، وهذا خطر يؤذن بكدورة النفوس.
فالقوم يوجبون تخير الصديق، ولكن ذلك في البداية، أما إذا انعقدت الصداقة فالبر كل البر أن تعمى عينك عن عيوب صديقك، وأن لا ترى نفسك أفضل منه وإن تخلف عنك. والأساس أن تكون مع الله بقلبك: فلا تشغل بغير عيوبك، ولا ترى الحياة إلا في شهوده ورضاه.
الشهرة والخمول
قلنا: إن ابن عطاء الله لا يدعو إلى قطع الأسباب ولا يرى بأسا في اشتغال المريد بالعلوم الظاهرة والسعي فيما يسعى إليه الناس من نعيم المعاش، فلنذكر لتقييد ذلك أنه يكره للمريد أن يسعى إلى الشهرة وبعد الصيت، وله في هذا كلمة هي من الذخائر في الأخيلة الأدبية، قال:
ادفن وجودك في أرض الخمول، فما نبت مما يدفن لا يتم نتاجه.
وهي كلمة رائعة لم أشهد لها مثيلا فيما قرأت، وفيها حيوية قوية، كأن الكاتب ألقاها في لحظة من اللحظات التي تتجمع فيها قوى النفس، ثم تقذف بالمعنى فيخلد لقوته على وجه الزمان.
والصوفية مجمعون على بغض الشهرة وحب الخمول، ولهم في ذلك كلمات جرت مجرى الأمثال، كقول بعضهم: «طريقتنا هذه لا تصلح إلا لأقوام كنست بأرواحهم المزابل»، وقول ابن أدهم: «ما صدق الله من أحب الشهرة»، وقول آخر: «ما أعرف رجلا أحب أن يعرف إلا ذهب دينه وافتضح»، وقول آخر: «كلما دفنت نفسك أرضا سما قلبك سماء سماء».
18
ومن أغرب ما قرأت في هذا المعنى قول الفضيل:
بلغني أن الله عز وجل يقول في بعض ما يمن به على عبده: ألم أنعم عليك؟ ألم أسترك؟ ألم أخمل ذكرك!
19
والذين ابتلاهم الله بالشهرة يعرفون صدق هذه الكلمات، فالشهرة محنة قاسية لا يبتلى بها الرجل إلا ذهب عمره في مدافعة القيل والقال، وطال بلاؤه بالتجمل والتزين للناس. والعمر قصير، ولكن الرجل المشهور ينفق عمره على قصره في تفاهات وصغائر يوجبها الاحتفاظ باسمه سليما من أقذار الأقاويل، وهيهات أن يسلم، فالشهرة محنة حتى في الخير المحض، فلو اشتهرت بالإحسان إلى المساكين لجرك ذلك إلى الخراب، وألقى على عملك أكداسا من تراب الرياء. وبعض المشهورين يلذ لهم أن يتسمعوا ما يقال فيهم، فيصطدمون بأكاذيب وأراجيف يشيب لها الوليد، ثم ينتهون إلى اليأس من أدب الناس، وإذ ذاك ينقلبون إلى نار عاتية تمحق كل ما تصادف من أصول الأخلاق.
ومع أني قليل التجاريب في هذه الدنيا ولم يطر اسمي في مشرق ولا مغرب فإن الشهرة الضئيلة التي قضت بأن يردد اسمي في بعض المجتمعات عطلت علي أنفس أوقاتي، وكدرت صفائي، ولونت أدبي بألوان أبغضها أقبح البغض، وصيرتني أسيرا لصنوف من التقاليد السخيفة، تقاليد المجتمع السخيف. وحاولت أن أتحلل وأتخلص فلم أفلح؛ لأن الشهرة كالميسم المتقد لا تمحو أثره الأيام.
وما فكرت في المشهورين من الرجال إلا طال لهم رثائي، فعلى هؤلاء واجبات خلقتها الشهرة، ولم يفرضها الحق، عليهم أن يغيثوا كل ملهوف، وأن يواسوا كل محزون، وأن يزوروا ويزاروا في كل حين. وعلى أقدامهم أن تمشي إلى كل مأتم، وعلى ألسنتهم أن تتكلم في كل مجمع، وعلى آرائهم أن تظهر في كل ميدان، وتكون النتيجة أن يصبحوا كالآلات تصنع ما لا تريد.
وإنما ضربنا الأمثال لنبين أن أدب ابن عطاء الله في بغض الشهرة من الآداب العملية، فهو ليس أدب الرجل العاطل، وإنما هو أدب الرجل الذي يهمه أن يكون من النافعين.
وأكاد أجزم بأن عمارة الدنيا عبء لا ينهض به إلا الخاملون؛ لأن الخمول يصرف عن النفس شواغل كثيرة فتفرغ للنهوض بجلائل الأعمال.
والناس تعودوا أن يحملوا المشهورين ما لا يستطيعون أن يحملوا، ويكلفوهم ما لا يطيقون، فتثور بذلك أحقاد وضغائن يأباها العقل، ويأباها المنطق، وتحول الدنيا إلى جحيم يصلاه أهل الشهرة، من حيث يحتسبون أو لا يحتسبون.
تأمل في بلايا أهل الشهرة أيها القارئ، ثم انظر مرة ثانية في هذه النصيحة الغالية:
ادفن وجودك في أرض الخمول، فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه.
20
مذهب الحلول
ولابن عطاء الله كلمات تذكر بمذهب الحلول، وهو أن يكون الله كل شيء في كل شيء، فلا تكون ذرة، ولا قطرة، ولا نبتة، ولا نسمة، إلا وهي جزء من الذات الإلهية. من ذلك قوله:
إنما يستوحش العباد والزهاد من كل شيء، لغيبتهم عن الله في كل شيء ولو شهدوه في كل شيء، لم يستوحشوا من شيء.
21
وقوله:
علم منك أنك لا تصبر عنه، فأشهدك ما برز منه.
21
وهذه الكلمة الثانية صريحة في قوله بالحلول؛ لأنها تفصح إفصاحا بأن العالم هو الجزء البارز من الله، وأن على المؤمن أن يراه في كل موجود.
ولكن ابن عطاء الله لا يرى هذا الرأي في جميع الأحوال: فأدبه قائم على أن الإنسان منفصل عن الله وأن عليه أن يتأدب، وأن يتقرب إلى ربه المتفرد بالعزة والجلال، وأن يطلب رضاه بالفناء في حبه، وأن يوقن بأن هناك دارين، وقد أمره في هذه الدار بالنظر إلى مكوناته، وسيكشف له في تلك الدار عن كمال ذاته،
22
ويذكر المريد بحاجته إلى حلم الله في جميع الأحوال فيقول:
أنت إلى حلمه إذا أطعته، أحوج منك إلى حلمه إذا عصيته.
23
ويجعل الله صاحب الفضل المطلق فيقول:
لو أنك لا تصل إليه إلا بعد فناء مساويك، ومحو دعاويك، لم تصل إليه أبدا ، ولكن إذا أراد أن يوصلك إليه غطى وصفك بوصفه، ونعتك بنعته، فوصلك إليه بما منه إليك، لا بما منك إليه.
24
والحق أن في كلام ابن عطاء الله تعابير كثيرة تؤذن بالحلول، ولكنه يثب فجأة فيشهد لله بالوحدانية المنفصلة عن سائر الأكوان، كأن يقول:
الأكوان ثابتة بإثباته، وممحوة بأحدية ذاته.
على أن هذه الكلمة نفسها تدل على أنه يدفع تهمة الحلول، كأنه يظن أن الشبهة قائمة، شبهة اتصال الموجد بالموجود، وامتزاج الخالق بالمخلوق، وهي شبهة تقوى في بعض الأنفس، في بعض الأحوال، تقوى حين تصفو النفس، وحين تشهد من الجمال والجلال ما يعسر إضافته إلى الموجودات الفانية، وإلا فمن ذا الذي يصدق أن البحر في ظلمات الليل خال من معاني الألوهية؟ ومن ذا الذي يصدق أن هذا الوجود المربوط برباط الكهرباء خال في تماسكه من النفحات الربانية؟
القبض والبسط
إن مذهب الحلول لا ينهدم أمام العقل إلا حين نفكر في أصاغر الموجودات وصغائر الناس، ولكن من يدري؟ فقد يثبت يوما أننا مخطئون في تقدير حقائق الأشياء، وتقويم طباع الناس، قد يثبت يوما أن العمل الحقير لا يقل نفعا في تماسك الوجود عن العمل الجليل، أم يثبت أن العالم يشكو النقص في سم بعض الحيات؟ ألم يتمن الأطباء لو أمكن الإكثار من «الكوبرا»؛ لينفع سمها في شفاء السرطان؟ ألم تصل إلى أذنك كلمة من عدو حقود فتكون على قذارتها بعثا لهمتك الغافية، وتنقلك من حال إلى حال؟
نحن لا ننكر مذهب الحلول إلا؛ لأننا خلقنا قواعد مستبدة لأصول الشرف والانحطاط، ولو سمحنا لأنفسنا بقليل من التبذل لكشفنا هذه المسألة كل الكشف، وما لنا نتهيب؟ أليس البراز مثلا للقذارة الحسية، ومع ذلك فانظروا خطره إذا بقي في الأمعاء وفيه ملايين الجراثيم؟
إن في الوجود أشياء كثيرة معروفة القبح، ولكنها مجهولة النفع، وما أقمناه من قواعد الذوق هو سر ما نقع فيه أحيانا من الجهل، ولو عقلنا لعرفنا أن ليس في الكائنات فاضل ومفضول، وإنما هي قوى تتساند وتتعاون في حفظ هيكل الوجود، وما تستصغر شأنه من الفضلات قد يكون فيه من القوى الخفية ما يبهر اللب لو كشف عنه الحجاب.
25
دقائق الرياء
ولابن عطاء الله كلام ممتع في القبض والبسط، وهما من أحوال النفس، وهو لا يسره أن يكون البسط من آثار النعمة، وأن يكون القبض من آثار الحرمان، ويقول:
متى كنت إذا أعطيت بسطك العطاء، وإذا منعت قبضك المنع، فاستدل بذلك على ثبوت طفوليتك، وعدم صدقك في عبوديتك.
26
وهو يرى أن القبض قد يكون أنفع للنفس من البسط، ويقول:
ربما أفادك في ليل القبض، ما لم تستفده في إشراف نهار البسط، لا تدرون أيهم أقرب إليكم نفعا.
27
وإنما أثروا القبض على البسط لما في القبض من انعدام حظوظ النفس؛ ولأن القبض قد يفتح أمام النفس آفاقا من التأمل لا يفتحها البسط، والنهار ليس في كل حال أنفع من الليل.
الاستغاثات العطائية
ولابن عطاء الله كلمات كثيرة تدل على بصره بسرائر النفوس، من ذلك قوله:
حظ النفس في المعصية ظاهر جلي، وحظها في الطاعات باطن خفي، ومداواة ما يخفى صعب علاجه.
28
وهذا كلام دقيق جدا، يفسره قوله في كلمة ثانية:
ربما دخل الرياء عليك، من حيث لا ينظر الخلق إليك ...
ولهذه الدقائق نظائر كثيرة في كلامه فلا ندل عليها جمعاء، وإنما يكفي أن نشير إلى أن الرجل تعمق في تفكيره كل التعمق، وعرض أفكاره في أشرف بيان.
ونكرر ما قلناه من قبل، وهو أن حكم ابن عطاء الله خالية من الوحدة الفنية؛ لأنها في الأصل خطرات عرضت من وقت إلى وقت، ثم أضيف بعضها إلى بعض من غير ترتيب.
صلتنا بالله
ننتقل بعد ما سلف إلى بحث من الأدب الصرف، هو ما ختم به كتابه من الاستغاثات، وكان يمكن نقل هذا البحث إلى ما كتبناه عن الأدعية والأوراد، ولكنا رأينا أن تكون آثار ابن عطاء الله في مكان واحد، وهذا الكتاب تمت أصوله إلى وشيجة واحدة وإن تعددت الفروع.
29
ونبادر فنذكر أن ابن عطاء الله يتأثر في استغاثاته خطوات أبي الحسن الشاذلي في «حزب البر» أي: أنه يحلل المعاني ويعللها ويشرح وينقد ويستنبط، فأنت أمام رجل بليغ لا يكتفي بزخرف اللفظ، وإنما يفتن افتنانا شائقا في زخرف المعاني، على طريقة الفحول الذين يلقونك في الأودية العقلية، فيجعلون منها مفاتن تفوق الزخارف اللفظية، وذلك كله يجري بأسلوب سمح لا تكلف فيه ولا افتعال.
ولننظر كيف يبدأ استغاثاته فيقول:
إلهي أنا الفقير في غناي، فكيف لا أكون فقيرا في فقري.
30
إلهي أنا الجاهل في علمي، فكيف لا أكون جهولا في جهلي.
31
وهذا المعنى اللطيف كرره ابن عطاء الله في عبارة ثالثة فقال: «إلهي وصفت نفسك باللطف والرأفة بي قبل وجود ضعفي، أفتمنعني منهما بعد وجود ضعفي».
32
والفقرة الثالثة فيها تعمل، ولكن المعنى يشرق منها كل الإشراق، والمؤلف يكاد يعديك فينقل إلى قلبك روعة التقوى ورقة الخشوع، وهذا المعنى فيه كل دقائق التصوف والروحانية، فالمرء في قوته وعلمه وغناه مفتقر في كل لحظة إلى رعاية الله، فكيف يكون وهو معدم جاهل ضعيف؟ إن المرء لا يملك لنفسه الستر لحظة واحدة، ولا يملك لنفسه السلامة لحظة واحدة، ولا يملك لنفسه الغنى لحظة واحدة، ففي الغيب مستورات من الصروف لا يقيك منها غير الحفيظ المغيث، وقد تبسم لك الدنيا فتزهو وتختال، وأنت لا تعرف أن كلمة تخرج من فيك، أو إشارة تصدر منك، أو عرقا يختلج في جسمك، لا تعرف أن بعض هؤلاء قد ينقلك من نضرة النعيم إلى جحيم الشقاء.
وبدا له أن يوازن بين ما يكون منه وما يكون من الله فقال:
إلهي، مني ما يليق بلؤمي، ومنك ما يليق بكرمك.
33
ثم جعل محاسنه لا تظهر إلا بفضل الله، ومساويه لا تظهر إلا بعدل الله، فقال:
إلهي، إن ظهرت المحاسن مني فبفضلك ولك المنة علي، وإن ظهرت المساوي فبعدلك ولك الحجة علي.
34
وعلل التوسل بالفقر فقال:
ها أنا أتوسل إليك بفقري إليك، وكيف أتوسل إليك بما هو محال أن يصل إليك؟ أم كيف أشكو إليك حالي وهي لا تخفى عليك؟ أم كيف أترجم لك بمقالي وهو منك برز إليك؟ أم كيف تخيب آمالي وهي قد وفدت إليك؟ أم كيف لا تحسن أحوالي وبك قامت وإليك؟
35
وهذه الفقرة في غاية من النفاسة؛ لأن الكاتب يشرح الفكرة الصوفية التي تقول: بأن الخير المطلق هو في نسيان الذات والأحوال، فهو يتوسل أولا بالفقر، ثم يبدو له أن الاعتداد بالفقر ذنب، ويرى من العبث أن يشكو إلى الله حالا لا تخفى عليه، أو يترجم له بمقال هو منه برز إليه، ويعجب كيف تخيب الآمال وقد وفدت إلى الله، وكيف لا تحسن الأحوال وبه قامت وإليه توجهت. وهذا وذاك من التلطف في مناجاة علام الغيوب.
ويفتح أمام قلبه باب الرجاء فيقول:
إلهي، كلما أخرسني لؤمي أنطقني كرمك، وكلما آيستني أوصافي أطمعتني منتك.
36
ومعنى هذا أن الذنوب لا تمنع المؤمن من الطمع في كرم الله، وهذه الفكرة هي أساس التصوف. وتفني محاسنه أمام عينيه فيقول:
من كانت محاسنه مساوي، فكيف لا تكون مساويه مساوي، ومن كانت حقائقه دعاوي، فكيف لا تكون دعاويه دعاوى.
37
ومعنى ذلك أن أعمالنا كلها هباء، والاعتداد بصالح الأعمال غرور ينكره الصوفية.
وينكر أن تكون الكائنات هي الشاهد على وجود الله فيقول:
إلهي، كيف يستدل عليك، بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غبت حتى نحتاج إلى دليل يدل عليك؟ ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك.
36
وهو بهذا ينظر نظر المجذوبين لا نظر السالكين، فالسالك يستدل بالموجودات على الله، والمجذوب يستدل بالله على الموجودات؛ لأنه أصل كل شيء، وقد عبر عن هذا المعنى مرات مختلفة، فهو من آرائه الأساسية.
وهو مع هذا لا ينكر أن تكون الآثار شواهد على الله، ويقول:
إلهي، أمرت بالرجوع إلى الآثار، فأرجعني إليها بكسوة الأنوار، وهداية الاستبصار، حتى أرجع إليك منها كما دخلت إليك منها مصون السر عن النظر إليها، ومرفوع الهمة عن الاعتماد عليها. إنك على كل شيء قدير.
38
وهذه غاية في التعلق بالله، والتعامي عما سواه.
وهو يتلهف على الوصول إلى الله فيقول:
إلهي، منك أطلب الوصول إليك، وبك أستدل عليك، فاهدني بنورك إليك، وأقمني بصدق العبودية بين يديك.
39
بين الخوف والرجاء
ويمعن في التفلسف في محاورة الله فيقول:
إلهي، تقدس رضاك عن أن تكون له علة منك، فكيف تكون له علة مني، أنت الغني بذاتك عن أن يصل إليك النفع منك، فكيف لا تكون غنيا عني.
40
وهذه النقطة في غاية من الدقة، فالمؤلف يرى رضا الله منزها عن أن تكون له علة من الله نفسه، فكيف تكون له علة من الناس، ويرى الله على عظمته غنيا بذاته عن أن ينفع نفسه فكيف لا يكون غنيا عن نفع الناس وهم حقراء.
ومعنى هذا الكلام أن معصيتنا لا تعود على الله بضر، وأن طاعتنا لا تعود عليه بنفع، فرضاه عنا ليس متعة له وغضبه علينا ليس دليلا على أساه.
فما هي صلتنا في طاعتنا ومعاصينا بذلك العلي العظيم؟ أنغضبه حين نعصي ونسره حين نطيع؟ وإذا أغضبناه أيكون معنى ذلك أننا أسأنا إليه؟ وإذا أرضيناه أيكون معنى ذلك أننا أحسنا إليه؟
إن الله منزه عن الآثار الحسية لمعاني الحب والبغض، ولو لم يكن منزها عن ذلك لكان في مقدور المخلوق الضعيف أن يؤثر في الذات الإلهية بالرضا والاكتئاب، وهو محال.
فلم يبق إلا أن تكون صور غضبه ورضاه موصولة بصوالحنا الذاتية، لم يبق إلا أن يكون الغضب والرضا صورة لما نفهم نحن لا ما يفهم الله، لم يبق إلا أن نكون خلعنا على الله خلعة إنسانية فجعلناه يرضى ويغضب، كما نرضى نحن ونغضب، وتمثلناه يألم ويجذل، كما نألم ونجذل، وهو سبحانه منزه عن كل ما يلابس الناس.
وإذا كان ابن عطاء الله ينزه الله عن الرضا فكيف يترضاه؟ وإذا كان ينزهه عن الغضب فكيف يتسغفره؟ وإذا كان يراه أعلا من أن ينظر إلى الحسنات فكيف يتقرب إليه، وإذا كان يراه أمنع من أن تهمه السيئات فكيف يتوجع لما اقترف من الذنوب؟
هذه مشكلة لم يحلها الصوفية ، وستظل أبد الدهر من المشكلات.
ولكن ما الذي يمنع من أن نقرر أن فهمنا للذات الإلهية فهم ناقص أبشع النقص؟ ما الذي يمنع من أن نقرر أنه لا يبعد أن تكون الذات الإلهية تنظر إلى الأشياء على نحو ما ننظر، وتعقل على نحو ما نعقل، مع حفظ الفارق بين قوة الخالق وضعف المخلوق؟
وهل يقدح في عظمة الله أن يطرب للحسن وينفر من القبح؟ هل يقدح في عزة الله أن يرضى حين نحسن ويغضب حين نسيء؟ إن من شمائلنا المرضية أن نطرب للمحاسن ونجزع من العيوب، فكيف ننزه الله عما ارتضينا لأنفسنا من الشمائل والخصال؟
أنا أخشى أن يكون فيما ارتآه الصوفية فرار من الاكتراث بالتبعات، أخشى أن يكون في تنزيههم الله عن الرضا والغضب خروج إلى باحة الانحلال، وأرى أن الذين يقفون عند حدود الشرع أصلح وأسلم، فهم يتمثلون الله يرضى ويغضب، وهم يعملون للنجاة من غضبه والظفر برضاه، وما أراهم من المخطئين.
ولكن من نحن حتى نكيف القوة الإلهية؟ من نحن؟ من نحن؟ ألم أقل لكم إن هذه المسألة ستظل أبد الدهر من المشكلات؟
إن ابن عطاء نفسه لم يسلم من القلق، وما قاله في الاستغاثة والمناجاة يدل على أنه لا يعرف بالضبط كيف يعامل الله، فهو موزع القلب بين الرجاء والخوف ولعل هذه الحيرة هي خير ما نلقى به الله الذي لم يخف منه شيء، ولم يظهر منه شيء.
هل نملك الطاعة والعصيان؟
وابن عطاء الله يصر إصرارا جازما على أن العمل لا ينفع إلا بفضل من الله، ويقول:
إلهي، إن رجائي لا ينقطع عنك، وإن عصيتك، كما أن خوفي لا يزايلني وإن أطعتك.
41
وهذا من المعاني التي كررها المؤلف في صور مختلفة، فهو يدعو هنا بما كان ينصح به هناك.
وابن عطاء الله لم يبتكر هذا المعنى: فهو أصل من أصول التصوف، ومن قبل قال يحيى بن معاذ:
يكاد رجائي لك مع الذنوب يغلب رجائي لك مع الأعمال؛ لأني أجدني أعتمد في الأعمال على الإخلاص، وكيف أحررها من الرياء وأنا بالآفة معروف؟ وأجدني في الذنوب أعتمد على عفوك، وكيف لا تغفرها وأنت بالجود موصوف؟
ومن دعاء أبي العباس:
إلهي معصيتك نادتني بالطاعة، وطاعتك نادتني بالمعصية، ففي أيهما أخافك؟ وفي أيهما أرجوك؟ إن قلت: بالمعصية قابلتني بفضلك فلم تدع لي خوفا، وإن قلت: بالطاعة قابلتني بعدلك فلم تدع لي رجاء، فليت شعري كيف أرى إحساني مع إحسانك؟ أم كيف أجهل فضلك مع عصيانك؟
42
وهذا كلام نفيس في معناه.
والصوفية في هذا الموطن يفرقون بين العوام والخواص، فالعوام يخافون عند موجبات الخوف ويرجون عند موجبات الرجاء، أما الخواص فيجمعون بين الخوف والرجاء في جميع الأجوال.
هل نملك الطاعة والعصيان؟
ولا يثق ابن عطاء الله بقدرة المرء على فعل الخير وترك الشر، ويرى العزيمة ضائعة، ولكنه يحاولها امتثالا للأمر، ويقول في ذلك:
إلهي، كيف أعزم، وأنت القاهر؟ وكيف لا أعزم، وأنت الآمر.
43
وهذه أيضا من المشكلات الباقية، فنحن لا نعصي إلا بقضاء، ولا نطيع إلا بقضاء، نحن مسخرون في الخير ومسخرون في الشر، ومن فجورنا وتقوانا يقوم الوجود، أفنستطيع حين نعصي أن نفعل ما لا يشاء الله؟ أفنستطيع حين نطيع أن نحس إلى الله؟ وكيف خلق المعصية وهي نكراء؟ وكيف هيأ لنا أسباب الشر وهو بلاء؟ وكيف خلق فينا ذوق الإثم وهو يبغضه؟ وكيف فاته أن يصوغنا من الخير المحض وهو كل هواه؟
إن الإرادة الإنسانية فكرة وهمية، ومن الغرور أن نحكم بأننا نملك تصريف هذا الوجود، فلم يبق إلا أن نقول مع ابن عطاء الله: وكيف لا نعزم وأنت الآمر.
أمرنا بالعزم على الخير، فلنعزم على الخير، ولنفوض الأمر إليه.
هذا، ولابن عطاء الله كلمات سارت مسير الشمس فكانت شاهدا على قوته الروحية، من ذلك قوله:
إلهي، هذا ذلي ظاهر بين يديك، وهذا حالي لا يخفى عليك.
44
فقد كنت أسمع هذه الكلمة كلما لقيت جماعة من المتعبدين.
ومن ذلك أيضا قوله:
بك أستنصر فانصرني، وعليك أتوكل فلا تكلني، وإياك أسأل فلا تخيبني، وفي فضلك أرغب فلا تحرمني، ولجنابك أنتسب فلا تبعدني ، وببابك أقف فلا تطردني.
45
ولو أضفنا إلى ذلك ما ظفرت به الحكم العطائية من الشروح والتفاسير، وما أوحت إلى الناس من مختلف المعاني، لرأينا كيف كانت قيمتها من الوجهة الأدبية والفلسفية.
ولا يغض من الحكم العطائية أنها ظلت مجهولة في التاريخ الأدبي؛ لأن مؤرخي الأدب غفلوا عن أمثال هذه الفرائد فلم يكن لها من عنايتهم نصيب.
وقد قلنا في غير موطن من هذا الكتاب: إن رجال الأدب شغلوا بأسرى الحواس، ولم يهتموا برجال القلوب.
ولعل هذا الفصل يذكر رجال الأدب بعظمة ذلك الأديب المجهول، فما تقل كلماته في الأدب مع الله عن كلمات ابن المقفع في الأدب مع السلاطين.
مكانة ابن عربي في الأدب والتصوف
حياة ابن عربي
لقد عانيت مشقة عظيمة في إعداد هذا الفصل؛ لأن شخصية ابن عربي معقدة أشد التعقيد، ومن العسير بيان الخصائص الأساسية لهذا العقل المحيط في فصل من كتاب، ولكن يعزينا أن منهج البحث لا يفرض الكلام على ابن عربي من جميع نواحيه في إفاضة واستقصاء، وإنما يوجب عرض الجوانب البارزة التي تركت أثرا ظاهرا في الأدب والأخلاق.
كيف أفادته الرحلات
وابن عربي هو محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله الحاتمي، من ولد عبد الله بن حاتم أخي عدي بن حاتم، يكنى أبا بكر، ويلقب بمحيي الدين، ويعرف بالحاتمي وبابن عربي بدون ألف ولام كما اصطلح عليه أهل المشرق، فرقا بينه وبين القاضي أبي بكر بن العربي.
1
وكان ابن عربي من أعظم القائلين بوحدة الوجود.
ولد في مرسية من بلاد الأندلس في أواخر رمضان سنة 560، ثم انتقل من مرسية إلى أشبيلية سنة 568، فأقام بها إلى سنة 598 ثم انتقل إلى المشرق حاجا ولم يعد بعدها إلى الأندلس، وقد دخل مصر وأقام بالحجاز مدة، ودخل بغداد والموصل وبلاد الروم، وتوفي بدمشق ليلة الثامن والعشرين من ربيع الآخر سنة 638.
صبوات ابن عربي
ويظهر من أخباره المبثوثة في تضاعيف مؤلفاته أنه اتصل بما مر به من البلاد اتصالا قويا فكانت حياته سلسلة من التعرف إلى الرجال والآراء، ومن النقد والمصاولة في الميادين الفقهية والصوفية، وكان لذلك أبلغ الأثر في تكوين ذلك العقل الصوال.
وقد كانت الرحلات من التقاليد المصطفاة عند علماء الإسلام، وكان لها فضل عظيم في صقل العقول، وكان ابن عربي من أظهر من استفادوا من نظام الرحلات، ففي كتبه إشارات كثيرة إلى من عرف من الرجال، وفي أبحاثه صدى للمشكلات التي عرضت له وهو يحاور علماء المشرق وعلماء المغرب، وكذلك كان اسمه ملء الأفواه في أواخر القرن السادس وصدر القرن السابع، وكانت أفكاره وآراؤه شغل الناس في تلك الحقبة من الزمان، وليس ذلك بالأثر القليل.
فتنته بنفسه
لا نعرف كثيرا من أخبار ابن عربي في صباه، ولكن يظهر أنه كان مرهف الحس والذوق، وأنه نعم بماض خصب في عالم المحسوس، والنعيم في عالم المحسوس يزيد الأنس بالمعاني في عالم المعقول، فالذين عرفوا «ليلى» في عالم المحسوسات يرون لها وجودا مشرقا في عالم المعقولات، والذين شهدوا «الكأس» في عالم الحس يتمثلون لها صورا فتانة في عالم الوجدان، ومن أجل ذلك نرى أشعار ابن عربي أثارة من رقدة الشوق ولفحة الحنين.
إن التصوف في جوهره نوع من التسامي في الروحانية، والصوفية الأخيار كانوا في الأصل من عشاق الصورة الحسية، ثم ضاقت أمامهم دنيا الحس فتساموا إلى دنيا الروح، وهي دنيا حافلة بمعاني الحب والجمال.
إن الرجل لا يتصوف إلا بعد أن يصبح روحه أقوى وأعنف من أن يقف عند الجمال المحسوس، وهو جمال ينبت من الأرض ويتغذى من الأرض، ويرجع إلى الأرض، هو جمال يفتن به كبار الأطفال، فإذا نضجت أرواحهم استصغروه واستقلوه واحتقروه، ثم مضوا يبحثون عن جمال يوائم ما في أرواحهم من قوة وصفاء.
قوة شخصيته
ولكن من أين عرفنا أن ابن عربي كانت له صبوات في عالم الحس قبل أن تنقل صبواته إلى عالم الروح؟
إن القول بذلك لا يحتاج إلى دليل، فسنرى حين نتكلم عن الحب في باب الأخلاق أن الصوفية جميعا بدءوا معارفهم الوجدانية بالصبوات الحسية ، والتصوف ذاته هو انتقال من حال إلى حال، انتقال من عالم الأرض إلى عالم السماء.
على أن الدليل تحت أيدينا، سطره ابن عربي نفسه في مقدمة شرح ترجمان الأشواق، وإلى القارئ قصة تلك النفس:
وفد ابن عربي على الحجاز وهو في الثامنة والثلاثين، وهي سن محفوفة بالأشواك؛ لأنها صلة بين دنيا الشباب ودنيا الكهول، وكان ابن عربي في ذلك الوقت يقاسي مشقة الانتقال من عهد إلى عهد، فاتصل حبله برجل من أهل العلم في مكة، وكان لذلك الرجل بنية خفيفة الظل، عذبة الحديث، فملكت عليه أقطار روحه، وسارت به في شعاب الهوى العذري فلم يرجع إلا وهو أشلاء من الأسى والحنين.
ولنتركه يصف تلك الفتاة بقلمه الرشيق:
كان لهذا الشيخ (رضي الله عنه) بنت عذراء، طفيلة هيفاء، تقيد النظر، وتزين المحاضر، وتحير المناظر، تسمى بالنظام وتلقب بعين الشمس والبهاء، من العابدات العالمات، السابحات الزاهدات، شيخة الحرمين، وتربية البلد الأمين الأعظم بلا مين، ساحرة الطرف، عراقية الظرف، إن أسهبت أتعبت، وإن أوجزت أتعبت، وإن أفصحت أوضحت، إن نطقت خرس قس بن ساعدة، وإن كرمت خنس معن بن زائدة، وإن وفت قصر السموأل خطاه، وأغري بظهر الغرور فامتطاه، ولولا النفوس الضعيفة السريعة الأمراض، السيئة الأغراض؛ لأخذت في شرح ما أودع الله تعالى في خلقها من الحسن، وفي خلقها الذي هو روضة المزن، شمس بين العلماء، بستان بين الأدباء، حقة مختومة واسطة عقد منظومة، يتيمة دهرها، كريمة عصرها، سابغة الكرم، عالية الهمم، سيدة والديها، شريفة ناديها، مسكنها جياد، وبيتها من العين السواد، ومن الصدر الفؤاد، أشرقت بها تهامة، وفتح الروض لمجاورتها أكمامه، فنمت أعراف المعارف بما تحمله من الرقائق واللطائف، علمها عملها، عليها مسحة ملك وهمة ملك، فراعينا في صحبتها كريم ذاتها، مع ما انضاف إلى ذلك من صحبة العمة والوالد، فقلدناها من نظمنا في هذا الكتاب أحسن القلائد، بلسان النسيب الرائق، وعبارات الغزل اللائق، ولم أبلغ في ذلك بعض ما تجده النفس ويثير الأنس، من كريم ودها، وقديم عهدها، ولطافة معناها، وطهارة مغناها، إذ هي السؤل والمأمول، والعذراء البتول، فأعربت عن نفس تواقة، ونبهت على ما عندنا من العلاقة، اهتماما بالأمر القديم، وإيثارا لمجلسها الكريم، فكل اسم أذكره في هذا الجزء فعنها أكني، وكل دار أندبها فدارها أعني.
وهذه العبارات صريحة كل الصراحة، وهي تفصح عن تعلقه بتلك الفتاة التي رأى في وجهها وحديثها نعيم السمع والبصر والفؤاد، ولا شك عندنا في نبل ذلك الهوى وطهارته، وبراءته من وضيع الأغراض؛ لأن ابن عربي يتحدث حديث الرجل العفيف، وهو عندنا صادق، ولكن ذلك العفاف هو الدرجة الأولى بين هوى الأرض وهوى السماء، هو بداية العزوف عن المتعة الحسية والإقبال على المتعة الروحية، هو طليعة الإيمان بأن للحب غاية غير نعيم الحواس.
وآية ذلك أن ابن عربي الذي يقول: «فكل اسم أذكره فعنها أكني، وكل دار أندبها فدارها أعني» هو نفسه الذي يستطرد فيقول:
ولم أزد فيما نظمته في هذا الجزء على الإيماء إلى الواردات الإلهية والتنزلات الروحانية والمناسبات العلوية؛ جريا على طريقتنا المثلى، فإن الآخرة خير لنا من الأولى، لعلمها (رضي الله عنها) بما إليه أشير، ولا ينبئك مثل خبير، والله يعصم قارئ هذا الديوان من سبق خاطره إلى ما لا يليق بالنفوس الأبية، والهمم العلية المتعلقة بالأمور السماوية، آمين. بعزة من لا رب غيره، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
الموازنة بينه وبين الغزالي
ولا يمكن أن تكون تلك العلاقة أول وآخر ما عرف من العلاقات، فنشأته الأولى في المغرب يوم كان متصلا بأحد الملوك لها دخل في رياضته على دنيا الحسن.
2
والتنقل من أرض إلى أرض يمنح العيون فرصة التنقل من فتنة إلى فتنة، وهوى الرجل المحترس المتحفظ هو من أخطر الأهواء، وكان ابن عربي بطبيعة ما ترامت إليه همته في الفقه والتصوف رجلا يحب أن يتوقر ويتزمت، ويلقى طلائع الحسن بقلب بليد، ولكن التحرز لم يغن شيئا، فانحلت عزيمته، حين عرف تلك الفتاة التي حكم بأن بيتها من العين السواد، ومن الصدر الفؤاد، واضطر إلى أن يسأل الله العصمة لمن يقرأ قصائد ترجمان الأشواق، العصمة من سبق الخاطر إلى ما لا يليق بالنفوس الأبية، والهمم العلية، المتعلقة بالأمور السماوية.
والتجارب علمتنا أن الأرض ليست بعيدة من السماء كل البعد، فالأرض والسماء في عالم الأخلاق مقتربتان أشد الاقتراب، وقد تكون الظواهر مما يجزم بقوة الصلة الأرضية، على حين تكون البواطن موصولة الأواصر بأقطار السماء.
ما أضيف إلى مؤلفات ابن عربي من الزيادات
ولكن لم نمشي على الشوك ونحن نكتب هذا الكلام؟
لم هذا التهيب؟ نقول بكل صراحة: إن ابن عربي كان رجلا مقهور النزوات والأهواء، كان رجلا محبوسا عن اللذات الحسية فاندفع يطوف حولها في رحاب عقلية، لها رونق ورواء، وآية ذلك أنه أطلق لنفسه العنان في امتلاك ناصية المجد، والمجد له معسول يفوق طعم الشهوات، وهو المفزع لكل نفس طامحة ضاعت حظوظها في ميدان الحواس.
إن ابن عربي في أبحاثه يفترع المعاني افتراع الفحول: فهو يشفي شهوة مقهورة عز عليها أن يتنفس، ويداوي جوى في الصدر عز منه الشفاء.
وأكاد أجزم بأن حاله يشبه حال ساكنات الديارات: فالراهبة الجميلة لا تعرف الدير إلا بعد أن يطول شقاؤها بما تحمل من قلب ظامئ ممنوع من الورود. وهنالك تنتظر الشفاء بما تتلهى به من العظمة الكهنوتية، ومن التطلع إلى النعيم المرموق في عالم السماء.
كانت الشهوات الحسية تطارد ابن عربي أينما توجه، وكانت تطالعه في صور موشاة بالتهاويل، فكان يلتمس المخرج بالتعلق بأذيال التفسير والتآويل: لأنه كان انغمر في عالم المجد، وكان يحب أن تكون جميع النوازع تفسيرا لما ينتظره في أودية المعقول.
وإليكم هذه الرؤيا، فهي وحدها شاهد على أنه يتناول المعاني بطرائق حسية ويواجه الدنيا بعين متشوقة إلى الصور والأشكال، إليكم هذه الرؤيا ففيها المقنع لمن يزعم أن في مقدور المتصوف أن يخلص كل الخلاص من عالم الحس، إليكم هذه الرؤيا التي غمرت ابن عربي في تيار الشهوات من حيث لا يريد، إليكم هذه الرؤيا لتعرفوا كيف كان رجل اقتحام، وكيف كانت غرائزه المقهورة تصور له العوالم القوية بصورة الخضوع المؤنث.
حدث عن نفسه قال:
رأيت ليلة أني نكحت نجوم السماء كلها فما بقي منها نجم إلا نكحته بلذة عظيمة روحانية، ثم لما أكملت نكاح النجوم أعطيت الحروف فنكحتها، وعرضت رؤياي هذه على من عرضها على رجل عارف بالرؤيا بصير بها، وقلت للذي عرضتها عليه: لا تذكرني، فلما ذكر له الرؤيا استعظمها وقال: هذا هو البحر العميق الذي لا يدرك قعره، صاحب هذه الرؤيا يفتح له من العلوم العلوية وعلوم الأسرار وخواص الكواكب ما لا يكون فيه أحد من أهل زمانه، ثم سكت ساعة وقال: إن كان صاحب هذه الرؤيا في هذه المدينة فهو ذلك الشاب الأندلسي الذي وصل إليها.
وأين هذه الرؤيا البهلوانية من رؤيا يوسف إذا قال لأبيه:
يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين .
إن الفرق بين هذين الخيالين كالفرق بين هذين الروحين، سواء بسواء وما كذب يوسف، وإنما استطال محيي الدين!
تحفظ واحتراس
والدعوى كانت تتسع أمام الرجلين في كثير من الشئون، فقد نقل أن امرأة كانت ترضع صغيرا لها فمر رجل ذو شارة حسنة وخول وحشم فقالت: اللهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الرضيع الثدي ونظر إليه، وقال: اللهم لا تجعلني مثله. ومرت عليه امرأة وهي تضرب والناس يقولون فيها: زنت وسرقت فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه. فترك الصغير الثدي ونظر إليها وقال: اللهم اجعلني مثلها.
ثم يحدثنا ابن عربي أن رسول الله قال في ذلك الرجل: إنه كان جبارا متكبرا، وإنه قال في المرأة: كانت بريئة مما نسب إليها.
ثم قاده الغرور إلى التزيد فقال: «واتفق لي مع بنت كانت ترضع عمرها دون السنة. فقلت لها: يا بنية - فأصغت لي - ما تقولين في رجل جامع امرأته فلم ينزل، ما يجب عليه؟ فقال: يجب عليه الغسل، فغشي على جدتها من نطقها. هذا شهدته بنفسي».
3
وقد مرت الأجيال الطوال ولم يشهد أحد بنفسه ما شهد ابن عربي بنفسه، فهي دعوى أعرض من الصحراء.
شعره ونثره
على أنه لا ينبغي أن نسرف في تعقب ابن عربي، فهذه الشطحات تقبل من رجل مثله كان يملك ناصية العلوم الشرعية والعقلية، وكان الزهو يقوده إلى الغفلة في بعض الأحيان.
لا ينبغي أن ننسى أن شخصيته في البحث والاجتهاد كان لها جلال، وكان يستطيع أن يقول: «اتفق المسلمون على أن التوجه إلى القبلة - أعني الكعبة - شرط من شروط صحة الصلاة، فلولا أن الإجماع سبقني في هذه المسألة لم أقل: إنه شرط، فإن قوله تعالى:
فأينما تولوا فثم وجه الله
نزلت بعده وهي آية محكمة غير منسوخة».
4
وهذه النظرة فيها ما فيها من قوة الشخصية، ولو مضينا نتعقب دراساته الفقهية لرأينا لهذه النظرة كثيرا من الأشباه والأمثال، وهو في دراساته الفقهية يتلمس مسالك التصوف، ويجعل في كل مبحث مجالا لأرباب القلوب.
انظر إليه وهو يتكلم في الطهارة تجده يلخص أقوال الفقهاء، ثم ينتقل إلى اعتبار ذلك في الباطن فيقول: «اعلم أن الطهارة في طريقنا طهارتان: طهارة غير معقولة المعنى، وهي الطهارة من الحدث، والحدث وصف نفسي للعبد فكيف يمكن أن يتطهر الشيء من حقيقته، فإنه لو تطهر من حقيقته انتفت عينه، وإذا انتفت عينه فمن يكون مكلفا بالعبادة؛ وما ثم إلا الله؟ فلهذا قلنا: إن الطهارة من الحدث غير معقولة المعنى. فصورة الطهارة من الحدث عندنا أن يكون الحق سمعك وبصرك وكلك في جميع عباداتك فأثبتك ونفاك، فتكون أنت من حيث ذاتك، وتكون هو من حيث تصرفاتك وإدراكاتك» إلخ.
5
ومن هنا يمكن الحكم بأن ابن عربي كان يرى الشريعة من حظ العوام، ويرى الحقيقة من حظ الخواص، وكانت دراساته للشريعة تمهيدا لشرح الحقيقة، وكان الفقه عنده مقدمة لدرس أحوال القلوب.
وهو في هذا المسلك مسبوق بالغزالي، فكتاب الفتوحات المكية صدى لكتاب إحياء علوم الدين، والفرق بين الرجلين أن الغزالي يحترم الأحكام الفقهية ويدرسها درس الفقيه، ثم ينتقل إلى المعاني الصوفية فيدرسها في حرارة وشوق، أما ابن عربي فيظهر بشخصية جارفة في البابين، فيقتحم في الفقه ويقتحم في التصوف، ولا يكاد مع عنفوانه ينير العقل أو يشرح الصدر، وهل تشرح الصدور بالغطرسة والكبرياء؟
إن كل صفحة من صفحات الإحياء ترسل إلى القلب أشعة من الأنوار الروحانية، أما كتاب الفتوحات فكل صفحة فيه تثير مشكلة أمام العقل.
وربما كان السر في ذلك أن الغزالي ألف كتابه بعد أن صفا وطاب، وأن ابن ألف كتابه وهو يتسامى إلى أن يكون خاتم الأولياء، كما كان محمد صلوات الله عليه خاتم الأنبياء.
ويوضح هذا السر أن الغزالي يملأ كتابه بالنقول كأنه يستمد معانيه من كرام الأسلاف، أما ابن عربي فيتكلم وحده، ولا يستأنس بكلام من سلف إلا في قليل من الأحايين.
وقد كان لمسلك ابن عربي أثر عنيف فيمن جاء بعده من الصوفية، فالعنجهية التي نراها في الشعراني هي بالتأكيد عدوى وصلت إليه من ابن عربي، والتطاول إلى معرفة ملكوت السموات جرأة خطرة لا تتيسر لكل مدع، وإنما يملكها من يرى نفسه عنصرا من الوحدة الكلية حين يؤمن بوحدة الوجود.
ترجمان الأشواق
وينبغي أن ننص على أن كتب ابن عربي أضيفت إليها زيادات جائرة بدلت أغراضه بعض التبديل، يدل على ذلك ما حدث به الشعراني في مختصر الفتوحات، إذ قال:
وقد توقفت حال الاختصار في مواضع كثيرة منه لم يظهر لي موافقتها لما عليه أهل السنة والجماعة فحذفتها من هذا المختصر، وربما سهوت فتبعت ما في الكتاب كما وقع للبيضاوي مع الزمخشري، ثم لم أزل كذلك أظن أن المواضع التي حذفت ثابتة عن الشيخ محيي الدين حتى قدم علينا الأخ العالم الشريف شمس الدين محمد بن السيد أبي الطيب المدني، المتوفى سنة 955 فذاكرته في ذلك فأخرج إلي نسخة من الفتوحات التي قابلها على النسخة التي عليها خط الشيخ محيي الدين نفسه بقونية فلم أر فيها شيئا مما توقفت فيه وحذفته، فعلمت أن النسخ التي في مصر الآن كلها كتبت من النسخة التي دسوا على الشيخ فيها ما يخالف عقائد أهل السنة والجماعة، كما وقع له ذلك في كتاب الفصوص وغيره.
6
ونحن نلمح في كلام الشعراني شيئا من التكلف، فإنه يبعد جدا أن يكون ابن عربي وقف في تفكيره عند الحدود التي وقف في تفكيره عند الحدود التي وقف عندها أهل السنة والجماعة، وإن كنا لا نستبعد أن تكون كتبه ابتليت بمن أضاف إليها بعض الزيادات.
ولكن من هم الذين زادوا كتب ابن عربي فحملوه ما لم يحمل؟
إن كانت الزيادات وقعت بالفعل فهي لم تقع من أهل السنة، وإنما وقعت من الصوفية، من طائفة منهم عجزوا عن الجهر بآرائهم فأضافوا أعباءها إلى رجل يحمل الجبال!
وتكون النتيجة أن تكون كتب ابن عربي مراجع صوفية وإن اختلفت شخصيات الكاتبين.
مزج الأدب بالتصوف
على أنه لا مندوحة من النص على أن ابن عربي كان يتحفظ فيما يكتب، وكان يطلب السلامة قبل كل شيء، فإن وجد في كتبه شيء يتجاوز مألوف الحدود فهو مدسوس.
ومن شواهد هذا التحفظ ما جاء في الفتوحات حيث يقول:
7
إن أصحابنا اليوم يجدون غاية الألم حيث لا يقدرون أن يرسلوا ما ينبغي أن يرسل عليه سبحانه كما أرسلت الأنبياء عليهم السلام،
8
وإنما منعهم أن يطلقوا عليه سبحانه ما أطلقت الكتب المنزلة والرسل عدم الإنصاف من السامعين من الفقهاء وأولي الأمر لما يسارعون إليه من تكفير من يأتي بمثل ما جاءت به الأنبياء عليهم السلام في جنب الله، ويتركون معنى قوله تعالى:
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ، كما قال له ربه عز وجل عند ذكر الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم:
أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ، فأغلق الفقهاء هذا الباب من أجل المدعين الكاذبين في دعواهم، ونعم ما فعلوا، وما على الصادقين في هذا من ضرر؛ لأن العبارة والكلام عن مثل هذا هو ما هو ضربة لازب، وفيما ورد عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في ذلك كفاية لهم فيوردونها ويستريحون إليها من تعجب وفرح وضحك وتبشش ونزول ومعية ومحبة وشوق وما أشبه ذلك مما لو انفرد بالعبارة عنه الولي كفر وربما قتل، وأكثر علماء الرسوم عدموا علم ذلك ذوقا وشربا، فأنكروا مثل هذا من العارفين حسدا من عند أنفسهم.
وهذا الكلام قاله ابن عربي بعد أن شرح أطوار التجليات وانتهى إلى الموازنة بين من يقول:
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
وقوله هو:
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه عينه «فما في الوجود إلا الله
9
ولا يعرف الله إلا الله، ومن هذه الحقيقة قال من قال: أنا الله».
وقد تأملت طويلا في كتاب الفتوحات فرأيت ابن عربي يدور حول فكرة «وحدة الوجود» دورانا لبقا ولا يكاد يفصح عنها إلا عن طريق الإيماء.
ألفاظ ومصطلحات
ندع هذا مؤقتا، ونأخذ في الكلام عن ابن عربي الأديب، فنقول:
يعد هذا الرجل من طبقة الكتاب العظام، ويمتاز نثره بميزة عجيبة: هي أنه لا يشغلك بالألفاظ، وإنما يشغلك بالمعاني، ففي كل صفحة من كتبه معركة عقلية: فالقوة البيانية عنده قوة فكر لا قوة تهويل؟
ونثره يينقسم إلى قسمين: النثر العلمي، والنثر الفني.
وهو في نثره الفني رجل مرن وانطبع على الكلام المطمع الممتنع، وما ترك من ألوف الصفحات يشهد أنه كان من أملك الناس لناصية البيان، ولا يؤخذ عليه غير التفريط في ربط الجمل بعضها ببعض، وربما كان من أسباب ذلك أنه يحاول ستر أغراضه الحقيقة في كثير من الأحيان، فالكلام يتسق له ما دام في حدود المألوف من آراء الناس، فإذا تفلسف تلوى واعتسف؛ لأنه يحاول اقتحام الوعر من مسالك العقول.
وهو لا يصطنع النثر الفني إلا في المواطن التي يقف موقف الواعظ أو الخطيب، ففي مقدمات كتبه وفي خطبه التي يحدث أنه ألقاها في حضرة الله أو حضرة الرسول نراه يوشي كلامه بأكثر فنون البديع من سجع وتورية وجناس وطباق.
ونثره في شرح ترجمان الأشواق هو من النثر الفني، وإليكم هذا الشاهد الذي يمثل ما يتفق لهذا الرجل أحيانا من خفة الروح: «كنت أطوف ذات ليلة بالبيت فطاب وقتي، وهزني حال كنت أعرفه، فخرجت من البلاط من أجل الناس وطفت على الرمل، فحضرتني أبيات فأنشدتها أسمع بها نفسي ومن يليني، لو كان هناك أحد ، فقلت:
ليت شعري هل دروا
أي قلب ملكوا
وفؤادي لو درى
أي شعب سلكوا
أتراهم سلموا
أم تراهم هلكوا
حار أرباب الهوى
في الهوى وارتبكوا
10
فلم أشعر إلا بضربة بين كتفي بيد ألين من الخز، فالتفت فإذا بجارية من بنات الروم لم أر أحسن وجها ولا أعذب منطقا، ولا أرق حاشية، ولا ألطف معنى، ولا أدق إشارة، ولا أظرف محاورة منها، قد فاقت أهل زمانها ظرفا وأدبا وجمالا ومعرفة؛ فقالت: يا سيدي، كيف قلت؟ فقلت:
ليت شعري هل دروا
أي قلب ملكوا
فقالت: عجبا منك، وأنت عارف زمانك، تقول مثل هذا!! أليس كل مملوك معروف؟ وهل يصح الملك إلا بعد المعرفة، وتمني الشعور يؤذن بعدمها، والطريق لسان صدق، فكيف يجوز لمثلك أن يقول مثل هذا؟ قل يا سيدي، فماذا قلت بعده؟ فقلت:
وفؤادي لو درى
أي شعب سلكوا
فقالت: يا سيدي، الشعب الذي الشغاف والفؤاد هو المانع له من المعرفة،
11
فكيف يتمنى مثلك ما لا يمكن الوصول إليه إلا بعد المعرفة، والطريق لسان صدق، فكيف يجوز لمثلك أن يقول مثل هذا؟ يا سيدي، فماذا قلت بعد؟ فقلت:
حار أرباب الهوى
في الهوى وارتبكوا
فصاحت وقالت: يا عجبا، كيف يبقى للمشغوف فضلة يحار بها، والهوى شأنه التعميم يخدر الحواسن ويذهب العقول، ويدهش الخواطر، ويذهب بصاحبه في الذاهبين فأين الحيرة وما هنا باق فيحار، والطريق لشان صدق، والتجوز من مثلك غير لائق! فقلت: يا بنت الخالة، ما اسمك؟ فقالت: قرة العين؟ فقلت: لي! ثم سلمت وانصرفت. ثم إني عرفتها بعد ذلك وعاشرتها فرأيت عندها من لطائف المعارف، ما لا يصفه واصف».
12
ذلك طراز من نثره الفني، وهو نثر مقبول، لا تكلف فيه ولا افتعال.
ثروته اللغوية
أما شعره فهو فن قائم بذاته، هو الشعر الصوفي، وقد ترك من الشعر تركة ثقيلة، فله ديوان ضخم. وكتاب الفتوحات ذاته يقوم في الأغلب على شرح مقطوعات شعرية، ويعز علينا أن نصرح بأن هذا الرجل أضاع وقته في صوغ القريض، فديوانه الضخم مجموعة من الأحجار وضعت على غير نظام، وهو في ديوانه هذا رجل مزعج لا تكاد تستروح الإنس به حتى تعود فتنكره؛ لأنك لا تعرف أين يتوجه، ولا تكاد تلمس في أشعار الديوان لفحة من الشوق إلى العالم المجهول.
وإلا فأي روعة في أمثال هذه الأبيات:
إن لي ربا كريما أجده
كالذي نعلم أو نعتقده
هو مني وأنا منه به
ولذا في كل حال أجده
كل من نال الذي قد نلته
من وجود قد تعالى مشهده
إن أستاذي الذي أدبني
هو شخص في وجودي يشهده
هو مني والد معتبر
وأنا منه كهو أو ولده
لا أسميه لأني عالم
أنه يكره ذا بل يعبده
13
هذا شعر ضعيف، وكل ما فيه هو الطواف حول الإشارة إلى وحدة الوجود والأثر الشعري الحق لابن عربي هو قصائد ترجمان الأشواق: ففي هذه القصائد نفحات شعرية، وهو بهذا الديوان يستطيع أن يزاحم الأقطاب من شعراء الصوفية.
وأكبر الظن أن نجاحه في هذا الديوان يرجع الفضل فيه إلى تلك الإنسانة التي أذكت نار جواه، فهي وقدات حسية مشبوبة وجهها عند الشرح إلى معان علوية ليسير في ركاب أصحاب الأذواق.
وانظروا كيف يقول:
مرضي من مريضة الأجفان
عللاني بذكرها عللاني
هفت الورق بالرياض وناحت
شجو هذا الحمام مما شجاني
بأبي طفلة لعوب تهادي
من بنات الخدور بين الغواني
طلعت في العيان شمسا فلما
أفلت أشرقت بأفق جناني
يا طلولا برامة دراسات
كم رأت من كواعب وحسان
بأبي ثم بي غزال ربيب
يرتعي بين أضلعي في أمان
يا خليلي عرجا بعناني
لأرى رسم دارها بعياني
فإذا ما بلغتما الدار حطا
وبها صاحبي فلتبكيان
وقفا بي على الطلول قليلا
نتباكي بل أبك مما دهاني
الهوى راشقي بغير سهام
الهوى قاتلي بغير سنان
عرفاني إذا بكيت لديها
تسعداني على البكاء تسعداني
واذكرا لي حديث هند ولبنى
وسليمى وزينب وعنان
ثم زيدا من حاجر وزرود
خبرا عن مراتع الغزلان
واندباني بشعر قيس وليلي
وبمي والمبتلى غيلان
طال شوقي لطفلة ذات نثر
ونظام ومنبر وبيان
من بنات الملوك من دار فرس
من أجل البلاد من أصبهان
هي بنت العراق بنت إمامي
وأنا ضدها سليل يماني
هل رأيتم يا سادتي أو سمعتم
أن ضدين قط يجتمعان
لو ترانا برامة نتعاطى
أكؤسا للهوى بغير بنان
والهوى بيننا يسوق حديثا
طيبا مطربا بغير لسان
لرأيتم ما يذهب العقل فيه
يمن والعراق معتنقان
كذب الشاعر الذي قال قبلي
وبأحجار عقله قد رماني
أيها المنكح الثريا سهيلا
عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استهلت
وسهيل إذا استهل يماني
فهذه قصيدة جيدة والغرام فيها حسي؛ لأن الكلام موجه إلى تلك الفتاة الأصبهانية التي عرفها بمكة، ولكنه في الشرح يحول صبابته إلى معان روحية ولننظر كيف شرح المطلع:
مرضي من مريضة الأجفان
عللاني بذكرها عللاني
فقال:
المرض: الميل، يقول: لما مالت عيون الحضرة المطلوبة للعارفين من جانب الحق سبحانه بالرحمة والتلطف إلينا أمالت قلبي بالتعشق إليها، فإنها لما تنزهت جلالا وعلت قدرا، وسمت جبروتا وكبرا، لم يمكن أن تعرف فتحب، فتنزلت بالألطاف الخفية إلى قلوب العارفين ... إلخ.
ولننظر كيف شرح هذين البيتين:
طال شوقي لطفلة ذات نثر
ونظام ومنبر وبيان
من بنات الملوك من دار فرس
من أجل البلاد من أصبهان
فقال:
وصف هذه المعرفة الذاتية بأنها ذات نثر ونظام، وهما عبارتان عن المقيد والمطلق، فمن حيث الذات وجود مطلق، ومن حيث المالك مقيد بالملك، فإنهم ما أشرنا إليه في هذا فإنه عزيز ما رأينا أحدا نبه عليه قبلنا في كتاب من كتب المعرفة بالله تعالى، وقوله: (منبر) يعني درجات الأسماء الحسنى، والرقي فيها التخلق بها، فهي منبر الكون، والبيان عبارة عن مقام الرسالة، هذه المعارف كلها خلف حجاب النظم بنت شيخنا العذراء البتول شيخة الحرمين، وهي من العالمات المذكورات، وقوله: (من بنات الملوك) لزهادتها: فالزهاد ملوك الأرض. فستر ما يريده من المعارف بذكر دارها وأصلها، يشير من بنات الملوك يعني: أن هذه المعرفة لها وجه بالتقييد، وقوله: (من دار فرس) يقول: وإن كانت عربية من حيث البيان فهي فارسية عجماء من حيث الأصل؛ لأنه لا يمكن في الأصل بيان عزته وتعلق الحكم به ... إلخ.
وهذا الشرح، كما ترون، كله تعمل واعتساف، والاطلاع عليه يقدم إلينا متعة من متع الأنس بالذكاء.
وأشعار ابن عربي كلها رمزيات، كما يريد أن تكون، وهي لا تخلو من طلاوة، وقد يقع فيها أحيانا شيء من طريف الخيال، كأن يقول:
ذبت اشتياقا ووجدا في محبتكم
فآه من طول شوقي آه من كمدي
يدي وضعت على قلبي مخافة أن
ينشق صدري لما خانني جلدي
ما زال يرفعها طورا ويخفضها
حتى وضعت يدي الأخرى تشد يدي
وحدة الوجود
ولا بد من الإشارة إلى أن ابن عربي زاد لغة الصوفية ثروة، فقد تفرد بتعابير واصطلاحات أوجبت أن يفرد لها بحث خاص،
14
ولهذا قيمة من الوجهة الأدبية؛ فالرجل كان يعيش في جو خلقه بنفسه، وكانت له اقتحامات عقلية ولغوية تضيفه إلى المبتكرين في عالم الفكر والبيان.
يضاف إلى هذا ما صنعه في إذاعة الثقافة الصوفية، فقد هضم كل ما قرأ، ووعى كل ما سمع، وراح يهدر كالفحل في لغة قوية عاتية لا يعيبها غير ما كان يقصد إليه أحيانا من الغموض.
ولنسجل أيضا أنه راض اللغة على الجري في شعاب مجهولة، وانطلق يتحدث عن فروض غيبية جلاها قلمه في معارض شائقة فأصبحت وكأنها من الحديث المأنوس.
ولقد عرضت من قبل إلى الموازنة بين كتاب الإحياء وكتاب الفتوحات؛ فلنصف إلى ما سلف أن كتاب الإحياء جلا من التصوف ناحيته الروحية، أما كتاب الفتوحات فقد جلا من التصوف ناحيته العقلية. ويمكن الحكم بأن ابن عربي كان أصلب عودا من الغزالي، فالغزالي ألف كتابه وهو ممعود،
15
أما ابن عربي فألف كتابه وهو في حيوية قوية، حيوية في الجسم وحيوية في العقل، ومن أجل هذا نراه يفترع الأفكار افتراع الفحول، وإن كان لم يفرغ من كتابه هذا إلا قبل موته بثلاث سنين.
ولقوة الشخصية أثر في الحيوية الأدبية، والأدباء لا يخدمون لغتهم بالبيان وحده، وإنما يخدمونها بالبيان المقتحم الذي يوقظ المشاعر والعقول.
ويمكن أيضا أن نقول : إن كتاب الإحياء يصلح لكل قارئ، أما كتاب الفتوحات فيتسامى على أوساط القراء، فهو لون من الأريستوقراطية العقلية؛ لأنه يعز على من يرومه من سواد الناس، ويطول على من لم تؤهله ثقافته إلى المشاركة في مصاولة العقول.
دفاع العاملي
تلكم جوانب من ابن عربي تمثل شخصيته الأدبية والذوقية، ولكن بقي جانب مهم هو قوله بوحدة الوجود، وهذه المسألة لها أثر في طريقة فهمه لقواعد الأخلاق.
ونبادر فنذكر أن الإشارات إلى وحدة الوجود منبثة في كتاب الفتوحات، ولكن ابن عربي يتكلم في تحفظ واحتراس، وليس من همنا في هذا البحث أن نبين كيف وصلت هذه الفكرة إلى ابن عربي، فقد سبقنا الدكتور أبو العلاء عفيفي إلى ذلك في بحث نشره في مجلة كلية الآداب (مايو سنة 1933)، وإنما يهمنا أن نشرح هذه الفكرة ونبين خطرها في الأخلاق.
والقائلون بهذه الفكرة يختلفون في تصويرها إلى فريقين: فريق يرى الله روحا ويرى العالم جسما لذلك الروح، فالله هو كل شيء، وفريق يرى جميع الموجودات لا حقيقة لوجودها غير وجود الله فكل شيء هو الله.
16
ونظرية وحدة الوجود شغلت جمهورا كبيرا من علماء الإسلام، واصطنعها كثير من أقطاب الصوفية منهم ابن الفارض الذي يقول:
وفي الصحو بعد المحو لم أك غيرها
وذاتي بذاتي إذ تجلت تحلت
وما زلت إياها وإياي لم تزل
ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت
وقد شرح هذه النظرية بهاء الدين العاملي في كتيب أسماه «الوحدة الوجودية»، وهو كتيب يقرأ، وأهم ما فيه هو الدفاع عن ظهور الله بصورة محسوسة، فقد روى الحديث المأثور عن الرسول
صلى الله عليه وسلم : «رأيت ربي على صورة شاب أمرد فوضع كفه بين كتفيذض فوجدت برده بين ثديي»، ثم قال:
فإذا جاز تجليه سبحانه وتعالى في صورة شخصية، فما المانع من أن تكون سائر الصور الأرضية والسماوية صور تجلياته، وشئون ظهور ذاته؟ فإن قلت: إن الصورة المذكورة التي تجلى الله تعالى فيها صورة حسنة فكيف يقاس عليها الصور التي بخلافها في الحسن والنورانية مثل الأشياء النجسة والمتقذرة؟ يقولون في الجواب: إن نجاسة الأشياء وتقذرها ليست وصفا ثابتا لها في أنفسها، فإن كل طبيعة متعينة لها ملاءمة بالنسبة إلى البعض ومنافرة بالنسبة إلى البعض الآخر وذلك من آثار ما به الاشتراك وما به الاختلاف الواقع من التعيين، فأيهما غلب ظهر حكمه من الملاءمة والمنافرة. والنجاسة الواقعة في بعض الأشياء إنما هي بالنسبة إلى ما يقابلها من الطبائع التي وقعت بينها أسباب المخالفة فهي لا تثبت لشيء إلا بالنسبة إلى ما يقابلها لا بالنسبة إلى الإطلاق والمطلق، فهي وما يقابلها مما سمي نظافة على السوية بالنسبة للمطلق.
17
وما حكم به العاملي على الصور المقبولة والمرذولة يحكم به على ساتر الأحكام الكونية كالألم والتلذذ والسعادة والشقاوة والحسن والقبح، فكل هذه لا يلزم منها نقص ولا شين للحقيقة الكلية، إذ ليس الشين والنقص لشيء إلا كون ذلك الشيء في معرض الإمكان والحدوث. «والوجود الحق الواجب في ذاته، الكامل بصفاته، السابق موجوديته على جميع حالاته، ممتنع أن يحوم النقص حول عظمة ذاته، فكل ما ظهر في الكون من الكمال فهو من لوازم ذي الجلال والجمال، وما طرأ من النقص والزوال، فهو من أحكام التعين والتنزل والإنزال».
18
وخلاصة المذهب أن لا موجود إلا الوجود الواحد، ومع ذلك يتعدد بتعدد التعينات تعددا حقيقيا واقعا في نفس الأمر، ولكن ذلك التعدد لا يوجب تعددا في ذات الوجود، كما أن تعدد أفراد الإنسان لا يوجب تعددا في حقيقة الإنسان.
19
أوجه من الحق في وحدة الوجود
وقد فكرت في هذا المذهب طويلا، وهو عندي من الوجهة النظرية مقبول، على شرط أن نتجاهل جميع المصطلحات، فنحن إلى اليوم لا نعرف الله كما ينبغي أن يعرف. ومن المحتمل أن نكون أضفنا إليه صفات لا نعرف حظها من الصدق، فنحن ننزهه عن كل ما يلابس الناس، ونقضي بأن ليس كمثله شيء، كما قضى القرآن، وهنا يبدأ الخطر؛ لأننا إن كذبنا القرآن فماذا تملك؟ وما الدليل على أن القرآن أسرف؟ القرآن يقضي بأن ليس كمثله شيء، فأين اليقين عندنا على أنه يشبه شيئا أو يشبهه شيء؟
نحن نصف الله بالغنى المطلق، والفطرة هي التي هدتنا إلى ذلك، ولا نكاد نصدق أن واهب الوجود يحتاج إلى شيء، وإن احتاج كما نحتاج فأين تكون عظمته الذاتية؟
ونحن حين نقول بوحدة الوجود نقضي بأننا جزء من الوحدة الإلهية، ولا شك أن فينا شمائل روحية وخلقية تدعونا إلى القول بصحة ذلك الادعاء، ولكننا نتلفت فنرانا نعرى ونظمأ ونجوع، ونرى أكبر المتفلسفين لا يغنيه التفلسف عن طلب الرزق، وتمر بنا أحداث نرى الناس فيها صغارا جدا لا يصلحون أبدا للاتسام بالسمة الإلهية.
يضاف إلى ذلك أن القول بوحدة الوجود يجعل الثواب والعقاب من المشكلات، فمن الذين يثيبنا حين نحسن؟ ومن الذي يعاقبنا حين نسيء؟
ومن نحن حتى نحسن؟ ألسنا جزءا من الله؟ ومن نحن حتى نسيء؟ ألسنا بضعة من واجب الوجود؟ أيحسن الله نفسه ثم يثيب، ويسيء ثم يعاقب؟ تلك مشكلة المشكلات.
مشكلة الثواب والعقاب
إن ابن عربي يحل هذه المشكلة حلا طريفا، وهو ينصح للعوام بأن يكتفوا بالشريعة فيفهموا الثواب والعقاب على نحو ما يفهم جمهور المسلمين؛ ويحتفظ بذلك السمو الروحاني لأقطاب الواصلين، فمن سمت به التجليات إلى مقام الفناء عرف أن لا موجود إلا الله، واستطاع أن يقول: أنا الله.
ولهذا الرأي خطر عظيم من الوجهة الأخلاقية، فالعارف يرى الناس جميعا مضللين، ولكنه يعذرهم وينظر إليهم كما ينظر الرجل إلى صغار الأطفال.
أتريدون الحق؟ إن القول بوحدة الوجود له وجه، فمنذ اكتشف اللاسلكي وأنا أعتقد أن العالم كله مربوط أوثق رباط بوحدة كهربائية لا تقبل الانفصام.
وأكاد أحكم بأن الخطأ والصواب، والهدى والضلال، لا يقع شيء منه إلا طاعة لتلك القوة الكهرابئية، فهي التي تبرم وتنقض، وتأسو وتجرح، لأغراض مستورة قد لا يفهمها الإنسان بإدراكه الضعيف.
ولكن كيف يكون الحال لو وضعت القوانين على هذا الأساس؟
كيف يكون الحال حين يحكم بأن المجرم يجرم وهو غير مسئول؟
أتنفعني هذه الفلسفة التي أدونها في غرفة مغلقة النوافذ؟
ألا يكون من حق كل مجرم أن ينتهب مني ما يشاء، حتى هذا الرغيف الذي أعددته للغداء؟
إن القول بوحدة الوجود ليس إلا شطحة صوفية، وهو خطر كل الخطر في عالم الأخلاق.
فإن رابكم هذا القول فتأملوا أحوال الصوفية، فهم في الأغلب من الذين سقطت عنهم التكاليف، وعاشوا عيش التفكك والانحلال منذ أفلتوا من قيود الشرع الحنيف.
20
كيف جاء القول بوحدة الوجود
لقد أجهدت عقلي في البحث عن السبب الذي دعا إلى القول بوحدة الوجود، وانتهيت إلى أن هذه النظرية لم تنشأ إلا؛ لأن الإنسان بطبيعة تكوينه لا يتصور موجودا بلا حيز ولا جهة ولا مكان، وهو حين يؤمن بوجود الله يسأل من حيث لا يشعر: وأين الله؟ ولا تزال الدنيا تعج بألوف الملايين ممن يتصورون أن الله في السماء فيرفعون إليها أبصارهم عند الدعاء.
والمؤمنون الصالحون يقولون: الله في كل مكان، والقرآن نفسه يقول:
فأينما تولوا فثم وجه الله
ولست بهذا أقضى بأن القرآن يجعل الله في مكان، وإنما أحكم بأن هذه الآية تخاطب الناس بما يفهمون، فتصوروا الله موجودا في كل مكان؛ لأنهم لا يعقلون وجودا بلا حيز ولا مكان.
ولقد قلت: إن اللاسلكي هيأ ذهني للقول بوحدة الوجود، وإنما كان ذلك؛ لأني تبينت أن الحرية الذاتية قد تكون وهما من الأوهام، فأنا حين أتنفس، أو أتحدث، أو أحزن، أو أجذل، أو أسكن، أو أتحرك، أنا في جميع الأحوال موصول السرائر بالعالم كله، ومن آيات ذلك أني أتأثر بما لا أدرك من أحوال الوجود: فأسعد أو أشقى في سريرة نفسي بلا سبب معروف.
وقد حملني هذا الفهم على إقرار مبالغات الشعراء حين يحكمون بأن الشمس والقمر والنجوم جزعت لموت من يبكون من الأعزاء. وبدا لي أنه لا يبعد أن يجيء يوم يثبت فيه أنه لا تجف ورقة، ولا تسقط ثمرة، إلا ويتأثر الوجود كله تأثرا يتناسب مع الموجود الذي يناله الجفاف أو السقوط.
وهذه القوة الكهربائية التي تربط العالم بعضه ببعض تنفي الحرية الذاتية، وتجعلنا مقرونين إلى القطار الخالد، قطار الموجودات من أراض وبحار وأنهار وجبال وكواكب ونجوم، وما لا نعلم من أشتات الوجود.
قد تقولون: إن الله هو الذي خلق العالم وربطه بذلك الرباط الكهربائي الوثيق.
وهو كذلك، ولكن أين الله؟ أين كان قبل أن يخلق هذا الوجود؟
تقولون: إنه منزه عن الحيز والجهة والمكان.
صدقتم، ولكن انتظروا حتى تخلق الأفهام التي تتصور موجودا بلا حيز ولا جهة ولا مكان.
لا تظنوني أتسامى إلى حل هذه المشكلة حلا نهائيا، هيهات، وإنما أردت أن أبين كيف اضطر بعض الفلاسفة إلى القول بوحدة الوجود، والله وحده يعلم أين مكان الخطأ في هذه المسألة، وأين مكان الصواب.
تهافت من يقولون بهذه النظرية
والمهم أن نعرف الآن كيف يصح التكليف مع القول بوحدة الوجود.
ونسارع فنقرر أن الذين يقولون بوحدة الوجود يتهافتون كل التهافت حين يضعون قواعد الأخلاق؛ لأنهم لا يعرفون أين مناط الثواب والعقاب، وإن ظن العاملي أنه فصل في هذه القضية حين قال:
فإن قيل: فمن المثاب والمعاقب والمنعم والمعذب في الدار الآخرة إذا كان الوجود واحدا؟ أجيب بأن في الدنيا غني وفقير وعزيز وذليل ومالك ومملوك فكذلك في الدار الآخرة.
21
وهذا جواب ليس فيه شفاء.
وقد رجعت إلى سبينوزا أستفتيه فلم أجد عنده ما يقنع، فهو من القائلين بوحدة الوجود ومن الذين رفعوا علم هذه النظرية بين الفلاسفة الأوربيين، ولكنه يتهافت حين يتكلم عن الشخصية الخلقية، وكيف يكون للإنسان خلق وهو على حد تعبيره يحلم وعيناه مفتوحتان
22
إن سبينوزا يقضي بأن الأشياء جميعا تتعلق بإرادة الله، ولا يمكن تغيير ما تقوم عليه الأشياء إلا بتغيير إرادة الله وإرادة الله لا يلحقها تغيير؛ لأن هذا ينافي الكمال، وإذن لا يلحق الأشياء تعديل ولا تبديل.
22
إن غاية الأخلاق عند سبينوزا هي السعادة، والسعادة عنده ليست إلا طمأنينة النفس التي تنشأ من معرفة الله، والله هو كل الوجود، فأين الشخصية الإنسانية التي تحب وتبغض وتحسن وتسيء، في حرية واستقلال، حتى تصلح صلاحية واقعية للثواب والعقاب؟
إن القول بوحدة الوجود يأتي على قواعد الأخلاق من الأساس ، ونحن لا نملك التفريط في قواعد الأخلاق، ولا نملك النيل من أصول القوانين؛ لأن أقل محاولة من هذا النوع تعرض المجتمع للفساد، وتسوق الفلاسفة أنفسهم إلى مهاوي الفناء.
هل قال ابن عربي بوحدة الوجود؟
ولكن هل قال ابن عربي بوحدة الوجود؟
يجب أن نعترف بأن أصول الأخلاق عند ابن عربي تقوم على قواعد الشريعة، وهو في هذه المسألة لا يوارب ولا يحتال، وكل ما في الأمر أنه يقسم الناس إلى قسمين: قسم العوام وقسم الخواص، فالعوام لهم ظاهر الشرع، والخواص ينقسمون إلى طبقات، ولهم أن يفهموا الحقيقة بحسب ما يملكون من قوة الاستعداد، وقد اتفق له أن يصرح بأن «العالم لا يقدرون أن يخرجوا عن الحق فهو وجودهم ومنه استفادوا الوجود، وليس الوجود خلاف الحق خارجا عنه يعطيهم منه
23
بل هو الوجود وبه ظهرت الأعيان. يقول القائل بحضرة رسول الله
صلى الله عليه وسلم :
والله لولا «أنت» ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
والنبي يعجبه ذلك ويصدقه في قوله، فنحن به وإليه، فإذا نظرنا إلى ذواتنا وإمكاننا فقد خرجنا عنه، وإمكاننا يطلبنا بالنظر إليه، فإنه الموجد لنا بوجوده من وجوده».
24
ومعنى ذلك أننا موجودون بوجود الله؛ ونشتاق إليه لأنه أصل الوجود.
واتفق له أن يحكم بأن «الظاهرين بأمر الله لا يرون سوى الله في الأكوان وأن الأكوان عندهم مظاهر الحق».
25
وهذا له تأويل، وليس من المحتم أن يكون نصا في القول بوحدة الوجود.
وقد صرح بأنه «إذا تخللت المعرفة بالله أجزاء العارف من حيث ما هو مركب فلا يبقى فيه جوهر فرد إلا وقد حلت فيه معرفة ربه فهو عارف به بكل جزء منه، ولولا ذلك ما انتظمت أجزاؤه، ولا ظهر تركيبه، ولا نظرت روحانيته طبيعته، فبه تعالى انتظمت الأمور معنى وحسا وخيالا، وكذلك أشكال الإنسان لا تتناهى ولا ينتظم منها شكل إلا بالله».
26
ولهذا أيضا تأويل.
وعند مراجعة الفتوحات نجد إشارات كثيرة إلى مقامات الأولياء ونرى ابن عربي يتحفظ ويحترس، فلا ينص صراحة على وحدة الوجود، وإن كان دفاعه عن الحلاج يؤذن بارتياحه إلى هذه النظرية، ويشعر بأنه يتحامى التصريح خوفا من التعرض لحملات من يقفون عند الظواهر من الفقهاء.
ومن ذلك ما وقع له عند شرح هذين البيتين:
يا رب جوهر علم لو أبوح به
لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي
يرون أقبح ما يأتونه حسنا
فقد نقل أن الرسول قال: «إن الله خلق آدم على صورته» بإعادة الضمير على الله في بعض محتملاته، ثم بين أن الناس يسمعون هذا من النبي فيصدقون، فإذا قال الولي شيئا مثله أنكروا عليه وأباحوا دمه، مع أنه يمكن للولي أن يطلع على غوامض العلوم الإلهية كما يطلع الرسول.
27
وابن عربي شديد الولع بالمقارنات بين الرسل والأولياء، وعنده أن الرسل لا يتفردون إلا بمزية واحدة هي التشريع، أما الإطلاع على أسرار الوجود فهو من الحظوظ التي تتاح للأولياء.
وما أحسب الفرصة سنحت أبدا لابن عربي، الفرصة التي تمكنه من أن يقول: أنا الله، كما قال أبو يزيد وكما قال الحلاج، وهو حين يروي هذه الكلمة يلتمس لها مخارج من مقبول التأويل.
دفاع الشعراني عن ابن عربي
وتحفظ ابن عربي مكن من جاء بعده من الدفاع عنه، فقد قال السراج البلقيني: «كذب والله وافترى من نسبه إلى القول بالحلول والاتحاد»
28
وصنف السيوطي كتابا سماه «تنبيه الغبي في تبرئة ابن العربي» وقال الشعراني: «مما أنكره المتعصبون على الشيخ بحسب الإشاعة قولهم: إن الشيخ محيي الدين يقول بفساد قول: «لا إله إلا الله» وذلك كفر، والجواب بتقدير صحة ذلك عنه أن المراد أن الحق تعالى ثابت في ألوهيته قبل إثبات المثبت، ومن كان ثابتا لا يحتاج إلى إثباتك، إذ ما ثم من تثبت ألوهيته من الخلق حتى ينفي، وإنما تعبد المؤمن بذلك علي سبيل التلاوة ليؤجره الله علي ذلك... ومن ذلك دعاوى المنكر أن الشيخ يقول في كتبه مرارا: (لا موجود إلا الله) فالجواب أن معنى ذلك بتقدير صحته عنه أنه لا موجود قائم بنفسه إلا هو تعالى، وما سواه قائم بغيره، كما أشار إليه حديث: (ألا كل شيء ما خلا الله باطل) ومن كان حقيقته كذلك فهو إلى العدم أقرب، إذ هو وجود مسبوق بعدم، وفي حال وجوده متردد بين وجود وعدم لا تخلص لأحد الطرفين،
29
فإن صح أن الشيخ قال: (لا موجود إلا الله) فإنما قال ذلك عند ما تلاشت عنده الكائنات حين شهوده الحق تعالى بقلبه، كما قال أبو القاسم الجنيد: «من شهد الحق لم ير الخلق»، ومن ذلك دعوى المنكر أن الشيخ رحمه الله جعل الحق والخلق واحدا في قوله في بعض نظمه:
فيحمدني وأحمده
ويعبدني وأعبده
بتقدير صحة ذلك عنه، والجواب أن معنى يحمدني أنه يشكرني إذا أطعته، كما في قوله تعالى:
فاذكروني أذكركم . وأما في قوله: (ويعبدني وأعبده) أي: يطيعني بإجابته دعائي، كما قال تعالى:
لا تعبدوا الشيطان
أي: لا تطيعوه، وإلا فليس أحد يعبد الشيطان كما يعبد الله. وقد ذكر الشيخ في الباب السابع والخمسين وخمس مئة من الفتوحات المكية بعد كلام طويل ما نصه: وهذا يدلك صريحا على أن العالم ما هو عين الحق تعالى إذ لو كان عين الحق تعالى ما صح كون الحق تعالى بديعا.
30
ولولا تحفظ ابن عربي لما استطاع أن ينجو في حياته من القتل، ولما استطاع مريدوه من بعد أن ينفوا عنه القول بوحدة الوجود أو الحلول، وسنرى عبد الغني النابلسي يقبح من يقول: بالحلول أو وحدة الوجود، والنابلسي كان من المفتونين بابن عربي ومن الذين اهتموا بأشعاره فرووها وتعقبوها بالتشطير والتخميس.
صور من شقاء العلماء والأولياء
والشعراني مطمئن كل الطمأنينة إلى أن خصوم ابن عربي زوروا عليه مسائل كثيرة، وحدثنا أن شخصا من اليمن اسمه جمال الدين بن الخياط كتب مسائل في درج وأرسلها إلى العلماء ببلاد الإسلام وقال: هذه عقائد الشيخ محيي الدين بن العربي وذكر فيها عقائد زائغة ومسائل خارقة لإجماع المسلمين، فكتب العلماء على ذلك بحسب السؤال وشنعوا على من يعتقد ذلك من غير تثبت، والشيخ عن كل ذلك بمعزل.
31
ومن قبل الشعراني تعصب الفيروزآبادي صاحب القاموس لابن عربي ودافع عنه أحر دفاع.
32
وفي كتاب اليواقيت أسماء لطائفة من أعلام الفقهاء نفوا عن ابن عربي كل ريبة وأثنوا عليه أطيب الثناء.
وهذا كله يشهد بأن ابن عربي لم يمكن خصومه من مطاردته وهو حي، وإن كان من الممكن جدا أن يكون ستر آراءه حين اصطنع بعض الرموز والإشارات على نحو ما فعل أقطاب الصوفية الذين لم يروا فائدة في التعرض للقتل.
دوران ابن عربي حول وحدة الوجود
والإساءة إلى ابن عربي في دينه وعقيدته ساقت إلينا وثيقة أدبية قليلة الأمثال، وثيقة يجب تدوينها في هذا الكتاب؛ لتكون شاهدا على أثر التصوف في الأدب، ولتكون عبرة لمن يسوءه أن يناله الأذى من الناس بسبب الحرية في الفكر والقول.
وهل من القليل في متعة العقل والذوق أن نتذكر أن أبا الدرداء قال: أزهد الناس في العالم أهله وجيرانه، إن كان في حسبه شيء عيروه، وإن كان عمل في عمره ذنبا عيروه.
وأن كعب الأحبار قال: ما كان رجل حليم في قومه قط إلا بغوا عليه وحسدوه.
وأن الجلال السيوطي قال: ما كان كبير في عصر قط إلا كان له عدو من السفلة، إذ الأشراف لم تزل تبتلى بالأطراف، فكان لآدم إبليس، وكان لنوح حام وغيره، وكان لداود جالوت وأضرابه، وكان لسليمان صخر، وكان لعيسى بختنصر، وكان لإبراهيم النمرود، وكان لموسى فرعون، وهكذا إلى محمد
صلى الله عليه وسلم
له أبو جهل.
وكان لابن عمر عدو يعبث به كلما مر عليه.
ونسبوا عبد الله بن الزبير إلى الرياء والنفاق في صلاته فصبوا على رأسه ماء حميما فزلع وجهه ورأسه وهو لا يشعر، فلما سلم من صلاته قال: ما شأني؟ فذكروا له القصة فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل! ومكث زمانا يتألم من رأسه ووجهه.
وكان لابن عباس نافع بن الأزرق، كان يؤذيه أشد الأذى ويقول: إنه يفسر القرآن بغير علم.
وكان لسعد بن أبي وقاص جهلة من رجال الكوفة يؤذونه مع أنه مشهود له بالجنة، وشكوه إلى عمر بن الخطاب وقالوا : إنه لا يحسن أن يصلي.
ولا يخفى ما قاساه الإمام أبو حنيفة مع الخلفاء، وما قاساه الإمام مالك واستخفاؤه خمسا وعشرين سنة لا يخرج لجمعة ولا جماعة، وكذلك ما قاساه الإمام الشافعي من أهل العراق وأهل مصر،
33
وكذلك لا يخفى ما قاساه الإمام أحمد بن حنبل من الضرب والحبس، وما قاساه البخاري حين أخرجوه من بخارى إلى خرتنك.
وقد نفى أبو يزيد البسطامي سبع مرات من بسطام بواسطة جماعة من علمائها.
وشيعوا ذا النون المصري من مصر إلى بغداد مقيدا مغلولا وسافر معه جماعة من أهل مصر يشهدون عليه بالزندقة.
ورموا سمنون المحب بالعظائم، ورشوا امرأة من البغايا فادعت عليه أنه يأتيها هو وأصحابه، واختفى بسبب ذلك سنة.
وأخرجوا سهل بن عبد الله التستري من بلده إلى البصرة ونسبوه إلى قبائح وكفروه مع إمامته وجلالته.
ورموا أبا سعيد الخراز بالعظائم وأفتى العلماء بكفره بألفاظ وجدوها في كتبه.
وشهدوا على الجنيد بالكفر مرارا حين كان يتكلم في علم التوحيد على رءوس الأشهاد فصار يقرره في عقر بيته إلى أن مات.
وأخرجوا محمد بن الفضل البلخي من بلخ لكون مذهبه كان مذهب أهل الحديث من إجراء آيات الصفات وأخبارها على ظاهرها بلا تأويل والإيمان بها على علم الله فيها، ولما أرادوا إخراجه قال: لا أخرج إلا إن جعلتم في عنقي حبلا ومررتم بي في أسواق البلد وقلتم: هذا مبتدع نريد أن نخرجه من بلدنا، ففعلوا ذلك وأخرجوه. فالتفت إليهم وقال: يا أهل بلخ، نزع الله من قلوبكم معرفته! قال الأشياخ: فلم يخرج بعد دعوته عليهم تلك من بلخ صوفي أبدا، مع أنها كانت أكبر بلاد الله صوفية.
وأخرجوا أبا عثمان المغربي من مكة مع كثرة مجاهدته وتمام علمه وحاله وضربوه ضربا مبرحا، وطافوا به على جمل فأقام ببغداد إلى أن مات.
وشهدوا على الشبلي بالكفر مرارا مع تمام علمه وكثرة مجاهداته وأدخله أصحابه البيمارستان؛ ليرجع الناس عنه مدة طويلة.
وأخرجوا الإمام أبا بكر النابلسي مع فضله واستقامته في طريقته من المغرب إلى مصر، وشهدوا عليه بالزندقة عند سلطان مصر فأمر بسلخه منكوسا فصار يقرأ القرآن وهم يسلخونه بتدبر وخشوع حتى قطع قلوب الناس وكادوا يفتنون به.
ورموا الشيخ أبا مدين بالزندقة وأخرجوه من بجاية إلى تلمسان.
وأخرجوا أبا الحسن الشاذلي من مصر، وشهدوا عليه بالزندقة.
ورموا عز الدين بن عبد السلام بالكفر وعقدوا له مجلسا في كلمة قالها في عقيدته وحرشوا السلطان عليه.
ورموا تاج الدين السبكي بالكفر، وشهدوا عليه أنه يقول: بإباحة الخمر والفاحشة وأنه يلبس في الليل الغيار والزنار، وأتوا به مغلولا مقيدا من الشام إلى مصر، وخرج جمال الدين الأسنوي فتلقاه من الطريق وحكم بحقن دمه.
قال الشعراني: وإنما ذكرنا لك يا أخي محن هذه الأمة من المتقدمين والمتأخرين تأنيسا لك، لتقبل على مطالعة كتب الصوفية، ولا سيما الشيخ محيي الدين؛ لأن هؤلاء الأئمة ثناؤهم عندنا كالمسك الأذفر، فكما لا يقدح في كمالهم ما قيل فيهم كذلك لا يقدح ما قيل في كمال الشيخ محيي الدين.
34
وهذه الوثيقة النفيسة صدرها الشعراني بقول السيوطي: ومما أنعم الله به علي أن أقام لي عدوا يؤذيني ويمزق عرضي: ليكون لي أسوة بالأنبياء والأولياء، وقد حدثنا أن النسيمي كان يقطع أهل حلب بالحجج فاحتالوا له. وكانت الحيلة أن كتبوا سورة الإخلاص في ورقة ورشوا من يخيط النعال وقالوا: هذه ورقة محبة وقبول فضعها لنا في أطباق النعل، ثم أخذوا ذلك النعل وأهدوه إلى الشيخ من طريق بعيدة فلبسه وهو لا يشعر،
35
ثم طلعوا لنائب حلب وقالوا له: قد بلغنا من طريق صحيحة أن النسيمي كتب
قل هو الله أحد ، وجعلها في طباق نعله، وإن لم تصدقنا فأرسل وراءه وانظر ذلك، ففعل، فاستخرجوا الورقة، فسلم الشيخ لله تعالى ولم يجب عن نفسه وعلم أنه لا بد أن يقتل على تلك الصورة.
قال الشعراني: وأخبرني بعض تلامذة تلامذته أنه صار ينشئ
36
موشحات في التوحيد وهم يسلخونه حتى عمل خمس مئة بيت، وكان ينظر إلى الذي يسلخه وهو يبتسم.
رأيه في نشوء الموجودات
قد يسأل القارئ : وهل لنقل هذه الوثيقة أهمية في بناء هذا الفصل غير العبرة والتأسي؟
ونجيب بأن لها أهمية أعظم من تلك، فإن الشعراني استطرد في ذكر ما ابتلي به الأئمة والأولياء وتجاهل شخصية واحدة لقيت الحتف في سبيل الحق، وتلك شخصية الحلاج الذي أوذي أبلغ إيذاء، وإنما تجاهل الشعراني شخصية الحلاج؛ لأنه كان يقول: بوحدة الوجود، وذكره بالخير في مثل هذا السياق قد يعرض ابن عربي لتهمة لا يرضاها له صاحب اليواقيت.
الحقيقة المحمدية
قلنا: إن ابن عربي تحفظ واحترس ليسلم من القتل، فهل تكون سلامته من القتل هي الدليل على أنه لم يتورط في القول بوحدة الوجود؟
نعم، سلامة ابن عربي من القتل هي الشاهد على ذلك؛ لأن القول بوحدة الوجود كان من علائم الزيغ والضلال، وهذه النظرية تبدو لأول وهلة غاية في السخف، ومن الذي يتوسم العقل في رجل يقف على قارعة الطريق ويقول: «أنا الله» مع أنه لا يستطيع أن يقول: «أنا حاكم هذا البلد»، وقد يكون في حالة من المتربة لا تمكنه من أن يقول: «أنا صاحب هذا الثوب!!»
والفطرة الإنسانية تنكر أشد الإنكار أن يقول مخلوق: «أنا الله»، وكان القائلون بوحدة الوجود لا يحلو لهم غير هذا التعبير، وهو تعبير شائك، وكان جزاؤهم عليه أن يسلخوا أمام الناس.
37
أثر ابن عربي في الأدب والأخلاق
تهيب ابن أن يصرح بوحدة الوجود، ونفاها عنه كثير من أقطاب العلماء. ولكن هل تصرفنا هذه المناورات عن معرفة رأيه في وحدة الوجود؟
الواقع أنه يدور حول هذه النظرية ويكاد يفصح عنها بقوله في الفصوص:
فلولاه ولولانا
لما كان الذي كانا
فإنا أعبد حقا
وإن الله مولانا
وإنا عينه فاعلم
إذا ما قلت: إنسانا
فلا تحجب بإنسان
فقد أعطاك برهانا
فكن حقا وكن خلقا
تكن بالله رحمانا
وغذ خلقه منه
تكن روحا وريحانا
فأعطيناه ما يبدو
به فينا وأعطانا
فصار الأمر مقسوما
بإياه وإيانا
38
وهو في الفتوحات يصل إلى هذه النظرية عن طريق التدرج في ترتيب الموجودات فيقول:
اعلم أن المعلومات أربعة: الحق تعالى، وهو الموصوف بالوجود المطلق؛ لأنه سبحانه ليس معلولا لشيء ولا علة، بل هو موجود بذاته، والعلم به عبارة عن العلم بوجوده، ووجوده ليس غير ذاته، مع أنه غير معلوم الذات، لكن يعلم بما هو عليه من صفات المعاني وهي صفات الكمال، وأما العلم بحقيقة ذاته فممنوع لا يعلم بدليل ولا برهان عقلي ولا يأخذها حد، فإن الله سبحانه لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء، فكيف يعرف من يشبه الأشياء وتشبهه من لا يشبهه شيء ولا يشبه شيئا، فمعرفتك به إنما هي أنه ليس كمثله شيء ... ومعلوم ثان، هو الحقيقة الكلية التي هي للحق وللعالم، لا تتصف بالوجود ولا بالعدم، ولا بالحدوث ولا بالقدم، إذ هي في القديم إذا وصف بها قديمة، وفي المحدث إذا وصف بها محدثة، فلا تعلم المعلومات قديمها وحديثها حتى تعلم هذه الحقيقة، ولا توجد هذه الحقيقة حتى توجد الأشياء الموصوفة بها، فإن وجد شيء من غير عدم متقدم كوجود الحق وصفاته قيل فيها: موجود قديم لاتصاف الحق بها، وإن وجد شيء عن عدم كوجود ما سوى الله تعالى وهو المحدث الموجود بغيره قيل فيها: محدثة، وهي في كل موجود بحقيقتها فإنها لا تقبل التجزؤ فما فيها كل ولا بعض، ولا يتوصل إلى معرفتها مجردة عن الصورة بدليل ولا برهان، ومن هذه الحقيقة وجد العالم بوساطة الحق تعالى، ولم تكن بموجودة فيكون الحق قد أوجدنا من موجود قديم يثبت لنا القدم، وكذلك لتعلم أيضا أن هذه الحقيقة لا تتصف بالتقدم على العالم ولا بالتأخر عنه، ولكنها أصل الموجودات عموما، وهي أصل الجوهر وفلك الحياة والحق المخلوق به، وغير ذلك، وهي الفلك المحيط المعقول، فإن قلت: إنها العالم صدقت، أو إنها ليست العالم صدقت، أو إنها الحق أو ليست الحق صدقت، تقبل هذا كله وتتعدد بتعدد أشخاص العالم، وتتنزه بتنزيه الحق. وإن أردت مثالها حتى تقرب إلى فهمك فانظر في العودية في الخشبة والكرسي والمحبرة والمنبر والتابوت، وكذلك التربيع وأمثاله من الأشكال في كل مربع مثلا من تابوت وبيت وورقة، فالتربيع والعودية يحققانها في كل شخص من هذه الأشخاص، وكذلك الألوان كبياض الثوب والجوهر والكاغد والدهان والدقيق، من غير أن تتصف البياضية المعقولة بالانقسام حتى يقال: إن بياض الثوب جزء منها، بل حقيقتها ظهرت في الثوب كما ظهرت في الكاغد، وكذلك العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر وجميع الأسماء كلها. ومعلوم ثالث وهو العالم كله، الأملاك والأفلاك وما تحويه من العوالم والهواء والأرض وما فيهما من العالم وهو الملك الأكبر. ومعلوم رابع وهو الإنسان الخليفة الذي جعل الله هذا العالم المقهور تحت تسخيره.
39
فهذا الكلام هو القول بوحدة الوجود، وإن لم يعبر عنه باللفظة الاصطلاحية، فالحقيقة الكلية هي العالم وهي الحق (فإن قلت: إنها العالم صدقت، أو إنها ليست العالم صدقت، أو إنها الحق أو ليست الحق صدقت).
والقائلون: بوحدة الوجود يقولون: إنها لا تنافي أحدية الحق؛ لأن ما صدر عنه ليس إلا ضربا من التعينات، وهذه التعينات تتكثر وتتغير، ولكن الحق في أحديته لا يتكثر ولا يتغير، يقول القاشاني: «فإن تجلى في صورة أحديته الذاتية كان الله ولم يكن معه شيء وبطنت فيه الأعداد الغير المتناهية بطون النصفية والثلثية والربعية في الواحد، فإنها لا تظهر إلا بالعدد... وإن تجلى في صورة تعيناته ومراتب تجلياته أظهر الأعداد وأنشأ الأزواج، وتلك مراتب تنزلاته، وليس في الوجود إلا هو».
40
وقال ابن عربي:
فلولاه ولولانا
لما كان الذي كانا
أي: أننا جزء أصيل من الوجود، ولو ذهبنا لا نعدم الجزء الظاهر من الوجود، وظهوره لا ينفي أنه أصيل... ويقول ابن عربي أيضا في ختام الفصوص:
قال تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، أي: لا أظهر له إلا في صورة معتقده، فإن شاء أطلق وإن شاء قيد، فإله المعتقدات تأخذه الحدود فهو الإله الذي وسعه قلب عبده، فإن الإله المطلق لا يسعه شيء؛ لأنه عين الأشياء وعين نفسه، والشيء لا يقال فيه: يسع نفسه ولا يسعها.
ومعنى ذلك أن هناك إلهين - وهما إله واحد - الإله الأول إله المعتقدات، والإله الثاني هو المطلق ، والأول يسعه قلب العبد، والثاني لا يسعه شيء؛ لأنه عين نفسه وعين الأشياء.
وبقليل من التصرف نستطيع أن نحكم بأنه يقول: بوحدة الوجود ما دام الله عين الأشياء، وما دام العالم من الأشياء.
41
وقد بدا لابن عربي أن يفصل نشأة الخلق فقال:
بدء الخلق الهباء، وأول موجود فيه الحقيقة المحمدية الرحمانية الموصوفة بالاستواء على العرش الرحماني وهو العرش الإلهي ولا أن يحصرها لعدم التحيز. ومم وجد؟ وجد من الحقيقة المعلومة التي لا تتصف بالوجود ولا بالعدم. وفيم وجد؟ في الهباء. وعلى أي مثال وجد؟ على المثال القائم بنفس الحق المعبر عنه بالعلم به. ولم وجد؟ لإظهار الحقائق الإلهية. وما غايته؟ التخلص من المزجة فيعرف كل عالم حظه من منشئه من غير امتزاج، فغايته إظهار حقائقه ومعرفة أفلاك العالم الأكبر وهو ما عدا الإنسان، والعالم الأصغر يعني الإنسان روح العالم وعلته وسببه وأفلاكه ومقاماته وحركاته وتفصيل طبقاته ... فكما أن الإنسان عالم صغير من طريق الجسم كذلك هو أيضا إله حقير من طريق الحدوث؛ وصح له التأله لأنه خليفة الله في العالم. والعالم مسخر له مألوه، كما أن الإنسان مألوه لله.
42
والحقيقة المحمدية هذه مدهشة؛ لأنه يرد إليها كل شيء، فهي الموصوفة بالاستواء على العرش الرحماني، وهي لا تتحيز فلا يحصرها أين، ومفهوم جدا أن هذه حالة إلهية، والإنسان إله ومألوه في وقت واحد؛ هو إله لأنه يتصرف في الكون؛ وهو مألوه لأنه نشأ عن الحق: أي: أن له درجتين، درجة العبودية ودرجة الألوهية، أفيكون هذا كل شيئا غير القول بوحدة الوجود؟
إن القائلين بوحدة الوجود ليسوا من الحمق بحيث يتصورون أن النسبة واحدة بين جميع الموجودات، ولا مفر لهم من الاعتراف بأن الحقائق تختلف، وأن بعض الموجودات أعظم من بعض، والمجذوب الذي وقف وقال: «أنا الله» لم يكن يفهم إلا أنه جزء من الحقيقة الأبدية التي لا تتصور بغير ما نشهد من الوجود.
وخلاصة القول: أن ابن عربي لا يعرف النظرية البسيطة نظرية التوحيد التي تقضي بأن الله منفصل كل الانفصال عن العالم، وأن نسبة العالم إليه هي النسبة بين «كن فيكون» ابن عربي لا يعرف الأحدية الذاتية إلا عن طريق الفرض، أي: حين يغض بصره فلا يرى الوجود، ولكنه حين يشهد العالم يقسمه إلى طبقات بعضها معلول لبعض، ويجعل الحقيقة المحمدية أصل ما في الوجود.
وهنا عبارة مريبة وهي قوله: بأن غاية الخلق التخلص من المزجة فيعرف كل عالم حظه من منشئة بغير امتزاج.
فما سر هذه العبارة؟ أيكون معناها أن العالم كان في ضمير الحق على نحو ما تكون الأشجار البواسق في ضمائر البذور؟
إن ابن عربي يكاد يفصح عن ذلك حين يقول:
كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان، لم يرجع إليه من إيجاده العالم صفة ما لم يكن عليها، بل كان موصوفا لنفسه ومسمى قبل خلقه بالأسماء التي يدعوه بها خلقه، فلما أراد وجود العالم وبدءه على حد ما علمه بعلمه بنفسه انفعل عن تلك الإرادة المقدسة بضرب تجل من تجليات التنزيه إلى الحقيقة الكلية، حقيقة تسمى الهباء، هي بمنزلة طرح البناء الجص ليفتح فيه ما شاء من الأشكال والصور، وهذا هو أول موجود في العالم ... ثم إنه سبحانه وتعالى تجلى بنوره إلى ذلك الهباء، ويسميه أصحاب الأفكار بهيولي الكل، والعالم كله فيه بالقوة والصلاحية، فقبل منه تعالى كل شيء في ذلك الهباء على حسب قوته واستعداده كقبول زوايا البيت نور السراج.
43
ومن هذه الفقرة نفهم أن ابن عربي متأثر كل التأثر بمذاهب الحكماء، ونعرف أنه بعيد عن بساطة التوحيد كل البعد، ونفهم أنه يضمر القول: بوحدة الوجود.
44
النابلسي والشعراني والقاشاني
بقي أن ننص على أن هذه المناورات التي اصطنعها محيي الدين كان لها أثر بليغ في عمق الثقافة الصوفية، فلو أن هذا الرجل كان أفصح عن غرضه بمثل ما أفصح الحلاج لشفى الناس صدورهم منه بالقتل، ولكنه حين آثر الرموز والإشارات فتح الباب أمام الدارسين من الصوفية والفقهاء فكانت كتبه مبعث نهضة أدبية قليلة الأمثال، وهذا بيت القصيد: فإن تصوف ابن عربي كان بليغ الأثر في حياة الأدب وحياة الأخلاق، ومن أجل هذا صح أن تكون له منزلة عظيمة في بناء هذا الكتاب.
إن ابن عربي لا تعرف أهميته في عالم الأدب والأخلاق إلا إذا فكرنا جيدا فيما ترك من الثروة الأدبية والأخلاقية، يجب أن نتذكر أنه ترك ألوف الصفحات ومئات القصائد، وأنه راض اللغة على الطواعية للرموز والإشارات، وأنه علم الناس كيف يخوضون في أخطر الأحاديث ثم يسلمون، وأنه هضم ما درس من الفلسفة اليونانية ومن أصول الديانة اليهودية والديانة النصرانية والديانة الإسلامية، ثم أحال ذلك كله إلى مزاج من الفكر الفلسفي الدقيق يعز على من رامه ويطول.
ويجب أن نتذكر خطر المؤلفات التي صنفت في الرد عليه، أو الدفاع عنه، فتلك حركة فكرية لا يمكن إغفالها عند تقويم أثر ذلك الباحث الجليل.
جامع الشعراني بالقاهرة، والشعراني أشهر من ألف في التصوف بين المصريين.
تأثير ابن عربي في البيئات النصرانية
ولا يتسع المجال لبيان أثر ابن عربي فيمن جاء بعده من المفكرين، ولكن لا بد من الإشارة إلى شخصيات ثلاث كان له عليها فضل أي فضل.
الأولى شخصية عبد الغني النابلسي، وسنتحدث عن أشعاره الصوفية، وابن عربي له أثر بليغ في تكوين هذه الشخصية، وإن كان النابلسي في ذاته أضعف من أن يدرك ابن عربي تمام الإدراك.
والحق أن النابلسي مدين للعصر الذي نشأ فيه، فقد كان عصر انحطاط يستكثر فيه القليل، ولولا ذلك ما أمكن أن يلتفت إليه الناس.
الشخصية الثانية شخصية الشعراني، وهي شخصية جذابة كان لها في مصر مقام ملحوظ.
ولد الشعراني في قلقشندة سنة 898، ونشأ بساقية أبي شعرة، وهي بلدة قريبة من سنتريس، وإلى ساقية أبي شعرة ينسب الشعراني، ثم تفقه على علماء القاهرة. وشغل نفسه بالتصوف ففتن فتنة عظيمة بأدب محيي الدين. وألف في شرح آرائه كتابا طريفا سماه «اليواقيت والجواهر: في بيان عقائد الأكابر» واختصر كتاب الفتوحات. وتوفي - رحمه الله - سنة 973.
والشعراني يحرص كل الحرص على تبرئة ابن عربي من فتنة القول : بوحدة الوجود أو بالحلول،
45
وهو يصر إصرارا جازما على أن مؤلفات ابن عربي أضيفت إليها زيادات أراد بها الدساسون تشويه سمعته في العالم الإسلامي.
والذي نراه أن الشعراني أسرف بعض الإسراف حين جعل ابن عربي من أهل السنة والجماعة، وحين نفى عنه ما يصدر عن مثله من الشطحات الصوفية، ولكن إسراف الشعراني مقبول؛ لأنه صدر عن إخلاص.
46
الشخصية الثالثة شخصية القاشاني شارح الفصوص المتوفى سنة 887، وهذا الرجل يختلف عن الشعراني كل الاختلاف، فهو يفهم أن ابن عربي يقول: بوحدة الوجود، وهو يشرح الفصوص على هذا الأساس. وشرح القاشاني يستحق الدرس؛ لأن مؤلفه من المفكرين؛ ولأن فيه حقائق لا يطوف بها إلا قليل من العقول.
ولنذكر على سبيل المثال ميلاد عيسى عليه السلام، فإن القاشاني يكاد يجعله ميلادا طبيعيا ويوافق ابن عربي في أن جسم عيسى خلق من ماء محقق من مريم وماء متوهم من جبريل سرى في رطوبة ذلك النفخ، ويقرر أن جبريل لما دنا من مريم في صورة البشر تحركت شهوتها بحكم البشرية؛ لأن أكثر هيجان الشهوة في النساء وقت النقاء من الحيض، وكان انتباذها للاغتسال وقت انقطاع الدم، وكان الوقت وقت غلبة الشهوة ففرحت بدنو هذا الشاب المليح فاحتلمت وجرى ماؤها مع النفخ إلى الرحم النقي الطاهر فعلقت، وخلق عيسى من ماء محقق من مريم وماء متوهم متخيل من نفخ جبريل؛ لأن النفخ من الحيوان رطب فيه أجزاء لطيفة مائية بالفعل مع أجزاء هوائية سريعة المصير إلى الماء.
ثم يقول:
وأما كون عيسى على صورة البشر فلانتسابه إلى أمه ولتمثل جبريل في صورة البشر السوي، فكان تكونه على السنة المعتادة والحكمة المتعارفة؛ ولأن أشرف الصور هي الصورة الإنسانية المخلوقة على صورة الله تعالى المكرمة عند الله؛ ولأن الله لا يتجلى في الحضرات الإيجادية إلا في صورة النوع الذي يوجده؛ ولهذا لما خمر طينة آدم بيده أربعين صباحا كان متجليا في صورة إنسانية.
47
وبقليل من التأمل نفهم أنه يكاد يصرح بالامتزاج بين الطبيعة الإنسانية والطبيعة الإلهية، وذلك هو القول بوحدة الوجود.
وجملة الأمر أن القاشاني يساير ابن عربي مسايرة تامة، ابن عربي الذي يعرفه هو، لا ابن عربي الذي يعرفه الشعراني، فإن الفرق بين الشخصيتين بعيد.
تأثيره في الجيل الحديث
ولكن هل وقف تأثير ابن عربي عند البيئات الإسلامية؟
لا، فقد سرى روحه إلى البيئات المسيحية ولون أفكارها بعض التلوين.
ويؤكد بعض المستشرقين أن دانتي تأثر بابن عربي حين نظم الكوميديا الإلهية، وأن معظم ما جاء به دانتي كان ألفه ابن عربي من قبل، وأن الرجلين يتشابهان في الصور والأمثال والاصطلاحات والأساليب الفنية. ومن المعقول أن يتفق اثنان في فكرة عامة، فهذا من توارد الخواطر، أما اتفاق اثنين في الفكرة والصورة فأمر لا يفسر إلا بالنقل أو المحاكاة. «فالله عند كليهما (نور)؛ ولذلك فكل منهما يستعمل الانعكاس والشعاع والبروق والنورانية للتعبير عن مراده. و(تجلي) هذا النور موصوف بنفس التشابيه والمجازات. كما أن مثل الدائرة ومركزها لإظهار علاقة الخلق بالخالق ومثل المرآة كعلاقة للحقير مع العظيم التي استعملها ابن عربي كثيرا ما نراهما في الكوميديا الإلهية».
48
وقد نسج دانتي على منوال ابن عربي في خواص الأرقام، وقد خصها ابن عربي في الفتوحات بفصول طوال. وتفسير الأحلام على الطريقة الصوفية نقله دانتي عن ابن عربي، فقد رأى دانتي ربه في منامه على هيئة شاب جميل في ثياب بيض، وابن عربي تجسد له ربه كما تجسد جبريل للرسول، وإن كان يجعل ذلك من صنعة الخيال فيقول:
ولقد بلغ بي قوة الخيال أن كان حبي يجسد لي محبوبي من خارج عيني كما كان يتجسد جبريل لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
فلا أقدر أنظر إليه، ويخاطبني وأصغي إليه وأفهم عنه. ولقد تركني أياما لا أسيغ طعاما، كلما قدمت إلي المائدة يقف على حرفها وينظر إلي ويقول لي بلسان أسمعه بأذني: أتأكل وأنت تشاهدني؟ فأمتنع من الطعام ولا أجد جوعا، وأمتلئ منه حتى سمنت وثملت من نظري إليه، فقام لي مقام الغذاء، وكان أصحابي وأهل بيتي يتعجبون من سمني مع عدم الغذاء؛ لأني كنت أبقى الأيام الكثيرة ولا أذوق ذواقا ولا أجد جوعا ولا عطشا، لكنه كان لا يبرح نصب عيني في قيامي وقعودي وحركتي وسكوني.
49
ومن ملاحظات نيكلسون التي نقلها الطيباوي
50
أن الذي يقابل ما كتب دانتي وما كتب ابن عربي يشهد اختلاط الشعر بالنثر عند الكاتبين، وقد بين رغبته في شرح قصائده في الحب كما فعل ابن عربي حين عزم على شرح قصائد «ترجمان الأشواق».
وذهب دانتي بعد موت حبيبته بياتريس (Beatrice)
إلى مكان منفرد فصادفته فتاة جميلة هام بها ولم يقدر على البوح بحبه فنظم فيها قصائد غرامية، ولما ذهب ابن عربي إلى مكة هام بفتاة أصبهانية فنظم فيها قصائده «ترجمان الأشواق».
51
وقد يمكن أن يقال: إن حرص المستشرقين على تعقب الأصول الفكرية هو الذي حملهم على تجسيم قوة ابن عربي في سيطرتها على دانتي.
ولكن الذي لا يمكن نكرانه أن ابن عربي شغل الناس في عصره وبعد عصره، وكان النصارى في الأقطار الإيطالية والفرنسية والإسبانية يتشوفون إلى المعارف الإسلامية؛ لأنها في الأغلب كانت تمس المسائل الميتافيزيكية، وكان النصارى في القرون الوسطى يهتمون بهذه المسائل ويجعلونها محور المجادلات في الكنائس والديارات.
قد تقولون: وأين ابن عربي اليوم؟ أين آثاره في الأدب والأخلاق؟
ونجيب بأن لابن عربي منزلة عظيمة في أوساط المستشرقين، وما كتب عنه في دائرة المعارف الإسلامية يشهد بأنه عندهم من أعاظم الرجال. أما في مصر فلم أر من كتب عنه بطريقة جدية غير الدكتور أبي العلا عفيفي، في بحثين نشرهما بمجلة كلية الآداب وهما بحثان جيدان لا يعاب عليهما غير الغموض. ولكن أثره في الجماهير الإسلامية خمد منذ زمان؛ ولم أسمع صداه إلا في مكانين، الأول: حين فتن به صديقي الأستاذ عبد الحفيظ خليفة، فقد حوله إلى رجل مجذوب، والثاني: حين اصطفاه أستاذنا الشيخ محمد شاكر فجعل فواتحه سجلا لمواليد أبنائه النجباء، تيمنا بما فيه من أدب ودين.
52
واقترحت مرة على الأستاذ الشيخ علي عبد الحميد مبارك أن ينتفع بكتاب الفتوحات في دروس الوعظ، فأجابني بأن مشيخة الأزهر تمنع ذلك: لأنها لا تريد أن تنقل إلى العوام دقائق علم التصوف، فقلت: انتفع بكتاب الإحياء، فقال: ولا كتاب الإحياء.
ضريح الحلاج في بغداد، والحلاج أشهر من استشهدوا في سبيل القول بوحدة الوجود.
وهذا يشرح جانبا من العقلية الدينية في مصر لهذا العهد، فالأزهر لا يريد أبدا نشر الثقافة الصوفية، وهذه المقاومة هي في ذاتها مظهر من سلطة التصوف في عالم الأخلاق.
وقد حدث في العام الماضي (سنة 1354ه) أن فكرت مشيخة الأزهر في مقاومة التصوف مقاومة رسمية، وكتب فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي كتابا في ذلك إلى وزير الأوقاف السابق سعادة عبد العزيز بك محمد، ولكن وقع أن رد عليه السيد عبد الحميد البكري بجواب فيه عنف، وكانت هذه المصاولة إحياء للاصطدامات القديمة بين الشريعة والحقيقة، وكانت بين المذهبين تراث سيرى القارئ بعض أخبارها في مقدمة القسم الثاني من هذا الكتاب. •••
أما بعد فقد آن أن نكتفي بما أسلفنا من الكلام في شخصية محيي الدين بن عربي؛ لأننا لا نكتب عنه كتابا، وإنما نكتب فصلا من كتاب، والإيجاز يطلب في بعض الأحوال.
ويكفي أن يتذكر القارئ أن ابن عربي سيشغل الناس ما دام في الدنيا إنسان يهمه درس التصوف الإسلامي، وسيشغل الناس ما دام في الدنيا إنسان يهمه الوقوف على ما صنع الذكاء في درس أسرار الوجود.
لا تقولوا: أخطأ ابن عربي أو أصاب، ولكن قولوا: إنه رجل قضى العمر كله في محاورة العقل ومناجاة الروح.
فإن لم يكن بد في ختام هذا البحث من شطحة أدبية تذكر بشطحات الصوفية، فإني أصرح بأن في آثار ابن عربي ما يقبل كل القبول، أو بعض القبول، إلا ديوان شعره فإنه فيما أرى لغو وفضول:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها
كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
وسلام على ابن عربي بين أعلام الفكر وأقطاب البيان.
مصرع الحلاج
الحقيقة العيسوية والحقيقة المحمدية والحقيقة العلوية
فصلنا نظرية وحدة الوجود كل التفصيل، فلنقل كلمة عن أشهر ضحايا هذه النظرية وهو الحسين بن منصور الحلاج.
1
والحلاج (رضي الله عنه) يشبه المسيح عليه السلام من نواح كثيرة، منها كثرة السياحات، وقوة التنسك، وكثرة الأتباع، وبشاعة المصير إلى الصلب.
والتشابه بين المسيح والحلاج قوي جدا من الناحية العقلية، فالمسيح كان يقول بوحدة الوجود، كما قال الحلاج بوحدة الوجود.
ونسارع فنقرر أننا لا نفكر في معارضة النظرية القرآنية التي تبرئ المسيح من القول: بأنه ابن الله، فالقرآن يريد أن يضع المسيح في أحسن الأحوال التي ترتضيها النظرية الإسلامية، وهي تفرق بين الله وبين العباد، وتفصل بين الرب وبين المربوب.
إن تقرير القرآن لعقيدة المسيح لا يمنع من أن ننظر إليه نظرة فلسفية بعد التأمل في النظرية النصرانية، وهي نظرية نرفضها تأدبا بأدب القرآن، ولكننا نستبيح درسها لنشرح بها فرضا من الفروض الفلسفية.
تشيع الحلاج
يجمع النصارى على أن المسيح قال: إنه ابن الله، ولهم في تفسير هذه العبارة مذاهب، فالعوام رأوها عبارة حقيقية، والخواص رأوها عبارة مجازية.
وأظرف تفسير هو ما ارتضاه رينان
Renan
في كتابه «حياة يسوع»
La Vie de Jésus ، وهو يقول: إن ذلك تصوير للعطف بين الرب والمربوب، يعني أن الله ينظر إلى عيسى كما ينظر الأب الرحيم إلى ابنه الغالي.
وعبارة «أنا ابن الله» عبارة تستحق الدرس، فإن لم تكن من قول المسيح فقد قال بها أتباع المسيح.
فما المراد بهذه العبارة من الوجهة الفلسفية؟
أنا أظن - وبعض الظن إثم وبعضه غير إثم - أن هذه العبارة تشبه ما سماه الصوفية بالحقيقة المحمدية، والحقيقة المحمدية هي العماد الذي قامت عليه (قبة الوجود) كما عبر ابن عربي، هي صلة الوصل بين الله والناس، فهي القوة المدبرة التي يصدر عنها كل شيء.
وعلى ذلك تكون نظرية الحقيقة المحمدية عند غلاة الصوفية مأخوذة من أصول نصرانية.
فعيسى هو ابن الله، ومعنى ذلك فيما أفترض أنه الصلة بين الله وبين الوجود.
ومحمد هو أول التعينات، وليس فوقه إلا الذات الأحدية، كما لم يكن فوق عيسى إلا الأب، أي: الله.
والنصارى يتمثلون الله حين يخاطبون عيسى، فلولا عيسى لانعدم الوجود.
والصوفية يتمثلون الله حين يخاطبون محمدا، فلولا محمد لانعدم الوجود.
وعيسى هو ابن الله، ولكنه يتمثل في صورة بشرية، أو هو الموجد في صورة بشرية.
ومحمد هو سر الله، ولكنه يتمثل في صورة بشرية، أو هو الموجد في صورة بشرية.
فعيسى لولاه لانعدمت الصلة بين الله وبين الوجود فانعدم الوجود.
ومحمد:
لولاه ما كان أرض لا ولا أفق
ولا زمان ولا خلق ولا جيل
وعيسى هو «الكلمة» وأتباعه من الرسل الذين بلغوا دعوته كلمات.
ومحمد عند الصوفية هو «الكلمة» وجميع الأنبياء كلمات.
وبعض أتباع عيسى لهم خصوصية.
وبعض أتباع محمد لهم خصوصية، كالذي يراه الشيعة في علي بن أبي طالب.
وربما كان «الأئمة» من أتباع على صورة من الرسل الذين بلغوا رسالة عيسى.
2
والمسيحيون يسمون «عبد المسيح» وجمهور المسلمين يسمون «عبد الرسول» ومن الشيعة من يسمي «عبد الأمير» أو «عبد الأئمة» أو «عبد الحسين».
ومن هذا يرى القارئ أن بعض النظريات الصوفية أو الشيعية لها أصول نصرانية. ولا غضاضة في ذلك: فالآراء الفلسفية يتسلسل بعضها عن بعض، وتنتقل من صورة إلى صورة وإن لم يفطن لها التاريخ.
3
الرسل والأئمة والنقباء
وهذا الكلام يبدو جافيا لمن يراه أول مرة، ولكن عند التأمل نرى الحلاج كان في جوهر سره شيعيا، وكان يعتقد بالحقيقة «العلوية» في مكان الحقيقة «المحمدية». وقد وجد في بعض رسائله إلى أحد مريديه «صورة فيها اسم الله تعالى مكتوب على تعويج، وفي داخل ذلك التعويج مكتوب علي عليه السلام».
4
ومعنى ذلك أنه يرى عليا هو الصلة بين الله وبين الوجود.
ونسب إلى الحلاج أنه ادعى الربوبية، وقد نفى هذه التهمة عن نفسه، ولكننا لا نستبعدها عليه؛ لأنها تأتلف مع مذهبه كل الائتلاف؛ وكذلك نسب إليه أنه ادعى النبوة، وليس ذلك بغريب.
حدث الخطيب البغدادي بسنده قال: حضر عندنا بالدينور رجل ومعه مخلاة فما كان يفارقها بالليل ولا بالنهار ففتشوا المخلاة فوجدوا فيها كتابا للحلاج عنوانه: «من الرحمن الرحيم إلى فلان بن فلان».
فوجه الخطاب إلى بغداد وأحضر الحلاج وعرض عليه فقال: هذا خطي وأنا كتبته. فقالوا: كنت تدعي النبوة فصرت تدعي الربوبية! فقال: ما أدعي الربوبية، ولكن هذا عين الجمع عندنا، وهل الكاتب إلا الله، وأنا واليد فيه آلة.
5
وهذه لباقة في التخريج، والوجه الحق هو أن الحلاج يرى نفسه من صور علي أو من صور محمد. وعلي أو محمد. هو الموجد لسائر الموجودات.
هل اتفق للحلاج أن يدعي النبوة والربوبية؟
والأساطير تنطق الحلاج باسم المسيح، ولعلها لم تكن أساطير، فالمسيح هو الرب في نظر أتباعه من النصارى، والحلاج هو الرب في نظر مريديه من الصوفية، والقرآن يشهد بأن المسيح لم يصلب وإنما شبه لمن صلبوه. وأتباع الحلاج يقولون: إنه لم يصلب وإنما شبه لمن صلبوه.
6
والتاريخ يعيد نفسه في عالم العقائد وفي أوهام الناس.
هيام الحلاج في حب الله
والواقع أن الحلاج كان يؤمن بنظرية وحدة الوجود أو بنظرية الحلول، وأشعاره تشهد بذلك فهو يقول في خطاب بعض الأحباب:
كتبت، ولم أكتب إليك وإنما
كتبت إلى روحي بغير كتاب
وذلك أن الروح لا فرق بينها
وبين محبيها بفصل خطاب
فكل كتاب صادر منك وارد
إليك بما رد الجواب جوابي
أو يقول:
جبلت روحك في روحي كما
يجبل العنبر بالمسك الفتق
فإذا مسك شيء مسني
فإذا أنت أنا لا نفترق
أو يقول:
مزجت روحك في روحي كما
تمزج الخمرة بالماء الزلال
فإذا مسك شيء مسني
فإذا أنت أنا في كل حال
ومعنى ذلك أنه يقول بالوحدة بين المحب والمحبوب: فهو يجعل الصلة بينه وبين أصفيائه كالصلة بينه وبين واجب الوجود.
ندم الحلاج على إذاعة أسرار الحب
والواقع أيضا أن الحلاج أحب الله إلى حد الفناء، وقصته في حب الله قصة محزنة، فقد تنقل المسكين من أرض إلى أرض، وتشكل في مظهره ومخبره أشكالا مختلفات؛ فكان له في كل أرض حال، ومع كل قوم رأي، ولقي في سبيل محبوبه أفظع ضروب الشقاء.
قضى السنين الطوال وهو يشاهد طيف الحبيب، الحبيب الممنوع الذي يراه في كل موجود، ولا يظفر منه بشيء غير الوجد والحنين.
كان المسكين يحب حبيبا لا يدرك ولا ينال، كان يحب النور الذي يغشي الأبصار والقلوب، كان يحب الله، والله أكبر من أن يحب؛ لأنه فوق الأوهام والظنون.
وقد طالت محنة الحلاج في هواه، وظل يعاني ملامة العذال حتى استهدف للقتل.
ولما حكم بإهدار دمه آثر الاستخفاء، عساه يظفر بمناجاة حبيبه بضع سنين، ولقيه بعض أصفيائه وهو مستخف فبكى وأنشأ يقول:
متى سهرت عيني لغيرك أو بكت
فلا بلغت ما أملت وتمنت
وإن أضمرت نفسي سواك فلا رعت
رياض المنى من وجنتيك وجنت
إن قصة الحلاج مع ربه قصة نادرة الأمثال، وهي تغزو القلب بالحزن، والعيون بالدمع، وتفهم من لا يفهم أن الحب لا يعرف اللعب ولا المزاح.
ولو كان الحلاج بعيد العهد في التاريخ لقلنا: إن صلبه أسطورة من الأساطير كما قال قوم: إن صلب المسيح أسطورة من الأساطير، ولكن الحلاج قريب العهد وأخباره صحيحة الأسانيد، ولا يزال قبره قائما يزار في بغداد، وقد زرته فرأيته مهجورا كسائر قبور المحبين، وما أشقى المحبين في الحياة وبعد الممات!
كان الحلاج يتمنى أن يكون المحب عين المحبوب ليصح له أن يقول:
سبحان من أظهر ناسوته
سر سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا في خلقه ظاهرا
في صورة الآكل والشارب
حتى لقد عاينه خلقه
كلحظة الحاجب بالحاجب
ولكن متى صح أن يكون المحب عين المحبوب؟
إن للحب شريعة باقية على الزمان، وهي شريعة مسطورة على جدران الوجود، وفيها كلمات صريحة عن مصاير المحبين، وهي تعلن أن المحب لن يكون أبدا من السعداء.
كانت للحلاج مطامع فيمن يحب، فلما أخرج من سجنه ليقتل عرف أنه كان مخبول المطامع، وأنشد:
طلبت المستقر بكل أرض
فلم أر لي بأرض مستقرا
أطعت مطامعي فاستعبدتني
ولو أني قنعت لكنت حرا
ثم طافت بنفسه أطياف هواه، وأطياف بلواه في هواه، فصاح:
نديمي غير منسوب
إلى شيء من الحيف
سقاني مثل ما يشرب
فعل الحر بالضيف
فلما دارت الكأس
دعا بالنطع والسيف
كذا من يشرب الرا
ح مع التنين في الصيف
وبذلك اعترف الحلاج أنه جهل قدر نفسه حين استجاز أن يكون نديما لذلك المحبوب القهار الذي أغرق الأولين والآخرين في لجج من الهدى والضلال.
سيرورة اسم الحلاج في بقاع الأرض
وكانت هذه النكبة كافية لأن يصدف المحب عمن يحب، ولكن الحلاج كان من الأوفياء، فتشبث بمحبوبه وهو يقول:
يا معين الفناء علي، أعني على الفناء.
وقد استجاب المحبوب لهذه الدعوة فرحم المحب من قسوة الفناء، وكذلك بقيت ذكرى الحلاج على الزمان، بقيت ذكرى الحلاج المصلوب، كما بقيت ذكرى المسيح المصلوب، والحياة الحق هي الحياة بعد الموت.
7
أخطأ الحلاج في حبه خطأ لا يقبل الغفران، فقد فضح أسرار الحب كما فضح المسيح أسرار الحب، ولو كتم أسرار هواه لنجا من القتل.
مضى الغافل يتحدث عن هواه في كل أرض، ويصرح بأنه صار عين المحبوب، ولو عقل لعرف أن المحبوب يؤذيه أن يتحدث بهواه من يهواه.
أما بعد فلم يكن من همنا أن نكتب ترجمة مفصلة للحلاج فقد سبقنا إلى ذلك أستاذنا المسيو ماسينيون في كتاب نشره بالفرنسية منذ أعوام طوال، وقد شغل نفسه بتعليقات مهمة على كتاب الطواسين، ومضى فتحدث عن أخباره في كثير من المجلات، وإنما أردنا أن نبرز صورة الحلاج من الوجهة الأدبية، وأن نبين كيف استشهد في سبيل القول بوحدة الوجود.
وربما جاز أن نقول: إن في هذا الفصل القصير معاني لم يلتفت إليها أستاذنا ماسينيون.
لا تسألوني عما أودعت في هذا الفصل من المعاني، فأنا أحب أن أكون أعقل من الحلاج، وإن كنت أصغر من الحلاج.
صراحة الجيلاني
هل العاصي والمطيع أمام الحق سواء؟
عبد الكريم الجيلاني من أعلام الصوفية، توفي نحو سنة 820 وأهل بغداد يسمونه الجيلي، وله هناك ضريح نبهني إليه الأستاذ عباس العزاوي ولم أسأل عن منزلته في أذهان الناس، وأغلب الظن أنهم ينظرون إليه كما ينظرون إلى ضريح الحلاج.
ترك الجيلاني كتابا يفيض بالوساوس اسمه: «الإنسان الكامل، في معرفة الأواخر والأوائل».
ولم نقل: بأن محصول ذلك الكتاب من الوساوس إلا مجاراة لأهل الشريعة، أما أهل الحقيقة فيرون محصوله من الحقائق.
ومحصول هذا الكتاب هو تلخيص ما يجب أن يعرف المريد من ألوان الثقافة الصوفية، فهو يحدثه عن أدق المشكلات بأسلوب واضح صريح، إلا حين توجب السياسة أن يؤثر الغموض، ويقدم إليه ما يجب أن يعرف من أصول العقائد والمذاهب، وقد ينظم آراءه ثم يشرحها كما يصنع ابن عربي. ولكن نظمه في الأغلب أرك وأضعف.
وهو يستعين الفلسفة اليونانية من حين إلى حين، كما يفعل ابن عربي، ويؤمن كما يؤمن بأن الأولياء أفضل من الأنبياء.
1
ضريح الجيلي في بغداد، والجيلي هو أشهر من فطنوا لمغزى القول بوحدة الوجود.
وما نريد في هذا الفصل أن نلخص آراء الجيلاني فقد سبقنا إلى ذلك لمستر نيكلوسن،
2
وإنما يهمنا أن نقف عند نقطة شائكة دار حولها القائلون بوحدة الوجود، ولم يصرحوا فيها برأي قاطع خوفا من ثورة الجماهير الإسلامية.
ولتوضيح ذلك نقول:
كانت أكبر عقبة تعترض القائلين بوحدة الوجود هي مشكلة الثواب والعقاب، وقد درسنا هذه المشكلة من قبل، وبينا ما فيها من تهافت وضعف، فلنذكر الآن أن الجيلاني يقتلع هذه المشكلة من الأساس، ويراها ضربا من الأوهام والظنون، وهو بكل صراحة يرى الناس جميعا مهتدين: في أحوال الطاعة وفي أحوال العصيان.
وهو يقرر أن الله يسميىالمضل كما يسمى الهادي، فالطائع متحقق بصفة الهداية، والعاصي متحقق بصفة الضلال، وهما أمام الحق سواء.
وهذه الوثبة مذمومة من الوجهة الشرعية: فهي تقضي على أصول القوانين، وتوجب إلغاء المحاكم وتستريح من يرابطون من الجنود للمحافظة على مصالح الناس.
وكيف يكون الحال إذا أبيح لكل مخلوق أن يسرق وينهب ويقتل بلا رقيب ولا حسيب؟ كيف يكون الحال إذا شعر كل إنسان بأنه مهدد باغتيال ما يملك من المنافع وتعكير ما ينعم به من الأمن والعافية؟
كيف تصبح الدنيا إذا عاش اللئام والفاسقون والظالمون بلا وازع ولا رادع يوم تنهار سلطة الشرائع والقوانين؟
وكيف يرتقي العمران إذا صح في كل ذهن أن لا مجال لبقاء ما نؤسس وما ندخر من أصول المنافع المعاشية والعمرانية؟
وما فضل الإنسان على الحيوان إذا انعدمت محامد الرفق والعطف، ومذاهب الضبط والكبح، ومراجع الاحتكام إلى العقل والعدل؟
إن ذلك لو صح لعادت الدنيا إلى عهدها الأول يوم كان بنو آدم قطعانا يهيمون حول مساقط الغيث ومنابت الأعشاب، وانعدمت هذه المواسم الشعرية التي تتمثل في استخدام البخار والكهرباء، وتظهر روعتها في عيش الضعفاء آمنين بجانب الأقوياء.
والحق أن الإنسان استطاع أن يمثل دور الإله فوق الأرض بفضل ما أنشأ من شرائع وقوانين، فهو بفضل السلطة التشريعية والتنفيذية وقف الظالم والمظلوم أمام منصة العدل، واستطاع أن يمكن الضعاف والعزل من أن يبيتوا في منازل ليس فيها قفل ولا رتاج.
وبراعة الإنسان تظهر في هذا الجانب، فهو قد حول الدنيا إلى دار أمان، وليس هذا بالقليل إذا فكرنا في طبيعة بني آدم وكانوا من الحيوان الذي يؤثر الافتراس.
ولو شئت لقلت: إن القوانين صيرت الحانات أكثر أمانا من المساجد والكنائس، وما أذكر أني دخلت حانة فسرقت، ولكني أذكر أن عباءتي سرقت في مسجد السيدة زينب منذ سنين، فصرت لا أدخل مسجدا إلا صليت منفردا لأنجو من اللصوص المصلين!!
وما استطاع الإنسان أن يكون خليفة الله في الأرض إلا بفضل القوانين، وهو بالفعل يحقق أظرف الأخيلة في الأحلام الإنسانية، فمن أوهام الناس أن سيأتي يوم يعيش فيه الحمل مع الذئب، ويلعب فيه الأطفال بالحيات والثعابين.
وقد تحقق شيء من هذه الأحلام، فأصغر إنسان يستطيع أن يعادي الوزراء والأمراء والملوك وهو واثق من السلامة ما دام يملك التدليل على أنه في جانب الحق.
ولا يستطيع وزير ولا أمير ولا ملك أن يخرجني من بيتي إلا إذا أعانه القانون.
ولا يملك أعنف خصومي أن يؤذيني إلا إذا ظلمت نفسي فخرجت على القانون.
وهذا جانب شعري في حياة الناس، الناس الموفقين الذين أنشأوا الشرائع والقوانين فقضوا على الظلم والبغي والإسراف.
ولكن نظرية الجيلاني لها سناد متين من الوجهة العقلية.
فبقليل من التأمل نرى العالم قام على أساس الشهوات وهي باب العصيان، فآدم خرج من الجنة بسبب ما اقترف من أكل الفاكهة الممنوعة، فماذا صنع حين طرد من الفردوس؟ كان خروجه هو الأصل في روعة هذا الوجود، ولو أن آدم لم يعص ربه لبقيت الأرض بلا سامر ولا أنيس، وظلت بلا حضارة ولا عمران، ولو بقي آدم في الجنة لحرم الجهاد في سبيل الفضيلة وفي سبيل الرزق وعاش غافي العواطف، خامد الإحساس.
وكيف يكون فهمنا لعظمة الله إذا حرمنا الشقاء بالعواطف والشهوات والأهواء؟ كيف كنا نعيش لو خلت دنيانا من اللهو والفتون؟
كيف كانت تطيب الدنيا لو لم نطع الله بالعصيان؟
كيف يكون العقل لو خلا من التمرد والثورة والاعتساف؟
إن أجمل أثر أدبي تركه الأولون هو «سفر أيوب» وإنما كان كذلك لأنه ناظمه وقف ربه أمام ساحة الجزاء.
3
إن أقوى الأغاني والأناشيد هي أنفاس الملتاعين من الذين قارعوا فتن الوجود.
إن أعاظم الرجال هم الذين نقعوا أرواحهم في بحار الشهوات.
إن أقوى العيون هي العيون التي رأت دقائق الخفايا في ألوان الصباحة والجمال.
إن أقوى القلوب هي القلوب التي واجهت سرائر الليل.
إن أعظم النفوس هي النفوس التي عاقرت كئوس الغل والحقد والحب والهيام.
إن أكبر العقول هي العقول التي اصطرعت في ميادين الشك واليقين.
حدثوني عن رجل واحد بين العظماء شهد تاريخه بأنه احترم العرف والقوانين والتقاليد.
إن الرجل العظيم هو الحوت الذي يسير كما يشاء، ومن سواه من الصغار هم صغار الأسماك التي تساير التيار لتقع في شباك الصيادين.
إن الظلم من أكبر الآثام، ولكنه يفتح عيون المظلومين إلى الثورة والجهاد.
وحب اللذات إثم، ولكنه يخلق فنونا كثيرة من الحضارة والرفاهية والترف.
والتحاسد مذموم ولكنه أصل المباريات والمنافسات، وهو السبب الأصيل لإيقاظ عزائم الأبطال.
والبغي إحدى الكبائر، ولكنه يدعو الباغين إلى الاعتصام بالقوة والجبروت.
والحرب أنفع للإنسانية من السلم، فبفضل الحرب عرفت وسائل وأساليب هي في ذاتها من عناصر الجمال في الوجود.
والجسم الإنساني يصور النضال بين الطاعة والعصيان، فهو محتل بجراثيم يبغي بعضها على بعض فإذا وقع الصلح بين تلك الجراثيم كان الموت.
والشر ينفع كل النفع، فهو الذي يحولنا من ناس إلى حكماء، وينقلنا من مراتع الحملان إلى مرابض الأسود.
وماذا غنمنا من سيادة الشرائع والقوانين؟
غنمنا العدل؟
وهو كذلك!
ولكن أي عدل؟ هو العدل الأعرج الذي سمح للضعفاء والمهازيل بأن يكونوا من قادة الشعوب!
ومتى تحقق العدل في دنيا الناس؟
إن الضعفاء لهم وسائل يدحرون بها الأقوياء.
فأسفل مخلوق يستطيع أن يكيد لأشرف مخلوق.
يستطيع المخلوق السافل الضعيف أن يزعم التفرد بحسن السيرة ومتانة الأخلاق؛ لأن ضعفه قضى بأن يكون آخر من يهم بالثورة على مأثور الأخلاق.
والحكام يعرفون أن نظام الحكم نظام دخيل في الحياة الإنسانية فهم يرضون عن الضعفاء؛ لأنهم لا يعرضونهم للقيل والقال، ويفرون من الأقوياء فرار الأجرب من بطش السليم: لأنهم يعرفون أن الأقوياء يدخلونهم في مضايق من حيوات القلوب والعقول.
وبفضل هذا العرف السخيف صار من عبارات المدح أن يقال: فلان من البيت إلى المسجد ومن المسجد إلى البيت.
وبفضل هذا العرف السخيف تقدم الضعفاء، وتخلف الأقوياء.
وبفضل تقدم الضعفاء وتخلف الأقوياء صار الشرقيون من المستعبدين.
وهل كان للشرق قوة إلا يوم صح لأنبيائه وزعمائه أن يروا لأنفسهم مزايا ليست لسائر الناس؟ وهل استطاع النبي محمد أن يستبيح من الزوجات ما لا يستبيح لأفراد أمته إلا وهو يرى أنه أقوى الرجال؟
وهل نزل الوحي في بلاد العرب إلا على رجل مشهود له بالقوة في كل شيء، حتى في النواحي الطبيعية؟
ما فضل الشرائع وما فضل القوانين إن لم تؤيدها القوة والجبروت؟
إن الناس يخدعون أنفسهم حين يحتمون وهم ضعفاء بسلطان الشرائع والقوانين.
قد تقولون: إن الأنظمة الإنسانية حولت مجاهيل الأرض إلى بساتين.
آمنت وصدقت!
ولكن حدثوني عن شرح هذه المعضلة، فقد هام في شعابها صوابي.
كان سكان مصر منذ مئة سنة لا يزيدون عن ثلاثة ملايين، ولكنهم في ذلك الوقت كانوا أقوياء، فقد استطاعوا أن يهددوا الإمبراطورية التركية، واستطاعوا أن يطردوا الإنجليز في موقعة رشيد، واستطاعوا التحفز لنصرة الأمة الفرنسية، واستطاع محمد علي بفضل جنود مصر أن يقول: إنه قريع نابليون .
فما الذي وقع بعد ذلك؟
كانت مصر تعيش على الجفاف فلا تعرف طغيان النيل غير مرة واحدة في كل سنة، وكان أهلها أصحاء لم يقهرهم البول الدموي ولا ديدان الأمعاء.
أستغفر العقل، فقد كان أهل مصر معرضين لأخطار الجراثيم التي تسبح في مياه النيل، فيموت من يموت ويعيش من يعيش، وكان العيش من نصيب الأقوياء الذين حمتهم قوتهم الطبيعية من فتك الجراثيم.
ثم تقدمت أساليب الوقاية وبلغ سكان مصر ستة عشر مليونا، فما مكانهم اليوم في دنيا الناس؟
لقد أثبت الكشف الطبي أن نحو ثمانين في المئة من السكان يعيشون عيشا صوريا؛ لأنهم صرعى البول الدموي وديدان الأمعاء.
ومن أجل ذلك صار من الصعب أن تتمتع مصر بالحيوية التي كانت تتمتع بها منذ مئة سنة أو منذ عهد الفراعين.
فإن قلتم: إن الأنظمة الحديثة نفعت مصر فأنتم تهيمون في بيداء الخيال.
والتقدم الفكري والعقلي هو السبب في انحطاط الأمم القوية، فألمانيا انهزمت في الحرب العالمية بفضل حذلقة أبنائها النوابغ!
وفرنسا لن تصلح للكفاح العنيف بعد اليوم؛ لأن كل فرد من فرنسا يرى من حقه بفضل شيوع التعليم أن يعلل ويحلل كل ما يعرض له من الآراء، والجندي المتفلسف لا ينفع.
والحرية الصحفية في مصر ستجعل مصر آخر الشعوب التي تصلح للنضال، فكل صحفي وإن صغر قدره سيضع الحرب موضع الجدل والخلاف، ولا قيمة للمحارب المرتاب.
حدثوني ماذا استفدنا من العلم والمدنية فما أرى هذه الألاعيب إلا مزالق وأحابيل؟
والجيلاني يؤمن بالجنة والنار، ولكنه لا يرى أهل النار في عذاب، وهو يؤكد أن أهل الجحيم يتلذذون كما يتلذذ أهل النعيم.
وإنما كان الأمر كذلك؛ لأن «الشقاوة» عنده غرض مطلوب.
وما كانت الشقاوة مما يطلب العقلاء؛ وإنما اشتهوها لأنها السر في نهوض الحضارة والعمران، وستكون أعظم معضلة يوم يقوم الحساب، وبفضلها يسيطر الله ذو الجلال.
أما بعد فهذه توجيهات لآراء الجيلاني، وهي آراء تنكرها الشرائع والقوانين، والناس يتصورون أن القول بها يمضي بالإنسانية إلى معاطب الهلاك.
ولو عقلوا لعرفوا أنها أساس النظام في عالم الحيوان، وهو لم ينقرض في الغابات بسبب البغي والإثم والعدوان.
وأكاد أجزم بأن الإنسانية هي التي ستتعرض للهلاك بفضل ما خلقت من القوانين، فالأمن المطلق يحول الإنسان إلى مخلوق ضعيف؛ لأنه يصرفه عن الاستعداد للمكاره والخطوب.
بقي النص على ما في نظرية الجيلاني من المعاني الشعرية، فهي تروض الناس على الجذل والابتسام، وتشعرهم بأنهم في طاعاتهم وفي معاصيهم جنود أوفياء لرب العزة والجلال، وتوفر عليهم قتل أعصابهم بالندم على ما اقترفوا من ذنوب، والإغراق في الندم قد يقضي على النفوس بالتهدم والانحلال.
ولعل لهذه النظرية دخلا في شيوع بعض التقاليد: ففي صعيد مصر ولي اسمه (فرغل) يعتقد الناس أنه يفرح بالمعاصي، فيملئون ساحات مولده بمظاهر الإثم والفتون، وعند نصارى مصر قديس اسمه (أنبا شنوده) وهم يعتقدون أنه يبارك أهل الشهوات فيملئون ساحات مولده بمظاهر الفسوق، ولعل لهذا كله صلة بالأثر الذي يقول:
لو لم تذنبوا فتستغفروا لخلق الله قوما يذنبون فيستغفرون.
المنظومات الصوفية
هذا بحث لو أطلناه طال: لأن الصوفية عاشوا دهرهم كله في ظلال الشعر والغناء، ولهم على النهضات الموسيقية فضل عظيم، وكانوا في أكثر أحوالهم يتمثلون بالأشعار فينقلونها من الصبوات الحسية إلى الأغراض الروحية، وشواهد ذلك تعد بالألوف، ويكفي أن نذكر ما وقع لأبي الحسن بن الصباغ وقد مر وقت الضحى ببساتين قوص فسمع حمامة على شجرة تغرد بصوت شجي فاستمع ثم تواجد، واستغرق وأنشد:
حمام الأراك ألا خبرينا
بمن تهتفين ومن تندبينا
فقد شق نوحك منا القلوب
فأزريت ويحك ماء معينا
تعالي نقم مأتما للفراق
ونندب أحبابنا الظاعنينا
وأسعد بالنوح كي تسعدي
فإن الحزين يواسي الحزينا
ثم بكى طويلا وأنشد:
أيبكي حمام الأيك من فقد إلفه
وأصبر عنه كيف ذاك يكون
وما لي لا أبكي وأندب ما مضى
وداء الهوى بين الضلوع دفين
وقد كان قلبي قبل حبك قاسيا
وإن دامت البلوى به سيلين
ألا هل على الشوق المبرح مسعد
وهل لي على الوجد الشديد معين
ثم خر مغشيا عليه فلما أفاق أنشد:
غنني في الفراق صوتا حزينا
إن بين الضلوع داء دفينا
كل أمر الدنا حقير يسير
غير أن يفقد القرين القرينا
ثم جد لي بدمع عينيك بالله
وكن لي على البكاء معينا
فسأبكي الدماء فضلا عن الدم
ع ويوم الفراق أبكي العيونا
1
ولهذا الحديث نظائر كثيرة في كتب الصوفية. وهو يشهد بأنهم كانوا ينقلون الصبوات الحسية إلى الأغراض الروحية.
ثم اندفع أدباء الصوفية فنظموا بأنفسهم أشعارا كثيرة تشرح ما يعانون من خطرات القلوب. وأكثر ما أجادوه وصف أخلاق الرجال، كالذي يقول:
أنت بالصدق قد خبرت رجالا
قد أطالوا البكا إذا الليل طالا
وملأت القلوب منهم بنور
في نفيس اليقين يا من تعالى
وتوليتهم وكنت دليلا
وكسوت الجميع منهم جمالا
فإذا ما الظلام جن عليهم
وصلوا بالكلال منهم كلالا
عفروا بالتراب منهم وجوها
ذاك لله خشية وابتهالا
هجرت للمنام منهم عيون
فاستطار المنام عنهم فزالا
إنما لذة البكاء لمريد
أسلم الأهل للديار وجالا
خاضعا باكيا حزينا ينادي
يا كريما إذا استقيل أقالا
ويستطيع القارئ الرجوع إلى كتاب نشر المحاسن الغالية ففيه شواهد كثيرة من منظومات الصوفية تبين كيف حاولوا تقييد أكثر المقامات والأحوال.
2
ونريد هنا أن نمر مسرعين على بعض الآثار التي حاول أهلها تقعيد التصوف على نحو ما صنع ناظمو المتون في أكثر الفنون.
والذين سنتحدث عنهم في هذا الباب لهم خصائص شعرية تغاير الخصائص المعروفة عند شعراء الوجدان من الصوفية أمثال ابن الفارض والشبلي والحلاج وهم جماعة من كبار الأدباء حاولوا تقعيد التصوف فوصلوا إلى غاية من النجاح لا يمكن إغفالها في مثل هذا الكتاب.
وليتذكر القارئ أننا لا نريد الاستقصاء؛ لأن هذا الباب وحده يحتاج إلى فصول طوال، وإنما نريد فقط أن ندل على ناحية أدبية شغلت جماهير المريدين حينا من الزمان.
وما أنكر أن بعض المنظومات يغلب عليها الضعف ولكن هذا لا يمنع من وضعها في الميزان؛ لأن الأدب يؤرخ فيه القوي والضعيف، وهو في جميع أحواله يصور تطور المشاعر والأذواق.
3
منظومات ابن عربي
أنواع النظم عند ابن عربي
لقد سبق الكلام على ابن عربي ومكانته في الأدب والتصوف، ولكن له مكان آخر نفصله الآن، ذلك بأن ابن عربي كان من المولعين بتقعيد التصوف، والنظم فيه، على نحو ما يفعل ناظمو المتون، ومنظومات ابن عربي من طلائع هذا الفن الذي سيكمل في القرن الثالث عشر على لسان حسن رضوان.
والمنظومات التي نعنيها في هذا الفصل هي فن آخر يخالف ما ورد في ديوان ابن عربي وما ورد في كتاب ترجمان الأشواق، هي فن وسط بين الشعر والنظم، ولكنها على كل حال وضعت لغرض خاص هو تقعيد التصوف.
وأهم مرجع لمنظومات ابن عربي هو كتاب الفتوحات المكية.
1
والمنظومات فيه ترد منسجمة مع الأبواب: فأبواب الكتاب هي الأصل، والمنظومات توابع، على خلاف المعروف في المتون، حيث يكون النظم أصلا وتكون الشروح توابع.
وقد يجعل النظم أصل الباب، كالذي وقع في الباب التاسع والخمسين وخمس مئة في معرفة أسرار وحقائق من منازل مختلفة، فإنه استهله بهذه الأبيات:
لله في خلقه نذير
يعلمهم أنه البشير
وهو السراج الذي سناه
يبهر ألبابنا المنير
2
في كل عصر له شخيص
تجري بأنفاسه الدهور
عينه في الوجود فردا
الواحد العالم البصير
يا واحدا مجده تعالى
ليس له في الورى نظير
ليس لأنواره ظهور
إلا بنا إذ لنا الظهور
فنحن مجلى لكل شيء
يظهر في عينه الأمور
وهذه القطعة تشير إلى نظرية وحدة الوجود.
وفي أغلب الأحوال يأتي النظم في ثنايا الأبواب، كأن يشير إلى الألفة بين العبد والرب فيقول:
كلما قلت: سيدي
قال لي: أنت مالكي
سد والله كون عب
دي علي مسالكي
ما لنا عنه صارف
في جميع المدارك
لست في عينه ولا
فعله بالمشارك
فهو المالك الذي
ليس يدعى بمالك
وأنا الخادم الذي
يعتني بالممالك
قلت: يا رب عصمة
من سبيل المهالك
قال: سمعا فأنت عب
دي من أهل الأرائك
في سرور وغبطة
لا من أهل الدرائك
بين التصريح والتلميح
وتنقسم منظومات ابن عربي في الفتوحات إلى قسمين: قسم تغلب عليه النفحة الوجدانية وهو قليل، وقسم يغلب عليه التقعيد وهو الأكثر، كأن يقول في مقامات ترك الكرامات:
ترك الكرامة لا يكون دليلا
فأصخ لقولي فهو أقوم قيلا
إن الكرامة قد يكون وجودها
حظ المكرم ثم ساء سبيلا
فاحرص على العلم الذي كلفته
لا تتخذ غير الإله بديلا
ستر الكرامة واجب متحقق
عند الرجال فلا تكن مخذولا
وظهورها في المرسلين فريضة
وبها تنزل وحيه تنزيلا
وفي سائر مصنفات ابن عربي نرى أشكالا من النظم، كالذي نراه في مطلع كتاب (مواقع النجوم) إذ يقول من منظومة بلغت سبعة وأربعين بيتا:
فكنه علما وكنه حالا
مع رائح إن أتي وغادي
فكنه وصفا ولا تكنه
ذاتا فعين المحال بادي
ولا تكن ذا هوى وحب
فيه فقلب المحب صادي
من بات ذا لوعة محبا
شكا لها حرقة الفؤاد
وانظر بعين الفراق أيضا
فيه ترى حكمة البعاد
فحكمة الضد لا يراها
سوى حكيم لها وشادي
وأغلب منظومات ابن عربي ترمي إلى مقاصد مستورة بحيث يمكن أن تضاف إلى الرمزيات.
3
منظومات اليافعي
مؤلفات اليافعي
اليافعي هو عفيف الدين عبد الله بن أسعد المتوفى سنة 768، وهو رجل شغل نفسه بالتصوف والتاريخ، ومؤلفاته الصوفية تعد من المراجع، وفيها أدب وذوق، وكان فيما يظهر من الذين ذاقوا معاني القوم؛ ولذلك نجد في كتبه نفحة روحانية قد لا نجدها عند سواه، وأشهر مؤلفاته كتاب (روض الرياحين في مناقب الصالحين) وهو كتاب يفيض بأخبار الكرامات، وهو من هذه الناحية كتاب ضعيف؛ لأنه يضيف المؤلف إلى طائفة المغفلين الذين يصدقون كل شيء، ولكنه مهم جدا، لما فيه من الأخبار الصوفية التي تنفع من يهمه أن يعرف شمائل أولئك الناس.
والكتاب الذي اعتمدنا عليه في تحرير هذا الفصل هو كتاب (نشر المحاسن الغالية، في فضل أصحاب المقامات العالية)، وهو كتاب ممتع؛ لأنه شرح الأحوال والمقامات بأسلوب جميل؛ ولأنه دون فيه أكثر ما أنشأ من المنظومات الصوفية.
منظوماته الرمزية
ومنظومات اليافعي فن وسط، فلا هي بالشعر المطبوع، ولا هي بالنظم المتكلف، وهي في جميع أحوالها من أثر الصدق؛ ولذلك نغتفر ما يقع فيها من الشطط في بعض الأحوال.
وأظهر فنون اليافعي في منظوماته هو الشعر الرمزي، ونريد به ما تجري فيه الصبابة على الأساليب الحسية، وهي في ذاتها معنوية، كأن يقول:
سلا عن حمى سلمى وعن أهله الغر
عسى خبر يلقاكما طيب الذكر
يجيء به من نحوها عذب منطق
يفوح به من ريحها طيب النشر
يخبر عن سلمى وعن ذلك الحمى
وقول لسان الحال في نظمه الدري
رعى الله عهدا مر مع جيرة الحمى
يباهي رياضا ناضرات به زهر
1
سقتنا بها سلمى من الراح عند ما
بدت فأضاء الكون من جانب الخدر
أماطت حجابا عن بهاء جمالها
فهمنا سكارى في المهامه والقفر
نروم التسلي عن هواها ببعدنا
وكل جمال في الوجود بها يغري
خليلي ما سلمى ونجد وما الحمى
وما راحها ما كأسها ما الهوى العذري
شربنا حميا الكأس في قدس حضرة
وأكرم بها في حضرة القدس من خمر
لنا عصرت من كرم نور جمال من
سقانا وقد غبنا وحرنا فما ندري
سكرنا بها من شمها قبل شربها
نشاوي برياها إلى آخر الدهر
أو السكر ذا من رؤية الكاس أو أتت
به رؤية الساقي إلينا ذوي السكر
تجلى بأوصاف الجمال فشاهدت
عيون قلوب ما به حار ذو الفكر
فيا ليلة فيها السعادات والمنى
لقد صغرت في جنبها ليلة القدر
فلما شربنا الراح في ساعة الرضا
أتانا أغر السعد بالخلع الخضر
رسول عنايات برسم ولاية
وتصريفنا في الملك في البر والبحر
وضاءت لنا أنوار غيب وشوهدت
أمور وأعلمنا بها أنها تجري
وحلت بوادي طور قلب معارف
زهت فيه كم حسناء في داخل الخدر
وكم حكم تجلى ملاح كأنها
عرائس أبكار على منطق الدر
وكم يدفع الله البلايا بسادة
عن الخلق في كشف الشدائد والضر
فمن لم بذا يؤمن فقولوا له: إذا
تجرا على الغر المشايخ بالنكر
تجلى فضولا في فضائل سادة
لهم في سما مجد المفاخر كم قصر
مقامات أحباب نرى الشهب دونها
بنوها بياقوت المواهب والدر
تضيء الدياجي من بهاء جمالها
بها يهتدي من للعلا نحوها يسري
وما تلك من أشباه عشك فادرجي
إلى جوف عش في الغيابات أو جحر
إلى آخر القصيدة، وهي سبعون بيتا افتتح بها كتاب المحاسن الغالية.
وعند مراجعة ما نقلناه يرى القارئ أن «الرمزية» هنا لا تستوفي الشرائط الأساسية؛ لأن الناظم يحدثنا في بداية القصيدة عن سلمى فنظنه يرمز إلى الروح، ولكنه يصارحنا بعد ذلك بما يريد، وهذا ليس من أسلوب الرمزيات، مع أنه يقول: «وأنشد لسان حالهم معبرا عنهم نائبا عن لسان المقال معرضا بذكر سلمى ونجد والحمى تورية وتسترا».
2
وهو لم يتستر، بل أفصح.
والشاهد الذي نقلناه فيه نفحات شعرية كقوله:
نروم التسلي عن هواها ببعدنا
وكل جمال في الوجود بها يغري
وفيه نظم متكلف كقوله:
فمن لم بذا يؤمن فقولوا له: إذا
تجرا علي الغر المشايخ بالنكر
وإليكم شاهدا آخر ترك فيه سلمى، وتحدث عن نعمى وقد بهره نور الجمال:
وفاح به من خدر نعمى معطرا
له طيب رياها مثيرا لأشجاني
ولم ير ذاك النور أعمى بصيرة
ولا شم ذاك الطيب مزكوم حرمان
ومن قد رأى أو شم أصبح مغرما
بنعمى وحالي عيشها الناعم الهاني
فإن أنعمت نعمى سقت راح وصلها
لأهل الهوى ممن بها مغرم عاني
جنوا من جنان الوصل تفاح نفحة
بروضات رضوان وروح وريحان
وعيشا هنيا في حمى ظل نعمة
تراهم ملوكا جوف جنات عرفان
فآها على تلك العطيات والمنى
على تلك فابكوا يا صاحبي وإخواني
3
فهذه قطعة رمزية، ولكن كلمة «يا صحابي وإخواني» تدل على ما يريد من الحديث عن المعاني الصوفية.
وقد حدثنا أنه قال بعض القصائد على لسان حال من مات في حب الله «بطريق النيابة عن لسان مقاله، على جهة الغزل الساتر لحاله»،
4
وهو بهذا يفضح الرمزية التي اعتصم بها وهو يشرح تلك الحال، أما تلك القصيدة فمنها هذه الأبيات:
بتذكار سعدى أسعداني فليس لي
إلى الصبر عنها والسلو سبيل
ولا تذكرا لي العامرية إنها
يوله قلبي ذكرها ويزيل
ولكن بذكري عرضا عندها
5
فإن
تقل كيف هو قولوا فذاك عليل
علاه اصفرار مدنف واله له
أنين سقيم جسمه ونحيل
فإن تعطفي يشفي وإن تتلفي ففي
هواك المعنى المستهام قتيل
والقارئ يلحظ الجناس في بعض هذه الأبيات.
بين التلميح والتصريح
ويظهر أن اليافعي متأثر بابن عربي في رمزياته، من حيث الشرح، فكما شرح ابن عربي قصائد ترجمان الأشواق، شرح اليافعي قصائده الصوفية، والفرق بين الرجلين أن ابن عربي لا يوجه معاني قصائده إلا عند الشرح، أما اليافعي فيصرح بمراده في صلب القصيدة ثم يؤكد مراده بالشرح، من ذلك ما صنع عند قوله في التائية:
ثنت في ابتدا ميدان فضل عنانها
وود حصان المدح لو كان مفلوتا
وأبياتها خمسون من نظم موثق
بقيد الخطايا والعلائق مكبوتا
فقد حدثنا أن «الحصان هنا كناية عن القلب وإشارة إلى ظلمته وعماه بسبب الخطايا وشغله بالعلائق العائقة له عن السير في الميدان المذكور، وهو ميدان من ميادين الملكوت، هو موطن فضلهم المشكور، ولا يعرف ذلك الميدان إلا أهل النور والعرفان، ولا يقطعه إلا المخففون السابقون من الفرسان؛ فلهذا وقف الحصان المكني به عن الجنان لعدم النور البارق، وثقل العلائق اللذين كل واحد منهما كالقيد العائق، ولو أنه أفلت من الوثاق وأزيل عنه القيدان وأرخى له العناية في ذلك الميدان لجال في تلك الأوطان، وشاهد في خيامها مليحات الحسان، فأعرب عن تلك المحاسن بأحسن بيان».
6
وصف الرجال
وعند اليافعي فن ثان هو وصف الرجال، أي: الصوفية كأن يقول:
رجال لهم علم بما جهل الورى
لهم صار مكشوفا منحى حجابه
فأسرار غيب عندهم علم كشفها
وقد سكروا مما يطيب شرابه
أولئك هم أهل الولاية نالهم
من الله فيها فضله وثوابه
وقرب وأنس واجتلاء معارف
ووارد تكليم لذيذ خطابه
بترك الهوى أمسوا يطيرون في الهوا
ويمشون فوق الماء أمن جنابه
ملوك على التحقيق ليس لغيرهم
من الملك إلا إسمه وعقابه
7
وهذه القطعة تبين منحاه في وصف رجال التصوف: فهم من أهل الكشف وعندهم أسرار الغيب، وهم يناجون الله عن «طريق الوارد » وهم ملوك على التحقيق ، ومن سواهم ليس له إلا اسم الملك، وما يتبع الملك من تبعات تفضي إلى العقاب.
والملوكية هي الوصف المختار عنده فقد تعرض لهم في قصيدة ثانية فقال:
ملوك البرايا ليس يشقى جليسهم
لهم بيض رايات العلا في المواقف
8
وعرض لغرامهم وسكرهم في قصيدة ثالثة فقال:
سلام على قوم شموس الهدى غدا
بهم في الهوى سكر إلى حشرهم غدا
أدار عليهم كأس راح محبة
جمال سقى الأحباب لما لهم بدا
بها هام بعض في البراري وبعضهم
به وله ظنوا جنونا فقيدا
وبعض عن الأكوان بان وبعضهم
به جاوز الإسكار حدا فعربدا
فسل عليه الشرع سيفا حمى به
حدودا فرى الحلاج ماض محددا
فمات شهيدا عند كم من محقق
ولم عندهم يخرج عن القوم ملحدا
9
والقارئ يلحظ أن الناظم قد يفصل بين حرف الجزم وبين مجزومه فيقول:
ولم عندهم يخرج عن القوم ملحدا
وقد سلف له شيء من ذلك حين قال: «فمن لم بنا يؤمن».
وله قطعة تغلب عليها النفحة الشعرية، وهو يصف القوم بالبكاء عليهم فيقول:
لأحبابنا عيش عليه يناح
لقاء شيوخ للمريد لقاح
أيا دهرنا المغبر ما لك مظلما
نهارك ليل لا يليه صباح
كأنك محزون على فقد سادة
شموس الهدى كانوا ضياءك راحوا
فأخلفهم مثلي فخلاك مثله
حلاك حلى منها الملاح قباح
وأيامك الغر الزواهر قبل ذا
حلاها بها يزهو الوجود ملاح
كسا الكون حسنا والأنام سعادة
بها بمحياها الرضا وفلاح
10
ولعل هذه القصيدة هي التي ساق منها في موطن آخر هذه الأبيات:
بمذهبهم قتل الغرام شهادة
وشهد ومحقون الدماء مباح
سلام على السادات من كل صادق
له مسرح في معرك ومراح
11
آداب المريدين
ومن هذا الفن أيضا أشعاره أو منظوماته في وصف آداب الرجال، كأن يقول في وصف المريد الذي صدق ما عاهد الله عليه:
فمجد العلا ما ناله غير ماجد
يخاطر بالروح الخطير فيظفر
إذا ذكرت جنات عدن وأهلها
يذوب اشتياقا نحوها ويشمر
ويعلو جواد العزم أدهم سابقا
وأبيض مجنونا عن النور يسفر
ويركض في ميدان سبق إلى العلا
ويسري إلى نيل المعالي ويسهر
وإني إلى أمر أنا فيه آمن
لأحوج من غيري إليه وأفقر
12
أو يقول:
فما فاز بالمجد الأثيل من الورى
سوى من لدى الأهوال بالنفس يسمح
فأما جبان عزت النفس عنده
فذاك الذي بالذل يمسي ويصبح
تعرض لنفحات الإله وبابه
أدم قرعه فالباب يوشك يفتح
13
وبدا له مرة أن يحاور مخاطبته على نحو ما كان يفعل حاتم مع امرأته فقال:
وقائلة: ما المجد للمرء ما الفخر؟
فقلت لها: شيء لبيض العلا مهر
فأما بنو الدنيا ففخرهم الغنى
كزهر نضير في غد ييبس الزهر
وأما بنو الأخرى ففي الفقر فخرهم
نضارته تزداد ما بقي الدهر
14
فهو في هذه الأبيات يوازن بين الأغنياء والفقراء، ويرى الغنى زهرة ستذبل بعد قليل، ويرى نضارة الفقر نضارة باقية. ومن الواضح أن الفقر لا يوصف بالنضارة إلا في عرف الصوفية بل عندهم هو باب إلى الملك:
أخي. نحن والله الملوك بفقرنا
لنا الملك في الدارين والعز والغنى
نولي ونعزل، والملوك جميعهم
لنا خدم، والذل يجزون والعنا
15
وهو يرى من أدب المريد أن تكون المزابل أحب إليه من القصور ويقول:
أحن ارتياحا للمزابل لا إلى
قصور وفرش بالطراز توشح
وأمنح ودي للمساكين صافيا
أجالسهم والهجر للغير أمنح
ففي ذل نفسي عزها وبموتها
حياة لأجل الغال بالدون أسمح
لنا باعتزال للورى لذ في الهوى
جوار كلاب في المزابل تنبح
إذا في اختلاط قيل: ربح فضائل
فقل: نحن قوم بالسلامة نربح
16
وقد تحدث عن العزلة في هذه الأبيات، ورأى جوار الكلاب أفضل من جوار الناس، وهي نظرة كلها تشاؤم، ولعله كان رأى في زمانه ناسا يشبهون بعض من رأينا من أهل هذا الزمان، فقد مضى به التشاؤم إلى إيثار صحبة الأموات على صحبة الأحياء.
وناء عن الدنيا وعن صحبة الورى
وحيد لأصحاب القبور مجاور
مجاور قوم لا يضرون جارهم
وكم نفعوا بالوعظ من هو زائر
فغائبهم لا يختشي غيبة ولا
يخاف أذاهم والنميمة حاضر
يناديهم بالله هل في بيوتتكم
ظلام المعاصي أم بها النور زاهر؟
17
ولليافعي قطع كثيرة في وصف آداب المريدين، وهذه الشواهد تبين مناحيه الأصيلة، وهي إيثار الفقر والنفرة من الناس.
ولا يمكن أن نرى الخير كل الخير فيما يقول، فللغنى أوجه جميلة، وله منافع يؤيد بها كرام الرجال، والناس جميعا ليسوا من أهل السوء، ففي بني آدم مخلوقات شريفة تصلح للمودة والإخاء، فيهم على الأقل أولئك الصوفية الذين يرون أنفسهم من أهل القدرة على البر والأدب والسخاء.
الحب الإلهي
وهناك فن ثالث من أشعار اليافعي هو التشوف إلى الذات الإلهية، وأشعاره في هذا الفن فيها قبس من الحنين، ولكنها لا تسمو به إلى منازل الأقطاب من المحبين، ونلمح فيها أحيانا نزعة سوقية، كأن يقول:
فيا أسفا يا حسرتا يا مصيبتا
ويا ضيعة الأعمار سوق المواسم
كما لم نكن كالغير أهلا لقربه
لقد فاتنا كل المنى والمكارم
نموت ولم ننظر جمال جلاله
ولم ندر طعم الحب مثل البهائم
فلو شاهدت ذاك الجمال عيوننا
سكرنا وغبنا عن جميع العوالم
وملنا نشاوي من شراب محبة
وباح بمكنون الهوى كل كاتم
ونحى حجابا عن عجائب قدرة
ونور وأسرار وطيب تنادم
فما العيش إلا ذاك لا عيش عزة
وسلمى ولا ليلى ولا أم سالم
18
والنزعة السوقية ظاهرة في هذه الأبيات؛ لأن المحب لا يتذكر في هذا المقام عيش البهائم، ولا يقارن حال الشوق إلى الله بالشوق إلى عزة وسلمى وليلى وأم سالم، مع احترام هذه الأسماء!
وله قصيدة أخرى في الحب الإلهي لم تسلم من هذه النزعة السوقية، فقد ختمها بهذا البيت:
سكارى بمولاهم وأنت بجيفة
فقس رخما بالباز عند التناصف
والظاهر أنه في مثل هذه المواقف يعرض بأعداء الصوفية، وهذا التعريض هو الذي يقدح في قيمة انجذابه نحو الذات الإلهية التي لا يرى المحب عندها صورة لأحد من المخلوقين.
والحق أن اليافعي لم تصلح نفسه صلاحية تامة للحب الإلهي؛ لأنه يتحدث كثيرا عن الجنة والنار، ويجعل الخوف والرجاء موصولين بأشياء حسية لا يفكر فيها المحبون، والأصل في الحب الإلهي أن يكون جذوة تشغل المحب عن كل ما سوى المحبوب، فلا يعرف النعيم ولا الجحيم، ولا يفكر إلا في رضا المحبوب، ولو كان من رضاه أن يقدف بالمحب في مهاوي الشقاء.
نظم قواعد التصوف
بقي الفن الأخير من منظومات اليافعي وهو خير ما عنده من الفنون، وهو نظم القواعد الصوفية، وله في هذا الفن قصيدة عينية لم نرها كاملة، ولكن عرفنا أهميتها من الشواهد المبددة في كتاب (نشر المحاسن الغالية)، وإليكم هذه الأبيات:
نفوس البرايا كالمطايا يقودها
إذا عودت في كل شيء تطاوع
فنفسك عودها حميدا من التقى
وعلم وآداب لها الزهد رابع
وصبر وشكر والتوكل والسخا
ومع ورع فقر به العبد قانع
ومع عزلة ذكر وسابق توبة
وخوف وعيد وهو في العفو طامع
وصدق وإخلاص وحسن استقامة
وكن راضيا فيما بك الحق صانع
وخاتمة العشرين زين خصالها
تواضع فللعبد التواضع رافع
19
ففي هذه الأبيات الستة ساق عشرين خصلة من خصال المريد الصادق، وهذا هو ما نريده من نظم قواعد التصوف.
وله قصيدة سماها (عذبة المعاني الدقيقة، في التغزل بين الشريعة والحقيقة) أراد أن يبين بها أن الشريعة هي الأصل «كالبحر والمعدن واللبن والشجرة، والحقيقة مستخرجة منها كالدر والتبر والزبد والثمرة»
20
وهي قصيدة طريفة:
فؤادي بعذبات المعاني معذب
وقلبي بنار من قلاها مقلب
تعوض عن سلمى بسعدى ووصلها
عزيز ومن لم يمنح الوصل يتعب
معنى فلا من ذي ولا ذي مواصل
فبين هوى سلمى وسعدى مذبذب
لعز معالي الفقه من قبل واصل
وبيض العلا في الفقر من بعد يخطب
وهي قصيدة طويلة فيها الغث والسمين يراها القارئ في الجزء الأول من نشر المحاسن الغالية.
21
منزلة اليافعي بين الصوفية
والمنظومات التي أراد بها اليافعي تقييد القواعد الصوفية كثيرة جدا، وهي على كثرتها لا تضيفه إلا إلى عوام الصوفية؛ لأنه لا ينحدر في مزالقهم إلا قليلا، ومن هذا القليل القصيدة التي يقول فيها:
يداوي لقلب في حرام مخفف
كجسم وبل أولى جوازا مؤكدا
لأن سقام الجسم أجر ورحمة
وبالضد جسم القلب للدين مفسدا
22
وهو يشير إلى الرأي الذي يقول: بجواز الإقدام على الحرام إذا كان فيه إصلاح للقلب.
وخلاصة القول: أن لمنظومات اليافعي أهمية عظيمة في نشر الثقافة الصوفية، ولكنها من حيث ذاتها ليس فيها محصول جديد، واليافعي نفسه لا يدرك من التصوف غير الغاية النفعية، فالصوفي عنده رجل يخاف النار ويرجو ما وعد به المتقون من نعيم الجنان.
وما نريد بهذا أن نخرجه من حظيرة التصوف، وإنما ننص على أن تصوفه ليس من النوع الخطر الذي يحل صاحبه من قيود الشرع ويسلكه في زمرة المتفلسفين.
ولهذا المسلك قيمة من الوجهة الأخلاقية، فالمريد الذي يربيه اليافعي شخص وسط يسير في الطريق المأمون، وعليه أن يراعي من قواعد السلوك ما ينسجم مع العرف والمألوف، فلا يزيغ بين الحقائق والأضاليل.
وليس في منهج اليافعي ما يعاب غير الإسراف في التشبث بصحة الكرامات، وهذا يقلب مسلكه المأمون في التصوف؛ لأنه يصور أقطاب الصوفية بصورة من يملكون تصريف الوجود، وعندما يصح هذا في أذهان العوام الذين يربيهم على أدب الشرع ينقلبون إلى طوائف من الموسوسين لا يمسكهم عقل ولا يحوطهم تدبير.
وقد أشرنا من قبل إلى قيمة منظوماته من الوجهة الفنية، فلنقيد مرة ثانية أن أسلوب هذا الرجل أسلوب وسط، واللحن يغلب عليه، بالرغم من حذلقته النحوية التي يلوح بها من حين إلى حين.
وهناك عيب يجب النص عليه وهو غرام اليافعي بالنظم، فإنا نراه يحرص على وضع منظوماته في كل موضوع، كأنه موكل بنظم ما عرف الصوفية من المعاني والأغراض، وهذا يدل على أنه كان في أكثر أحواله من المتكلفين، ومن الناس من يوصي بالتواضع ليقع في الكبرياء.
أشعار النابلسي
نشأته
هذه شخصية كان لها شأن في أواخر القرن الحادي عشر وصدر القرن الثاني عشر. كان لها شأن يوم كان التصوف يخلق لأصحابه ألوف الألوف من المريدين والأتباع، فكان عبد الغني النابلسي شغل الناس في مصر والشام والحجاز والعراق.
ولد النابلسي في دمشق سنة 1050، وتوفي بها سنة 1143 وكان فيما يظهر من أخباره متفوقا في اللغة والدين والتصوف، فترك فيما يقال نحو مئة مصنف، أكثرها في الفقه والتوحيد والحديث.
اتصاله بأسرة البكري في القاهرة
وكان النابلسي موصول العهد بأسرة البكري في القاهرة، فكان حين يزور مصر ينزل بأولئك الأشراف فيساقيهم كئوس المودة والصفاء. يدل على ذلك اهتمامه بتخميس وتشطير ما أثر من أبيات الشيخ محمد البكري، ولذلك شواهد في «ديوان الحقائق، ومجموع الرقائق»، ويصرح بهذه الصلة الوثيقة قوله في التمهيد لشرح القصيدة الطائية:
وقد طلب منا حبيبنا
1
الشيخ زين العابدين البكري شرح هذه القصيدة الطائية فشرحناها شرحا لطيفا، وأكملنا الكلام في معانيها تحقيقا وتعريفا، على حسب وارد الفتوح، ينبسط له القلب وتنشرح به الروح، وسميناه (نفخة الصور، ونفحة الزهور، في الكلام على أبيات قبضة النور) وأتممناه في مصر المحروسة في بيت الشيخ زين العابدين المذكور ... إلخ.
2
أناشيده ومواويله
واتصاله بأسرة البكري في القاهرة يفسر لنا جانبا من حياته الأدبية فإن المواليا «المواويل» عنده تغلب عليها الصبغة المصرية، وقد لا يبعد أن تكون بقيت بقية من مواويله ينشدها المنشدون في الأذكار وهم لا يعرفون الناظم الأصيل، وإليكم هذا الموال:
يا أمة العشق فزتم بالبصر والسمع
قوموا اتركوا الفرق عنكم واقبلوا للجمع
نور الشموع الذي يلمع عليكم لمع
من حرقة القلب قد سالت دموع الشمع
وهذا الموال:
قوموا بنا كلنا نخرق حجاب الطبع
ونتبع يا جماعة ما أتى في الشرع
حتى نشاهد جمال الله يلمع لمع
ولا جود لنا وهو الوجود الجمع
وهذا الموال:
حبيبنا في بديع الحسن حيرنا
بين الحياة وبين الموت خيرنا
حكم علينا وبالهجران غيرنا
وبعد هذا بسوء الحال عيرنا
فهذه المواويل تأخذ وقودها من التعابير المصرية، ومن المؤكد أنها عاشت في القاهرة حينا من الزمان.
مقام الشيخ عبد الغني النابلسي في دمشق.
مجموعة أشعاره
وبمناسبة هذه الأناشيد نذكر أن النابلسي كان يغذي حلقات الأذكار بمنظومات خفيفة الروح، فكان له فضل في إذاعة المعاني الطريفة بين المريدين، وهو صاحب الأنشودة الرائعة، أنشودة الساقي، وانظروا كيف تلطف الحركة وتقوى النبرات الموسيقية في هذا النشيد:
ساقي يا ساقي
اسقيني من خمرة الباقي
واكشف لي عن قيد إطلاقي
آه يا ساقي، آه يا ساقي
أستاره راحت
عن عيني والزهرة فاحت
والسكرة بالأسرار باحت
آه يا ساقي، آه يا ساقي
اكشف لي عنك
في ذاتي وافتح لي دنك
واجعلني يا حبي أنك
آه يا ساقي، آه يا ساقي
افتح لي باب الحان
واسمعني من طيب الألحان
وارشفني من كاسي الملآن
آه يا ساقي، آه يا ساقي
من يشرب يسكر
من خمري لما يتفكر
والمغرور في علمه أنكر
آه يا ساقي، آه يا ساقي
لا يعرف أمري
إلا من يشرب خمري
أحشاؤه تصلى في جمري
آه يا ساقي، آه يا ساقي
وقوة الروح في هذا النشيد لا تخفى على أصحاب الأذواق.
إخوانياته
وأهم الآثار الباقية من أدب النابلسي هو المجموع الضخم الذي يحوي ما نظمه في المواجيد الذوقية والمدائح النبوية، والأحاجي الشعرية، والغزليات.
وهو يسمى القسم الأول (ديوان الحقائق، ومجموع الرقائق، في صريح المواجيد الإلهية، والتجليات الربانية، والفتوحات الأقدسية).
ويسمى القسم الثاني (نفحة القبول، في مدحة الرسول).
ويسمى القسم الثالث (رياض المدائح، وحياض المنائح، ونفحات المراسلات، ونسمات المساجلات).
ويسمى القسم الرابع (خمرة بابل، وغناء البلابل).
ولهذا المجموع الضخم مقدمة طويلة مسجوعة يغلب عليها التكلف، لم يعجبنا منها إلا تعابير قليلة، كأن يقول: «وهدى إليه قوما بضلالهم فيه».
وكأن يقول: «والخارجين من مكة النفوس قبل الفتح».
وكأن يقول: «وتأملوا ظهوره للعقول بأنواع المعاني، وتجلياته للحواس الخمس بالصور المختلفة كالماء المطلق في قيود صبغة القناني».
الألفاظ الحسية
ويعد النابلسي من أقطاب شعراء الصوفية، وإن كان لا يستطيع اللحاق بابن الفارض، وهو في أغراضه أوضح من ابن عربي، وهو كذلك أقرب منه إلى البيئات الشعبية، وهو لا يخرج في أشعاره عن دائرة التصوف إلا قليلا، كأن يقول في الإخوانيات:
أخ لي يظهر الغيب أرعى وداده
ويرعى ودادي يا رعى الله من يرعى
أهيم به في الحب وهو يهيم بي
فيا خيبة الواشي إذا رام أن يسعى
وكأن يقول في الحساد والأعداء:
من لعبد بجسمه السقم بادي
بين أيدي حواسد وأعادي
وعيون قد أحدقت بازورار
وخزنتي مثل السيوف الحداد
وقلوب كأنما البغض فيها
جمر نار تبدو من الأجساد
صاعدات أنفاسها كدخان
منه يعلو الوجوه صبغ السواد
إنكار وحدة الوجود والحلول والاتحاد
وللنابلسي ألفاظ لا ندري كيف استساغها معاصروه، ألفاظ حسية أدارها في معارض معنوية، كأن يقول في خطاب المريدين:
يا ذوي الاعتقاد فينا ويا من
أسسونا على أتم أساس
أحصنوا بالتقى فروج قلوب
طاهرات ممن سواكم يقاسي
من زناة لهم ذكور كلام
نطف الغي منه والوسواس
جامعوه يلقون فيه شكوكا
تنتج الريب في أمور الناس
وقد سلك هذا المسلك في العينية وهي من قصائده الطوال، وانظروا كيف يقول:
وجاءت بأنواع الشهادة أمة
على الحق زكتها صفات بوارع
وهذا نكاح الأم عقد محقق
ومن كل شيء خلق زوجين بادع
شهدنا على إيجابنا وقبولنا
وكانت لنا في الحضرتين وقائع
وزفت عروس القرب ليلة قدرنا
وفي ذكر الذكر استلذ المجامع
وإنزاله القرآن قد حملت به
فروج قلوب بالعلوم تدافع
وبت طلاق الصبر زوج فتى الهوى
ثلاثا على سلمي فكيف يراجع
ولو دفعت كل الذي هو ملكها
على طلقة ما كان قلبي يخالع
وهذه الألفاظ لها عنده تأويل، فهو يقول بعد أبيات:
كلام على حكم العيان مفصل
به الغيث من سحب الحقيقة هامع
3
منزلته الشعرية
والنابلسي ينكر وحدة الوجود وينكر الحلول والاتحاد، فيصف الله في مقدمة ديوانه بأنه «الظاهر من حيث صفاته وأسماؤه في صورة كل أحد، من غير أن يحل في شيء أو يكون بشيء اتحد، والباطن من حيث ذاته العلية، عن معرفة أحد من البرية، فكل ما يخطر في بالك فهو من حيث أسماؤه وصفاته كذلك، وهو من حيث ذاته العلية بخلاف ذلك».
ويقول في الرد على من يعتقد وحدة الوجود:
ولا تقل: أنت هو ما أنت هو أبدا
لا شيء كيف يساوي الشيء واعجبي
ويقول في نفي الاتحاد والحلول:
لا تقل: حل ولا
تقل: الحق اتحد
ضريح سعد الدين الجباوي بضواحي دمشق ويرى الناظر جماعة من الصوفية يذكرون وينشدون.
ولكنه في موطن آخر يحتال لتفسير وحدة الوجود فيقول:
لا تقل: وحدة الوجود إذا لم
تفن عن كل كائن موجود
ثم تفني ذوقا بتحقيق حق
عنك حتى عن الغنى المقصود
ويصير الوجود عنك خفيا
لست تدري منه سوى فرط جود
وإذا لم تكن كذلك فاحذر
من تلابيس عقلك المعقود
واجتنب وحده الوجود ودعها
لرجال قاموا بحفظ العهود
وهو في هذا يتابع ابن عربي الذي لا يبيح لكل سالك أن يقول بوحدة الوجود.
بقي النص على منزلة النابلسي في الحياة الشعرية ونحن نراه شاعرا وسطا بين شعراء الصوفية، ولولا التصوف لما أضيف اسمه إلى الشعراء.
4
وهذا لا يمنع أن نحكم بأنه أجاد في بعض المواطن ولا سيما المواويل كأن يقول:
نوحي على فقدهم يا مقلتي نوحي
والدمع طوفان هل منه نجا نوحي
يا من إذا أبطأوا جئنا لهم نوحي
لأنبياء المحبة لم نزل نوحي
وفي هذا الموال جناس مقبول،
5
والجناس من الخصائص الأساسية في المواويل المصرية، وربما جاز أن نستجيد هذا الموشح الطريف:
تجلى وجه محبوبي
وهذا كل مطلوبي
فيا نار العدا ذوبي
بعيد عنك مشروبي •••
جمال الأهيف الزاهي
وحسن الأغيد الباهي
به صبري هو الواهي
وموتي فيه مرغوبي •••
رأينا نوره أشرق
فكنا برقه الأبرق
ولا نجد ولا أبرق
سوى الإبريق والكوب •••
علينا الخمر قد دارت
بها ألبابنا حارت
وأطيار الهوى طارت
بترتيب وأسلوب •••
مليح الكون وأفانا
وزاد الحسن إحسانا
وحيا يوسف الآنا
فقرت عين يعقوب
هذا؛ ولا ينسى القارئ أن أهمية النابلسي ترجع إلى ما أثر في عصره من الدعوة إلى الحق. أما منزلته الشعرية فهي عندي ضعيفة كل الضعف، وقد قضيت ليالي في درس ديوانه فلم أجد له قطعة واحدة تلحقه بأكابر الشعراء.
وفي الناس من يحيا مرة واحدة ثم يموت، وأظن النابلسي أخذ حظه وهو يتنقل بين مصر والشام والحجاز والعراق، فإن جحدنا فضله اليوم فلا بأس فقد عاش حتى سئم العيش، ولعله ظفر بما كان يطمح إليه من الخلود في عالم الأرواح.
منظومات حسن رضوان
خلاصة ترجمته
الشيخ حسن رضوان صوفي من رجال القرن الثالث عشر، ولد في سنة 1239 ومات في سنة 1310 فهو قريب العهد، وكان مولده في ببا الكبري بمديرية بني سويف، وأجداده كانوا من أهل الشام، والذي انتقل منهم إلى مصر جده الثاني، وقد توفي والده وهو صغير فرعته أمه، وأرسلته لطلب العلم في الأزهر الشريف فبلغ مقام التدريس وهو ابن سبع عشرة سنة، وأخذ الطريق وهو في سن العشرين، ثم ترك القاهرة وانتقل إلى بلدة تسمى السريرية بمديرية المنية، حيث أقام بزاوية أستاذه تسع سنين، تولى فيها مراقبة المريدين بتلك الزاوية وكانوا خمس مئة أو يزيدون، ثم انتقل بأهله من السريرية إلى بلد يسمى (سفط أبي جرج) بمركز بني مزار، واشترى دارا بجوار المسجد فاجتمع عليه الناس لمدارسة العلم وتلاوة القرآن، ثم أمره أستاذه بالانتقال إلى بلدة تسمى أبا الوقف فأقام فيها خمس سنين، ثم حج البيت الحرام، وبعد رجوعه انتقل إلى بلدة تسمى أبشاق الغزال بالقرب من سفط أبي جرج، وما زال يتنقل من بلد إلى بلد في سبيل العلم وخدمة الفقراء إلى أن توفي إلى رحمه الله في سنة 1310.
1
قيمته الأدبية
وحياة الشيخ حسن رضوان هي نموذج لحياة الصوفي الحق، فقد كان الرجل من أهل العلم، وكان اهتمامه موجها إلى نشر الثقافة الدينية والصوفية، فكان يقيم الدروس وينشئ المؤلفات، ويذيع المثل الطيب بسلوكه الشريف بين الناس.
وقد ترك هذا الرجل سيرة عطرة فما اتصل به من البلاد، وغرس فيمن عرفهم حب الدرس، وقد حدثني الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق أن البلد الذي أقام فيه الشيخ حسن رضوان كثر فيه العلماء والمدرسون، فهو من الهداة الصالحين الذين عرفتهم مصر في القرن الثالث عشر، وإليه يرجع الفضل في تثقيف جمهور كبير من أهل ذلك العهد.
معنى التصوف
ترك الشيخ حسن رضوان طائفة من المؤلفات الدينية والصوفية.
2
ولكن أهم آثاره هو (روض القلوب المستطاب) وهو منظومة مطولة تقرب من اثني عشر ألفا من الأبيات، وربما كانت هذه المنظومة أعظم منظومة في قواعد التصوف، وهي تدل على مرونة اللغة في قلم ذلك الشاعر البليغ، وتدل أيضا على أنه كان من أعلم الناس بأصول التصوف، ومن أعرفهم بمذاهب القوم.
والذي ينظر في هذه المنظومة يعجب كيف اتفق لذلك الرجل أن يعي كل تلك الحقائق، وما ظن القارئ برجل لم يترك من التصوف شاردة ولا واردة إلا قيدها بأسباب من النظم الوثيق؟ ما ظن القارئ برجل يعرف ما يأتي وما يدع في ميدان كثر فيه الوهم والضلال؟ ما ظن القارئ برجل قعد التصوف تقعيدا وصيره من العلوم ذوات القواعد والأصول، بحيث يرى المطالع أنه ينظر في فن مقعد مضبوط؟
وتظهر قوة الشيخ حسن رضوان حين يتصدى لشرح بعض الإشارات، فهنالك ترى نفسك أمام رجل يعني ما يقول، ويفهم ما يريد.
يضاف إلى ذلك الجرأة الهائلة في شرح ما يؤمن به في مزالق التصوف، ولكن أي شرح؟ شرح واضح لا مداورة فيه ولا التواء.
ولا يمكن لقارئ أن يعرف قيمة الشيخ حسن رضوان إلا أن اتفق له ما اتفق لنا من الحيرة الطويلة في فهم مذاهب القوم، فقد قضيت سنين وأنا أتحسس مقاصد أولئك الناس، فلما وصلت إليه عجبت كيف وضحت تلك المذاهب في نفسه فجلاها في أظهر بيان.
وحدة الوجود
ومن أعجب ما وقع لهذا الناظم أنه بدأ منظومته بأصعب مسألة، وختمها بأسهل مسألة، بدأها بالكلام على وحدة الوجود، وختمها بتعريف التصوف، ولو أنه عكس لكان أقرب إلى النظام المقبول في الترتيب.
فلنبدأ نحن بكلامه في تعريف التصوف، وهو يرى أنهم اختلفوا فيه:
فبعضهم بالفقر عنه عبرا
وبعضهم بوصف زهد فسرا
وبعضهم بالأخذ بالحقائق
ويأسه مما لدى الخلائق
وقائل: بحب الافتقار
والفقر والإعطا مع الإيثار
وترك الاختيار بالتسليم
إلى مراد العالم الحكيم
وبعضهم بقطع كل عائق
عن ربنا من مطلق العلائق
وقيل: إنه القيام بالأدب
لكل وقت في جميع ما طلب
من شكر نعمة عليه أسبغت
أو توبة مما به نفس بغت
وقيل: أن يحيى الإله عبده
به وأن يميت منه قصده
وقيل: ذكر باجتماع والعمل
مع اتباع ثم وجد اتصل
وقيل: إنه النقا والتصفية
للقلب من معوقات التوفية
ويحدثنا أن لفظ «الصوفي» لم يكن مستعملا في عرف النساك، وإنما هي لفظة اصطلاحية أخذت من (الصوف) وهي ثلاثة أحرف: صاد، واو، فاء، وكل حرف من هذه الأحرف يشير إلى عدة معان:
فالصاد صرف الهمة القويه
في كل مرضي وصدق النية
وصبره على البلا والطاعه
وعن أمور توجب انقطاعه
وصده الهوى عن الفؤاد
وصرفه عن خلطة العباد
وصدعه بالحق لا يبالي
من لومة في الله ذي الجلال
وصفحة عن كل من يؤذيه
والصدق في جميع ما يبديه
وصونه لجملة الأنفاس
بضبطها والصلح بين الناس
وصرمه حبال كل عائق
يعوقه عن رؤية الحقائق
وصقل قلبه بذكر ربه
وصمته عن مانع من قربه
وأن يكون صاغرا بحيث أن
يرى الصغار عنده من المنن
أولئك ما يشير إليه حرف الصاد
أما الواو فقد فصل إشاراتها إذ يقول
والواو وصله جميع ما أمر
بوصله المولى وفضله اشتهر
ووده في الله كل من عرف
بوصف إيمان وبالتقوى وصف
كذا وقوفه على الحدود
مع الوفا لله بالعهود
والوعد مثل العهد في وفائه
لديه عن عزم لدى إبدائه
أما الفاء فإشاراتها أغرب، ولننظر كيف يقول:
والفاء للفتوة المعهوده
في عرفهم وفقده شهوده
والفتق والفتوح والفرقان
وفتحه الموصوف بالبيان
وفرقه الثاني، وهذا بعض ما
له حروفه تشير فاحكما
وقد شرح الغامض من هذه الإشارات فبين أن (الفتق) هو في عرف أهل الحق عبارة عن اتصافه بما يفيده تفصيل المادة المطلقة بصورها النوعية، أو ظهوره كلما بطن في الحضرة الواحدية، من النسب الأسمائية، وبدو كل ما كمن في الذات الأحدية، من الشئون الذاتية، كالحقائق الكونية بعد تعينها في الخارج؛
3
وقد شرح «الفتوة» وهي كلمة يكثر ورودها في كتب الصوفية، وهي عندهم عبارة عن خمود حرارة القلب اللازمة للبداية.
4
والقول: بأن كلمة «صوف» اختيرت لما تشير إليه الصاد والواو والفاء هو قول لم أره عند غيره من الصوفية، فإن كان من مبتكراته فهو تعليل طريف يدل على براعة الخيال.
على أن هذا لم يمنعه من نظم أقوالهم في اشتقاق التصوف:
وقد جرى من حيث الاشتقاق
في لفظة التصوف الشقاق
وكل ذي قول له توجيه
لقوله في نفسه وجيه
ولكن القياس والقواعد
في جملة الأقوال لا تساعد
والبعض منهم قد يقوى قوله
بالأخذ من صوف بلبسهم له
فقوله هذا وإن يكن وجد
له قياس في كلامهم عهد
لكن أهل الحق لم يختصوا
بلبسه ولا عليه نصوا
وهو بهذا النظم قيد ما جاء في فاتحة الرسالة القشيرية، ولكن البيت الأخير عليه اعتراض؛ لأنه يقرر أن الصوفية لم يختصوا بلبس الصوف ولم ينصوا عليه، وهذا غير صحيح، فإن الصوفية اختصوا بلبس الصوف ونصوا عليه، وإن كان لم يفتهم أن يقرروا في غير موطن أن طهارة القلب هي الأساس، وأن المطلوب تصوف القلب لا تصوف الثوب.
5
ومن رأي الناظم أنه لا ينبغي مطالبة الصوفية بمجاراة القياس أو الاشتقاق.
فإنهم أجل من أن تفتقر
أقوالهم إلى قياس مشتهر
أو اشتقاق إذ لهم قانون
ساروا به وسره مكنون
فلفظهم أقفاله لا تفتح
إلا بذوق أو بكشف يمنح
آداب السلوك
وأهم مسألة عرض لها الناظم هي (وحدة الوجود) وقد جعلها غاية الغايات من منظومته حين قال في الختام:
وهذه الرسالة الشريفه
جمعتها بهمة ضعيفه
لكن بحمد الله جاءت كافيه
في سير أرباب القلوب الصافية
فكل بيت من بيوتها اشتمل
على معان تنجلي لمن دخل
وكلما تكرر الدخول
في أي بيت يحصل المأمول
وتنجلي الرقائق المطويه
في لفظة والحكمة المنويه
لا سيما ما كان في العقائد
فإنه من أعظم المقاصد
وحسبه من ذلك المقصود
إشراق نور وحدة الوجود
وهو بهذا أجرأ من الشعراني الذي أعلن براءته من القول بوحدة الوجود، وأصرح من ابن عربي الذي دار حولها في تهيب واحتراس.
وربما كان من أسباب شجاعة الناظم أنه نشأ في مصر في أيام لم تكن فيها حقائق التصوف من المشكلات، أو لعل الذين عاصروه من كبار العلماء لم يكونوا من الذين يثيرهم القول بوحدة الوجود ، أو لعل شغل الجمهور المصري بالمشاكل السياسية التي خلفت الثورة العرابية كان مما صرفه عن تعقب المشكلات الصوفية.
6
ولننظر كيف عبر عن هذه النظرية إذ يقول:
وكل ما سواه نجم آفل
بل في شهود العارفين باطل
فليس إلا الله والمظاهر
لجملة الأسماء وهو الظاهر
فغيره في الكون لا يقال
لأنه في ذاته محال
ورتبة الإمكان لا تفارق
لممكن ما وهي فيه الفارق
فالحق ذاتا واجب الوجود
لنفسه وعز في الشهود
وكل مظهر بروحه استمد
من حضرة الأسما بخير ما استعد
ومن هنا اليقين والتمكين
في رتبة الشهود والتلوين
فمن صفت مرآته تحققا
بما من الأسما عليه أشرقا
وشاهد المشاهد المصونه
وأدرك المواهب المكنونه
وقد اهتم بشرح هذه الأبيات فقرر أن كل ما سوى الله من الأعيان الظاهرة والماهيات الممكنة علوية وسفلية باطل في شهود العارفين من حيث ذاته فلا حقيقة له أزلا وأبدا، وإنما الموجود حقيقة هو ذات الحق تعالى، وليس لتلك الأعيان والماهيات الظاهرة وجود حقيقي ذات لها، وإنما المشاهد فيها انصباغها بنور الوجود الحق على نحو من أنحاء الظهور، وطور من أطوار التجلي الحقي، فهو الظاهر في جميع المظاهر، والمشهود في كل التعينات بحسب تفاوتها في استعداداتها، وتعدد شئونه بتكثر حيثياتها، على مقتضى العلم القديم بذلك كله إجمالا وتفصيلا، كليا وجزئيا، فالتوحيد للوجود، والكثرة والتمييز للظهور على مقتضى العلم، فللوجود الحق تجل بذاته لذاته يسمى غيب الغيوب والعماء الأزلي، وظهور بذاته لأسمائه وصفاته، وهو عبارة عن تجليه الوجودي المسمى بالنور المفاض على سموات الأرواح وأرض الأشباح، الله نور السماوات والأرض به ظهرت أحكام الماهيات والأعيان، وحصلت بذلك النسب والإضافات، وظهرت آثار الأسماء والصفات التي هي فعله، وبسبب تميز هذه الأعيان وتخالفها لسر اقتضته مرتبة الألوهية اتصفت حقيقة الوجود بصفة التعدد والكثرة بالعرض لا بالذات، ومن ذلك السر الجمع بين الأضداد، فظهر الحق في كل ماهية على ما تقتضيه ذاته الكريمة من التنزه التام القديم الذي لا يعرفه غيره، وظهرت الماهيات بالحق، وتعاكست أحكام كل منها إلى الآخر مع ذلك التنزيه أيضا، فصار كل منها مرآة لظهور الآخر فيه، ويشهد لذلك قوله
صلى الله عليه وسلم : (رأيت ربي في صورة شاب أمرد)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (خلق الله آدم على صورة الرحمن
7 ... فالحق تعالى ليس له إلا تجل واحد على الأشياء، وظهور واحد على تلك المظاهر، وهذا الظهور هو بعينه ظهوره برتبة تنزله لنفسه في مرتبة أفعاله، فلا يمكن أن يكون هذا الظهور مثل ظهوره بذاته لذاته لاستحالة المثلية بين الظهورين. وهذا هو المراد بقوله عز شأنه: «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فبي عرفوني»، فظهرت الذات الأحدية، والحقيقة الحقية، في كل مظهر من المظاهر بحسبه على ما علمت من التنزيه القديم، لا أن لها بحسب ذاتها ظهورات متنوعة، وتجليات متعددة، وإنما ذلك تقريبا كتكثر نور الشمس وتلونه بتعدد ألوان الزجاجات المقابلة له، فمن شاهد حقيقة النور الأصلي وعرف أنه لا لون له في ذاته انكشف له أن هذه الألوان المتكثرة في الظاهر إنما هي من الزجاجات بحسب استعداداتها فقط، ولا تعدد للنور في ذاته، ومن وقف مع الزجاجات وألوانها احتجب بها عن النور الحقيقي، فمن وقف مع مظاهر الحق تعالى وتعددها وتكثرها وتوهم أنها أمور مستقلة بوجود مع الله تعالى فقد ضل بذلك عن سبيل الجادة وأفحش وأثم، وبغى بغير الحق ظاهرا وباطنا، حيث أشرك مع الله ما لم ينزل به سلطانا،
8 ... فتحصل من ذلك كله أن كل شيء مما سوى الله تعالى إذا اعتبرته من حيث ذاته وجدته عدما محضا، وإذا اعتبرته من حيث الوجود الحق رأيته موجودا بذلك الوجود الذي ظهر عليه نوره من التجلي الوجودي للفعل الذاتي، فلكل شيء حينئذ وجهان: وجه إلى نفسه، ووجه إلى موجده، فمن نظر وجهه إلى نفسه وجده عدما صرفا ونفى الأفعال عنه، ومن نظر وجهه إلى ربه وموجده وجده موجودا بوجود موجده ونسب الأفعال إليه، كما جاء به الشارع، «والله خلقكم وما تعملون». فكل شيء موجود معدوم: فالعدم صفته الذاتية، والوجود إنما ثبت له بالعرض لا بالذات ... فانكشف لك بما تقرر أنه لا موجود في الحقيقة إلا الله، وأن الوجودات الكونية وإن تكثرت وتعددت وتمايزت هي في الواقع ونفس الأمر من مراتب تعينات الحق، وظهورات نوره، وشئون ذاته، وآثار أسمائه وصفاته التي هي عين ذاته. قال قائلهم:
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه عينه
لا أنها أمور مستقلة، وذوات منفصلة، بجعل وتأثير فيها، وإنما تعينها وظهورها بنفس فيضان الوجود الحق عليها، فإذن ليس في الوجود إلا ذات الحق وأسماؤه وصفاته ومظاهرها، واسم الخلقية مستعار لتلك الحقائق الكونية التي هي شئون الذات وآثار الأسماء والصفات، أعارها الحق تعالى لتلك الشئون والمظاهر لإظهار الألوهية ومقتضياتها من الجمع بين الأضداد، قال الجيلي:
وما الخلق في التمثيل إلا كثلجة
وأنت بها الماء الذي هو نابع
وما الثلج في تحقيقنا غير مائه
وغيران في حكم دعته الشرائع
ولكن بذوب الثلج يرفع حكمه
ويوضع حكم الماء والأمر واقع
تجمعت الأضداد في واحد البها
وفيه تلاشت وهو عنهن ساطع
9
فالجيلي مثل العالم بالثلج، ومثل الحق تعالى بالماء، وليس إلا الماء، والثلجية طارئة، فليس إلا الحق والخلقية عارية ... وكما لا تحيط العقول والأفكار بحقيقة ذاته وأسمائه وصفاته فكذلك لا تحيط بكيفية ظهوره في مظاهره وتجلياته التي هي شئون ذاته، فهي أدق وأرفع من أن تدرك لغيره ... وظهور الحق بذاته في مظاهر أسمائه وصفاته أولى وأجدر في الحيرة وعدم الاهتداء إلى معرفة الحقيقة من ظهور صورة في مرآة، فإن الناظر في المرآة يعلم قطعا أنه أدرك صورته بوجه، ويعلم قطعا أنه ما أدركها بوجه، لما يظهر له من دقة صورته لصغر المرآة، والحال أنه محقق كبر صورته عما شاهده، أو لما يرى من كبر وجهه لكبر المرآة مع قطعه بصغر صورته، فلا يمكنه إنكار رؤية صورته، ويعلم أنه ليست في المرآة صورته، ولا هي بينه وبين المرآة، ولا هي مرئية بانعكاس شعاع البصر إلى الصورة، إذ لو كان كذلك لرآها على حد ما هي عليه في الخارج، مع علمه بأنه رأى صورته من غير شك، فإذا أخبر بعد ذلك بأنه رأى صورته وما رأى صورته فلا شك أنه ليس بصادق ولا بكاذب، إذ يقال: ما هي تلك الصورة؟ وأين محلها؟ وما شأنها؟ فإذن هي منفية ثابتة، موجودة معدومة، مجهولة معلومة، فلم يهتد الناظر في المرآة إلى معرفة حقيقة صورته الظاهرة فيها وهي من العالم المحسوس ... فهو إذن في معرفة تجليات الحق وظهوره في مظاهره أشد عجزا وجهلا.
10
ولكن متى يصل المرء إلى الفهم الحق لوحدة الوجود؟
إن جواب ذلك عند الشيخ حسن رضوان إذ يقول:
إذا من الحق تعالى على عبد من عباده واصطفاه بصفاء نفسه من كدورة التعلق بما سواه، وطهره من جنابات غفلاته، ورعونات شهواته، حتى أفناه به فيه حق اليقين، وبلغ بذلك مرتبة جمع الجمع، ولحقت نفسه بعالمها العلوي الأصلي، قامت به حينئذ رقيقة لطيفة ذاتية حقيقة مفاضة من جانب الحق تعالى بفيض رحمانيته ينكشف له بها سريان الوجود الحق في جميع ذرات الممكنات، وسر تجليات الأسماء والصفات وظهوره في كل مظهر بحسب استعداده كشفا إيمانيا وذوقا روحانيا، فيرى الحق في الخلق، والخلق بالحق، وهذا هو مشهد كمل العارفين المحققين.
11
تلك فقرات اقتبسناها مما كتب الشيخ حسن رضوان في شرح المراد من وحدة الوجود، وما يهمنا في هذا الموطن أن نناقش ما كتب، فقد درسنا هذه النظرية وبينا ما لها وما عليها حين شرحنا آراء ابن عربي، والمهم هو التنبيه إلى فهم هذا الرجل لأسرار التصوف، وهو لم يخلق هذه النظرية ولم يبتكر الدفاع عنها، ولكن كلامه يشعر بأنه كان من المتفوقين في درس هذه الشئون.
وقد تأثر الرجل بابن عربي تأثرا شديدا، وعبارة «قال قائلهم» لم يقصد بها غير ابن عربي؛ لأنه صاحب ذلك البيت.
وحين نأخذ في درس تلك المنظومة المطولة يروقنا ما نراه فيها من الانسجام وهو يقيد آداب المريدين، من ذلك قوله في القبض والبسط:
فالقبض حق الحق إن تجردا
عن علة والبسط عن حظ بدا
فواجب في القبض الانفراد
عن الورى لتحصل الأمداد
ولازم في البسط حفظ النفس
من الركون عند هذا الأنس
فربما تزهو بغير ربها
فيطفئ المزهو نور قربها
ومن صفاتها تحقق الفرح
بربها وحبها لمن نصح
وميل طبعها إلى الصوت الحسن
بما لها من الهيام والشجن
ووجدها يزداد بالسماع
من غير أن يفضي إلى الضياع
ويعتريها عند ذلك القلق
شوقا إلى مألوفها الأصلي الأحق
ومن صفاتها تحمل الأذى
وترك أخذ حقها ممن شذا
12
وعفوها عنه مع التحلم
وصفحها بدون ما تظلم
والصدق والإخلاص في المعامله
لله واستحضار أن الأمر له
13
وهذا الشاهد يكفي لبيان مذاهب ذلك الرجل في الإفصاح عن آداب المريدين.
وخلاصة القول: أن منظومات حسن رضوان في أصول التصوف هي تحفة من التحف الأدبية، وتظهر قيمتها لمن عانى درس التصوف وعرف ما فيه من وعورة المسالك والشعاب.
ولم تكن تلك المنظومات كل ما ترك من الآثار الشعرية، فقد كانت له قصائد في مدح الرسول، والثناء على أهل الطريق، ولكن تلك المنظومات هي خير آثاره الشعرية، فقد كان انطبع على الرجز ولان له قياده فأتى فيه بالأعاجيب. وليس من القليل أن يتفرد الرجل بنظم ما يقرب من اثني عشر ألفا من الأبيات في فن واحد، ولكن أي فن؟ فن التصوف الذي يقوم على المعاني وأحوال القلوب.
المدائح النبوية
من أين نشأ الغلو في مدح الرسول
كان من أصول هذا الكتاب قسم كبير خاص بالمدائح النبوية في الأدب العربي، ولكن اللجنة التي درست هذا الكتاب أول مرة اقترحت أن يطبع ذلك القسم مستقلا فطبعناه ونشرناه
1
ثم رأينا بعد التأمل أن المدائح النبوية لا يزال لها مكان في هذا الكتاب، ولكن أي مكان؟ نحن لا نريد أن نقتبس شيئا من الكتاب الذي نشرناه عن المدائح النبوية، وإنما نريد أن نفسر الغلو الذي يشهده كل من يقرأ ما مدح به الرسول، ذلك الغلو الذي يقضي بأنه لولا محمد ما ظهر شمس، ولا قمر، ولا نجوم، ولا أنهار، ولا بحار، ولا شجر، ولا مدر، ولا جبال.
نريد أن نبين كيف صح لمثل ابن نباتة المصري أن يقول:
لولاه ما كان أرض لا ولا أفق
ولا زمان ولا خلق ولا جيل
ولا مناسك فيها للهدى شهب
ولا ديار بها للوحي تنزيل
وكيف جاز للبوصيري أن يحكم بأن محمدا دان الأنبياء قبل أن يخلق فيقول:
وكل آي أتى الرسل الكرام بها
فإنما اتصلت من نوره بهم
فإنه شمس فضل هم كواكبها
يظهرن أنوارها للناس في الظلم
شرح الحقيقة المحمدية
وهذا الغلو لا يفهم إلا إذا عرفنا أنه يرجع إلى أصل من أصول التصوف، وهو القول بالحقيقة المحمدية، والحقيقة المحمدية هي العماد الذي قامت عليه (قبة الوجود) كما عبر ابن عربي، هي صلة الوصل بين الله والناس، فهي القوة المدبرة التي يصدر عنها كل شيء. ولنعط الكلمة لابن عربي ليشرح هذه النقطة من المذهب الصوفي:
اعلم أن الله لما خلق الخلق جعلهم أصنافا، وجعل في كل صنف خيارا، واختار من الخيار خواص وهم المؤمنون، واختار من المؤمنين خواص وهم الأولياء واختار من هؤلاء الخواص خلاصة وهم الأنبياء؛ واختار من الخلاصة نقاوة وهم أنبياء الشرائع المقصورة عليهم. واختار من النقاوة شرذمة قليلين هم صفاء النقاوة المروقة وهم الرسل أجمعهم، واصطفى واحدا من خلقه هو منهم، وليس منهم
2
هو المهيمن على جميع الخلائق جعله الله عمدا أقام عليه قبة الوجود، وجعله الله أعلا المظاهر وأسناها، صح له المقام تعيينا وتعريفا، فعلمه قبل وجود طينة البشر وهو محمد
صلى الله عليه وسلم
لا يكاثر ولا يقاوم، هو السيد ومن سواه سوقة.
3
فابن عربي يحكم بأن محمدا «هو من الناس وليس من الناس» هو من الناس لأنه مخلوق؛ وليس من الناس لأنه يفيض الوجود على الناس «هو المهيمن على جميع الخلائق جعله الله عمدا أقام عليه قبة الوجود» هو حادث الجسد ولكنه أزلي الروح.
وإلى هذا المعنى يوجه ابن عري قول الرسول: «أنا سيد الناس ولا فخر»، ويرى أن معناه «لا أقصد الافتخار على من بقي من العالم، فإني كنت أعلا المظاهر الإنسانية فأنا أشد الخلق تحققا بعيني؛ فليس الرجل من تحقق بربه ، بل الرجل من تحقق بعينه لما علم أن الله أوجده له لا لنفسه».
3
ومعنى هذا أن لله خلقين خلقا له وخلقا للعالم، ويفسر ذلك ما ورد في التوراة:
يا ابن آدم خلقت الأشياء من أجلك، وخلقتك من أجلي، فلا تهتك ما خلقت من أجلي فيما خلقت من أجلك.
3
و«ابن آدم» هنا عام، ويمكن أن يراد به النبي محمد؛ لأن ابن عربي يجعل الأنبياء كلهم «كلمات» لها منازل دون منزلة الحقيقة المحمدية. والوجود بالله معنى صوفي عبر عنه من قال:
إذا اشتد شوقي هام قلبي بذكره
وإن رمت قربا من حبيبي تقربا
فيبدو فأفنى ثم أحيا به له
ويسعدني حتى ألذ وأطربا
أثرها في القصائد والصلوات
وتحرير هذه القضية أن محمدا أول التعينات الذي تعين به الذات الأحدية قبل كل تعين فظهر به ما لا نهاية له من التعينات، فهو يشمل جميع التعينات، فهو واحد فرد في الوجود لا نظير له: إذ لا يتعين من يساويه في المرتبة، وليس فوقه إلا الذات الأحدية المطلقة المنزهة عن كل تعين وصفة واسم ورسم وحد ونعت، فله الفردية مطلقا، ومن هذا يعلم أن الاسم الأعظم لا يكون إلا له دون غيره من الأنبياء، ومن فرديته يعلم سر قوله: (كنت نبيا وآدم بين الماء والطين) كونه خاتم النبيين وأول الأولين وآخر الآخرين، ومن أوليته وجمعيته سر قوله: (أوتيت جوامع الكلم) وكونه أفضل الأنبياء فإنهم في التصاعد وسعة الاستعداد والمرتبة ينتهون إلى التعين الأول ولا يبلغونه، والتعين الأول هو محمد الذي ترجع إليه جميع التعينات فهو البرزخ بين الذات الأحدية وبين سائر الموجودات.
4
حديث: أنا سيد الناس
وليتذكر القارئ أننا نؤرخ فكرة صوفية، فلسنا في الواقع من أنصار هذا الرأي، ولا نكاد ندرك كيف كان محمد نبيا وآدم بين الماء والطين، والمرجح أن هذا التصور اقتبسه الصوفية من الفلاسفة القدماء،
5
والمهم هو أن نفهم أن الصوفية يتصورون ذاتا أحدية لا تتكثر إلا بالتعينات، والتعين الأول هو محمد، وهو الحكمة الفردية، وعنه نشأت جميع التعينات حتى الأنبياء، ومن أجل ذلك كان سيد جميع الناس، وكان خاتم الأنبياء.
وقد حام حول هذه النظرية كثير من أقطاب الصوفية، منهم محمد البكري الذي يقول:
قبضة النور من قديم أرتنا
في جميع الشئون قبضا وبسطا
وهي أصل لكل أصل تبدى
بسطت فضلها على الكون بسطا
وهي وتر قد أظهرت عدد الشفع
بعلم فجل حصرا وضبطا
ولدت شكلها فأنتج شكلا
بشريا أقام للعدل قسطا
وهو عبد قد حررته لديها
بيديها وكم أفاد وأعطى
حققته بحقها فهو حق
جاء بالحق ينظم الخلق سمطا
لنقوش النفوس حقق والرو
ح أرته في اللوح شكلا ونقطا
عالم منه آدم علم السر
وعلم الأشياء رسما وخطا
هي ناسوت أنسنا والهيولا
شمس سر الوجود بكر وشمطا
طلسم حارت العقول عليه
كنز بحر قد شط في الدرك شطا
إن شهدناه في الجمال شهدنا
لجميل غدا له الحسن مرطا
أو نظرناه في الجلال رأينا
أسدا فاتكا من الأسد أسطا
تاج فضل له الجحاجح دانت
وإليه رأس المفاخر وطى
كل شيء معناه والكل منه
وعليه مبناه ما اختل شرطا
واحد الشخص وهو مختلف الجنس
يقينا من أنكر الحال أخطا
وهذه الطائية خمسها النابلسي
6
وحدثنا أنه شرحها ولكنا لم نظفر بذلك الشرح، وقد عارضها بقصيدة رمزية تنتهي إلى هذه الغاية ومنها هذه الأبيات:
يا قريب اللقا بعيد التجافي
لم توافي رهطا وتهجر رهطا
نحن هدنا إليك ممن سواك الآ
ن فاجعل لنا من الأمر قسطا
وتدارك نواظرا وقلوبا
أعجمتها الأوهام شكلا ونقطا
إنما أنت أنت والحكم شيء
منك وهو الجميع عدا وضبطا
دخل القلب دير عشق سليمى
يحتسى من لقائها الاسفنطا
فرأى ثم نسوة طالعات
عن بحار الجمال يسكن شطا
ناظرات من الظبا بعيون
ناعسات من البواتر أسطا
في قدود كأنهن رماح
جعلت قتل من بها هام شرطا
كل هيفاء ينفح الطيب منها
كيف كانت تجول رفعا وحطا
أمر الله أن تطاع بحسن
راسم بالغرام في القلب خطا
بدر تم على قضيب تثنى
في كثيب بها عن المشي أبطا
هي شمس الضحى وبدر الدياجي
قد فنينا بها رضاء وسخطا
ثغرها بث عن صحيح البخاري
وأنا مسلم وقلبي موطا
وإلى هذه الغاية ذهب إبراهيم الدسوقي حين قال:
يقولون لي: ما العلم ما السر ما الذي
هو الجوهر الغالي عن البحر خبرنا؟
فقلت لهم: هذي مطالع نورنا
ومغربها فينا ومشرقها منا
على الدرة البيضاء كان اجتماعنا
ومن قبل خلق الخلق والعرش قد كنا
تركنا البحار الزاخرات وراءنا
فمن أين تدري الناس أين توجهنا
والدرة البيضاء هي العقل الأول كما نص ابن عربي في اصطلاحات الصوفية.
7
هل لهذه النظرية أصل من العقل أو الشرع
وقد أفصح عن هذه النظرية ابن مشيش في صلاته، وابن مشيش هذا من أقطاب الشاذلية، وصلاته معروفة جدا، يقرءها ألوف الألوف في الصباح والمساء، وقد قرأتها مع «الإخوان» أكثر من ألف مرة، يوم كنت من المهتدين، وهي تنص على أن محمدا أصل كل موجود، ولننظر كيف يقول ابن مشيش:
اللهم صل على من منه انشقت الأسرار، وانفلقت الأنوار، وفيه ارتقت الحقائق، وتنزلت علوم آدم بأعجز الخلائق، وله تضاءلت الفهوم فلم يدركه سابق ولا لاحق، فرياض الملكوت بزهر جماله مونقة، وحياض الجبروت بفيض أنواره متدفقة، ولا شيء إلا هو به منوط، إذا لولا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط.
8
والواسطة هو محمد والموسوط الأشياء والناس ... ومن الذين أفصحوا عن هذه النظرية مصطفى البكري في «ورد السحر» إذ يقول:
اللهم صل وسلم وبارك على من تشرفت به جميع الأكوان، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد الذي أظهرت به معالم العرفان، وصل وسلم وبارك على عين الأعيان والسبب في وجود كل إنسان.
9
وعبارة «عين الأعيان والسبب في وجود كل إنسان» هي النظرية التي تجعل محمدا أصل الوجود.
مكانة الأنبياء من الرسول
ومن الخير أن ننص على أن هذا الشطط استند فيه الصوفية إلى حديث «أنا سيد الناس» وهو حديث شك فيه العلماء، فقد جاء في كتاب العجلوني المسمى «كشف الخفاء والالتباس، عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس». أن الحسن بن علي روى أن الرسول قال: «أدع لي سيد العرب» يعني عليا، فقالت له عائشة: ألست سيد العرب؟ فقال: أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب. ثم حدثنا العجلوني أن الذهبي يجنح إلى الحكم على هذا الحديث بالوضع.
10
وحدثنا أيضا أن رجلا جاء إلى المصطفى فقال له: أنت سيد قريش. فقال: السيد الله. قال: أنت أعظمها طولا، وأعلاها قولا، فقال الرسول: يا أيها الناس، قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا عبد الله ورسوله.
طيف التثليث
والواقع أنه لا سناد لهذه النظرية من شرع ولا عقل، فالشرع يحكم بأن محمدا مخلوق اصطفاه الله لتبليغ رسالته، والعقل لا يوجب أن يكون تسلسل الموجودات على هذا النظام الذي يقضي بأن الذات الأحدية صدرت عنها الحقيقة المحمدية، وأن تلك الحقيقة هي الواسطة بين الله وبين جميع ما ظهر من صنوف لموجودات.
لا يهمنا في هذا الفصل أن نستند إلى الشرع أو العقل، وإنما يهمنا أن نفهم النظرية الصوفية كما وضعها أصحابها لنعرف كيف نشأ الغلو في المدائح النبوية.
ولا بأس من أن نحاول معرفة كيف نشأ هذا النظام الغريب، والظاهر أن الصوفية يحرصون كل الحرص على أحدية الذات، فهم لذلك ينفون عنها كل فعل، وينقلون الأفعال كلها إلى الكلمات، أي: الأنبياء، ولما كان الصوفية عندنا مسلمين كان من همهم أن يجعلوا الكلمة المحمدية أصل الكلمات وروح الوجود.
ولا ينتظر القارئ أن نقدم له صورة شافية كافية لهذا النظام، فالصوفية أنفسهم يدورون حوله في التواء عجيب، ويكفي أن نقول: إن هذه الأخيلة جعلتهم يحلقون في أجواء شعرية، ويتمثلون الوجود مربوطا بالحقيقة المحمدية أوثق رباط.
والذي يتسع وقته لقراءة كتاب الفتوحات من الألف إلى الياء يرى كيف أمكن أن يكون هذا النظام مجالا للرياضة في ألوف من المحتملات والفروض.
لا يهمنا، كما قلت، أن نطمئن إلى صحة تلك المذاهب، وإنما يهمنا أن نعرف أن الصوفية يجعلون محمدا أصل الوجود: لأنه أول تعين للذات الأحدية. ومن هنا صح لمادحي الرسول أن يقضوا بأنه لولاه ما كان شمس، ولا قمر، ولا نجم ، ولا أرض، ولا سماء ، ولا جماد، ولا حيوان، ولا إنسان، ولا بحار، ولا أنهار، ولا جبال.
ومن هنا أيضا صح لهم أن يحكموا بأن جميع الأنبياء إنما هم من نور ذلك الرسول كما قال البوصيري في البردة:
وكل آي أتى الرسل الكرام بها
فإنما اتصلت من نوره بهم
وكما قال في الهمزية:
كيف ترقى رقيك الأنبياء
يا سماء ما طاولتها سماء
لم يساووك في علاك وقد حا
ل سنا منك دونهم وسناء
إنما مثلوا صفاتك للنا
س كما مثل النجوم الماء
وقول البوصيري في البردة:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم
وقلت بما شئت مدحا فيه واحتكم
فيه انحراف عن هذه النظرية - لأن ما ادعاه النصارى لعيسى عين ما ادعاه الصوفية لمحمد - فعيسى عند النصارى رب، ولكن له أب هو رب الأرباب، وكذلك محمد هو عند الصوفية رب له أصل هو الذات الأحدية.
11
ومن العجيب أن نظرية التثليث لا تبدو شيئا خطرا عند الصوفية، فهم يقولون بها في غير تهيب ولا إشفاق، وإن كان لها عندهم وضع آخر يتمثل في الأوجه المختلفة لشخصية المسيح، فمن نظر في عيسى من حيث صورته للبشرية الإنسانية فهو ابن مريم، ومن نظر فيه من حيث الصورة الممثلة البشرية فهو منسوب إلى جبريل، ومن نظر فيه من حيث إحياء الموتى فهو منسوب إلى الله بالروحية «فهو كلمة الله وهو روح الله وهو عبد الله»
12
ففيه من الإنسانية جزء، وله من الملكية نصيب، وله من الألوهية خلاق.
بل هم يذهبون في التسامح إلى أبعد من ذلك فيحكمون بأن الديانات كلها حق، وما اختلفت صور سلوك طريق الحق إلا لاختلاف استعدادات الأمم، وفي ذلك يقول القاشاني:
فطريق نزول الحكم إلى الأنبياء واحد، والمراد منه هو الهداية إلى طريق الحق، فطريق التوحيد واحد، ولكن استعدادات الأمم اقتضت اختلاف الملل والنحل، فإن إصلاح كل أمة يكون بإزالة فساد يختص بها، وهدايتهم إنما تكون من مراكزهم ومراتبهم المختلفة بحسب طباعهم ونفوسهم.
13
ومعنى ذلك أن النبوات محلية، والديانات محلية، فلا يكون لجميع الناس في مختلف البلاد نبي واحد، وهذه النظرة على جانب من الدقة. ولكن الصوفية سكتوا عن الرسالة المحمدية؛ لأن المفهوم عندهم أن محمدا هو الحكمة الفردية التي نشأ عنها كل موجود.
هل الديانات كلها حق؟
وإنما عرضنا لهذا التسامح لنبين أثره في المدائح النبوية: فالصوفية لا يمدحون محمدا وحده في جميع الأحوال بل يتفق لهم في أحيان كثيرة أن يثنوا على سائر الأنبياء.
وأشهر من صنع ذلك من الصوفية ابن عربي: فله قصائد في مدح إدريس ومدح موسى ومدح هارون، وإليك هذا الشاهد فيما سماه «الروح الأحمر الهاروني»:
هذا الخليفة هذا السيد العلم
هذا المقام وهذا الركن والحرم
ساد الأنام ولم تظهر سيادته
لما بدا العجل للأبصار والصنم
ما زال يردع قوما همهم أبدا
في نيل ما ناله موسى وما علموا
أن البيان حرام كلما نظرت
عين البصيرة شيئا أصله عدم
وفي ديوان ابن عربي أبيات قالها «وقد سمع قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في قربه من ربه: لا تفضلوني على يونس بن متى، تنزيها لجناب الحق عن التحديد في قوله تعالى: «وهو معكم أينما كنتم».
14
والأرجح أن هذه الديباجة من وضع ابن عربي نفسه، فإن كانت كذلك فهي شاهد على أنه كان في بعض أحواله لا يجعل الحقيقة المحمدية كل شيء.
ولعله قصد إلى هذا المعنى في إحدى قصائده الرمزية إذ يقول:
ألا يا حمامات الأرائك والبان
ترفقن لا تضعفن بالشجو أشجاني
15
ترفقن لا تسهرن بالنوح والبكا
خفي صباباتي ومكنون أشجاني
أطارحها عند الأصيل وبالضحى
بحنة مشتاق وأنة هيمان
تناوحت الأرواح في غيضة الصبا
فمالت بأفنان علي فأفناني
16
وجاءت من الشوق المبرح والجوى
ومن طرف البلوى إلي بأفنان
فمن لي بجمع والمحصب من منى
ومن لي بذات الأثل من لي بنعمان
تطوف بقلبي ساعة بعد ساعة
لوجد وتبريح وتلثم أركاني
كما طاف خير الرسل بالكعبة التي
يقول دليل العقل فيها بنقصان
وقبل أحجارا بها وهو ناطق
وأين مقام البيت من قدر إنسان
فكم عهدت أن لا تحول وأقسمت
وليس لمخضوب وفاء بأيمان
ومن عجب الأشياء ظبي مبرقع
يشير بعناب ويومي بأجفان
ومرعاه ما بين الترائب والحشا
فيا عجبا من روضة وسط نيران
لقد صار قلبي قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توارة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني
كيف مدح الصوفية سائر الأنبياء
وانجذاب الصوفية إلى المعنى الذي لمحوه في الحقيقة المحمدية قد أفاض عليهم آيات من الأشعار الرمزية، ومن أطيب ما قرأت في ذلك قصيدة محمد البكري التي حن فيها إلى «الوتر» وهو رمز إلى الله أو إلى الرسول، ولكن التعبير عنه بالحبيب يعين أنه يريد به الرسول، وإن كان في هذا التعيين اعتساف:
حدث عن الوتر أيها الوتر
من فاته الخبر سره الخبر
وهات عن ليلة مقدسة
طابت فعندي جميعها سحر
وقل كما شئت إن لي أذنا
تتلى عليها بلحنك السور
مصغية للحبيب يسمعها
آيات حق لم تسمع البشر
يا وترا حركته غانية
لا وأبي ليس ذاك يا وتر
قد أودع الوتر فيك حكمته
فمنه لا منك تطرب الفطر
الرمزيات في مدح الرسول
واهتمام الصوفية بمدح الرسول كان له أثر بليغ في الأدب، والقارئ يستطيع الرجوع إلى كتاب (المدائح النبوية) الذي نشرناه في السنة الماضية ليرى كيف مدح الرسول أولا على الطرائق الجاهلية، وكيف انتقل هذا الفن إلى التشيع، وكيف عاد مدحا خالصا للرسول، وكيف صار بعد ذلك فنا أدبيا صرفا تقيد به ضروب الزخرف باسم البديعيات، وأثر ذلك كله في نشر الثقافة الأدبية.
وكان يتفق أن تغلب على المادحين وقدة الشوق كما نرى في قول ابن العريف:
شدوا المطايا وقد نالوا المنى بمنى
وكلهم بأليم الشوق قد باحا
سارت ركائبهم تندى روائحها
طيبا بما طاب ذاك الوفد أشباحا
نسيم قرب النبي المصطفى لهم
روح إذا شربوا من ذكره راحا
يا سائرين إلى المختار من مضر
سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا
إنا أقمنا على عجز ومعذرة
ومن أقام على عجز كمن راحا
والشطر الثاني من البيت الرابع هو بيت القصيد.
وكان أهل الأندلس من أرق الناس شوقا إلى زيارة الرسول؛ لأن بعد المزار غزا قلوبهم بأقباس الحنين.
أبيات من شعر ابن العريف تمثل وقدة الشوق
إلى هنا عرف القارئ كيف نشأ الإغراق في مدح الرسول، فهو قائم على أساس القول بوحدة الوجود، وقد صح عندي بعد التأمل الذي دام بضع سنين أن الصوفية أرادوا أن ينتهبوا شخصية المسيح؛ ليضفوا ثوبها على نبي الإسلام: فإذا كان المسيح ابن الله كما يزعم النصارى فمحمد أرفع من ذلك؛ لأنه محمدا يقدر على كل شيء، وهو أصل الوجود، ولولاه لما ظهر عن الله شيء، وقد اتفق لابن عربي أن يحكم بأن محمدا يستريح إلى من يقول:
والله لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
ثم يقول ابن عربي: «فنحن به وإليه، فإذا نظرنا إلى ذواتنا وإمكاننا فقد خرجنا عنه، وإمكاننا يطلبنا بالنظر إليه، فإنه الموجد لنا بوجوده من وجوده» وقد عرضنا لهذه العبارة من قبل، ورجحنا أن الضمير عائد على الله، ولكن يظهر أن ذلك الترجيح لا يقوم عليه دليل من روح ذلك الفيلسوف.
والواقع أن «الحقيقة المحمدية» أسطورة من الأساطير، وهي في رأينا مسروقة من النظرية النصرانية، كما أن النظرية النصرانية مسروقة من الفلسفة اليونانية التي تقسم القوى إلى «عقول».
وهذا الحكم يبدو غريبا كل الغرابة، فأين الصوفية من فلسفة اليونان؟ ولكن من يتعقب النظريات الفلسفية كما تعقبت لا يستغرب ولا يستعجب، فقد كانت عند اليونان والمصريين أوهام نقلها الصوفية من حيث يشعرون أو لا يشعرون، كان اليونان يرون لكل قوة من القوى إلها، وكان المصريون الوثنيون يعتقدون أن الشمس يحملها إله أو ملك فينقلها من المشرق إلى المغرب، وهذه العقيدة المصرية الوثنية نقلت إلى التصوف المصري الإسلامي، فقد كان أهل مصر المسلمون يعتقدون أن «الأولياء» يكلفون أحيانا بجر الشمس، وكان يصح للصوفي أن يعتذر عن إخلاف الميعاد بأن دوره كان حل في جر الشمس.
17
والملائكة عند المسلين لهم مناطق اختصاص، وهذه المناطق تذكر بما كان للآلهة عند اليونان .
والمهم هو أن ننص صراحة على أن نظرية وحدة الوجود أراد بها الصوفية أن يعطوا الحقيقة المحمدية أضعاف ما ادعاه النصارى للحقيقة العيسوية. والصوفية من الجانب النظري والعملي هم رهبان المسلمين.
هل نقلت الحقيقة المحمدية عن الحقيقة العيسوية؟
وقد عرض ابن القيم لأصحاب نظرية وحدة الوجود فسماهم «ملاحدة»، وقد قامت نظريتهم على أن العبد من أفعال الله وأفعال الله من صفاته، وصفاته من ذاته، ويقول ابن القيم: إن العبد من مفعولات الله لا من أفعاله القائمة بذاته، ومفعولاته آثار أفعاله، وأفعاله من صفاته القائمة بذاته، فذاته مستلزمة لصفاته وأفعاله، ومفعولاته منفصلة عنه، فهي من المخلوقات المحدثات.
18
وما يهمنا أن يكون ابن القيم على حق في نقض النظرية الصوفية، نظرية وحدة الوجود، فستظل على الدهر من المعضلات، وإنما يهمنا أن ننص على أن هذه النظرية لها في الفلسفة القديمة والديانات القديمة أصول.
ويهمنا قبل كل شيء وبعد كل شيء أن يعرف القارئ كيف نشأ الإغراق في المدائح النبوية.
فإن رآنا القارئ من الموفقين فذلك ما نبغيه، وإلا فقد هديناه إلى أسرار لم يهتد إليها أحد من الباحثين قبل اليوم. والأول قد يترك للآخر أشياء.
الهيام في حب الله
قدم هذه النزعة في حياة المتبتلين
حب العبد ربه من صفات المتبتلين، وهذه النزعة الروحية سبقت الإسلام بأزمان، ويروون أن داود كان يقول:
اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، والعمل الذي يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي وأهلي ومن الماء البارد.
وقد ورد هذا المعنى في القرآن
يحبهم ويحبونه ،
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله .
وروي عن الرسول أنه قال:
من أحب الله فليحبني، ومن أحبني فليحب أصحابي، ومن أحب أصحابي فليحب القرآن، ومن أحب القرآن فليحب المساجد؛ فإنها أبنية أذن الله تعالى برفعها وتطهيرها، وبارك فيها فهي ميمونة ميمون أهلها، فهم في صلاتهم والله تعالى في حوائجهم، وهم في مساجدهم والله تعالى في نجح مقاصدهم.
الفرق بين حب المؤمن وحب الصوفي
ولكن هذا الحب تغلب عليه الصفة النفعية؛ فالمؤمن يحب الله - أي: يطيعه - ليدخل الجنة ويسلم من النار، وقد رأى الصوفية أن يجردوا الحب من الصفة النفعية فيجعلوه خالصا لذات الله، بغض النظر عن رجاء الثوب، والخوف من العقاب.
وهذا السمو الروحاني عاد على الأدب بأجزل النفع، فقد رويت عن المحبين أبيات وفقرات على جانب عظيم من الجمال، وانظروا هذه الأبيات:
لما علمت بأن قلبي فارغ
ممن سواك ملأته بهواكا
وملأت كلي منك حتى لم أدع
مني مكانا خاليا لسواكا
فالقلب فيك هيامه وغرامه
والنطق لا ينفك عن ذكراكا
والطرف حيث أجيله متلفتا
في كل شيء يجتلي معناكا
والسمع لا يصغي إلى متكلم
إلا إذا ما حدثوه بحلاكا
وحدثوا أن ذا النون قال: بينا أنا مار في شوارع مصر إذ رأيت جارية مسفرة بغير خمار، فقلت لها: يا جارية! أما تستحين أن تمشي بغير خمار؟ فقالت: يا ذا النون، ما يصنع الخمار، بوجه قد علاه الاصفرار؟ فقال ذو النون: ومن أي شيء علاه الاصفرار؟ قالت: من محنته. قلت: يا جارية! عساك تناولت شيئا من شراب القوم! فقالت: اسكت يا بطال! شربت بكأس وده ونمت مسرورة، فأصبحت بحب مولاي مخمورة. فقلت: يا جارية! عسى فائدة أنتفع بها منك، أو وصية أرويها عنك؟ فقالت: يا ذا النون عليك بالسكوت، حتى يتوهموا أنك مبهوت، وارض من الله بالقوت، يبن لك بيتا في الجنة من ياقوت، ثم أنشدت:
تهتك ولا تخش في الحب عارا
وإياك إياك تبدي استتارا
وبادر إلى الباب مع فتية
لهم في الظلام عيون سهارى
وإن خفت عند المسير الضلال
فوجه حبيبك يهدي الحيارى
1
وورود اسم «الجنة» في هذا الحديث لا ينفي صدق الحب؛ لأن الجنة في أكثر كلامهم إنما هي رمز لمعنى الرضوان في الحب.
وأصرح من هذه القصة ما حدث ذو النون: بينما أسير في أنطاكية إذا أنا بجارية كأنها مجنونة، وعليها جبة صوف، فسلمت عليها فردت علي السلام ثم قالت: ألست ذا النون المصري؟ فقلت: عافاك الله، كيف عرفتني؟ فقالت : عرفتك بمعرفة حب الحبيب ! ثم قالت: أسألك عن مسألة. قلت: سلي. قالت: أي شيء السخاء؟ قلت: البذل والعطاء. قالت: هذا السخاء في الدنيا، فما السخاء في الدين؟ قلت: المسارعة في طاعة رب العالمين. قالت: إذا سارعت إلى طاعة المولى فهو أن يطلع على قلبك وأنت لا تريد منه شيئا، ويحك يا ذا النون إني أريد أن أطلب منه شيئا منذ عشرين سنة فأستحيي منه مخافة أن أكون كأجير السوء، إذا عمل طلب الأجرة، ولكن أعمل تعظيما لهيبته وعز جلاله.
2
فهذه المرأة الصالحة جعلت انتظار الثواب مما يقدح في أعمال الطائعين.
شواهد من أدب الحب
وقد تكلم الصوفية في الفرق بين المعرفة والمحبة، فقال قائل منهم: المحبة سكر لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه. وقال المحققون: المحبة استهلاك في لذة، والمعرفة شهود في حيرة، وفناء في هيبة.
3
وجرت مسألة المحبة بمكة أيام الموسم فتكلم فيها الشيوخ، وكان الجنيد أصغرهم سنا فقالوا له: هات ما عندك يا عراقي! فأطرق رأسه ودمعت عيناه ثم قال: عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه، أحرق قلبه أنوار هيبته، وصفى شربه من كأس وده، وانكشف له الجبار من أستار غيبه؛ فإن تكلم فبالله، وإن نطق فمن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو بالله ولله ومع الله.
4
إشارة إلى أعلام المحبين
وقد صرح الصوفية بأن الغاية من الجنة هي القرب، فقال أبو يزيد: لو أن الله سبحانه حجب أهل الجنة عن رؤيته لاستغاثوا من الجنة كما يستغيث أهل النار من النار.
5
وهم يرون أن الشوق لا نهاية له؛ لأن أمر الحق لا نهاية له، فما من حال يبلغها المحب إلا ويعلم أن وراء ذلك ما هو أوفى وأتم.
5
قبة سلطان العاشقين عمر بن الفارض.
والواقع أن أهل الحقيقة تكلموا جميعا في الحب؛ لأن هذه الحال هي الفيصل بينهم وبين أهل الشريعة الذين يعبدون الله طمعا في الثواب وخوفا من العقاب، ولا يستقيم حال المتصوف إلا إن خلص من دنياه وأخراه فلا يكون له مأرب غير لقاء الحبيب.
وأشهر من عرفوا بالحب رابعة العدوية، ولها أخبار طوال، وقد نشر عنها الأستاذ نصطفى عبد الرازق بحثا في مجلة المعرفة منذ سنين، وهي التي تقول:
إني جعلتك في الفؤاد محدثي
وأبحت جسمي من أراد جلوسي
فالجسم مني للجليس مؤانس
وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي
والتي تقول:
أحبك حبين حب الهوى
وحبا لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى
فشغلي بذكرك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهل له
فكشفك للحجب حتى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي
ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
ومن أشهر من تكلموا في الحب سمنون الذي سموه «سمنون الحب»، والذي حدثوا أن الطير كانت تسقط عن الشجر حين تسمع كلامه في الحب.
ومنهم ذو النون الذي كان يتكلم في الحب فيموج مجلسه بالصارخين والباكين.
وما نريد أن نستقصي أخبار من تكلموا في الحب أو نظموا في الحب من الصوفية فذلك باب يطول، ويكفي أن نتكلم عن الشاعر المحب عمر بن الفارض الذي سموه سلطان العاشقين:
كل من في حماك يهواك لكن
أنا وحدي بكل من في حماكا
أشواق ابن الفارض
حياة ابن الفارض
ولد أبو حفص عمر بن الفارض بالقاهرة في الرابع من ذي القعدة سنة 576، وتوفي بها في اليوم الثاني من جمادى الأولى سنة 632 وهو في الأصل من أسرة حموية، ولهذا الأصل أهمية في طبع ذلك الشاعر؛ فأهل الشام في الأدب القديم تغلب عليهم رقة الطبع، ولهم شغف بصور الجمال، ونزعتهم الغزلية فيها لين يندر مثله في مصر والعراق، وهذا الذي نقول به استوحيناه مما قرأنا لشعراء الشام في المعاني الحسية والوجدانية، وقد سبقنا إلى هذا الحكم أبو بكر الخوارزمي إذ قال منذ عشرة قرون:
ما فتق قلبي، وشحذ فهمي، وصقل ذهني، وأرهف حد لساني، وبلغ بي هذا المبلغ؛ إلا تلك الطرائف الشامية، واللطائف الحلبية، التي علقت بحفظي وامتزجت بأجزاء نفسي.
1
والحق أن ابن الفارض شخصية فريدة بين شعراء مصر، وقد اشتركت في تكوينه ثلاث بقاع : الشام وفيها أصله، والحجاز وإليه حنينه، ومصر وفيها مقامه. فهو شاعر مصر والشام والحجاز، وله في هذه الأقطار الثلاثة محبون يرونه مترجما لأدق ما يضمرون من نوازع القلب والوجدان.
غرامه
وابن الفارض مدين بخلود شعره إلى نزعته الصوفية، ولولا التصوف لانطمس ذكره منذ زمان؛ لأن له في فنون الشعرية أساتذة لا يشق لهم غبار: فله في الخمريات منازع خطير هو أبو نواس، وله في الحنين إلى الحجاز إمام لا نظير له ولا مثيل: هو الشريف الرضي،
2
وله في الصبابة سيد هو العباس بن الأحنف، وما يكاد شعر ابن الفارض يخرج عن الصبابة والحنين والخمريات.
فالمعاني الرمزية عند ابن الفارض هي السر في إقبال الناس على شعره، ولولا ذلك لانصرفوا عنه، ورأوه أخف من أن ينصب له ميزان.
وفي رأيي أن العناية بشعر ابن الفارض كانت فاتحة جديدة في وزن المعاني بعد أن ظل الناس أزمانا طوالا يحرصون قبل كل شيء على وزن الألفاظ، وهو من وجهة الديباجة وقوة السبك شاعر ضعيف، ولكنه من حيث المعاني فحل من الفحول؛ لأنه استطاع الجمع بين الحقيقة والخيال، والحقيقة عند هذا الشاعر هي الصورة الروحية، أما الخيال فهو الصورة الحسية التي رمز بها إلى المعنويات.
ويمتاز ابن الفارض بقوة الروح، وحسبنا أن نذكر أنه ألهم في منامه هذين البيتين:
وحياة أشواقي إلي
ك وحرمة الصبر الجميل
ما استحسنت عيني سوا
ك ولا صبوت إلى خليل
وهذان البيتان لا خطر لهما عند من يحفلون بجزالة الألفاظ، ولكنهما على جانب عظيم من القوة عند من يؤثرون المعاني، وهل في الحب أجل وأشرف من توحيد المحبوب؟ إن الشاعر يقسم بأشواقه وبحرمة الصبر الجميل - وهو قسم لو تعلمون عظيم - يقسم أن عينه ما استحسنت سوى محبوبه، وأن قلبه ما صبا إلى محبوب سواه، وقوة المعنى والروح ظاهرة في هذين البيتين ظهورا قويا.
والنفس قد تلهج في عالم الأحلام بمعان شتى، فليس من الكثير أن يلهج ابن الفارض في نومه بالمعاني الشعرية، ولكن الكثير أن يتفق لعقله الباطن ألا يتحدث بغير توحيد المحبوب، وتلك شارة الصدق، والصدق هو الدعامة الأولى لقوة الروح.
شغل ابن الفارض بالشعر نحو أربعين سنة، وذلك أمد طويل، فلا ينتظر مع هذا أن يصبغ شعره بصبغة واحدة، وإنما توجب طبيعة الأشياء أن يكون لشعر الصبا لون، ولشعر الكهولة لون، وقد كان الأمر كذلك: فلان الفارض قصائد تمثل الشباب، وله قصائد لا تصدر عن غير الكهول.
والوحي واحد في شعر ذينك العهدين: وهو الحب، وإن كان يختلف بعض الاختلاف؛ فالحب في العهد الأول كان حبا حسيا، ومن العسير أن نقول بغير ذلك، فقد كان ابن الفارض في صباه مضرب الأمثال في نضارة الجسم وملاحة التقاسيم وإشراق الجبين، وكان لا بد لمثله في جماله وشبابه من صبوات، وكان لا بد أن توحي إليه تلك الصبوات بأشعار فيها ثورة وفيها حنين، وإني لأعترف بأن من العسير أن نجد لذلك نماذج صريحة، ولكن ما حاجتنا إلى تلك النماذج وجمهرة شعره تؤيد هذا الرأي؟ إننا لو غضضنا النظر عن التائية الكبرى وما نحا نحوها من شعره لرأينا الروح السائد في الديوان يمثل شعر الشباب، ولو ألقيت جملة قصائده في ديوان آخر لما تنبه أحد إلى أنها تمثل الشوق إلى الذات الإلهية، فإن هذا الملحظ لم يخلقه إلا التفكير في شخصية ابن الفارض، وقد شاع في المشرقين أنها شخصية روحية.
والحب الحسي عند ابن الفارض كان أساس الحب الروحي، وقد هدتنا التجارب إلى أن المحبين في العوالم الروحية كانوا في بدايتهم محبين في الأودية الحسية، والهيام بالجمال الإلهي لا يقع إلا بعد الهيام بالجمال الحسي، ولو شئت لضربت المثل بقصة إبراهيم حين رأى القمر فقال: هذا ربي، فلما أفل قال: لا أحب الآفلين، والمحبون في الأودية الحسية لا يتجهون إلى العوالم الروحية إلا بعد أن تدلهم الدنيا على أن الجمال الإنساني كالظل يتحول ويزول. وأشعار ابن الفارض في جملتها تمثل معاني حسية، وهي في بعض الأحوال رمز للمعاني الروحية، وهذا الرمز تفرضه سيرة ابن الفارض وقد ذاق الكأسين فعرف الحب الحسي والحب الروحي، ويكاد يكون من اليقين عندنا أن حبه الأول هو السر في وقدة حبه الثاني؛ لأننا نعرف الله أول ما نعرف عن طريق المحسوسات، وكل جمال في عالم الحس هو إغراء بالجمال المكنون في عالم الروح، والمحسوسات نفسها لا توحي الشعر إلا حين تستعد النفس لفهم ما فيها من الدلالات الوجدانية. وأساس الحب هو التفاهم، فالتمثال من المرمر قد يوحي الإعجاب ولكنه لا يوحي العشق إلا إن تمثلنا ما يرمز إليه من الروح، والصورة الجميلة الحية قد تمر بلا حب ولا وجد حين تحرم التفاهم مع الشعراء، ألا تذكرون ما يسمونه لغة العيون؟ إن بعض العيون تتكلم بلا صوت فتوحي ما توحي من الهدى والضلال.
وابن الفارض على هذا مدين بمجده إلى حبه الأول، وهو مدين إلى الصور الجميلة التي ألهبت حواسه وهو يغدو ويروح في ميادين القاهرة، وأكاد أرى بعيني أشباحا تختال في قصائده الصوفية، وهو نفسه استغل الأساليب والصيغ التي اصطنعها شعراء الحب الحسي من أمثال ابن الأحنف وابن زيدون.
أليس من العجب أن تعجز جماهير الصوفية في طوال الأزمان عن خلق لغة للحب الإلهي تستقل عن لغة الحب الحسي كل الاستقلال؟ ولم كان ذلك؟ لأن الحب الإلهي يغزو القلوب بعد أن تكون انطبعت علي لغة العوام أصحاب الصبوات الحسية، فيمضي الشاعر إلى العالم الروحي ومعه من عالم المادة أدوات وأخيلة هي عدته في تصوير عالمه الجديد، ومثلهم في ذلك مثل ابن الجهم حين غلبت عليه أخيلة البادية وهو يخاطب الخليفة في بغداد.
ومهما يكن من شيء فابن الفارض شاعر عاشق توزعت عواطفه بين عالم المادة وعالم الروح، وهو في أكثر شعره يعبر عن نفس صافية استطاعت السيطرة على طوائف من الناس زمنا غير قليل.
3
منزلته الأدبية والروحية
وشعر ابن الفارض يتراوح بين الفطرة والتكلف، ومن المحتمل أن يكون ما صنع ابن بنته بشعره هو سبب ذلك التكلف، فقد سمعت أستاذنا المهدي - رحمه الله - يقول في محاضراته بالجامعة المصرية: إن ذلك السبط كان يضيف أبياتا إلى بعض القصائد؛ غير أنه يجب أن نفرق بين التكلف والضعف؛ لأن التكلف كان يغلب على أكثر الشعراء في عصر ابن الفارض، فما وسم من شعره بذلك الطابع لا يمكن أن يشك فيه كله، وإنما يتطرق الشك إلى ما يطهر عليه الضعف، كالذي وقع في الهمزية التي مطلعها:
أرج النسيم سرى من الزوراء
سحرا فأحيا ميت الأحياء
ففيها كثير من التكلف، ولكنها لا تخلو من قوة، ولننظر هذه الأبيات:
يا ساكني البطحاء هل من عودة
أحيا بها يا ساكني البطحاء
إن ينقضي صبري فليس بمنقض
وجدي القديم بكم ولا برحاني
ولئن جفا الوسمي ما حل تربكم
فمدامعي تربي على الأنواء
وا حسرتى ضاع الزمان ولم أفز
منكم أهيل مودتي بلقاء
ومتى يؤمل راحة من عمره
يومان يوم قلى ويوم تناء
وحياتكم يا أهل مكة وهي لي
قسم لقد كلفت بكم أحشائي
حبيكم في الناس أضحى مذهبي
وهواكم ديني وعقد ولائي
يا لائمي في حب من من أجله
قد جد بي وجدي وعز عزائي
هلا نهاك نهاك عن لوم امرئ
لم يلف غير منعم بشقاء
لو تدر فيم عذلتني لعذرتني
خفض عليك وخلني وبلائي
4
وهذا من الشعر المقبول، ولكن هذه القصيدة ختمت بأبيات أرجح أنها من وضع ذلك السبط الذي أراد أن يزيد ثروة جده فأساء، ولنقرأ هذه الأبيات:
واها على ذاك الزمان وما حوى
طيب المكان بغفلة الرقباء
أيام أرتع في ميادين المنى
جذلا وأرفل في ذيول حباء
ما أعجب الأيام توجب للفتى
منحا وتمنحه بسلب عطاء
يا هل لماضي عيشنا من عودة
يوما وأسمح بعده ببقاء
هيهات خاب السعي وانفصمت عرى
حبل المنى وانحل عقد رجائي
وكفى غراما أن أبيت متيما
شوقي أمامي والقضاء ورائي
والديباجة واحدة أو متقاربة، ولكن النفس يختلف اختلافا شديدا يدركه الذوق، وأخشى أن يكون تدخل ذلك السبط هو العلة في أكثر ما وقع في ديوان ابن الفارض من الإسفاف.
قلت: إن التكلف كان كثيرا في الشعر لعهد ابن الفارض، وكذلك تراه مفتونا بفنون البديع من توية وجناس وطباق، وإن لم يسرف في الشغف بتلك الفنون، وقد اتفق له مرة أن يمعن في التكلف، وذلك في قصيدته الذالية فإن قافية الذال صعبة جدا، ولا يقبل عليها الشعراء إلا متكلفين، والذي يراجع القوافي العربية يرى الشعراء لا يتخذون الذال قافية إلا في الأبيات والمقطوعات، ويراهم لا يقفون قصائدهم بالذال إلا في النادر القليل. أما ابن الفارض فقد بدا له أن يغرب، وأن يدل معاصريه على امتلاكه لناصية تلك القافية الشموس، فقال:
صد حمى ظمئي لماك لماذا
وهواك قلبي صار منه جذاذا
إن كان في تلفي رضاك صبابة
ولك البقاء وجدت فيه لذاذا
كبدي سلبت صحيحة فامنن على
رمقي بها ممنونة أفلاذا
5
يا راميا يرمي بسهم لحاظه
عن قوس حاجبه الحشا إنفاذا
أنى هجرت لهجر واش بي كمن
في لومه لؤم حكاه فهاذي
6
وعلي فيك من اعتدى في حجره
فقد اغتدى في حجره ملاذا
غير السلو تجده عندي لائمي
عمن حوى حسن الورى استحواذا
يا ما أميلحه رشا فيه حلا
تبديله حال الخلي بذاذا
أضحى بإحسان وحسن معطيا
لنفائس ولأنفس أخاذا
وما نحب أن ننقل القصيدة كاملة، ويكفي أن نشير إلى أنها تجاوزت الخمسين بيتا، فهي قصيدة طويلة، وطولها يشهد بما وقع فيها من التكلف. والشاعر حين يتخير قافية وعرة كقافية الذال يشغل عن المعاني، ويتجه فكره إلى البحث عن الألفاظ، ونحن نعرف كيف تجني مثل هذه المحاولة على الشاعر، وتصرف روحه عن الأجواء الشعرية، وتحوله إلى صفوف «الفعلة» بعد أن كان من الفنانين.
ومن الاتجاهات الفنية التي غلبت على ابن الفارض ميله إلى «التصغير»، وقد غلب عليه هذا الميل غلبة قوية بحيث نجد آثاره في جميع القضائد، فأهل الحي وأهل الود هم غالبا «أهيل الحي وأهيل الود»:
يا أهيل الود أنى تنكرو
ني كهلا بعد عرفاني فتى
وفي هذا البيت وحده تصغيران.
والظبي عنده ظبي:
هل سمعتم أو رأيتم أسدا
صاده لحظ مهاة أو ظبي
والهوى عنده هوي:
وضع الآسي بصدري كفه
قال ما لي حيلة في ذا الهوى
واللمى عنده لمي:
آه، وا شوقي لضاحي وجهها
وظما قلبي لذياك اللمي
وفي هذا البيت تصغيران.
والأرى عنده أري:
وأرى من ريحه الراح انتشت
وله من وله يعنو الأري
وفي هذه القافية وحدها تصغيرات كثيرة، وكذلك الحال في أكثر القصائد، وربما كان ابن الفارض أكثر من اهتموا بالتصغير بين شعراء اللغة العربية، وعند درس تصغيراته نراها مالت به أحيانا إلى التكلف أو الجناية على المعنى، كالذي وقع في تصغير الهوى والأرى، ولا يقف كلفه بالتصغير عند الأسماء، بل يتعداه إلى الإكثار من تصغير فعل التعجب، كقوله:
يا ما أميلح كل ما يرضى به
ورضابه يا ما أحيلاه بفي
وكما يكثر عنده التصغير تكثر عبارة «لعمرك» وهي عبارة جاهللية فتن بها عمر بن أبي ربيعة فتنة شديدة، وأنس بها ابن الفارض.
ومما شارك فيه ابن الفارض معاصريه الغرام بالألغاز، واللغز ليس من الشعر في شيء، إنما هو نظم يراد به اختبار الذكاء؛ ولذلك نرى اللغز بعيدا عن فن ابن الفارض الذي يعتمد على الروح.
وألغازه من الوجهة النظمية منها الثقيل والمقبول، وقد راجعناها فلم نرض فيها عن شيء، ويكفي هذا الشاهد في الإلغاز بحلب:
ما بلدة في الشام قلب اسمها
تصحيفه أخرى بأرض العجم
وثلثه إن زال من قلبه
وجدته طيرا شجي النغم
وثلثه نصف وربع له
وربعه ثلثاه حين انقسم
ويمكن الرجوع في ديوانه إلى الصفحات 111-115، ففيها ما يكفي لتصوير هذا الجانب من فنونه النظمية.
وشارك معاصريه أيضا في الإشارات النحوية، وإن لم يسرف في ذلك، وحسبنا هذا الشاهد:
نصبا أكسبني الشوق كما
تكسب الأفعال نصبا لام كي
وقد جانس في هذا البيت بين النصب والنصب فلم يصل بما تكلف إلا إلى معنى هزيل.
وابن الفارض كأكثر الشعراء لا يعين اسم الحبيب، وإنما يدور حول طائفة من الأسماء، فهواه حينا عند سعاد كأن يقول:
ما شممت البشام إلا وأهدى
لفؤادي تحية من سعاد
7
وحينا عند رقي - مرخم رقية - كقوله في اليائية:
خاطب الخطب دع الدعوى فما
بالرقي ترقى إلى وصل رقي
وقد جرى اسم «ليلى» في شعره مرات كثيرة، ولكن أرق الأسماء عنده اسم «نعم» وهو يدور حوله بحنان:
إذا أنعمت نعم علي بنظرة
فلا أسعدت سعدى ولا أجملت جمل
ومن لم يجد في حب نعم بنفسه
ولو جاد بالدنيا إليه انتهى البخل
وقد ضرب بها المثل حين قال في وصف الراح:
ويطرب من لم يدرها عند ذكرها
كمشتاق نعم كلما ذكرت نعم
ويتفق له أن يجمع أسماء مختلفة في بيت واحد، كما جمع بين نعم وسعدى وجمل في البيت الذي مر آنفا، وكقوله في الجمع بين ريا وعتبة وسلمى:
عتب لم تعتب وسلمى أسلمت
وحمى أهل الحمى رؤية ري
ومثل هذا البيت يدل على أن الأسماء ليست عنده إلا إشارات مبهمة لما يرمز إليه في عالم الروح.
ولقب ابن الفارض عند الصوفية لقب طريف، وهو: «سلطان العاشقين»، وقد شهد لنفسه بهذه السلطنة الوجدانية في مواضع كثيرة، فجعل نفسه إمام العشاق، ومحبوبه إمام الملاح، حين قال:
كل من في حماك يهواك لكن
أنا وحدي بكل من في حماكا
8
فقت أهل الجمال حسنا وحسنى
فبهم فاقة إلى معناكا
يحشر العاشقون تحت لوائي
وجميع الملاح تحت لواكا
وهو معنى جيد انتهبه أحد الزجالين في العصر الحاضر وهو عزت صقر فقال:
أنا في العشاق أمير
وأنت في الحلوين ملك
وجعل نفسه قدوة للأولين والآخرين حين قال:
قل للذين تقدموا قبلي ومن
بعدي ومن أضحى لأشجاني يرى
عني خذوا وبي اقتدوا ولي اسمعوا
وتحدثوا بصبابتي بين الورى
وجعل المحبين جنده حين قال:
نسخت بحبي آية العشق من قبلي
فأهل الهوى جندي وحكمي على الكل
وكل فتى يهوى فإني إمامه
وإني بريء من فتى سامع العذل
وهو في هذا المعنى بصوره المختلفة مسبوق بالشاعر الذي ألهمه فن الحجازيات وهو الشريف الرضي حين قال:
وإني لمجلوب لي الشوق كلما
تنفس شاك أو تألم ذو وجد
تعرض رسل الشوق والركب هاجد
فتوقظني من بين نوامهم وحدي
وما شرب العشاق إلا بقيتي
ولا وردوا في الحب إلا على وردي
ولابن الفارض معان كلف بها كلفا شديدا، ودار حولها طويلا، وأظهر ما اهتم به وصف النحول، وقد عرض له بصور كثيرة منها المتكلف والمقبول، فتارة يحدثنا أنه ضني حتى خفي عن العواد فيقول:
خفيت ضنى حتى لقد ضل عائدي
وكيف ترى العواد من لا له ظل
وما عثرت عين على أثري ولم
تدع لي رسما في الهوى الأعين النجل
وتارة يحدثنا بأنه كان يخفي عن نفسه فيقول:
أخفيت حبكمو فأخفاني أسى
حتى لعمري كدت عني أختفي
وحينا يترفق فيذكر أن جسمه ضني حتى كاد يشف عما يضمر من أسرار الهوى، وأنه ما زال يضني بالنحول حتى خفي عن برء الأسقام وبرد الأوام، فيقول:
يشف عن الأسرار جسمي من الضنى
فيغدو بها معنى نحول عظامي
صريح هوى جاريت من لطفي الهوا
سحيرا فأنفاس النسيم لمامي
9
صحيح عليل فاطلبوني من الصبا
ففيها كما شاء النحول مقامي
خفيت ضنى حتى خفيت عن الضنى
وعن برء أسقامي وبرد أوامي
ولم يبق مني الحب غير كآبة
وحزن وتبريح وفرط سقام
ولم أدر من يدري مكاني سوى الهوى
وكتمان أسراري ورعى ذمامي
لينج خلي من هواي بنفسه
سليما ويا نفس اذهبي بسلام
والكلام عن الضنى والنحول كثير جدا في قصائد الشعراء، ولكن إمعان ابن الفارض في هذا المعنى جعله من خواصه الشعرية، وافتنانه فيه افتنان طريف تظهر طرافته لمن يتأمل كيف قصر الهوى على تعرف جسمه النحيل ... وليتذكر القارئ أن أكثر الشعر في النحول ليس إلا مظهرا من مظاهر الذكاء، وحظ العاطفة فيه قليل، فالحسين بن مطير يجعل جسمه أضعف من أن يهتز له عود الثمام فيقول:
فلو أن ما أبقيت مني معلق
بعود ثمام ما تأود عودها
والمتنبي يزعم أن جسمه لم يبق من آثاره غير الصوت فيقول:
كفى بجسمي نحولا أنني رجل
لولا مخاطبتي إياك لم ترني
وقد بلغ أحد المولدين غاية الظرف حين قال:
عادني ممرضي فلم ير مني
فوق فرش السقام شيئا يراه
قال لي: أين أنت قلت: التمسني
فبكى حين لم تجدني يداه
10
أما ابن الفارض فيجمع بين العاطفة والذكاء حين يتكلم عن النحول، ومن التجني أن نقول: إن قطعته الأخيرة ليست إلا براعة فنية في تلوين الخيال.
وابن الفارض يشارك جمهور الشعراء في الحديث عن طيف الخيال، ولكن صوره الشعرية في هذا الباب تمتاز بألوان من القلق الروحاني؛ لأنه يستصغر زيارة الطيف، وكان البحتري والمتنبي يريانها من متع الوصال، ولننظر هذه الأبيات التي يصف فيها الخيال بالإرجاف:
يا مانعي طيب المنام ومانحي
ثوب السقام به ووجدى المتلف
عطفا على رمقي وما أبقيت لي
من جسمي المضنى وقلبي المدنف
فالوجد باق والوصال مماطلي
والصبر فان واللقاء مسوفي
لم أخل من حسد عليك فلا تضع
سهري بتشييع الخيال المرجف
11
واسأل نجوم الليل هل زار الكرى
جفني وكيف يزور من لم يعرف
فهو يرى الطيف لا يروي الغليل، وقد ذهب إلى أبعد غايات الشره الروحاني؛ إذ قال:
وإذا اكتفى غيري بطيف خياله
فأنا الذي بوصاله لا أكتفي
ونراه في مكان آخر لا ينتظر طيف الحبيب في النوم، وإنما يتصيده وهو يقظان، ولننظر هذه الأبيات:
لك قرب مني ببعدك عني
وحنو وجدته في جفاكا
علم الشوق مقلتي سهر اللي
ل فصارت من غير نوم تراكا
حبذا ليلة بها صدت إسرا
ك وكان السهاد لي إشراكا
بات بدر التمام طيف محيا
ك لطرفي بيقظتي إذ حكاكا
فتراءيت في سواك لعين
بك قرت وما رأيت سواكا
وهذا الطيف أظرف الأطياف، والشاعر يحدثنا بأنه يرى في البعد قربا وفي الجفاء حنوا؛ لأن محبوبه يبعد ويجفو عن عمد، وتعمد الهجر صورة من صور الوصال، ثم يحدثنا بأنه يتخذ السهاد شركا يتصيد به طيف المحبوب، ثم ينظر إلى البدر فيرى فيه خيال محياه، ثم يهتف بهذا البيت:
فتراءيت في سواك لعين
بك قرت وما رأيت سواكا
ومن طريف ما تلفت إليه تعلقه بطيف الملام، حين يعز عليه طيف المنام؛ إذ يقول:
أدر ذكر من أهوى ولو بملام
فإن أحاديث الحبيب مدامي
ليشهد سمعي من أحب وإن نأى
بطيف ملام لا بطيف منام
فلي ذكرها يحلو على كل صيغة
وإن مزجوه عذلي بخصام
12
كأن عذولي بالوصال مبشري
وإن كنت لم أطمع برد سلام
فهو يتذوق اللوم ويتشهاه؛ لأنه يصله بصورة المحبوب، وهو في هذا مسبوق بقول دعبل:
أجد الملامة في هواك لذيذة
حبا لذكرك فليلمني اللوم
وهذا السبق لا يغض من فضل ابن الفارض؛ لأنه تناول المعنى بروح مغمور بصدق الإحساس، ودليل ذلك أنه يعود إلى هذا المعنى من حين إلى حين، كأن يقول في مخاطبة العذول:
أحسنت لي من حيث لا تدري وإن
كنت المسيء فأنت أعدل جائر
يدني الحبيب وإن تناءت داره
طيف الملام لطرف سمعي الساهر
فكأن عذلك عيس من أحببته
قدمت علي وكان سمعي ناظري
وهو في هذه الأبيات يجعل السمع نظرا يرى به طيف الملام، والتكلف في هذه الصورة تكلف مقبول؛ ومن التكلف ما يقبل لأنه يمثل لنا أخص النواحي الوجدانية في ابن الفارض وهو شغفه باستحضار صورة المحبوب، ألسنا نراه يشطر وجوده شطرين يحسد أحدهما الآخر، ويجعل بصره يتمنى لو عاد سمعا لينعم بأخبار الحبيب؛ إذ يقول:
بعضي يغار عليك من بعضي ويح
سد باطني - إذ أنت فيه - ظاهري
13
ويود طرفي إن ذكرت بمجلس
لو عاد سمعا مصغيا لمسامري
واستحضار صورة المحبوب من أسرار العبقرية في شعر ابن الفارض فهو في أكثر شعره لا يشغلنا بنفسه كما يشغلنا بذلك الحبيب، وإنه ليرى روحه أصغر من أن تقدم هدية لمبشره بقدوم أهل هواه:
وحياتكم وحياتكم قسما وفي
عمري بغير حياتكم لم أحلف
لو أن روحي في يدي ووهبتها
لمبشري بقدومكم لم أنصف
وكل شيء في الوجود يمثل لروحه صورة الحبيب فهو يراه في ملامة العذال وفي لمع البرق، وفي نغمة العود والناي، وفي مسارح الظباء، وفي برد الصباح والأصيل، وفي مساقط الأنداء على بساط الأزهار، وفي أذيال النسيم، ويراه في ثغر الكأس وريق المدام، ولا قيمة للغربة ولا معنى للانزعاج ما دام في صحبة المحبوب:
تراه إن غاب عني كل جارحة
في كل معنى لطيف رائق بهج
في نغمة العود والناي الرخيم إذا
تألفا بين ألحان من الهزج
وفي مسارح غزلان الخمائل في
برد الأصائل والإصباح في البلج
وفي مساقط أنداء الغمام على
بساط نور من الأزهار منتسج
وفي مساحب أذيال النسيم إذا
أهدى إلي سحيرا أطيب الأرج
وفي التثامي ثغر الكأس مرتشفا
ريق المدامة في مستنزه فرج
14
لم أدر ما غربة الأوطان وهو معي
وخاطري أين كنا غير منزعج
وقد يقال: إن استحضار صورة المحبوب واضح في كل قصائد النسيب، وهذا صحيح، ولكنه في شعر ابن الفارض أوضح، والصبابة في تشبيبه تبلغ غاية القوة في كثير من الأحيان، ولا نغالي إذا قلنا: إن هذه الالتفاتة الوجدانية مما تفرد به ابن الفارض، أليس هو الذي يقول في قوة عاتية:
وقلت لرشدي والتنسك والتقى:
تخلوا وما بيني وبين الهوى خلوا
وفرغت قلبي عن وجودي مخلصا
لعلي في شغلي بها معها أخلو
أرأيتم كيف يسعى الشاعر لتفريغ قلبه عن وجوده الذاتي، ويقصر خطراته النفسية على الشغل بالمحبوبة عساه يظفر من ذلك بخلوة روحية؟
وانظروا كيف يبهركم وجه تلك المحبوبة وهو يمثل لكم لآلأه بهذه الأبيات:
جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي
فأصبح لي عن كل شغل بها شغل
فنافس ببذل النفس فيها أخا الهوى
فإن قبلتها منك يا حبذا البذل
فمن لم يجد في حب نعم بنفسه
ولو جاد بالدنيا إليه انتهى البخل
ولولا مراعاة الصيانة غيرة
ولو كثروا أهل الصيانة أو قلوا
لقلت لعشاق الملاحة: أقبلوا
إليها على رأيي ومن غيرها ولوا
وإن ذكرت يوما فخروا لذكرها
سجودا وإن لاحت إلى وجهها صلوا
وفي حبها بعت السعادة بالشقا
ضلالا وعقلي عن هداي به عقل
15
ومن أجلها أسعى لمن بيننا سعى
وأعدو ولا أغدو لمن دأبه العذل
فأرتاح للواشين بيني وبينها
لتعلم ما ألقى وما عندها جهل
وأصبو إلى العذال حبا لذكرها
كأنهم ما بيننا في الهوى رسل
فإن حدثوا عنها فكلي مسامع
وكلي إن حدثتهم ألسن تتلو
تخالفت الأقوال فينا تباينا
برجم ظنون بيننا ما لها أصل
فشنع قوم بالوصال ولم تصل
وأرجف بالسلوان قوم ولم أسل
فما صدق التشنيع عنها لشقوتي
وقد كذبت عني الأراجيف والنقل
وكيف أرجي وصل من لو تصورت
حماها المنى وهما لضاقت بها السبل
وإن وعدت لم يلحق الفعل قولها
وإن أوعدت فالقول يسبقه الفعل
عديني بوصل وامطلي بنجازه
فعندي إذا صح الهوى حسن المطل
وحرمة عهد بيننا عنه لم أحل
وعقد بأيد بيننا ما له حل
لأنت علي غيظ النوى ورضا الهوى
لدي وقلبي ساعة منك ما يخلو
وهذه القطعة لا تحتاج إلى تعليق، وقد نقلناها على طولها لأهميتها في تأييد ما نقول به من غرام هذا الشاعر باستحضار صورة المحبوب، وهي في أنفسنا حية كل الحياة، ولا يرى فيها فتورا أو ركاكة إلا من يقصر وجدانه عن إدراك ما فيها من معاني الشوق والحنان.
ولننظر لوعة الوجد في ختام هذا القصيد، وهي تمثل ذلك المعنى أصدق تمثيل:
ترى مقلتي يوما ترى من أحبهم
ويعتبني دهري ويجتمع الشمل
16
وما برحوا معنى أراهم معي فإن
نأوا صورة في الذهن قام لهم شكل
فهم نصب عيني ظاهرا حيثما سروا
وهم في فؤادي باطنا أينما حلوا
لهم أبدا مني حنو وإن جفوا
ولي أبدا ميل إليهم وإن ملوا
والصبابة الصادقة تواجه من يقرأ ديوان ابن الفارض في مواضع كثيرة، برغم ما يقع فيه أحيانا من التعمل والإسفاف، وأكثر الناس يعرفون الفائية التي يستهلها بهذا الابتهال:
قلبي يحدثني بأنك متلفي
روحي فداك عرفت أم لم تعرف
لم أقض حق هواك إن كنت الذي
لم أقض فيه أسى ومثلي من يفي
ما لي سوى روحي وباذل نفسه
في حب من يهواه ليس بمسرف
فلئن رضيت بها فقد أسعفتني
يا خيبة المسعى إذا لم تسعف
ومن هذا الباب قصيدته الميمية التي يشرح فيها كيف طاب له الافتضاح ولذ له الاطراح، وكيف رضي بالذلة بعد العزة، وحلا له التهتك وخلع العذار وارتكاب الآثام بعد النسك والتقوى، إلى أن يقول:
أصلي فأشدو حين أتلو بذكرها
وأطرب في المحراب وهي إمامي
وبالحج إن أحرمت لبيت باسمها
وعنها أرى الإمساك فطر صيامي
أروح بقلب بالصبابة هائم
وأغدو بطرف بالكآبة هام
وفي كل عضو في كل صبابة
إليها وشوق جاذب بزمامي
ولو بسطت جسمي رأت كل جوهر
به كل قلب فيه كل غرام
ولما تلاقينا عشاء وضمنا
سواء سبيلي دارها وخيامي
وملنا كذا شيئا عن الحي حيث لا
رقيب ولا واش بزور كلام
فرشت لها خدي وطاء على الثرى
فقالت: لك البشرى بلثم لثامي
فما سمحت نفسي بذلك غيرة
على صونها مني لعز مرامي
وبتنا كما شاء اقتراحي على المنى
أرى الملك ملكي والزمان غلامي
وهذا المنظر بعينه مر في قصيدة للشريف الرضي، وكلا الشاعرين يتحدث عن العفاف. أما الشريف فيذكر أنه قضى الليل مع محبوبته في عناق عفيف:
بتنا ضجيعين في ثوبي هوى وتقى
يلفنا الشوق من فرع إلى قدم
وبيننا عفة بايعتها بيدي
على الوفاء بها والرعي للذمم
17
أما ابن الفارض فقد اقترح أن يبيتا على المنى، وتلك أقصى غاية العفاف.
ومن أهم قصائد ابن الفارض قصيدة «شربنا على ذكر الحبيب»، وهي قصيدة رمزية بلا جدال، والخمر فيها خمر الحقيقة التي شغفت الصوفية، وملأت قلوبهم بألحان الوجد والحنين.
ومن أجل هذا نرى مبالغاته مقبولة كل القبول حين يصف تلك الخمر بالقدرة على كل شيء:
وإن خطرت يوما على خاطري امرئ
أقامت به الأفراح وارتحل الهم
ولو نظر الندمان ختم إنائها
لأسكرهم من دونها ذلك الختم
ولو نضحوا منها ثرى قبر ميت
لعادت إليه الروح وانتعش الجسم
ولو طرحوا في فيء حائط كرمها
عليلا وقد أشفى لفارقه السقم
ولو قربوا من حانها مقعدا مشى
وتنطق من ذكرى مذاقتها البكم
ولو عبقت في الشرق أنفاس طيبها
وفي الغرب مزكوم لعاد له الشم
ولو خضبت من كأسها كف لامس
لما ضل في ليل وفي يده النجم
ولو جليت سرا على أكمه غدا
بصيرا ومن راووقها تسمع الصم
ولو أن راكبا يمموا ترب أرضها
وفي الركب ملسوع لما ضره السم
ولو رسم الراقي حروف اسمها على
جبين مصاب جن أبرأه الرسم
وفوق لواء الجيش لو رقم اسمها
لأسكر من تحت اللوا ذلك الرسم
وهذه الخمر العالية هي خمر الحقيقة، هي الذات الإلهية التي تقول للشيء: كن فيكون.
يقولون لي: صفها فأنت بوصفها
خبير، أجل! عندي بأوصافها علم
صفاء ولا ماء ولطف ولا هوا
ونور ولا نار وروح ولا جسم
تقدم كل الكائنات حديثها
قديما ولا شكل هناك ولا رسم
وهل في عالم المعاني أدق وأبره من هذا الالتفاف الطريف؛ إذ يقول هذا الشاعر النشوان:
وقالوا: شربت الإثم، كلا وإنما
شربت التي في تركها عندي الإثم
هنيئا لأهل الدير كم سكروا بها
وما شربوا منها ولكنهم هموا
وهذا البيت يعين أنها خمر الحقيقة، ولو أراد خمر أبي نواس لما صح له أن ينكر شرب الرهبان من تلك الراح، وكيف والرهبان كانوا سادة الشاربين، وإلى دياراتهم كان يحج عشاق الرحيق!
والشاعر يحدثنا أن الرهبان هموا بشرب تلك الخمر، خمر الحقيقة، وهذا حق فقد كان الصوفية يرون الرهبان أئمة التنسك لو صح لهم دين، وقد وردت كلمة «راهب» في مقام التعظيم في قول الرشيد: «كان أبو العباس عيسى بن علي راهبنا وعالمنا أهل البيت».
18
وابن الفارض يمضي فيقول:
وعندي منها نشوة قبل نشأتي
معي أبدا تبقى وإن بلي العظم
وهذه النشوة التي سبقت الوجود ليست كتلك النشوة التي وقعت في قول أحد المتحذلقين:
أسكر بالأمس إن عزمت على الشر
ب غدا إن ذا من العجب
وإنما هي نشوة من يؤمن بخلود الروح ويعتقد أن لها نشوات قدسية قبل الخلق وبعد الموت.
فلا عيش في الدنيا لمن عاش صاحيا
ومن لم يمت سكرا بها فاته الحزم
على نفسه فليبك من ضاع عمره
وليس له فيها نصيب ولا سهم
19
ولا يسع من يهتم بدرس ابن الفارض أن يغفل التائية الكبرى، وهي في نحو ست مئة بيت، وقد نظمها تحت وحي التصوف، وهي قصيدة يغلب عليها التكلف، وفيها مع ذلك مواقف مضمخة بعبير الروح، كأن يقول:
وما ظفرت بالود روح مراحة
ولا بالود نفس صفا العيش ودت
وأين الصفا هيهات من عيش عاشق
وجنة عدن بالمكاره حفت
وكأن يقول في خطاب الحقيقة السرمدية:
وعن مذهبي في الحب ما لي مذهب
وإن ملت يوما عنه فارقت ملتي
ولو خطرت لي في سواك إرادة
على خاطري سهوا قضيت بردتي
لك الحكم في أمري فما شئت فاصنعي
فلم تك إلا فيك لا عنك رغبتي
20
والمتأمل في شعر ابن الفارض من الوجهة الفنية يراه تأثر بعض التأثر باللغة المصرية، فهو يجمع الفعل حين يكون الفاعل جمعا، وذلك معروف عن المصريين في لغة التخاطب، وإن كان لا يفعل ذلك إلا حين تقهره ضرورة شعرية.
وبمناسبة مصر نذكر أنها لا تمر في شعره إلا قليلا، فقد كان هواه كله في الحجاز، وأظهر موضع مر فيه اسم مصر هو قوله في التشوق إلى أهل نجد:
يا أهل ودي هل لراجي وصلكم
طمع فينعم باله استرواحا
مذ غبتم عن ناظري لي أنة
ملأت نواحي أرض مصر نواحا
وإذا ذكرتكم أميل كأنني
من طيب ذكركم سقيت الراحا
وإذا دعيت إلى تناسي عهدكم
ألفيت أحشائي بذاك شحاحا
ومؤرخو الأدب العربي لا يرون ابن الفارض من الفحول، وفي ظني أن سيفكر فيه ناس بعد قراءة هذا البحث؛ على أن ابن الفارض لا ينتظر أن يحييه المؤرخون، فقد حيي على ألسنة الجماهير حياة قوية، ولا أزال أذكر كيف كان يحتشد الناس في بيت الصواف بحي سيدنا الحسين؛ ليسمعوا الشيخ حسن الحويحي، وهو يتغنى بهذه الأبيات:
ما بين معترك الأحداق والمهج
أنا القتيل بلا إثم ولا حرج
ودعت قبل الهوى روحي لما نظرت
عيناي من حسن ذاك المنظر البهج
لله أجفان عين فيك ساهرة
شوقا إليك وقلب بالغرام شج
عذب بما شئت غير البعد عنك تجد
أو في محب بما يرضيك مبتهج
وخذ بقية ما أبقيت من رمق
لا خير في الحب إن أبقى على المهج
وقصيدة «ته دلالا فأنت أهل لذاكا» يسمعها الجمهور في «أسطوانة » للشيخ علي محمود، ولا تزال قصائد ابن الفارض متعة السامرين في سهرات الصوفية.
وقد اهتم رجال من المؤلفين المشهورين بدرس ديوانه وشرحه، وفي ذلك الحياة كل الحياة.
كل شيء حي في ابن الفارض حتى قبره، وقد زرته مرة فرأيته مزدحما بأفواج المبتهلين، والمحبون لا تهجر قبورهم في جميع الأحيان.
أخبار الصوفية
مطالعات من الأدب الطريف
في اللغة العربية نوع طريف من الأدب الذي يشوق العقول، ويرهف العزائم، ويحيي الوجدان، وهو أخبار الصوفية.
وهذا النوع من الأدب له نماذج كثيرة في اللغة العربية، ويرتاح إليه أهل الجد كما يرتاح أهل الهزل إلى أخبار الماجنين.
وكان لهذا النوع من الأدب تأثير شديد في توجيه القلوب والعقول إلى الخير والسداد، وكان له في مجالس الوعظ جاذبية قوية تحول تلك المجالس إلى أندية أدبية خفيفة الظل والروح.
ويمتاز هذا النوع من الأدب بما فيه من روعة الخيال، فأكثر أخبار الصوفية موشاة بالمبتكر الطريف من صور الحياة والناس، وما فيها من المغالاة والإغراب ليس إلا شاهدا على قوة التزويق والتلوين.
وتشهد هذه الأخبار بأن «المجاذيب» كان لهم شأن في تربية المجتمع، وكان فيهم رجال يسوسون العقول والنفوس، ويضربون لمريديهم أحسن الأمثال.
حياة فاتح بن عثمان
جامع أبي المعاطي في دمياط، وكان خلوة صوفية.
ومن شواهد ذلك أخبار فاتح بن عثمان التكروري، وهو رجل قدم من مراكش إلى دمياط على قدم التجريد، وسقى بها الماء في الأسواق احتسابا من غير أن يتناول من أحد شيئا، ونزل في ظاهر الثغر ولزم الصلاة مع الجماعة وترك الناس جميعا، ثم أقام بناحية تونة من بحيرة تنيس، ورم مسجدها، ثم انتقل من تونة إلى جامع دمياط وأقام في وكر بأسفل المنارة من غير أن يخالط أحدا إلا عند الصلاة، وقد اهتم بترميم جامع دمياط وتنظيفه بنفسه وساق الماء إلى صهاريجه، وبلط صحنه، وسبك سطحه بالجبس، ورتب فيه إماما يصلي الخمس، وسكن في بيت الخطابة، وواظب على إقامة الأوراد به، وجعل فيه قراء يتلون القرآن بكرة وأصيلا، وكان يقول:
لو علمت بدمياط مكانا أفضل من الجامع لأقمت به، ولو علمت في الأرض بلدا يكون فيه الفقير أخمل من دمياط لرحلت إليه وأقمت به.
وكان إذا ورد عليه أحد من الفقراء ولا يجد ما يطعمه باع من أثوابه ما يضيفه به، وكان يبيت ويصبح وليس له معلوم ولا ما تقع عليه العين أو تسمعه الأذن، وكان يؤثر في السر الفقراء والأرامل، ولا يسأل أحدا شيئا، ولا يقبل غالبا، وإذ قبل ما يفتح الله عليه آثر به، وكان يبذل جهده في كتم حاله والله تعالى يظهر خيره وبركته من غير قصد منه لذلك. وكان سلوكه على طريق السلف من التمسك بالكتاب والسنة والنفور عن الفتنة وترك الدعاوى واطراحها وستر حاله والتحفظ في أقواله وأفعاله، وكان لا يرافق أحدا في الليل، وأشير عليه بالزواج فتزوج في آخر عمره بامرأتين لم يدخل على واحدة منهما نهارا، ولا أكل عندها ولا شرب قط، وكان ليله ظرفا للعبادة لكنه يأتي إليهما أحيانا وينقطع أحيانا لاستغراق زمنه في القيام بوظائف العبادة وإيثار الخلوة، وكان خواص خدمه لا يعلمون صومه من فطره، وإنما يحمل إليه ما يأكل ويوضع عنده بالخلوة فلا يرى قط آكلا، وكان يتواضع مع الفقراء ويتعاظم على العظماء والأغنياء، وكانت تلاوته لللقرآن بخشوع وتدبر، ولم يعمل له سجادة قط، ولا لبس طاقية، ولا قال: أنا شيخ ولا أنا فقير، ولا حضر قط سماعا، ولا أنكر على من يحضره. وكان يقول: ما أقول لأحد: افعل أو لا تفعل، من أراد السلوك يكفيه أن ينظر إلى أفعاله فإن من لم يتسلك بنظره لا يتسلك بسمعه.
1
وقال له شخص من خواصه: يا سيدي، ادع الله لنا أن يفتح علينا فنحن فقراء. فقال: إن أردتم فتح الله فلا تبقوا في البيت شيئا ثم اطلبوا فتح الله بعد ذلك. فقد جاء: لا تسأل الله ولك خاتم من حديد. ومن كلامه:
الفقير بحال البكر، فإذا سأل زالت بكارته.
وسأله بعض خواصه أن يدعو له بسعة وشكا إليه الضيق؛ فقال: أنا ما أدعو لك بسعة بل أطلب لك الأفضل والأكمل. وكان على استغراق أوقاته في العبادة لا يغفل عن صاحبه ولا ينسى حاجته ويلازم الوفاء لأصحابه ويحسن معاشرتهم ويعرف أحوال الناس على اختلاف طبقاتهم، ويعظم أهل العلم، ويكرم الأيتام ويشفق على الضعفاء والأرامل، ويبذل شفاعته في قضاء حوائج الخاص والعام من غير أن يمل أو يتبرم بذلك، ويكثر من الإيثار في السر ولا يمسك لنفسه شيئا، ويستقل ما يعطي مع كثرة إحسانه، ويستكثر ما يدفع إليه وإن كان يسيرا ويكافئ عليه بأحسن منه، ولم يصطحب قط أميرا ولا وزيرا، ومن دعائه لنفسه ولمن يسأل له الدعاء:
اللهم بعدنا عن الدنيا وأهلها وبعدها عنا.
وما زال على ذلك إلى أن مات في صباح اليوم الثامن من ربيع الآخر سنة خمس وتسعين وست مئة، وترك ولدين ليس لهما قوت ليلة، وعليه مبلغ ألفي درهم دينا.
وقد لخصنا سيرة هذا الرجل من الخطط المقريزية،
2
وهي تشهد بأنه كان من القائمين بخدمة المجتمع، وتصوره بعيدا كل البعد من الفضول.
وما نقول: بأن سيرته نموذج يحتذى في جميع الأحوال، وإنما يهمنا أن ننص على هذه «الفاعلية» في حياة رجل يزاوج بين الدنيا والدين، ويترك ما يتسم به المتصوفون من الشارات والتقاليد.
ويروقنا من حياة هذا الرجل فراره من التدخل في شئون الناس، فما كان يحضر السماع ولا ينكر على من يحضر السماع، وكان ينتظر أن يفقه الناس بأبصارهم لا بأسماعهم، وكان ينكر أن يتوجه الرجل إلى ربه بالسؤال وعنده شيء.
وقد صارت شخصية هذا الرجل شخصية شعبية فدخلت كنيته «أبو المعاطي» في الأشعار التي تغنى على الربابة حين تحتاج القصة إلى حيلة في الجمع بين الحبيب والمحبوب.
3
محاضرة الأبرار
وقد كثر التأليف في أخبار الصوفية ونوادرهم وأطايبهم، ويكفي أن نذكر بعض الشواهد من كتاب ابن عربي الذي سماه «محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار»، وهو كتاب طريف لم يقف فيه المؤلف عند أخبار الصوفية وإنما جعله مرجعا للنوادر التي يحسن أن يطلع عليها الصوفية.
وفي هذا الكتاب حوار بين أتباع الإسلام وأتباع النصرانية،
4
وهو حوار يقوم على أساس العقل والمنطق ويشهد بأن واضعه كان من حكماء المسلمين، وهو يمثل ميل الصوفية إلى نقد المذاهب الدينية، وقد جاء فيه:
إن كنتم عبدتم عيسى بن مريم؛ لأنه لا أب له فضموا آدم مع عيسى حتى يكون لكم إلهان اثنان؛ وإن كنتم عبدتموه لأنه أحيا الموتى فهذا حزقيل مر بميت تجدونه في الإنجيل لا تنكرونه فدعا الله عز وجل حتى أحياه له فكلمه؛ فضعوا حزقيل مع عيسى وآدم حتى يكون لكم ثلاثة آلهة؛ وإن كنتم إنما عبدتموه لأنه أراكم المعجزات فهذا يوشع بن نون قاتل قومه حتى غربت الشمس فقال لها: ارجعي بإذن الله فرجعت اثني عشر برجا؛ فضموا يوشع أيضا إلى عيسى فيكون رابع أربعة؛ وإن كنتم إنما عبدتموه لأنه عرج به إلى السماء فمن ملائكة الله عز وجل مع كل نفس اثنان بالليل واثنان بالنهار يعرجون إلى السماء.
وابن عربي له في المسيح رأي عرضناه في هذا الكتاب من قبل، وهو لا يسوق القصة بما يخالف أو يوافق ذلك الرأي، وإنما يسوقها وهو يفهم أنها لون من الثقافة الأدبية.
5
سراج الملوك
ومن نوادر ذلك الكتاب ما حدث المؤلف بسنده قال: سمعت أبا يحيى مالك بن دينار يقول:
أتيت القبور فناديتها
فأين المعظم والمحتقر
وأين المدل بسلطانه
وأين العزيز إذا ما قدر
وأين الملبى إذا ما دعا
وأين العزيز إذا ما افتخر
قال: فهتف بي هاتف يقول:
تفانوا جميعا فما مخبر
وبادوا جميعا وباد الخبر
تروح وتغدو بنات الثرى
فتمحو محاسن تلك الصور
فيا سائلي عن أناس مضوا
أما لك فيما مضى معتبر!
قيمة الأقاصيص الصوفية من الوجهة الأدبية
وقال ابن عربي: غضب السلطان على جماعة من العلماء خرجوا عليه ووقعوا فيه، فلما ظفر بهم أمر بقتلهم، فبلغ الخبر شيخنا أبا مدين - رحمه الله - وكان مرعي الجانب عند السلطان والخاصة والعامة فأخذ عصاه وخرج، فلما جاء دار السلطان أبصر القوم على تلك الحالة فبكى، وأخبر السلطان بمكانه فتلقاه وقال: ما جاءنا بالشيخ في هذا الوقت؟ فقال : الشفاعة في هؤلاء. فقال السلطان: أوما تعرف يا شيخ إساءتهم؟ فقال: وهل على المحسنين من سبيل؟ وهل الشفاعة إلا في أهل الكبائر من المسيئين؟ فاستعبر السلطان وعفا عن الجميع.
6
ما كتب في تجريح الصوفية
وحدث أن الأصمعي قال: بينما أطوف بالبيت إذ بجارية متعلقة بأستار الكعبة وهي تنشد:
يا رب إنك ذو من ومغفرة
دارك بعفوك أرواح المحبينا
الذاكرين الهوى ليلا إذا هجعوا
والنائمين على الأيدي مكبينا
يا رب كن لهم عونا إذا ظلموا
واعطف بقلب الذي يهوون آمينا
قال: فقلت: يا جارية؟ أفي هذا المقام وحول هذا البيت الحرام تذكرين الهوى؟ قالت: أو تعرف الهوى؟ قلت: وأنت تعرفينه؟ قالت: بليت به صغيرة وأحطت به خبرا كبيرة. قلت: صفيه لي. قالت: جل أن يخفى، ودق أن يرى، فهو كامن كمون النار في الحجر، إن قدحته أورى، وإن تركته توارى.
7
كيف اهتدى الصوفية إلى أكل الحشيش
وقد يروي ابن عربي بعض أشعاره، وأكثرها من طراز المنظومات التي تحدثنا عنها من قبل، ولكن قد تظهر عليه النفحة الشعرية كأن يقول:
أطارح كل هاتفة بأيك
على فنن بأفنان الشجون
فتبكي إلفها من غير دمع
ودمع العين يهمل من جفوني
أقول لها وقد سمحت جفوني
بأدمعها تخبر عن شئوني
أعندك بالذي أهواه علم
وهل قالوا
8
بأفياء الغصون
9
وكأن يقول:
بأبي من ذبت فيه كمدا
بأبي من مت منه فرقا
حمرة الخجلة في وجنته
وضح الصبح يناغي الشفقا
كلما صنت تباريح الهوى
فضح الدمع الجوى والأرقا
غرام الشعراء بمدح الحشيش
وقد يحدثنا عن بعض ما رآه من أحوال القوم كأن يقول: كان عندنا بأشبيلية رجل عابد، حسن الصوت، كثير الاجتهاد، سريع الدمعة، دائم العبرة، كثير التفكر والتهجد، بت معه ليالي عدة فلم يكن يفتر، فربما أسمعه بعض الأحايين ينشد بصوت طيب غرد، ودموعه تتحدر على خديه:
قطع الليل رجال
ورجال وصلوه
رقدوا فيه أناس
وأناس سهروه
لا يميلون إلى النو
م ولا يستعذبوه
فكأن النوم شيء
لم يكونوا يعرفوه
لبسوا ثوبا من الخد
مة حتى خلعوه
مع جلباب من الحز
ن فما إن نزعوه
10
وقد ينقل بعض الدقائق الصوفية، كأن يروي أن أبا مدين سئل عن معنى الوصول فأجاب: إذا دلك به عليه كنت منه وإليه، وإذا أفناك عن الإحساس كنت في حضرة الإيناس، وإذا كاشفك بحبه لم تتلذذ إلا بقربه، وإذا غيبك عن شهودك تجلى لك من وجودك.
11
وقد اهتم ابن عربي برواية أخبار الجن، وكانت للجن أخبار كثيرة، فقد زعم العرب في جاهليتهم وإسلامهم أنهم عرفوهم وصادقوهم وحاربوهم وهذا باب من الأساطير كان له في الأدب أثر جميل.
حدث ابن عربي بسنده قال: كانت امرأة من الجن في الجاهلية تسكن ذا طوى،
12
وكان لها ابن لم يكن لها ولد غيره، وكانت تحبه حبا شديدا، وكان شريفا في قومه، فتزوج وأتى زوجته، فلما كان يوم سابعه قال لأمه: يا أماه، إني أحب أن أطوف بالكعبة سبعا نهارا. فقالت له أمه: أي بني، إني أخاف عليك سفهاء قريش. فقال: لا، وأرجو السلامة. فأذنت له، فولى في صورة جان، فلما أدبر جعلت تعوذه وتقول:
أعيذه بالكعبة المستوره
ودعوات ابن أبي محذوره
وما تلا محمد من سوره
إني إلى حياته فقيره
وإنني بعيشه مسروره
فمضى الجان نحو الطواف فطاف بالبيت سبعا، وصلى خلف المقام ركعتين، ثم أقبل منقلبا، حتى إذا كان ببعض دور بني سهم عرض له شاب من بني سهم أحمر أكشف أزرق أحول أعسر فقتله، فثارت بمكة غبرة لم تبصر لها الجبال؛ وإنما تثور تلك الغبرة عند موت عظيم من الجن، فأصبح من بني سهم على فرشهم موتى كثير من قبل الجن، فكان فيهم سبعون شيخا أصلع سوى الشباب، فنهضت بنو سهم وحلفاؤهم ومواليها وعبيدها فركبوا الجبال والشعاب بالتثنية فما تركوا حية ولا عقربا ولا خنفساء ولا شيئا من الهوام يدب على وجه الأرض إلا قتلوه، وأقاموا على ذلك ثلاثا، فسمع في الليلة الثالثة على أبي قبيس هاتف يهتف بصوت جهوري يسمع بين الجبلين: يا معشر قريش! الله! الله! فإن لكم أحلاما وعقولا، اعذرونا اعذرونا من بني سهم، فقد قتلوا منا أضعاف ما قتلنا منهم، ادخلوا بيننا وبينهم بصلح نعطهم ويعطونا العهد والميثاق ألا يعود بعضنا لبعض بسوء أبدا، ففعلت ذلك قريش واستوثقوا لبعضهم من بعض. فسميت بنو سهم العياطلة قتلة الجن.
13
والقصة كما رواها ابن عربي تشهد بأن الجنية تعوذت بما تلا محمد من سورة مع أنها كانت في الجاهلية.
والمهم هو أن ننص على أن ابن عربي يرى من واجب «الأخيار والأبرار» أن يطلعوا على كل شيء، حتى أخبار الجن والشياطين.
وكتاب ابن عربي هذا في غاية من النفاسة، من حيث تصويره لعقليات القدماء.
وهناك كتاب نفيس للطرطوشي اسمه «سراج الملوك» وهو يفيض بأخبار الزهاد والنساك، وما يجب أن يطلع عليه من يحرصون على صفاء القلوب.
وقد جاء فيه أن وهب بن منبه قال: صحب رجل بعض الرهبان سبعة أيام ليستفيد منه شيئا فوجده مشغولا عنه بذكر الله تعالى، والفكر لا يفتر، ثم التفت إليه في اليوم السابع فقال: يا هذا، قد علمت ما تريد، حب الدنيا رأس كل خطيئة، والزهد في الدنيا رأس كل خير، والتوفيق نتاج كل خير؛ فاحذر رأس كل خطيئة، وارغب في رأس كل خير، وتضرع إلى ربك أن يهب لك نتاج كل خير. قال: فكيف أعرف ذلك؟ قال: كان جدي رجلا من الحكماء قد شبه الدنيا بسبعة أشياء: شبهها بالماء الملح يغر ولا يروي، ويضر ولا ينفع،
14
وبسحاب الصيف يغر ولا ينفع، وبظل الغمام يغر ويخذل، وبزهر الربيع ينضر ثم يصفر فتراه هشيما، وبأحلام النائم يرى السرور في منامه فإذا استيقظ لم يكن في يده إلا الحسرة، وبالعسل المشوب بالسم الزعاف يغر ويقتل. فتدبرت هذه الأحرف سبعين سنة ثم زدت حرفا واحدا فشبهتها بالغول التي تهلك من أجابها وتترك من أعرض عنها.
15
وحدث أن علي بن الفضيل بكى يوما فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أبكي على من ظلمني إذا وقف غدا بين يدي الله تعالى ولم يكن له حجة.
16
وحدث أن مالك بن دينار قال: قرأت في بعض الكتب:
يا معشر الظلمة! لا تجالسوا أهل الذكر فإنهم إذا ذكروني ذكرتهم برحمتي، وإذا ذكرتموني ذكرتكم بلعنتي.
16
وحدث أن أبا سليمان الداراني قال: لما دخل إخوة يوسف عليه عرفهم ولم يعرفوه، وكان على وجهه برقع، فخلا بكبيرهم وكان ابن خالته فقال له: بم أوصاك أبوك؟ قال: بأربع. قال: وما هن؟ قال: يا بني لا تتبع هواك فتفارق إيمانك، فإن الإيمان يدعو إلى الجنة، والهوى يدعو إلى النار، ولا تكثر منطقك بما لا يعنيك فتسقط من عينه، ولا تسئ بربك الظن فلا يستجيب لك، ولا تكن ظالما فإن الجنة لم تخلق للظالمين.
17
وحدث أن بعض الجزارين بالقيروان أضجع كبشا ليذبحه فتخبط بين يديه وأفلت منه وذهب، فقام الجزار يطلبه وجعل يمشي إلى أن دخل خربة فإذا فيها رجل مذبوح يتخبط في دمه ففزع وخرج هاربا وإذا الشرطة عندهم خبر القتيل وجعلوا يطلبون خير القاتل والمقتول، فأصابوا بيده السكين وهو ملوث بالدم والرجل مقتول بالخربة، فقبضوا عليه وحملوه إلى السلطان، فقال له: أنت قتلته الرجل؟ قال: نعم! فما زالوا يستنطقونه وهو يعترف اعترافا لا إشكال فيه، فأمر السلطان بقتله، واجتمع الناس ليروا مصير الجزار، فلما هموا بقتله اندفع رجل من المجتمعين وقال: لا تقتلوه، أنا قاتل القتيل. فقبض عليه وحمل إلى السلطان فاعترف وقال: أنا قتلته. فقال له السلطان: كنت معافى من هذا، فما حملك على الاعتراف؟ قال: رأيت هذا الرجل يقتل ظلما؛ فكرهت أن ألقى الله تعالى بدم رجلين! فأمر به السلطان فقتل، ثم قال للمتهم: أيها الرجل، ما دعاك إلى الاعتراف بالقتل وأنت بريء؟ فقال الجزار: ما حيلتي؟ رجل مقتول بالخربة وأخذوني وأنا خارج من الخربة وبيدي السكين ملطخة بالدم، فإن أنكرت فمن يقيلني؟ وإن اعتذرت فمن يعذرني؟ فخلى سبيله وانصرف مكرما.
18
شراب الشاي في البيئات الصوفية
والغرض من اهتمامنا بالنص على قيمة هذه الأخبار هو التنبيه إلى قيمتها الأدبية، ففيها صور وأخيلة وتعابير لا تصدر إلا عن أقلام الفحول.
وفيها كذلك معان سامية، وهي تصور كثيرا من الجوانب في المجتمع الإسلامي.
وإذا صح أن النزعة العامية تغلب على أكثر تلك الأخبار فذلك لا يغض من قيمتها الأدبية؛ لأنها في الأغلب تصدر عن الفطرة، وما توحي به الفطرة أعمق أثرا مما يخلق التنميق والتحبير والتزيين.
وقد تفرد الأدب العربي أو كاد بالوقوف عند آثار الأدباء الذين اتخذوا الأدب صناعة، فليكن في هذا الفصل تذكير بأدب الفطرة، وهو أحيانا أقوى من أدب الذكاء.
هذا جانب من أخبار الصوفية يراد به الترغيب في طيبات الأعمال، وهناك جانب آخر أراد به كاتبوه أن يغضوا من أقدار الصوفية، وهو جانب مهم من الوجهة الأدبية؛ لأنه اهتم بتقييد ما رمي به الصوفية من المآثم والعيوب، والذين كتبوا في ذم الصوفية أتوا بالغرائب والأعاجيب؛ لأن السخرية من الصالحين والزاهدين أو أدعياء الصلاح والزهد تجد مجالا إلى أنفس القارئين والسامعين، وتصوير مآثم المتخشعين له مذاق خاص؛ لأنه يزاوج بين وجهين مختلفين من وجوه السلوك.
والطعن في الصوفية يرجع إلى أصلين: الأول الهجوم عليهم من الوجهة النظرية، وهذا عمل قام به رجال الشريعة، ولهم فيه أبحاث طوال تعد ثروة عقلية وفقهية، والثاني الهجوم عليهم من الوجهة العملية، وهذا عمل قام به رجال الأخلاق ومن لف لفهم من الأدباء الساخرين، وسنجد لهذا الأصل شواهد حين نتكلم عن «الحب» في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
ونكتفي في هذا الفصل بإيراد شواهد من كلام الأدباء في غمز الصوفية واتهامهم بالسبق إلى كشف «فضائل» الحشيش.
والصورة التي أذيعت بها طريقة ذلك الكشف صورة فنية رائعة؛ لأنها تبين أثر «الذوق» في حياة الصوفية، فقد حدثوا أن الشيخ حيدر كان يقيم في نشاور من بلاد خراسان، وأقام له زاوية في الجبل مكث بها أكثر من عشر سنين، ثم طلع ذات يوم وقد اشتد الحر منفردا بنفسه إلى الصحراء، ثم عاد وقد علا وجهه نشاط وسرور بخلاف ما كان يعهده عليه أصحابه من قبل، وأذن لأصحابه بالدخول عليه وأخذ يحادثهم، فلما رأوه على حال من المؤانسة لم يعهدوها فيه بعد إقامته تلك المدة الطويلة في خلوة وعزلة سألوه عن ذلك فقال: بينما أنا في خلوتي إذ خطر ببالي الخروج إلى الصحراء منفردا، فخرجت فوجدت كل شيء من النباتات ساكنا لا يتحرك لعدم الريح وشدة القيظ، ومررت بنبات له ورق فرأيته في تلك الحال يميس بلطف، ويتحرك من غير عنف، كالثمل النشوان، فجعلت أقطف منه أوراقا وآكلها فحدث عندي من الارتياح ما شاهدتموه.
19
تلك هي الصورة، وهي باب من الفتون، فذلك الصوفي لم يفته أن يراقب النبات وقت القيظ، ولم يغب عن ذهنه المتوقد أن ذلك النبات لم يتفرد بالحركة وقت الخمود إلا وفيه سر خاص.
وقد هدى أصحابه إلى تلك «الحشيشة» وأوصاهم بكتمان سرها عن العوام، وقال:
إن الله تعالى قد خصكم بسر هذا الورق ليذهب بأكله همومكم الكثيفة، ويجلو بفعله أفكاركم الشريفة، فراقبوه فيما أودعكم، وراعوه فيما استرعاكم.
وقد «تلطف» الشيخ حيدر فأوصى أصحابه عند وفاته باطلاع ظرفاء خراسان وكبرائهم على سر هذا العقار.
وقد أمرهم بزرع هذا الحشيش حول ضريحه بعد أن يموت، كأنه تذكر وصية من قال:
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة
يروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني في الفلاة فإنني
أخاف إذا ما مت ألا أذوقها
وهنا تبدأ السخرية من الصوفية، فقد عبث الأدباء بتلك الحشيشة وسموها «مدامة حيدر»، وفي ذلك يقول محمد بن علي الدمشقي:
دع الخمر واشرب من مدامة حيدر
معنبرة خضراء مثل الزبرجد
يعاطيكها ظبي من الترك أغيد
يميس على غصن من البان أملد
فتحسبها في كفه إذ يديرها
كرقم عذار فوق خد مورد
يرنحها أدنى نسيم تنسمت
فتهفو إلى برد النسيم المردد
وتشدو على أغصانها الورق في الضحى
فيطربها سجع الحمام المغرد
وفيها معان ليس في الخمر مثلها
فلا تستمع فيها مقال مفند
هي البكر لم تنكح بماء سحابة
ولا عصرت يوما برجل ولا يد
ولا عبث القسيس يوما بكأسها
ولا قربوا من دنها كف مقعد
ولا نص في تحريمها عند مالك
ولا حد عند الشافعي وأحمد
ولا أثبت النعمان تنجيس عينها
فخذها بحد المشرفي المهند
وكف أكف الهم بالكف واسترح
ولا تطرح يوم السرور إلى غد
وسخر أحمد بن محمد الحلبي من «عصابة حيدر» فقال:
ومهفهف بادي النفار عهدته
لا ألتقيه قط غير معبس
فرأيته بعض اللياي ضاحكا
سهل العريكة ريضا في المجلس
فقضيت منه مآربي وشكرته
إذ صار من بعد التنافر مؤنسي
فأجابني لا تشكرن خلائقي
واشكر شفيعك فهو خمر المفلس
فحشيشة الأفراح
20
تشفع عندنا
للعاشقين ببسطها للأنفس
وإذا هممت بصيد ظبي نافر
فاجهد بأن يرعى حشيش القنبس
واشكر «عصابة حيدر» إذ أظهروا
لذوي الخلاعة مذهب المتخمس
ودع المعطل للسرور وخلني
من حسن ظن الناس بالمتنمس
وقد أكثر الشعراء من وصف الحشيشة على نحو ما أكثروا من وصف الخمر حتى صح لعلي بن مكي أن يقول:
ألا فاكفف الأحزان عني مع الضر
بعذراء زفت في ملاحفها الخضر
تجلت لنا لما تحلت بسندس
فجلت عن التشبيه في النظم والنثر
بدت تملأ الأبصار نورا بحسنها
فأخجل نور الروض والزهر بالزهر
عروس يسر النفس مكنون سرها
وتصبح في كل الحواس إذا تسرى
فللذوق منها مطعم الشهد رائقا
وللشم منها فائق المسك بالنشر
وفي لونها للطرف أحسن نزهة
يميل إلى رؤياه من سائر الزهر
تركب من قان وأبيض فانثنت
تتيه على الأزهار عالية القدر
فتكسف نور الشمس حمرة لونها
وتخجل من مبيضه طلعة البدر
علت رتبة في حسنها وكأنها
زبرجد روض جاده وابل القطر
تبدت فأبدت ما أجن من الهوى
وجاءت فولت جند همي والفكر
جميلة أوصاف جليلة رتبة
تعالت فغالى في مدائحها شعري
فقم فانف جيش الهم واكفف يد العنا
بهندية أمضى من البيض والسمر
بهندية في أصل إظهار أكلها
إلى الناس لا هندية اللونكالسمر
تزيل لهيب الهم عنا بأكلها
وتهدي لنا الأفراح في السر والجهر
وهذا الشاعر يرد الفضل في الكشف عن الحشيشة إلى حكيم من حكماء الهند، ويظهر أن الأمر كذلك، فقد قال المقريزي: إنها كانت معروفة عند اليونان وتحدث عن خواصها ومنافعها ومضارها بقراط وجالينوس.
21
ولكن المهم هو النص على أنها كانت شاعت في البيئات الصوفية حتى سميت «حشيشة الفقراء».
والظاهر أنه يجب الاحتراس من الآفات الأخلاقية التي تنشأ من مصاحبة أصحاب الأذواق.
فالصوفية بلا شك كانت لهم «أياد» في نشر آفة الحشيش بين الجماهير الفارسية والعراقية والشامية والمصرية.
جماعة من الصوفية يدرسون معاني الذوق في حديقة.
والصوفية هم الذين حببوا إلى الفلاحين المصريين شرب الشاي حتى صار آفة تطاردها الحكومة؛ لتمنع أذاها عن الناس.
وفي الثناء على الشاي يقول رجل من كبار الصوفية اليوم، وهو السيد عبد العظيم القاياتي:
وعسجد الشاي يجلي
في أكؤس من لجين
هذا يروق لقلبي
وذا يروق لعيني
والدروايش في حي الحسين بالقاهرة يهددون من يغضبون عليه بالأرق ثم يحتالون فيسقونه كأسا من «الشاي الأسود» فيقضي الليل وهو مورق الجفون، فيتخيل ذلك «كرامة» وما علم لجهله أن نومه طار بفضل الوهم وبفضل السم المدوف في ذلك المنقوع!
ومن تلك الآفات ترهف الأذواق والأحاسيس فيحيا الأدب ويستطيل.
والأدب كالنار، والنار لا تتمرد إلا حين تجد الطعام المعطوب من الشجر والنبات!
نقل الأقاصيص الغرامية إلى الجواء الصوفية
أقاصيص الحب
كان عند العرب فن أدبي معروف هو أقاصيص الشهداء في الحب وكان الأصمعي أشهر رواة ذلك الفن، ففي كتاب الأمالي وكتاب تزيين الأسواق وديوان الصبابة ومصارع العشاق نرى الأصمعي يواجهنا من حين إلى حين بأخبار من صرعهم الحب بعد سماع أشعار النسيب، كأن يقول: رأيت بالبادية رجلا قد دق عظمه، ونحل جسمه، ورق جلده، فتعجبت منه، ودنوت منه لأسأله عن حاله فقالوا: أذكر له شيئا من الشعر يكلمك، فقلت:
سبق القضاء بأنني لك عاشق
حتى الممات فأين عنك المذهب
فشهق شهقة ظننت أن روحة فارقته. ثم أنشأ يقول:
أخلو بذكرك لا أريد محدثا
وكفى بذلك نعمة وسرورا
أبكي فيطربني البكاء وتارة
يأبى فيأتي من أحب أسيرا
فإذا أتى سمج بفرقة بيننا
أعقبت منه حسرة وزفيرا
فقلت له: أخبرني عنك، فقال: إن كنت تريد علم ذلك فاحملني وألقني على باب تلك الخيمة ففعلت فأنشأ يقول بصوت ضعيف:
ألا ما للمليحة لا تعود
أبخل ذاك منها أم صدود
فلو كنت المريضة كنت أسعى
إليك ولم ينهنهني الوعيد
فإذا جارية مثل القمر قد خرجت فألقت نفسها عليه، فاعتنقا، وطال ذلك وسترتهما بثوبي خشية أن يراهما الناس، فلما خفت عليهما الفضيحة فرقت بينهما فإذا هما ميتان.
1
ومن ذلك ما حدث الجاحظ إذ قال: كان محمد بن حبيب الطوسي جالسا مع ندمائه، وقد أخذ الشراب برءوسهم إذ غنت جارية له من وراء ستارة:
يا قمر القصر متى تطلع
أشقى وغيري بك يستمتع
إن كان ربي قد قضى كل ذا
منك على رأسي فما أصنع
وعلى رأس محمد غلام على أحسن ما يكون من الجمال، وبيده قدح، فوضع القدح من يده وقال: تصنعين مثل ذا - ورمى بنفسه من الدار إلى دجلة - فلما رأت الجارية ذلك هتكت الستارة ورمت بنفسها على أثره، فغرقا جميعا، قال الجاحظ: فقطع محمد الشراب بعد ذلك شهرا.
2
عثمان الغريب
ولهذا الفن شواهد كثيرة جدا، وقد ضمخ الأدب العربي بعبير الأنفاس الوجدانية، وكان الناس يغرمون بتقييد أوابده في العصر الأموي والعصر العباسي.
فلنذكر في هذا الفصل كيف انتقل هذا الفن إلى الرحاب الصوفية، وكيف صار في أنديتهم أنفس ما يدور من الأسمار والأحاديث.
روى صاحب الروض الفائق عن عبد الصمد البغدادي قال: كنت أتجر من بغداد إلى بلاد اليمن، وأحج في كل سنة، فبينما أنا في بعض السنين في الطريق بين منى وعرفة إذ رأيت شابا حسن الشباب، نقي الأثواب، كأن وجهه قنديل، وهو راقد على الرمل، وتحت رأسه حجر، وهو يعالج سكرات الموت، فتقدمت إليه، وسلمت عليه، وقلت له: ألك حاجة؟ قال: نعم، تقيم عندي ساعة حتى أقضي نحبي، وألحق بربي، فقلت له: ما الذي تريد؟ فقال: إذا أنا مت فوارني التراب، وخذ هذه المعضدة من كتفي، فإذا وصلت إلى صنعاء اليمن فسل عن دار الوزارة، فإذا خرجت إليك عجوز وبنات فادفع إليهن هذه المعضدة وقل لهن: عثمان الغريب يقرئكن السلام. ثم غاب عن حسه ساعة ثم أفاق وهو يقرأ (هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون) ثم شهق شهقة فارق فيها الدنيا، فغسلته وكفنته ووجهه يضيء ويتلألأ نورا، ثم صليت عليه في جماعة ودفنته، ثم أخذت المعضدة، فلما وصلت إلى صنعاء اليمن سألت عن الدار فخرجت إلي عجوز وبنات فدفعت إليهن المعضدة، فلما رأينها أخذن في البكاء والنحيب، وخرت العجوز مغشيا عليها، فلما أفاقت قالت: وأين ذهب صاحب هذه المعضدة؟ فأخبرتها بخبره وما كان منه، فقالت: هو والله ولدي عثمان، وهؤلاء أخواته، ترك أهله وحشمه وخدمه وزهد في الدنيا وخرج سائحا على وجهه لا ندري أين ذهب، فجزاك الله عني وعن ولدي خيرا، ثم بكت وجعلت تقول:
يا فقيدا أضحى وحيدا غريبا
يا عزيزا أمسى ذليلا كئيبا
قد هجرت الديار من بعد أنس
وسكنت القفار فردا سليبا
وتغربت في البلاد حزينا
بانفراد ولست تدعو مجيبا
منذ فارقتني تنغص عيشي
ولقد كنت لي خليلا حبيبا
ليتني مت قبل يومك قهرا
ليتني كنت من حماك قريبا
فعليك السلام مني حقا
كلما حرك النسيم قضيبا
3
ففي هذه الأقصوصة خصائص الأقاصيص الغرامية: فالشهيد (شاب حسن الشباب، نقي الأثواب) والذي يحضره رجل ظاهر المروءة يواسيه ساعة الموت، ويحمل سلامه إلى أهله بعد أن يواريه التراب، فإن فاته أن ينطقه بالشعر لم يفته أن ينطق أهله بأبيات فيها بكاء وأنين.
البراقع على أوجه الشبان
وحكى بعضهم قال: كنا مارين على دجلة بين البصرة والأبلة وإذا قصر حسن له منظرة، وعليه رجل، وبين يديه جارية تغني وتقول:
في سبيل الله ود
كان مني لك يبذل
كل يوم تتلون
غير هذا بك أجمل
فإذا شاب تحت المنظرة بيده ركوة وعليه مرقعة يسمع، فقال: يا جارية! بحياة مولاك أعيدي:
كل يوم تتلون
غير هذا بك أجمل
فأعادت، فقال الفقير: هذا والله حالي مع الله، وشهق شهقة خرجت بها روحه، فقال صاحب القصر للجارية: أنت حرة لوجه الله تعالى، وأعتق جميع مماليكه وتصدق بالقصر وبجميع ماله، وائتزر بخرقة وارتدى بأخرى وذهب على وجهه، فلم ير له أثر، ولم يعرف له خبر.
3
وحدث أبو على الروزباري قال: جزت يوما بقصر فرأيت شابا حسن الوجه مطروحا وحوله ناس مجتمعون فسألتهم عنه، فقالوا: إنه جاز بهذا القصر فسمع جارية تغني وتقول:
كبرت همة عبد
طمعت في أن تراكا
أو ما حسب لعين
أن ترى من قد رآكا
3
وقال ذو النون المصري: سمعت برجل باليمن قد سما على المحبين، وفاق على المجتهدين، وعرف بالعلم والحكمة، فخرجت حاجا، فلما قضيت نسكي مضيت إليه لأسمع كلامه وأنتفع بموعظته، أنا وأناس معي يطلبون مثل ما أطلب، وكان معنا شاب عليه سيما الصالحين، وشعار المحبين، فخرج الشيخ إلينا فجلسنا إليه فبدأ الشاب بالسلام والكلام، فصافحه الشيخ وأقبل عليه فقال له الشاب: يا سيدي، قد جعلك الله طبيبا لأسقام القلوب، وبي جرح قد أعيا الأطباء، فإن رأيت أن تتلطف بي ببعض مراهمك فافعل، فقال الشيخ: عما بدا لك فاسأل. فقال: ما علامة الحب لله؟ قال: أن تنزل نفسك منزلة السقيم، ألا تراه يحتمي من الطعام، حذرا من السقام؟ فصاح الفتى صيحة ظننا روحه قد خرجت، فلما أفاق قال: يرحمك الله! فما علامة المحبين؟ قال: إن درجة المحبين رفيعة، فقال: صفها لي، فقال: إن المحبين لله تعالى نظروا إلى نور جلال الله فصارت أبداهم روحانية، وعقولهم سماوية، تسرح بين صفوف الملائكة بالعيان، وتشاهد تلك الأمور باليقين، فعبدوه بمبلغ استطاعتهم، لا طمعا في جنته، ولا خوفا من ناره، فشهق الفتى شهقة خرجت فيها روحه.
4
صرعى الغناء
وأقاصيص ذي النون كثيرة، وقد ساق بعضها ابن خلكان، ثم بدا له أن يدفع ما قد ترمي به من المبالغة فقال: وقد جرى في زمني شيء من هذا يليق أن أحكيه، وذاك أنه كان عندنا بمدينة إربل مغن موصوف بالحذق والإجادة في صنعة الغناء يقال له: (الشجاع جبريل) فحضر سماعا سنة عشرين وست مئة، فإنني أذكر الواقعة وأنا صغير، وأهلي وغيرهم يتحدثون بها في وقتها، فغنى الشجاع القصيدة الطنانة البديعة التي لسبط بن التعاويذي وأولها:
سقاك سار من الوسمي هتان
ولا رقت للغوادي فيك أجفان
إلى أن وصل إلى قوله:
ولي إلى البان من رمل الحمى وطر
فاليوم لا الرمل يصبيني ولا البان
وما عسى يدرك المشتاق من وطر
إذا بكى الربع والأحباب قد بانوا
وليلة بات يجلو الراح من يده
فيها أغن خفيف الروح جذلان
خال من الهم في خلخاله حرج
فقلبه فارغ والقلب ملآن
5
يذكي الجوى بارد من ثغره شبم
ويوقظ الوجد طرف منه وسنان
إن يمس ريان من ماء الشباب فلي
قلب إلى ريقه المعسول ظمآن
بين السيوف وعينيه مشاركة
من أجلها قيل للأغماد: أجفان
فلما انتهى إلى هذا البيت قام بعض الحاضرين وقال له: يا شجاع، أعد ما قلته، فأعاده مرتين، أو ثلاثا، وذلك الشيخ متواجد. ثم صرخ صرخة هائلة ووقع، فظنوه قد أغمي عليه، فافتقدوه بعد أن انقطع حسه فوجدوه قد مات. فقال الشجاع: هكذا جرى في سماعي مرة أخرى فإنه مات فيه شخص آخر.
6
فتنة القوالين
والمغني الذي ينشد الأشعار في المحافل كان يسمى (القوال) وللقوالين نوادر كثيرة مع الصوفية، من ذلك ما وقع حين زار ذو النون بغداد فقد حضر أحد تلامذته مجلس أحد القوالين فلما طاب السماع وتواجد السامعون صرخ ذلك التلميذ ووقع فحركوه فوجدوه ميتا، فوصل الخبر إلى ذي النون فقال لأصحابه: تجهزوا حتى نصل إلى ذلك القوال، فلما وصلوا إليه غنى ذو النون وأصحابه والقوال يسمع، ثم صرخ ذو النون فوقع القوال ميتا، فقال ذو النون: قتيل بقتيل، أخذنا ثأر صاحبنا!
التذكير بالمشكلات الأخلاقية
وقد تتجه هذه الأقاصيص إلى التذكير بالمشكلات الأخلاقية، حدث ذو النون قال: رأيت فتى ظاهره الجنون، فعلمت أنه بحب مولاه مفتون، فسمعته يبكي ويقول في مناجاته: مولاي، قربت المحبين، وطردتني، فما ذنبي! وخصصتهم بالوصال منك، وهجرتني، فوا كربي! أيقظتهم للقيام بين يديك، وأنمتني، فوا ندمي! لذذتهم في السحر بمناجاتك، وما لذذتني، فوا ألمي! ثم أخذ في البكاء.
قال ذو النون: فحرك منى ما كان ساكنا، وهيج من شوقي ما كان كامنا، فقلت له: يا فتى، ما هذا البكاء؟ فقال: يا ذا النون، أخبرني، سواد الثوب يزول بالماء والصابون، وسواد القلب بماذا يزول؟
7
التشابه بين أخبار العشاق وأخبار الصوفية
والقصص الصوفي كالقصص الغرامي فيه الصحيح والسقيم، والمبتذل والطريف، والمهم أن نسجل هذه الظاهرة الأدبية التي تمثل الاستشهاد في الحب، حب الله، فقد كان ما أوحته من الأقاصيص متعة الأسمار حينا من الزمان.
ومن المؤكد أن القصص الصوفي فرع من القصص الغرامي، والذين وضعوا الأقاصيص الصوفية لحظوا في الصياغة ألوان الأقاصيص الغرامية، والرواة في الحالين من أهل الأدب والبيان.
ولنذكر في ختام هذا الفصل أن أخبار الصوفية تشبه أخبار العشاق، فقيس بن الملوح فتنته ليلى فترك أهله وخرج هائما يتنقل تنقل المجنون من أرض إلى أرض، وإبراهيم بن أدهم أحب الله فخرج من ماله وجاهه وهام مع الهائمين.
وشهداء الحب في الحالين فتيان صباح الوجوه، لهم قلوب وأذواق، وفيهم شمائل الملوك، والرواة في الحالين قوم تفتنهم المشاهد المحزنات، وتروقهم حلاوة الأشعار والأسجاع. ولو جمعت الأقاصيص الغرامية والأقاصيص الصوفية في كتاب واحد لكانت المأساة واحدة، وإن اختلف اسم المحبوب.
نقل الشعر من المحسوس إلى المعقول
ويتصل بهذا الفن تحويلهم قصائد المجون إلى عظات، فقد ذكروا أن ابن الجوزي خرج يوما لبعض شونه فسمع قائلا يقول:
إذا العشرون من شعبان ولت
فواصل شرب ليلك بالنهار
ولا تشرب بأقداح صغار
فقد ضاق الزمان عن الصغار
فخرج هائما على وجهه إلى مكة، فلم يزل يعبد الله بها حتى مات، ففهم من الشاعر انصرام العمر وضيق الزمان.
8
قال في لطائف المنن: واعلم أن هذه المفهومات المعنوية الخارجة عن الفهم الظاهر ليست بإحالة اللفظ عن مفهومه، بل هو فهم زائد على الفهم العام يهبه الله لهذه الطائفة من أرباب القلوب، وهو من باطن الحكم المندرج في ظاهره اندراج النبات في الحبة.
8
وأنشد إنسان في مجلس مكين الدين بن الأسمر:
لو كان لي مسعد بالراح يسعدني
لما انتظرت لشرب الراح إفطارا
الراح شيء شريف أنت شاربه
فاشرب ولو حملتك الراح أوزارا
يا من يلوم على الصهباء صافية
خذ الجنان ودعني أسكن النارا
فقال بعض فقهاء الظاهر: لا يجوز قراءة هذه الأبيات، فقال مكين الدين: دعوه فإنه رجل محجوب. يعني أنه لا يفهم إلا الشراب الحسي دون المعنوي، وهو جمود. «وقد يختلف الشرب لجماعة من آنية واحدة لاختلاف مقامهم، كقضية الرجال الذين سمعوا قائلا يقول: (يا سعتر بري) وكانوا ثلاثة، فكل واحد سمع ما يليق بحاله، فسمع الأول: الساعة ترى بري، وسمع الثاني: إسع ترى بري، وسمع الثالث: ما أوسع بري! فالأول كان مستشرفا، والثاني كان مبتدئا، والثالث كان واصلا».
8
وسيجيء لذلك تفصيل في الجزء الثاني عند الكلام عن الحب.
والقوم يستبيحون إلقاء الحقائق بالإشارات اللطيفة والغزل الرقيق، وهم سادة الناس في علم الذوق، ولو جردوا تعابيرهم من الاستعارات التمثيلية لأضافهم العوام إلى الملحدين. ولو خلت الدنيا من أصحاب الأذواق لأمست ظلمات من فوقها ظلمات.
صور المجتمع الإسلامي في كتب الصوفية
صدق الصوفية في الوصف
أشرنا من قبل إلى الألفاظ الصوفية، وقلنا: إنها ثروة لغوية أنشأها التصوف، فلنشر الآن إلى أن هذه الناحية تستحق الدرس، ولكنا لن نفصل ذلك؛ لأن القدماء من علماء المسلمين اهتموا بها اهتماما شديدا، وتركوا فيها مباحث تقرأ؛
1
ولأن المستشرقين أطالوا فيها القول، ولا سيما المسيو ماسينيون في كتابه المعروف:
Essai sur les Origines du Lexique Technique de la Mystique Musuhanane .
فلنفترع نحن مبحثا بكرا لم يمسه أحد من قبل، وهو استخراج صور المجتمع الإسلامي من كتب الصوفية.
صور الطبقات والحكومات في كتب الصوفية
ولكن ما هو الجديد في ذلك؟ إن جميع الآثار الأدبية هي في صميمها وصف للمجتمع الذي تنشأ فيه، فكيف يكون الالتفات إلى هذه الناحية من المبتكرات!
والجواب أن المؤلفات الصوفية لها صبغة تميزها عن سائر الآثار الأدبية؛ لأن الصوفية في الأغلب يكتبون للعوام، ويكتبون بلغة سهلة لا تكلف فيها ولا افتعال، فهم يصورون المجتمع من نواحيه الخلقية واللغوية تصويرا صادقا لا مداورة فيه ولا احتيال، ويساعدهم على صدق الوصف أنهم في الأغلب يبغضون التزوير، ولا يتحدثون إلا عما يشيع من المناقب والمثالب والمحاسن والعيوب.
المجتمع المصري في القرن العاشر
وأول ما ينبغي تقييده هو وجود هذه الطوائف الصوفية في صلب المجتمع الإسلامي، فهم شراذم من الصالحين ومن الأدعياء يملئون المساجد والأسواق، ولهم على الجمهور سلطان رهيب. وكتب التصوف تدلنا على أنظمتهم الدينية، ومنازلهم الاجتماعية، وتشهد بما كانوا عليه في المطاعم والملابس والسمات.
2
وتحدثنا أيضا كتب التصوف أن المجتمع الإسلامي كانت تتنازع السيطرة عليه طائفتان تقتتلان: وهما أهل الحقيقة وأهل الشريعة، وكان لكل طائفة أنصار وأشياع، وهذا النزاع كانت له مظاهر مختلفة، وكان له أثر في تلوين الأذاق والعقول.
وتحدثنا كذلك أن الناس كانوا يثورون على الحكومات الإسلامية لأسباب عقلية وروحية، أكثر مما يثورون عليها لأسباب اقتصادية؛ فالحاكم كان يبغض لأنه ينصر هذا المذهب أو ذاك، قبل أن يبغض لأنه قصر في تدبير أمور المعاش لجماهير المحكومين، ومن أجل ذلك كان الساسة المهرة يصلحون ما بينهم وبين الصوفية ليستخدموهم في بث الدعاية ونشر ما يحبون أن يوصفوا به من بغض الظلم، وإيثار العدل، وحب الكرم والجود - والشعراني نفسه استخدمه حكام عصره في تجميل سمعتهم بين الناس، ودفعوا ثمن ذلك بالسكوت عن أوقاف زاويته وكانت تحيط بها شبهات.
3
وأهم ما تحدثنا به كتب الصوفية هو وصف ما كان عليه المجتمع من الأخلاق؛ لأنهم لا يتحدثون إلا عن فضائل تشهاها المجتمع، أو فريق من المجتمع، ولا يصفون من الرذائل إلا ما تألم منه المجتمع، أو بعض المجتمع، فهم الوصافون الصادقون لما كان في المجتمع من خير وما كان فيه من فساد.
تحريم شرب القهوة
وما نريد في هذا الفصل أن نتحدث عن جميع المجتمعات الإسلامية، فإن هذا عبء ثقيل، وإنما نريد أن نذكر ملامح من المجتمع المصري؛ لأننا نعرفه أكثر من سواه. وهذه الملامح نأخذها من مؤلف واحد هو الشعراني في كتب ثلاثة هي: لطائف المنن ولواقح الأنوار والبحر المورود.
شيوع النفاق
فالمصريون في القرن العاشر كانوا ينفرون من شرب القهوة ويرون ذلك من الهنوات. وقد غمز الشعراني معاصريه فذكر أنهم «يفعلون الأمور المحرمة بالإجماع كالغيبة والنميمة وأكل الحرام من بيوت المكاسين ونحوهم ولا يجدون في نفوسهم شدة قبح من ذلك كما تنفر نفوسهم من شرب القهوة مثلا»؛ وذلك لأنهم يشهدون الناس لا يفسقونهم بالغيبة وأكل الحرام لكثرة وقوع الناس في ذلك، بخلاف شرب القهوة بين الفقهاء؛ فلذلك نفرت النفوس من شرب قليل القهوة ولم تنفر من كثير الغيبة والنميمة وأكل الحرام.
4
وحدثنا في لطائف المنن:
5
أن شخصا كان يغتاب الناس ليلا ونهارا ويمزق أعراض العلماء والصالحين، فقال له صديق: اشتر لي بهذا العثماني قهوة أشربها، فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لو ضربت بالسيف ما دخلت بيت القهوة! وهذان النصان صريحان في أن شرب القهوة كان من الفسوق.
غرام المصريين بالألقاب
وكان المصريون في القرن العاشر يحبون الألقاب، أكثر مما يحبونها اليوم، يدل على ذلك أن الشعراني قال: (أخذ علينا العهد أن لا نتكدر قط ممن نادانا باسمنا مجردا من غير لفظ سيادة أو ولاية أو مشيخة ونحو ذلك من الألفاظ المفخمة)؛
6
وكلمة (يتكدر) تدل على أنهم كانوا يغتمون حين يجردون من الألقاب. ومن الشعراني عرفنا كيف كان يكثر تلقيب العلماء بأمثال قطب الدين، وشمس الدين، ونور الدين، وهي ألقاب لا يكاد الشخص يصدق فيها إلا بتأويل.
اللحية علامة الرجولة
وكانت اللحية في ذلك العهد من علائم الرجولة، بدليل قول الشعراني: «وكيف يليق بمن له لحية أن ينام كالجيفة وأم قونق أو الناموسة مستيقظة».
7
ولعل الحلف بالذقن جاء من هذا المعنى.
النظافة
وكان المصريون حينذاك لا يراعون النظافة فكانت الحكومات تقهرهم على نزح الخرارات. ولعل ما كتبه في ذلك خاص بطبقات الفقراء.
خروج النساء إلى الحمامات
وكان النساء في ذلك الزمن «يكثرن من الذهاب إلى الحمامات العمومية، ويخرجن للأسواق والزيارات للأصحاب والأعراس التي لا انضباط فيها على القوانين الشرعية والعزومات والمتفرجات التي يقع فيها اختلاط الرجال بالنساء».
8
وهنا ينطلق الشعراني فيشرح ما في خروج النساء من المفاسد، وكلامه في هذه النقطة يدل على بصر ثاقب ويشهد بأنه كان من أهل الخبرة بتقلب القلوب، وعنده أن الرجل قد يكون شيخا طعن في السن أو قبيح المنظر وزوجته شابة حسناء فترجع من السوق أو من الزيارة وهي لا تشتهي أن تنظر إلى زوجها، ولا تقبل أن يقبلها، أو يلامسها، وحدثنا أن امرأة متدينة «مصلية» قالت له: إني أكره الخروج إلى السوق. فقال: لماذا؟ فقالت: لأني أنظر إلى الأشكال الحسنة فتميل إليها نفسي، فأرجع لا أقدر أنظر في وجه زوجي. قالت: وقد دخلت مرة سوق الوراقين فرأيت شابا فأخذ بمجامع قلبي فرجعت، فوالله ما رأيت زوجي في عيني إلا كالقطرب أو كالغول أو كالعفريت أو كالبقرة، وكما أن الرجل إذا رأى المرأة الحسناء مالت إليها نفسه فكذلك المرأة إذا رأت الشاب الأمرد الجميل تروح نفسها إليه. قالت: رأيت مرة إنسانا من الطاق وزوجي عندي وصرت أنظر إلى حسن شكل ذلك الإنسان وحسن لحيته ووجهه وعيونه وأنظر إلى زوجي وإلى تشعيث شعر لحيته وكبر أسنانه وأنفه وعمش عينيه وخشونة جلده وملبسه وفظاظته وتغير رائحة فمه وإبطه وقبح كلامه، فما كنت إلا فتنت بذلك الإنسان. قالت: ثم إني تبت إلى الله تعالى عن الخروج مطلقا، لا لحمام ولا لزيارة ولا لغيرها فصار زوجي في عيني كالعروس.
9
ونقل هذا الكلام بهذه الحماسة يدل على أن خروج النساء في ذلك العهد كان كثيرا، وكان مما يشوك أهل العفاف.
وسكوته عن فتن الشواطئ يدل على أن النساء لم يكن يعرفنها في تلك الأيام، وإن كان خصوم ابن خلدون من قبل عابوا عليه زيارة الشواطئ في أيام الاصطياف.
وفي كلام هذه «المصلية» ما يريب؛ لأن المعروف أن النساء يغلب عليهن الحذر والكتمان، فكيف أمكن أن تبوح امرأة مثل هذا البوح؟ وكيف جاز أن تكشف امرأة عن سريرتها الشهوانية هذا الكشف؟
إن صحت رواية الشعراني فهي صورة جديدة من المجتمع المصري لذلك العهد، ويمكننا أن نسجل أن «الأولياء» كان يسهل عليهم أن يصلوا إلى أسرار البيوت بفضل ما عرف عنهم من التقى والصلاح، فهم أشبه بالقسيسين الذين يدخلون المنازل بلا استئذان، ويحدثهم النساء عن أزماتهن الوجدانية بلا تحرج ولا استحياء، وهذا لا يزال يقع شيء منه في الريف، والشعراني نفسه حدثنا أن الله «كسر قفص طبعه» حتى صار لا يستحيي من تعليم النساء الأجانب آداب الجماع، فضلا عن الرجال،
10
وحدثنا أن جماعة من الأحمدية كانوا يتصلون بالنساء فيقول أحدهم للجارية الكبيرة: يا أمي، ولمثله يا أختي، ولدونه يا بنتي، ويجتمعون كلهم على السماط من غير احتجاب.
11
وحدثنا بعض من ترجموا للشعراني أنه كان يحمل الحملات عمن يعطف عليهم من المذنبين، و(حمل الحملات) الذي كان يقوم به الشعراني هو نفس الغفران الذي يقوم به القسيس. والصوفية والرهبان يرجعون إلى أصل واحد، وإن اختلفت الصور والأشكال.
شيوع الرشوة في مصر
ويظهر أن الرشوة كانت شائعة في ذلك الحين، فقد تحدث الشعراني عنها غير مرة وعرفنا منه أن الولاة كانوا يرشون من ولوهم ليأمنوا العزل.
12
موازنة بين حال الصوفي وحال القسيس في المجتمع
وزي الصالحين أو أدعياء الصلاح لعهد الشعراني كان شبيها بما تراه اليوم عند الدراويش، فقد نهى المريدين أن يلبسوا لباس الصالحين، ويفعلوا فعل الجاهلين «وذلك كالذي يلبس جبة من صوف، ويرخي لعمامته عذبة، ويأخذ بيده سبحة».
13
وعرفنا من كلامه أن من الصوفية من كان يلبس المرقعات الملونة من رقع خضر وصفر وحمر وسود، ومن يلبسون بشتا من ليف وخوص أو حلفاء، أو جلودا منزوعة الشعر أو طرطور جلد أو خوص مكشوفا بغير عمامة أو شملة حمراء أو خضراء.
14
ولبس الصوف كان لا يزال إلى القرن العاشر مما يختار الصوفية، وهو يدل على أن نسج الصوف بالطرق التي تصل به إلى الرقة والنعومة وتجعله من ملابس المترفين كان لا يزال بعيدا عن العامة من أهل ذلك الزمان.
واصطفاء الصوفية للبس الصوف مدة عشرة قرون يؤكد ما اخترناه من اشتقاق التصوف من الصوف.
وقد أشرنا غير مرة إلى أن لبس الصوف نقله الصوفية عن الرهبان، وقد عثرنا على أبيات صريحة في أنه كان مفهوما أن لبس الصوف كان من تقاليد المسيح، وأن المسيح كان يعرف المرقعات الملفقة من القطع البيض والسود، قال أبو الحسن المخزومي:
ليس التصوف أن يلاقيك الفتى
وعليه من نسج المسيح مرقع
15
بطرائق بيض وسود لفقت
فكأنه فيها غراب أبقع
إن التصوف ملبس متعارف
فيه لموجده المهيمن يخشع
سوء الظن بالناس
وكان المصريون في تلك الأيام يسيئون الظن بعضهم ببعض، ويبالغون في التحرز من الفن الخلقية، فقد حدث الشعراني أن الرجل الصالح محمد بن عراق كان لا يمكن ابنه عليا من الخروج إلى السوق حين كان أمرد إلا ببرقع خوفا عليه من السوء وخوفا على الناس من الفتنة،
16
وحدثنا أن الشيخ أبا الفضل بن أبي الوفا كان إذا طلب أولاده دخول الحمام أنزلهم بالليل في زورق من الروضة إلى مصر العتيقة «ويقذف بهم وحده، ثم يطلع بهم إلى الحمام، فيدخله قبلهم ويفتش في جميع عطفه من المستوقد والسطوح ثم يخرج من يكون هناك ويغلق باب الحمام ويجلس على بابه حتى يقضين حاجتهن،
16
وكان الشيخ أبو السعود لا يمكن أحدا من دخول بيته، لا في مرض ولا في غيره».
17
وهذه الحوادث رواها الشعراني لينص على ما عند أصحابها من شرف العفاف فهي تدل على أن مصر كسائر البلاد كانت تعرف طائفتين من الخلق: أهل الفضيلة وأصحاب المجون، وإن كانت هذه الوسوسة الخلقية تشهد بأن الفساد كان بغى واستطال.
صور التعذيب
وكان لطرق التعذيب في القرن العاشر صور مخيفة بشعة قاساها المصريون نعرفها من كلام الشعراني إذ يقول:
خذ علينا العهد أن لا نحضر قتل إنسان أو ضربه أو معاقبته ظلما ... فلا ينبغي لأحد أن يحضر مع الأطفال مواطن الظلم أو يخرج من بيته حتى ينظر من شنقه الولادة، أو شنكلوه، أو خوزقوه، أو وسطوه، أو خزموه في أنفه، أو سمروا أذنه في حائط، أو جرسوه على ثور، أو شحطوه في أذناب الخيل أو ضربوه في قطع الخليج ...
وقد أخبرني سيدي علي الخواص قال: رأيت الشيخ عز الدين المظلوم المدفون في كوم الريش بين مصر ومنية الأمير وهو (مخشب) هو وجماعته على جمال وهو يضحك. فقلت له: إيش هذا الحال؟ فقال: ما أراد أن نقدم عيله إلا هكذا.
18
وهذه الألوان من العقوبات أكثرها انقرض، ولم يبق إلا الشنق، وفيه الكفاية!
ومن غريب ما حدث الشعراني أن الناس كان من عاداتهم في الأعراس أن يلبسوا العرائس لباس الرجال من جندي وقاض وغيرها، «وذلك حرام لا يفعله في داره من له مروءة أهل الإيمان».
18
والشعراني يذكر أن الذين كانوا يلبسون العرائس ملابس الرجال هم المغنون.
وصل شعور النساء
وكان النساء في القرن العاشر يصلن شعورهن - وكنت أحسب ذلك من بدع هذه الأيام - وكن يخططن أبدانهن بالوشم، وكن يأخذن شعر الوجوه بالتحفيف، ومن هذا يقول أهل الريف لعهدنا هذا: «خرجت فلانة متحففة» وكن يفلحن أسنانهن بالمبرد.
19
إقامة الولائم في المقابر
وكان من عادة المصريين في القرن العاشر أن يقيموا ولائم كبيرة في المقابر يدعون إليها الأقارب والمعارف والأصدقاء، ولم تكن المقابر في ذلك الزمن إلا منازل خلوية لا تقام فيها مراحيض، فكان المدعوون يقضون حاجتهم في الخلاء فيحولون المقابر إلى مقاذر تزكم الأنوف، نأخذ هذا من الشعراني إذ يقول:
خذ علينا العهد أن لا نجيب إلى حضور الولائم الكبيرة على مقابر المسلمين لا سيما إن عملت في القرافتين بمصر المحروسة، وذلك لكثرة تنجيس قبور المسلمين من الأولياء والشهداء وغيرهم بالبول والغائط وروث الحمير والبغال عليه غالبا، وقد عجزوا أن يجدوا الآن قدر موضع قبر واحد في القرافتين من غير ميت حتى في الطرقات، وغالب خدام قبور الأولياء الآن يرفعون شواهد قبور المسلمين التي هي تجاه ذلك الولي ليقف عليها حمير الزوار وبغالهم لأجل جديد
20
أو كسرة خبز يعطونها لهم فاعلم ذلك، وإياك أن تجازف في الحضور فيحزقك بولك وغائطك فتفعله هناك ضرورة لازمة، وإن كان ولا بد من الحضور فاترك الأكل والشرب قبل ذلك بيوم أو يومين حتى تعلم من نفسك أنك لا تحتاج إلى بول ولا غائط هناك. وقد عد العلماء أمورا يسقط بها طلب الحضور للوليمة أهون من الجلوس على القبر والبول عليه.
21
وإقامة الولائم في المقابر ظلت حية إلى عهد قريب، وكنا نسمع عنها أخبارا قبيحة، وكانت في الأغلب تقام في ليالي الأعياد، ولكن ظهر أخيرا أنها تنتج بليتين: الأولى ما يقع في المقابر من الرجس، والثانية تعدد حوادث السرقة عند من يتركون بيوتهم ليبيتوا في القبور، وكانت النتيجة أن حرمت الحكومة المصرية هذه العادة الشائنة، واستراح الأموات من عبث الأحياء!
الإيمان بسلطان الجن والعفاريت
وكان المصريون في تلك الأيام يؤمنون جميعا إيمانا مطلقا لا شك فيه بوجود الجن والعفاريت؛ ودليل ذلك لأن الشعراني يتحدث عن الجن حديث من لا يخاف أبدا أن يقال له: كذبت مع أنه كذاب! ولنتركه «يتبحبح» قليلا فيحدثنا عن بعض أخباره مع الجن والعفاريت: «كان في بيتي امرأة من الجن فكانت إذا قربت مني قامت كل شعرة في جسدي، فكنت أذكر الله فتبعد من وقتها، ثم كانت تقف في طريقي إلى المسجد في الظلام فما فزعت منها قط، بل كنت أمر عليها في المجاز المظلم فأقول لها: السلام عليكم، وما نفر خاطري منها قط، مع أن طباع الإنس تنفر من الجن! وسكن عندي مرة أخرى جماعة من الجن أيام الغلاء فكنت أقول لهم: كلوا من الخبز والطعام بالمعروف، ولا تضروا بإخوانكم المسلمين، فأسمعهم يقولون سمعا وطاعة! وسكن جني في بيتي مرة أخرى فكان يأتي كل ليلة في صورة جدي كبير فيطفئ السراج أولا ثم يصير يجري في البيت فكان العيال يحصل لهم فزع فكمنت له تحت رف وقبضت على رجله فزلق وصار يستغيث فقلت له: تتوب؟ فقال: نعم! فلا يزال يدق في يدي حتى صارت رجله كالشعرة الواحدة. وخرج، فمن ذلك اليوم ما جاءنا. ونمت ليلة في بيت على الخليج الحاكمي ضيفا عند إنسان في قاعة وحدي فغلق علي فدخل جماعة من الجن فأطفأوا السراج وداروا حولي يجرون كالخيل. فقلت لهم: وعزة الله كل من دارت يدي عليه ما أطلقته إلا ميتا، ونمت بينهم فما زالوا يجرون حولي إلى الصباح ودخلت مرة الميضأة بجامع الغمري بالقاهرة أتوضأ؛ وكانت ليلة شتاء مظلمة، فدخل علي عفريت كالفحل الجاموس، فهبط في المغطس وصعد الماء فوق الإفريز نحو نصف ذراع، فقلت له: ابعد عني حتى أتوضأ، فلم يرض فجعلت في وسطي مئزرا وهبطت عليه فزهق من تحتي وخرج هاربا. ووقع لي مع الجن وقائع كثيرة، وإنما ذكرت لك ذلك لتعلم أن من قرأ الأوراد الواردة في عمل اليوم والليلة فليس للجن ولا للإنس عليه سبيل.
22
وحدثنا في كتاب لطائف المنن أنه ألف كتابا في أسئلة الجان، وهي نيف وسبعون سؤالا في التوحيد سأله عنها علماء الجان.
23
والإيمان بوجود الجن والعفاريت ليس خاصا بأهل القرن العاشر، ولكن الشاهد هنا أنه كان إيمانا عاما بحيث جاز لمثل الشعراني أن يعتمد عليه فيختلق أمثال هذه الأقاصيص.
وقد ظلت جماهير العوام على هذه العقيدة إلى اليوم، والأمهات في الريف يقلن للطفل: «اسم الله عليك وعلى أختك». وأخته هي الجنية؛ وفي طفولتي كنت أسمع أهل بلدنا ينهون عن جر العصا على الأرض بالليل لئلا تبطح «سكان» الأرض، وما أدري كيف حالهم اليوم فقد انقطعت عن الاتصال بهم منذ أمد بعيد. وقصة الملك شمهورش «ملك الجن» قريبة العهد، وقد فضحته جريدة الأهرام فلم ينبس بحرف! وحدثنا الأستاذ أنطون الجميل أنه تلقى من الدجالين خطابات تهديد، ومعنى ذلك أن أناسا يعيشون بفضل غفلة الجمهور واعتقادهم في الجان.
والإيمان بالجن كان له فضل في تلوين الأخيلة الأدبية، ولو أقدم كاتب فاستنطق العوام وكتب ما عندهم من حكايات الجن لأخرج مجموعة كبيرة من طرائف الأقاصيص.
والبيت «المسكون» لا يزال له وجود في الحواضر والأقاليم، وقد سمعت أن بعض المنازل في القاهرة تعطل سكناه لهذا السبب فيظل خاليا بضع سنين.
وأستاذنا الشيخ فلان، وهو من جماعة كبار العلماء، يصدق حكايات العفاريت، وقد قرأت منذ أشهر كلمة نشرها الأستاذ مصطفى عبد الرازق في مجلة الصاوي روي فيها أن جماعة من علماء الأزهر فزعوا حين رأوا نعلا ترتفع وتنخفض؛ وإنما فزعوا لأنهم توهموها محمولة على قرن عفريت، ثم ظهر أنها كانت جحرا يسكنه فأر خبيث. وبنو آدم بلا عقول!
وقد حاولت غير مرة أن أرى العفاريت ، ولكني لم أفلح بالرغم مما بذلت من جهود، ولعل السبب في حرماني من رؤيتهم أن الجن لا يظهر بعضهم لبضع. وهو تعليل مقبول!
البحث عن الكنوز
وكان المصريون في ذلك الحين يؤمنون بالمغيب المدخر من كنوز الأرض وهو في لغتهم اسمه «المطلب»، ومن أمثالهم: «كلب أجرب، ولقي مطلب» وفي كلام الشعراني ما يدل صراحة على أنه كان من المألوف أن يحرق الناس البخور في سبيل المطلب. ولننظر كيف يقول:
قلت لشخص من أبناء الدنيا: تعال اسهر معنا هذه الليلة، وكانت ليلة العيد الأصغر، فتعلل بأن السهر يضره، فقلت: بالله عليك، أصدقني، إذا أردت أن تفتح مطلبا وأبطأ عليك البخور الذي تطلقه من العشاء إلى الفجر، هل كنت تسهر إلى الصباح تترقب مجيئه؟ فقال: نعم! فقلت له: فإذا أبطأ من بعد الفجر إلى المغرب، هل كنت تترقبه ولا تنام؟ فقال: نعم! فدرجته إلى تسعة أيام وهو يجد أنه يقدر على السهر من غير وضع جنبه إلى الأرض، فقلت له: في اليوم العاشر؟ فقال: لا أقدر. فقلت له: يا أخي فإذا أنت تؤثر الدنيا على الآخرة. فقال: نعم!
24
ولا يزال هذا الوهم حيا إلى اليوم في بعض الطبقات. ولكن وروده في كلام الشعراني على هذا الوضع يدل أنه كان من المألوف بين جميع الناس.
25
وكانت عقلية الشعراني عقلية عامية. وبفضل غفلته وغفلة أمثاله من العلماء والواعظين ظلت صورة المطلب حية في أنفس السواد، ولها حوادث تقع في مصر من حين إلى حين.
ولهذه الأسطورة أصل: فقد كان القدماء يدفنون أموالهم في الأرض خوفا من اللصوص، وكان يتفق أن يعثر بعض الأهالي على دفائن نفيسة من وقت إلى وقت، وغاب عنهم السبب الأصيل فظنوها من ذخائر الجن، والجن فيما يظهر يستهويهم البخور العطر فيجودون بدخائرهم حين ينتشون!
وإحراق البخور لا يحسنه كل إنسان، وإنما هو فن يجيده «المغربي» وحده؛ ولهذا كان للمغاربة سوق رائجة في هذه البلاد، ومنهم وحدهم تطلب الكنوز، وعليهم المعتمد في كتابة الأحجبة لجذب الأليف إلى الأليف، وفي «العباءة البيضاء » أسرار لا يدركها إلا الراسخون في علم الغيب!
تكالب المصريين على الوظائف
ويفهم صراحة من كلام الشعراني أن المصريين كانوا يتكالبون على الوظائف في القرن العاشر، فقد نهى عن التطلع إلى الوظائف الشاغرة إلا لضرورة،
26
وحدثنا أن الناس كان يدس بعضهم لبعض ليأخذ هذا وظيفة ذاك «وهذا الأمر قد حدث في جنس طائفة أهل القرآن وهو في غاية القبح منهم حتى رأيت من يسعى على شيخه الذي علمه العلم»،
27
وحدثنا أن من الناس من يأخذ «معلوم» الوظائف الدينية ولا يباشرها «وربما جمع بين إمامتين أو خطابتين مع أنه يفتي غيره بتحريم أكل ذلك المعلوم».
28
وحدثنا أن من المدرسين من كان يهمل فريضة الحج؛ لئلا ينتهز أحد إخوانه فرصة غيبته في الحجاز فينتهب منه وظيفة التدريس،
29
وأن من الناس من كان يساعد أخاه بالعمل في وظيفته وهو غائب ثم يخونه «ويتقرر فيها»،
30
وحدثنا أن المتزاحمين على الوظائف يغتاب بعضهم بعضا ويرجو أحدهم أن يقع في عرض أخيه لتسوء سمعته فيخلو له الطريق،
31
وأنه رأى من برطل حتى وصل إلى غيبة في شخص عند أمير.
32
وما أحسب هذه الأخلاق انقرضت بفضل ما توهمناه من تقدم المجتمع المصري، فلا يزال أهل مصر على ما كانوا عليه، بل زادت شمائلهم قبحا إلى قبح، وفسادا إلى فساد، وصارت الصلاحية للوظائف الرسمية لا تقوم إلا على أساس واحد وهو الرياء، والفائز اليوم هو من يعرف أخلاق رئيسه فيسوسه كما يسوس الدابة الحمقاء: فإن كان الرئيس رجلا يحب الوقوع في أعراض الناس كان على المرءوس الشاطر أن يقدم لأذنيه كفايتهما من الغذاء في كل صباح، وإن كان للرئيس أعداء اجتهد المرءوس في إيذائهم باختلاق المساوي والعيوب، وإن كان الرئيس من أدعياء الأدب كان من الفروض على المرءوس أن يزعم أنه أشعر من المتنبي، وأكتب من الجاحظ، وأخطب من سحبان. ولا يكفي أن يقول هذا في المجلس، بل تجب عليه المبادرة بنشر هذا الكذب في الصحف والمجلات، وليس للمرءوس في هذا الزمن أن يقول: «أنا» فإن فعل فهو غير مصقول، وليس له أن يتحدث عن مواهبه، إن كتب الله أن تكون له مواهب، فإن فعل فهو في نظر رئيسه مهرج على الطريقة الأمريكانية!
ومهما يفعل الرئيس فهو دائما في حدود المنطق والصواب، والويل للمرءوس إن مر بخاطره طيف اعتراض. إن الصغار الذي عاناه الشعراني كان أهون وأيسر؛ لأن الوظائف لم تكن كل شيء في المصاير الاجتماعية، أما الصغار الذي يعانيه أهل هذا الزمان فهو نهاية البلاء؛ لأن أحرارهم يعيشون تحت رحمة طائفة من الجهلة جن لهم الزمان فصاروا يرفعون ويخفضون بلا تحرج ولا استحياء، ولذلك أقبح الأثر في مصاير الناس.
ويستطيع الرئيس الأحمق فيما سمعت أن يكيد لمرءوسه كيف شاء بلا رقيب ولا حسيب، فإن نوقش الحساب اعتصم باللفظ الذي صنعه الدجالون في العصر الحديث وهو لفظ (الضمير) فتراه يقول بلا حياء: «ضميري لا يسم بصحبة هذا الموظف» ولو كان لكلمة الضمير مدلول لوجب أن يستقبل أكثر الرؤساء؛ لأنهم في الأغلب من الكسالى الذين لا ينفعون الدولة بكثير ولا قليل. والإقدام على إيذاء الناس هو وحده دليل على مرض الذمة واعتلال الوجدان
ما أحوج مصر الحديثة إلى شعراني جديد يفضح ما يقع بين الرؤساء والمرءوسين في المعاهد والدواوين!
إن هذا العصر أقبح عصر عرفته هذه البلاد، فقد سمعت أن الفضل الحق صار ذنب من لا ذنب له. ولو أنك ملأت طباق الأرض علما، وألفت من الكتب ما يعجز عن مثله أرسططاليس، وبرعت الملائكة في نقاء النفس، وكان لك أبلغ قلم وأفصح لسان، لو كنت أفضل الناس جميعا وحرمت نعمة الرياء لظللت حيث أنت محروما من كل شيء، حتى حسن السمعة بين الناس، وكنت خليقا بأن يتقدمك من لا خلاق له في علم ولا أدب ولا دين، ما دام يعرف كيف يتملق الرئيس، وكيف يشهد بأن رئيسه أطهر الرجال، وأن بيته أمنع البيوت وإن كان من زجاج
كذلك سمعت أن الأمر صار إلى هذا الحال في هذه الأيام، والعهدة على راوي الحديث!
ولأمر ما تخلفنا وتقدم الناس.
طبقة الصوفية وطبقة الفقهاء
والطبقة المعروفة بالترف وسوء الأدب في القرن العاشر كانت طبقة التجار، فقد حدثنا الشعراني أنهم كانوا يحضرون المساجد قبل الصلوات في مثل الجامع الأزهر وغيره فيجلسون محدثين في لغو وغفلة، بل وغيبة
33
وحدثنا مرة ثانية أن التجار استرقتهم شهوات النساء فلا يقدر أحدهم على مخالفة زوجته أبدا،
34
ودعانا إلى الإكثار من التواضع في الحج بلبس الثياب اللائقة بالخدمة لا كما يفعل التجار،
35
ونهانا عن الإكثار من شراء الشاشات والأزر والحبر كما يفعل التجار،
36
وأوصانا أن نكثر من الصلاة في مسجد مكة والمدينة راجيا أن نخل بهذا العهد كما يخل به كثير من التجار الذين يبيعون في الموسم القماش فلا يتهنأ أحدهم بطواف، بل ولا بصلاة جماعة فيصير في النهار غافلا وبالليل نائما.
37
ويظهر أن التجار في ذلك العهد كان إليهم زمام المنافع الدنيوية: فكانوا من المياسير، وكانوا يسيطرون على الناس. والشاب المدلل في أقاصيص ألف ليلة وليلة يسمى في أكثر الأحوال «ابن التاجر» ومن هنا صح للشعراني أن يحكم بأن التجار ما كانوا يملكون أزمة نسائهم: لأن المرأة التي تنشأ في بحبوحة النعيم تبغي وتستطيل، فلا يصدها أدب ولا يحدها استحياء، إلا من عصم الله من أهل الأحساب.
طبقة التجار
ومن الشعراني نعرف طبقات المصريين في القرن العاشر: فطبقة التجار كانت تسيطر على الثروة، وطبقة الحكام كانت معروفة بالاستبداد، بدليل أنه نهى عن مقاومتهم مرات كثيرة،
38
وطبقة الموظفين كانت تقتتل على الوظائف، وطبقة الفقهاء كان لها سلطان، وكان الشعراني يتهيبها ويضع الآداب المختلفة لمن يتصل بها في الفتاوى والدروس.
نظام الزوايا
وهناك طبقة مهمة وهي طبقة سكان الزوايا، والزاوية كان لها شأن عظيم في القرن العاشر، وكان لها وجود اجتماعي، بدليل قول الشعراني: «وأعظم طريق إلى دفع البلاء النازل على الناس في حارة أو قرية أو زاوية مصالحة بعضهم بعضا حتى لا يبقى بينهم شحناء»
39
فقد جعل الزاوية مجتمعا يقرن إلى الحارة وإلى القرية، وكانت مشيخة الزاوية من المناصب التي تتطلع إليها العيون، فقد اتفق للشعراني مرة أن يقول: «إذا رفعك الله فصرت عالما أو شيخ زاوية»، وقد رجعنا إلى خطط علي مبارك باشا فرأينا زوايا القاهرة تعد بالعشرات، مع أنه لم يتحدث عنها إلا بعد أن اندثرت معالمها الاجتماعية، ولم تعد إلا مساجد لا يعرفها الناس إلا في أوقات الصلوات.
كانت الزاوية مأوى لطوائف من المريدين يقيمون فيها ليلهم ونهارهم، وكان لها لواحق من المطابخ والأفران والطواحين، بدليل قول الشعراني: «أراد الفقراء المقيمون عندنا في الزاوية أن يعلموا القصع الخشب الكبار التي اشتريتها لسماط الفقراء، فقالوا: أي شيء نكتبه عليهم؟ فقلت لهم: أكتبوا: كبر القصع، من قلة الورع».
40
وكانت أيضا ملجأ لأصحاب العاهات من الزمنى والعميان،
41
وهي فيما أعتقد صورة من صور الديارات والمعابد عند النصارى واليهود، والفرق بين الزاوية والدير أن الزاوية قد يقيم فيها الرجل مع زوجته وأولاده، وأن الدير لا يقيم فيه غير الرهبان المحرم عليهم الزواج.
42
ولكن من أين كان يستطيع مثل الشعراني أن يطعم جميع من كانوا يقيمون عنده من الفقراء، وقد حدثنا مرة أن زكاة الفطر لم تجب عليه؟ إن تعليل ذلك سهل: فقد كان لأكثر الزوايا أوقاف،
43
وكان سكان الزوايا ممن تقدم إليهم الهدايا والصدقات على نحو ما يصير في النجف إلى اليوم، وكان المحسنون يعهدون إلى شيخ الزاوية توزيع ما تجود به نفوسهم على المريدين، وذلك عمل كان يتولاه عن الشيخ شخص يلقب بالنقيب. نفهم هذا من قول الشعراني:
وينبغي للشيخ إذا وقع على يديه قسمة دنيا بين الفقراء أن لا يخص أحدا منهم بشيء زائد على غيره إلا أن تكون حاجته ظاهرة للفقراء كلهم بحيث يحنون عليه ويرقون لحالته ... وليحذر أن يأخذ لنفسه أو ولده نصيبا مع الفقراء فيكون كأحدهم في دناءة المروءة والأخلاق وتذهب رياسته عليهم، بل يفرق كل ما وقع على يديه على الفقراء والمساكين وأولادهم وعيالهم، ولا يلحس منه لحسة، ولا يأخذ منه فلسا، ولا يدخله في بيته أبدا، بل يضعه في الزاوية حتى يفرقه النقيب.
44
منظر زاوية يعيش فيها طلبة العلم ويأوي إليها الصوفية .
ونظام الزوايا لا يزال حيا في بلاد المغرب، وكان سكان الزوايا ممن تتحدث عنهم البرقيات في الحرب الطرابلسية والمراكشية، والسنوسيون الذين أضجروا المستعمرين حينا من الزمن كانوا من سكان الزوايا، ولكن هذا النظام انقرض من مصر ولم يبق له في المجتمع أثر محسوس.
45
ويظهر من كلام الشعراني في مواطن مختلفة أن الزوايا كان لها عصبية طائفية، وكان المريد الذي ينتقل من صحبة شيخ إلى شيخ يتهم بأنه أراد الدنيا ولم يرد الدين، ومعنى ذلك أن الزوايا كانت تختلف في ليونة العيش باختلاف أقدار الأشياخ، فبعض الزوايا يهدى لأهلها الخبز القفار. وبعض الزوايا تحمل إلى أهلها أطايب اللحوم وأسفاط العنب والتين!
وما نقول هذا ساخرين، فقد افتخر الشعراني بزاويته فذكر أن الفقراء كانوا يجدون فيها ما يحتاجون إليه من طعام ولباس، وأن الحق جل وعلا كان يرسل إليه كل سنة من عسل النحل نحو عشرة قناطير، ومن عسل القصب نحو خمسة عشر قنطارا، ومن القمح ثلاث مئة أردب، وكان يرسل إليه كل سنة نحو ألفي بطيخة من البطيخ الهندي يأكلون منها طول السنة حتى يطلع البطيخ الجديد،
46
وقد صرح في البحر المورود
47
أنه ينبغي للشيخ أن يخرج من الزاوية كل من غير وبدل عهود الفقراء التي دخل الزاوية على نيتها، كما إذا دخل في العهد مع الشيخ على أن يرضى باللقمة والخلقة ثم طلب زيادة على ذلك. ثم قال: «وجلوس مثل هذا في الزاوية ضرر بلا نفع. ومن شرط رهبان الكنائس فضلا عن المسلمين أن كل راهب أحب الدنيا أخرجوه من كنيستهم، وقد صارت الزوايا الآن مصيدة للدنيا لا غير».
48
وبعض ما سلف قاطع في الدلالة على ما كان للزوايا من القيمة المعاشية والاجتماعية.
49
طبقة الفلاحين
بقيت طبقة الفلاحين، وهي طبقة كانت محتقرة في القرن العاشر، بدليل أن الشعراني يرى الفلاح كالزبال، وبدليل أنه جعل من نعم الله مهاجرته من بلاد الريف إلى مصر ونقله «من أرض الجفاء والجهل إلى بلد اللطف والعلم».
50
وهذه النزعة لا تزال حية إلى اليوم. ولا يزال الفلاحون يرون أنفسهم منحطين، وفيهم من يرى البواب في القاهرة أرفع مقاما من الفلاح في الريف، ومن أغانيهم:
ليلتك سعيدة وسعيدة يا رايح مصر.
ومن أمثالهم: «الذوق لم يخرج من باب الحديد»، أي: أنه مقصور على القاهريين، كأن أهل القاهرة عندهم ذوق!
وذكر الشعراني أن أحد علماء الأزهر تزوج من مصرية، أي: قاهرية، وقدمت أمه من الريف لزيارته، فتنكر لها لئلا تعرف زوجته أن أمه فلاحة، وهددها بالضرب إن علم أحد أنها أمه وأنه ابنها الغالي!
ومن الشعراني نعرف أن الفلاحين كانوا مستضعفين، كان يتحكم فيهم الولاة ومشايخ العرب، أما الولاة فهم الحكام، وأما مشايخ العرب فهم جماعة من الأعيان كان لهم في مصر مقام مهيب، و«شيخ العرب» لقب فخم يذكره الشعراني في مواطن كثيرة بالتعظيم والتبجيل، كأن يقول: «أخذ علينا العهد إذا حصل لنا جاه عند حاكم من محتسب أو قاض أو شيخ عرب أن لا نغفل عن نصحه ولا عن قضاء حوائج الناس عنده».
51
وقد ظل هذا اللقب حيا إلى عهد قريب، وبفضله ضاعت أملاك آبائي وأجدادي، فقد كان منهم من إذا قيل له: «يا شيخ العرب» ثارت نخوته وأعطى باليمين وبالشمال. وعلى الله العوض!
وكان أهل الريف ينقسمون إلى طبقتين: عرب وفلاحين، فالعرب هم أحفاد المسلمين الذين وفدوا مع عمرو بن العاص، والفلاحون هم الأقباط الذين أسلموا، وكان بين هاتين الطبقتين عداوات وأحقاد، وكان العرب لا يصاهرون الفلاحين إلا متفضلين.
وكان مشايخ العرب في القرن العاشر يملكون من السيطرة ما يملك الحكام فقد حدثنا الشعراني أن الله حماه من الأكل من ضحايا الولاة ومشايخ العرب التي يرسلونها إلى الزوايا؛ لأنه علم «أن الكشاف ومشايخ العرب يأخذون هذه الضحايا التي يفرقونها من أهل البلد غصبا».
52
وكان ظلم الولاة للفلاح أقبح من ظلم مشايخ العرب، فقد دعا الشعراني إلى الزهد في ولاية أمور الناس؛ لأن الوالي يقع في أمور كثيرة، منها: «إلزامه بتخليص الخراج للمستحقين من الفقهاء وأرباب الشعائر مع ضيق حال الفلاح وخراب بلده وإلزامه بخراج العاطل والبور لجهة أقوى منه حتى لا يتركوا له أردب قمح لأولاده الصغار. فإن سلك هذا الناظر الفقيه أو الفقير مسلك الولاة والأمناء والملتزمين وباع قوت الفلاح وبقرته التي يأكل لبنها خرج عن سياج علمه وفقره إلى سياج الظلمة، وإن لم يسلك ذلك قام عليه المستحقون وقالوا له: أنت لا تصلح لهذه الوظيفة، فيصير هو وإياهم في نزاع وخصام ويقولون له: أنت مفرط في تخليص الخراج فليزمك كل شيء فضل عند الفلاح».
53
وهذا الكلام صريح في أن الفلاح كان يقاسي مصاعب كثيرة في دفع الخراج، وكانت الأرض لا تعاين، بل يدفع خراجها ولو كانت بائرة، فلا يبقى عنده شيء، حتى البقرة والقوت.
أيمان الطلاق
وكان الحلف بالطلاق يكثر في القرن العاشر، نعرف ذلك من قول الشعراني فيمن ينقل أخبار السوء: «فإذا قيل له: سمعت ذلك من أي شخص؟ فيقول: من واحد لا ينبغي ذكره، أو من واحد حلفني بالطلاق أني لا أذكره»، ومن قوله: «كان لي صاحب من طلبة العلم ضرير أطالع معه العلم ويفيدني الفوائد الحسنة، فتخاصم مع بعض الطلبة فقال له: أنت لا تجيء إلى فلان إلا بقصد الغداء والعشاء، فحملت ذلك الصاحب المروءة فحلف بالطلاق من زوجته ما عاد يأكل عندي في تلك السنة».
54
ونذكر من باب الفكاهة أن القرية التي نشأ فيها الشعراني - وهي ساقية أبو شعرة - لا يزال أهلها معروفين بالإكثار من أيمان الطلاق، وقد تقف حمارة أحدهم عن عبور الماء، فيحلف عليها بالطلاق أن تمر، وقد لا تفهم المسكينة خطر اليمين فيضربها حتى تسقط في الماء.
وأهل بدلنا يعيرونهم بذلك ويروون عنهم نوادر تضحك المحزون.
إقامة الموالد والمآتم والأعراس
وفي كلام الشعراني شواهد صريحة على أن إقامة الموالد كانت مما ابتلي به المصريون في القرن العاشر، وإنما عددناها من البلاء؛ لأنها كانت وصلت إلى التبذل والإسفاف، وبيان ذلك أن الصوفية كانوا يقيمون الموالد وينفقون عليها الأموال ليطعموا الفقراء والمساكين، ولكن أولئك الصوفية لم تكن لهم مكاسب، فكانوا يجمعون الأموال للموالد بسيف الحياء، وما زالوا يلحون حتى ضج الأغنياء ، وقد تحدث الشعراني عن هذه البلايا الأخلاقية فقال:
ومما من الله تبارك وتعالى به علي عدم أكلي طعام من يأكل بدينه من فقراء هذا الزمان، ويجرح الناس ويسلقهم إذا لم يبروه بألسنة حداد، ولا سيما إذا عمل مولدا كبيرا فإنه لا يكاد يحلل فيه ولا يحرم، أي: لا يحلل الحلال ويكتفي به، ولا يحرم الحرام ويجتنبه؛ فالورع ترك الأكل من طعام هؤلاء؛ لأنه لولا اعتقاد الناس فيهم الصلاح لم يعطوهم شيئا؛ ومعلوم أن من يأكل الدنيا بدينه أقبح ممن يأكلها بدنياه.
55
وحدثنا أن شخصا من الأمراء سأل الخواص أن يعمل له مولدا فأبى، وقال: «والله إن كسبي من هذا الخوص لا يعجبني، فكيف آكل من كسب الأمراء وأدعو الناس إلى الأكل منه».
قال الشعراني: وقد أخبرني شخص من جماعة الباشا علي الوزير فقال: قد سئمت نفوسنا من كثرة سؤال هؤلاء المشايخ الذين يعملون لهم موالد، فلم يتركوا عندنا عسلا ولا أرزا ولا عدسا ولا بسلة، وإيش قام على هؤلاء أن يشحذوا ويعملوا لهم موالد.
56
وقد عرض لهذه المسألة في البحر المورود بكلام أصرح فقال:
أخذ علينا العهد ما دمنا فقراء من المال أن لا نعمل قط مولدا حافلا ولا طهورا ولا سبوعا ولا وليمة واسعة ولا عزومة كبيرة ولا غير ذلك، حفظا لديننا ورحمة بإخواننا من التجار الذين لا يهون على أحدهم كسرة ليتيم، فإنهم إذا رأونا في مهم ربما تجونوا في مساعدتنا رياء وسمعة أو غصبا في عمل الطعام أو في النقوط للمداحين ونحو ذلك، وأكثر إخوان الفقير في هذا الزمان على علالة في صحبته لأمور يطول شرحها من جانبه ومن جانبهم، وربما يقولون: بلغنا أن سيدي الشيخ ناوي يعمل مولدا أو طهورا أو عرسا لولده، وما نعرف والله نساعده بإيش، وإيش قام على الفقير يعمل له مولدا أو غيره ويكلف الناس. فإذا قال بعضهم: أنا ناوي لا أساعده ولا أحضره، يقول له بعضهم: فضيحة من الشيخ، ويبقى الشيخ يعتبك وجماعته، فيحتاج أن يحضر بغير نية صافية خوفا من العتب وإظهارا للنخوة كالمكره، ثم إذا نقط مثلا لا تسمح نفسه قط بأن يعطي النقود للمداح خفية بحيث لا يدري الشيخ ولا جماعته ولا أحد، وربما يحوش للمداح أيضا العتامنة المقطعة والقشاقش تكثيرا للفعل، ومصداق ذلك أنه لا يسمح بإعطائها جملة واحدة سرا كأنها عثماني واحد أبدا، ثم ليحذر الشيخ أن يمكن جماعة من أن يدعوا أحدا من الأكابر للحضور كالدفتر دار وقاضي العسكر وأمراء السناجق وأضرابهم فإن ذلك من سوء الأدب، ومن أين لأمثالنا من الضعفاء أن يستحق مشي الأكابر إلى داره لأجل لقمة عملت من أوساخ الناس يأنف من أكلها خدامهم فضلا عنهم.
57
وفي هذه الكلمات صور كثيرة من المجتمع لذلك العهد، وحكاية النقوط لا تزال حية في مصر إلى اليوم، وتنقيط المداحين معروف، وهو يقع عند «قص شعر المطاهر» وعند «استحمام العريس»، وهو يستحم في الطشت علنا بين الأهل والأصدقاء، ويقف المداح أو المزين ويقول: «شوبش يا حبايب» فيعطيه كل امرئ ما تجود به نفسه باسمه واسم أبيه وأبنائه وإخوته ويصيح المزين عند كل اسم بعبارات شعرية يعرفها أهل الريف، وكانت النقوط تدفع أيضا ليلة «جلوة العروس»، ثم ماتت هذه العادة وبقي النقوط يدفع للعروسة في الصباحية، وهي تقاليد تنم عن ذوق ولطف: لأنها من التهادي المقبول، ولكن يقع كثيرا أن تتغير بسببها النفوس؛ لأنها ديون عرفية يعسر قضاؤها في بعض الأحيان.
والمهم هو الكلام عن الموالد فقد حاربها الشعراني في مناسبات كثيرة؛ لأنها كانت تشبه الضرائب السنوية فكان كل رجل من أتباع «الشيخ» يقدم ما يستطيع من الأطعمة أو الذبائح، وكان المشايخ ينتظرون ذلك ويغضبون ويعتبون حين (تنقطع العادة)، وكان التفاضل بين المشايخ قائما على نسبة نجاحهم في جمع الهدايا؛ لإقامة الموالد التي تجمع ذخائرها من أوساخ الناس، كما قال الشعراني.
وقد عاش هذا التقليد في مصر إلى عهد قريب، وما أحسبه مات، فلشيخ الطريقة في ذمة كل مريد جدي أو خروف يقدمه عند المولد، وتجمع الجديان والخرفان ثم تساق إلى ساحة المولد فتذبح هناك، ويدعو شيخ الطريقة من شاء من الخواص، ويقبل عليه من شاء من العوام، وتكون مأكلة عظيمة يتحدث بأخبارها أصحاب البطون!
وللقارئ أن يضيف هذا إلى المظالم التي كان يعانيها الفلاحون في دفع الخراج ليرى كيف كانوا يقعون في بليتين: غطرسة الحكومة ودهاء المتصوفين.
وكان المصريون في القرن العاشر ممتحنين بالمآتم والأعراس، نعرف ذلك من قول الشعراني:
ومما من الله تبارك وتعالى به علي حمايتي من الأكل من طعام النذور والأعراس الواسعة وطعام العزاء والجمع وتمام الشهر فلا أستحضر أنني أكلت شيئا من ذلك إلا مرة واحدة ثم تقيأته.
58
والمفهوم من هذا أن الشعراني يحارب عادات شاعت في عصره، وكان يقع فيها الصوفية والعلماء، وقد فصل ذلك فقال:
وأما أطعمة العرس الواسعة، فإن الغالب على صاحبه التكلف فيه فيطبخ ما ليس من عادته أن يطبخه مما هو فوق طاقته فترى أبا العريس وأم العروسة أو أم العريس يبيع أحدهم ثيابه في عمل الطعام أو يقترض غالب ذلك ولو بالربا، ويقول: قد تجونت في عمل هذا العرس وما بقي إلا عمله، فيعمل ذلك الطعام، متكرها له، متفاخرا به، حتى إنه بعد ذلك ربما سمع بعض الناس يقول: كان طعام فلان أكثر من طعام فلان فيتأثر لذلك. وأما طعام العزاء والجمع وتمام الشهر
59
فربما دخله المفاخرة كذلك، وربما عملوا ما عملوا من الفطير والعجمية والسنبوسك والحلو والأرز متكلفين له خوفا من عتب الناس الذين يعزون ويطلعون له التربة، وربما كان ذلك من مال الأيتام أو بعضهم، وليس لوليهم فعل مثل ذلك شرعا: فالعاقل من فتش على كل لقمة دخلت بطنه قبل أن يضعها في فمه، وكذلك لا ينبغي لمتورع أن يشرب من الماء الذي يسلبونه عند الدفن إن كان أهل الميت يقيمون ذلك من التركة، اللهم إلا أن يكونوا بالغين رشداء.
والظاهر أن الطمع في طعام العزاء كان رذيلة فاشية، بدليل قول الشعراني «وقد حمى الله تبارك وتعالى بعض إخواننا من الأكل من طعام العزاء فالله يديم عليهم ذلك».
ولا يمكن أن يكون التورع عن طعام العزاء فضيلة إلا إن كان الطمع فيه قد عم وشاع.
وهذه العادات لا تزال حية في أكثر البيئات المصرية، فقد يعيش بعض أهالي البلاد مدينين أثقل الدين؛ لأنهم يقيمون الولائم الكبيرة في حفلات الطهور والزواج، ويدعون إليها أكثر أهالي البلد ومن يعرفون من البلاد المجاورة، ثم تكون مطاعم كثيرة تنهب ما تنهب من المال المدخر والمقترض، وتكون أحيانا من أسباب الخراب.
والظاهر أن التهالك على أطعمة العزاء هو الذي أنطق الفلاحين بهذا المثل الظريف:
موت وخراب ديار.
وكلام الشعراني في هذا الموضوع خليق بالدرس، فأكثر المآتم تؤخذ نفقاتها من أموال الأيتام، وتكاد المآتم في مصر تضاف إلى الأعراس من حيث الإسراف في النفقات، وأكثر أهل مصر لا يعقلون.
أزياء الصوفية
ونفهم من كلام الشعراني أن صناعة النسج كانت وصلت إلى أبعد الحدود في القرن العاشر، فقد كان نساء مصر يعرفن من الثياب ما يسمى بالرقيق، ويقول الشعراني عن النهي عن تلك الثياب:
أخذ علينا العهد من رسول الله أن لا نكسو عيالنا من الثياب التي تصف البشرة، ولا نقرها أن تشتري لنفسها ذلك، مبالغة في سترها عن عيون الأجانب الذين يدخلون الدار من الرجال الأجانب والنساء. فربما نظرت الأجانب إلى فرج المرأة من تحت الثياب الرقيقة كما تنظره من تحت الزجاج الصافي.
60
وكلمة «عيال» في كلام الشعراني ترد غالبا بمعنى الفتيات والنساء، وربما أريد بها المفرد وهي جمع. ومن الواضح أن الشعراني لا يتكلم عن جميع الطبقات، وإنما يشير إلى ما كان يقع في بيوت المترفين.
لبس الحرير والتحلي بالذهب
ويظهر من كلام الشعراني أيضا أن الحكام كان يؤخذ عليهم لبس الحرير والجلوس عليه والتحلي بالذهب، وهو يحدثنا أن علماء عصره كانوا يسكتون عن لبس الظلمة الحرير، أو ينكرون عليهم مع طمعهم فيما بأيديهم وقبولهم هداياهم وترددهم إليهم من أجل ذلك.
60
ونفهم من كلامه أيضا أن بعض الصالحين كان ينكر عليهم، ولكن كانت تعوزه السياسة فكانوا لا يصغون إلى إنكاره، بل يزدرونه ويضحكون عليه .
ومعنى هذا أن لبس الحرير والجلوس عليه والتحلي بالذهب كان من المشكلات الاجتماعية، وكانت توضع للنهي عنه قواعد وآداب، ومن أجل هذا كان الصوفية من جانبهم يبالغون في التخشن، ويؤثرون لبس الصوف والمرقع من الثياب، فكانت ملابس الرجل هي الدليل على ما يصطنع من الأخلاق.
وهذا لا ينافي ما قرره الشعراني من وجوب مداواة النفوس في بعض الأوقات بأكل المطاعم اللذيذة، ولبس الثياب النفيسة؛ لأنه اشترط أن يكون ذلك من وجه حلال بعيدا عن الحرام والشبهات،
61
وهو يريد الكسب الحلال ولم ينص على حل الاستعمال؛ لأن ذلك معروف.
تحاسد العلماء
وكان علماء مصر في القرن العاشر يتحاسدون ويتباغضون، وكان الرجل منهم يكره أن يعرف تلميذه رجلا غيره، وكان كل عالم يوهم تلاميذه أنه هو وحده العالم وأن من سواه جهلاء. وقد فشا هذا العيب في أهل ذلك العصر بدليل ما نرى في كتب الشعراني من حربه، فقد ندد به أكثر من عشرين مرة، وروى لنا كثيرا من الطرائف نكتفي منها بشاهدين اثنين:
معت شخصا ضعيفا مثلي يقول: والله العظيم لا أعلم الآن في مصر كلها أعلم مني، ولو أنني علمت لمشيت إليه واستفدت منه؛ ومثل هذا مجنون، وأقل جزائه أنه حرم بركة علماء زمانه، ومات بجهله. ورأيت شخصا يدعي القطبية يقول: أطلعني الله على دائرة الأولياء كلهم فلم أر فلانا - وأشار إلى شخص من صالحي عصره - فقال له شخص في المجلس: إن كنت صادقا فقل لي: كم في لحيتك من شعرة؟ فما دري ما يقول وخجل بين الناس.
62
وكانت «المعارضة» في القرن العاشر تتمثل في اغتياب الحكام والوزراء في المنازل وفوق المصاطب، فقد حدثنا الشعراني أن من الناس من يكون الخير في أن لا يجدونا في المنازل عند الزيارة، وهم الذين يأتون «للغو والهذيانات وذكر أخبار الدولة وحكاية أخبار الناس».
63
وكان الشعراني يكره اغتياب الحكام ولا يحب أن يتصل بأعداء الدولة، وله في ذلك سياسة بسطناها عند الكلام عما وضع من الآداب لمعاملة الحكام.
ظلم الولاة للفلاح
وكان من أصحاب الجاه في القرن العاشر من يقضي مصالح الناس طمعا في هداياهم «وذلك حرام بنص الشريعة وبيع للدين بالدنيا، وذلك أن الشفاعة عليك واجبة إن تعينت عليك، وفعل الواجب لا يجوز أخذ العوض الدنيوي عليه».
64
وهذا عيب قديم عرفه أهل المشرقين، وهو لا يزال حيا في مصر، وفي القاهرة فيما يقال جماعات لتنظيم هذه «الشئون»، وكانت لها فضائح عرفتها المحاكم، وسمعت فيها شهادة أحد الوزراء. وأثمان الشفاعات والوساطات تضج بأخبارها الأندية، ولو جاز لكاتب أن يدون ما يسمع وما يعرف من أخبار الأسواق التي تباع فيها الوظائف لانكشفت من الحياة الرسمية جوانب تزكم الأنوف.
وقد فزع بعض الأطهار من شيوع هذا الرجس فوضعوا قواعد للتعيينات والترقيات، وقد كتبت هذه القواعد فيما علمت بماء الزعفران على جلد الغزال، بحيث لا تلحس ولا تمزق! فلا تصدقوا من يقول: إنها قواعد صورية لم توضع إلا لتزيد تعقيد الأمور في أوجه من لا عم لهم في الحكومة ولا خال.
شيوع الظلم والفسق
والشعراني كثير السخط على أهل زمانه، ولو صدقناه لجزمنا بأن مصر في القرن العاشر كانت مباءة لجنود إبليس، لعنة الله عليه وعليهم! وهو ينص بالذات على خيانة الجار للجار، ويراها من أكبر الموبقات. وفي كلام الشعراني أن الزنا كان رذيلة شائعة لم يسلم منها أحد من الناس «حتى وقع أن جماعة من الأكابر اجتمعوا في مجلس فقال شخص منهم: من سلم منكم من الزنا فليحلف لنا بالله تعالى أنه ما زنى، فما تجرأ أحد منهم على الحلف، واعترفوا جميعا بأنهم وقعوا في ذلك في شبابهم».
65
و«الأكابر» في كلام الشعراني هم الصوفية، لا الوزراء، وهل يسأل الوزراء هذا السؤال؟!
وشيوع الفسق لا يقع في أمة إلا في أزمنة الانحطاط؛ لأن الناس لا يفسقون إلا حين يحرمون من الشواغل الجدية، أي: حين لا يجدون من أعمال الشرف ما يلهيهم عن أعمال الدنس.
وقد ظل الشعراني حافظا للعنجهية الريفية، وهي عنجهية تقوم على الترفع والإباء، وهو من أجل ذلك يسيء الظن بأبناء الحواضر ويرى صحبتهم بابا إلى الفسوق، ويقول في ذلك:
وقد فسد جماعة من كثرة أكل الشهوات وخلطة من لا يصلح من أولاد مصر.
66
و«أولاد مصر» هم شبان القاهرة، وقد سمعت أنهم صلحوا في هذه الأيام!
ولم يكن الفسق كل ما يشكو الشعراني من عصره، بل كان يعتقد أن زمانه قل فيه الحلال «حتى إنه لا يكاد يوجد منه شيء في يد شيخ من شيوخ الفقراء فضلا عن آحاد الناس».
67
تقاطع الأهل والجيران
وكان التعاطف والتراحم مما يعسر وجوده بين الأقرباء «فكان الناس يسألهم قريبهم ثوبا أو طعاما أو دراهم فلا يعطونهم شيئا، ويسألهم شخص لا قرابة بينهم وبينه فيعطونه، ولعل العلة في ذلك أن القريب يأخذ ولا يشكر أصلا، أو يشكر ولا يبالغ في الشكر، ويقول: لا جميلة في ذلك لقريبي بخلاف الأجنبي، فإنه إذا أخذ من أحد شيئا يشكر صاحبه في المجالس ويبالغ في الثناء عليه، والنفس من شأنها أن تحب ذلك».
68
ومعنى هذا أن المعروف كان لا يقدم إلا في انتظار ثمنه من الشكران.
وللشعراني في ذلك كلمة محزنة تصور تقاطع الأهل والجيران في عصره، وتبين كيف كان الفلاحون في الريف يقاسون بلايا الشحناء:
أخذ علينا العهد أن نعلم كل من رأيناه في بلاء في هذا الزمان طريق الخلاص منه، لا سيما أهل القرى من الفلاحين لغلبة الجهل عليهم، وأعظم طريق إلى رفع البلاء النازل على الناس في حارة أو قرية أو زاوية مصالحة بعضهم بعضا حتى لا يبقى بينهم شحناء ولا عداوة ... وقد علمت ذلك لبعض أهل القرى وكان بينهم العداوة والقتل والنهب والخروج من الأوطان فاصطلحوا وتعاطفوا فارتفع البلاء من بلدهم، وذلك أن البلاء لا ينزل قط على قوم وهم على قلب رجل واحد ... وقد قال شخص مرة لسيدي علي الخواص: يا سيدي، ما بقي قلب مع قلب في هذا الزمان، فما سبب ذلك؟ فقال الشيخ: سبب ذلك عدم برهم لبعضهم؛ لأن الحسنة هي التي تربط القلوب بعضها مع بعض. قلت: وهذا الأمر قد أيسنا من وقوعه ما بقيت الدنيا، وقد قلت مرة لجماعة من الإخوة الأشقاء: بالله أيكم يعتقد في أخيه أنه إذا مات عن أطفال فقراء أنه ينفق عليهم ويطعمهم ويكسوهم حتى يعينهم الله من فضله أو يموتوا، فقال كل منهم: والله ما منا أحد يظن في أخيه ذلك. فإذا كان هذا بالإخوة فكيف بغيرهم! فما بقي أحد يعطف على أحد. وانظر يا أخي إلى صاحبك وجارك الغني كيف تمكث السنة والسنتين وأكثر لا تنظر منه قط لقمة ولا خرقة ولا حسنة من حسنات الدنيا إلى أن يموت، وإن وقع لك ذلك من جار أو صاحب فهو من غلطات الزمان، وقد صار الأمر روايات وأخبارا كأنه قط لم يكن في الوجود.
69
ومن هذا الكلام نعرف أن الفلاحين كان يبغي بعضهم على بعض بالنهب والقتل، وكان فيهم من يخرج من بلده لينجو من أذى العداوات، ونعرف أن الإخوة والجيران كانوا لا يعرفون التعاطف والتراحم، ولا يقيمون وزنا لأواصر القرابة والجوار.
وهذه الأخلاق لم تنقرض من مصر، وكيف تنقرض وهي رذائل إنسانية عرفها الناس في كل بلد، وفي كل جيل؟ ولعل الناس في عصر الشعراني كانوا أرحم من ناس هذا الزمان، ففي عصر الشعراني كان الرجل القوي يعتمد على الرمح والسيف، أما الرجل القوي في هذا الزمن فيعتمد على أسلحة وضيعة أشرفها الدس والكيد والبهتان.
في عصر الشعراني كان أهل البغي يجدون من يحذرهم عواقب البغي، أما في عصرنا فيعيش الباغون عيش الشرفاء؛ لأن الانتقام صار شريعة مرضية لها قواعد وأصول.
في عصر الشعراني كنت تجد عصبة من أهل الخير تدفع عنك عنف الباغين أما في هذا العصر فيقف كرام الناس على الحياد، ويتركون الظالم ينتاشك، ويفتري عليك، ويذيع من حولك الأراجيف، ولا يتقدم رجل شهم فيقفه عند حده، على نحو ما كان يفعل الرجال، أيام كان في الدنيا رجال.
أعوان الظلمة
والشعراني يتحدث عن الظلمة وأعوان الظلمة في كل كتاب، بل في كل صفحة من كتاب، وهذا يدل على أن مصر في القرن العاشر كانت تشقى بآثام الظالمين، وقد بقي ظل هذه المآثم على ألسنة العوام، فتجد كل أم في الريف تدعو لابنها بهذا الدعاء: «الله يكفيك شر الحاكم الظالم»، فالحاكم الظالم كان الشبح المخيف الذي يستعيذ منه الناس.
والحاكم الظالم انقرض من مصر، وشعر الجمهور بالأمان؛ لأن الرجل في الأعصر الخالية كان لا يأمن في كل لحظة أن ينقض عليه أحد الظلمة، فيسلب ماله أو يسخره أو يضطهده بلا سبب مبين.
أما في هذه الأيام فلا يستطيع أمير ولا وزير أن يعتدي على ملكية أحد، ولو كان من الصعاليك، وفي مقدور كل امرئ أن يغدو إلى شأنه آمنا مطمئنا، ولا يتعرض المرء للشر في هذه الأيام إلا إذا اشترك في الحياة العمومية، فإن فعل فهو عرضة للظلم المصقول الذي ابتدعته المدنية.
وأريد أن أقول: إن الرجل لا يتعرض للشر إلا إذا تسامت نفسه إلى أن يكون من الشخصيات المرموقة في المجتمع؛ فإن قنع بأن يكون فلاحا أو نجارا أو حدادا فهو آمن كل الأمن ولا رقيب عليه ولا حسيب.
كان يستطيع الملوك في الأيام السوالف أن يستصفوا أموال من يغضبون عليهم من الوزراء؛ أما في هذا العهد فلا يستطيع أكبر ملك أن يأخذ قرشا واحدا من أصغر مخلوق إلا بحكم القضاء، والقضاء في هذه الأيام تضرب بعدالته الأمثال.
إن عصرنا لا يعرف الظلم إلا في باب واحد: هو تظالم الجماعات والأحزاب، فمن اشترك في جمعية أو حزب فهو مباح العرض، ينتاشه من شاء كيف شاء، وهذا شر تمكن السلامة منه بتجنب التحزب والإقبال على الأعمال البعيدة من معسكرات الأحزاب؛ أما في عصر الشعراني فكان الشر ينتظر الرجل في كل مكان، ومن أجل هذا نراه يستعيذ من الظالمين وأعوان الظالمين.
بقي أن ننص على خصيصة أصيلة من خصائص المصريين في القرن العاشر، تلك هي الإحساس بقيمة الأخلاق، والحرص على إقامة شعائر الدين، فقد كانت الحواضر والأقاليم تعج عجيجا بمواكب الصوفية، وكان للفقهاء سلطان ملحوظ يتهيبه الأمراء والوزراء، ولو قام في مصر لهذا العهد رجل مثل الشعراني ونهى الناس عما انغمسوا فيه من الرذائل والشهوات لعدوه من المخبولين.
في عصر الشعراني كان الناس جميعا يعرفون الصلاة والزكاة والصيام والحج، وكان المفرط في دينه يكاد يتوارى من الخزي؛ أما في هذا الزمن فالأخلاق كلام في كلام، ولا يجوز لعاقل أن يعامل أحدا إلا بسند مكتوب.
كان الشعراني يقول:
رأيت جماعة يلبسون الصوف، ويأخذون في أيديهم السبحة، وألسنتهم كالعقارب، وأفواههم كأفواه التماسيح، وبطونهم كالسفن، وهم مع ذلك يدعون الطريق.
وهذه الحال توجد في مصر، ولكن بشكل أبشع، والفرق بين الناس في العصرين: أن المرائين في القرن العاشر كانوا يعرفون بحمل السبح ولبس الصوف، أما المراءون في هذا العصر فيتحدثون كثيرا عن «الضمير»، ويطوفون طواف الخشوع حول كلمة «الأخلاق» ويلوذون باسم «الوطنية» في أكثر الظروف.
وإذا كان الشعراني شبه ألسنة معاصريه بالعقارب وأفواههم بأفواه التماسيح وبطونهم بالسفن، فإنا نرى ألسنة معاصرينا أمضى حدا من عقود الشركات، ونرى أفواههم أخطر من أفواه المدافع، ونرى بطونهم أوسع من المحيط. والله المستعان على أهل هذا الزمان.
أما بعد فقد صورنا المجتمع المصري في القرن العاشر كما رأيناه في كتب الشعراني، وانزلق القلم فصور بعض ملامح المجتمع في العصر الحاضر، وكنا نود أن يسلم القلم من هذا الانزلاق، ولكن واجب البحث قضى بالموازنة بين عهدين عانتهما مصر وشقي بهما المصريون.
وقد جهدت في صرف القلم عن هذه الموازنة، فلم أصل في صده إلى ما كنت أريد، ولعل هذه الوخزات تنفع في تذكير من ظنوا أن المقادير سكتت عنهم فلوثوا المجتمع المصري أقبح تلويث.
فإذا كان القارئ يتشوف إلى كلمة فاصلة في ختام هذا البحث، فإني أذكر أن المصريين في القرن العاشر كانوا يشجعون من يبصرهم بعواقب ما يصنعون. أما المصريون في هذا العصر فلا يسرهم أبدا أن يذكرهم باحث بواجب الرجال في رعاية العدل.
ألا ترونني أمشي على الشوك وأنا أسطر هذه الكلمات؟
غفرانكم يا أهل «الضمائر» في العصر الحديث!
حياة اللهجات العربية في مؤلفات الصوفية
ترددت طويلا في كتابة هذا الفصل. ثم شجعني عليه أنه لا يخلو من فائدة أدبية متصلة بالتصوف، وفي إنشائه توجيه لمن يهمهم أن يدرسوا تطور اللهجات في مختلف الأقطار العربية.
الصوفية يكتبون في الأغلب لعامة الناس
وخلاصة الفكرة أن الصوفية في الأغلب يكتبون لعامة الناس، فهم لا يبالغون في تخير الفصيح من الألفاظ ولا يدققون في صقل الأساليب، ومن أجل ذلك نرى في مصنفاتهم ألفاظا وتعابير لا نجدها عند من يعاصرهم من الكتاب والشعراء والخطباء، وقد يتفق في أحيان كثيرة أن نرى عندهم ألفاظا يعسر الرجوع إليها في المعجمات، ويتفق أيضا أن نراهم يصوغون الجمل صياغة تنكرها قواعد النحو القديم، ويحدث كذلك أن يغلب عليهم إغفال الإعراب، وذلك مما يدل على أن البلاغة عندهم تقوم على أساس أصيل هو تبليغ الدعوة الأخلاقية إلى سواد الناس.
وبقليل من التأمل ندرك أن أولئك القوم لم يكونوا من الغافلين، فالبلاغة في الأصل هي إقناع المخاطب، وما تخاطب به العوام يجب أن يختلف عما تخاطب به الخواص، وإلا وقع الكاتب في العي الذي نهى عنه البلغاء.
اختلاف أساليب الكتاب وألفاظهم باختلاف بلادهم
ومن الحق أن فصحاء الكتاب تختلف ألفاظهم وأساليبهم باختلاف القطر الذي يعيشون فيه، ولا يستثنى من ذلك إلا الكتاب الذين عاشوا تحت سيطرة بغداد وإن كانوا أجانب عن العراق، فقد نرى في الكتاب المصريين والأندلسيين من يكتب على نحو ما كان يكتب الجاحظ أو ابن العميد، فإذا خلينا هؤلاء ومضينا نستقرئ ألفاظ الكتاب والشعراء رأينا فيها ملامح محلية تختلف باختلاف الأقاليم، وقد استطعت وأنا أنشئ كتاب (النثر الفني) أن أدل على شيء من ذلك، فبينت أن عند أحمد بن يوسف المصري ألفاظا وتعابير هي في صميمها مصرية، وأن عند المطهر الأزدي ألفاظا لا تعرف في غير البيئات العراقية، وعند مراجعة كتاب الأم الذي ألفه البويطي لاحظت أن فيه ألفاظا وتعابير لا يعرفها إلا الفلاحون المصريون.
وهذا الذي أقول به هو الأصل، ويجب أن يلحظ في كل مكان؛ لأن اللغة العربية احتلت بلادا كانت لها لغات قوية فورثت عنها خصائص كثيرة، واللغة العربية في هذه الأيام تعاني شيئا من ذلك، فقد بدا لي مرة أن أقارن بين الصحف المصرية والسورية فرأيت شواهد كثيرة من اختلاف الألفاظ والتعابير، فالصحف المصرية تقول: «إشاعة» والصحف السورية تقول: «شائعة» وإذا غاب طفل مصري عن أهله ونشر أبوه كلمة في الصحف لدلالة عليه قال: «قمحي اللون». وإذا غاب طفل شامي عن أهله وكتب أبوه كلمة للبحث عنه قال: «حنطي اللون».
وكذلك يقال في الألفاظ الاصطلاحية، فنحن في المدرسة نقول: «الفصل» وهم يقولون: «الصف» ونقول: «الواجب» وهم يقولون: «الفرض» ونقول: «الجامعة» فيقولون هم: «الكلية»،
1
وهذه مسألة مفهومة جدا لا يحتاج النص عليها إلى تفصيل.
2
عصبية القدماء لبلادهم
وفي كتب الصوفية جو آخر يختلف عن كتب الأدب كل الاختلاف، فالأديب لا تقع عنده الألفاظ المحلية إلا بالرغم منه؛ لأن الأصل عنده أن يحاكي أقطاب الأدباء في القرن الثالث والرابع، أما الصوفي فيكتب وهو مأخوذ بالوطن الذي يعيش فيه، وبالعوام الذين يختلفون إليه، وهو في الأصل يحتقر الزخرف، ولا يبالي أين يقع؛ ولهذا نجد الصبغة المحلية تغمر جميع الكتب التي ألفها الصوفية بلا استثناء.
3
وهنا مثل قريب يمكن الاستئناس به، وهو مثل نأخذه من الصوفية الذين يعيشون في مصر، فألفاظ الأحمدية غير ألفاظ الشاذلية؛ وإنما كان ذلك لأن الأحمدية طال عهدهم بصحبة الفقراء في وادي النيل، أما الشاذلية فألفاظهم في الأصل مغربية، ولها خصائص لا يعرفها الأحمديون.
الألفاظ المدنية في كتب الصوفية
وأكثر الألفاظ المحلية التي نأخذها من الصوفية هي الألفاظ المدنية، أعني الألفاظ المتصلة بالمعاش، الألفاظ الفكرية التي تعين أحوال النفوس فقد بقيت في الأغلب على صورة واحدة: لأن الصوفية حرصوا عليها أشد الحرص، وأنشأوا في تفسيرها وتحديدها مباحث على جانب من الأهمية، وإن كان ذلك لا يمنع أن ألفاظ المتأخرين قد تختلف عن ألفاظ المتقدمين بعض الاختلاف.
والألفاظ المعاشية هي التي تقيد عند الدراسة اللغوية لكتب الصوفية، فما أذكر أن الشعراني مثلا أكثر من ذكر الدارهم والدنانير، وإنما يقول: «الجديد» و«العتماني»،
4
وما أذكر أنه أكثر من الصاع وهو يتكلم عن المكاييل ، وإنما يقول: «الأدب»؛ وإنما كان ذلك لأن الأصل عند الصوفية أن يخاطبوا الناس بما يفهمون؛ ولأن التأنق في اختيار الألفاظ والتعابير هو عندهم نوع من الزهو والخيلاء يجب أن يتنزه عنه رجال القلوب.
ولكن ما هي الكتب التي تدرس في هذا الفصل للدلالة على تطور اللهجات العربية؟ أتدرس بعض كتب الشام والعراق؟ كنت أحب ذلك ولكنني أخشى أن لا أحس الألفاظ العراقية والشامية إحساسا قويا يدلني على ما فيها من الصبغة المحلية، فلم يبق إلا أن ندرس كتبا مصرية، وهنا أذكر أني أنست كل الأنس بتقييد ألفاظ الشعراني؛ لأني كنت أسمعها في طفولتي، وهو قد نشأ في بلد يجاور البلد الذي نشأت فيه، فألفاظ الشعراني هي ألفاظ شعراوية أو سنتريسية قبل أن تكون قاهرية؛ لأن الناس في العصور الخوالي كانوا يتعصون لبلادهم أشد التعصب، وكانوا يتميزون بالنسبة إلى نشأتهم الأصلية، وقد يحدث في أحيان كثيرة أن ينسى اسم الرجل ولا يعرف إلا وهو منسوب: فالسيوطي والمحلي والأشموني والأسنوي والشعراني والشنشوري والأجهوري والسبكي، أمثال هؤلاء يعرفون منسوبين، وقد لا تعرف أسماؤهم إلا بالرجوع إلى كتب الطبقات.
ومن المؤكد أن عند الشعراني ألفاظا كثيرة لا يحسها تمام الإحساس إلا أهل المنوفية؛ لأن مصر في القرن العاشر كان يقل فيها ربط أهالي الأقاليم بعضهم ببعض لقلة المواصلات. ومع أن ذيوع الصحف في هذه الأيام يؤثر تأثيرا شديدا في توحيد الألفاظ والتعابير، فإنا نجد لأهل كل إقليم ألفاظا محلية لا يعرفها القاهريون، ويظهر ذلك جليا في مناقشات مجلس النواب، وهل يتكلم علوي الجزار كما يتكلم خليل أبو رحاب؟
ولنا صديق تغلب عليه لغته الصعيدية، رأيته مرة يشتم رجلا فيقول: إنه «خرج» وهي كلمة لم أفهم مدلولها بالضبط، فهل تكون قريبة من قول أهل المنوفية: «فلان زي شرابة الخرج»؟
5
وإنما نصصت على هذا ليعرف القارئ أن ألفاظ الشعراني هي ألفاظ شعراوية أو سنتريسية، وليست كلها قاهرية، فإن من العسير أن تثبت الألفاظ المحلية في مثل مدينة القاهرة أربعة قرون؛ لأن المدائن الكبيرة قليلة الحرص على موروث الألفاظ والأساليب. والألفاظ التي أنص عليها هي الألفاظ التي لا تزال حية في سنتريس، أما الألفاظ التي ماتت ولم أفهمها إلا بفضل السياق فسأغفلها كل الإغفال؛ لأن تحقيقها يحتاج إلى شرح طويل.
طائفة من الألفاظ والتعابير المصرية
ولكن ماذا نصنع؟ أنذكر كل كلمة في عبارة؟ أخشى إن فعلت ذلك أن أنسب إلى الفضول.
لقد قيدت ألفاظا كثيرة وحفظت أمكنتها من الكتب ومن الصفحات، ولكني أرى من الخير أن أدعو القارئ إلى تصديق فأغفل المراجع، وليس في هذا ما يضاد المناهج العلمية في البحث؛ لأن ذكر المرجع لا يكون إلا عند غرابة النص، وليس الأمر هنا كذلك، فإن الألفاظ البلدية عند الشعراني مبثوثة في كل صفحة، والجو الأدبي في كتب الشعراني يتأرج بالأخيلة المصرية، والفرق بينه وبين رجل مثل الغزالي أظهر من أن يحتاج إلى بيان.
وإليكم بعض ما عنده من الألفاظ والتعابير:
بهدله - برطله - الخلبوص - عزم عليه - جر قافيته - طلع له جماعة - دستور يا إخوان - الرسمال
6 - المسقاة - نزوركم بكرة أي: غدا - حلاوة النفس - يلبس له جبة - بلصه - بنات الخطا: أي البغايا - ممحون بابنة عمه - الجديد: اسم عملة.
7
غضب على غضبه: أي لأجله - أعتقني من ذلك - الرجال الحرافيش - بالله عليك - يعيش راسك - زغلت عينه - زفر اللسان - أنت طيب بخير وعافية - كلف خاطرك - العياق: جمع عايق - رجل مبسوط - الخرج - المطلب: أي الكنز - طرش طرش: دعاء الحمير - دخلت رأسه الجراب - طول الروح - ناس مغفلين - الخبز السخن - المعلم: أي القبطي أو اليهودي - البعوة: شبح يخوف به الأطفال - يسد طيقان بدنه - على طول على طول - البشت: بكسر الباء - الطرطور - جس المخاضة - هو ذلك والسلام - مات من القهر - شرموطة: قطعة قماش من الثوب الملبوس - شوية سمن - رجل لا فيش ولا عليش - شنكلوه - جرسوه - رحم الله من زار وخفف - الشباك - مسكوا زوجته - مصر المحروسة - السياق: أي الشفيع - الحق الذي عليك - أغمى القلب - انعوج - يطلب فلوسه - عمله خفيرا: أي جعله خفيرا - خوزقوه - الحرارة - ما هو كذا يا سيدي - تحصيل الحاصل - الحاصل: حجرة صغيرة - زوجها يحكم عليها - العزومة - راحت نفسه إليه - تكلم في حقه من ورائه - ما هان عليه - تجون: أي أسرف - البهائم السارحة: أي المرسلة - رزقة: هي الضيعة - أخوك ما هو أخوك وأبوك ما هو أبوك.
مراقد أئمة البقيع قبل أن تهدم ومن بين هذه المراقد مرقد الإمام زين العابدين. «انظر أدعية زين العابدين في الجزء الثاني».
وهذه الأمثال لها نظائر كثيرة في كتب الشعراني، وما نجزم بأنها كلها محلية، فكلمة «العياق» مثلا معروفة في تونس، كما حدثنا المسيو مرسيه، ولكنها في بلدنا حية جدا، ومن أغاني سنتريس:
يا أبو جلبية يا عايق قضنا منك.
وكانت «الجلبية» من ملابس المترفين، وما عداها من الملابس اسمه الثوب وكانت «الجلبية» لا تلبس إلا في الأفراح.
الجو الأدبي عند الكاتب الصوفي يختلف عن الجو الأدبي عند المنشئ الأديب
أما بعد فنحن لا نريد الاستقصاء؛ لأن هذا ليس من أثر التصوف في الأدب، فهي آثار شعبية انطبعت بها كتب الصوفية، وإنما اهتممنا بها؛ لأنها تتصل بأثر التصوف في الأدب بعض الاتصال. فلنقف عند هذا الحد راجين أن يكون في هذه الإشارة توجيه ينفع من يهمه أن يدرس تطور اللهجات في الأقاليم العربية.
يظهر في هذا الرسم جبل قاسيون المطل على الصالحية، وله عند الصوفية منزلة عظمى لكثرة ما فيه من قبور الأولياء والأنبياء (فيما زعموا).
أثر التصوف في الفنون
أثر الصوفية في إذاعة المعاني الفنية والذوقية والاجتماعية
الفن والأدب يتصل بعضهما ببعض، وقد رأينا كيف أثر التصوف في الأدب، فهل يمكن الحكم بأنه أثر في الفن أيضا؟
لقد بينا في كتاب (الأخلاق عند الغزالي) أن الصوفية حاربوا الفنون، وفصلنا ذلك تفصيلا شافيا، وما نريد أن نجمل هنا ما نفصلناه هناك؛ فكيف يمكن القول: بأنهم ساعدوا على إذاعة الفنون؟
الحق أن الصوفية حاربوا الفنون من الوجهة النظرية، ولكنهم ساعدوا على نشرها من الوجهة الذوقية والعملية. وإليكم البيان:
إن الصوفية حاربوا الغناء ولكن حياتهم كلها قامت على الغناء
1
وسنرى في غير هذا الفصل أن أكثر أقطاب الغناء في مصر نبغوا من البيئات الصوفية ، وربما كان الأمر كذلك في غير مصر من الأقطار الإسلامية، وكيف ننسى الضجة التي قامت منذ سنين ضد جماعة المولوية؟ لقد قيل يومئذ: إنهم جماعة من العاطلين يعيشون بفضل المال الموقوف، ويسيئون إلى الإسلام بما يبتدعونه من طرائق الرقص وهم يذكرون، ولكن قيل في الدفاع عنهم: إنهم يعينون على نشر الثقافة الذوقية بما يبتكرون من أساليب الغناء.
2
وبقليل من الاستقراء ندرك أن من ينهون عن شيء قد يكونون في الأغلب من أقوى الدعاة لذلك الشيء، فالصوفية نهوا عن الغناء، أو ما يدعو إلي الفجور من الغناء، ولكنهم عمليا برعوا في الغناء الفاجر أكثر مما برعوا في الغناء العفيف.
وكيف ننسى أن حياة الصوفية قامت على الذوق، والذوق أساس التفوق في الفنون، فالصوفي الحق هو رجل ذواقة يلتمس المعاني في جميع ما ينظر وما يقرأ، وما يسمع. ومن هنا كان الصوفية أعرف الناس بالشعر الجيد ولا سيما أشعار التشبيب؛ لأن الفجرة من الشعراء عرفوا برقة الحس، ودقة الذوق، وغلب عليهم الفهم للغرائز والطباع، وبراعة الصوفية في التذوق هي التي رفعت من وجوههم الحوائل، وهم يعاقرون المعاني التي اخترعها شعراء الحواس.
وما نريد في هذا الفصل أن نتكلم عما صنع الصوفية في الأدب والغناء، فقد فصلنا ذلك في مواطن كثيرة من هذا الكتاب، وإنما نريد أن نتكلم عما صنعوا من التماثيل.
تماثيل...؟ وهل عرف الصوفية إقامة التماثيل؟ وكيف وهم الذين حاربوا النحت والتصوير؟
جماعة من صوفية الهند يذكرون ويتواجدون.
الحق أن الصوفية عرفوا التمثال واستطاعوا أن يجملوا المدن الإسلامية بألوان مختلفات من التماثيل، وإذا كان يروعك أن ترى المدن الأوربية مزدانة بألوف التماثيل فاعرف أيضا أن الصوفية زينوا المدن الإسلامية بألوف التماثيل.
ولكن كيف؟ هل وضعوا تمثالا للسيد البدوي، أو إبراهيم الدسوقي، أو أبي العباس المرسي؟ إن إقامة التماثيل محرمة تحريما قاطعا. والصوفية أنفسهم حاربوا الأنصاب والأصنام والأوثان ... هذا صحيح، ولكني مع ذلك أجزم بأنهم عرفوا التماثيل.
عرفوها في الأضرحة والقباب، وهل كانت قباب الأضرحة إلا نوعا من التمجيد يؤدي ما تؤديه التماثيل؟
إن القباب العالية التي تقام للأولياء والصالحين هي شارات التبجيل والتعظيم التي تقام لمن يجب تخليد ذكراهم من المسلمين. ولك أن تزور القرى والدساكر والحواضر لترى كيف افتن الصوفية في تخليد ذكريات الأولياء.
إن الأوربيين يخلدون عظماءهم وقديسيهم بإقامة التماثيل، ونحن نخلد عظماءنا وأولياءنا بإقامة القباب، وإذا كانت التماثيل الأوربية مما يحج إليه الزائرون ليروا عظمة الفنون فالأضرحة والقباب في المواطن الإسلامية مما يحج إليه الزائرون؛ ليروا عظمة الفنون.
3
قد تقول: وهل معنى ذلك أن الصوفية كانوا من المهندسين والبنائين؟
وأجيب بأن تلك الروائع الفنية كانت من وحيهم بلا جدال؛ ولهذا نراهم ينوهون بالمزارات ويحجون إليها داعين مبتهلين، وهم أنفسهم الذين أذاعوا هذه البدعة في الأمم الإسلامية حتى وصل صداها إلى قبر الرسول، فهو
صلى الله عليه وسلم
يعيش برفاته في ظل بدعة أقامها المتصوفون.
وللقارئ أن يتمثل ملايين الدنانير التي أنفقت في إقامة القباب، وله أن يتمثل ألوف الفنانين الذين أولعوا بتزيين القباب، وله أن يتمثل كيف صنع ذلك كله في رقي المعاني الذوقية، والأوضاع الهندسية، وله أن يتمثل كيف كانت تقوم الأمم بتشييد الأضرحة وتزيين القباب؛ ليعرف أن الصوفية كان لهم تأثير بليغ في نهوض الفنون.
4
ولكن لا بد من الإشارة إلى الفرق بين الضريح والتمثال:
إن التمثال للفكرة فقط، وتنصرف عنه العيون بعد أن تراه، أما الضريح فيراد للفكرة ويراد للتهذيب والتثقيف، ألست ترى كيف كانت الأضرحة معاهد علمية يحج إليها طالبوا العلم في الصباح والمساء؟ ألست ترى كيف صار من المألوف أن تتبع الأضرحة بالزوايا والمساجد؟ إن هذا يشعرك بأن الضريح لم يكن كتلة فنية صماء، وإنما كان مرجعا لطائفة من المعاني الروحية والذوقية والاجتماعية.
فهمنا المعاني الروحية والذوقية، فما هي المعاني الاجتماعية؟
قبة معروف الكرخي في بغداد وكانت له مكانة في التصوف.
إننا نرى كل ضريح يتبع غالبا بما يسمى «الحضرة» وهي حفلة أسبوعية تقام للذكر والغناء وقراءة الأوراد، وهذا ينفع من الوجهة الذوقية والروحية، ثم نرى بعض الأضرحة يوجب أن تقام حوله الموالد السنوية، وهذه الموالد لها تأثير شديد من الوجهة الاجتماعية والاقتصادية فهي أولا موسم يتلاقى فيه الناس ويأخذ بعضهم عن بعض، وكانت المصاهرات في الأزمنة القديمة تعتمد على ألوان من التعارف تخلقها الموالد. وهي ثانيا معارض تبرز فيها الفنون والمبتكرات، حتى الشعوذة والتهريج. وهي ثالثا أسواق جامعة تروج فيها التجارات والصناعات وتعمر بها الجيوب. والحكومات تعرف ذلك وهي تشجع على إقامة الموالد لينتفع الناس بعضهم من بعض؛ ولتنتفع هي أيضا من موارد السكك الحديدية.
وأغلب الظن أن التجار في الأقطار الفرنسية والإنجليزية والألمانية يحسدون مصر على «مقام السيد البدوي»، ويودون لو نقلوه بزواره وأتباعه ومريديه ليظفروا بسوق رابحة قليلة النظائر والأمثال.
5
وقد اتفق الناس على أن الموالد يكثر فيها الرجس والدنس والفتون، وهذا يؤيد ما نقول به: فالمفاتن والمفاسد والفواحش لا تنهض إلا حيث تنهض الحياة، والهدى لا يعلن عن الحياة كما يعلن الضلال.
أعرفتم الآن أن الصوفية ساعدوا على نشر الفنون بإقامة التماثيل؟
إن الأضرحة والقباب تجمع الناس على الحق والباطل، وتنشر فيهم معاني الرشد والغواية، وتحملهم على اعتناق مذاهب الصلاح والفساد، والحياة في صميمها مزاج من الخير والشر، والرشد والغي، والهدى والضلال.
أقول هذا وأنا آسف على تضعضع الموالد؛ لأنها كانت تقوم على فكرة دينية فيجيء الخير أصلا ويجيء الشر تبعا، وقد حلت محلها مواسم مدنية يجيء فيها الشر أصلا ويجيء الخير تبعا.
وما يهمني أن أشرح هذه الحقيقة، وإنما يهمني أن أسجل أن الصوفية ساعدوا على رقي المجتمع في مذاهبه الذوقية والفنية، وإن كانت الظواهر تشهد بأنهم حاربوا الفنون.
خاتمة الجزء الأول
بقلم زكي مبارك
نريد بالخاتمة ما يسميه الفرنسيون
Conclusion .
ولم يكن بد من أن نقف عند خاتمة هذا الجزء وقفة قصيرة، بعد إذ تعرف القارئ إلينا وتعرفنا إليه، وبعد إذ أنس بنا بعض الأنس، وأنسنا به كل الأنس، فلعله كان في حيرة وهو يقرأ فاتحة الكتاب، وكيف لا يحار وهو يرانا نتوعر في شعاب وأدغال لم يسلكها أحد من قبل، ولعل حيرته زادت وهو ينظر فيرى المؤلف ينتقل من الصعب إلى الأصعب في اقتحام المضايق الصوفية، ولكنا نرجو وقد صبر القارئ على مطالعة المئات من الصفحات أن يكون اطمأن إلى أن الصوفية كان لهم أدب خاص يستحق الدرس، ويوجب على الباحثين أن ينفقوا فيه الأعوام الطوال.
ونستطيع أن نحكم بأن القارئ قد وثق بأن الأدب الصوفي له لون خاص، فهو أدب الفكرة، هو الأدب المحمل بالمعاني الفلسفية، هو أدب قوم كانوا لا يخطون خطوة إلا بوحي من الفكرة الأخلاقية، ولم يكن الأدب عندهم صناعة، وإنما كان وسيلة من وسائل التعبير عن أزمات النفوس وخواطر القلوب.
وهذا الفن من الأدب لا يصلح لكل قارئ، وإنما يصلح للقارئ الذي يدخل إليه بنية كما يدخل إلى المحراب، هو كالطعام الدسم الذي لا تحتمله غير أمعاء الأقوياء، هو كالنور الذي تعجز عنه العيون الرمد، ولا يستطيع مواجهته غير أصحاء البصائر والأبصار.
وآية ذلك أن القارئ يشعر بعد الصفحات الماضية أنه خلق خلقا جديدا، وأنه اطلع على آفاق من الفكر والبيان لم يكن له بها عهد، وأنه أصبح يؤمن بأن بينه وبين ألوان الوجود صلة روحية وعقلية لم يتنبه إليها قبل اليوم.
ومن المؤكد أن الصفحات الماضية أقنعت القارئ بأن الأدب لم يكن دائما مادة لهو وفتنة وعبث ومجون، وإنما كان في بعض نواحيه مادة فكر وعقل ووجدان.
ولا بد أن يكون عرف أن القارئ مسئول عن نقد ما يقرأ، وأن من المفروض عليه أن يتزود بثقافة علمية ولغوية وعقلية قبل أن يواجه آثار الرجال.
ولا بد أن يكون تنبه إلى أنه من الجهل أن تقصر الآثار الأدبية على ما يفتن الحواس من أقوال الكتاب والخطباء والشعراء، وأنه من العار أن يخلو تاريخ الأدب العربي من الحديث عن الكتاب والشعراء والخطباء الذين قصروا أعمارهم على الدراسات الفلسفية والأخلاقية، فالأدب في الأصل هو صورة العقل والقلب والوجدان، وإن قصره ناس على الأوصاف والتشبيهات والمجازات والنسيب ومأثور الحكم والأمثال.
وإذا كان الصوفية شغلوا في أدبهم عن الزخرف والبريق فلهم عذر مقبول، فقد كانت لهم مسالك تبغض الزخرف، وتنفر من البريق؛ لأنهم أرادوا أن يسجلوا ثورات الخواطر والنفوس والقلوب تسجيلا أمينا، وذلك لا يتم لمن يشغل بغير المعاني.
ونحن لم نفتر على التاريخ حين قررنا أن الصوفية كان لهم أدب رائع، فقد كان أسلافنا يعرفون ذلك منذ الصدر الأول، وكانت كتب الأدب تزخر بما أثر عنهم من فقرات وأسجاع، ولم يسكت المؤلفون عن أقوال الصوفية إلا حين شاع الفساد، واصطلح الناس على أن الأدب هو المأثور من النثر والشعر في ميادين التشبيهات والأوصاف وأخبار المغنين والظرفاء.
ويعز علينا أن نصرح بأن الصلة بيننا وبين ماضينا كادت تنقطع كل الانقطاع، فمن الذي يقرأ كتب الغزالي ويعرف من سفيان حين ينقل الغزالي عن سفيان؟
وسفيان الذي يجهله أهل هذا العصر هو سفيان الذي حكم ياقوت بأن اسمه حي إلى يوم القيامة، فمن هو؟ وفي أي موطن تكلم عليه ياقوت؟
هو سفيان بن سعيد الثوري الذي اهتم به الإمام أحمد بن حنبل في كتاب الورع، والذي قال فيه علي بن ثابت: لو أن معك فلسين تريد أن تتصدق بهما ثم رأيت سفيان وأنت لا تعرفه لظننت أنك لا تمتنع من أن تضعهما في يده، وما رأيت سفيان في صدر مجلس قط، كان يقعد إلى جانب الحائط ويجمع بين ركبتيه. ورأيت سفيان في طريق مكة فقومت كل ما عليه بدرهم وأربعة دوانيق.
وسفيان هذا عظيم وإن جهله أبناء هذا الجيل.
وأمه كانت عظيمة، فقد قالت له: يا بني، اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي.
وكان سفيان شديد الجزع على مصاير الناس، وكان يبول الدم حين يرى ما ينكره على بني آدم؛ حدث سعيد بن صدقة بن المهلهل قال: اليوم الذي كنت أرى فيه سفيان الثوري كنت قرير العين، فأبطأت عنه أياما ثم أتيته فقال لي: يا أبا مهلهل، ما أبطأ بك عنا؟ ثم أخذ يدي فأخرجني إلى الجبانة فاعتزلنا ناحية عن طريق الناس فبكى ثم قال: يا أبا مهلهل، قد كنت قبل اليوم أكره الموت، فقلبي اليوم يتمنى الموت وإن لم ينطق به لساني. فقلت: ولم ذلك؟ فقال: لتغير الناس وفسادهم، ثم قال لي: إن استطعت أن لا تخالط في زمانك هذا أحدا فافعل، وليكن همك مرمة جهازك، واحذر إتيان هؤلاء الأمراء، وارغب إلى الله في حوائجك إليه، وافزع إليه فيما ينوبك، وعليك بالاستغناء عن جميع الناس. وارفع حوائجك إلى من لا تعظم عنده الحوائج، فوالله ما أعلم اليوم بالكوفة أحدا لو فزعت إليه في قرض عشرة دارهم أقرضني ثم كتمها علي، يذهب ويجيء ويقول: جاءني سفيان فاستقرضني فأقرضته!
وهذا الحديث الخالي من الزخرف والبريق هو غاية الغايات في عذوبة البيان فقد فضح بني آدم، عفا الله عنهم، ورماهم بما هم له أهل، فمن ذا الذي تثق به وتعتمد عليه ثم يعفيك من المن والاستطالة والكبرياء.
وأدباء الصوفية هم الذين رحموا تاريخ الأدب العربي من تلك الوصمة وصمة التزلف بالمديح إلى الملوك والرؤساء والأمراء والوزراء، هم الذين استطاعوا أن يكدروا الحياة على المتحكمين والمسيطرين فكان الخلفاء والملوك يحسبون لهم ألف حساب، وكان من الخلفاء من يزهد في الحج حتى لا يتعرض له بعض الواعظين. وسيرى القارئ شواهد ذلك حين نتكلم في الجزء الثاني عن الشجاعة الأدبية.
أدباء الصوفية هم الذين جعلوا السلامة من باب السلطان كالسلامة من باب الطبيب، فكانت عندهم سلامة الأرواح فوق سلامة الأبدان.
أدباء الصوفية هم الذين عطروا الأدب العربي بأريج الكرامة والعزة والصيانة والعفاف، وهم الذين وصلوا المشرق بالمغرب وحفظوا الإسلام بإذاعة المعاني الروحية والذوقية، وهم الذين جعلوا الأدب ترجمان المنطق والعقل، ولم يقفوه على الحس والخيال كما صنع أكثر الأدباء في عصر بني العباس. •••
بدأنا فحدثنا القارئ عما نريد من التصوف، وقلنا: إننا سنقف عند المعنى المصطلح عليه، وإن كنا نجزم بأن التصوف قد يكون في الحب والمودة والولاء والسياسة، وذكرنا لذلك شواهد من الأدب والتاريخ، ثم أشرنا إلى أن الزهد يكون في قلوب الأغنياء، كما يكون في قلوب الفقراء. وتحدثنا عن الشخصية الأدبية والشخصية الخلقية، وبينا كيف يكون التصوف في الأدب وكيف يكون في الأخلاق، ثم تكلمنا على المصادر ومنهج التأليف وأغراض الكتاب.
ومضينا فتحدثنا عن قدم التصوف في الجزيرة العربية، ودلالة الصوف على التواضع والخشونة وصورته في الأخيلة الشعبية، وبينا أن الصوفية نقلوا لبس الصوف عن المسيح والرهبان، وأشرنا إلى أن كلمة (راهب) كانت كلمة محترمة وذكرنا شواهد ذلك، ولو شئنا لأضفنا إلى ما ذكرناه هناك أنها وردت في كتاب الورع،
1
فقد وصف حسين الجعفي بأنه كان يشبه الراهب، وقيل في عبد الله بن المبارك: إنه كان يقوم الليل حين ينام راهب الرهبان،
2
وبينا خطأ الرأي الذي يقول: برجع كلمة التصوف إلى كلمة (سوفيا) اليونانية، وافترضنا أن تكون كلمة (سوفيا) منقولة عن كلمة (صوف) وليس ذلك ببعيد.
ثم أخذنا في الكلام على التصوف في الأدب فذكرنا الفرق بين النظرة الأدبية والنظرة الخلقية، وأشرنا إلى اهتمام المؤلفين بأدب النساك وحرص الصوفية على الثقافة الأدبية، وعرضنا نماذج من اصطلاحات الصوفية وألفاظهم في التعبير عن بعض المعاني المعاشية والاجتماعية، ونصصنا على مذهبهم في إيثار الغموض، وفصلنا القول فيما اتهموا به من التجني على الشعر والشعراء، واهتممنا بتوجيه القارئ إلى فهم أدب الصوفية.
ثم نظرنا فرأينا الأدب الصوفي كانت له طلائع هي الزهديات، فتكلمنا على زهديات أبي نواس وأبي العتاهية والشريف الرضي بشيء من التفصيل، وانتقلنا فتكلمنا عما في الأدب الصوفي من الذخائر المنسية، وحكمنا بأن الأدب الصوفي هو أدب المعاني، وسقنا شواهد لما جاء في وصف الدنيا من الأخيلة الأدبية.
ثم أقبلنا على صميم الأدب الصوفي فدرسنا حكم ابن عطاء الله السكندري وبينا خصائصها الأدبية والصوفية، وانتقلنا إلى الحديث عن مكانة ابن عربي في الأدب والتصوف، وقد وقفنا عنده وقفة طويلة؛ لأنه من أشهر القائلين بوحدة الوجود.
وقد درسنا هذه النظرية من جميع نواحيها درسا لم تعرفه اللغة العربية قبل اليوم، وكان في النية أن نعرض ما قاله فيها الشعراء والكتاب في غير اللغة العربية، ولكنا خشينا أن يكون في الإسهاب ما يوقع القارئ في أودية الضلال، وإنا لواثقون بأن القارئ سيجد فيما كتبناه ما يغنيه عن الرجوع إلى غيرنا من الباحثين، إلا إن أراد استقصاء ما قيل في هذه النظرية من المردود والمقبول.
وانطلقنا فتحدثنا عن الحلاج، وهو أشهر من استشهدوا في سبيل هذه النظرية، ولم نتحدث عن الحلاج من جميع نواحيه، فقد سبقنا إلى ذلك أستاذنا ماسينيون، وإنما اكتفينا بتصوير مذهبه، وما كان له من أصول في النظريات النصرانية، وعرضنا مصرعه الأليم بأسلوب حزين هو صورة من التوجع لما صار إليه ذلك الفيلسوف الشهيد.
وكتبنا فصلا عن الجيلاني عبد الكريم الذي اهتدى إلى سر النظرية وهو الحكم بأن العاصي والمطيع أمام الحق سواء، وقد بينا ما له وما عليه بطريقة بريئة من التحامل والإسراف. •••
ثم رجعنا إلى صميم الأدب الصوفي مرة ثانية فتكلمنا على المنظومات الصوفية، أمثال منظومات ابن عربي ومنظومات اليافعي وأشعار النابلسي ومنظومات حسن رضوان، وعقدنا فصلا للكلام على المدائح النبوية بينا فيه أسرار الغلو في مدح الرسول، وهو فصل يعد من عيون هذا الكتاب.
ومضينا فتكلمنا على الهيام في حب الله، وخصصنا أشواق ابن الفارض بحديث مستفيض؛ لأنه من أشهر الهائمين، ومن أصدق القائلين: بوحدة الوجود.
ثم رأينا أن نبين كيف نتخذ كتب التصوف أساسا لفهم المجتمعات الإسلامية، واللهجات العربية، فكتبنا في ذلك فصلين نرجو أن يقعا من القارئ موقع القبول.
وختمنا الجزء الأول بفصل بينا فيه أثر التصوف في الفنون، وهو فصل وجيز، ولكن فيه توجيه سينتفع به بعض الناس. •••
أما بعد فهذه خلاصة الجزء الأول وهي تذييل للفصل الذي سبق في عرض أغراض الكتاب، وهي تغني بعض الإغناء عن الفهرس المفصل الذي يبين عناصر الكتاب قطعة قطعة كما صنعنا حين فهرسنا كتاب النثر الفني.
والواقع أن القارئ لن يتعرف إلى مؤلف هذا الكتاب إلا إن مشى معه خطوة خطوة من البداية إلى النهاية، فموضوع هذا الكتاب لا يستوعب في أسبوعين ولا في شهرين، ومن العسير أن تهضم هذه النظريات إلا إن أعد لها القارئ عدة كافية من الفهم والعقل والذوق.
والمؤلف يعترف بأنه قضى سنين في الاستعداد لتأليف هذا الكتاب، وهو لم يصل إلى ما وصل إليه إلا بمعونة الله، ومعونة الصبر، ومعونة أساتذته في الجامعة المصرية وجامعة باريس، جزاهم الله عنه خير الجزاء.
ولا بد من النص على أن مؤلف هذا الكتاب آثر الرمز والإيماء في كثير من الأحيان؛ لأنه خاض في موضوعات قد تجره إلى متاعب لو فطن إليها الأغبياء.
فليفهم القارئ ذلك، وليعرف أن موضوعات هذا الكتاب بما فيها من تصريح وتلميح لا تصلح لأن تكون مما يمضغه أحلاس الأندية والقهوات من أدعياء العلم والأدب والبيان.
ومعاذ الذوق والعقل أن نتهم أهل هذا العصر بضيق الذهن والجمود، ولكنا نرجوهم أن يتقوا الله فينا، فما كنا باغين ولا عادين ولا آثمين، وقد كفانا ما قاسينا منذ ظهور كتاب (الأخلاق عند الغزالي) إلى اليوم، فما رحمنا حاسد ولا حاقد من تهمة الإثم والبغي والعدوان:
على أنني راض بأن أحمل الهوى
وأخرج منه لا علي ولا ليا
الجزء الثاني
كيف نشأ التصوف في الأخلاق
قدم التصوف
التصوف لون من الذوق عرفه العرب قبل الإسلام بأجيال طوال. ومن خطأ الرأي أن يقال إنه كان معدوما فخلقته النزعات الإسلامية، وإليكم البيان:
العرب أمة عريقة في التدين، والتدين في ذاته تصوف؛ لأنه نوع من الضعف، والضعف باب إلى التصوف؛ فإن الإنسان في الأصل حيوان شرس يقاتل ويغالب، ثم تاتي لحظات يصرعه فيها الضعف فيقف ويتأمل: من أين أتى؟ وإلى أين يصير؟ وينتهي به الفكر إلى الاقتناع بأنه مخلوق ضعيف، وعندئذ يكون التدين. والمتدينون فريقان: فريق لا يزال يحس القوة والعافية فيجالد في ميادين الحياة، وفريق ينتهي به الضعف إلى التسليم المطلق فيرضى بالدون من العيش ويتوجه إلى التفكير في ملكوت السماء.
وعند التأمل نرى الروحانيات لا تكثر إلا في الأمم الضعيفة، أما الأمم القوية فتوغل في الماديات، وتحرص على امتلاك ما فوق الأرض من أصول المنافع، ومثل الأمم في ذلك مثل الأفراد، فالرجل في دور العافية والشباب تكون أطماعه في الأغلب مادية، فيبنى المنازل، وينظم المزارع والمتاجر والمصانع ، وفي دور الضعف والشيخوخة يقف موقف المتأمل فيما كان وما سيكون. ويتحول إلى قوة روحية يستر بها الضعف الذي رمته به أحداث الزمان.
والمتصوف يتصنع في البداية، ثم يصير صوفيا بالطبع، حين تغلب عليه قوة الفكر والإشراق.
ولنواجه هذه المسألة بعزيمة وصراحة فنقول: إن هناك شخصيتين: الشخصية الحيوانية، والشخصية الإنسانية، أما الشخصية الحيوانية فهي الأصل، والفضائل فيها تقوم على أساس الغلبة والعنف، وهي شخصية لا تزال محفوظة الملامح في كتب الأساطير، والناس يحنون إليها حنينا شديدا، حتى لنراهم في الكتب الروائية يتمنون أن لا ينهزم القوى وإن بغى وخان. وبفضل القوة وجد في القوانين الدولية ما يسمى حق الفتح، وهو رجعة إلى القانون الخلقي في عالم الشخصية الحيوانية.
أما الشخصية الإنسانية فهي شخصية مهذبة، والتهذيب هنا يراد به معناه اللغوي الأول، أي: أن هذه الشخصية قلمت أظافرها، وقطعت أشواكها، وصنع بها ما يصنع بالحيوان المفترس، أو الشجرة الشائكة، فأصبحت مصقولة الجوانب لا يخشى منها بطش ولا عدوان ما دامت محكومة بصوارم القوانين.
وهذه الشخصية الإنسانية لم تخلق إلا بحكم الضعف، وقد استطاع جان جاك روسو أن يتصور دقائق اللحظات التي خلقت فيها هذه الشخصية، وفي زعمه أن الناس تجمعوا وتعاقدوا، واصطلحوا على أن يترك كل فرد منهم جزءا من حريته، ليتكون من مجموع ما يتنازل عنه الناس من حرياتهم قوة تنهض بها حكومة تحمي الضعفاء، وتكف عدوان الأقوياء.
ثم عادت الشخصية الإنسانية فانقسمت إلى شخصيتين: شخصية مادية، وشخصية روحية. فالأولى: هي الشخصية التي لا تتأدب إلا بفضل القانون، أي: بفضل السيف والسوط، وهي شخصية سليمة إن نظرنا إليها من الوجهة الحيوانية، والثانية: هي الشخصية التي تتأدب بفضل الروح، وهي شخصية سليمة إذا نظرنا إليها من الوجهة الإنسانية.
وبهذا نرى أن العافية الخلقية ليست إلا مسألة اعتبارية، فالعنف فضيلة عند قوم، ورذيلة عند آخرين، هو فضيلة عند من يعيشون على المبادئ الحيوانية، وهو رذيلة عند من يعيشون على المبادئ الإنسانية، وكذلك يقال في اللين فهو ضعف في عالم الأقوياء، وهو حلم في دنيا الضعفاء.
ولنسجل هنا أن الضعف نفسه صار سلاحا قويا بفضل المهارة الإنسانية، فالإنسان حين ضعف اعتمد على فكره ولسانه في تقبيح الرذائل الحيوانية، وما زال يبدئ ويعيد حتى أشاع في العالمين أن الظلم ملعون في الأرض ملعون في السماء.
وشواهد الحياة تؤيد رأى الضعفاء من الناس، فهؤلاء الضعفاء هم الذين قالوا بوجود قوة قاهرة مسيطرة هي قوة الله، وهم الذين بسطوا ألسنتهم في الدنيا فرموها بالغدر، وحكموا عليها بالفناء.
شواهد الحياة تؤيد رأي هؤلاء الضعفاء؛ لأن الدنيا حقا فانية، ولأن الإنسان حقا ضعيف، ولا يمتري في هذه الحقائق أحد، فالرجل الهائل الذي يأمر وينهى ويبغي ويستطيل ينقلب في لحظة واحدة إلى مخلوق ذليل حين يدهمه المرض، أوتلسعه حشرة حقيرة، أو يهجم عليه كلب مسعور، أو يتردى في جب عميق.
وهو أذل وأحقر حين يصرعه الموت، وما ظنكم بمخلوق تفارقه الروح فتعلوه صفرة بشعة، وتهب منه ريح يعجز عن ملاقاتها أشجع الناس؟
وما هي مصاير اللذات في الدنيا؟ أليس كل نعيم إلى زوال؟ أين ذهب ملك الطغاة والمستبدين لعهد الفرس والعرب والرومان؟ وأين ما بقي من المتع الحسية التي رآها قصر فرساي، وهو اليوم بلا فراش ولا أثاث؟ أين لا أين! إن كان في العالم قصيدة إنسانية خالدة فهي التصوف، هو وحده الأنشودة الباقية يوم تبيد الأناشيد، ولو فنيت الدنيا دفعة واحدة وبقي إنسان واحد يفتش عما حق فيها من الكلمات لما وجد أصدق من كلمة الصوفية.
الروحانية والضعف
نشأ التصوف إذن في ظلال الضعف، أي نشأ في ظلال الحق، يوم عرف الإنسان قيمة نفسه، واطمأن إلى أنه مخلوق ضعيف إن تخلت عنه رعاية الله لحظة واحدة هلك وباد.
نشأ التصوف حين شك الإنسان في قيمة الحقائق الإنسانية، يوم رأى كل قوة إلى ضعف، وكل وفاء إلى غدر، وكل حياة إلى موت، وكل شروق إلى غروب.
لا تسألوا متى اهتدى الإنسان إلى قيمته الذاتية، ويكفي أن تتذكروا أن البيئات العربية عرفت كثيرا من الأنبياء الذين آثروا الزهد والفرار من اللذات، وعرفت أن أطيب الناس ذكرا في العالم القديم هو إبراهيم الخليل الذي حطم الأصنام، وأخلد إلى التوحيد.
ويمكن الحكم بأن أقدم الآثار الصوفية هو «سفر أيوب» الذي شرح البلايا الإنسانية، وصور حيرة المرء بين السعادة والشقاء، والهدى والضلال.
وأقرب الآثار الصوفية إلى أذهان الناس هو القرآن، ذلك الكتاب الذي أطال القول في وصف الدنيا وذمها وثلبها وتحقيرها، وقضى بأنها لهو ولعب، وأنها في نضارتها ليست إلا متاع الغرور، القرآن هو أقرب الآثار الصوفية إلى أذهان الناس وإن جهلوا ذلك، هم يعدونه كتاب تشريع، ونراه كتاب تصوف.
إن التشريع في القرآن ليس إلا تنظيما للعلاقات الدنيوية، والعلاقات الدنيوية في نظر القرآن الكريم هي تمهيد للصلات الروحية: صلات الناس بالله الكبير المتعال، وكل مغنم لا يقرب المرء من ربه هو في نظر القرآن ذخر باطل سخيف.
والإنسان في نظر القرآن هو مخلوق مغرور تطغيه النعمة، وتذله الباساء:
وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون * هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين * فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون * إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون .
1
والقرآن يذكر الناس بأن الأمر كله لله؛ فهو الذي يحيي وهو الذي يميت:
نحن خلقناكم فلولا تصدقون * أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون * نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون * ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون * أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون * لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون * إنا لمغرمون * بل نحن محرومون * أفرأيتم الماء الذي تشربون * أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون * لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون * أفرأيتم النار التي تورون * أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون * نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين * فسبح باسم ربك العظيم * فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون عظيم .
2
وسياق القول في القرآن كله يتجه وجهة روحية، ويذكر المرء بربه، ويخوفه من بطشه، ويطمعه فيما أعد للصالحين من جزيل الثواب.
الضعفاء هم الذين اهتدوا إلى الإيمان وعرفوا قيمة النفس الإنسانية
وكان الرسول يتقشف تقشفا صوفيا، وقد دخل عليه عمر بن الخطاب فوجده على حصير قد أثر في جنبه، فكلمه في ذلك فقال: مهلا يا عمر، أتظنها كسرويه.
3
وأتاه رجل بهدية فذهب يلتمس وعاء يفرغها فيه فلم يجد، فقال له: فرغها في الأرض، ثم أكل منها، وقال: آكل كما يأكل العبد، وأشرب كما يشرب العبد، لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء.
4
وفي كتب الشمائل أخبار كثيرة عن تقشف الرسول، وهو نفسه قد عاش في بيئة صوفية، يدل على ذلك نهيه عن الرهبانية، وعن مواصلة الصوم، وهو لم يرغب في الزواج إلا لأنه رأى ناسا يتبتلون، ولم ينه عن وصل الصيام إلا لأنه رأى ناسا يصلون الصيام، وهذا وذاك من سمات التصوف.
والفرق بين تصوف الرسول وتصوف من عاصروه أنه كان يعتدل، وكانوا هم يسرفون.
والقرآن يوصي الرسول بأن يصبر نفسه مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، وهذا تأديب للمؤمنين، وفيه اعتراف بشخصية من ينصرف عن زينة الحياة الدنيا وينقطع لذكر الله. وقد ورد اسم المؤمنين في القرآن في سياق يعين نسبتهم إلى الروحانية إذ قال:
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، ولا يسامح في مهجته إلا أجود الناس، وكان في شمائل الصحابة مصداق لهذه الروحانية، فقد جاد أبو بكر بجميع ماله، وجاد عمر بشطر ماله، فقال له الرسول: ما أبقيت لأهلك؟ فقال: مثله. وقال لأبي بكر: ما أبقيت لأهلك؟ فقال: الله ورسوله. فقال النبي: بينكما ما بين كلمتيكما. فالصديق وفى بتمام الصدق فلم يمسك سوى المحبوب عنده وهو الله ورسوله،
5
وذلك بالتأكيد تصوف وروحانية.
التصوف في سفر أيوب وفي القرآن
التصوف قديم عرفه العرب قبل الإسلام، وتخلقوا به لعهد الرسول، ولكن يظهر أنه لم يكن ملحوظا في كلام الناس، ولم يختصوه بدرس ولا بيان، وكانت الأعمال الروحية تندرج في الأعمال الدينية. وأول من تلفت الناس إلى كلامه في المعاني الوجدانية وأسرار القلوب هو حذيفة بن اليمان الصحابي الجليل، وقد قيل له: نراك تتكلم في هذا العلم بكلام لا نسمعه من أحد من أصحاب رسول الله فمن أين أخذته؟ فقال: خصني به رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كان الناس يسألونه عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه، وعلمت أن الخير لا يسبقني. وقال مرة: فعلمت أن من لا يعرف الشر لا يعرف الخير. وفي لفظ آخر: كان الناس يقولون يا رسول الله ما لمن عمل كذا وكذا، يسألونه عن فضائل الأعمال، وكنت أقول: يا رسول الله، ما يفسد كذا وكذا، فلما رآني أسأل عن آفات الأعمال خصني بهذا العلم.
6
قال المكي: وكان حذيفة قد خص بعلم المنافقين وأفرد بمعرفة علم النفاق، وبسرائر العلم، ودقائق الفهم، وخفايا اليقين من بين الصحابة، فكان عمر وعثمان وأكابر أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يسألونه عن الفتن العامة، والفتن الخاصة، ويرجعون إليه في العلم الذي خص به، وكان عمر يستكشفه عن نفسه هل يعلم فيه شيئا من النفاق فبرأه منه، ثم يسأله عن علامات النفاق، وآية المنافق فيخبر من ذلك بما يصلح مما أذن له فيه، ويستعفى مما لا يجوز له أن يخبر به فيعذر في ذلك.
7
ومعنى هذا أن الرسول كان يكتم أسرار التصوف، ولا يمنحها غير الخواص، ومعناه أيضا أن التصوف هو البصر بأسرار القلوب، وما يعرض لها من دقائق الرياء والنفاق.
وعن حذيفة بن اليمان تعلم الحسن البصري وهو إمام الصوفية أثره يقفون، وسبيله يتبعون، ومن مشكاته يستضيئون،
8
وقد كان الحسن البصري أحد المذكرين، وكانت مجالسه مجالس الذكر يخلو فيها مع إخوانه وأتباعه من النساك والعباد مثل: مالك بن دينار، وثابت البناني، وأيوب السختياني، ومحمد بن واسع، وفرقد السنجي، وعبد الواحد بن زيد، وكان يحدث أصحابه في خواطر القلوب، وفساد الأعمال، ووسواس النفوس، وربما قنع بعض أصحاب الحديث ورأسه فاختفى من ورائهم ليسمع ذلك، وكان من خيار التابعين بإحسان، وقد لقي سبعين بدريا ورأى ثلاث مئة صحابي،
8
وكانت أمه مولاة لأم سلمة زوج النبي
صلى الله عليه وسلم ،
8
ويقال: إنها ألقمته ثديها تعلله حين بكى فدر ثديها عليه، وكان كلامه يشبه بكلام رسول الله
صلى الله عليه وسلم
8
وكان أبو قتادة العدوي يقول: عليكم بهذا الشيخ، فو الله ما رأينا أحدا لم يصحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أشبه بأصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
منه،
8
وكانوا يقولون: كنا نشبهه بهدي إبراهيم الخليل
صلى الله عليه وسلم
في حلمه وخشوعه ووقاره وسكينته، فكان على شمائله،
8
ونذت امرأة بالبصرة نذرا إن فعل الله تعالى ذلك بها أن تنسج من غزلها ثوبا، وصفته، وتكسوه خير أهل البصرة، فرأت تمام نذرها فوفت بما نذرت ثم سألت: من خير أهل البصرة؟ فقالوا: الحسن.
9
قال المكي: وكان الحسن رضي الله عنه أول من أنهج سبيل هذا العلم وفتق الألسنة به، ونطق بمعانيه، وأظهر أنواره، وكشف قناعه، وكان يتكلم فيه بكلام لم يسمعوه من أحد من إخوانه، فقيل له: يا أبا سعيد، إنك تتكلم في هذا العلم بكلام لم نسمعه من أحد غيرك، فممن أخذت هذا؟ فقال: من حذيفة بن اليمان.
10
والحسن البصري شخصية جذابة، ويقال إنه الشاب الذي أثنى عليه علي بن أبي طالب، فقد دخل جامع البصرة، وجعل يخرج القصاص، ويقول: القصص بدعة، فانتهى إلى حلقة شاب يتكلم على جماعة فاستمع إليه فأعجبه كلامه، فقال: يا فتى، أسألك عن شيئين فإن خرجت منهما تركتك تتكلم على الناس، وإلا أخرجتك كما أخرجت أصحابك. فقال: سل يا أمير المؤمنين، فقال: أخبرني ما صلاح الدين وما فساده؟ فقال: صلاحه الورع، وفساده الطمع. قال: صدقت، تكلم، فمثلك يصلح أن يتكلم على الناس.
10
وكان شديد الخوف من الله، ويقال: إنه ما ضحك أربعين سنة، وكان في حزنه كأنه أسير قدم ليضرب عنقه، وإذا تكلم حسبته يعاين الآخرة فيخبر عن مشاهدة، وإذا سكت ظننت النار تسعر بين عينيه، وعوتب في شدة حزنه، فقال: ما يؤمنني أن يكون الله قد اطلع علي في بعض ما يكره فمقتني، فقال: اذهب فلا غفرت لك.
11
ومن كلامه وقد رأى هيئات الناس في أحد أيام رمضان: إن الله - تبارك وتعالى - جعل رمضان مضمارا لخلقه، يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب من الضاحك اللاعب في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون، ويخسر فيه المبطلون، أما والله لو كشف الغطاء لشغل محسن بإحسانه، ومسيء بإساءته.
12
ونظر إلى قوم منصرفين من صلاة الفطر يتدافعون ويتضاحكون فقال: الله المستعان، إن كان هؤلاء قد تقرر عندهم أن صومهم قد تقبل فما هذا محل الشاكرين، وإن علموا أنه لم يقبل فما هذا محل الخائبين.
12
قال الحصري: ويقال إنه لم يكن تابعي أفضل منه، هذا قول أهل العراق جميعا، وأهل الحجاز يقدمون سعيد بن المسيب عليه، وكان سعيد أحسن من الحسن ورعا، وأشد الناس جزعا، وأقلهم كلاما، وكان الحسن لا يدع أن يتكلم بما هجس في نفسه، وجاش في صدره.
13
ونحن نعرف لم كان الحسن كثير الكلام؛ فقد كان معلما، والمعلمون أكثر الناس كلاما، ولا سيما إذا كانوا أصحاب مذاهب، وكان الحسن يعلم الناس أسرار القلوب، وكان يعرف أنه صاحب مذهب، وأن عليه أن يشرح ما فيه من دقائق وأسرار، وكذلك نجد اسمه في جميع مؤلفات الصوفية؛ لأنه المعلم، ولأن كلماته المأثورة تكاد تجل عن الإحصاء.
تصوف الرسول
والمفهوم من أحوال البصري أنه اهتم بشرح التصوف، وتكلم عن آفات النفوس، وقد مات سنة عشر ومئة، وهو بذلك أقدم الأشياخ عند الصوفية.
ويليه في المنزلة أبو حمزة الصوفي، وهو أستاذ البغداديين، وأول من تكلم ببغداد في مذاهب التصوف: من صفاء الذكر، وجمع الهمة، والمحبة، والشوق، والقرب، والأنس، لم يسبقه إلى الكلام بهذا على رءوس الناس ببغداد أحد.
14
وكان أبو حمزة من كبار القوم، وهو الذي يقول:
نهاني حيائي منك أن أكشف الهوى
وأغنيتني بالقرب منك عن الكشف
تراءيت لي بالغيب حتى كأنما
تبشرني بالغيب أنك بالكف
أراك وبي من هيبتي لك وحشة
فتؤنسني بالعطف منك وباللطف
وتحيي محبا أنت في الحب حتفه
وذا عجب كون الحياة مع الحتف الحتف
15
وخرج جماعة من الصوفية يستقبلونه من مكة فإذا به قد شحب لونه فقال الجريري: يا سيدي، هل تتغير الأسرار إذا تغيرت الصفات؟ قال: معاذ الله، لو تغيرت الأسرار لتغير الصفات لهلك العالم، ولكنه ساكن الأسرار فحماها، وأعرض عن الصفات فلاشاها.
ثم ولى وهو يقول:
كما ترى صيرني
قطع قفار الدمن
شردني عن وطني
كأنني لم أكن
إذا تغيبت بدا
وإن بدا غيبني
يقول لا تشهد ما
يشهد أو تشهدني
16
حذيفة بن اليمان
تلك صورة تقريبية لنشأة التصوف في الأخلاق، ولنتذكر أن مؤرخي هذا العلم مجمعون على أن لفظ التصوف لم يعرف مصحوبا بالرسوم إلا في القرن الثاني، وإن كان منهم من أشار إلى أن اللفظ كان معروفا في القرن الأول،
17
وكانت صحبة رسول الله أشرف الألقاب، فاستغنوا بها عن الاتسام بالتصوف، ثم قيل القراء والزهاد والنساك والعباد، ثم قيل الصوفية.
18
والظاهر أن النساك كانوا فريقين: أحدهما: يتعبد في صمت، وثانيهما: يتعبد ويتفلسف، فالذين اكتفوا بحسن الخلق والزهد في الدنيا والتأدب بأدب الشرع لقبوا بالنساك والقراء والزهاد والعباد، والذين أقبلوا على دراسة النفوس وآفاتها، واهتموا بشرح ما يرد على القلب من الخواطر، وحرصوا على أن تكون لهم صبغة مذهبية، ولقبوا بالصوفية.
وهؤلاء وأولئك كان لهم وجود محسوس، وعرفت لهم مقامات في وعظ الخلفاء والوزراء، وكانت مذاهبهم بسيطة أول الأمر، ثم تعقدت وتشبعت بعد أن كثر اتصالهم بالناس، وطالت مجادلتهم لأهل الفقه والتوحيد.
الحسن البصري
ويمكن الحكم بأن أول مشكلة عقلية عرضت لأولئك القوم هي الظاهر والباطن، أو الشرع والحقيقة، وساعد على وجود هذه المشكلة ورود آيات في القرآن تحتاج إلى تأويل، من هذا قوله تعالى:
ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ، فالبليد يفتقر في فهمه إلى أن يقدر لهما حياة يخلقها الله للسماء واللأرض، وعقلا وفهما للخطاب، وخطابا هو صوت وحرف تسمعه السماء والأرض؛ فتجيبان بحرف وصوت وتقولان: أتينا طائعين، والبصير يعلم أن ذلك لسان الحال وأنه إنباء عن كونهما مسخرتين بالضرورة ومضطرتين إلى التسخير ... ومنه أيضا قوله تعالى:
وإن من شيء إلا يسبح بحمده
فالبليد
19
يفتقر فيه إلى أن يقدر للجمادات حياة وعقلا ونطقا بصوت وحرف حتى يقول سبحان الله ليتحقق تسبيحه، والبصير يعلم أنه ما أريد به نطق اللسان، بل كونه مسبحا بوجوده ومقدسا بذاته، وشاهدا بوحدانية الله سبحانه، كما يقال:
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
وكما يقال هذه الصنعة المحكمة تشهد لصانعها بحسن التدبير وكمال العلم لا بمعنى أنها تقول أشهد بالقول، ولكن بالذات والحال ... فهي تشهد لخالقها بالتقديس، يدرك شهادتها ذوو البصائر دون الجاحدين، ولذلك قال تعالى:
ولكن لا تفقهون تسبيحهم .
20
قال الغزالي: وهذا الفن مما يتفاوت أرباب الظواهر وأرباب البصائر في علمه، وتظهر به مفارقة الباطن للظاهر، وفي هذا المقام لأرباب المقامات أسرار.
20
وكذلك يقال في قوله تعالى:
وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم
وقوله:
وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء
وكذلك المخاطبات التي تجري من منكر ونكير، وفي الميزان والصراط والحساب ومناظرات أهل النار وأهل الجنة في قولهم:
أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله .
20
فهذه وأمثالها مما اختلف فيه العلماء والصوفية، ففريق يقول: إن ذلك كله بلسان الحال، وفريق يحسهم الباب ويمنع التأويل، وقد غلا في ذلك أحمد ابن حنبل حتى منع تأويل قوله:
كن فيكون ، وزعم هو وأصحابه أن ذلك خطاب بحرف وصوت يوجد من الله تعالى في كل لحظة بعدد كون كل مكون
20
وبلغ به الأمر أن منع تأويل قول الرسول: «الحجر الأسود يمين الله في أرضه» وقوله: «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن» وقوله: «إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن» وعند الغزالي أن ابن حنبل لم يمنع التأويل إلا رعاية لصالح الخلق، فإنه إذا فتح الباب اتسع الخرق وخرج الأمر عن الضبط وجاوز حد الاقتصاد، إذ حد الاقتصاد لا ينضبط.
20
أبو حمزة الصوفي
وما زال الفقهاء يمشون في طريق والصوفية في طريق حتى بعدت بينهم شقة الخلاف، واتفق أن كان العز بن عبد السلام يطعن على ابن عربي ويقول: هو زنديق، فقال له بعض أصحابه: أريد أن تريني القطب، فأشار إلى ابن عربي. فقال له: فأنت تطعن فيه؟ فأجاب: أصون ظاهر الشرع
21
ومعنى هذا أن ظاهر الشرع لا يعترف للصوفية بوجود صحيح.
وقال بعض الصوفية لأحد المريدين: إن كنت تريد الجنة فسر إلى ابن مدين، وإن كنت تريد رب الجنة فهلم إلي.
22
فالجنة طريقها الشرع، أما السبيل إلى الله فهو التصوف.
وكان ابن الكاتب إذا ذكر الروزباري يقول: سيدنا أبو علي. فقيل له في ذلك فقال: لأنه ذهب من علم الشريعة إلى علم الحقيقة. ونحن رجعنا من علم الحقيقة إلى علم الشريعة.
23
فالعلم الذي يسود صاحبه هو التصوف، أما الفقه فمحصول العامة من الناس.
وقيل لبعض الصوفية: كم يجب من الزكاة في مائتي درهم؟ فقال: أما على العوام بحكم الشرع فخمسة دراهم. وأما نحن فيجب علينا بذل الجميع.
24
وكانوا يقولون: أهل العلم على ضربين، عالم عامة، وعامة خاصة، فأما عالم العامة فهو المفتي في الحلال والحرام، وهؤلاء أصحاب الأساطين،
25
وأما عالم الخاصة فهو العالم بعلم التوحيد والمعرفة وهؤلاء أهل الزوايا وهم المنفردون.
26
ورفض المحاسبي أن يأخذ شيئا من ميراث أبيه، وكان ورث منه سبعين ألف درهم، وكان أبوه يقول بالقدر فرأى من الورع أن لا يأخذ من ميراثه شيئا. وقال: صحت الرواية عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: لا يتوارث أهل ملتين شيئا.
27
والشاهد في هذا الخبر أن الصوفية كانوا يرون أنفسهم ملة، ويرون مخالفيهم في الرأي ملة أخرى.
وكان ابن العفيف يقول: اقتدوا بخمسة من شيوخنا، والباقون سلموا لهم حالهم.
27
والخمسة الذين ذكرهم ابن العفيف جمعوا بين العلم والحقائق، فهم أهل للاقتداء، أما الباقون فوقفوا عند الحقائق فينبغي أن يسلم لهم حالهم؛ لأن لهم بدوات لا تعرفها الشريعة.
الزهد والتصوف
وما زال الخلاف بين الفرقتين يقوى ويشتد حتى رأينا من يقول: من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة، ولم يتهم خواطره فلا تعده في ديوان الرجال.
28
ولو مضينا نستقصي ما كتب طعنا في الصوفية لطال بنا القول، ويكفي أن يعرف القارئ سر الخلاف، فأهل الظاهر يرون الشريعة قوانين محدودة منظمة يسهل الرجوع إليها في الفصل بين الناس، ولا كذلك التصوف فإن أهله يعتمدون على الخواطر ويستفتون القلوب، وليس في ذلك شيء مضبوط، وما يدركه هذا قد يجهله ذاك. ولو أضيفت سلطة الحكومة إلى الصوفية لسادت الظنون، وأصبح أمر الناس إلى فساد، واشتبكت مسالك اليقين.
وقد وضع ابن القيم كتابا نفيسا سماه «تلبيس إبليس» عرض فيه لأحوال الصوفية بالذم والتقريع، وهو كتاب يقوم على أساس الشرع والعقل، وقد عاب عليهم أن يظنوا أن المراد من رياضة النفوس هو قمع ما في البواطن من الصفات البشرية، مثل: قمع الشهوة والغضب وغير ذلك، وليس هذا مراد الشرع، ولا يتصور إزالة ما في الطبع بالرياضة، وإنما خلقت الشهوات لفائدة، فلولا شهوة الطعام لهلك الإنسان، ولولا شهوة النكاح لانقطع النسل، وكذلك حب المال مركوز في الطباع؛ لأنه يوصل إلى الشهوات. وإنما المراد كف النفس عما يؤذي من جميع ذلك وردها إلى الاعتدال فيه.
29
وبفضل اعتماد الصوفية على الخواطر وإهمال الشرع شاعت القالة بأنهم مجانين، ويروى عن الشافعي أنه قال: لو أن رجلا تصوف أول النهار لا يأتي الظهر حتى يصير أحمق،
30
وأنه قال: ما لزم أحد الصوفية أربعين يوما فعاد عقله إليه أبدا،
30
وكان يونس بن عبد الأعلى يقول: صحبت الصوفية ثلاثين سنة ما رأيت فيهم عاقلا إلا مسلما الخواص.
30
وعاب ابن القيم عليهم أن يقولوا (شريعة وحقيقة) وقال في تفنيد ذلك:
هذا قبيح؛ لأن الشريعة ما وضعه الحق لمصالح الخلق، فما الحقيقة بعدها سوى ما وقع في النفوس من إلقاء الشياطين، وكل من رام الحقيقة في غير الشريعة فمغرور مخدوع، وإن سمعوا أحدا يروى حديثا قالوا: مساكين، أخذوا علمهم ميتا عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت فمن قال حدثني أبي عن جدي قلت حدثني قلبي عن ربي، فهلكوا وأهلكوا بهذه الخرافات قلوب الأغمار، وأنفقت عليهم لأجلها الأموال؛ لأن الفقهاء كالأطباء والنفقة في ثمن الدواء صعبة، والنفقة على هؤلاء كالنفقة على المغنيات، وبغضهم الفقهاء أكبر الزندقة؛ لأن الفقهاء يحظرونهم بفتاويهم عن ضلالهم وفسقهم والحق يثقل كما تثقل الزكاة.
31
إلى آخر ما وعت جعبة ابن القيم من النبال.
أهل الظاهر وأهل الباطن
وابن القيم لم يفتر شيئا على الصوفية حين اتهمهم بازدراء أهل الفقه والحديث، فهم بالفعل يرون أنفسهم ورثة الأنبياء، ويسميهم إخوان الصفا «أولياء الله وعباده الصالحين» ويذكرون من صفاتهم أنهم لا يذكرون في مجالسهم وخلواتهم أحدا إلا الله، ولا يتفكرون إلا في مصنوعاته، ولا ينظرون إلا إلى فنون إحسانه، وعظيم إنعامه، وجميل آلائه، ولا يعملون إلا لله، ولا يخدمون إلا إياه، ولا يرغبون إلا إليه، ولا يرجون إلا منه ... وذلك أنهم يرونه رؤية الحق في جميع متصرفاتهم، ويشاهدونه في كل حالاتهم، لا يسمعون إلا منه، ولا ينظرون إلا إليه، ولا يرون غيره على الحقيقة. فمن أجل ذلك انقطعوا إليه عن الخلق، واشتغلوا بالخالق عن المخلوق وبالرب عن المربوب.
32
ويذكر إخوان الصفا أن نعت هؤلاء القوم ورد في آيات كثيرة من القرآن، وأن النبي أثنى عليهم فقال: «لا يزال في هذه الأمة أربعون رجلا من الصالحين على ملة إبراهيم الخليل
33
وأن هؤلاء الصالحين هم الذين سماهم الله في كتابه «أولي الألباب » و«أولي النهى» و«أولي الأبصار» فهم أولياء الله وأحباؤه، وإليهم أشار بقوله لإبليس
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان
وإليهم أشار الرسول في وصيته لأبي هريرة بقوله: «عليك يا أبا هريرة بطريق أقوام إذا فزع الناس لم يفزعوا، وإذا طلب الناس الأمان من النار لم يخافوا» قال: من هم يا رسول الله صفهم لي حتى أعرفهم قال: قوم من أمتي في آخر الزمان يحشرون يوم القيامة محشر الأنبياء، إذا نظر إليهم الخلائق ظنوهم أنبياء حتى أعرفهم أنا بسيماهم فأقول: أمتي أمتي، ليعرف الخلائق أنهم ليسوا بأنبياء، ويمرون مثل البرق والريح، ويغشى أبصار الجميع نورهم. قال أبو هريرة: قلت يا رسول الله مرني بمثل عملهم لعلي ألحق بهم. فقال الرسول: يا أبا هريرة، إن القوم ارتكبوا طريقا صعبا لحقوا بدرجة الأنبياء، آثروا الجوع بعدما أشبعهم الله، والعرى بعد ما كساهم الله تركوا ذلك رجاء ما عند الله، تركوا الحلال مخافة حسابه، صحبوا الدنيا بأبدانهم من غير أن تعلق بشيء منها قلوبهم، تعجب الأنبياء والملائكة من طاعتهم لربهم، فطوبى لهم، وددت أن الله جمع بيني وبينهم ... ثم بكى رسول الله شوقا إلى رؤيتهم».
34
أصل الخلاف
وهذا الكلام صريح في أن الصوفية يرون أنفسهم ورثة الأنياء، بل هو صريح في أنهم نظائر الأنبياء، وليس في هذا غرابة، فالصوفية من أوائل المتمردين على التقاليد الشرعية، وهذا التمرد فيه ضعف وفيه قوة، هو ضعف من حيث أنه يفتح باب الفوضى في عالم الأخلاق، ويمكن من لا يعرف من الخوض في الشؤون المعاشية والوجدانية بأحكام ما أنزل الله بها من سلطان، وهو قوة من حيث يدعو إلى قوة الشخصية والاحتكام إلى الوجدان.
والصوفية يذكرون أن النبي قال: «استفت قلبك، وإن أفتاك المفتون»
35
وأنه قال: «استفت قلبك، وإن أفتوك وأفتوك»
35
كأنهم يحتاجون إلى سند من كلام الرسول!
وعند التأمل نرى الوقوف عند ظاهر الشريعة لا يليق إلا بالعوام من الناس، أما الخواص فلهم مجالات يدركها العارفون، وما كان يمكن أن يستوي الذي يعلمون والذين لا يعلمون في فهم دقائق الأشياء، ففي العالم أسرار يطلع على بعضها الخواص، والشرع نفسه فيه دقائق كثيرة لا يفهمها العوام من الفقهاء ... على أن رجال الظاهر أسرفوا في التزمت وبلغ بهم الحمق أن أقفلوا باب الاجتهاد، كأن الدنيا انتهت إلى ما انتهت إليه أئمتهم، وكأن العالم ظهرت بواطنه وخوافيه فلم يبق فيه من المستورات ما يحتاج إلى شرح أو تأويل.
ولكن هل يكفي هذا ليصبح الأمر كله إلى الصوفية، ويصح للغزالي أن يحكم بأن الاشتغال بعلم الظاهر بطالة؟
إن ضيق الذهن لحق بالفريقين فلم يتيسر لهما اتفاق، ولو تأمل أهل الظاهر لعرفوا أن النفس الإنسانية أعمق من أن تبر أغوارها في جيل أو جيلين، وأن وساوس الصوفية ليست إلا شواهد لعلم النفس، وأن الإنسان لا يهذي ولا يسخف إلا وقفا لقوانين مستورة يوجب العقل أن نبحث عما لها من عناصر وأصول، وما قد يبدو سخفا وهذيانا له أحيانا وجوه من الحق يعلمها الراسخون في علم النفس وعلم منافع الأعضاء.
فمن الفضول أن يتحكم الفقهاء في مصاير النفس الإنسانية، وأن يقضوا بأن كل خروج على آفاقهم زيغ وضلال، وأن نصوص القرآن والحديث لا يجوز أن توجه إلى غير ما يقتضيه ظاهر الحروف. ولو عقل الصوفية لعرفوا أن من الخرق أن تكون آراؤهم دستورا يجب احترامه في جميع البيئات، وكيف يفرض علىالناس جميعا أن يقضوا أعمارهم في التفكر والتدبر؟ إن الفكر شيء جميل، ولكن فرضه على جميع الناس سخف لا يعدله سخف، وكيف غاب عنهم أن الغفوات العقلية التي يتمتع بها الجماهير هي أساس النظام في هذا الوجود؟ وكيف كانت تصبح الدنيا لو أن العوام تفلسفوا، وادعوا الاتصال بالله، كلما عرض لهم خاطر جديد؟
أعداء الصوفية
وخلاصة القول أن العداوة بين أهل الظاهر وأهل الباطن لا تقوم على أساس صحيح، فأهل الظاهر وجودهم ضروري لأنهم يحمون الناس من الاستسلام إلى الأوهام والأضاليل، وأهل الباطن وجودهم ضروري لأنهم يعطرون الشريعة بعبير الروح ويسكبون عليها أنداء الخيال.
وأهل الظاهر هم الذين حفظوا العلوم الشرعية، وصيروا الإسلام من الشرائع المؤسسة على قواعد من الثقافة الفقهية.
وأهل الباطن هم الذين خلقوا العصبية الدينية، وصوروا الرسول، وأصحابه بصور روحية رائعة هي التي حفظت القوة المعنوية للدين الحنيف.
ولا يمكن إغفال ما أفاد الإسلام من الثقافة الصوفية، فالتصوف هو الذي ملأ الجوانب الخالية من قلوب المسلمين، وهو الذي أنساهم الخشونة المادية التي أذاعتها الثقافة الفقهية، وقد نشرت جريدة السياسة في 3 يونية سنة 1932 نبذة من كتاب فلسفة الدين الذي ألفه بالإنجليزية المستر ادوار روس (ص124) جاء فيها قوله:
إن كلمة الإسلام معناها الإذعان لإرادة الله، وأخلق بذلك أن يفضي إلى اعتبار الله قضاء متحكما غير مفهوم، من العبث التمرد عليه، وليس من صفاته لا القداسة ولا الحب، ومع ذلك فقد ظهر مسلمون لا يرتاحون إلى هذا الدين الجاف، وإن في ظهور الفرق الصوفية التي انتشرت في الإسلام لشهادة بوجود الشوق إلى اتصال يكون أوثق بإله حي يفيض بالحب.
وهذه الكلمة صحيحة، لولا ما فيها من وصف الإسلام بالجفاف، وليس من الضروري أن تتصور الله رفيقا عطوفا في جميع الأحيان، فمن الجهل أن ننسى غضب الله على الأشقياء والظالمين، ولكن من الجهل أيضا أن لا تتمثل الله إلا وفي يده سوط، فالله لطيف جدا، وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم.
والفقهاء سدوا منافذ الرفق حين صوروا الله بالقسوة والعنف. والصوفية سدوا منافذ الحزم حين وصفوا الله بالرفق المطلق. وحب الله لا يتوقف على ما ينتظرون من الرفق، فقد نحب الله ونحن نخافه أشد الخوف، ومن لا يعرف الرهبة فليس بمحب ولا محبوب.
الصوفية يرون أنفسهم ورثة الأنبياء
وهنا تعرض مسألة جوهرية في نظام الأخلاق هي الفرق بين الزهد والتصوف، فالزهد هو ترك الدنيا خوفا من الحساب، والتصوف، هو الإقبال على صفاء النفس لتتصل بالله، فغاية الزاهدين هي السلامة، وغاية الصوفية هي الوصول، فالزاهد يخاف الدنيا لأنها قد تبعده من الجنة، والصوفي يخاف الدنيا لأنها قد تشغله عن الله، وهذا الفرق فرض صرف، فليست هناك حدود واضحة تفصل الزهد عن التصوف، وإنما أخذنا هذا الفرض من التاريخ، فالعباد كانوا يسمون زهادا ونساكا في العهد الأول قبل أن يوجد التعمق في دراسة الأسرار النفسية، ثم سموا صوفية في العهد الذي كثر فيه الاهتمام بدرس أسرار القلوب.
فضل الفقه وفضل التصوف
إلى هنا عرفنا صورا من تطور التصوف. أفيستطيع القارئ أن يتصور أن الصلة لا تزال وثيقة بين ما ابتدأ به التصوف وما انتهى إليه؟
لقد قلنا إن التصوف قديم في البيئات العربية، واتخذنا من القرآن شواهد للتصوف، أفيمكن الحكم بأن الصوفية وقفوا عند روحانية القرآن؟
إنه لا مفر من الاعتراف بأن شخصية المسيح كان لها أثر في تلوين النزعات الصوفية، فما تكاد كتب التصوف تخلو من الاستشهاد بكلام المسيح.
وقد رأينا فيما سلف أن شخصية الراهب كانت محترمة، وأن الصوفية كانوا ينقلون كلام الرهبان، وكان الناسك من المسلمين يذكر النصارى بالمسيح.
36
فلنضف إلى ما سلف أن الصوفية كان يسرهم أن يسجلوا أنهم أعرف بربهم من الرهبان، وأن التصوف الحق يرجع إلى الحب المطلق الذي لا ينتظر الجزاء، ولا يخاف العقاب، أو الثقة المطلقة التي لا يعروها شك ولا يساورها ارتياب.
وقد حدثوا أن أحد العارفين اجتاز يوما في بعض سياحته براهب في صومعة على رأس تل فوقف بإزائه فناداه فأخرج الراهب رأسه من صومعته وجرت بينهما المحاورة الآتية:
الراهب :
من هذا؟
الصوفي :
رجل من أبناء جنسك الآدميين.
الراهب :
وما الذي تريد؟
الصوفي :
كيف الطريق إلى الله؟
الراهب :
في خلاف الهوى.
الصوفي :
فما خير الزاد؟
الراهب :
خير الزاد التقوى.
الصوفي :
لم تباعدت عن الناس وتحصنت في هذه الصومعة؟
الراهب :
مخافة على قلبي من فتنتهم، وحذرا على عقلي من الحيرة من سوء عشرتهم، فطلبت راحة نفسي من مقاساة مداراتهم، وقبيح أفعالهم، وجعلت معاملتي مع ربي فاسترحت منهم.
الصوفي :
أخبرني كيف وجدتهم؟
الراهب :
أسوأ قوم وشر أصحاب ففارقتهم.
الصوفي :
كيف وجدتم يا أتباع المسيح معاملتكم مع ربكم؟
الراهب
بعد تردد :
أسوأ معاملة.
الصوفي :
وكيف ذلك؟
الراهب :
لأنه أمرنا بكد الأبدان، وجهد النفوس، وصيام النهار وقيام الليل، وترك الشهوات المركوزة في الجبلة، ومخالفة الهوى الغالب، ومجاهدة العدو المتسلط، والرضا بخشونة العيش، والصبر على الشدائد والبلوى ومع هذه كلها جعل الأجر نسيئة في الآخرة بعد الموت مع بعد الطريق والحيرة. فهذه حالنا في معاملتنا مع ربنا. فخبرني عنكم، يا معشر أتباع أحمد، كيف وجدتم معاملتكم مع ربكم؟
الصوفي :
خير معاملة.
الراهب :
صفها لي.
الصوفي :
إنه أعطانا سلفا كثيرة قبل العمل ومواهب جزيلة لا تحصى فنون أنواعها من النعم والإحسان والإفضال قبل المعاملة: فنحن ليلنا ونهارنا تتقلب في أنواع من نعمه، وفنون من آلائه، ما بين سالف معتاد، وآنف مستفاد، وخالف منقاد.
الراهب :
كيف خصصتم بهذه المعاملة دون غيركم والرب واحد؟
الصوفي :
أما النعمة والإحسان والإفضال فعموم للجميع، قد عمتنا
37
كلنا، ولكن نحن خصصنا بحسن الاعتقاد وصحة الرأي والإقرار بالحق والإيمان والتسليم، فوفقنا لمعرفة الحقائق لما أعطينا بالانقياد والإيمان والتسليم وصدق المعاملة من محاسبة النفس وملازمة الطريق، وتفقد تصاريف الأحوال الطارئة من الغيب ومراعاة القلب بما يرد عليه من الخواطر والوحي والإلهام ساعة بساعة.
الراهب :
زدني في البيان.
الصوفي :
نعم، اسمع ما أقوله وافهمه واعقل ما تفهم، إن الله جل ثناؤه خلق الإنسان خلقا سويا، بنية صحيحة تامة وقامة منتصبة وحواس سالمة، ثم رباه وأنشأه وأنماه بفنون من لطفه وغرائب من حكمته إلى أن بلغ أشده واستوى، ثم آتاه حكما وعملا، وقلبا ذكيا، وسمعا دقيقا، وبصرا حادا، ولسانا ناطقا، وعقلا صحيحا، وفهما جيدا، ومشيئة واختيارا، وجوارح طائعة، ثم علمه الفصاحة والبيان، والصناعة والزراعة والتجارة، والتصرف في المعاش وطلب العز والسلطان والأمر والرياسة والتدبير والسياسة وسخر له ما في الأرض جميعا من الحيوان والنبات والمعادن فغدا متحكما عليها تحكم الأرباب، ثم أراد الله أن يزيده من إحسانه وفضله وجوده وإنعامه شيئا آخر أجل وأشرف، وهو ما أكرم به الله ملائكته وخالص عباده وأهل جنته من النعيم الذي لا يشوبه نقص ولا تنغيص، وهو نعيم الفردوس، فبعث بلطفه أنبياءه ورسله يرغبونهم في الجنة ويدلونهم على طريقها كيما يطلبوها ويكونوا لها مستعدين قبل الورود إليها ، ولكي يسهل عليهم مفارقة ما ألفوا في الدنيا من شهواتها ولذاتها، وتخف عليهم شدائد الدنيا ومصايبها، ويحذرونهم أيضا التواني في طلب الجنة كيلا يفوتهم ما وعدوا به، فإنه من فاتته فقد خسر الدنيا والآخرة وضل ضلالا بعيدا ... فهذا رأينا واعتقادنا يا راهب في معاملتنا مع ربنا، وبهذا الاعتقاد طاب عيشنا في الدنيا، وسهل علينا كد العبادة فلا نحس بها، بل نرى أن ذلك نعمة وكرامة وعز وشرف، إذ جعلنا أهلا أن نذكره، وإذ هدى قلوبنا، وشرح صدورنا، ونور أبصارنا، لما عرفنا من كثرة إنعامه، وفنون ألطافه وإحسانه.
الراهب :
جزاك الله خيرا من واعظ ما أبلغه، وطبيب رفيق ما أحذقه، وأخ ناصح ما أشفقه.
38
ومن الواضح أن هذه محاورة خيالية، وليس من الضروري أن يرتاب الراهب في مصيره كل هذا الارتياب، ولكن الشاهد يظهر بهذه المقارنة.
فمؤلف هذه المحاورة يعتقد أن المسيحية تصورها شخصية الراهب، وأن الإسلام الحق تصوره شخصية المتصوف.
أثر المسيحية في التصوف
ولم يكن المسيح بالصورة الوحيدة التي فتنت الصوفية، فهناك عباد بني إسرائيل، وأولئك العباد لهم كلمات وأحوال حفظها الصوفية.
وكذلك يمكن الحكم بأن التصوف هو مجموعة من الأفكار الإسلامية والنصرانية واليهودية، أو هو الخلاصة الروحية من تلك الديانات الثلاث.
وأغلب الظن أن الصوفية لم ينطبعوا على تلك الآراء طائعين، وإنما سرت إليهم فأثرت فيهم على غير وعي، فلما استفحل أمرهم أخذوا يجهرون بأنهم ورثة الأنبياء، وهذا القول فيه رجعة إلى كلمة قديمة عرفت عن بعض فلاسفة اليونان الذين قالوا بأنهم ورثة الآلهة. والأستاذ الدكتور منصور فهمي يرجح انسياق ذلك الخيال اليوناني إلى الصوفية، وهو ترجيح تؤيده المشابهة بين القولين واتفاقهما في المدلول.
والجيلاني يسمى العارفين رجال الغيب، وهم عنده ستة أقسام:
القسم الأول:
هم الصنف الأفضل، والقوم الكمل، هم أفراد الأولياء، المقتفون آثار الأنبياء، غابوا عن عالم الأكوان، في الغيب المسمى بمستوى الرحمن، فلا يعرفون ولا يوصفون، وهم آدميون.
القسم الثاني:
هم أهل المعاني، وأرواح الأواني، يتصور الولي بصورهم، فيكمل الناس في الباطن والظاهر بخيرهم، فهم أرواح، وكأنهم أشباح، سافروا من عالم الشهود، فوصلوا إلى فضاء غيب الوجود، فصار غيبهم شهادة، وأنفاسهم عبادة، وهؤلاء أوتاد الأرض، القائمون لله بالسنة والفرض.
القسم الثالث:
ملائكة الإلهام والبواعث. يطرقون الأولياء، ويكلمون الأصفياء، لا يبرزون إلى عالم الإحساس، ولا يتعرفون لعوام الناس.
القسم الرابع:
رجال المناجاة.. يتصورون للناس، في عالم الإحاس، وقد يدخل أهل الصفاء، إلى ذلك اللواء، فيخبرونهم بالمغيبات، وينبئونهم بالمكتمات.
القسم الخامس:
رجال البسابس، هم أهل الخطوة في العالم، وهم من أجناس بني آدم، يظهرون للناس ثم يغيبون، ويكلمونهم فيجيبون، أكثر سكنى هؤلاء في الجبال والقفار، والأودية وأطراف الأنهار.
39
القسم السادس:
يشبهون الخواطر لا الوساوس. هم المولدون من أبي الفكر وأم التصور، لا يؤبه إلى أقوالهم، ولا يتشوق إلى أمثالهم، فهم بين الخطأ والصواب، وهم أهل الكشف والحجاب.
40
وهذا الكلام يدل على أن من الصوفية من نسي التعاليم الدينية وتسامى إلى الاتصال بعالم الأرواح، وهم لا يذكرون الأنبياء إلا اتقاء لشر الناس ولو أعطيت لهم الحرية لصرحوا بأن ليس بينهم وبين الله وسيط. والإسلام لا يوجب وساطة بين العبد والرب، ولكنه يحتم أن نعرف الله ونعبده في حدود ما أوصى به الأنبياء، على أن من الصوفية من فضل الولاية على النبوة وكانت حجته أن الأنبياء يوحى إليهم بواسطة، وأن الأولياء يتلقون من الله بلا واسطة، وهو كلام رفضه الأكثرون.
محاورة بين صوفي وراهب
وقد توغل الصوفية في الفروض فزعموا أن الرسول قال: لا يزال في هذه الأمة أربعون رجلا من الصالحين على ملة إبراهيم الخليل
41
وزعموا أن من بين هؤلاء الأربعين أربعة هم الأبدال، وإنما سموا الأبدال لأنهم بدلوا خلقا بعد خلق وصفوا تصفية بعد تصفية، وذلك أن هؤلاء الأربعين منتقون - في زعمهم - من جملة أربع مئة من الزاهدين العارفين المحققين؛ وهؤلاء الأربع مئة منتقون من أربعة آلاف من المؤمنين التائبين المخلصين، وكلما مضى شخص من الأربعة قام في رتبته شخص من الأربعين، وإذا مضى شخص من الأربعين قام في رتبته شخص من الأربع مئة، وإذا مضى شخص من الأربع مئة ارتقى إلى منزلته شخص من الأربعة آلاف فبلغ مرتبته وقام مقامه، وكلما مضى شخص من الأربعة آلاف ارتقى مكانه بدلا منه واحد من المؤمنين التائبين المخلصين فبلغ درجته وقام مقامه.
42
ومعنى هذا أن الجمعية الصوفية تؤلف وحدة قومية، هي الصفوة المختارة من المؤمنين. والقارئ يذكر أننا أشرنا في مقدمة الجزء الأول من هذا الكتاب إلى طائفة من اصطلاحات الصوفية جاء فيها أن القطب وهو الغوث عبارة عن الواحد الذي هو موضع نظر الله من العالم في كل زمان، وأن الأوتاد عبارة عن أربعة رجال منازلهم على منازل أربعة من أركان العالم، وأن البدلاء هم سبعة، ومن سافر من القوم عن موضعه ترك جسدا على صورته حتى لا يعرف أحد أنه فقد، وأن النقباء هم الذين استخرجوا خبايا النفوس وهم ثلاث مئة، وأن النجباء أربعون، وهم المشغولون بحمل أثقال الخلق، وأن الإمامين شخصان أحدهما عن يمين الغوث ونظره في الملكوت والآخر عن يساره ونظره في الملك، وهو أعلا من صاحبه وهو الذي يخلف الغوث.
طبقات أهل الغيب
فمن أين جاء الصوفية بهذا النظام الغريب؟
يرى ابن خلدون أنهم نقلوه عن الشيعة «حتى أنهم لما أسندوا لباس خرقة التصوف ليجعلوه أصلا لطريقتهم ونحلتهم رفعوه إلى علي رضي الله عنه».
43
والواقع أن الصلة وثيقة بين التشيع والتصوف، فعلي هو معبود الشيعة وهو إمام الصوفية، أليس هو الذي أشار إلى العارفين حين قال لكميل بن زياد: أولئك الأقلون عددا، الأعظمون عند الله قدرا، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فباشروا روح حقيقة اليقين
44
أليس هو الذي أثنى على الحسن البصري إمام الصوفية.
45
وقد حدثوا أن الجنيد أخذ الطريقة عن خاله سري السقطي، وكان أخذها عن معروف الكرخي، ومعروف الكرخي أخذها عن علي بن موسى الرضا.
46
ونحن نعرف من علي بن موسى الرضا، فهو من أقطاب أهل البيت. والشيعة أنفسهم يعطفون على الصوفية أبلغ العطف، وقد أثنى الشريف المرتضى في أماليه على الحسن البصري أطيب الثناء.
47
والصوفية ينقلون فرحين ما روي عن علي أنه قال: علمني رسول الله
صلى الله عليه وسلم
سبعين بابا من العلم لم يعلم ذلك أحدا غيري.
48
وقد أثنى علي على عمر بن الخطاب، ونقل الطوسي ذلك الثناء وقال: ولأهل الحقائق أسوة وتعلق بعمر رضي الله عنه، ثم ذكر أنه اختار لبس المرقعة والخشونة وترك الشهوات واجتناب الشبهات وإظهار الكرامات وقلة المبالاة بمن لامه من الخلق عن انتصاب الحق.
49
ألا ترون كيف فسر الطوسي ثناء علي على عمر فألبس ابن الخطاب شمائل صوفية؟
وقام رجل إلى علي بن أبي طالب فسأله عن الإيمان فقال: الإيمان على أربع دعائم، على الصبر واليقين والعدل والجهاد، ثم وصف الصبر على عشر مقامات، وكذلك اليقين والعدل والجهاد، فوصف كل واحد منها على عشر مقامات.
50
قال الطوسي: فإن صح ذلك عنه فهو أول من تكلم في الأحوال والمقامات.
الصلة بين التشيع والتصوف
وطبيعة الأشياء توجب أن يقترب التشيع والتصوف، فالشيعة انهزموا في ميدان السياسية، والصوفية انهزموا في ميدان الحياة، والاشتراك في الهزيمة يقرب بين النفوس، وقد مضت في هذا الكتاب فقرات كثيرة تبين أن المرء يتصوف حين ينهزم؛ لأنه حين يفقد سنده في عالم المادة يذهب فيلتمس الغوث في عالم الروح.
ومما يقرب بين المذهبين أن الشيعة والصوفية يؤمنون بالأسرار، ويبحثون عن النجاة في العوالم الغيبية، ولذلك تشابهت أوهامهم وظنونهم وأمانيهم، وتقاربت مذاهبهم المعاشية والاجتماعية، وصرت ترى لديهم شمائل مشتركة في تناول الأشياء، وفهم الحياة والناس، حتى أدبهم يتشابه، فتقع أمامك القطعة من الشعر فتنسبها إلى من شئت فتمضي طائعة إلى من تضيفها إليه من الشيعة أو الصوفية ... وأصدق دليل على اقتراب المذهبين أن أهل فارس هم أكثر الناس تصوفا بين الأمم الإسلامية، وإنما كانوا كذلك لأن التشيع ألقى رحاله هناك.
ولو مضينا ندرس التصوف في مصر لرأينا عند الصوفية من المصريين ألفاظا كثيرة كانت مما يستعمله الفاطميون. فليس من الغريب أن يحكم ابن خلدون بأن الصوفية نقلوا نظامهم عن التشيع.
قيمة التصوف في الحياة الخلقية
لم يبق بعد هذه التفاصيل إلا أن نقول إن الصوفية يمتازون من بين رجال الأخلاق بصفة أساسية هي التفلسف، فأولئك قوم مسلمون يأبون أن يقفوا عند حرفية النصوص فيمضون في الدرس والتأويل، ثم يقبلون على النفس فيجعلونها محور الأخلاق.
فالمسلم يعمل في حدود الأوامر الشرعية، وينزجر في حدود الزواجر الشرعية، أما الصوفي فيتسامى إلى إدراك المغيبات، ويحرص على فهم الدقائق الخفية في حركات الخواطر والقلوب.
وخلاصة القول أن الصوفي يحترم الشخصية كل الاحترام فيستفتي قلبه وإن أفتاه المفتون، وقد كان لذلك عيوب منها الإسراف في التصورات العقلية التي انتهت إلى القول بوحدة الوجود، أو بالحلول، أو بتفضيل الأولياء على الأنبياء. وتلك عيوب في نظر من يقيسون الأخلاق بالمقاييس الشرعية، أما الذي يقيسونها بالمقاييس الفلسفية فيرون عند الصوفية أصولا من إجلال الفكر وإعزاز العقل. وليس ذلك بالفضل القليل.
أقول هذا وأنا أعرف أن ليس لي من عمل في هذا الكتاب إلا تأريخ هذا المذهب الفلسفي، فليس من همي أن أحارب التصوف أو أن أدافع عنه فلا يظن قوم أني أتحزب للتصوف، وإن كان من حقي أن أعطف عليه في حدود الاعتدال.
نظام البحث
أما خطتنا في هذه الدراسات فهي عرض المسائل الأساسية التي تتكون بها الشخصية الخلقية، ولن نهتم بالجزئيات، لأن أمرها يطول، ويكفي أن يعرف القارئ بهذه الدراسات خطر التصوف في الأخلاق.
ولنقيد هنا أننا وقفنا عند المعاني، فلم نهتم بالأشخاص ولا التاريخ، وفي هذا التمهيد ما يكفي لبيان الأطوار التي مرت بها فكرة التصوف في العهود الإسلامية.
ومن الواضح أن لنا الحق في اختيار المنهج الذي نرتضيه لنظام الكتاب ولا يطلب منا إلا مسايرة ما ارتضيناه في أسلوب التأليف. وقد لا يكون هذا الأسلوب خير الأساليب، ولكنه يصل بنا على خير وجه إلى تحقيق ما نريد.
هذا القسم خاص بالأخلاق، ولكن القارئ سيرانا نبتدئه بالكلام عن الأدعية والأوراد، وفيها ملامح أدبية خليقة بأن يجعلها من القسم الأول، ولكنا رأينا بعد التأمل أن فصل الأدعية تغلب عليه النزعة الخلقية؛ لأن فيه حديثا عن إعداد النفس للدعاء، ولأن الأدعية في ذاتها من وسائل الاتصال بالله، والاتصال بالله هو الغاية الخلقية عند أهل التصوف.
ومن المؤكد أن الأوراد تمثل النظام الخلقي في حياة المريد، فوضعها في قسم الأخلاق ليس من الفضول.
ونعترف مخلصين، أن هذا البحث يحتاج إلى جهد أكبر مما نملك، ولكن يعزينا أن القارئ سيذكر أن جهد المقل غير قليل.
الأدعية والأوراد
الدعاء في القرآن
الأدعية جمع دعاء، وهو النداء، ويرد أحيانا في القرآن بمعنى العبادة، كقوله عز شأنه في سورة الأعراف:
إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقي
وقوله في سورة الرعد:
له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال
وقوله في سورة الكهف:
واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا
وقوله في سورة الحج:
ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير
وقوله في سورة فاطر:
ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير * إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير
وفي سورة الفرقان:
والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق .
وعند تأمل هذه الشواهد نجد الدعاء حين يرد بمعنى العبادة يتضمن أيضا معنى النداء.
والدعاء مما يوصي به الأدب في الشريعة الإسلامية، وفي القرآن الكريم
وقال ربكم ادعوني أستجب لكم
وفي سورة البقرة:
وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان .
أدعية الأنبياء
والدعاء قديم جدا في التقاليد الدينية، وقد قص القرآن نماذج من أدعية الأنبياء، منها ما ورد في سورة البقرة على لسان إبراهيم:
رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات ...
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم * ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم * ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم .
وروى القرآن دعوات إبراهيم بصورة أخرى في سورة إبراهيم فقال:
وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام * رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم * ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون * ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء * الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء * رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء * ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب .
ومن دعاء موسى ما ورد في سورة طه:
رب اشرح لي صدري * ويسر لي أمري * واحلل عقدة من لساني * يفقهوا قولي * واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي * اشدد به أزري * وأشركه في أمري * كي نسبحك كثيرا * ونذكرك كثيرا * إنك كنت بنا بصيرا
وفي سورة القصص:
رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي .
ومن دعاء أيوب ما ورد في سورة الأنبياء
أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين .
ومن دعاء نوح ما ورد في سورة القمر
أني مغلوب فانتصر
وما ورد في سورة نوح:
رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا * رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا .
ومن دعاء زكريا ما ورد في سورة آل عمران
رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء .
وفي سورة آل عمران جعل الله قول الصديقين هذا الدعاء:
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين .
والله يوصي أنبياءه بالدعاء، من ذلك ما جاء في سورة الإسراء وصية لنبيه محمد:
وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا
وما جاء في سورة (المؤمنون) وصية لنبيه نوح
وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين
وفي سورة الكهف يوصي رسوله بتعليم أمته أسلوب الدعاء
قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا .
وفي هذه الشواهد دلائل على أن الدعاء قديم جدا في التقاليد الدينية، وأدعية الأنبياء ذكرت في القرآن تذكيرا للمؤمنين بما فيها من معنى العبودية والإيمان بأمر الأمر كله بيد الله، وأن من التقى أن يدعو الإنسان ربه، وأن يسأله النصر والغفران.
طبيعة الإنسان
والقرآن يحدثنا بأن الإنسان قد لا يعرف ربه إلا عند البأساء، ففي سورة الزمر
وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله
وفي سورة فصلت:
وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض .
أدعية الرسول
وقد عني الرسول
صلى الله عليه وسلم
بترغيب أمته في الدعاء. فقال: «ليس شيء أكرم على الله من الدعاء»، وقال: «إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم - عباد الله - بالدعاء»، وقال: «إن الله عز وجل حيي كريم يستحي إذا بسط الرجل إليه يديه أن يردهما صفرا ليس فيهما شيء»، وقال: «دعوة في السر تعدل سبعين دعوة في العلانية»، وقال: «إن لله عز وجل في الليل والنهار عتقاء من النار، ولكل مسلم ومسلمة في كل يوم وليلة دعوة مستجابة»، وقال: «إن الله تعالى يقول: من ذا الذي دعاني فلم أجبه، وسألني فلم أعطه، واستغفرني فلم أغفر له، وأنا أرحم الراحمين»، وقال: «إذا فتح الله على عبد باب الدعاء فليكثر فإن الله يستجيب له» وقال: «من لم يسأل الله يغضب عليه».
1
وقد رويت عن رسول الله أدعية كثيرة، منها ما كان يقوله بعد ركعتي الفجر قبل صلاة الصبح:
اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي، وتجمع بها شملي، وتلم بها شعثي، وترد بها ألفتي، وتصلح بها ديني، وتحفظ بها غائبي، وترفع بها شاهدي، وتزكي بها عملي، وتبيض بها وجهي، وتلهمني بها رشدي، وتعصمني بها من كل سوء. اللهم أعطني إيمانا صادقا، ويقينا ليس بعده كفر، ورحمة أنال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك الفوز عند القضاء، ومنازل الشهداء، وعيش السعداء، والنصر على الأعداء، ومرافقة الأنبياء. اللهم إني أنزل بك حاجتي، وإن ضعف رأيي، وقلت حيلتي، وقصر عملي، وافتقرت إلى رحمتك، فأسألك يا قاضي الأمور، ويا شافي الصدور، كما تجيرني بين البحور، أن تجيرني من عذاب السعير، ومن دعوة الثبور، ومن فتنة القبور ... الخ.
2
وفي بعض عبارات هذا الدعاء ضعف، ولا سيما هذه العبارة: «أسألك كما تجيرني بين البحور، أن تجيرني من عذاب السعير»، وقد يكون هذا الدعاء مما أضيف إلى كلام الرسول.
وحدثنا الغزالي
3
عن دعاء قال إنه مأثور عن الرسول
صلى الله عليه وسلم
وعن السلف في يوم عرفة، وهو دعاء قصير هذا نصه:
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي بصري نورا، وفي سمعي نورا، وفي لساني نورا. اللهم اشرح لي صدري ويسر لي أمري.
وروي أنه كان يقول في سجوده: «أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك».
4
وفي البخاري أنه كان يدعو في الصلاة «اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات».
5
وفي كتاب الدعوات من صحيح البخاري أن النبي قال: سيد الاستغفار أن تقول:
اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
6
ومن الاستعاذات المأثورة عن النبي
صلى الله عليه وسلم :
اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر، الله إني أعوذ بك من طمع يهدي إلى طبع، ومن طمع في غير مطمع، من طمع حيث لا مطمع. اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع ودعاء لا يسمع، ونفس لا تشبع، وأعوذ بك من الجوع، فإنه بئس الضجيع، ومن الخيانة، فإنها بئست البطانة، ومن الكسل والبخل والجبن ومن الهرم ومن أن أرد إلى أرذل العمر، ومن فتنة الدجال وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات.
7
والأدعية المأثورة عن رسول الله كثيرة جدا، وهي تمثل رجاءه في الله واعتماده عليه، وفناءه فيه.
اهتمام المسلمين بترجمة أدعية الأنبياء
ومن مظاهر اهتمام المسلمين بالدعاء أنهم نقلوا ما وصل إليهم من أدعية الأنبياء، ومن غريب ذلك ما قالت عائشة:
8 «لما أراد الله عز وجل أن يتوب على آدم
صلى الله عليه وسلم
طاف بالبيت سبعا، وهو يومئذ ليس بمبني فجلس على ربوة حمراء ثم قام فصلى ركعتين ثم قال:
اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي، فاقبل معذرتي؛ وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي، وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنوبي. اللهم إني أسألك إيمانا يباشر قلبي، ويقينا صادقا حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت علي والرضا بما قسمته لي يا ذا الجلال والإكرام.
ومن الواضح أنه من العسير نقل ما دعا به آدم، ولكن المسلمين بفطرتهم الصوفية اطمأنوا إلى أنه لا بد لآدم من دعاء، وكذلك اطمأنوا إلى أن الله أوحى إليه «إني قد غفرت لك، ولم يأتني أحد من ذريتك فيدعوني بمثل الذي دعوتني به إلا غفرت له وكشفت غمومه وهمومه ونزعت الفقر من بين عينيه، واتجرت له من وراء كل تاجر وجاءته الدنيا وهي راغمة وإن كان لا يريدها».
وإن صحت رواية هذا الكلام عن عائشة فهو دليل على أن العرب قبل الإسلام كانوا يحبون أن يكون (البيت) من مواضع الدعاء المقبول، وأنه كان كذلك منذ آدم وقبل أن يبنى.
وحدثوا أيضا أن إبراهيم كان يقول إذا أصبح:
اللهم هذا خلق جديد فافتحه علي بطاعتك، واختمه لي بمغفرتك ورضوانك، وارزقني فيه حسنة تقبلها مني، وزكها وضعفها لي، وما عملت من سيئة فاغفرها لي، إنك غفور رحيم، ودود كريم.
وناقل هذا الكلام وهو الغزالي
9
يذكر أن إبراهيم قال: «ومن دعا بهذا الدعاء إذا أصبح فقد أدى شكر يومه» ومعنى ذلك أن «الأوراد» قديمة جدا في التقاليد الدينية.
وحدثوا أن داود كان إذا دعا في جوف الليل قال:
اللهم نامت العيون، وغارت النجوم، وأنت حي قيوم، اغفر لي ذنبي العظيم، إنك عظيم، وإنما يغفر العظيم العظيم، إليك رفعت رأسي، عامر السماء، نظر العبيد إلى أربابها، اللهم تساقطت القرى، وأنت دائب الدهر معد كرسي القضاء.
10
وأن يوسف كان يدعو فيقول:
يا عدتي عند كربتي، ويا صاحبي في وحدتي، ويا غياثي عند شدتي، ومفزعي عند فاقتي، ورجائي إذا انقطعت حيلتي، يا إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب اجعل لي فرجا ومخرجا واقض حاجتي.
11
وأن «بكاء بني إسرائيل» كان يقول:
اللهم لا تؤدبني بعقوبتك، ولا تمكر بي في حيلتك، ولا تؤاخذني بتقصيري عن رضاك، عظيم خطيئتي فاغفر ويسير عملي فتقبل، كما شئت تكون مشيئتك، وإذا عزمت يمضي عزمك، فلا الذي أحسن استغنى عنك وعن عونك، ولا الذي أساء استبد بشيء يخرج به من قدرتك، فكيف لي بالنجاة ولا توجد إلا من قبلك.
وفي هذا الدعاء محاولة عقلية سنجد أمثالها في «أحزاب» الصوفية.
ونقلوا أدعية كثيرة منسوبة إلى المسيح، منها دعاؤه الذين كان يدعو به للمرضى والزمني والعميان والمجانين
12
ودعاؤه حين أخذه اليهود ليصلبوه
12
وهذان الدعاءان يجريان مجرى التحميد.
ونقل الغزالي أنه كان يقول:
اللهم إني أصبحت لا أستطيع دفع ما أكره، ولا أملك نفع ما أرجو وأصبح الأمر بيد غيري، وأصبحت مرتهنا بعملي، فلا فقير أفقر مني. اللهم لا تشمت بي عدوي، ولا تسوء بي صديقي، ولا تجعل مصيبتي في ديني، ولا تجعل الدنيا أكبر همي، ولا تسلط علي من لا يرحمني، يا حي يا قيوم.
وأدعية عيسى وتحميداته كثيرى تزخر بها مؤلفات الصوفية.
وفيما نقله المتقدمون من أدعية الأنبياء ما يؤيد ما نريد إثباته، وهو شغف المسلمين بمأثور الدعوات، ولا ننسى أن أدعية الأنبياء نقلت عن لغات غير عربية، فوضعها ناقلوها في أسلوب غنائي يترواح بين السجع والازدواج.
أدعية المؤمن في مختلف الأحوال
وفي كتب الفقه والآداب الإسلامية أدعية مختلفة باختلاف ما يباشر المؤمن من الأعمال، وللمسلم الصالح فرص لا تنقطع للدعاء، فيقول حين يجلس للوضوء «أعوذ بك من همزات الشياطين، وأعوذ بك رب أن يحضرون».
ويقول عند غسل يديه: «اللهم إني أسألك اليمن والبركة، وأعوذ بك من الشؤم والهلكة».
ويقول في الاستنشاق: «اللهم أوجد في رائحة الجنة، وأنت راض عني».
وعند الاستنثار: «اللهم إني أعوذ بك من روائح النار، ومن سوء الدار».
ويقول عند غسل كل عضو: «اللهم بيض وجهي بنورك يوم تبيض وجوه أوليائك، ولا تسود وجهي بظلماتك يوم تسود وجوه أعدائك».
ويقول عند غسل اليمين: «اللهم أعطني كتابي بيميني، وحاسبني حاسبا يسيرا» وعند غسل الشمال «اللهم إني أعوذ بك أن تعطيني كتابي بشمالي أو من وراء ظهري».
وعند مسح الرأس: «اللهم غشني برحمتك، وأنزل علي من بركاتك، وأظلني تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك»، وعند مسح الأذنين: «اللهم اجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم أسمعني منادي الجنة مع الأبرار»، وعند مسح الرقبة: «اللهم فك رقبتي من النار، وأعوذ بك من السلاسل والأغلال»، وعند غسل الرجل اليمنى: «اللهم ثبت قدمي على الصراط المستقيم يوم تزل الأقدام في النار»، وعند غسل الرجل اليسرى: «أعوذ بك أن تزل قدمى على الصراط يوم تزل أقدام المنافقين في النار».
ويقول عند ختام الوضوء: «أشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، سبحانك الله وبحمدك، لا إله إلا أنت، عملت سوءا وظلمت نفسي، أستغفرك اللهم وأتوب إليك، فاغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين، واجعلني من عبادك الصالحين، واجعلني عبدا صبورا شكورا، واجعلني أذكرك ذكرا كثيرا، وأسبحك بكرة وأصيلا».
وهناك أدعية تسبق الوضوء، وأدعية تقال عند الأذان وفي أثناء الصلاة وبعد الصلاة، وأدعية تقال قبل النوم وعند اليقظة وأدعية تقال في الصوم والفطر وعند مناسك الحج. وفي ذلك كله ما يغمر المسلم بنفحة روحانية هي من أهم آثار التصوف في الأخلاق.
وقد اهتم الغزالي بعرض طائفة من «الأدعية المأثورة عند كل حادث من الحوادث» فيقول: المؤمن حين يخرج إلى المسجد «اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا إليك، فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك، فأسألك أن تنقذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت».
ويقول حين يخرج من المنزل لحاجة: «باسم الله، رب أعوذ بك أن أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي».
ويقول إذا دخل السوق: «اللهم إني أسألك خير هذه السوق وخير ما فيها، اللهم إني أعوذ بك من شرها وشر ما فيها، اللهم إني أعوذ بك أن أصيب فيها يمينا فاجرة، أو صفقة خاسرة».
ويقول إن كان عليه دين: «اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك».
ويقول عند لبس الثوب الجديد: «اللهم كسوتني هذا الثوب فلك الحمد، أسألك من خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له».
ويقول عند التطير: «اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يذهب بالسيئات إلا أنت، لا حول ولا قوة إلا بالله».
وعند رؤية الهلال: «اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والبر والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحب وترضى، والحفظ عما تسخط».
وعند هبوب الريح: «اللهم إني أسألك خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به».
ويقول حين تبلغه وفاة أحد الناس: «اللهم اكتبه في المحسنين، واجعل كتابه في عليين، واخلفه على عقبه في الغابرين، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله».
ويقول عند التصدق: «ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم».
وعند الخسارة: «عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون».
وعند ابتداء الأمور: «ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا، رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري».
وعند النظر إلى السماء: «ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار، تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا».
وعند رؤية الصواعق: «اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك».
وعند المطر: «اللهم سقيا هنيا، وصيبا نافعا، اللهم اجعله صيب رحمة ولا تجعله صيب عذاب».
وعند الغضب: «اللهم اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من الشيطان الرجيم».
وعند الغزو: «اللهم أنت عضدي ونصيري وبك أقاتل».
وعند الهم: «اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك. ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء غمي، وذهاب حزني وهمي».
وعند النظر في المرآة: «الحمد لله الذي سوى خلقي فعدله، وكرم صورة وجهي وحسنها وجعلني من المسلمين».
وعند اشتراء خادم أو غلام أو دابة: «اللهم إني أسألك خيره وخير ما جبل عليه، وأعوذ بك من شره وشر ما جبل عليه».
وعند التهنئة بالزواج: «بارك الله فيك وبارك عليك، وجمع بينكما في خير».
وعند قضاء الدين يقول للمقضي له: «بارك الله لك في أهلك وفي مالك».
13
أثر الأدعية في الأدب والأخلاق
وقد عرض النويري في نهاية الأرب لأمثال هذه الأدعية فأفاض فيها القول، ورد أكثرها إلى رسول الله
14
والمهم هو تذكير القارئ بأثرها في الأدب والأخلاق، أما من جهة الأدب فحسبه أن يتذكر أن المؤمن الذي يحفظ ما أثر من الأدعية في مختلف الأحوال يظفر بثروة نفيسة من الألفاظ والتعابير، لها سلطان خفي أو ملحوظ على كلامه وتفكيره، وذلك مغنم ليس بالقليل. وأما من جهة الأخلاق فهي رياضة على حسن الأدب مع الله وتمثل قدرته ورحمته في كل لحظة يهم فيها المرء بعمل حقير أو جليل. وشعور المؤمن بعظمة ربه هو أساس الخوف من الصغائر والكبائر، والرغبة في التقرب إليه بصالح الأعمال. يضاف إلى ذلك أن هذه الأدعية تكرر وتعاد لأن أكثرها موصول بظروف تقع كل يوم، وفي تكرارها ما يوجب طبعها في النفس؛ وذلك ضمان لتأثيرها البالغ في الأدب والأخلاق.
آداب الدعاء
وقد اهتم الصوفية بشرح ما تجب ملاحظته عند الدعاء، فوضعوا لذلك عشرة آداب، وتلك الآداب العشرة تدل على فهمهم للأحوال النفسية، وبصرهم بتهيئة القلوب للدعاء.
فهم الصوفية لأحوال النفس
الأدب الأول:
أن يترصد المؤمن لدعائه الأوقات الشريفة: كيوم عرفة من السنة، ورمضان من الأشهر، ويوم الجمعة من الأسبوع، ووقت السحر من ساعات الليل.
ونحن لا نفهم قيمة هذا التخصيص، ولا بد من الاعتراف بأنه من التقاليد الموسمية، ولكن هذا لا يمنع من الموافقة على ما فيه من الفائدة من حيث توجيه النفس والقلب إلى أوقات يحترمها المسلمون لاتصالها بأكبر مواسم العبادات.
الثاني:
أن يغتنم الأحوال الشريفة: فيدعو عند زحف الصفوف في سبيل الله، وعند نزول الغيث، وعند إقامة الصلوات المكتوبة، وعند الصوم، وعند السجود.
وفي هذا رياضة على تمجيد بعض الأحوال، وخاصة زحف الصفوف في القتال المشروع.
الثالث:
أن يدعو مستقبل القبلة ويرفع يديه بحيث يرى بياض إبطيه: وقيمة هذا من الوجهة النفسية ترجع إلى الاهتمام بالدعاء، وقد تحدث عن هذا الأدب كثير من المؤلفين.
الرابع:
خفض الصوت بين المخافتة والجهر:
وذلك ليطمئن الداعي إلى أن الله ليس بأصم ولا غائب، كما قال الرسول حين رأى ناسا يرفعون أصواتهم بالدعاء.
السجع في الدعاء
الخامس:
أن لا يتكلف السجع في الدعاء:
وهذا أدب جميل يراد به تربية النفس على إيثار الطبع وترك التكلف، وقد روي أن النبي أنكر السجع في الدعاء وقال: «إياكم والسجع في الدعاء، حسب أحدكم أن يقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل» ومر بعض السلف بقاص يدعو بسجع فقال له: «أعلى الله تبالغ؟».
والمكروه هو تكلف السجع أما السجع المقبول فلا كراهة فيه، فقد أثرت عن رسول الله أدعية مسجوعة، كقوله: «أسألك الأمن يوم الوعيد، والجنة يوم الخلود، مع المقربين الشهود، والركع السجود، الموفين بالعهود، إنك رحيم ودود، وإنك تفعل ما تريد».
وأثر عن الرسول أنه قال: «سيكون قوم من هذه الأمة يعتدون في الدعاء والطهور»، وفسر ابن الأثير الاعتداء في الدعاء بالخروج عن الوضع الشرعي والسنة المأثورة، وعرض له الغزالي في موطنين باب الوضوء
1
وباب الدعاء عند الكلام عن السجع، فكأنه فسر الاعتداء بالسجع، وكذلك فسر الآية
ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ، ولكن سياق الآية يعين أن المراد هو النهي عن رفع الصوت.
ونقل النويري أن ابن عباس قال: «إياك والسجع في الدعاء، فإني شهدت النبي
صلى الله عليه وسلم
وأصحابه لا يفعلون ذلك».
2
وفي منظومة الاستغفار للسيد البكري:
أستغفر الله من نظم القوافي ومن
نثر وما قد جرى سجعا على نسق
3
وهو متأثر بما ورد من كراهة الشعر والسجع.
ولكن ذلك كله لا ينقض ما ورد من السجع في القرآن والحديث، فالمكروه هو السجع المتكلف، لا مطلق السجع. وقد فصلنا هذه القضية في الجزء الأول من كتاب (النثر الفني).
إعداد النفس لتلقي الفنحات الآلهية
السادس:
التضرع والخشوع والرغبة والرهبة.
السابع:
أن يوقن بالإجابة: وهذا أدب يراد به صدق اليقين بفضل الله عز وجل.
الثامن:
أن يلح في الدعاء ويكرره ولا يستبطئ الإجابة.
التاسع:
أن يفتتح الدعاء بذكر الله والصلاة على نبيه.
العاشر:
التوبة ورد المظالم، وهو خير آداب الدعاء.
ولهذه الآداب تفاصيل يجدها القارئ في الجزء الأول من الإحياء والجزء الخامس من نهاية الأرب، وقد اهتم الغزالي بالأدب الباطن وقال: «هو الأصل في الإجابة»، وذكر أخبارا عن بني إسرائيل، وكيف استسقى موسى عليه السلام فلم يسق الله قومه، وأوحى إليه: «إني لا أستجيب لك ولا لمن معك وفيكم نمام».
وجملة هذه الآداب تبين كيف يحرص الصوفية على صفاء النفس، وكيف يعدونها لتلقي النفحات الإلهية، وللقارئ أن يتصور حال النفس حين تراض على هذه الآداب، فوصل النفس بالله، واستحضار فقرها إليه، ورهبتها منه ورغبتها فيه، وانتظارها لفضله في ثقة ويقين، كل أولئك من العوامل في صقل النفس، وتطهير القلب، وتربية الوجدان.
وانتظار الخير كله من الله، وتهيئة النفس لذلك باب أصيل في بناء الملكات الأخلاقية، ولا سيما إذا لاحظنا مخلصين أن الأمر كله بيد الله، وأن العبد لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا.
فمن كان في ريب فليجرب الثقة بالله مرة واحدة، وليدعه فإنه عز شأنه لا يرد الدعاء.
دعاء الاستسقاء
الاستسقاء عند بني إسرائيل
دعاء الاستسقاء من التقاليد القديمة في الديانات السامية، وكان معروفا عند بني إسرائيل، قال سعيد بن جبير: قحط الناس في زمن ملك من ملوك بني إسرائيل فاستسقوا، فقال الملك لبني إسرائيل: ليرسلن الله تعالى علينا السماء أو لنؤذينه، قيل له: وكيف تقدر أن تؤذيه، وهو في السماء، فقال: أقتل أولياءه وأهل طاعته فيكون ذلك أذى له.
1
وقال سفيان الثوري: بلغني أن بني إسرائيل قحطوا سبع سنين حتى أكلوا الميتة من المزابل، وأكلوا الأطفال، وكانوا كذلك يخرجون إلى الجبال يبكون ويتضرعون، فأوحى الله عز وجل إلى أنبيائهم عليهم السلام لو مشيتم إلي بأقدامكم حتى تحفى ركبكم، وتبلغ أيديكم عنان السماء، وتكل ألسنتكم عن الدعاء، فإني لا أجيب لكم داعيا، ولا أرحم لكم باكيا، حتى تردوا المظالم إلى أهلها، ففعلوا فمطروا من يومهم.
1
وقال مالك بن دينار: أصاب الناس في بني إسرائيل قحط فخرجوا مرارا، فأوحى الله عز وجل إلى نبيهم أن أخبرهم أنكم تخرجون إلي بأبدان نجسة، وترفعون إلي أكفا قد سفكتم بها الدماء، وملأتم بطونكم من الحرام، الآن قد اشتد غضبي عليكم ولن تزدادوا مني إلا بعدا.
2
وهذه الشواهد تدل على أنه كان مفهوما عند بني إسرائيل أن الدعاء إنما يقبل من التائبين.
الاهتمام به في كتب الفقه الإسلامي
وقد اهتمت كتب الفقه الإسلامي بصلاة الاستسقاء، وبينت أنها تكون «إذا غارت الأنهار، وانقطعت الأمطار، أو انهارت قناة» وأنه يستحب للإمام أن يأمر الناس أولا بصيام ثلاثة أيام، وما أطاقوا من الصدقة، والخروج من المظالم، والتوبة من المعاصي، وفي اليوم الرابع يخرج بهم وبالعجائز والصبيان متنظفين في ثياب بذلة واستكانة متواضعين. وقيل: يستحب إخراج الدواب لمشاركتهم في الحاجة، ولقوله
صلى الله عليه وسلم : «لولا صبيان رضع، ومشايخ ركع، وبهائم رتع، لصب عليكم العذاب صبا» فإذا اجتمعوا في المصلى الواسع من الصحراء نودي: الصلاة جامعة فصل بهم الإمام ركعتين مثل صلاة العبد بغير تكبير، ثم يخطب خطبتين، وبينهما جلسة خفيفة، ويكون الاستغفار معظم الخطبتين، ويقول في الدعاء:
اللهم إنك أمرتنا بدعائك، ووعدتنا بإجابتك، فقد دعوناك كما أمرتنا فأجبنا كما وعدتنا، اللهم فامنن علينا بمغفرة ما قارفنا، وإجابتك في سقيانا وسعة أرزاقنا.
وصلاة الاستسقاء من أهم مظاهر التصوف، فإن المرء لا يقوم بها إلا وقد آمن إيمانا صادقا برحمة الله وفضله، وكيف يطمع المرء في أن تتغير القوانين الطبيعية فتمطر السماء لدعائه إلا إن وثق بأن الأمر كله لله، وأنه يحجب السماء حين يشاء، ويرسلها حين يشاء؟
وانظر هذا الخبر وتأمل ما فيه من صدق اليقين:
قال عطاء السلمي: منعنا الغيث فخرجنا نستسقي فإذا نحن بسعدون المجنون في المقابر، فنظر إلي فقال: يا عطاء! أهذا يوم النشور، أو بعث ما في القبور؟ فقلت: لا، ولكنا منعنا الغيث، فخرجنا نستسقي. فقال: يا عطاء! بقلوب أرضية؟ أم بقلوب سماوية؟ فقلت: بل بقلوب سماوية. فقال: هيهات! يا عطاء، قل للمتبهرجين لا تتبهرجوا، فإن الناقد بصير! ثم رمق السماء بطرفه وقال : إلهي وسيدي ومولاي! لا تهلك بلادك، بذنوب عبادك، ولكن بالمكنون من أسمائك، وما وارت الحجب من آلائك، إلا ما سقيتنا ماء غدقا فراتا تحيي به العباد، وتروى به البلاد، يا من هو على كل شيء قدير! قال عطاء: فما استتم الكلام حتى أرعدت السماء وأبرقت وجاءت بمطر كأفواه القرب، فولى وهو يقول:
أفلح الزاهدون والعابدونا
إذ لمولاهم أجاعوا البطونا
أسهروا الأعين العليلة حبا
فانقضى ليلهم وهم ساهرونا
شغلتهم عبادة الله حتى
قيل في الناس إن فيهم جنونا
3
وفي عبارة «بقلوب أرضية، أم بقلوب سماوية» ما يشعر بأدق المعاني الروحية، ولهذا أثر بالغ في تربية الأخلاق، إذ يروض المرء على الإيمان بأن الخير لا يصيب إلا المخلصين من الأتقياء.
نماذج من أدعية الاستسقاء
لم يقتصر المسلمون على دعاء واحد في الاستسقاء، كما اقتصروا على دعاء واحد في التشهد مثلا، وإنما انطلقت قرائحم فافتنوا فيه افتنانا عظيما. فكان الاستسقاء من أسباب الثروة الأدبية في الدعاء، وكان يتفق أن تختلف الأدعية على لسان الرجل الواحد حين يتكرر الاستسقاء، كما وقع لعلي بن أبي طالب، فقد خطب مرة فقال:
اللهم قد انصاحت جبالنا،
4
واغبرت أرضنا، وهامت دوابنا، وتخيرت في مرابضها، وعجت عجيج الثكالى على أولادها، وملت التردد في مراتعها، والحنين إلى مواردها، اللهم فارحم أنين الآنة، وحنين الحانة، الله فارحم حيرتها في مذاهبها، وأنينها في موالجها. اللهم خرجنا إليك حين اعتكرت علينا حدابير
5
السنين، وأخلفتنا مخايل الجود، فكنت الرجاء للمبتئس والبلاغ للملتمس، ندعوك حين قنط الأنام، ومنع الغمام، وهلك السوام، أن لا تؤاخذنا بأعمالنا، ولا تأخذنا بذنوبنا، وانشر علينا رحمتك بالسحاب المنبعق،
6
والربيع المغدق والنبات المونق، سحا وابلا تحيي به ما قد مات، وترد به ما قد فات. اللهم سقيا منك محيية مروية، تامة عامة طيبة مباركة، زاكيا نبتها، ثامرا فرعها، ناضرا ورقها، تنعش بها الضعيف من عبادك، وتحيي بها الميت من بلادك. اللهم سقيا منك تعشب بها نجادنا، وتجري بها وهادنا، وتخصب بها جنابنا، وتبقل بها ثمارنا، وتعيش بها مواشينا، وتندي بها أقاصينا ، وتستعين بها ضواحينا، من بركاتك الواسعة، وعطاياك الجزيلة، على بريتك المرملة، ووحشك المهملة، وأنزل علينا سماء مخضلة
7
مدرارا هاطلة، يدافع الودق منها الودق،
8
ويحفز القطر منها القطر غير خلب برقها،
9
ولا جهام عارضها،
10
ولا قزع ربابها،
11
ولا شفان ذهابها،
12
حتى يخصب لإمراعها المجدبون، ويحيا ببركتها المسنتون،
13
فإنك تنزل الغيث بعد ما قنطوا وتنشر رحمتك وأنت الولي الحميد.
وخطب مرة أخرى فقال بعد التحميد:
ألا وإن الأرض التي تحملكم، والسماء التي تظلكم، مطيعتان لربكم، وما أصبحتا تجودان لكم ببركتهما توجعا لكم، ولا زلفة إليكم، ولا لخير ترجوانه منكم، ولكن أمرتا بمنافعكم فأطاعتا، وأقيمتا على حدود مصالحكم فأقامتا.
إن الله يبتلي عباده عند الأعمال السيئة بنقص الثمرات، وحبس البركات وإغلاق خزائن الخيرات، ليتوب تائب، ويقلع مقلع، ويتذكر متذكر، ويزدجر مزدجر، وقد جعل الله الاستغفار سببا لدرور الرزق، ورحمة الخلق، فقال:
ستغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبني
فرحم الله امرءا استقبل توبته، واستقال خطيئته، وبادر منيته.
اللهم إنا خرجنا إليك من تحت الأستار والأكنان، وبعد عجيج البهائم والولدان، راغبين في رحمتك، وراجين فضل نعمتك، وخائفين من عذابك ونقمتك، اللهم فاسقنا غيثك ولا تجعلنا من القانطين، ولا تهلكنا بالسنين، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا يا أرحم الراحمين. اللهم إنا خرجنا إلينا، نشكو إليك بما لا يخفى عليك، حين ألجأتنا المضايق الوعرة وأجاءتنا المقاحط المجدبة، وأعيتنا المطالب المتعسرة، وتلاحمت علينا الفتن المستصعبة، اللهم إنا نسألك أن لا تردنا خائبين، ولا تقلبنا واجمين، ولا تخاطبنا بذنوبنا، ولا تقابسنا بأعمالنا، اللهم انشر علينا بركتك، ورزقك ورحمتك، واسقنا سقيا نافعة مروية معشبة تنبت بها ما قد فات، وتحيي بها ما قد مات، نافعة الحيا، كثيرة المجتنى، تروى بها القيعان، وتسيل البطنان، وتستورق الأشجار، وترخص الأسعار، إنك على ما تشاء قدير.
14
وعند درس الخطبة الأولى نجد الخطيب ترفق في الدعاء حين اهتم بوصف حيرة الدواب في المرابض، وملالها من التردد في المراتع، والحنين إلى الموارد، وعجيجها على أولادها التي أودى بها الظمأ القتال، ونجده تلطف حين دعا الله أن لا يؤاخذهم بأعمالهم، ولا يأخذهم بذنوبهم، ثم نجده أغرق في وصف الغيث المرجو، والخصب المأمول، وكذلك كان صدر الخطبة نفحة وجدانية يتمثل فيها الجزع والإنابة، وكان شطرها الثاني بابا من الصنعة والافتنان في التخييل والتمثيل.
وصدر الخطبة الثانية توحيد صرف، فالأرض والسماء من جنود الله، تجودان حين يشاء، وتمسكان حين يشاء، ثم يمضي الخطيب فيذكر أن نقص الثمرات ابتلاء من الله يصيب الناس حين تسوء أعمالهم ليتذكروا وينيبوا، وأن كشف الشر موقوف على الاستغفار، وهو بذلك يوجه قلوب المستسقين إلى المتاب، ويختم خطبته بدعاء طويل هو نموذج لرقة التوسل والابتهال.
والمعاني تختلف في هاتين الخطبتين بعض الاختلاف، وذلك يدل على أن الخطيب كان له في كل موقف شعور خاص، وأساس البلاغة أن يعبر المرء عما يساور نفسه عند الخطاب. ولا يعتمد على معانيه القديمة إلا المجدبون في عالم البيان.
فكاهة شعرية
وعند النظر فيما أنشأ أئمة المسلمين من أدعية الاستسقاء نجد الفن ظاهرا ظهورا قويا، ولا كذلك المحفوظ من أدعية الرسول؛ فهي أدعية بسيطة قوامها الصدق، والفن فيها قليل، حدث الخطيب البغدادي بسنده قال: أتت النبي
صلى الله عليه وسلم
بواك فقال: «اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريا مريعا، عاجلا غير آجل، نافعا غير ضار».
15
ومن الملح المتصلة بدعاء الاستسقاء قول أبي علي بن المحسن بن علي:
خرجنا لنستسقي بيمن دعائه
وقد كاد هدب الغيم أن يبلغ الأرضا
فلما ابتدا يدعو تقشعت السما
فما تم إلا والغمام قد انفضا
16
أدعية زين العابدين
زين العابدين هو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكانت ولادته يوم الجمعة في بعض شهور سنة ثمان وثلاثين، وتوفي سنة أربع وتسعين، وقيل اثنين وتسعين بالمدينة ودفن بالبقيع.
1
وكان يقال لزين العابدين ابن الخيرتين؛ لقول الرسول: لله تعالى من عباده خيرتان، فخيرته من العرب قريش ومن العجم فارس.
2
وذلك أن زين العابدين قرشي الأب فارسي الأم فأمه سلافة بنت يزدجرد آخر ملوك فارس.
2
وكان كثير البر بأمه حتى قيل له: إنك أبر الناس بأمك ، ولسنا نراك تأكل معها في صفحة. فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما تسبق إليه عينها فأكون قد عققتها.
1
وكان كبير البر بالمعوزين، البر الجميل الذي لا يطلع عليه الناس، وقد أحصى بعد موته عدد من كان يقوتهم سرا فإذا هم نحو مئة بيت. قال محمد ابن إسحاق: كان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين معايشهم ومآكلهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يؤتون به ليلا إلى منازلهم.
3
وهذه شمائل لا تستكثر على أهل البيت الذين بعث جدهم ليتمم مكارم الأخلاق.
عاش زين العابدين في عصر كان يموج بالفتن والمكاره والحتوف، في العصر الذي كان يسعى فيه الأمويون لاستئصال شأفة أهل البيت، ولذلك تفاصيل شرحناها في كتاب «المدائح النبوية» وبينا أثرها في نهضة الشعر السياسي لعهد بني أمية. وقد بقيت تلك المكاره مرسومة في خيال زين العابدين حتى صح له أن يدعو على أهل الشام فيقول:
اللهم وقد شملنا زيغ الفتن، واستولت علينا عشوة الحيرة، وقارعنا الذل والصغار، وحكم في عبادك غير المأمونين على دينك، فابتز أموال آل محمد من نقض حكمك، وسعى في تلف عبادك المؤمنين، فجعل فيئنا مغنما وأمانتنا ميراثا، واشتريت الملاهي والمعازف والكبارات بسهم الأرملة واليتيم والمسكين فرتع في مالك من لا يرعى لك حرمة، وحكم في أبشار المسلمين أهل الذمة، فلا ذائد يذودهم عن هلكة، ولا راحم ينظر إليهم بعين الرحمة ... اللهم وقد استحصد زرع الباطل وبلغ نهيته واستحكم عموده ... إلخ.
4
والمراد بأهل الشام هم الحاكمون من بني أمية الذين استطرد في الدعاء عليهم فقال:
اللهم ولا تدع للجور دعامة إلا قصمتها، ولا جنة إلا هتكتها، ولا كلمة مجتمعة إلا فرقتها، ولا قائمة إلا خفضتها، ولا راية إلا نكستها وحططتها ولا علوا إلا أسفلته، ولا خضراء إلا أبدتها، اللهم وكور شمسه، وأطفئ نوره، وأم بالحق رأسه،
5
وفض جيوشه، وأرعب قلوب أهله، وأرنا أنصار الجور عباديد بعد الألفة،
6
وشتى بعد اجتماع الكلمة، ومقمومي الرءوس بعد الظهور على الأمة.
7
وقد أكثر من الدعاء على من خاصموه وحاربوه فدعا على حرملة بن كاهلة وعبيد الله بن زياد وضمرة بن معبد وعبد الملك بن مروان.
ومراجعة تلك الأدعية تصور بعض جوانب المجتمع في ذلك الحين.
وكان له دعاء خاص بساعته، وبيان ذلك أن في السالفين من اقترض أن النهار قسم إلى اثنتي عشرة ساعة لينسجم مع عدد الأئمة الاثني عشر، وزين العابدين هو الرابع بين أولئك الأئمة فساعته من النهار هي الرابعة، وهي من ارتفاع النهار إلى وقت الزوال.
8
وأهم ما ينبغي النص عليه في هذا المقام هو الأدعية الإنجيلية، أو المناجاة الإنجيلية، وهي أكبر مناجاة ظهرت من فيض الله على لسان زين العابدين.
9
وسميت هذه المناجاة بالإنجيلية لأن فقراتها تشبه أكثر فقرات الإنجيل النازل على عيسى عليه السلام لا الإنجيل المتداول بين النصارى الآن.
9
وهنا بيت القصيد، فقد أشرنا مرات كثيرة إلى أن الصوفية كانوا يرون المسيح قدوة في الشؤون الروحية.
والواقع أن المسلمين عرفوا الإنجيل منذ زمن بعيد، وقد ترجموه ترجمة فصيحة جدا، ومن تلك الترجمة الفصيحة شواهد كثيرة في كتب الأدب والتصوف كالذي نراه في كتاب عيون الأخبار لابن قتيبة، وكتاب الإحياء للغزالي.
والتشابه كبير جدا بين مذاهب النصارى ومذاهب الصوفية في التعبد، فالنصراني المتبتل يدخل الكنيسة وفي جيبه كتاب يشمل على طوائف من الأدعية والصلوات، والصوفي المخلص يدخل المسجد وفي يده كتاب يشمل على طوائف من الاستغاثات والأحزاب والأوراد.
وكتاب الصحيفة السجادية يشبه من نواح كثيرة كتاب الاقتداء بالمسيح والفرق الوحيد بين الكتابين أن الدعاء في كتبا الاقتداء بالمسيح يوجه إلى عيسى، والدعاء في الصحيفة السجادية يوجه إلى الله، ويتم التشابه حين نعرف أن النصارى يرون عيسى صورة الله.
والصحائف السجادية عند الشيعة تقابل مجموع الأوراد عند أهل السنة، والمخاطب واحد وهو الله واجب الوجود.
وقد اهتم النصارى بكتاب الاقتداء بالمسيح
Imitation de Jesus Christ
فنقلوه من اللاتينية إلى الفرنسية نحو أربعين مرة، وكتبوه بالذهب في كثير من الأحيان.
وأدعية زين العابدين كانت مما اهتم به الشيعة اهتماما شديدا، فصححوا رواياتها ونقدوها وكتبوها بالذهب في كثير من البلاد.
والمناجاة الإنجيلية تفيض بالمعاني الروحية، ولننظر كيف يقول زين العابدين:
اللهم لك قلبي ولساني، وبك نجاتي وأماني، وأنت العالم بسري وإعلاني فأمت قلبي عن البغضاء، وأصمت لساني عن الفحشاء، وأخلص سريرتي وعلانيتي عن علائق الأهواء، واكفني بأمانك عواقب الضراء، واجعل سري معقودا على مراقبتك، وإعلاني موافقا لطاعتك. وهب لي جسما روحانيا وقلبا سماويا، وهمة متصلة بك، ويقينا صادقا في حبك.
10
وكيف يقول: «اللهم ارحم من اكتنفته سيئاته، وأحاطب به خطيئاته، وحفت به جناياته. بعفوك ارحم من ليس له من عمله شافع، ولا يمنعه من عذابك مانع».
11
ولزين العابدين أدعية تلين الجلاميد، كأن يقول:
سيدي، حق لمن دعاك بالندم تذللا أن تجيبه بالكرم تفضلا، سيدي، أمن أهل الشقاء خلقتني فأطيل بكائي، أم من أهل السعادة خلقتني فأبشر رجائي؟
سيدي، ألضرب المقامع خلقت أعضائي، أم لشرب الحميم خلقت أمعائي؟ سيدي، لو أن عبدا استطاع الهرب من مولاه لكنت أول الهاربين منك، لكني أعلم أني لا أفوتك.
سيدي، لو أن عذابي يزيد في ملكك لسألتك الصبر عليه، غير أني أعلم أنه لا يزيد في ملكك طاعة المطيعين، ولا ينقص منه معصية العاصين.
سيدي، ما أنا وما خطري؟ هب لي خطاياي بفضلك، وجللني بسترك، واعف عن توبيخي بكرم وجهك.
إلهي وسيدي، ارحمني مطروحا على الفراش تقلبني أيدي أحبتي، وارحمني مطروحا على المغتسل يغسلني صالح جيرتي، وارحمني محمولا قد تناول الأقرباء أطراف جنازتي، وارحم في ذلك البيت المظلم وحشتي وغربتي ووحدتي، فما للعبد من يرحمه إلا مولاه.
12
وزين العابدين يجعل الأيام والشهور مواسم روحية، فله أدعية لأيام الأسبوع، ودعاء ليوم عرفة ودعاء لأول يوم رجب، وأدعية لأيام رمضان. وأول شهور السنة الهجرية عنده هو شهر رمضان.
13
ولا تخلو أدعيته على كثرتها من فصاحة التعبير، وقوة الروح.
والصوفية يعتقدون أن زين العابدين كان من أهل الأسرار، ويروون أنه قال:
يا رب جوهر علم لو أبوح به
لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي
يرون أقبح ما يأتونه حسنا
إني لأكتم من علمي جواهره
كي لا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا
14
ومعنى ذلك أنه كان يفرق بين ما يلقى على العوام وما يلقى على الخواص.
أدعية التوحيدي
لم يكن التوحيدي صوفيا بالمعنى المصطلح عليه عند أهل التصوف، فقد كان رجلا مشغولا بالأدب والمنطق والتوحيد، وكانت له في حياته جولات هجائية لا تخلو من لؤم وطيش، ولكنه حين انهزم في حياته المعاشية بدا يشعر بروح التصوف، وأخد يدعو بما دعا به بعض النساك:
اللهم صن وجوهنا باليسار، ولا تبذلها بالاقتار، فنسترزق أهل رزقك ونسال شر خلقك، ونبتلي بحمد من أعطى، وذم من منع، وأنت من دونهم ولي الإعطاء، وبيدك خزائن الأرض والسماء.
1
وتدلنا فقرات فيما وصل إلينا من مؤلفاته على أنه كان يعني بتقييد ما يصل إليه من بليغ الدعاء، كأن يحدثنا أنه سمع الخوارزمي أبا بكر محمد بن العباس الشاعر البليغ يقول: «اللهم نفق سوق الوفاء فقد كسدت، وأصلح قلوب الناس فقد فسدت، ولا تمتني حت يبور الجهل كما بار العقل، ويموت النقص كما مات العلم».
2
فهو يذكر الخوارزمي باسمه وكنيته ويصفه بالشاعر البليغ، وفي هذا إشارة إلى عطفه عليه بسبب الروح الذي تنسمه في هذا الدعاء.
وهو نفسه كان يعطف على التصوف ويراه علما يدور بين إشارات إلهية، وأغراض علوية، وأفعاله دينية، وأخلاق ملوكية، ولم يمنعه هذا العطف من النص على أن الطريقة لحقها حيف لكثرة الدخلاء فيها كما لحق البلاغة لكثرة مدعيها، وذلك في رأيه لانقراض الدنيا وقرب أشراط القيامة».
3
فهو يمجد التصوف ولا يمقت إلا الأدعياء.
والمرجح عندنا أن التوحيدي لم يكلف بصوغ الأدعية إلا في أخريات حياته حين «بلغت شمسه رأس الحائط»،
4
ولذلك رأيناه يفتتح رسالة الصداقة والصديق بهذا الدعاء:
اللهم خذ بأيدينا فقد عثرنا، واستر علينا فقد أعورنا، وارزقنا الألفة التي بها تصلح القلوب وتنقى الجيوب، حتى نعيش في هذه الدار مصطلحين على الخير مؤثرين للتقوى عاملين بشرائط الدين، آخذين بأطراف المروءة، آنفين من ملابسة ما يقدح في ذات البين، متزودين للعاقبة التي لا بد من الشخوص إليها، ولا محيد من الاطلاع عليها، إنك تؤتي من تشاء ما تشاء.
وقد يقال إن أكثر المؤلفين يبتدئون مؤلفاتهم بالدعاء. ونجيب بأن هنا نفحة صوفية لا نجد مثلها فيما دعا به الجاحظ في فاتحة «البيان والتبيين».
على أن الجاحظ دعا مرة أو مرات، أما التوحيدي فقد اتخذ الدعاء فنا من فنون البيان، ولننظر هذا الدعاء:
اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك، ومن الأمل إلا فيك، ومن التسليم إلا لك، ومن التفويض إلا إليك، ومن التوكل إلا عليك، ومن الطلب إلا منك، ومن الرضا إلا عنك، ومن الذل إلا في طاعتك، ومن الصبر إلا على بلائك، وأسألك أن تجعل الإخلاص قرين عقيدتي، والشكر على نعمك شعاري ودثاري، والنظر إلى ملكوتك دأبي وديدني، والانقياد لك شأني وشغلي، والخوف منك أمني وإيماني، واللياذ بذكرك بهجتي وسروري. اللهم تتابع برك واتصل خيرك، وعظم رفدك، وتناهى إحسانك، وصدق وعدك، وبر قسمك، وعمت فواضلك، وتمت نوافلك، ولم تبق حاجة إلا وقد قضيتها أو تكفلت بقضائها، فاختم ذلك كله بالرضا والمغفرة، إنك أهل ذلك والقادر عليه.
والقارئ مرجو أن ينظر براعة هذا الكاتب في تلوين الفواصل مع حروف الخفض في صدر هذا الدعاء، وما اتسق له بعد ذلك من المقابلة والازدواج.
وهذا لون ثالث من الدعاء:
اللهم إني أسألك خفايا لطفك، وفواتح توفيقك ومألوف برك، وعوائد إحسانك، وجاه المجتبين من ملائكتك، ومنزلة المصطفين من رسلك ومكاثرة الأولياء من خلقك، وعاقبة المتقين من عبادك، وأسألك القناعة برزقك، والرضا بحكمك، والنزاهة عن محظورك، والورع في شبهاتك، والقيام بحجتك، والاعتبار بما أبديت، والتسليم لما أخفيت، والإقبال على ما أمرت، والوقوف عما زجرت، حتى أتخذ الحق حجة عندما خف وثقل، والصدق سنة فيما عسر وسهل، وحتى أرى أن شعار الزهد أعز شعار، ومنظر الباطل أشوه منظر، فأتبختر في ملكوتك فضفاض الرداء بالدعاء إليك، وأبلغ الغاية القصوى بين خلقك بالثناء عليك.
وفي هذا الدعاء فنون من البديع لا تخفى على القارئ، وموضوعه يخالف موضوع الدعاء السالف.
وهذا لون رابع:
اللهم إليك أرفع عجري وبجري
5
وبك أستعين في عسري ويسري، وإليك أدعو رغبا ورهبا، فإنك العالم بتسويل النفس، وفتنة الشيطان، وزينة الهوى وصرف الدهر وتلون الصديق، وبائقة الثقة وقنوط القلب، وضعف المنة، وسوء الجزع، فقني اللهم ذلك كله، واجمع من أمري شمله، وانظم من شأني شتيته، واحرمني عند الغنى من البطر، وعند الفقر من الضجر، وعند الكفاية من الغفلة، وعند الحاجة من الحسرة، وعند الراحة من الفسولة، وعند الطلب من الخيبة، وعند المنازلة من الطغيان، وعند البحث من الاعتراض عليك، وعند التسليم من التهمة لك، وأسألك أن تجعل صدري خزانة توحيدك، ولساني مفتاح تمجيدك، وجوارحي خدم طاعتك، فإنه لا عز إلا في الذل لك، ولا غنى إلا في الفقر إليك، ولا أمن إلا في الخوف منك، ولا قرار إلا في القلق نحوك، ولا روح إلا في الكرب لوجهك، ولا ثقة إلا في تهمة خلقك، ولا راحة إلا في الرضا بقسمك، ولا عيش إلا في جوار المقربين عندك.
وهذا الدعاء على جانب عظيم من الأهمية، وفي صدره بعض الضعف، ولكن الشطر الأخير غاية في القوة، وهو يمثل كثيرا من المعاني النفسية كالبطر عند الغنى، والضجر عند الفقر، والغفلة عند الكفاية، والفسولة عند الراحة، والطغيان عند المنازلة، والاعتراض عند البحث.
ولا مفر من الثناء على هذه الفقرة إذ يخاطب الكاتب ربه فيقول: «إنه لا عز إلا في الذل لك، ولا غنى إلا في الفقر إليك، ولا أمن إلا في الخوف منك، ولا قرار إلا في القلق نحوك، ولا روح إلا في الكرب لوجهك، ولا ثقة إلا في تهمة خلقك».
والكلمة الأخيرة من وثبات الخيال.
وهذا لون خامس:
اللهم ببرهانك الصادع، وبنور وجهك الساطع، صل على محمد نبيك نبي الرحمة، وقائد الأمة، وإمام الأئمة، واحرس علي إيماني بك بالتسليم لك، وخفف عني مؤونة الصبر على امتحانك، وواصل لي أسباب المزيد عند الشكر على نعمتك، واجعل بقية عمري في غنى عن خلقك، ورضا بالمقدم من رزقك. اللهم إنك إن آخذتنا بذنوبنا خسفت الأرض بنا، وإن جازيتنا على ظلمنا قطعت دوابرنا، فإنك قلت:
فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمي
اللهم إليك نشكو قسوة قلوبنا، وغل صدورنا، وفتنة أنفسنا، وطموح أبصارنا، ورفث ألسنتنا، وسخف أحلامنا، وسوء أعمالنا، وفحش لجاجنا، وقبح دعوانا، ونتن أشرارنا، وخبث أخيارنا، وتلزق ظاهرنا، وتمزق باطننا. اللهم فارحمنا، وارأف بنا، واعطف علينا، وأحسن إلينا، وتجاوز عنا، واقبل الميسور منا؛ فإننا أهل عقوبة وأنت أهل مغفرة، وأنت بما وصفت به نفسك أحق منا بما وسمنا به أنفسنا، فإن في ذلك ما اقترن بكرمك، وأدى إلى عفوك ... الخ.
وهذا الدعاء طويل يجد القارئ بقيته في شرح ابن أبي الحديد
6
وهو يذكر بما سيوضع من الأحزاب، ففيه حديث عن قسوة القلوب، وغل الصدور، وفتنة النفوس، وطموح الأبصار، ورفث الألسنة، وسخف الأحلام، وسوء الأعمال، وذلك يدل على بصر التوحيدي بعصف الفتن في عالم الأخلاق.
ومن دقيق ما فيه الإشارة إلى قبح الدعوى، وفحش اللجاج، والنص على نتن الأشرار وخبث الأخيار، فهو يرى أن في الأخيار خبثا، وذلك من جانبه إسراف في اتهام الطبيعة الإنسانية، إلا إن قدرنا أنه يشير إلى أن الأخبار لا غنى لهم عن التحرز والخوف من سوء الخواتم.
هذا وللتوحيدي أدعية كثيرة فيها أدب وعقل وذكاء، ولا موجب لعرض ما وصلنا إليه من أدعيته في هذا الفصل فلنكتف بهذه الفقرات: «اللهم احجز بيننا وبين كل ما دل على غيرك ببيانك، ودعا إلى سواك ببرهانك». «اللهم قيض لنا فرجا من عندك، وأتح لنا مخلصا إليك، فأنا قد تعبنا بخلقك وعجزنا عن تقويمهم لك، ونحن إلى مقاربتهم في مخالفتك أقرب منا إلى منابذتهم في موافقتك». «اللهم إليك المفر من دار منهومها لا يشبع، وحائمها لا ينقع، وطالبها لا يربع، وواجدها لا يقنع ... اللهم كما ابتليت بحكمتك الخفية التي أشكلت على العقول وحارت معها البصائر فعاف برحمتك اللطيفة التي تطاولت إليها الأعناق، وتشوفت نحوها السرائر». «اللهم إنا قربنا منك فلا تبنا عنك، وظهرنا لك فلا تبطنا دونك، ووجدناك بما ألقيت إلينا من غيب ملكوتك، وعزفنا عن كل ما لوانا عن جنابك، ووثقنا بكل ما وعدتنا في كتابك».
7
وقد أهدى إلينا الأستاذ سليم قبعين نسخة مخطوطة من رسالة للتوحيدي اسمها «الإشارات الإلهية» فنظرنا في الفاتحة فإذا فيها دعاء يثير الدمع، ويتفجر عند قراءته الحنان، فإن كان القارئ في حاجة إلى بينة على صحة ما نقول فليقرأ هذا الدعاء:
اللهم إنا نسألك ما نسأل لا عن ثقة ببياض وجوهنا عندك، وأفعالنا معك، وسوالف إحساننا قبلك، ولكن عن ثقة بكرمك الفائض، وطمعا في رحمتك الواسعة، نعم، وعن توحيد لا يشوبه إشراك، ومعرفة لا يخالطها إنكار، وإن كانت أعمارنا قاصرة عن غايات حقائق التوحيد والمعرفة، نسألك أن لا ترد علينا هذه الثقة بك فتشمت بنا من لم تكن له هذه الوسيلة إليك.
وقد رأينا في هذه المخطوطة إشارة تسمو بالتوحيدي إلى درجة التصوف، ولنتأمل كيف يقول:
حرام على قلب استنار بنور الله أن يفكر في غير عظمة الله.
حرام على لسان تعود ذكر الله أن يذكر غير الله.
حرام على نفس طهرت من أدناس الدنيا بطاعة الله أن تدنس بشيء من مخالفة الله.
حرام على عين نظرت إلى مملكة الله أن تحدق إلى غير الله.
حرام على كبد ابتلت بالثقة بالله أن تطمئن إلى غير الله.
حرام على من لم ير الخير إلا من الله أن يجد طمعا في غير الله.
حرام على من شرف بخدمة الله أن يتضع بخدمة غير الله.
حرام على من ألف فناء الله أن يعرج إلى غير الله.
حرام على من تلذذ بمناجاة الله أن يناجي غير الله.
حرام على من رتع في نعمة الله أن يعبد غير الله.
حرام على من سكن حرم الله أن يتعرض لحرم الله.
حرام على من دعا إلى الله أن يحب غير الله.
حرام على عبد الله أن يتخذ مولى سوى الله.
حرام على من أنس بالله أن يأنس بغير الله.
حرام على من عرف قدرة الله أن يتعرض لسخط الله.
وهذه قطعة طريفة تفيض بقوة الروح.
والشاهد من كل ما سلف أن التوحيدي يرى الدعاء من الفنون الأدبية فهو يكتب الأدعية كتابة الأديب الفنان، ويقصد إلى جعلها من النماذج البارعة في عالم البيان.
فمن أين جاءته هذه النزعة؟ أترون هذا الفن من مبتكراته؟ هيهات! لقد كان الرجل يزاحم ناسا ملأت أدعيتهم آفاق الأندية الأدبية، وهؤلاء الناس هم الزهاد والنساك والصوفية، وكان لنصائحهم ووصاياهم وأدعيتهم مكان مرموق في عالم الآداب.
إن الفن الأدبي لا يزدهر إلا حين يجد نفسا تصبو إليه وتتشهاه، وكان التوحيدي سبق بأجيال عرفت فضل البلاغة في كلام النساك، وكان الجاحظ قدوة التوحيدي، والجاحظ كان يحرص على تعطير كتبه برواية أقوال النساك والزهاد، فليس غريبا أن يعمد التوحيدي إلى ذلك الفن من البلاغة الدينية فيحتذيه احتذاء يدل على ذكاء القلب، وصفاء النفس، وحياة الوجدان.
فإن سأل القارئ: وأين مظاهر هذا الفن في العصر الحديث؟ فإنا نجيب بأنه انقرض ولم تبق إلا روايته وإنشاده في مجالس الصوفية، وربما رأينا من أهل التصوف في مصر من ينظم الأدعية ولكنهم يتكلفون متابعة القدماء. والصفاء في خواطرهم قليل. وأين الطرف المكحول من الطرف الكحيل!
أما الخيام فإنها كخيامهم
وأرى نساء الحي غير نسائها
الاستغاثات والأحزاب
رأينا نماذج من الأدعية والأوراد، وعرفنا أن لذلك صلة وثيقة بالحياة الخلقية، ورأى القارئ كيف آثرنا الإيجاز على الإطناب؛ لأن الإشارة تكفي في هذا الباب، ولأن الأطناب نفسه لا يطفئ الشوق إلى المزيد، فليرجع القارئ إلى كتب التصوف؛ ففيها أوراد تجل عن الإحصاء، وحسبه أن يعرف أن لتلك الأوراد ملامح أدبية وخلقية: فهي باب من الأدب؛ لأن مؤلفيها كانوا يتحرون دقة الأسلوب وروعة الخيال، وهي من صميم الأخلاق؛ لأنها رياضة على التقرب إلى الله، والانقطاع إليه، والفناء فيما يريد.
ولنأخذ الآن في الحديث عن الاستغاثات والأحزاب، ولنوجز أيضا لأنه يتعذر توفية هذا النوع ما يستحق من الدرس في فصل من كتاب.
استغاثة السهيلي
ولنقف في الاستغاثات عند منظومة السهيلي المتوفى سنة 581 وكان يحدث أصحابه بأنه ما سأل الله بها إلا أعطاه
يا من يرى ما في الضمير ويسمع
أنت المعد لكل ما يتوقع
يا من يرجى للشدائد كلها
يا من إليه المشتكى والمفزع
يا من خزائن رزقه في قول كن
امنن فإن الخير عندك أجمع
ما لي سوى فقري إليك وسيلة
وبالافتقار إليك فقري أدفع
ما لي سوى فزعي لبابك حيلة
فلئن رددت فأي باب أقرع
ومن الذي أدعو وأهتف باسمه
إن كان فضلك عن فقيرك يمنع
حاشا لجودك أن يقنط عاصيا
الفضل أجزل والمواهب أوسع
1
ولا تزال هذه الاستغاثة مما يتوسل به الصوفية وقد أثبتها مؤلفو مجموع الأوراد وأضافوا إليها هذا البيت في الصلاة على الرسول:
ثم الصلاة على النبي وآله
خير الأنام ومن به يتشفع
واهتم بتخميسها ثلاثة من أهل الفضل، وتخاميسهم محفوظة بدار الكتب المصرية.
الفرق بين الأحزاب والأوراد
أما الأحزاب فكثيرة جدا، والفرق بين الورد والحزب: أن الورد يقرأ في أوقات منظمة فيقال أوراد النهار وأوراد الليل، أما الحزب فليس لقراءته وقت مخصوص، وسنكتفي في هذا الفصل بالكلام عن حزب البر لأبي الحسن الشاذلي. وهو في رأينا أفضل الأحزاب من حيث اللفظ والمعنى، فهو في لفظه تحفة فنية قليلة النظائر، وهو في معناه قوة روحية وعقلية نادرة المثال.
تحليل حزب البر للشاذلي
والشاذلي يبدأ حزب البر بالاستعاذة والبسملة وآيات من القرآن كأكثر من أنشأوا الأحزاب ثم يأخذ في مخاطبة الله فيقول:
اللهم إنك تعلم أني بالجهالة معروف، وأنت بالعلم موصوف، وقد وسعت كل شيء من جهالتي بعلمك، فسع ذلك برحمتك كما وسعته بعلمك.
والمعنى في هذه الفقرة في غاية من القوة، فليتأمله القارئ، ثم يقول:
اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك، فهنيئا لمن عرفك فرضي بقضائك، والويل لمن لا يعرفك، بل الويل ثم الويل لمن أقر بوحدانيتك، ولم يرض بأحكامك.
وهو في هذه الفقرة يدعو إلى التفويض والامتثال، ثم يقول:
اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا، وحكمت عليهم بالفقد حتى وجدوا، فكل عز يمنع دونك فنسألك بدله ذلا تصحبه لطائف رحمتك، وكل وجد يحجب عنك فنسألك عوضه فقدا تصحبه أنوار محبتك.
وهو في هذه الفقرة يصرح بأن لا عز إلا بالله، ولا غنى إلا الله، ويرجو الحرمان من كل عز يمنع دون الله، وكل غنى يحجب عن الله، ثم يقول:
اللهم إنا قد عجزنا عن دفع الضر عن أنفسنا من حيث نعلم بما نعلم فكيف لا نعجز عن ذلك من حيث لا نعلم بما لا نعلم.
وهذه الفقرة من خير ما أنتجت القرائح، ولا يفنى ما فيها من قوة المعنى وطراقة الخيال.
والمؤلف يقول بعجز النفوس عن دفع الضر الذي تعرفه بما تعرف من وسائل الوقاية والمقاومة فكيف لا تجز عن دفع ما لا تعرف بما لا تعرف؟ وهو بهذا يؤمن بالمخاوف الغيبية ويسأل الله السلامة من الظاهرات والمستورات، ثم يقول:
وقد أمرتنا ونهيتنا، والمدح والذم ألزمتنا، فأخو الصلاح من أصلحته، وأخو الفساد من أضللته، والسعيد حقا من أغنيته عن السؤال منك، والشقي حقا من حرمته مع كثرة السؤال لك، فأغننا بفضلك عن سؤالنا منك، ولا تحرمنا من رحمتك مع كثرة سؤالنا لك، إنك على كل شيء قدير.
ودقة المعنى في هذه الفقرة لا تحتاج إلى بيان، ثم يقول:
يا شديد البطش يا جبار يا قهار يا حكيم نعوذ بك من شر ما خلقت، ونعوذ بك من ظلمة ما أبدعت، ونعوذ بك من كيد النفوس فيما قدرت وأردت، ونعوذ بك من شر الحساد على ما أنعمت، ونسألك عز الدنيا والآخرة كما سألكه نبيك سيدنا محمد
صلى الله عليه وسلم ، عز الدنيا بالإيمان والمعرفة، وعز الآخرة باللقاء والمشاهدة، إنك سميع قريب مجيب.
والمؤلف يكشف في هذه الفقرة عن معان نفسية تمثل الخوف من مكنونات الوجود والفزع من شر الناس، ويفصح عن أمله في عز الدنيا والآخرة، فعز الدنيا هو المعرفة والإيمان، وعز الآخرة هو المشاهدة واللقاء. أما المال هنا والنعيم هناك فليس له حساب، والمؤمن المتصوف لا يفكر في النعيم المحسوس، وإنما يوجه رغائبه إلى النعيم المعقول.
ثم يقول:
يا سميع يا قريب يا مجيب يا ودود. حل بيننا وبين فتنة الدنيا والنساء والغفلة والشهوة وظلم العباد وسوء الخلق، واغفر لنا ذنوبنا، واقض عنا تبعاتنا، واكشف عنا السوء، ونجنا من الغم، واجعل لنا منه مخرجا، إنك على كل شيء قدير.
والمؤلف يصور في هذه الفقرة ما يخشاه من الفتن والمكاره الدنيوية، ومن جيد التصوير لضعف النفس قوله:
وزحزحنا في الدنيا عن نار الشهوة، وأدخلنا بفضلك في ميادين الرحمة، واكسنا من لدنك جلابيب العصمة، واجعل لنا ظهيرا من عقولنا، ومهيمنا من أرواحنا، ومسخرا من أنفسنا؛ كي نسبحك كثيرا، ونذكرك كثيرا، إنك كنت بنا بصيرا.
والمهم في هذه الفقرة هو الرجاء في أن يجعل الله لنا ظهيرا من العقول، ومهيمنا من الأرواح، ومسخرا من النفوس.
ثم يقول: «واذكرنا إذا غفلنا عنك بأحسن ما تذكرنا به إذا ذكرناك، وارحمنا إذا عصيناك بأتم ما ترحمنا به إذا أطعناك. واغفر لنا ذنوبنا ما تقدم منها وما تأخر، والطف بنا لطفا يحجبنا عن غيرك ولا يحجبنا عنك، إنك بكل شيء عليم».
وصدر هذه الفقرة في غاية من الحسن عند من يتأملون.
ولننظر قوله في الخوف من النفس ومن خطرات المعصية: «اللهم إنا نسألك التوبة ودوامها، ونعوذ بك من المعصية وأسبابها، وذكرنا بالخوف منك قبل هجوم خطراتها، واحملنا على النجاة منها ومن التفكر في طرائقها، وامح من قلوبنا حلاوة ما اجتنيناه منها، واستبدلها بالكراهة لها والطعم لما هو بضدها، وأفض علينا من بحر كرمك وعفوك حتى تخرج من الدنيا على السلامة من وبالها».
والمؤلف في هذه الفقرة يصور ما تتعرض له النفس من الشوق إلى ما اجتنت من اللذات: فقد تتلفت النفس إلى لذاتها الماضية فيفسد عليها روح المتاب، وهو يرجو أن يذكره الله بالخوف منه قبل هجوم الخطرات، خطرات المعاصي والذنوب.
ثم يقول: «واجعل سيئاتنا سيئات من أحببت، ولا تجعل حسناتنا حسنات من من أبغضت، فالإحسان لا ينفع من البغض منك، والإساءة لا تضر مع الحب فيك، وقد أبهمت علينا الأمر لنرجو ونخاف: فآمن خوفنا، ولا تخيب رجاءنا، وأعطنا سؤلنا، فقد أعطيتنا الإيمان من قبل أن نسألك».
ولو مضينا لرأينا الشاذلي يدعو الله أن يهبه حقيقة الإيمان حتى لا يخاف غيره، ولا يرجو غيره ولا يحب غيره، ولا يعبد شيئا سواه، ورأيناه يقول:
فهأنذا عبدك إن تعذبني بجميع ما علمت من عذابك فأنا به حقيق.
في الأحزاب إشارات لا يفهمها غير كبار الحكماء
فيعترف بأنه لا ينال الرحمة إلا بفضل من الله، ثم يوفق كل التوفيق إذ يقول:
فليس كرمك مخصوصا بمن أطاعك وأقبل عليك، بل هو مبذول بالسبق لمن شئت من خلقك وإن عصاك وأعرض عنك. وليس من الكرم أن لا تحسن إلا لمن أحسن إليك، وأنت المفضال الغني، بل الكرم أن تحسن إلى من أساء إليك وأنت الرحيم العلي، كيف وقد أمرتنا أن نحسن إلى من أساء إلينا، فأنت أولى بذلك منا.
تلك إشارات إلى ما في حزب البر من الآيات فليرجع إليه القارئ إن شاء. وليرجع إلى أمثاله من مختلف الأحزاب ففيها خلق وفيها بيان. ومن موجبات الأسف أن لا يقرأ هذه الأحزاب غير العوام، مع أن فيها من دقائق الإشارات ما لا يفهمه غير كبار الحكماء.
الوصايا والنصائح
في الوصايا ملامح من الأدب وأصول من الأخلاق
هذا الفن مزاج من الأدب والأخلاق: هو أدب لأن الناصحين كانوا يحرصون في الأغلب على جمال الصورة، فيسجعون ويزاوجون، كقول علقمة بن لبيد:
يا بني، إذا نزعتك إلى صحبة الرجال حاجة فأصحب من إذا صحبته زانك، وإن خدمته صانك، وإن أصابتك خصاصة مانك، وإن قلت صدق قولك، وإن صلت شد صولك، وإن مددت يدك بفضل مدها، وإن رأى منك حسنة عدها، وإن سألته أعطاك، وإن سكت عنه ابتداك، وإن نزلت بك إحدى الملمات آساك.
1
وهو أخلاق لأن الناصحين كانوا يفكرون أولا وقيل كل شيء في المعاني الخلقية، وكانت النصائح لا تصدر إلا عن أناس عرفوا بالحكمة وأصالة الرأي، وكانت لا توجه إلا إلى ناس يراد توجيههم إلى صالح الأعمال، ومن أجل ذلك أضفنا هذا الفصل إلى قسم الأخلاق.
قدم هذا الفن في اللغة العربية
والوصايا من أقدم الفنون التي عرفتها البيئات العربية، والقرآن يحدثنا أن لقمان قال لابنه وهو يعظه:
يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ...
يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور * ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور * واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير .
2
وهي كذلك من أقدم الفنون التي عرفتها البيئات الفارسية، ومن أشهر ما أثر عن الفرس في هذا الباب كتاب أردشير بن بابك إلى بنيه والملوك من بعده، وهو كتاب طويل نقتبس منه هذه الفقرات:
رشاد الوالي خير للرعية من خصب الزمان. الملك والدين توأمان لا قوام لأحدهما إلا بصاحبه ... واعلموا أنه ليس ينبغي للملك أن يعرف للعباد والنساك بأن يكونوا أولى بالدين منه ... واعلموا أنكم ستبلون على الملك بالأزواج والأولاد والقرباء والوزراء والأخدان والأنصار والأعوان والمتقربين والندماء والمضحكين، وكل هؤلاء إلا قليلا أن يأخذ لنفسه أحب إليه من أن يعطي منها عمله، وإنما عمله سوق ليومه وذخيرة لغده. فنصيحته للملوك فضل نصيحته لنفسه، وغاية الصلاح عنده صلاح نفسه، وغاية الفساد عنده فسادها، يقيم للسلطان سوق المودة ما أقام له سوق الأرباح والمنافع ... واعلموا أن لكل ملك بطانة، ولكل رجل من بطانته بطانة، ثم إن لكل امرئ من بطانة البطانة بطانة، حتى يجتمع من ذلك أهل المملكة، فإذا أقام الملك بطانته على حال الصواب فيهم أقام كل امرئ بطانته على مثل ذلك حتى يجتمع على الصلاح عامة الرعية.
3
وقد ازدهر هذا الفن في اللغة العربية، ودخل في أكثر أبواب الحياة، فهناك وصايا الخلفاء والملوك وهي التي تسمى «العهود»، ولكل طائفة وصايا، ومن أشهر الوصايا الأدبية وصية عبد الحميد بن يحيى التي وجهها إلى الكتاب، وهناك وصايا الآباء للأبناء، وقد كتبت عنها ثلاث مقالات نشرتها في البلاغ، ثم تبينت أنها تحتاج إلى درس أطول مما اشتملت عليه تلك المقالات الثلاث ... وقد انتقل هذا الفن إلى الفكاهة، فرأينا نماذج كثيرة من وصايا الطفيليين إلى أبنائهم، وكل أولئك يبين كيف صار هذا الفن مما يتبارى فيه الكتاب والشعراء.
وقد تعبنا في البحث عن الفروق الجوهرية التي يتميز بها هذا الفن في كلام الصوفية، ثم رأينا أن الفروق على كثرتها ترجع إلى باب واحد، فالوصايا في الأغلب تدور حول الشؤون المعاشية، وتطوف بالأصول من كرائم الخلال، كقول الأوس بن حارثة:
يا مالك، المنية ولا الدنية، والعتاب قبل العقاب، والتجلد لا التبلد، واعلم أن القبر خير من الفقر، ومن كرم الكريم الدفاع عن الحريم، وخير الغنى القناعة، وشر الفقر الضراعة، والدهر يومان: يوم لك ويوم عليك، فإذا كان لك فلا تبطر، وإذا كان عليك فاصبر.
4
ولكنها عند الصوفية تنصب على أمور ذوقية وروحية، كأن يحدث من يقول: «أقبلنا قافلين من بلاد الروم نريد البصرة، حتى إذا كنا بين الرصافة وحمص سمعنا صائحا يصيح من بين تلك الرمال - سمعته الآذان ولم تره العيون - يقول: يا مستور يا محفوظ، اعقل في ستر من أنت؟ فإن كنت لا تعقل من أنت في ستره فاتق الدنيا فإنها حمى الله، فإن كنت لا تعقل كيف تتقيها فصيرها شوكا ثم انظر أين تضع قدميك منها».
5
وكأن يقول بعض الزهاد: «لا تغترن بطول السلامة مع تضييع الشكر، ولا تعملن نعمنة الله في معصيته، فإن أقل ما يجب لمهديها ألا تجعلها ذريعة إلى مخالفته، واستدع شارد النعم بالتوبة، واستدم الراهن منها بكرم الجوار، واستفتح باب المزيد بحسن التوكل».
6
وكأن يقول غيلان: «إن التراجع في المواعظ يوشك أن يذهب يومها ويأتي يوم الصاخة، كل الخلق يومئذ مصيخ يستمع ما يقال له ويقضى عليه، وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا، فاصمت اليوم عما يصمتك يومئذ، وتعلم ذلك حتى تعلمه، وابتغه حتى تجده، وبادر قبل أن تفجأك دعوة الموت، فإنها عنيفة إلا بمن رحم الله، فيقحمك في دار تسمع فيها الأصوات بالحسرة والويل والثبور، ثم لا يقالون ولا يستعتبون، إني رأيت قلوب العباد في الدنيا تخشع لأيسر من هذا وتقسو عند هذا، فانظر إلى نفسك أعبد الله أنت أم عدوه؟ فيا رب متعبد لله بلسانه، معاد له بفعله، ذلول في الانسياق إلى عذاب السعير في أمنية أضغاث أحلام يعبرها بالأماني والظنون، فاعرف نفسك، وسل عنها الكتاب المنير، سؤال من يحب أن يعلم، وعلم من يحب أن يعمل ... ولا تكن كعلماء زمن الهرج إن وعظوا أنفوا، وإن وعظوا عنفوا».
7
فما الذي نراه في أمثال هذه النصائح؟ إنها نفثات موجهة إلى غاية واحدة هي إصلاح القلوب، والوسيلة هي التذكير بقارة الدنيا والترغيب في الأعمال الصالحات، فالزاهد حين ينصح لا يفكر في المعاش على نحو ما يفكر المعنيون بالشؤون الدنيوية، وإنما يفكر في إعداد النفس ليوم الحساب.
خصائص النصح عند الصوفية
وكان يتفق للصوفية أن يسلكوا في نصائحهم مسلك التعليل والتحليل كأكثر رجال الأخلاق، فنرى منهم من يعجب حين يرى طالب الدنيا أجد من طالب الآخرة، وخائفها أتعب من خائف الآخرة، وهو يعلم يقينا أنه رب مطلوب في الدنيا قد صار حين نيل حتفا لطالبه، وأنه رب مخوف فيها قد لحق كرها بالهارب منه فصار حظا له، وأن المطلوب إليه من أهلها ضعيف عن نفسه، محتاج إلى ربه، مملوك عليه ماله، مخزونة عنه قدرته، ثم يقضي بأن جماع ما يسعى له الطالب ويهرب منه الهارب أمران: أحدهما أجله، والآخر رزقه، ويعجب حين يرى الناس يختلفون في أمر الآخرة ولا يختلفون في أمر الدنيا، وكيف لا يكون خائف الآخرة لربه كخائف الدنيا لسلطانه، فيصبر على تجشم المكروه، وتجرع غصص الغيظ، ويتحفظ من أن يضمر له على غش أو يهم له بخلاف «فإن ابتلي بالسخط من سلطانه فكيف حزنه ووحشته، وإن أنس منه رضا عنه فكيف سروره واختياله، وإن قارف ذنبا إليه فكيف تضعضعه واستخذاؤه، وإن ندبه لأمر فكيف خفته ونشاطه، وإن نهاه عنه فكيف حذره واتعاظه، وهو يعلم أن خالقه ورازقه يعلم سره وجهره، ويراه في متقلبه ومثواه، ويعاينه في فضائحه وعورته، فلم يزعه عنها حياء منه، ولا تقية له، قد أمره فلم بأتمر، وزجره فلم يزدجر، حذره فلم يحذر، ووعده فلم يرغب، وأعطاه فلم يشكر، وستره فلم يزدد بالستر إلا تعرضا للفضائح، وكفاه فلم يقنع بالكفاية، وضمن له في رزقه ما هو في طلبه مشيح، ويقظه من أجله لما هو عنه لاه، وفرغه من العمل لما هو عنه بغيره مشغول».
8
ولنذكر أن هذا نوع من النصح الملفوف، وهو من المذاهب التعليمية، فقد كتب رجل من العباد خطابا إلى صديق له يستفتيه في تلك الدقائق التي لخصناها في هذه الفقرة، فأجابه الصديق بخطاب مطول بين فيه أن اليقين كالشجرة النابتة في القلب أغصانها العمل، وثمرتها الثواب، ثم قال: «وأما قولك: كيف لم يكن خائف الآخرة لربه كخائف الدنيا لسلطانه، فإن الله عز وجل خلق الإنسان ضعيفا، وجعله عجولا، فهو لضعفه موكل بخوف الأقرب، فالأقرب مما يكره، وهو بعجلته موكل بحب الأعجل، فالأعجل مما يشتهي، وزاده حرصا على المخلص من المكروه، وطلبا للمحبوب، حاجته إلى الاستمتاع بمتاع الدنيا الذي لولا ما طبع عليه القلب من حبه، وسهل على المخلوقين من طلبه، لما انتفع بالدنيا منتفع ولا عاش فيها عائش».
9
والخطاب والجواب يرجعان إلى أصل واحد هو تعليل ما يغلب على النفس الإنسانية من الضعف.
نماذج من وصايا النساك
وأقدم النصائح الصوفية في الإسلام نصائح علي بن أبي طالب، وهي كثيرة جدا، نكتفي منها بقوله: «إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا. ألا إن الزاهدين في الدنيا اتخذوا الأرض بساطا والتراب فراشا والماء طيبا، ألا من اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن الحرمات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات».
10
وللقارئ أن يرجع إلى الجزء الأول من نهج البلاغة فينظر في الصفحات 266، 277، 287، 392، 433 فإن فيها صورا مختلفة من وصايا ابن أبي طالب، وهي في الأغلب ترمي إلى تطهير النفس، وإصلاح القلب ، والتنفير من الدنيا الفانية، والتشويق إلى دار البقاء.
وأثرت عن الصوفية أجوبة تعليمية في مسائل كثيرة، فقد قيل للحسن البصري: قد أكثر الناس تعلم الآداب، فما أنفعها عاجلا وأوصلها آجلا؟ فقال: التفقه في الدين فإنه يصرف إليك قلوب المتعلمين، والزهد في الدنيا فإنه يقربك من رب العالمين، والمعرفة بما لله عليك يحويها كمال الإيمان.
11
وسئل ابن سيرين: أي الآداب أقرب إلى الله تعالى وأزلف للعبد عنده؟ فقال: معرفة بربوبيته، وعمل بطاعته، والحمد لله على السراء، والصبر على الضراء.
11
وكتب يوسف بن الحسين إلى بعض الحكماء: (أشكو ركوني إلى هذه الدنيا وما أجد في طبعي من الأخلاق التي لست أرضاها من نفسي لنفسي).
فكتب إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصل كتابك، وفهمت ما ذكرت، ومخاطبك أكرمك الله شريكك في شكواك، ونظيرك في بلواك. إن رأيت أن تديم الدعاء وقرع الباب فإنه من قرع الباب ولم يعجز عن القرع دخل، وإن تهيا لك ما تريد من الصفاء والطهارة فدع ما أنت فيه من البلاء من اقتراف مساوئ لا تجدي عليك منفعة في دينك ولا دنياك، وتجنب قرب من لا تأمن على نفسك في مواصلة الغفلة والبطالة، واستعن على ذلك كله بالقناعة والتجزي، وسله أن يمن عليك بتوبة طهري لا عملي، والسلام.
12
وكتب بعض إخوان سري السقطي إليه:
يا أخي، أوصيك بتقوى الله الذي يسعد بطاعته من أطاعه، وينتقم بمعصيته من عصاه، فلا تدعونك طاعته إلى الأمن من عذابه، ولا تدعونك معصيته إلى الإياس من رحمته، جعلنا الله وإياكم حذرين من غير قنوط، وله راجين من غير اغترار، والسلام.
13
وقد نظرت فرأيت للصوفية رسائل كثيرة تجري مجرى النصح، وتعين مقاصدهم في الحياة، وتبين إلى أي حد كانوا يهتمون بالأخلاق، ولنثبت هنا رسالة الجنيد إلى أبي بكر الكسائي، ففيها كثير من الإشارات التي توضح كيف كانوا يتواصون بالأدب والرفق:
أخي، أين محلك عند تعطيل العشار، وأين دارك وقد خربت الديار، وأين منزلك والمنازل قاع صفصف قفار، وأين مكانك والأماكن عواف دوارس الآثار، وماذا خبرك عند ذهاب جوامع الأخبار، وفيم نظرك عند اصطدام محاضر النظار، وفيم فكرك وليس بحين نظر ولا افتكار، وكيف هدوءك على ممر الليل والنهار، وكيف حذرك عند وقوع فواجع الأقدار، وكيف صبرك ولا سبيل إلى عزاء ولا اصطبار، فابك الآن إن وجدت سبيلا إلى البكاء، بكاء الوالهة الحزينة الموجعة الثكلى بفقد أعزة الألاف، وفناء أجلة الأخلاف، وإبادة ما مضى من الاكتناف، وذهاب مشايخ الاعتطاف، وورود بداية الاختطاف، وروادف عواصف الارتجاف وتتابع قواصف الانتساف، وبواهر قواهر الاعتكاف، وثواقب ملامح الاعتراف، فإلى أين موئلك، وإلام يبلغ مصدرك، والأحلام متمزقة، والقلوب متصدعة، والعقول منخلعة، والأنباء كلها مرتفعة، وأنت في أوابد مندمسة، ونجوم منطمسة، وسبل ملتبسة، قد أضلك في اختلاف مناهجها ظلماؤها، وانطبقت عليك أرضها وسماؤها. ثم أفضى بك ذلك إلى لجة اللجج والبحر الزاخر الغامر المختلج، الذي كل بحر دونه أو لجة، فهو فيه كتفلة أو مجة، فقد قذف بك في كثيف أمواجه، وتلاطم عليك بعظيم هوله وارتجاجه، فمن مستنقذك من متلفات المهالك، أو مخرجك مما هنالك؟ كتابي إليك، أبا بكر، وأنا أحمد الله حمدا كثيرا، وأسأله العفو والعافية في الدنيا والآخرة، وصل إلي منك كتب فهمت ما ذكرت فيها، ولم يمنعني من إجابتك عليها ما وقع في وهمك، وشق علي ما ذكرت من غمك، وليس حالك عندي حال معتوب عيه، بل حالك عندي حال معطوف عليه، وبحسبك من بلائك أن أكون سببا للزيادة في البلاء عليك، وإني عليك لمشفق، وإنما منعنى من مكاتبتك أني حذرت أن يخرج ما في كتابي إليك إلى غيرك بغير علمك، وذلك أني كتبت منذ مدة كتابا إلى أقوام من أهل أصبهان ففتح كتابي وأخذت نسخته، واستعجم بعض ما فيه على قوم فأتعبني تخلصهم، ولزمني من ذلك مؤونة عليهم، وبالخلق حاجة إلى الرفق، وليس من الرفق بالخلق ملاقاتهم بما لا يعرفون، ولا مخاطبتهم بما لا يفهمون، وربما وقع ذلك من غير قصد إليه، ولا تعمد له، جعل الله عليك واقية وجنة، وسلمنا وإياك، فعليك رحمك الله بضبط لسانك، ومعرفة أهل زمانك، وخاطب الناس بما يعرفون، ودعهم مما لا يعرفون، فقل من جهل شيئا إلا عاداه، وإنما الناس كالإبل المئة ليس فيها راحلة، وقد جعل الله تعالى العلماء والحكماء رحمة من رحمته وبسطها على عباده، فاعمل على أن تكون رحمة على غيرك إن كان الله قد جعلك بلاء على نفسك، واخرج إلى الخلق من حالك بأحوالهم، وخاطبهم من قلبك على حسب مواضعهم، فذلك أبلغ لك ولهم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
14
وإنما نقلنا هذا الخطاب على طوله لأنه وثيقة صوفية، والجنيد يبتدئ خطابه بالتذكير والتخويف، ويشير غلى ما ينتظر المتخلفين من الهول والفزع، ثم يترفق فيذكر أنه لم ينقطع عن مكاتبة رفيقه إلا خوفا من أن يقع كتابه في يد أناس لا يفقهون ما يقول، ويحكى أنه كتب مرة إلى أقوام من أهل أصبهان ففتح كتابه، وأخذت نسخته، واستعجم بعض ما فيه على قوم فأتعبه التخلص من ملاحقتهم بالقيل والقال، وكثرة السؤال. وفي هذه النقطة يظهر شيء من أحوال الصوفية: فقد كانوا يتكاتبون بما يشق فهمه على عامة الناس.
ثم ينتقل الجنيد فينصح رفيقه بهذه الكلمات:
فعليك رحمك الله بضبط لسانك، ومعرفة أهل زمانك، وخاطب الناس بما يعرفون، ودعهم مما لا يعرفون، فقل من جهل شيئا إلا عاداه.
ونشهد بأن هذه هي السياسة العليا، وهي تصلح للصوفية وغير الصوفية ولكن الصوفية إليها أحوج، لأنهم يعيشون في أودية من المعاني لا يفطن إليها إلا القليل.
وقد رأى الجنيد أن العلماء والحكماء رحمة من رحمة الله على عباده، ثم توجه إلى رفيقه بهذا النصح الحصيف: «فاعمل على أن تكون رحمة على غيرك، إن كان الله قد جعلك بلاء على نفسك».
وهو بذلك يوصيه أن يجمع بين حالين: حال الرفق مع الناس، وحال العنف مع النفس.
حرص الناس على وصايا الصوفية
ولنقيد أن الوصية كانت تطلب كثيرا جدا من الصوفية، فقد كان الناس يرونهم مظنة الخير والرشد، وينتظرون منهم كل جميل. ومن أمثلة الشغف بنصائحهم ما وقع لبشر الحافي وقد ظفر برؤية علي الجرجاني على عين ماء. قال بشر: فهرب مني وقال: بذنب مني رأيت اليوم إنسانا! فعدوت خلفه وقلت: أوصني، فقال: عانق الفقر، وعاشر الصبر، وعاد الهوى، وعاق الشهوات.
15
الروح الغالب على هذه الوصايا هو الدعوة إلى تطهير القلب، والتنفير من الدنيا الفانية، والتشويق إلى دار البقاء
وقد عقد الطوسي في كتاب اللمع فصلا لوصايا الصوفية، وهو فصل جيد تكفينا منه الإشارة إلى قول أبي سعيد الخراز لبعض أصحابه:
احفظ وصيتي، أيها المريد، وارغب في ثواب الله تعالى، وهو أن ترجع إلى نفسك الخبيثة فتذيبها بالطاعة وتميتها بالمخالفة، وتذبحها بالإياس فيما سوى الله، وتقتلها بالحياء من الله عز وجل، ويكون الله حسبك، وتسارع إلى جميع الخيرات، وتعمل في جميع المقامات وقلبك وجل أن لا يقبل منك.
16
وقول ذي النون:
يا أخي، اعلم أنه لا شرف أعلا من الإسلام، ولا كرم أعز من التقى، ولا عقل أحرز من الورع، ولا شفيع أنجح من التوبة، ولا لباس أجل من العافية، ولا وقاية أمنع من السلامة، ولا كنز أغنى من القنوع، ولا مال أذهب للفاقة من الرضا بالقوت، ومن اقتصر على بلغة الكفاف فقد انتظم الراحة، والرغبة مفتاح التعب، ومطية النصب، والحرص داع إلى التهجم في الذنوب، والشره جامع لمساوئ العيوب، ورب طمع كاذب، وأمل خائب، ورجاء يؤدي إلى الحرمان، وأرباح تؤول إلى الخسران.
17
وصايا ذي النون المصري
حياة ذي النون
من الصوفية من غلب عليه هذا الفن، وهو إسداء الوصايا والنصائح من هؤلاء ذو النون المصري، وهو رجل نشأ في أخميم، وتوفي بالجيزة سنة 246،
1
وكان ذو النون من أهل العلم، ولكن غلب عليه التصوف فشاعت عنه أمور دعت الناس إلى اتهامه بالزندقة، وسعى به قوم إلى المتوكل فاستحضره من مصر إلى بغداد، فسيق مقيدا مغلولا، وسافر معه جماعة من أهل مصر يشهدون عليه، فلما دخل على المتوكل وعظه فبكى ورده مكرما، وعاد خصومه خاسئين.
قال إسحق بن إبراهيم السرخسي: سمعت ذا النون وفي يده الغل، وفي رجله القيد، وهو يساق إلى المطبق والناس يبكون حوله وهو يقول: هذا من مواهب الله تعالى ومن عطاياه، وكل فعاله عذب حسن طيب، ثم أنشد:
لك من قلبي المكان المصون
كل لوم علي فيك يهون
لك عزم بأن أكون قتيلا
فيك والصبر عنك ما لا يكون
2
وكان ذو النون يهيجه السماع، فقد حدثوا أنه لما دخل بغداد اجتمع إليه الصوفية ومعهم قوال فابتدأ ينشد:
صغير هواك عذبني
فكيف به إذا احتنكا
وأنت جمعت من قلبي
هوى قد كان مشتركا
أما ترثي لمكتئب
إذا ضحك الخلي بكى
فقام ذو النون وسقط على وجهه والدم يقطر منه.
3
ومن كلامه: الصوفية هم قوم آثروا الله على كل شيء، فآثرهم على كل شيء.
والكلام عن ذي النون كثير جدا، ويكفي أن نحيل القارئ على ترجمته في الجزء الثاني من كتاب (جامع كرامات الأولياء) للنابلسي، فقد جمع أكثر أخباره وكراماته، هو شخصية جذابة تستحق الدرس، ولكن منهج البحث لا يسمح بأكثر من هذه الفقرات.
شواهد من وصاياه
ونصائح ذي النون كثيرة جدا، وهي في فنون مختلفة من الأخلاق، ونحن ذاكرون طائفة قليلة تبين مذهبه في القول، وطريقته في إصلاح القلوب.
الوصية الأولى: «ليس بذي لب من كاس
4
في أمر دنياه، وحمق في أمر آخرته، ولا من سفه من مواطن حلمه، وتكبر في مواطن تواضعه، ولا من فقد منه الهوى في مواضع طمعه، ولا من غضب من حق إن قيل له، ولا من زهد فيما يرغب العاقل في مثله، ولا من رغب فيما يزهد الأكياس في مثله، ولا من استقل الكثير من خالقه عز وجل، واستكثر قليل الشكر من نفسه، ولا من طلب الإنصاف من غيره لنفسه، ولم ينصف من نفسه غيره، ولا من نسي الله في مواطن طاعته، وذكر الله في مواطن الحاجة إليه، ولا من جمع العلم فعرف به ثم آثر عليه هواه عند متعلمه، ولا من قل منه الحياء من الله على جميل ستره، ولا من أغفل الشكر عن إظهار نعمته، ولا من عجز عن مجاهدة عدوه لنجاته إذا صبر عدوه على مجاهدته، ولا من جعل مروءته لباسه، ولم يجعل أدبه وورعه وتقواه لباسه، ولا من جعل علمه ومعرفته تظرفا وتزيينا في مجلسه».
وهذه الوصية نقلها ابن عربي في الفتوحات،
5
ويظهر أنه قالها في أحد المجالس، بدليل قوله: «ثم قال: استغفر الله، إن الكلام كثير، وإن لم تقطعه لم ينقطع، ثم قام وهو يقول: لا تخرجوا من ثلاثة: النظر في دينكم بإيمانكم، والتزود لآخرتكم من دنياكم، والاستعانة بربكم فيما أمركم به، ونهاكم عنه».
الوصية الثانية: «ومن نظر في عيوب الناس عمي عن عيوب نفسه، ومن اعتنى بالفردوس والنار شغل عن القيل والقال، ومن هرب من الناس سلم من شرهم، ومن شكر المزيد زيد له».
6
الوصية الثالثة:
واعتل رجل من إخوان ذي النون فكتب إليه أن يدعو له فكتب إليه ذو النون:
سألتني أن أدعو الله لك أن يزيل عنك النعم، واعلم يا أخي أن العلة مجازاة يأنس بها أهل الصفاء والهمم والضياء ... ومن لم يعد البلاء نعمة فليس من الحكماء، ومن لم يأمن الشفيق على نفسه فقد أمن أهل التهم على أمره، فليكن معك يا أخي حياء يمنعك عن الشكوى، والسلام.
7
ومن هذه الشواهد القليلة نعرف اتجاه ذي النون في فهم الأخلاق، فهو رجل يرى الخير كل الخير في الأنس بطاعة الله، ويرى المغنم الحق في صفاء القلوب.
الشجاعة الأدبية
حب الدنيا هو أصل الجبن
الشجاعة من أشرف مناقب الرجال، وهي من أظهر شمائل الصوفية، وإنما كان الصوفية من الشجعان لأنهم استهانوا بالدنيا، وزهدوا في طيبات العيش. وحب الدنيا والعيش أصل الجبن والخضوع، وما أحب رجل الدنيا إلا ذل، ورأى السلامة في التلمق والرياء.
وكيف لا يشجع من يتخلق بأدب أبي حازم إذ يقول: إنما بيني وبين الملوك يوم واحد، أما أمس فلا يجدون لذته، وأنا وهم من غد على وجل، وإنما هو اليوم، فما عسى أن يكون اليوم؟
1
شجاعة بنان الحمال
ولولا الشجاعة ما استطاع بنان الحمال أن يقدم على ما فعل يوم قام إلى وزير خمارويه فأنزله عن دابته ، وكان نصرانيا، وقال: لا تركب الخيل ويلزمك ما هو مأخوذ عليكم في ملتكم.
2
أعرابي ينصح سليمان بن عبد الملك
ولولا الاستهانة بالعواقب ما استطاع رجل أن يقول لسليمان بن عبد الملك:
سأطلق لساني بما خرست عنه الألسن، تأدية لحق الله تعالى، إنه قد اكتنف رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم، وابتاعوا دنياك بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، وخافوك في الله ولم يخافوا الله فيك، فهم حرب للآخرة، وسلم للدنيا، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه، فإنهم لم يألوا الأمانة تضييعا، والأمة كسفا وخسفا، وأنت مسئول عما اجترموا، وليسوا مسئولين عما اجترمت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فإن أعظم الناس عند الله غبنا من باع آخرته بدنيا غيره.
3
شعيب بن حرب والرشيد
وكان الصوفية يحسبون أنفسهم مسئولين عن تذكير الملوك، يدل على ذلك قول شعيب بن حرب:
بينا أنا في طريق مكنة إذ رأيت هارون الرشيد فقلت لنفسي: قد وجب عليك الأمر والنهي، فقالت لي: لا تفعل، فإن هذا رجل جبار، ومتى أمرته ضرب عنقك، فقلت لنفسي: لا بد من ذلك، فلما دنا مني صحت: يا هارون! قد أتعبت الأمة، وأتعبت البهائم! فقال: خذوه! فأدخلت عليه وهو على كرسي وبيده عمود يلعب به، فقال: ممن الرجل؟ قلت: من أفناء الناس، فقال: ممن؟ ثكلتك أمك! قلت: من الأبناء، قال: فما حملك على أن تدعوني باسمي؟ قال شعيب: فورد على قلبي كلمة ما خطرت لي قط على بال. فقلت له: أنا أدعو الله باسمه فأقول: يا الله، يا رحمن، ولا أدعوك باسمك؟ وما تنكر من دعائي باسمك؟ وقد رأيت الله سمى في كتابه أحب الخلق إليه محمدا، وكنى أبغض الخلق إليه أبا لهب فقال: تبت يدا أبي لهب! فقال هارون: أخرجوه، فأخرجوني.
4
وشعيب هذا صادق فيما حدث به، وهذا الصدق يرشدنا إلى ما كان يعرف عن الصوفية أحيانا من الحذلقة والتكلف، وإلا فما معنى هذه التهمة الجوفاء: يا هارون، قد أتعبت الأمة، وأتعبت البهائم!
وقد اتفق أن خطب المنصور فحمد الله ومضى في كلامه، فلما انتهى إلى (أشهد أن لا إله إلا الله) وثب رجل من أقصى المسجد، فقال: أذكرك من تذكر! فقال المنصور: سمعا لمن فهم عن الله وذكر به، وأعوذ بالله أن أكون جبارا عصيا، وأن تأخذني العزة بالإثم، لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين، وأنت والله أيها القائل ما أردت بها الله، ولكن حاولت أن يقال قام فقال فعوقب فصبر، وأهون بقائلها لو هممت، فاهتبلها ويلك إذا عفوت، وإياكم معشر الناس وأختها، فإن الموعظة علينا نزلت، ومن عندنا انبثت، فردوا الأمر إلى أهله يصدروه كما أوردوه.
5
وهذا الخبر يفهمنا أنه كانت هناك وثبات للواعظين، وأن الخلفاء كانوا يعرفون ذلك، وأنه كان من لذات بعض الناس أن يقال: قام فقال فعوقب فصبر.
والحق أنه يعسر الاطمئنان إلى صدق الشجاعة الأدبية في جميع الأحوال، فهي في بعض الأحيان زهو وخيلاء، والإثم فيها أكبر من النفع، وهي كسائر الفضائل عرضة للرياء، والرياء يمحق جلائل الأعمال.
الفضيل بن عياض
ومن المؤكد أن الصوفية لم يكونوا جميعا مرائين، فلأكثرهم مقامات جمعت بين الشجاعة والصدق، ومن شواهد ذلك ما صنع الفضيل بن عياض مع الرشيد، فقد ذهب الرشيد لزيارته ليلا مع الفضل بن الربيع، فلما وصلا إلى بابه سمعاه يقرأ:
أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون
فقال الرشيد للفضل: إن انتفعنا بشيء فبهذا. فناداه الفضل: أجب أمير المؤمنين. فقال: وما يعمل عندي أمير المؤمنين؟ قال الفضل فقلت: سبحان الله! أما له عليك طاعة؟ فنزل ففتح الباب ثم ارتقى إلى الغرفة فأطفأ السراج، ثم التجأ إلى زاوية من زوايا البيت، فدخلنا فجعلنا نجول عليه بأيدينا، فسبقت كف أمير المؤمنين قبلي إليه. فقال: يا لها من كف ما ألينها إن نجت غدا من عذاب الله عز وجل! فقلت في نفسي: ليكلمنه الليلة بكلام من قلب تقي. فقال له: خذ فيما جئناك له رحمك الله! فقال له: إن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبد الله، ومحمد بن كعب القرظي ، ورجاء بن حيوة، فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا علي، فعد الخلافة بلاء، وعددتها أنت وأصحابك نعمة. فقال له سالم ابن عبد الله: إن أردت النجاة من عذاب الله فصم عن الدنيا، وليكن فطرك منها الموت. وقال له محمد بن كعب: إن أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المسلمين عندك أبا، وأوسطهم عندك أخا، وأصغرهم عندك ابنا، فوقر أباك، وأكرم أخاك، وتحنن على ولدك. وقال له رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غدا من عذاب الله فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إذا شئت.
وإني أقول لك يا هارون: إني أخاف عليك أشد الخوف يوما تزل فيه الأقدام، فهل معك رحمك الله من يشير بمثل هذا؟ فبكى هارون بكاء شديدا حتى غشي عليه.
قال الفضل فقلت: ارفق بأمير المؤمنين! فقال: تقتله أنت وأصحابك، وأرفق به أنا؟
ثم أفاق. فقال له: زدني رحمك الله. فقال له: يا أمير المؤمنين، بلغني أن عاملا لعمر ابن عبد العزيز شكا إليه، فكتب إليه: يا أخي، أذكرك بسهر أهل النار في النار مع خلود الأبد. وإياك أن ينصرف بك من عند الله عز وجل فيكون آخر العهد وانقطاع الرجاء. فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر بن عبد العزيز فقال له: ما أقدمك؟ قال: خلعت قلبي بكتابك لا أعود إلى ولاية حتى ألقى الله عز وجل.
قال: فبكى هارون بكاءا شديدا ثم قال له: زدني يرحمك الله، فقال: يا أمير المؤمنين، إن العباس عم المصطفى
صلى الله عليه وسلم
جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله، أمرني على إمارة، فقال له: يا عم، إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة، فإن استطعت أن لا تكون أميرا فافعل.
فبكى هارون بكاء شديدا، وقال له: زدني رحمك الله، فقال: يا حسن الوجه، أنت الذي يسألك الله عز وجل عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه فافعل، وإياك أن تصبح أو تمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك.
فبكى هارون وقال له: هل عليك دين؟ فقال: نعم، دين لربي لم يحاسبني عليه، فالويل لي إن سألني والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم ألهم حجتي. قال الرشيد: إنما أعنى دين العباد. فقال الفضيل: إن ربي لم يأمرني بهذا، وقد قال عز وجل: إن الله هو الرزاق. فقال له الرشيد: هذه ألف دينار خذها وأنفقها على عيالك، وتقو بها على عبادتك، فقال: سبحان الله! أنا أدلك على طريق النجاة وأنت تكافئني بمثل هذا؟
6
العمري
ومن طريف المواقف ما حدث به سعيد بن سليمان قال:
كنت بمكة وإلى جانبي عبد الله بن عبد العزيز العمري، وقد حج هارون الرشيد وقال له إنسان: يا أبا عبد الله، هو ذا أمير المؤمنين يسعى، وقد أخلي له المسعى، قال العمري للرجل: لا جزاك الله عني خيرا، كلفتني أمرا كنت عنه غنيا. ثم قام فتبعه، فأقبل هارون الرشيد من المروة يريد الصفا، فصاح به: هارون! فلما نظر إليه قال: لبيك يا عمري! قال: ارق الصفا، فلما رقاها قال: ارم بطرفك إلى البيت، قال هارون: قد فعلت. قال: كم هم؟ قال: ومن يحصيهم؟ قال: فكم في الناس مثلهم؟ قال: خلق لا يحصيهم إلا الله! قال: اعلم أيها الرجل أن كل واحد منهم يسأل عن خاصة نفسه، وأنت وحدك تسأل عنهم كلهم، فانظر كيف تكون! - فبكى هارون - فقال العمري: وأخرى أقولها. قال: قل يا عم! قال: والله إن الرجل ليسرف في ماله فيستحق الحجر عليه، فكيف بمن أسرف في مال المسلمين!
قال البغوي: فبلغني أن هارون الرشيد كان يقول: إني لأحب أن أحج كل سنة ما يمنعني إلا رجل من ولد عمر يسمعني ما أكره.
7
وقريب من هذا المقام في الخشونة والصدق ما كان بين أبي حازم وسليمان بن عبد الملك، فقد حج سليمان وبعث إلى أبي حازم حين قدم المدينة للزيارة، فلما دخل قال: تكلم، يا أبا حازم، قال: فيم أتكلم، يا أمير المؤمنين؟ قال : في المخرج من هذا الأمر . قال: يسير، إن فعلته! قال: وما ذاك؟ قال: لا تأخذ الأشياء إلا من حلها، ولا تضعها إلا في أهلها. قال: ومن يقوى ذلك؟ قال: من قلده الله من أمر الرعية ما قلدك! قال: عظني يا أبا حازم. قال: اعلم أن هذا الأمر لم يصر إليك إلا بموت من كان قبلك، وهو خارج من يديك، بمثل ما صار إليك. قال: يا أبا حازم، أشر علي، قال: إنما أنت سوق، فما نفق عندك حمل إليك من خير أو شر، فاختر أيهما شئت! قال: ما لك لا تأتينا؟ قال: وما أصنع بإتيانك يا أمير المؤمنين، إن أدنيتني فتنتني، وإن أقصيتني أخزيتني، وليس عندك ما أرجوك له، ولا عندي ما أخافك عليه! قال: فارفع إلينا حاجتك. قال: قد رفعتها إلى من هو أقدر منك عليها، فما أعطاني منها قبلت، وما منعني منها رضيت.
8
ابن السماك
وكان في الزهاد من يغرب في الوعظ حتى يصل إلى الإسفاف في الصورة واللفظ، فقد قال الرشيد لابن السماك: عظني - وأتى بماء ليشربه - فقال: يا أمير المؤمنين! لو حبست عنك هذه الشربة، أكنت تفديها بملكك؟ قال: نعم! قال: فلو حبس عنك خروجها أكنت تفديها بملكك؟ قال: نعم! قال: فما خير في ملك لا يساوي شربة ولا بولة.
8
وهذه الغلظة أعقبت بكلمات أطيب من المسك، فقد قال الرشيد: يا ابن السماك، ما أحسن ما بلغني عنك! فقال: يا أمير المؤمنين، إن لي عيوبا لو اطلع الناس منها على عيب واحد ما ثبتت لي في قلب واحد مودة، وإني لخائف في الكلام الفتنة، وفي السر الغرة، وإني لخائف على نفسي من قلة خوفي عليها.
8
صالح بن عبد الجليل
والواقع أن مقامات الزهاد عند الخلفاء والملوك تدل على أمرين: الأول: شجاعة أولئك الزهاد، وقدرتهم على الجهر بكلمة الحق، والثاني: صلاحية بعض الخلفاء والملوك لاستماع نصح الناصحين من أهل البر والتقوى، وإقبالهم على من ينهاهم عن المنكر ويأمرهم بالمعروف، يدل على ذلك قول صالح بن عبد الجليل بين يدي المهدي:
إنه لما سهل علينا ما توعر على غيرنا من الوصول إليك، قمنا مقام الأداء عنهم، وعن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بإظهار ما في أعناقنا من فريضة الأمر والنهى عند انقطاع عذر الكتمان، ولا سيما حين اتسمت بميسم التواضع، ووعدت الله وحملة كتابه إيثار الحق على ما سواه، فجمعنا وإياك مشهد من مشاهد التمحيص ليتم مؤدينا على موعود الأداء، وقابلنا على موعود القبول، أو يزيدنا تمحيص الله إيانا في اختلاف السر والعلانية ويحلينا حلية الكذابين، فقد كان أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقولون: من حجب الله عنه العلم عذبه على الجهل، وأشد منه عذابا من أقبل إليه العلم وأدبر عنه. ومن أهدى الله إليه علما فلم يعمل به فقد رغب عن هدية الله وقصر بها، فاقبل ما أهدى الله إليك من ألسنتنا قبول تحقيق، وعمل لا قبول سمعة ورياء، فإنه لا يعدمك منا إعلام لما تجهل، أو مواطأة على ما تعلم، أو تذكير من غفلة ... أطلع الله على قلبك ما ينوره من إيثار الحق ومنابذة الأهواء.
9
وكلام صالح هذا فيه تصريح بأن الزهاد كان يسهل عليهم ما يتوعر على غيرهم من الوصول إلى الخلفاء، وفيه كذلك تصريح بأن من المواعظ ما كان يقبله الخلفاء قبول سمعة ورياء، ومعنى هذا أن تقريب الزهاد كان من السياسة قبل أن يكون من الدين، أو هو مزاج من السياسة والدين، وهذا الملحظ قد يحط من شجاعة الزهاد وإخلاص الخلفاء، ولكن لا ريب في أن هذه المظاهر فيها خير ملموس، والزهاد لا يصلون إلى هذه المواطن إلا بعد أن يكونوا استطاعوا تثبيت سلطتهم الروحية، والخلفاء لا يستقدمون الزهاد ليسمعوا مواعظهم إلا وفي قلوبهم شيء من عناصر الرشد وأصول الاهتداء.
عمرو بن عبيد
غير أن هذه الوصولية السياسية لم تطرد في جميع المقامات، فقد كان المنصور يعرف عمرو بن عبيد قبل أن يتولى الخلافة، وكان يعتقد أنه على جانب عظيم من الصدق والإخلاص، فكان يستقدمه لينتفع برأيه، وإن كان ذلك لا يمنع أنه كان يسر بأن يقال إنه انتفع بمواعظ عمرو بن عبيد، والضمائر لا يعرفها إلا علام الغيوب.
ولنسق حديث ابن عبيد مع المنصور، فهو نموذج في الأدب وفي الأخلاق:
حدث إسحاق بن المفضل الهاشمي قال: إني لعلى باب المنصور يوما وإلى جنبي عمارة بن حمزة إذ طلع عمرو بن عبيد على حمار، فنزل عن حماره ثم دفع البساط برجله وجلس دونه، فالتفت إلي عمارة وقال: لا تزال بصرتكم ترمينا منها بأحمق! فما فصل كلامه من فيه حتى خرج الربيع، وهو يقول: أبو عثمان عمرو بن عبيد، قال: فوالله ما دل على نفسه حتى أرشد إليه، فأتكأه يده، ثم قال له: أجب أمير المؤمنين، جعلت فداك! فمرمتكئا عليه، فالتفت إلى عمارة فقلت له: إن الرجل الذي استحمقته قد أدخل وتركنا، فقال: كثيرا ما يكون ذلك، فأطال اللبث، ثم خرج الربيع وهو متوكئ عليه والربيع يقول: يا غلام، حمار أبي عثمان، فما برح حتى أتى بالحمار، فأقره على سرجه، وضم إليه نشر ثوبه، واستودعه الله. فأقبل عمارة على الربيع، فقال: لقد فعلتم اليوم بهذا الرجل ما لو فعلتموه بولي عهدكم لقضيتم ذمامه! قال: فما غاب عنك مما فعل به أكثر وأعجب! قال عمارة: فإن اتسع لك الحديث فحدثنا، فقال الربيع: ما هو إلا أن سمع الخليفة بمكانه فما أمهل حتى أمر بمجلس ففرش لبودا، ثم انتقل إليه والمهدي معه عليه سواده وسيفه، ثم إذن له. فلما دخل عليه سلم بالخلافة فرد عليه، وما زال يدنيه حتى أتكأه فخذه وتحفى به، ثم سأله عن نفسه وعن عياله يسميهم رجلا رجلا وامرأة امرأة، ثم قال: يا أبا عثمان، عظنا. فقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
والفجر * وليال عشر * والشفع والوتر * والليل إذا يسر
ومر فيها إلى آخرها وقال: إن ربك يا أبا جعفر لبالمرصاد. قال: فبكى المنصور بكاء شديدا كأنه لم يسمع تلك الآيات إلا تلك الساعة، ثم قال: زدني. فقال: إن الله أعطاك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك منه ببعضها، واعلم أن هذا الأمر الذي صار إليك إنما كان في يد من كان قبلك ثم أفضى إليك، وكذلك يخرج منك إلى من هو بعدك، وإني أحذرك ليلة تمخض صبيحتها عن يوم القيامة. قال: فبكى أشد من بكائه الأول حتى رجف جنباه. وفي رواية أخرى أنه لما انتهى إلى آخر السورة قال: يا أمير المؤمنين، إن ربك لبالمرصاد لمن عمل مثل عملهم أن ينزل به مثل ما نزل بهم، فاتق الله فإن من وراء بابك نيرانا تأجج من الجور، ما يعمل فيها بكتاب الله، ولا بسنة رسوله، فقال: يا أبا عثمان، إنا لنكتب إليهم في الطوامير نأمرهم بالعمل بالكتاب، فإن لم يفعلوا فما عسى أن أصنع؟ فقال له: مثل أذن الفأرة يجزيك من الطوامير، الله، أتكتب إليهم في حاجة نفسك فينفذونها وتكتب إليهم في حاجة الله فلا ينفذونها؟ والله لو لم ترض من عمالك إلا رضا الله إذن لتقرب إليك من لا نية له فيه.
وكان في المجلس سليمان بن مجالد فقال: رفقا بأمير المؤمنين؛ فقد أتعبته منذ اليوم.
فقال له عمرو بن عبيد: بمثلك ضاع الأمر وانتشر، لا أبا لك، وماذا على أمير المؤمنين أن بكى من خشية الله!
وفي رواية أخرى أن سليمان بن مجالد لما قال له ذلك رفع عمرو رأسه فقال له: من أنت؟ فقال أبو جعفر: أولا تعرفه، يا أبا عثمان؟ قال: لا، ولا أبالي أن لا أعرفه! فقال له: هذا أخوك سليمان بن مجالد. فقال: هذا أخو الشيطان! ويلك، يا ابن مجالد، خزنت نصيحتك عن أمير المؤمنين، ثم أردت أن تحول بينه وبين من أراد نصيحته. يا أمير المؤمنين، إن هؤلاء اتخذوك سلما لشهواتهم، فأنت كالآخذ بالقرنين وغيرك يحلب! فاتق الله فإنك ميت وحدك، ومحاسب وحدك، ومبعوث وحدك، ولن يغني عنك هؤلاء من ربك شيئا.
فقال له المنصور: يا أبا عثمان، أعنى بأصحابك أستغن بهم. فقال له: أظهر الحق يتبعك أهله.
ثم قال المنصور: بلغني أن محمد بن عبد الله بن الحسن كتب إليك كتابا. فقال : قد جاءني كتاب يشبه أن يكون كتابه. قال: فبماذا أجبته؟ قال: أولست قد عرفت رأيي في السيف أيام كنت تختلف إلينا وأني لا أراه؟ قال: أجل. ولكن تحلف ليطمئن قلبي. قال: لئن كذبتك تقية لأحلفن لك تقية! فقال المنصور: أنت الصادق البار، وقد أمرت لك بعشرة آلاف درهم تستعين بها على زمانك. فقال: لا حاجة لي فيها، فقال المنصور: والله لتأخذنها، فقال عمرو: والله لا آخذنها، فقال له المهدي: يحلف أمير المؤمنين وتحلف؟ فأقبل عمرو على المنصور وقال: من هذا الفتى؟ فقال: هذا ابني محمد، وهو المهدي ولي العهد، فقال: والله لقد سميته اسما ما استحقه بعمل وألبسته لبوسا ما هو لبوس الأبرار. ولقد مهدت له أمرا أمتع ما يكون أشغل ما تكون عنه.
ثم قال المنصور: يا أبا عثمان، هل من حاجة؟ قال: نعم، يرفع هذا الطيلسان عني - وكان المنصور طرح عليه طيلسانا حين دخل عليه.
ثم قال له المنصور: لا تدع إتياننا، يا أبا عثمان.
فقال: نعم، لا يضمني وإياك بلد إلا دخلت إليك، ولا بدت لي حاجة إلا سألتك، ولكن لا تعطني حتى أسألك، ولا تدعني حتى آتيك!
فقال المنصور: إذن لا تأتينا أبدا!
ثم ودع المنصور ونهض، فلما ولى أتبعه بصره وأنشأ يقول:
كلكم طالب صيد
كلكم يمشي رويد
غير عمرو بن عبيد
ونحن مطمئنون إلى صدق ابن عبيد في النصح وصدق المنصور في الاستماع، وللملوك لحظات ينسون فيها الوصولية السياسية وينصتون إلى صوت الوجدان.
10
أحزاب المعارضين وسياستهم في اختراع النصائح
والظاهر أن المنصور كان من الشخصيات المعروفة بالتسامح، فقد رأينا آنفا كيف يقف رجل فيذكره بالله وهو يخطب، وقد ذكر ابن قتيبة أنه سمع وهو يطوف ليلا قائلا يقول: «اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع».
فخرج المنصور فجلس ناحية من المسجد وأرسل إلى الرجل يدعوه، فصلى الرجل ركعتين واستلم الركن وأقبل مع الرسول فسلم عليه بالخلافة فقال له المنصور: ما الذي سمعتك تذكر من ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع، فوالله لقد حشوت مسامعي ما أرمضني.
11
فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، إن أمنتني على نفسي أنبأتك بالأمور من أصولها، وإلا احتجزت منك واقتصرت على نفسي ففيها لي شاغل، فقال المنصور: أنت آمن فقل، فقال: إن الذي دخله الطمع حتى حال بينه وبين ما ظهر من البغي والفساد لأنت!
فقال المنصور: ويحك! وكيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في قبضتي، والحلو والحامض عندي؟
فقال الرجل: وهل دخل أحدا من الطمع ما دخلك؟ إن الله تبارك وتعالى استرعاك المسلمين وأموالهم، فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم، وجعلت بينك وبينهم حجابا من الجص والآجر، وأبوابا من الحديد وحجبة معهم السلاح، ثم سجنت نفسك فيها عنهم، وبعثت عمالك في جباية الأموال وجمعها، وقويتهم بالرجال والسلاح والكراع، وأمرت بأن لا يدخل عليك من الناس إلا فلان وفلان، نفر سميتهم، ولم تأمر بإيصال المظلوم، ولا الملهوف ولا الجائع العاري، ولا الضعيف الفقير، ولا أحد إلا وله في هذا المال حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك، وآثرتهم على رعيتك، وأمرت أن لا يحجبوا عنك، تجبي
12
الأموال وتجمعها ولا تقسمها، قالوا: هذا قد خان الله، فما بالنا لا نخونه، وقد سجن لنا نفسه؟ فائتمروا بأن لا يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا، ولا يخرج لك عامل فيخالف أمرهم إلا خونوه عندك، ونفوه حتى تسقط منزلته، ويصغر قدره. فلما انتشر ذلك عنك وعنهم أعظمتهم الناس وهابوهم فكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا والأموال ليقووا بها على ظلم رعيتك. ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة من رعيتك لينالوا به ظلم من دونهم فامتلأت بلاد الله بالطمع بغيا وفسادا، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك، وأنت غافل. فإن جاء متظلم حيل بينه وبين دخول مدينتك، وإن أراد رفع قصته إليك ن ظهورك وجدك قد نهيت عن ذلك، وأوقفت للناس رجلا ينظر في مظالمهم، فإن جاء الرجل فبلغ بطانتك خبره سألوا صاحب المظالم ألا يرفع مظلمته إليك ، فإن المتظلم منه له بهم حرمة، فأجابهم خوفا منهم، فلا يزال المظلوم يختلف إليه ويلوذ به ويشكو ويستغيث، وهو يدفعه ويعتل عليه، فإذا أجهد وأحرح وظهرت صرخ بين يديك فضرب ضربا مبرحا ليكون نكالا لغيره، وأنت تنظر فلا تنكر، فما بقاء الإسلام على هذا! وقد كنت يا أمير المؤمنين أسافر إلى الصين فقدمتها مرة وقد أصيب ملكها بسمعه، فبكى يوما بكاء شديدا، فحثه جلساؤه على الصبر فقال: أما إني لست أبكي للبلية النازلة بي، ولكني أبكي لمظلوم بالباب يصرخ ولا أسمع صوته، ثم قال: أما إذ ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب، نادوا في الناس أن لا يلبس ثوبا أحمر إلا متظلم، ثم كان يركب الفيل طرفي نهاره، وينظر: هل يرى مظلوما؟ فهذا يا أمير المؤمنين مشرك بالله غلبت رأفته بالمشركين شح نفسه، وأنت مؤمن بالله، ثم من أهل بيت النبي ولا تغلب رأفتك بالمسلمين على شح نفسك! فإن كنت إنما تجمع المال لولدك فقد أراك الله عبرا في الطفل يسقط من بطن أمه، وماله على الأرض مال، وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه، فما يزال الله يلطف بذلك الطفل حتى تعظم رغبة الناس إليه. ولست بالذي تعطي، بل الله يعطي من يشاء ما يشاء. وإن قلت إنما أجمع المال لتشديد السلطان فقد أراك الله عبرا في بني أمية: ما أغنى عنهم ما جمعوا من الذهب والفضة، وأعدوا من الرجال والسلاح والكراع، حين أراد الله بهم ما أراد، وإن قلت إنما أجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنا فيها، فو الله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة لا تدرك إلا بخلاف ما أنت عليه. يا أمير المؤمنين، هل تعاقب من عصاك بأشد من القتل؟ قال المنصور: لا. قال: فكيف تصنع بالملك الذي خولك ملك الدنيا وهو لا يعاقب من عصاه بالقتل، ولكن بالخلود في العذاب الأليم، قد رأى ما قد عقد عليه قلبك، وعملته جوارحك، ونظر إليه بصرك، واجترحته يداك، ومشت إليه رجلاك، هل يغني عنك ما شححت عليه من الدنيا إذا انتزعه من يدك، ودعاك إلى الحساب؟ فبكى المنصور وقال: يا ليتني لم أخلق! ويحك! فكيف أحتال لنفسي؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن للناس أعلاما يفزعون إليهم في دينهم ويرضون بهم، فاجعلهم بطانتك يرشدوك، وشاورهم في أمرك يسددوك، قال: قد بعثت إليهم فهربوا مني، قال: خافوا أن تحملهم على طريقتك، ولكن افتح بابك، وسهل حجابك، وانصر المظلوم، واقمع الظالم، وخذ الفيء والصدقات مما حل وطاب، واقسمه بالحق والعدل على أهله، وأنا الضامن عنهم أن يأتوك ويسعدوك على صلاح الأمة.
وجاء المؤذنون فسلموا عليه فصلى وعاد إلى مجلسه، وطلب الرجل فلم يوجد.
13
ولكن أكان المنصور حقا متسامحا حتى يستمع مثل هذا الحساب؟ أنا أستبعد أن يكون هذا الحديث صحيحا، وأرجح أنه وضع لغاية من غايات المعارضين، ودليل هذا الترجيح أن القائل مجهول: فهو أحد الزهاد، وأنه حفظ بلغة قوية، لا يعقل أن تسمع فتحفظ، ولو كان حوارا طارئا طلب صاحبه فلم يوجد لما أمكن أن تحفظ منه هذه الصورة القوية.
والمعقول أن يكون هذا الحديث من وضع رجل ثائر كان يكره بني أمية وبني العباس، فإن التعمق في وصف حجاب المنصور، وما كان يقع لعهده من إغفال المظالم، ومن سيطرة الوزراء لا يتفق إلا لرجل ثائر على تقاليد ذلك العهد. والثورة على الاستبداد بالملك وتصريف أمور الناس كانت كثيرة الوقوع في تلك الأيام، وكانت التورية عن فساد النظام مما يطيب للكتاب والشعراء. وقد كثر القول بأن ابن المقفع لم يترجم كليلة ودمنة إلا ليحارب به ما كان يراه من ظلم الخلفاء، فليس من المستبعد أن توضع الأحاديث على ألسنة الزهاد ليكون في إذاعتها تنديد بالسياسة الظالمة التي يرتكبها خلفاء بني العباس في بعض الأحيان.
ولنتذكر أن شخصية «الوزير» ملحوظة في هذا الحديث، والوزير كان في تلك العهود نموذجا من نماذج الغطرسة والعنف والإجحاف، وكان لا بد أن يحاربه الناس بسوء القالة إن عجزوا عن محاربته بالسلاح.
ومنشئ هذا الحديث جعل بطله من الزهاد، وهذا يدلنا على أن الصوفية في تلك الأيام كانت لهم سلطة روحية وخلقية، وكان من المعروف عنهم أن يجهروا بكلمة الحق، وأن لا يبالوا غضب الخلفاء والوزراء، فاختيار بطل الحديث من الصوفية هو الشاهد على ما كان يعرف عنهم من الشجاعة الأدبية.
ولسنا نعرف بالضبط من أي حزب كان منشئ هذا الحديث، والظاهر أنه كان يميل إلى الصوفية، فقد قال له المنصور: كيف أحتال لنفسي؟ فأجاب: إن للناس أعلاما يفزعون إليهم في دينهم، ويرضون بهم، فاجعلهم بطانتك يرشدوك، وشاورهم في أمرك يسددوك.
ولم يكتف بهذا في تمجيد أصحابه من أهل الزهد، بل ادعى أن المنصور قال: قد بعثت إليهم فهربوا مني، وهو بذلك يجعلهم أصلح الناس لولاية الأمر، وأخوفهم من الاتصال بأهل الدنيا، وأقدرهم على احتقار المناصب البراقة: مناصب الوزراء.
وجملة القول: أن هذا الحديث يشهد بأن أحزاب المعارضين كانت تتستر باسم الزهاد والصوفية، ومعنى ذلك أن الزهاد والصوفية كانوا معروفين بالجرأة والشجاعة في الدفاع عن الحق، وكان ما ينشر باسمهم خليقا بأن يتلقاه كبار الناس بالقبول. وبعض ذلك كاف للاقتناع بأنهم كانوا قوة خلقية في ذلك الحين.
شجاعة الأوزاعي في مواقف تحكمت فيها الأحقاد السياسية
ويماثل هذا المقام مقام الأوزاعي بين يدي المنصور، ذكره عبد الله المبارك عن رجل من أهل الشام قال: دخلت عليه فقال: ما الذي أبطأ بك عني؟ قلت: يا أمير المؤمنين، وما الذي تريد مني؟ فقال: الاقتباس منك. قلت: انظر ما تقول؛ فإن مكحولا حدثني عن عطية بن بشير أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «من بلغه عن الله نصيحة في دينه فهي رحمة من الله سقيت إليه، فإن قبلها من الله بشكر وإلا كانت حجة من الله عليه، ليزداد إثما وليزداد الله عليه غضبا، وإن بلغه شيء من الحق فرضي فله الرضا، وإن سخط فله السخط، ومن كرهه فقد كره الله؛ لأن الله هو الحق المبين».
فلا تجهلن. قال: وكيف أجهل؟ قال: تسمع ولا تعمل بما تسمع!
قال الأوزاعي: فسل علي الربيع السيف . وقال: تقول لأمير المؤمنين هذا ؟ فانتهره المنصور وقال: أمسك، ثم كلمه الأوزاعي وكان في كلامه أن قال: إنك قد أصبحت من هذه الخلاقة بالذي أصبحت به، والله سائلك عن صغيرها وكبيرها وفتيلها ونقيرها، ولقد حدثني عروة بن رويم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «ما من راع يبيت غاشا لرعيته إلا حرم الله عليه رائحة الجنة»، فحقيق على الوالي أن يكون لرعيته ناظرا، ولما استطاع من عوراتهم ساترا، وبالقسط فيما بينهم قائما، لا يتخوف محسنهم منه رهقا، ولا مسيئهم عدوانا، فقد كانت بيد رسول الله جريدة يستاك بها ويردع عنه المنافقين، فأتاه جبريل فقال: «يا محمد، ما هذه الجريدة بيدك؟ اقذفها لا تملأ قلوبهم رعبا» فكيف من سفك دماءهم، وشقق أبشارهم، وأنهب أموالهم! يا أمير المؤمنين، إن المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر دعا إلى القصاص من نفسه بخدش خدشه أعرابيا لم يتعمده فهبط جبريل فقال: يا محمد، إن الله لم يبعثك جبارا تكسر قرون أمتك ... إن الدنيا تنقطع ويزول نعيمها، ولو بقي الملك لمن قبلك لم يصل إليك يا أمير المؤمنين، ولو أن ثوبا من ثياب أهل النار علق بين السماء والأرض لآذاهم، فكيف من يتقمصه؟ ولو أن ذنوبا
14
من صديد أهل النار صب على ماء لآجنه،
15
فكيف بمن يتجرعه، ولو أن حلقة من سلاسل جهنم وضعت على جبل لذاب، فكيف من سلك فيها ويرد فضلها على عاتقه!
واعلم أن السلطان أربعة: أمير يظلف نفسه وعماله، فذلك له أجر المجاهد في سبيل الله، وصلاته سبعون ألف صلاة، ويد الله بالرحمة على رأسه ترفرف، وأمير رتع ورتع عماله، فذلك يحمل أثقاله وأثقالا مع أثقاله وأمير يظلف نفسه
16
ويرتع عماله، فذاك الذي باع آخرته بدنيا غيره، وأمير يرتع ويظلف عماله فذاك شر الأكياس.
17
ولهذا الحديث بقية، وما سلف منه يبين مسلك الأوزاعي في النصح، وجرأته في مصارحة الخلفاء. والشجاعة من أخص صفات الزاهدين والصالحين.
وللأوزاعي موقف مع عبد الله بن علي يعد من أخطر المواقف؛ لأنه يمس الأحقاد السياسية، وللسياسة أحقاد سود تذهب بالحلم والعقل، وكان ذلك الموقف بعد أن أجلى عبد الله بني أمية عن الشام، وأزال الله دولتهم على يديه، فقد طلب الأوزاعي ليسأله رأيه فيما صنع ببني أمية، وكان ينتظر بالطبع أن يظفر منه بكلمات من الثناء يفل بها حدة من ينكرون عليه الإسراف في النهب والقتل، ولكنه فوجئ بما لم يكن في الحسبان، وأراه الأوزاعي أن في الدنيا ناسا يجهرون بكلمة الحق في أحرج المواقف والمقامات.
قال الأوزاعي: فدخلت عليه وهو على سرير، والمسودة عن يمينه وشماله معهم السيوف مطلقة، فسلمت عليه فلم يرد، ونكت بتلك الخيزرانة التي بيده، ثم قال: يا أوزاعي، ما ترى فيما صنعنا من إزالة أيدي أولئك الظلمة عن البلاد والعباد، أجهاد هو؟ قال: فقلت: أيها الأمير، سمعت يحيى بن سعيد الأنصاري يقول: سمعت عمر ابن الخطاب يقول: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه». قال: فكنت بالخيزرانة أشد ما كان ينكت، وجعل من حوله يقبضون أيديهم على قبضات سيوفهم، ثم قال: يا أوزاعي، ما تقول في دماء بني أمية؟ فقلت: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب والزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة»، قال: فنكت بها أشد من ذلك، ثم قال: ما تقول في أموالهم؟ فقلت: إن كانت في أيديهم حراما فهي حرام عليك أيضا، وإن كانت لهم حلالا فلا تحل لك إلا بطريق شرعي، قال: فنكت أشد مما كان ينكت قبل ذلك، ثم قال: ألا نوليك القضاء؟ فقلت: إن أسلافك لم يكونوا يشقون علي في ذلك، وإني أحب أن تتم ما ابتدأوني به من الإحسان، فقال: كأنك تحب الانصراف، فقلت: إن ورائي حراما وهم محتاجون إلى القيام عليهن وسترهن وقلوبهن مشغولة بسببي، قال : وانتظرت رأسي يسقط بين يدي ، فأمرني بالانصراف، فلما خرجت إذا رسول من ورائي، وإذا معه مائتا دينار فقال: يقول لك الأمير: استنفق بهذه، قال: فتصدقت بها، وإنما أخذتها خوفا.
18
وهذا المقام يدل على أمرين:
الأول:
أن الأمراء والملوك كانوا منذ ذلك الزمان يشعرون بقوة أهل العلم والزهد والصلاح، وكانوا يحبون أن يستظهروا بهم، وكانوا كذلك يعرفون عنهم اللين في أغلب الأحيان، ولولا ذلك لقلت الرغبة في استدعاء مثل الأوزاعي في مثل ذلك الموقف.
والثاني:
أن الزهاد كانوا استطاعوا أن يخلقوا لهم عصبية يحسب حسابها في الأزمات السياسية، يؤيد هذا ما روى أن بعض الولاة هدد الأوزاعي مرة فقال له أصحابه: دعه، فو الله لو أمر أهل الشام أن يقتلوك لقتلوك.
19
وطمع الولاة والأمراء في لين أهل التصوف لا ينقض ما عرفوا به من الشجاعة الأدبية، فنحن لا نقول بأن تلك الشجاعة كانت من نصيب كل من تصوف، وإنما نجزم بأنها كانت من أخلاق كل من صدق في التصوف، والعصبية التي كانت تحميهم لا يمكن أن تغض من شجاعتهم الأدبية؛ لأنها في الأكثر عصبية عزلاء، ولأنها على كل حال من مغانمهم الأخلاقية؛ لأنهم اكتسبوها بفضل الصلاح والتقوى، وهو مكسب تبذل في سبيله أثمان غالية يعرفها من يعانون رياضة النفس على التجمل بالآداب الدينية.
وكان يتفق في أحيان كثيرة أن تقابل تلك الشجاعة باللطف، ومن طريف ذلك أن ابن هبيرة كتب إلى الحسن وابن سيرين والشعبي فقدم بهم عليه، فقال لهم: إن أمير المؤمنين يكتب إلي في الأمر إن فعلته خفت على ديني، وإن لم أفعله خفت على نفسي، فقال له ابن سيرين والشعبي قولا رققا فيه، وقال له الحسن: يا ابن هبيرة، إن الله يمنعك من يزيد، وإن يزيد لا يمنعك من الله. يا ابن هبيرة، خف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله! يا ابن هبيرة، إنه يوشك أن يبعث الله إليك ملكا فينزلك عن سريرك إلى سعة قصرك، ثم يخرجك عن سعة قصرك إلى ضيق قبرك، ثم لا ينجيك إلا عملك. يا ابن هبيرة، إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
20
والطريف في هذا الموقف أن ابن هبيرة أمر للحسن بأربعة آلاف درهم، وأمر لابن سيرين والشعبي بالفين، فقالا: رققنا فرقق لنا!
خلاصة البحث
وهناك مواقف لأبي حازم مع سليمان بن عبد الملك، وابن السماك مع الرشيد. والمقام يضيق عن الاستقصاء، ولو مضينا نستقري أخبار الصوفية في مختلف العصور لرأينا لهم كثيرا من أمثال هذه المواقف، والناس في مصر وفي تركيا خاصة يذكرون حوادث جرت لأهل الورع والدين مع الولاة والسلاطين، ومناقب الصوفية تفيض بأمثال هذه الأخبار. وأكثرها صدق، والمخترع منها له دلالة خلقية، فهو شاهد بأن الناس كانوا يشهدون للصوفية بالشهامة والجهر بكلمة الحق.
وقد رأينا أن تلك المواقف عادت بفوائد كثيرة على الأدب والأخلاق فهي من حيث الصورة نماذج أدبية، وهي من حيث المعنى لا تزال توحي بالحرص على التخلق بأخلاق الرجال.
21
الدنيا في أذهان الصوفية
ذم الصوفية للدنيا شاهد على تعلقهم بها
زارت رابعة أصحابها فذكروا الدنيا فأقبلوا على ذمها فقالت: اسكتوا عن ذكرها؛ فلولا موقعها من قلوبكم ما أكثرتم من ذكرها، ألا من أحب شيئا أكثر من ذكره.
1
وإني لأخشى أن تكون هذه النظرة مما يصدق في أكثر الصوفية: فهم جميعا يذمون الدنيا، ويخافون شرها، ويكثرون من تقبيحها والتنفير منها، ويندر أن يكتب في التصوف كتاب ولا تكون الدنيا شغل المؤلف وهمه في أكثر الفصول. والواقع أن الدنيا شغلت الصوفية فلم تخل منها قلوبهم طرقة عين، ولو خلت منها قلوبهم لما طوقوها بقلائد الهجاء، وإنما مثلها في أنفسهم مثل المرأة المطلقة التي يحن إليها زوجها ويتمنى لو عادت لياليها الملاح، وكيف يخلص الناس من فتنة دنياهم وهم مقيدون بما فيها من هواء وماء؟ إن النفحة السماوية التي يتشوقون إليها لم تكن إلا لفتة فنية، والتطلع إلى السماء إنما هو كبر إنساني شريف، ولكنه على ما فيه من شرف لا يخلو من تهور واعتساف، فالإنسان من الأرض خلق وإلى الأرض يعود، والنفس على ما فيها من رقة وصفاء قيدتها الإرادة الأزلية بأسباب العيش، وفرضت عليها الخضوع لسلطان الأمعاء، فليصنع الصوفية ما يشاءون فسيظل ابن آدم منسوبا إلى الطين والماء.
هل الدنيا قبيحة في جميع الأحوال؟
وإسراف الصوفية في ذم الدنيا لا يخلو من غفلة وجهل، فللدنيا فتنة روحية، وفي الكفاح في مناكبها سحر وإشراق، والعليل هو الذي لا يدرك جمال هذا الوجود، ولا يعرف أن القبيح نفسه فيه شعر وجمال، وأن دمامة الأخلاق فيها فرص نورانية لمن يعرف على أي أساس بنيت هذه الدنيا الفيحاء.
إن الرجل الذي يعود إلى بيته وهو مهدم الأعصاب يزعجه صراخ الطفل، أفيكون انزعاجه دليلا على وجود البشاعة في صراخ الأطفال؟ وكيف والرجل السليم يرى في بكاء الطفل ملامح شعرية، ويتوسم في انفعالاتهم بوارق من نور الوجود؟
إن إسراف الصوفية في ذم الدنيا هو الشاهد على انحرافهم في فهم الأخلاق، وهو كذلك الشاهد على أن قواعد الأخلاق أقيمت في الأغلب على الأهواء الذاتية، فنحن نرضى عن الدنيا ساعة ونغضب ساعات، فتكون لنا عند الرضى آراء، وعند الغضب آراء، والصوفية أولى الناس بالتهمة عند الانحراف؛ لأن التصوف يقع في أكثر الأحيان عند المرض والمشيب، والمريض الأشيب ينظر إلى الدنيا نظرة الحقد والازدراء.
حقائق
إن أشنع غلطة اقترفها الصوفية هي التنفير من الدنيا، والدعوة إلى هجر ما فيها من الطيبات، وإصرارهم على إقناع الناس بأنهم يلدون للموت ويبنون للخراب. والحق أن كل ميلاد إلى موت، وأن كل بناء إلى خراب، ولكن بين الحالين مواسم للخير والبر والجمال والصفاء، ومن الحمق أن يجهل المرء أنه خلق لغاية نبيلة تتمثل في تطوره من حال إلى حال، وتنقله بين الحلم والجهل، والعقل والجنون. وكان الصوفية أجدر الناس بأن ينظروا هذه النظرة، وأن يتصوروا ما في تقلب الطباع من رونق وبهاء، ولكن خبز الشعير ولباس الصوف والملح الجريش، كل أولئك طبع أرواحهم بطابع التلوم والاشفاق.
كيف غاب عنهم وجه الخير في هذه الهموم السود التي يعانيها أشراف الرجال؟ وكيف غفلوا عن المغانم النفيسة التي يظفر بها من يحارب الخسة والدناءة والإسفاف ؟ إن فرص الجهاد لا تتاح إلا لمن ينغمس في الدنيا ويشهد ما يقع فيه الدنيويون من محاربة الشرف والصدق والنبل، ولو استمع العالم إلى نصائح الصوفية لضاعت أصول كثيرة من الخير والحق والجمال.
إن العالم الباقي لم يتمثل لعشاقه إلا عن طريق العمران: فهو قصور وأنهار وحدائق، وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون. ولو كان النعيم يبغض لذاته لما رضي الصوفية أن يجعلوه نصيبهم في دار البقاء، فلم يبق إلا أن يكون الكدر في هذه الدنيا أثرا من الانحراف في أخلاق الناس، وتكون النتيجة أن الناس أعطوا ملكا فلم يحسنوا سياسته، أعطاهم الله تلك الأنهار الجارية والرياض الحالية، وسخر لهم الشمس والقمر والنجوم، فغفلوا عن مفاتن ذلك الملك الذي ينتظم محاسن الأرض والسماء، وحولوا حياض الأزهار إلى ميادين تسفك فيها الدماء، وتزهق الأرواح.
الجمال في هذا الوجود
وكان الظن بالصوفية وهم من أهل البصائر والقلوب، أن يعرفوا قيمة هذه الدنيا، هذا الملك الذي ضيعه أهله، كان الظن بهم أن يجاهدوا ما فيه من شهوات وأباطيل، ولكنهم آثروا الهرب والانزواء، وصاروا يعرفون من أنهار الجنة ما لا يعرفون من أنهار هذا العالم، ويعلمون من أبواب جهنم ما لا يعلمون من أسباب انحطاط الأمم وضعف الشعوب، ويدركون من نعيم الآخرة ما لا يدركون من معنى الملك والقوة في هذا الوجود.
إن الاعتصام بشواهق الجبال فرارا من ظلم الناس فيه ملامح شعرية، ولكنه دليل على حب السلامة، وذلك من أخلاق الضعفاء، وأشرف منه أن تدخل المعركة، وأن يخضب الدم وجهك وصدرك ويديك، وأن تلقى الله بوجه شريف لم يعرف صاحبه الجبن ولا الرياء ولا الخداع.
الدنيا جنة دانية القطوف، وفي بعض أركانها أفاع وصلال، وما أفاعيها إلا لئام الناس، فكيف خانتكم الشجاعة أيها الصوفية فلم تقتلوا ما في تلك الجنة من خبيث الحشرات؟
أفي الحق أن الدنيا بنيت على الكيد والفتك والنفاق؟ ليكن ذلك، ولكن لا تنكروا أنها أعظم مما تتوهمون، إن في الدنيا جمالا جذابا يستهوي العقول والقلوب ، وهي صالحة كل الصلاحية لأن تكون من ميادين المجد في عالم الأخلاق، ولكن أين الصابرون؟ وأين المحتسبون؟ كل امرئ في دنيانا يود أن يغنم المعركة في لحظة واحدة، وإلا ففي مهاوي الفرار متسع للجميع، وقود عجز الصوفية ثم تواصوا بالتقهقر والانسحاب، فلنسجل عليهم هذه الخزية البلقاء.
الدنيا في كلام الأنبياء
اهتم الصوفية بنقل ما قال الرسول في ذم الدنيا، فحدثونا أنه وقف على مزبلة. وقال: هلموا إلى الدنيا، وأخذ خرقا قد بليت على تلك المزبلة وعظاما قد نخرت، فقال: هذه الدنيا
2
وحدثونا أنه قال: ألهاكم التكاثر، يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت؟
2
وأنه قال: الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له، وعليها يعادي من لا علم له، وعليها يحسد من لا فقه له، ولها يسعى من لا يقين له.
2
وحدثوا أن أبا هريرة قال: قال لي رسول الله
صلى الله عليه وسلم : يا أبا هريرة، ألا أريك الدنيا جميعها بما فيها؟ فقلت: بلى، يا رسول الله، فأخذ بيدي وأتى بي واديا من أودية المدينة فإذا مزبلة فيها رؤوس أناس وعذرات وخرق وعظام. ثم قال: يا أبا هريرة، هذه الرؤوس كانت تحرص كحرصكم، وتأمل كأملكم، ثم هي اليوم عظام بلا جلد، ثم هي صائرة رمادا، وهذه العذرات هي ألوان أطعمتهم اكتسبوها من حيث اكتسبوها ثم قذفوها من بطونهم فأصبحت والناس يتحامونها، وهذه الخرق البالية كانت رياشهم ولباسهم فأصبحت والرياح تصفقها. وهذه العظام عظام دوابهم التي كانوا ينتجعون عليها أطراف البلاد، فمن كان باكيا على الدنيا فليبك.
3
ولم يكتف الصوفية بكلام نبي المسلمين فنقلوا عن صحف إبراهيم هذه الكلمات: «يا دنيا ما أهونك على الأبرار الذين تصنعت وتزينت لهم، إني قذفت في قلوبهم بغضك، والصدود عنك، وما خلقت خلقا أهون علي منك، كل شأنك صغير، وإلى الفناء يصير، قضيت عليك يوم خلقتك أن لا تدومي لأحد، وإن بخل بك صاحبك وشح عليك.
4
ومضوا يقصون أخبار المسيح فرووا أنه اشتد عليه المطر والرعد والبرق فجعل يطلب شيئا يلجأ إليه فوقعت عينه على خيمة من بعيد، فأتاها فإذا فيها امرأة فحاد عنها، فإذا هو بكهف في جبل فأتاه فإذا فيه أسد فوضع يده عليه وقال: إلهي لكل شيء مأوى، ولم تجعل لي مأوى، فأوحى الله تعالى إليه: مأواك في مستقر رحمتي، لأزوجنك يوم القيامة مئة حوراء خلقتها بيدي، ولأطعمن في عرسك أربعة آلاف عام، كل يوم منها كعمر الدنيا، ولآمرن مناديا ينادي: أين الزهاد في الدنيا، زوروا عرس الزاهد في الدنيا عيسى ابن .مريم
4
وحدثوا أنه مر بقرية فإذا أهلها موتى في الأفنية والطرق، فقال: يا معشر الحواريين، إن هؤلاء ماتوا عن سخطة، ولو ماتوا عن غير ذلك لتدافنوا، فقالوا: يا روح الله، وددنا أنا علمنا خبرهم، فسأل الله تعالى فأوحى إليه: إذا كان الليل فنادهم يجيبوك، فلما كان الليل أشرف على نشز ثم نادى: يا أهل القرية، فأجابه مجيب: لبيك يا روح الله. فقال: ما حالكم وما قصتكم؟ قال: بينا نحن في عافية أصبحنا في الهاوية. قال: وكيف ذلك؟ قال: لحبنا الدنيا وطاعتنا أهل المعاصي، قال: وكيف كان حبكم للدنيا؟ قال: حب الصبي لأمه، إذا أقبلت فرح بها وإذا أدبرت حزن وبكى عليها. قال: فما بال أصحابك لم يجيبوني؟ قال: لأنهم ملجمون بلجم من نار بأيدي ملائكة غلاظ شداد. قال: فكيف أجبتني من بينهم؟ قال: لأني كنت فيهم ولم أكن منهم. فما نزل بهم العذاب أصابني معهم، فأنا معلق على شفير جهنم، لا أدري أنجو منها أم أكبكب فيها. فقال المسيح للحواريين: لأكل خبز الشعير بالملح الجريش ولبس المسوح والنوم على المزابل كثير مع عافية الدنيا والآخرة.
5
شخصية المسيح
وما يهمنا في هذا المقام أن نبحث في صحة هذه الأحاديث وفيها الزائف والصحيح، لا يهمنا ذلك؛ لأن عناية الصوفية بدرسها وروايتها هي الشاهد على ما نراه في تصوير مذاهبهم الأخلاقية، وهم يذمون الدنيا إطلاقا ولا يتسامحون في الرضا عنها إلا في رسوم ضيقة أشد الضيق ، ولولا غلبة هذه النزعة عليهم لكان لهم موقف آخر في توجيه تلك الأحاديث، فما نظن أن الرسول كان يرى الدنيا جيفة في جميع الأحوال، والمعقول أنه كان يحقرها حين يرى الناس يتكالبون عليها ويقترفون في سبيلها منكر الآثام، ولو عرض الرسول لدنيا رجل صالح لقضى بأن الدنيا مطية المؤمن، وأن الغنى من نعم الله على عباده الصالحين.
إن وقوف الصوفية عند هذا الجانب من كلام الرسول لم يقع إلا عن قصد، فذلك هو منحاهم في الأخلاق، والشخصية الخلقية عندهم هي شخصية فقيرة معدمة لا تعرف غير التفكير في الجزء المجرد من الملكوت، أما النظر في هذا العالم الصاخب المملوء بالمحاسن والعيوب فذلك لأهل الدنيا الذين قضى عليهم الصوفية بالغفلة والسقوط.
واهتمام الصوفية بأدب المسيح يؤكد ما نراه في نزعتهم الأخلاقية، فالمسيح هو أعظم درويش عرفه هذا العالم، وهو في ذاته شخصية جذابة، ولكن الاقتداء به اقتداء مطلقا لا يخلو من عدوان على ملك العقل، ولا يصح النظر إلى المسيح كشخصية مستقلة تمام الاستقلال، وإنما يجب النظر فيما كان يحيط به من تكالب أرباب الأموال، وتصور ما كانوا عليه من قذارة التعامل وسفاهة الإجحاف، فاليهود الذين عرفهم عيسى كانوا بغوا في الأرض واشتروا رقاب الناس بالربا الفاحش، وكذلك كانت دعوته إلى بغض الدنيا دعوة طبيعية يقرها الأدب والذوق.
دفاع المؤلف عن الصوفية
ولكن كيف نبخل على الصوفية بما سمحنا به للمسيح، وكيف نحرم هنا ما حللناه هناك؟
والواقع أن الصوفية نشأوا في بيئات غلب عليها الفساد، فساد الخلق والدين، وما كانت المعاملات بين الناس في العهود الماضية إلا ضروبا من الختل والعدوان، وهل صلح الناس في زماننا هذا مع قوة القانون وحزم القضاء؟ حدثني كم رجلا فيمن تعرف يصلح للتعاون بلا صك مكتوب؟ وكم رجلا فيمن تصادق تأتمنه فلا يخون؟ وكم رجلا فيمن تؤاخي يحفظ سرك ويرعى عهدك، ويظل ظهيرك في المحضر والمغيب؟
لقد نشأ الصوفية في أزمان لم يكن فيها لغير الحاكم المسيطر أمر يطاع ، وكانت الدسائس والوشايات أساس الحل والعقد في قصور الخلفاء والأمراء والوزراء، وكان الندمان والمحاسيب هم محور الحركة والسكون، وأصل الإدبار والإقبال، على نحو ما يقع أحيانا كثيرة في هذا الزمان، فكيف ننكر أن يكون إسراف الصوفية في ذم الدنيا أثرا من آثار ذلك الإضطراب في السياسة والخلق والدين؟ وما هي تلك الدنيا البشعة التي يستجيز أهلها الغدر والعقوق؟ وهل يغدر الغادر ويعق العاق إلا وهو مؤيد بقوى خفية من الطمع والجشع، وحب التملك والاستعلاء؟
إن مطامع الدنيا هي الأصل في فساد الأخلاق، فهل يلام الصوفية على تحقيرهم إياها، ورمى عشاقها بالإثم والبهتان، وحربهم بأقوال الحكماء والأنبياء والمرسلين؟
إننا نتهم الصوفية بالضعف حين يفرون من دنيا السفهاء، فلنجالد نحن، ولننظر عواقب المعركة بين الهدى والضلال، وأغلب الظن أننا سنرمي الراية يائسين؛ لأن هنالك سرا لا يعلمه إلا علام الغيوب، هنالك المشكلة الباقية التي قضت بأن لا يخلص العالم من اشتباك الحلم والجهل، والعقل والجنون.
إن رجل الأخلاق ليس أحسن حالا من راعى الغنم، يجمع هذه فتنفر تلك، ولا يزال معذب القلب بين الشاردات والواردات، وليس أعظم قدرة من المدرس الذي يساق إليه التلاميذ بلا تخير ولا اصطفاء، ثم يطلب منه أن يتعلم تلاميذه جميعا وأن ينجحوا جميعا.
من الحق أن تطالب رجل الأخلاق بالثبات، ولكن من الظلم أن لا تشفق عليه حين ينهزم؛ فإن الضعف أنفذ سهما من القوة في عالم الأخلاق، أنت تعظ ولكن أين من يسمع؟ وتسير في طريق الهدى ولكن أين من يسايرك؟ وتبنى، ولكن أين من يشد أزرك، ويحمل معك أحجار الأساس؟!
والخلاصة أن فرار الصوفية من الدنيا وأهلها يدل على ثلاثة أمور:
الأول:
شعورهم بالتبعة الأخلاقية.
والثاني:
ضعفهم عن مقاومة الرذائل الاجتماعية.
والثالث:
فساد ما نشأوا فيه من البيئات الدينية والمعاشية.
ذم الدنيا وأثره في الأخلاق وفي الأدب
فإن سأل القارئ عن أثر ذلك في الأخلاق، فإنا نجيب بأن كتمان الصوفية لأسباب الهزيمة صور فرارهم من الدنيا بصورة العمل المقبول، فاقتدى بهم كثير من الناس وشاع الزهد في الطيبات فضاع من العالم الإسلامي جزء كبير من الثروة المعنوية التي يمثلها جمال العمران وتتابع الرزق في عالم الاقتصاد.
ومضى المنهزمون يسترون الهزيمة بذم الدنيا، فكان للأدب من ذلك مغانم عظيمة، واستطاع علي بن أبي طالب أن يحسن مثل هذه الأقوال:
إنما الدنيا منتهى بصر الأعمى لا يبصر مما وراءها شيئا، والبصير ينفذها بصره، ويعلم أن الدار وراءها، فالبصير منها شاخص والأعمى إليها شاخص، والبصير منها متزود، والأعمى لها متزود
6 ... انظروا إلى الدنيا نظر الزاهدين فيها الصادقين عنها، فإنها والله عما قليل تزيل الثاوي الساكن، وتفجع المترف الآمن، لا يرجع ما تولى فأدبر، ولا يدري ما هو آت منها فينتظر، سرورها مشوب بالحزن، وجلد الرجال فيها إلى الضعف والوهن
7 ... لم يكن امرؤ منها في حبرة إلا أعقبتهاعبرة، ولم يلق في سرائها بطنا إلا منحته من ضرائها ظهرا، ولم تطله فيها ديمة رخاء إلا هتنت عليه مزنة بلاء
8 ... أوصيكم بالرفض لهذه الدنيا التاركة لكم وإن لم تتركوها، والمبلية لأجسامكم وإن كنتم تحبون تجديدها، فإنما مثلكم ومثلها كسفر سلكوا سبيلا فكأنهم قد قطعوه، وأموا علما فكأنهم قد بلغوه، وكم عسى المجرى إلى الغاية أن يجري إليها حتى يبلغها، وما عسى أن يكون بقاء من له يوم لا يعدوه، وطالب حثيث يحدوه في الدنيا حتى يفارقها، فلا تنافسوا في عز الدنيا وفخرها، ولا تعجبوا بزينتها ونعيمها، ولا تجزعوا من ضرائها وبؤسها، فإن عزها وفخرها إلى انقطاع، وإن زينتها ونعيمها إلى زوال، وضراءها وبؤسها إلى نفاذ، وكل مدة فيها إلى انتهاء، وكل حي فيها إلى فناء.
9
وكلام ابن أبي طالب في ذم الدنيا كثير جدا، وهو يمثل مذهبه في الزهد ويشرح هزيمته السياسية، وكذلك فعل الخوارج، فقد أطالوا القول في التنفير من الدنيا، ولهم في ثلبها خطب ضربت بفصاحتها الأمثال، من ذلك قول قطري بن الفجاءة.
أيها الناس، اعملوا على مهل، وكونوا من الله على وجل، ولا تغتروا بالأمل، ولا تركنوا إلى الدنيا فإنها غدارة خداعة، قد تزخرفت لكم بغرورها، وفتنتكم بأمانيها ، وتزينت لخطابها، فأصبحت كالعروس المجلوة : العيون إليها ناظرة، والقلوب عليها عاكفة، والنفوس لها عاشقة، فكم من عاشق لها قد قتلت، ومطمئن إليها خذلت، فانظروا إليها بعين الحقيقة، فإنها دار كثرت بوائقها، وذمها خالقها، جديدها يبلى، ومالكها يفنى، وعزيزها يذل، وكثيرها يقل، وحيها يموت، وخيرها يفوت، فاستيقظوا من غفلتكم، وانتبهوا من رقدتكم، قبل أن يقال: فلان عليل، أو مدفن ثقيل، فهل على الدواء من دليل، أو على الطبيب من سبيل، فيدعى لك الأطباء، ولا يرجى لك الشفاء، ثم يقال: فلان أوصى، ولماله أحصى، ثم يقال: قد ثقل لسانه، فما يكلم إخوانه، ولا يعرف جيرانه، وعرق عند ذلك جبينك، وتتابع أنينك، وثبت يقينك، وطمحت جفونك، وصدقت ظنونك، وتلجلج لسانك، وبكى إخوانك، وقيل لك: هذا ابنك فلان، وهذا أخوك فلان ومنعت الكلام فلا تنطق، ثم حل بك القضاء، وانتزعت نفسك من الأعضاء، ثم عرج بها إلى السماء، فاجتمع عند ذلك إخوانك، وأحضرت أكفانك، فغسلوك وكفنوك، فانقطع عوادك، واستراح حسادك، وانصرف أهلك إلى مالك، وبقيت مرتهنا بأعمالك.
10
وما نريد أن نطيل في بيان ما غنم الأدب من تبرم الصوفية بدنيا الناس فقد عقدنا لذلك فصلا موجزا في القسم الأول بينا فيه كيف أولع الصوفية بتصوير الدنيا، وكيف لونوها وعرضوها في مختلف التشبيهات ...
ولننص في هذا المقام على أن ما قالوه حق، فالدنيا سخيفة لا ثبات لنعيمها ولا بقاء، ولكن الإصرار على إحقاق هذا الحق، والدوران حوله من وقت إلى وقت، أو تمثله في أغلب الأحوال، إنما هو من أوهام النفوس العليلة التي يتراءى لها شبح الموت في كل حين. والموت حق، ولكن الحياة أيضا حق، والشغل بها من دلائل الفتوة الجسمية والعقلية والروحية، وإليها المرجع في تصور النعيم المأمول، وعلى ما فيها يقاس ما سيكون في دار البقاء.
مشكلة خلقية
وهناك مشكلة اختلف في حلها الصوفية، وهي حال الرجل الغني الذي يؤدي حقوق الغنى فينفق في وجوه الحلال، ويتصدق على الفقراء والمساكين، فقد قال رجل للحسن البصري: ما تقول في رجل آتاه الله مالا فهو يتصدق منه، ويصل منه ، أيحسن له أن يتعيش فيه - يعني يتنعم - فقال: لا، لو كانت له الدنيا كلها ما كان له منها إلا الكفاف، ويقدم ذلك اليوم فقره.
11
فالحسن يقاوم التنعم، وينهى عنه الأغنياء الذين يؤدون حقوق المال.
أما أبو حازم المدني فيقول بغير ذلك في شيء من الرفق، فقد قال له رجل: أشكو إليك حب الدنيا وليست لي بدار. فقال: انظر ما آتاكه الله عز وجل منها، فلا تأخذه إلا في حله، ولا تضعه إلا في حقه، ولا يضرك حب الدنيا.
12
وهذا جواب حكيم، ولكن الغزالي يأبى إلا التعقيب عليه فيقول: وإنما قال هذا لأنه لو آخذه بذلك لأتعبه حتى يتبرم بالدنيا ويطلب الخروج منها.
12
وهذا التعقيب يعين مذهب الغزالي في الزهد، وجوهره يدل على ما كان عند أبي حازم من حكمة وعقل، فإن الإغنياء الذين يؤدون حقوق الغنى هم ظل الله في الأرض، وهم أهل الحرث وأرباب العمران، والحكم عليهم بالانحراف عن جادة الحق فيه تيئيس وتثبيط وتعويق، والصوفية لا يستكثر عليهم أن يسرفوا في التزهيد، وإن كانوا يتلطفون أحيانا، فقد نقل الغزالي قول أبي سليمان الداراني: إذا كانت الآخرة في القلب جاءت الدنيا تزحمها فإذا كانت الدنيا في القلب لم ترحمها الآخرة؛ لأن الآخرة كريمة، والدنيا لئيمة. ثم قال: وهذا تشديد عظيم، ونرجو أن يكون ما ذكره سيار بن الحكم أصح إذ قال: الدنيا والآخرة تجتمعان في القلب، فأيهما غلب كان الآخر تبعا له. وقال مالك بن دينار: بقدر ما تحزن للدنيا يخرج هم الآخرة من قلبك، وبقدر ما تحزن للآخرة يخرج هم الدنيا من قلبك.
13
وفي هذا الحكم اعتدال، وهو يقضى بأن الدنيا خليقة بالحب، وليس في حبها ما يعيب، على شرط أن لا تكون هي الغالبة، وأن يكون ما فيها من الطيبات وسيلة لصالح الأعمال.
المحمود والمذموم في الشؤون الدنيوية
وقد وضع الغزالي علائم واضحة للمحمود والمذموم من الشؤون الدنيوية، ويتلخص كلامه المطول في الفقرة الآتية:
ليس كل ما تميل إليه بمذموم بل هو ثلاثة أقسام: الأول: ما يصحبك في الآخرة وتبقى معك ثمرته بعد الموت، وهو شيئان: العلم، والعمل فقط، والعلم هنا هو العلم بالله وصفاته وأفعاله وملائكته وكتبه ورسله، وملكوت أرضه وسمائه، والعلم بشريعة نبيه، والعمل هو العبادة الخالصة لوجه الله. والقسم الثاني: كل ما فيه حظ عاجل ولا ثمرة له في الآخرة، كالتلذذ بالمعاصي، والتنعم بالمباحات الزائدة على قدر الحاجات. والقسم الثالث: متوسط بين الطرفين، وهو كل حظ عاجل يعين على أعمال الآخرة كقدر القوت من الطعام، والقميص الواحد الخشن، وكل ما لا بد منه ليتأتي للإنسان البقاء.
14
النفس كالشجرة التي تحيا بالحرية في مكافحة الهواء
وهذا الكلام في ذاته مقبول. ولكنه ينتهي إلى غاية واحدة: هي أن يكون الإنسان كتلة خلقية لا يتقدم ولا يتأخر إلا وفقا لسياسة روحية ضيقة المسالك. ومن الجميل أن يكون الإنسان كتلة خلقية، وأن يكون له في كل خطوة هاد من القلب والوجدان، ولكني أخشى أن يكون في ذلك ما يهدم جانبا من دعائم الأخلاق، فالنفس قريبة الشبه بالشجرة الصغيرة التي تحيا بالحرية في مكافحة الهواء، ويؤذيها أن يرعاها الجنان في كل لحظة، وأن لا يدعها بغير سناد، وكذلك تخمد النفس حين تسأل عن كل شيء، فلا تقرب الطعام إلا لغرض، ولا تباشر اللباس إلا لغرض، ولا تنظر في في كتاب إلا بعد أن تميز لأي غاية ألف، ولا تصحب أحدا إلا بعد أن تستوثق من الطهر في قصده المكنون.
لقد أسرف الصوفية في ذم الدنيا وأهلها، وأسرفوا في الدعوة إلى التحرر منها، ولو كانوا أصحاء لآثروا الاعتدال.
المقامات والأحوال
ما هو المقام وما هو الحال في اصطلاح الصوفية
المقامات: جمع مقام بالتذكير، وهو الخطبة أو العظة يلقيها الرجل في حضرة الخليفة أو الملك، وقد عقد ابن قتيبة فصلا في المجلد الثاني من عيون الأخبار سماه (مقامات الزهاد عند الخلفاء والملوك) وقد تؤنث كقول بديع الزمان في أحد الواعظين (فاصبر عليه إلى آخر مقامته، لعله ينبئ بعلامته)
1
والمقام في الأصل المجلس، ففي القرآن:
أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا
وفي شعر زهير:
وفيهم مقامات حسان وجوههم
وأندية ينتابها القول والفعل
والمقام أيضا الموقف العصيب. قال لبيد:
ومقام ضيق فرجته
بكلام وبيان وجدل
لو يقوم الفيل أو فياله
زل عن مثل مقامي وزحل
أما الصوفية فالمقام عندهم معناه: مقام العبد بين يدي الله عز وجل فيما يقام فيه من العبادات والمجاهدات، والرياضات، والانقطاع إلى الله تباركت أسماؤه، ومنه آية القرآن:
ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد .
2
أما الحال فنازلة تنزل بالقلوب فلا تدوم، والفرق بين المقام والحال أن المقام يكتسب بطريق المجاهدات والعبادات والرياضات، وأن الحال يأتي من فيض الله، وقد أفصح الجرجاني عن ذلك حين قال:
الحال عند أهل الحق معنى يرد على القلب من غير تصنع ولا اجتلاب، ولا اكتساب من طرب أو حزن أو قبض أو بسط أو هيئة، ويزول بظهور صفات النفس سواء يعقبه المثل أو لا، فإذا دام وصار ملكا يسمى مقاما، فالأحوال مواهب، والمقامات مكاسب، والأحوال تأتي من عين الجود، والمقامات تحصل ببذل المجهود.
3
أهمية المقامات والأحوال في تصوير الشخصية الخلقية
ودرس المقامات والأحوال يصور لنا فهم الصوفية للحياة الخلقية، وهم يرون الإنسان بين حالين:
الأول:
حال المجاهدة،
والثاني:
تلقي الفيض،
فالشخصية الخلقية لا تنفك تجاهد الأهواء والشهوات، ولا تزال موجهة القلب إلى النفحات الروحانية، فهي في شغل موصول بمواجهة أسباب الصفاء.
وأثر التصوف من هذه الناحية عظيم جدا في الأخلاق، فالرجل المتصوف يحاسب نفسه في كل لحظة، ويتلمس مواقع الفيض في كل لحظة، وهذه الشواغل الدائمة قد تكون مما يصرف النفس عن التوجه لما يجد في عالم المحسوسات والمعقولات، وتصير الرجل من أهل الوسواس في تعقب ما كان، وانتظار ما سيكون من أعمال القلب والوجدان، ولكنها عند الاعتدال تخلق من المرء قوة خلقية تنفع في توجيه الإرادة إلى الصالح من الأعمال.
وعقل العصر الحاضر لا يفهم هذه الوسوسة الروحية؛ لأنه اندفع في التيارات الواقعية، فلم يعد يدرك ما في هذه الوسوسة من الصدق والجلال. وأغلب الظن أن القلق في عالم العيش هو الذي ضيق الخناق على المعاني الروحية؛ لأنها في نظر العقل الحاضر لا تقدم إلى أصحابها شيئا من البخار أو البنزين، والتصوف لا ينمو إلا في البيئات التي خفت أثقالها في عالم العيش، واستطاعت أن تغمض الجفون ولو لحظات لتنظر ما يجري في دنيا الوجدان.
ونشهد أننا نجد مشقة في تقريب تلك السياسة النفسية من عقل هذا الزمان، ولكن ما حاجتنا إلى ذلك؟ نحن نؤرخ بعض المذاهت الفلسفية، والمؤرخ لا يجمل به أن يشغل نفسه بالتحسين والتقبيح، وإنما يجب عليه أن يقدم الصور الصحيحة لما وقع في التاريخ.
ولنواجه المشكلة بعزم وصراحة فنقول: إن تلك السياسة الصوفية أضرت من وجه وأحسنت من وجوه، أضرت حين قصرت الشخصية الخليقة على الحياة الفردية، وقضت بأن يصم الرجل أذنيه في أكثر الأحيان عما يجري في المجتمع من أخبار الجد والإبداع، وأحسنت حين ربطت مصير الفرد بمجاهدة الأهواء، ومحاربة الشهوات، وأقنعته أن لا غنى له عن ترقب الفيض الإلهي في جميع اللحظات، وراضته على احتقار المغانم الدنيوية، والإيمان بأن المغنم الحق هو الاتصال بالمبدع الأول الذي وهب الروح لكل موجود، وصير العالم كتلة من الكهرباء.
عقل العصر الحاضر والحياة الروحية
ولنأخذ في شرح المقامات فنذكر أن المقام الأول هو التوبة النصوح، وهي ندم بالقلب، واستغفار باللسان، وترك بالجوارح، وإضمار أن لا يعود التائب إلى الذنب.
4
وجملة ما على العبد في التوبة وما تعلق بها عشر خصال:
أولها:
أن لا يعصي الله تعالى.
والثانية:
أن لا يصر إذا ابتلى بمعصية.
والثالثة:
التوبة إلى الله تعالى منها.
والرابعة:
الندم على ما فرط منه.
والخامسة:
عقد الاستقامة على الطاعة إلى الموت.
والسادسة:
خوف العقوبة.
والسابعة:
رجاء المغفرة.
والثامنة:
الاعتراف بالذنب.
والتاسعة:
اعتقاد أن الله قدر عليه ذلك، وأنه عدل منه.
والعاشرة:
المتابعة بالعمل الصالح ليكفر عما تقدم من السيئات.
5
وهذه الخصال تشهد بأن الصوفية يرون المرء مجردا من الحول والقوة، فهو يذنب بقدر، ويتوب بقدر، ومن واجبه أن يخاف العقوبة ويرجو المغفرة، وأن ينوي الاستقامة على الطاعة إلى الموت.
وقليل من الإنصاف يكفي لإعلان أن هذه اللمحة من أهم الدعائم في الحياة الخلقية، فكل تردد في التوبة هو في بناء الخلق صدع وانحلال، وكل صدق في التوبة هو حجر متين في تقوية الشخصية الخلقية.
ومن علامة صدق التائب في توبته أن يستبدل بحلاوة الهوى حلاوة الطاعة
6
ولا تصح للتائب توبة إلا بأكل الحلال، ولا يقدر على الحلال حتى يؤدي حق الله تعالى في الخلق، وحق الله تعالى في نفسه، ولا يصح له هذا حتى يبرأ من حركته وسكونه إلا بالله تعالى وحتى لا يأمن الاستدراج بأعماله الصالحات.
7
ومن شرط التوبة أنه ينبغي للتائب المنيب أن يبدأ بمباينة أهل المعاصي ثم بنفسه التي كان يعصي الله تعالى لها فلا ينيلها إلا ما لا بد منه، ثم الاعتزام على أن لا يعود في معصية أبدا، ويلقى عن الناس مؤونته، ويدع كل ما يضطره إلى جريرة.
7
وينبغي لأهل التوبة أن يحاسبوا نفوسهم في كل طرفة، ويدعوا كل شهوة، ويتركوا الفضول، وهي ستة أشياء: ترك فضول الكلام، وترك فضول النظر، وترك فضول المشي، وترك فضول الطعام، والشراب واللباس.
7
ولا تنظر، أيها التائب إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى من عصيت،
7
فقد كانت الصغائر عند الخائفين كبائر، وكان من الصحابة من يقول: إنكم لتعملون أعمالأ هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها في زمن النبي
صلى الله عليه وسلم
من الموبقات.
7
وليس معنى ذلك أن الكبائر التي كانت على عهد النبي صارت بعده صغائر، ولكن معناه أنهم كانوا يستعظمون الصغائر لعظمة الله تعالى في قلوبهم، ولم يكن ذلك الوجدان في قلوب من بعدهم من المؤمنين.
واختلف الصوفية في نسيان ما سلف من الذنوب، فقال بعضهم: حقيقة التوبة أن تنصب ذنبك بين عينيك، وقال آخر: حقيقة التوبة أن تنسى ذنبك. وهذان طريقان لطائفتين، وحالان لأهل مقامين، فأما ذكر الذنوب فطريق المريدين وحال الخائفين، وأما نسيان الذنوب فطريق العارفين وحال المحبين.
8
ونحن نرجح الرأي الثاني، ونرى الأخذ به في جميع الأحوال ، فإن تذكر الذنوب الماضية يشل العزيمة، ويفت في عضد التائب، ويخلق جوا جديدا للتعرف إلى ما سلف من الذنوب، وهو فوق ذلك جهد ضائع وشغل للقلب بما لا يفيد. وإقامة المناحات على الهفوات الماضية علالة سخيفة يتوهم فريق من الناس أنها تزيد في طهر القلوب، وهي في عالم الأخلاق تشبه بعض ما يقع في عالم القضاء، فلو كان يصح للقضاة أن يتعقبوا ماضي الناس ليأخذوا بهفوات قدم عليها العهد لاختل الميزان، وذهب جمال الحاضر، وزهد الناس في فضل المتاب، فإن الأصل في التوبة أن تكون حجازا بين عهدين، وأن يصبح التائب وكأنه مولود جديد، ولا ننسى أن اجترار الذكريات الماضية سيء الأثر في نظام الأعصاب، وهو خليق بأن ينتهب العافية ويضيع جمال الساعة الحاضرة، وهي العدة الخلقية في نظام الأعمال.
ولا يقف الصوفية عند التوبة من الذنوب؛ لأنها في رأيهم توبة العوام بل يدعون إلى التوبة من الغفلة، وهي عندهم توبة الخواص «فأما لسان أهل المعرفة والواجدين وخصوص الخصوص في معنى التوبة فهو ما قاله أبو الحسين النوري رحمه الله حين سئل عن التوبة فقال: التوبة أن تتوب من كل شيء سوى الله تعالى، وإلى هذا أشار الذي أشار بقوله: ذنوب المقربين حسنات الأبرار، وهو ذو النون، والذي قال أيضا: رياء العارفين إخلاص المريدين فشتان بين تائب وتائب، فتائب يتوب من الذنوب والسيئات، وتائب يتوب من الزلل والغفلات، وتائب يتوب من رؤية الحسنات والطاعات».
9
مقام التوبة
المقام الثاني: مقام الصبر، وهو مقام شريف، وقد جعله علي بن أبي طالب ركنا من أركان الإيمان، فقال: بني الإسلام على أربع دعائم: على اليقين والصبر والجهاد والعدل،
10
وروي عن النبي أنه قال: من أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر، ومن أعطى حظه منهما لم يبال ما فاته من قيام الليل وصيام النهار، ولأن تصبروا على مثل ما أنتم عليه أحب إلي من أن يوافيني كل امرئ منكم عمل جميعكم، ولكني أخاف أن تفتح عليكم الدنيا بعدي فينكر بعضكم بعضا، وينكركم أهل السماء عند ذلك، فمن صبر واحتسب ظفر بكمال ثوابه، ثم قرأ:
ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ،
10
وكان سهل يقول: أفضل منازل الطاعة الصبر عن المعصية، ثم الصبر على الطاعة ... وقال: الصالحون في المؤمنين قليل، والصادقون في الصالحين قليل، والصابرون في الصادقين قليل، فجعل الصبر خاصية للصدق، وجعل الصابرين خصوص الصادقين
11
وقد قال بعض العلماء: ما كنا نعد إيمان من لم يؤذ فيحتمل الأذى ويصبر عليه إيمانا
12
وقد قال الله تعالى في جزاء المخلصين:
أولئك لهم رزق معلوم
وقال تعالى في جزاء الصابرين:
إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب
قيل في التفسير: يغرف لهم غرفا، والمعنى في ذلك: أن الصبر أشق على النفس، وأمر على الطبع، ويصعب فيه الألم والكظم عند الذل والضيم. ومنه التواضع والكتم، وفيه الأدب وحسن الخلق، وبه يكون كف الأذى عن الخلق، واحتمال الأذى من الخلق، وهذه من عزائم الأمور، التي يضيق منها أكثر الصدور.
13
وللصوفية في الصبر كلام كثير. حدث السراج الطوسي قال: وقف رجل على الشبلي رحمه الله فقال له: أي صبر أشد على الصابرين؟ فقال: الصبر لله. فقال الرجل: لا، فقال: الصبر مع الله، فقال: لا. فغضب الشبلي رحمه الله وقال: ويحك، فأيش؟ فقال الرجل: الصبر عن الله عز وجل. فصرخ الشبلي رحمه الله صرخة كادت تتلف روحه
14
قال: وسألت ابن سالم بالبصرة عن الصبر فقال: على ثلاثة أوجه: متصبر وصابر وصبار، فالمتصبر من صبر في الله تعالى، فمرة يصبر على المكاره، ومرة يعجز، والصابر من يصبر لله وفي الله، ولا يجزع، وأما الصبار فذاك الذي صبره في الله ولله وبالله، فهذا لو وقع عليه جميع البلايا لا يعجز ولا يتغير، من جهة الوجوب والحقيقة، لا من جهة الرسم والخليقة
15
وكان الشبلي يتمثل بهذه الأبيات إذا سئل عن الصبر:
عبرات خططن في الخد سطرا
قد قراها من ليس يحسن يقرا
إن صوت المحب من ألم الشو
ق وخوف الفراق يورث ضرا
صابر الصبر فاستغاث به الصب
ر فصاح المحب بالصبر صبرا
وعناية الصوفية بالصبر تمثل جانبا هاما من تصورهم لكرائم الخلال، فالصبر في جوهره من عناصر الشجاعة في مقاومة الشدائد، والشدائد قد تكون حسية وقد تكون عقلية. والصبر عنصر أصيل في الحياة الخلقية، ويظهر فضله في كل باب من أبواب العيش: فيكون في العبادات، وفي طلب العلم، وفي الصناعات، وفي معاملة الناس، ويكون في الصحة وفي المرض، وفي الحب وفي البغض، وفي النعيم وفي البؤس. ورياضة النفس على الصبر هي ذاتها من مصادر العافية في عالم الأخلاق.
والصوفية يتمثلون الصبر في صور جذابة تفصح عنها الحكاية الآتية:
حكى عن ذي النون أنه قال: دخلت على مريض أعوده، فبينما كان يكلمني أن أنة، فقلت: ليس بصادق في حبه من لم يصبر على ضربه. فقال المريض: بل ليس بصادق في حبه من لم يتلذذ بضربه.
16
فالصابر على هذا الوجه يتلقى المكاره بالقبول، ويراها من نعم الله، وعند التأميل نرى العناية الإلهية تسوق إلينا الشدائد لحكمة عالية، والجاهل هو الذي يضجر ويحزن ويكتئب، أما العاقل فيلتمس وجوه الخير فيما يبتليه الله به من الشدائد، وقد جربنا فرأينا النقم تساق لمنافع مستورة نجهلها كل الجهل، ثم تظهر رويدا رويدا فنرى الخيرة فيما اختاره الله، ونندم على ما أسلفنا من الحزن والاكتئاب.
إن التخلق بخلق الصبر على هذا الوجه من أهم الدعائم في بناء الأخلاق، وأقل مزاياه أن يورثنا ابتسامة دائمة ندفع بها ما قد نفجع به من آلام وخطوب. والخلق الصحيح هو الذي يورثك رباطة الجأش حين تثور الأنواء، ويمنحك السيطرة على الحوادث، ويومض لك ببريق الفوز في حلك البأساء.
مقام الصبر
ويميل أكثر الصوفية إلى تفضيل الصبر على الشكر؛ لأن الصبر حال البلاء، والشكر حال النعمة، والبلاء أفضل لأنه على النفس أشق
17
وعند أكثرهم أن الصابر العارف أفضل من الشاكر العارف؛ لأن الصبر حال الفقر والشكر حال الغنى، فمن فضل الشكر على الصبر في المعنى فكأنه قد فضل الغنى على الفقر. قال المكي: وليس هذا مذهب أحد من القدماء ، إنما هذه طريقة علماء الدنيا ... فإن من فضل الغنى على الفقر فقد فضل الرغبة على الزهد، والعز على الذل، والكبر على التواضع. وفي هذا تفضيل الراغبين والأغنياء على الزاهدين والفقراء، ويخرج ذلك إلى تفضيل أبناء الدنيا على أبناء الآخرة، وإنما فضلنا الصبر على الشكر في الجملة والمعنى؛ لأن الصبر حال من مقامه البلاء، وأهل البلاء هم الأمثل فالأمثل بالأنبياء. ولأن الصبر أبعد من أهواء النفوس، وأقرب إلى الضر والبؤس، وأشد في مكاره النفوس، وأنفر لطباعها، وأشد مباينة لما يلائمها.
18
وهذا الكلام يمثل اتجاه الصوفية في أكثر ضروب الحياة، فالجانب الأقرب إلى البؤس والخمول هو عندهم أقرب إلى الطاعة والصفاء، والظاهر أنهم لم يتنبهوا كل التنبه إلى قيمة الشكر في الغنى، ولو فطنوا له لعرفوا أن الشكر على الغنى يفرض على صاحبه مكاره قد تكون أصعب من الصبر على البلاء. فالشكر على الغنى ليس كلمة تسهل فتقال، ولكنه جهاد عنيف يلقى فيه الأغنياء بلايا من حرب النفس، وليس من القليل أن ينتصر الغني على نزواته وأهوائه وأطماعه؛ فيؤدي حقوق الجاه، وحقوق المال، ويعيش عيش الأصفياء الذين لا يعرفون غير الحلال.
مقام الشكر
على أن من الصوفية من فضل الشكر على الصبر، فقد قال مطرف بن عبد الله: لأن أعافي فأشكر أحب إلي من أن ابتلي فاصبر؛ لأن مقام العوافي أقرب إلى السلامة، فلذلك أختار الشكر على الصبر؛ لأن الصبر حال أهل البلاء.
19
وصاحب هذا الكلام يرى العافية من أبواب السلامة، أي سلامة النفوس؛ لأن البلاء قد يعرض النفس للجزع والارتياب، وتعريض النفس للفتنة غير مأمون العواقب، أما العافية فتحفظ توازن النفس، وتجعل الرجل قادرا على صالح الأعمال.
والحق أن الإنسان يكابر حين يرحب بالمصائب؛ لأنه أسير لنظام الأعصاب في أكثر الأحيان، ومن الخير له أن يسأل الله العافية، وأن يتجنب التعرض للامتحان، فقد يضعف عن مواجهة ما يشتهي من المصاعب، ويعرف بعد الانزلاق في هوة المكاره أن العزيمة قد تفتر أو تخون.
وعند التأمل نرى النعم والعوافي تزيد في الصلة الروحية بين الإنسان وبين ربه، والفرق بعيد بين الحالين: حال الطمأنينة، وحال الاحتساب، فالمطمئن ينظر إلى ربه نظرة المدين، وهي نظرة كلها ترفق وتخشع، أما الصابر المحتسب فيتعرض للزهو بالصبر على ما يعاني، والزهو من أشد آفات النفوس.
20
مقام الرجاء
وهناك مقام الرجاء، والرجاء: هو اسم لقوة الطمع في الشيء بمنزلة الخوف، اسم لقوة الحذر من الشيء، ولذلك أقام الله تعالى الطمع مقام الرجاء في التسمية، وأقام الحذر مقام الخوف، فقال:
يدعون ربهم خوفا وطمعا
21
والرجاء من أوصاف المؤمنين، ولا يصح الإيمان إلا به، كما لا يصح الإيمان إلا بالخوف، فالرجاء بمنزلة أحد جناحي الطائر، وهو لا يطير إلا بجناحيه، كذلك لا يؤمن من لا يرجو من آمن به ويخافه، وهو أيضا مقام من حسن الظن بالله تعالى، وجميل التأميل له، وقد أوصى به الرسول فقال: لا يموتن أحدكم إلا وهو حسن الظن بالله تعالى؛ لأنه قال: أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء.
21
ومن علامة صحة الرجاء في العبد أن يكون الخوف باطنا في رجائه، لأن من تحقق برجاء شيء خاف فوته لعظم المرجو في قلبه وشدة اغتباطه به، فهو لا ينفك في حال رجائه من خوف فوت الرجاء. والرجاء هو ترويحات الخائفين، ولذلك سمت العرب الرجاء خوفا؛ لأنهما وصفان لا ينفك أحدهما عن الآخر، ومن مذهبهم إذا كان الشيء لازما لشيء أو وصفا له أو سببا منه أن يعبروا عنه به، فقالوا: مالك لا ترجو كذا، وهم يريدون مالك لا تخاف.
22
وللصوفية كلام كثير جدا في الرجاء، واهتمامهم به هو أيضا من دعائم الأخلاق؛ لأن المذنب الذي لا يرجو ربه في قبول المتاب ينقلب إلى قوة يائسة خطرة لا يرجى لها صلاح، ولا ينتظر منها نفع، وانقطاع الصلة بين المرء وبين ربه هو أقصى غايات الفساد. وتخويف المرء من ربه له حدود، ولا ينبغي أن يصل الخوف إلى اليأس؛ فإن التربية التي تقوم على الخوف المطلق تربية فاسدة؛ لأنها تطمس أصول النور في القلب، وتمنع عناصر الخير من النهوض، ففي كل إنسان عواطف غافية تنتظر لحظات التيقظ والانتباه، والرياضة الصحيحة هي التي تعني بإيقاظ ما غفا من عواطف الخير والبر والرشاد.
مقام الخوف
ومع أن الصوفية يوصون بالرجاء، فهم أيضا يوصون بالخوف، ويرون أن المحب لا يسقى كأس المحبة إلا من بعد أن ينضج الخوف قلبه، وكل مؤمن بالله تعالى خائف منه، ولكن خوفه على قدر قربه
23
والخوف نوعان: خوف العموم، وهو أن يحفظ رأسه وما حواه من السمع والبصر واللسان، وأن يحفظ بطنه وما وعاه وهو القلب والفرج واليد والرجل، فأما خوف الخصوص فهو أن لا يجمع ما لا يأكل، ولا يبني ما لا يسكن، لا يكاثر فيما عنه ينتقل، وهذا هو الزهد.
24
والصوفية يرون الخوف ملاك الحياة الخلقية، فسر بعضهم هذه الآية
خلق الموت والحياة ليبلوكم
فقال: يبلوكم بتقليب القلوب في حال الحياة بخواطر الذنوب، وفي حال الموت بالحياد عن التوحيد، فمن خرجت روحه على التوحيد وجاوزت البلاوي كلها إلى المبلي فهو المؤمن، وذلك هو البلاء الحسن، كما قال الله تعالى:
وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا
فهذه المعاني من العلم أوجبت خوف الخائفين من علم الله تعالى فيهم، فلم ينظروا معها إلى محاسن أعمالهم، لحقيقة معرفتهم بربهم.
25
والخوف عند العلماء على غير ما يتصور في أوهام العامة، وخلاف ما يعدونه من القلق والاحتراق أو الوله والانزعاج؛ لأن هذه خطرات وأحوال ومواجيد للوالهين، وليست من حقيقة العلم في شيء، وإنما الخوف اسم لصحيح العلم وصدق المشاهدة، فإن أعطى عبد حقيقة العلم وصدق اليقين سمى هذا خائفا، ولذلك كان النبي
صلى الله عليه وسلم
من أخوف الخلق؛ لأنه كان على حقيقة العلم، ومن أشدهم حبا لله تعالى لأنه كان في نهاية القرب.
26
وليس لدينا من الأنوار الروحانية ما نستطيع به شرح هذه الإشارة وهي تبدو لنا في غاية من العمق، ويكفي أن نقول إنها تقسم الخائفين إلى طائفتين: طائفة تخاف العذاب فتقاسي أهوال المخاوف الحسية، وطائفة يكمن خوفها في حقيقة العلم وصدق اليقين، ولا يظهر عليها جزع ولا هلع ولا إشفاق.
ويخيل إلي أن تفسير هذا الخوف يتمثل في طمأنينة من يعلم فيقف عند الواجب، ولا يعرض نفسه لزيغ ولا إثم ولا فسوق، ثم يترقى في خوفه فيتحلى بأشرف ما يتحلى به المقربون، وعندئذ تنتقل مظاهر الخوف من عالم الجسم إلى عالم الروح، فتكون للعارف أشجان لا يدركها إلا أهل الصفاء.
مقام الرضا
ويجيء بعد ذلك مقام الرضا، والرضا باب الله الأعظم وجنة الدنيا، وهو أن يكون قلب العبد ساكنا تحت حكم الله عز وجل.
27
وأهل الرضا في الرضا على ثلاثة أحوال: فمنهم من يعمل في إسقاط الجزع بحيث يستوي عنده ما يجري عليه من حكم الله، من المكاره والشدائد والراحات والمنع والعطاء، ومنهم من يذهب عن رؤية رضائه عن الله برؤية رضا الله عنه، فلا يثبت لنفسه قدم في الرضا، وإن استوى عنده الشدة والرخاء والمنع والعطاء، ومنهم من يجاوز هذا ويذهب عن رؤية رضا الله عنه ورضاه عن الله لما سبق من الله تعالى لخلقه من الرضا
28
والمتأمل يرى في هذا المقام قاعدة متينة من أصول الأخلاق، فالتسليم لله من أدب النفس، وهو يطرد عن القلب نوازع كثيرة يخلقها التفكير في النصيب الحاضر من حظوظ الحياة، ومن الواضح أن هذا المقام يحتاج إلى رياضة شديدة؛ لأن الرضا لا يكون إلا بعد تطهير القلب من الوساوس النفسية.
وهو بالتأكيد من أسباب الاطمئنان، والطمأنينة أكبر الغنائم في الحياة الخلقية. وقد يقال إن الرضا المطلق يبعث على البلادة ويغري النفس بإيثار الركود، ونجيب بأنه لا تنافي بين الرضا بالواقع وبين الرغبة في تكميل النفس، وإمدادها بما تحتاج إليه من الأغذية الدنيوية والعقلية والروحية.
مقام الزهد
ومن أهم المقامات مقام الزهد «وهو أساس الأحوال الرضية، والمراتب السنية، وهو أول قدم القاصدين إلى الله عز وجل والمنقطعين إلى الله والراضين عن الله والمتوكلين على الله تعالى، فمن لم يحكم أساسه في الزهد لم يصح له شيء مما بعده؛ لأن حب الدنيا رأس كل خطيئة، والزهد في الدنيا رأس كل خير وطاعة».
29
والمراد هو الزهد في الحلال الموجود، وأما الحرام والشبهة فتركه واجب
29
والزهاد على ثلاث طبقات: فمنهم المبتدئون، وهم الذين خلت أيديهم من الأملاك وخلت قلوبهم مما خلت منه أيديهم، ومنهم المتحققون في الزهد، وهم الذين تركوا حظوظ النفس من جميع ما في الدنيا، وإنما كان هذا زهد المتحققين؛ لأن الزهد في الدنيا فيه حظ للنفس هو الثناء والمحمدة واتخاذ الجاه عند الناس، فمن زهد بقلبه في هذه الحظوظ فهو متحقق في زهده، أما الفرقة الثالثة: فهي التي تزهد في الزهد، ويمثلها قول الشبلي: الزهد غفلة؛ لأن الدنيا لا شيء، والزهد في لا شيء غفلة.
30
وقد يبدو لنا هذا القول غريبا أشد الغرابة، ولكن ما يهمنا؟ نحن نؤرخ فكرة فلسفية فيها الواضح والغامض، والمقبول والمردود، وليس من المستبعد أن تمر بالنفس لحظات تؤمن فيها بأن الخلق كل الخلق أن يعتقد المرء أن الدنيا لا شيء، ومن التجني أن نطلق القول بأن هذه النزعة علامة مرض، فقد تكون حينا من علائم العافية، ومن العدل أن نقضي بأن الخلق السليم قد يوجب الطمع حينا، والزهد حينأ، يوجب الطمع حين يستطيع المرء أن يوجه منافع دنياه وجهة الخير والشرف، ويوجب الزهد حين يخشى المرء أن تسير به دنياه إلى مزالق البغي والعدوان.
ونشهد صادقين بأننا نحار في تعليل هذه المقامات أشد الحيرة، ونخاف في أحوال كثيرة من عواقب التجني على الصوفية، ففي منافع العيش خير وشرف وجمال، ولكن فيها أحيانا شر وضعة وقبح، والذي يمشي على صراط الخلق يتذكر الصراط الذي وصفوه بأنه أدق من الشعرة وأحد من السيف.
مقام الفقر
ويأتي بعد مقام الزهد مقام الفقر، وهو عند الصوفية مقام شريف، يؤيدهم فيه قول الرسول: الفقر أزين بالعبد المؤمن من العذار الجيد على خد الفرس
31
وقد وصفه الخواص فقال: الفقر رداء الشرف، ولباس المرسلين، وجلباب الصالحين، وتاج المتقين، وزين المؤمنين، وغنيمة العارفين، ومنية المريدين، وحصن المطيعين، وسجن المذنبين.
31
والفقراء على ثلاث طبقات: فمنهم من لا يملك شيئا ولا يطلب بظاهره ولا بباطنه من أحد شيئا، ولا ينتظر من أحد شيئا، وإن أعطى شيئا لم يأخذ وهذا مقام المقربين، ومنهم من لا يملك شيئا ولا يسأل أحدا، ولا يطلب ولا يعرض، وإن أعطى شيئا من غير مسألة أخذ، ومنهم من لا يملك شيئا وإذا احتاج انبسط إلى بعض إخوانه ممن يعلم أنه يفرح بانبساطه إليه.
31
ونحن في هذا المقام نواجه شخصية «الدرويش» وهي شخصية نمقتها أشد المقت؛ لأنها حرب على الأخلاق، وتنتهي إلى إيثار الهرب من تكاليف الحياة. فالفقير الأول الذي لا يملك ولا يطلب ولا يقبل ليس إلا صورة خيالية، والأمعاء لم تخلق عبثا، وإنما هي جنود تقوم بوظائف حيوية لا يمتري فيها إلا المكابرون. والفقير الذي لا يملك ولا يطلب ثم يقبل هو من الشخصيات الضعيفة الحول في هذه الحياة، والفقير الذي لا يملك ثم ينبسط إلى إخوانه حين يحتاج هو إنسان رقيع، والخير له أن ينبسط إلى العمل والجد والكفاح في ميادين الرزق الحلال.
ولا ننكر أن الصوفية استطاعوا تزيين هذه الشخصيات، فقد قال أبو علي الروزباري: سألني أبو بكر الدقاق فقال: يا أبي علي، لم ترك الفقراء أخذ البلغة في وقت الحاجة؟ فقلت: لأنهم مشغولون بالمعطى عن العطاء، فقال: نعم، ولكن وقع لي شيء آخر، فقلت: هات أفدني ما وقع لك. فقال: لأنهم قوم لا ينفعهم الوجود إذ الله فاقتهم، ولا تضرهم الفاقة إذ الله وجودهم.
31
وهذا كلام طريف، ولكن يجب أن تقف طرافته عند هذا الحد فلا تتعداه إلى وضع القواعد الخلقية، وإلا سادت الفوضى وعم الكسل والجمود.
32
مقام الورع
ومن المقامات الشريفة مقام الورع، وهو ملاك الدين، ومن الصوفية من يتورع عن الشبهات، وهي ما بين الحرام البين والحلال البين وما لا يقع عليه اسم حلال مطلق ولا اسم حرام مطلق فيكون بين ذلك
33
ومنهم من يتورع عما يقف عنه قلبه ويحيك في صدره، وهذا لا يعرفه إلا أرباب القلوب، وهناك ورع العارفين والواجدين، وهم الذين يرون أن كل ما يشغلك عن الله فهو مشئوم عليك.
34
ومن أشرف ما قيل في الورع قول أبي سعيد الخراز: الورع أن تتبرأ من مظالم الخلق ومن مثاقيل الذر حتى لا يكون لأحدهم قبلك مظلمة ولا دعوى ولا طلبة.
35
وهذا رأى سديد، فنحن في الأغلب ننسى حقوق الناس، وهي كثيرة جدا، يتصل بعضها بالسلوك، وبعضها بالمعاش، ولا يستطيع تحقيق الورع على هذا الوجه إلا الأقلون.
حال المراقبة
ومن شريف الأحوال المراقبة، وأشرف أحوال المراقبة أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك،
35
أو أن تراقب الله وتسأله أن يرعاك، فإنه لا يكل خاصته في جميع أحوالهم إلى نفوسهم، ولا إلى أحد
35
وقال ابن عطاء لبعض حكماء خراسان ممن قد ولع بالجهل وقارن التقشف: أو ما علمت أن ما تقارن ببدنك أقذار في جنب ما تطالع بقلبك، وما تطالعه بقلبك هباء في جنب ما تراقب في سرك؟ فراقب الله في سرك وعلانيتك فإنه خير مما تقارن من عملك وعبادتك.
حال القرب
وقد ينشأ عن المراقبة حال القرب وحال الحب، أما القرب فسبيله الطاعة وصدق العبودية، كما قيل:
تحققتك في السر
فناجاك لساني
فاجتمعنا لمعان
وافترقنا لمعان
إن يكن غيبك التع
ظيم عن لحظ عياني
فلقد صيرك الوج
د من الأحشاء داني
وأما المحبة فسبيلها الأنس بالنعم الإلهية، والمحبون على ثلاثة أحوال:
فالحال الأول:
محبة العامة، ويتولد ذلك من إحسان الله تعالى إليهم، وعطفه عليهم، وشرط هذا الحال صفاء الود مع دوام الذكر، وموافقة القلوب لله وبذل المجهود، والمبالغة في الثناء على المحبوب.
والحال الثاني:
يتولد من نظر القلب إلى جلال الله وعظمته وعلمه وقدرته، وهو حب الصادقين، وشرطه هتك الأستار، وكشف الأسرار، ومحو الإرادات.
وأما الحال الثالث:
فهو محبة الصديقين والعارفين، وهي تتولد من نظرهم ومعرفتهم بقديم حب الله تعالى بلا علة، فيحبونه كذلك بلا علة.
وقد سئل ذو النون فقيل له: ما المحبة الصافية التي لا كدرة فيها؟ فأجاب: حب الله الصافي الذي لا كدرة فيه سقوط المحبة عن القلب والجوارح حتى لا تكون فيها المحبة، وتكون الأشياء بالله ولله، فذلك المحب لله .
وحب الله من أهم القواعد في بناء الأخلاق، وهو يحولنا إلى أرواح لطيفة لا يصدر عنها شر ولا عدوان، وقد يصل بنا إلى حب كل شيء في الوجود، حين تتمثل العالم كله من صنع المحبوب. وهذا بالطبع لا يتيسر إلا حين يغلب علينا الصفاء، فننسى البغض والحق والانتقام والحسد، وسائر الدسائس الصغيرة التي تفسد جمال الحياة، وتصير الأحياء أشقياء.
والصوفية يشترطون في الحب أن يتصل بأدب النفس، فمن المحبة الاستراحة إلى علم الله وحده بحال المحب، وإخلاص المعاملة لوجهه، وحسن الأدب فيها وهو الإخفاء لها، وكتم ما يحكم به من الضيق والشدائد، وإظهار ما ينعم به من الألطاف والفوائد، وكثرة التفكر في نعمائه وخفي ألطافه وغرائب صنعه وعجائب قدرته، وحسن الثناء عليه في كل حال، والصبر على بلائه؛ لأن المحب قد صار من أهله وأوليائه. والمحبوب قد يعنف بأحبابه لتمكنه منهم ومكانتهم عنده؛ لعلمه أنهم لا يريدون به بدلا، ولا يبغون عنه حولا: إذ ليست لهم راحة لسواه، ولا بغية في سواه، ولا هم لهم إلا فيه، كما قال بعض المحبين: ويلي منك، وويلي عنك، أفزع منك وأشتاق إليك، إن طلبتك أتعبتني، وإن هربت منك طلبتني، فليس لي معك راحة، ولا لي في غيرك استراحة.
36
وكانت رابعة العدوية من المحبين، سألها النوري فقال: لكل عبد شريطة ولكل إيمان حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ فقالت: ما عبدت الله خوفا من الله فأكون كالأمة السوء إن خافت عملت، ولا حبا للجنة فأكون كأمة السوء إن أعطيب عملت، ولكني عبدته حبا له وشوقا إليه.
37
وخطبها محمد بن سليمان أمير البصرة على مئة ألف وقال: لي غلة عشرة آلاف في كل شهر أدفعها إليك، فكتبت إليه: ما يسرني أنك لي عبد وأن كل ما تملكه لي، وأنك شغلتني عن الله طرفة عين.
38
ولها أبيات في معنى المحبة رواها كبار الرجال من القوم:
أحبك حبين حب الهوى
وحبا لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى
فشغلي بذكرك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهل له
فكشفك للحجب حتى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي
ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
ولننظر شرح المكي لهذه الأبيات؛ لأنه يصور فهم الصوفية للحب، وهو يستكثر أن يدركه من لا ذوق له ولا قدم له فيه، ويقول في معنى حب الهوى: «إني رأيتك فأحببتك عن مشاهدة عين اليقين، لا عن خبر وسمع وتصديق من طريق النعم والإحسان فتختلف محبتي إذا تغيرت الأفعال لاختلاف ذلك علي، ولكن محبتي من طريق العيان فقربت منك، وهربت إليك، واشتغلت بك وانقطعت عمن سواك، وقد كانت لي قبل ذلك أهواء متفرقة، فلما رأيتك اجتمعت كلها فصرت أنت كلية القلب وجملة المحبة فأنسيتني ما سواك، ثم إني مع ذلك لا أستحق على هذا الحب ولا أستأهل أن أنظر إليك في الآخرة على الكشف والعيان في محل الرضوان؛ لأن حبي لك لا يوجب عليك جزاء عليه، بل يوجب علي في كل شيء لك كل شيء مما لا أطيقه، ولا أقوم بحقك فيه أبدا، إذ كنت قد أحببتك فلزمني خوف التقصير، ووجب علي الحياء من قلة الوفاء، فتفضلت علي بفضل كرمك، وما أنت له أهل من تفضلك، فأريتني وجهك عندك آخرا كما أريتنيه اليوم عندي أولا، فلك الحمد على ما تفضلت به في ذا عندي في الدنيا ولك الحمد على ما تفضلت به في ذاك عندي في الآخرة، ولا حمد لي في ذا ههنا ولا حمد لي في ذاك هناك، إذ كنت إنما وصلت إليهما بك، فأنت المحمود فيهما لأنك وصلتني بهما».
39
وهذا التفسير يدل على أن الصوفية لا يقفون في فهم الحب عند المعاني الفطرية، ولكنهم يتوغلون فيعللون ويحللون ويصبغون الحب بصبغة الفكر والعقل، فهم ينظرون إلى الحب نظرة فلسفية ويضيفونه إلى دقائق المشكلات العقلية.
حال الحب
ويتصل بحال الحب حال الشوق، وقد روى عنه
صلى الله عليه وسلم
أنه كان يقول في دعائه: أسأكل لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك. ولذة النظر إلى وجه الله تعالى في الآخرة ، والشوق إلى لقائه في الدنيا .
40
وسئل بعضهم عن الشوق فقال: هيمان القلب عند ذكر المحبوب، وقال آخر: الشوق نار الله تعالى أشعلها في قلوب أوليائه حتى يحرق بها ما في قلوبهم من الخواطر والإرادات والعوارض والحاجات
41
وأهل الشوق في الشوق على ثلاثة أحوال: فمنهم من اشتاق إلى ما وعد الله تعالى لأوليائه من الثواب والكرامة والفضل والرضوان، ومنهم من اشتاق إلى محبوبه من شدة محبته، وتبرمه ببقائه شوقا إلى لقائه، ومنهم من شاهد في قرب سيده أنه حاضر لا يغيب، فتنعم قلبه بذكره، وقال: إنما يشتاق إلى غائب وهو حاضر لا يغيب، فذهب بالشوق عن رؤية الشوق فهو مشتاق بلا شوق، ودلائله تصفه عند أهله بالشوق وهو لا يصف نفسه بالشوق.
41
وهذا نظر دقيق، فقوة الحب تذهل المحب عن إدراك حال الشوق؛ لأن التفكير في المحبوب ليس إلا من أحوال أهل البدايات في الحب، فإذا امتزجت الأرواح نسي الحب ونسي الشوق.
حال الشوق
أما حال الأنس فلا يمكن التعبير عنه بأكثر من قول الطوسي: معنى الأنس بالله الاعتماد عليه والسكون إليه والاستعانة به
41
ومن شواهده ما روي أن مطرف بن عبد الله كتب إلى عمر بن عبد العزيز: «ليكن أنسك بالله وانقطاعك إليه، فإن لله تعالى عبادا استأنسوا بالله فكانوا في وحدتهم أشد استئناسا من الناس في كثرتهم، وأوحش ما يكون الناس آنس ما يكونون، وآنس ما يكون الناس أوحش ما يكونون».
42
وأهل الأنس في الأنس على ثلاثة أحوال: فمنهم من أنس بالذكر واستوحش من الغفلة، وأنس بالطاعة واستوحش من الذنب. ويفسر هذا قول سهل بن عبد الله: أول الأنس من العبد تأنس النفس والجوارح بالعقل، ويأنس العقل والنفس بعلم الشرع، ويأنس العقل والنفس والجوارح بالعمل لله خالصا فيأنس العبد بالله، أي يسكن إليه
42
والحال الثاني: أن يأنس العبد بالله ويستوحش مما سواه من العوارض والخواطر الشاغلة، ويفسره قول ذي النون وقد قيل له: ما علامة الأنس بالله؟ فقال: إذا رأيته يؤنسك بخلقه فإنه هو ذا يوحشك من نفسه، وإذا رأيته يوحشك من خلقه فهو ذا يؤنسك بنفسه.
43
والحال الثالث: هو الذهاب عن رؤية الأنس بوجود الهيبة والقرب والتعظيم مع الأنس. وسئل الشبلي عن الأنس فقال: وحشتك منك ومن نفسك ومن الكون.
44
حال الأنس
والأنس بالله يقتضي الطمأنينة، وهي ضروب: طمأنينة العوام الذين إذا ذكروا ربهم اطمأنوا إلى ذكرهم له، فحظهم منه الإجابة للدعوات باتساع الرزق ودفع الآفات، وطمأنينة الخواص الذين يرضون بقضاء الله ويصبرون على بلائه، وطمأنينة خواص الخواص وهم الذين علموا أن سرائرهم لا تقدر أن تطمئن إليه هيبة وتعظيما؛ لأنه ليس له غاية تدرك، وليس وليس كمثله شيء.
45
حال الطمأنينة
والطمأنينة تقتضي المشاهدة، وهي وصل بين رؤية القلوب ورؤية العيان، وتتمثل في مشاهدة الأشياء بأعين الفكر، وأشرف أحوالها أن تشاهد قلوب العارفين مشاهدة تثبيت فيكونوا حاضرين غائبين وغائبين حاضرين على انفراد الحق في الغيبة والحضور، فيشاهدوه ظاهرا وباطنا وآخرا وأولا.
46
حال اليقين
والمشاهدة تقتضي حال اليقين، واليقين هو ارتفاع الشك، وليس لزياداته نهاية، وكلما تفقه المريدون في الدين ازدادوا يقينا إلى يقين، ونهاية اليقين تحقيق التصديق بالغيب بإزالة كل شك وريب.
47
درجات العشق ونقلها إلى التصوف
إلى هنا عرف القارئ صورا من المقامات والأحوال، ورأى كيف تمثل هذه النوازع فهم الصوفية للحياة الخلقية. ولنقرر أننا اعتمدنا في هذا البحث على كتاب اللمع وكتاب قوت القلوب، وبين هذين الكتابين تفاوت قليل في فهم المقامات والأحوال، فما يكون حالا عند هذا قد يكون مقاما عند ذاك.
أما تقسيم بعض المقامات أو الأحوال إلى درجات ثلاث، فهو من صنع الطوسي في اللمع، ومن واجبنا أن ننبه القارئ إلى أن هذا التقسيم لا يعدو حدود التقريب، فالنفس قد يكون لها في الحال الواحد مئات من الأشكال، وقد يتقلب القلب في اللحظة الواحدة إلى ضروب مختلفة من الأنس واليقين، وتلك وثبات روحية لا يعلم تصرفها غير علام الغيوب.
ولنشر في ختام هذا الفصل إلى رأي المسيو ماسينيون في مقامات العشق، وهو يرى أن العشاق نقلوا أحوال الحب عن الصوفية، ومن أمثلة ذلك قول محمد بن داود: «إن الأحوال التي تتولد عن السماع والنظر مختلفة ولها مراتب: فأول ما يتولد عن النظر والسماع الاستحسان، ثم يقوى فيصير مودة، والمودة سبب الإرادة، فمن ود إنسانا ود أن يكون له خلا، ومن ود غرضا ود أن يكون له ملكا. ثم تقوى المودة فتصير محبة، ثم تقوى المحبة فتصير خلة، ثم تقوى الخلة فتوجب الهوى، ثم يقوى الهوى فتصير عشقا، ثم يزداد العشق فيصير تتيما، ثم يزداد التتيم فيصير ولها. والشوق تابع لكل واحدة من هذه الأحوال، والمستحسن يشتاق إلى ما يستحسنه على قدر محله من نفسه، ثم كلما قويت الحال قوي معها الاشتياق».
48
والواقع أن الحب الذي يفهمه ابن داود هو ذاته نزعة صوفية، فقد وقف عند قول أبي الشيص:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي
متأخر عنه ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيذة
حبا لذكرك فليلمني اللوم
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم
إذ كان حظي منك حظي منهم
وأهنتني فأهنت نفسي جاهدا
ما من يهون عليك ممن أكرم
ثم قال: ولو لم يقل أبو الشيص في عمره بل لو لم يقل أحد من أهل عصره غير هذه الأبيات لكانوا غير مقصرين، وإذا كانت كل خواطر العاشق فيما يتمناه واقعة ممن يهواه على الأمر الذي يرضاه، فهذه هي المشاكلة الطبيعية التي لا يفنيها مر الزمان، ولا تزول إلا بزوال الإنسان، وإذا صح هذا المذهب لم يعجب من أن يميل الإنسان إلى الإنسان بخلة أو خلتين، فإذا زالت العلة زال الهوى، فلا يزال المرابط متنقلا إلى أن يصادف من يجتمع فيه هواه فحينئذ يرضاه فلا ينعطف عنه إلى أحد سواه.
وليس من المستبعد أن يكون الصوفية هم الذين أخذوا المقامات والأحوال عن المحبين، فالحب الحسي يقع أولا، ويجيء الحب الروحي ثم الإلهي ثانيا. والعرب حين قالوا (تيم اللات) أو (تيم الله) إنما نقلوا التتيم من المحسوس إلى المعقول، فشبهوا الحب الروحي بالحب الحسي؛ لأن المحسوس أقوى في الظهور من المعقول.
وقد ظل الحب الحسي مقياسا للصدق، حتى صح لأحدهم أن يقول:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه
هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته
إن المحب لمن يحب مطيع
التجريد والأسباب
رأينا عند الصوفية مقامات الفقر والورع والزهد. ولكن لا بد من النص على آرائهم في الفقر والغنى؛ لأن لذلك صلة وثيقة بمذاهبهم الأخلاقية في طرائق المعاش. ونبادر فنذكر أن التصوف يسمى الفقر، والصوفية يسمون الفقراء، وهذا وحده كاف لتعيين مسالكهم في الحياة.
والانقطاع بالكلية إلى الله يسمى التجرد، وطلب الرزق يسمى التسبب، وهذه الكلمة الثانية لا تزال حية، والعوام في مصر يقولون (رجل متسبب) وربما سموا ما يتجرون به سببا، وقد يقولون فيمن يبحث عن الرزق: أخذ في الأسباب.
ما هو التجرد وما هو التسبب
والصوفية لا يؤثرون الفقر لذاته، وإنما يؤثرونه لما فيه من صرف النفس عن الشواغل الدنيوية التي تبعد المرء من الله. وهم حين يدعون إلى جمع المال ينصون على أنه لا يطلب لذاته، وإنما يطلب للأغراض الآتية:
الأول:
أن ينفقه المرء على نفسه: إما في عبادة أو في الاستعانة على عبادة، أما في العبادة فهو كالاستعانة به على الحج والجهاد، وأما فيما يقويه على العبادة فذلك هو المطعم والملبس والمسكن، وما إلى ذلك من ضرورات العيش؛ لأن هذه الشؤون إذا لم تتيسر كان القلب مصروفا إلى تدبيرها فلا يتفرغ للدين.
الثاني:
ما يصرفه في الصدقة والمروءة ووقاية العرض وأجرة الاستخدام. ومن وقاية العرض في رأيهم بذلك المال لدفع هجو الشعراء وثلب السفهاء، وقطع ألسنتهم ودفع شرهم
1
وفي وقاية العرض صرف للناس عن رذيلة الاغتياب، وليس من الإسراف أن يكون للرجل خدم؛ لأن قيامه بجميع شؤونه قد يعطل عليه أوقاته فلا يتفرغ لعبادة الله على الوجه المقبول.
الثالث:
ما ينفقه للخير العام كبناء المساجد والملاجئ والمستشفيات.
2
تلك فضائل المال من الوجهة الدينية، ولا بأس بأن يحمد المتصوف ما في المال من الحظوظ الدنيوية: كالخلاص من ذل السؤال وحقارة الفقر والوصول إلى العز والمجد بين الخلق وكثرة الإخوان والأعوان والأصدقاء والوقار والكرامة في القلوب.
3
وفي تحرير ذلك يقول ابن عطاء الله: اعلم أن الأشياء إنما تذم وتمدح بما تؤدي إليه، فالتدبير المذموم ما شغلك عن الله، وعطلك عن القيام بخدمة الله، وصدك عن معاملة الله. والتدبير المحمود هو ما ليس كذلك مما يؤديك إلى القرب من الله، ويوصلك إلى مرضاة الله. وكذلك الدنيا ليست تذم بلسان الإطلاق ولا تمدح كذلك، وإنما المذموم منها ما شغلك عن مولاك، ومنعك الاستعداد لأخراك.
4
الأغراض التي يطلب من أجلها المال
وليس معنى هذا أن المتسبب والمتجرد في رتبة واحدة. لا ليس الأمر كذلك، ولن يجعل الله من تفرغ لعبادته وشغل أوقاته به كالداخل في الأسباب، ولو كان فيها متقيا، فالمتسبب والمتجرد إذا استوى مقامهما من حيث المعرفة بالله فالمتجرد أفضل.
ذلك كلام ابن عطاء الله في (التنوير)
5
وهو في (الحكم) يدعو المريد إلى أن يقيم حيث أقامه الله
6
ولا تناقض بين الفكرتين؛ لأنه مع استواء التجرد والتسبب يرى قيام المتجرد أعلى وأكمل.
ونحن لا نرتضي هذا الرأي، ولكن من نحن؟ نحن نرى التسبب فرصة ذهبية؛ لأنه يعرض النفس للمحن ويروضها على البلاء. ولا تعرف قيمة الخلق إلا عند الاتصال بالناس، والأدب مع الناس موصول الأواصر بالأدب مع الله؛ لأننا لا نحب العدل والإنصاف إلا لنتخلق بأخلاق الله، ولا نبغض الجور والظلم والعسف إلا ابتغاء مرضاة الله، والمتجرد لا يتعرض لشيء من ذلك، هو رجل خلت دنياه من أسباب الشقاق والنزاع منذ سلمت نفسه من بلايا الأحذ والعطاء. ويمكن الفصل في هذه القضية بأن تفضل التجرد حين نخشى على أنفسنا الضعف عن رعاية الحقوق، ونفضل التسبب حين نرى في عزائمنا من القوة والصلابة ما ندوس به على المطامع الدنيئة التي تستهوي من يطلبون الأرزاق.
هل المتجرد والمتسبب في رتبة واحدة؟
ولكن ما هو التجرد المحمود؟ وما هو التسبب المحمود؟
لقد وضع ابن عطاء الله في ذلك رسالة طريفة سماها التنوير في إسقاط التدبير، وهي رسالة ممتعة من الوجهة الأدبية والصوفية؛ لأنها حوت فقرات كثيرة مما أنشأ الصوفية في الدعوة إلى التخلق بكرائم الخلال.
وإليك خلاصة ما وضعه لآداب التجرد:
الأول:
علمك بسابق تدبير الله فيك، وذلك أن تعلم أن الله كان لك قبل أن تكون لنفسك، فكما كان لك مدبرا قبل أن تكون ولا شيء من تدبيرك معه، كذلك هو سبحانه مدبر لك بعد وجودك، فكن له كما كنت له يكن لك كما كان لك.
الثاني:
أن تعلم أن التدبير منك لنفسك جهل منك بحسن النظر لها.
الثالث:
علمك بأن القدر لا يجري على حسب تدبيرك، بل أكثر ما يكون ما لا تدبر، وأقل ما يكون ما أنت له مدبر.
الرابع:
علمك بأن الله تعالى هو المتولى لتدبير مملكته: علوها وسفلها، غيبها وشهادتها، وكما سلمت له تدبيره في عرشه، وكرسيه، وسماواته، وأرضه، فسلم له تدبيره في وجودك إلى هذه العوالم.
الخامس:
علمك بأنك ملك لله، وليس لك تدبير ما هو لغيرك. فما ليس لك ملكه ليس لك تدبيره.
السادس:
علمك بأنك في ضيافة الله؛ لأن الدنيا دار الله، وأنت نازل فيها عليه، ومن حق الضيف أن لا يعول هما مع رب المنزل.
السابع:
نظر العبد إلى قيومية الله تعالى في كل شيء، فإذا علم العبد قيومية ربه وقيامه عليه، ألقى قياده إليه، وانطرح الاستسلام بين يديه.
الثامن:
اشتغال العبد بوظائف العبودية، فإذا توجهت همته إلى رعاية عبوديته شغله ذلك عن التدبير لفسه.
التاسع:
أن تعلم أنك عبد مربوب، وحق العبد أن لا يعول هما مع سيده مع اتصافه بالإفضال وعدم الإهمال، فإن الروح مقام العبودية الثقة بالله والاستسلام إلى الله.
العاشر:
عدم علمك بعواقب الأمور، فربما دبرت أمرا عظيما ظننت أنه لك فكان عليك، وربما أتت الفوائد من وجوه الشدائد، والشدائد من وجوه الفوائد، والأضرار من وجوه المسار، والمسار من وجوه الأضرار وربما كمنت المنن في المحن، والمحن في المنن، وربما انتفعت على أيدي الأعداء وأرديت على أيدي الأحباب.
7
آداب التجرد
أما المتسبب فتجب عليه مراعاة الآداب الآتية:
الأول:
ربط العزم مع الله قبل الخروج من المنزل على العفو عن المسيئين إليه، إذ الأسواق محل المخاصمة والمقاولة، فيكون كأبي ضمضم الذي كان إذا خرج من بيته قال: اللهم إني تصدقت بعرضي على المسلمين.
الثاني:
أن يتوضأ ويصلي قبل خروجه ويسأل الله السلامة في مخرجه ذلك؛ فإنه لا يدري ماذا يقضي عليه.
الثالث:
ينبغي له إذا خرج من منزله أن يستودع الله أهله ومسكنه وما فيه، فإنه قادر على أن يحفظ ذلك عليه.
الرابع:
يستحب له إذا خرج من منزله أن يقول: باسم الله توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله. فإن ذلك يوئس منه الشيطان.
الخامس:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليجعل ذلك شكرا لنعمة القوة والتقوى، اللتين وهبهما المولى له، فمن أمكنه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بحيث لا يصل إليه أذى في نفسه، أو عرضه، أو ماله، فهو ممن مكن له في الأرض، والوجوب متعلق به، وإن كان لا يصل إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالأذى سقط عنه الوجوب.
السادس:
أن يكون مشيه بالسكينة والوقار، لقوله تعالى:
وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما
وليس ذلك خاصا بالمشي، بل المطلوب منك أن تكون أفعالك كلها تقارنها السكينة ويلازمها التثبيت.
السابع:
أن يذكر الله تعالى في سوقه، فإنه قد جاء عنه
صلى الله عليه وسلم : ذاكر الله في الغافلين كالمقاتل بين الفارين،
8
ذاكر الله في السوق كالحي بين الموتى.
الثامن:
ألا يشغله ما هو فيه من المبايعة عن النهوض إلى الصلاة في أوقاتها جماعة؛ لأنه إذا ضيعها اشتغالا بسببه، استوجب المقت من ربه، ورفع البركة من كسبه.
التاسع:
ترك الحلف والإطراء لسلعته، فقد قال
صلى الله عليه وسلم : التجار هم الفجار إلا من بر وصدق.
العاشر:
كف لسانه عن الغيبة والنميمة، وليعلم أن السامع للغيبة أحد المغتابين، فإن اغتيب أحد بحضرته فلينكر عليه، فإن لم يسمع منه فليقم، ولا يمنعه الحياء من الخلق من القيام بحق الملك الحق.
9
ثم قال ابن عطاء الله: وعليك أيها المؤمن بغض طرفك من حين خروجك إلى سببك إلى حين ترجع، ولتذكر قول الله تعالى:
قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم
وليعلم أن بصره نعمة من الله عليه، فلا يكن لنعم الله كفورا، وأمانة من الله عنده فلا يكن لها خائنا.
10
آداب التسبب
وابن عطاء الله لا يرى التسبب مما ينافي التوكل، ويقول في ذلك: انظر إلى قوله
صلى الله عليه وسلم : (لو توكلتم على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا) تراه يدل على الأمر بالتوكل على الله تعالى لا على نفي الأسباب، بل يدل على إثباتها لقوله
صلى الله عليه وسلم : «تغدو خماصا وتروح بطانا»، فقد أثبت لها غدوها ورواحها، وهو سببها، ونفى عنها الادخار.
11
الادخار
وابن عطاء الله لا ينكر الادخار في جميع الأحوال، وإنما ينكر ما يقع منه بخلا واستكثارا، ومباهاة وافتخارا، وهو يقبل ادخار المقتصدين وهم الذين لم يدخروا استكثارا ولا مباهاة ولا افتخارا، وإنما علموا من نفوسهم الاضطراب عند الفقر فعلموا أنهم إن لم يدخروا تشوش عليهم إيمانهم، وتزلزل إيقانهم، فادخروا لضعفهم عن حال المتوكلين، وعلما منهم بعجزهم عن مقام اليقين. وهناك طبقة ثالثة، هم السابقون، وادخارهم ليس لأنفسهم، ولكنه ادخار أمانة، فإن أمسكوا الدنيا أمسكوها بحق، وإن بذلوها بذلوها بحق، وليس الممسك لها بحق بدون الباذل لها بحق.
11
رأي الغزالي في المال
والغزالي يرى المال كالحية: يأخذها الراقي ويستخرج منها الترياق ويأخذها الغافل فيقتله سمها من حيث لا يدري، ولا ينجو أحد من سم المال إلا بالمحافظة على خمس وظائف:
الأولى:
أن يعرف المقصود من المال: فلا يحفظ منه إلا قدر الحاجة ولا يعطيه من همته فوق ما يستحقه.
الثانية:
أن يراعي جهة دخل المال فيجتنب الحرام المحض، وما يغلب عليه الحرام كأموال الحكام الظالمين، ويجتنب الجهات المكروهة التي تقدح في المروءة كالهدايا التي فيها شوائب الرشوة، وكالسؤال الذي فيه الذلة وهتك المروءة.
الثالثة:
أن يراعي في كسبه مقدار حاجته في الملبس والمسكن والمطعم.
الرابعة :
أن يقتصد في الإنفاق غير مقتر ولا مبذر.
الخامسة:
أن يصلح نيته في الأخذ والترك، والإنفاق والإمساك؛ لأن حسن النية هو الأساس.
12
الدعوة إلى الفقر
إلى هنا رآنا القارئ نحتال في صياغة هذا الفصل، وإنما كان الأمر كذلك لأننا أردنا أن ننطق الصوفية بالدعوة إلى المال والادخار. والحق أنهم غرباء في هذا الميدان، فالتصوف الإسلامي هو في حقيقته ظل من ظلال المسيحية، هو هرب مطلق من الدنيا ومن الجاه ومن المال، ولا يدعو إلى الغنى إلا طبقة ضئيلة من الصوفية، ومن أجل هذا كان خطرهم شديدا على الأخلاق ... الصوفية جنوا على المسلمين أبشع جناية حين حببوا إليهم الزهد وبغضوا إليهم المال، الصوفية هم الذين جعلوا المسلمين آخر الشعوب، وهم الذين قضوا عليهم بالاستعباد، وهم الذين أوردوهم موارد الذل والضيم والهوان.
إن أول صوفي تعمق في البحث عن عيوب النفس وآفات الأعمال وأغوار العبادات هو الحارث المحاسبي
13
وهذا الرجل - الذي كان قدوة لجميع الصوفية - كان من أعداء المال، ولم تكن عداوته للمال عداوة هينة؛ لأنه ضرب على الوتر الحساس حين ذكر المسلمين بفقر الرسول، وهو يتخذ من فقر النبي حجة على شر الغنى وإضراره بخير الدنيا والدين.
وكان الحارث المحاسبي رجلا قوي المنطق زلق اللسان، وكان من أهل البصر بمكامن الضعف في النفوس، وقد مكنت له مواهبه الأدبية والذوقية من نواصي الناس، فاندفع يذم المال ذما بليغا لم يصل إلى سمع ولا قلب إلا حول صاحبه إلى زاهد أواب.
رأي المحاسبي أن جماعة من العلماء احتجوا للغني بما كان من أمر عبد الرحمن بن عوف، وعبد الرحمن هذا كان من صحابة الرسول، وكانت أمواله ومتاجره مضرب الأمثال، وقد شهد له النبي بالخير ورجا له حسن المآب وكان غنى ابن عوف خليقا بأن يحبب المسلمين في الغنى، ويبين لهم أن كثرة المال لا تنافي الدين، فاندفع المحاسبي يبدد هذه الشهبة ويبين أن ابن عوف لن يدخل الجنة بالرفق الذي يدخل به الصعاليك، وإنما يدخل في هيبة وحذر كما يدخل المريب.
ونظرية المحاسبي تقوم على أساس خطر، فهو يرى الدنيا غير الدنيا والناس غير الناس، فإن تشبهتم بالصحابة فأنتم مخطئون «فقد كانوا فيما أحل لهم أزهد منكم فيما حرم عليكم، والذي لا بأس به عندكم كان من الموبقات عندهم»،
14
وليس لكم أن تطمعوا في الحلال؛ لأنكم لن تجدوه في دهركم كما وجدوه في دهرهم، ولن تحتاطوا في طلب الحلال كما احتاطوا، ولنفرض أنكم ظفرتم بالحلال فهل تأمنون تغير القلوب؟ إن كان ذلك فأنتم تحسنون الظن بالنفس وهي أمارة بالسوء
15
وهل غاب عنكم أن الرسول قال: يدخل صعاليك المهاجرين الجنة قبل أغنيائهم بخمس مئة عام؟
16
وهل نسيتم أنه قال: سادات المؤمنين في الجنة من إذا تغدى لم يجد عشاء، وإذا استقرض لم يجد قرضا. وليس له فضل كسوة إلا ما يواريه، ولم يقدر على أن يكتسب ما يغنيه.
17
وكان المحاسبي رجلا مسيحي النزعة يرى العلماء كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب وتبقى فيه النخالة، ويرى الحكمة تخرج من أفواههم ويبقى الغل في صدورهم، ويراهم أفسدوا آخرتهم بصلاح دنياهم، وقد روى كلمة المسيح في هذا المعنى، وهي كلمة لا نحب أن نرويها في كتابنا هذا، ويكفي أن نشير إلى مكانها في كتاب الأحياء.
18
خطر هذه الدعوة
والحق أن الصوفية اختلط عليهم الأمر حين أحبوا التشبه بالأنبياء، فالمسيح تصوف لأنه رأى حب الدنيا يعصف باليهود، والنبي محمد لم يفكر في إصلاح دنياه لأنه شغل بتبليغ الرسالة؛ فكان مثله مثل الداعية الذي يريد أن يقطع جميع الألسنة ويسلم من تلوم السفهاء.
ومن المعقول أن يلوذ الأنبياء والمصلحون بالفقر ليفرغوا لدعوة الخير، ولكن كيف يصبح الفقر شريعة؟ وكيف يصير من واجب الناس جميعا أن يعيشوا فقراء؟
إن جانب الضعف في الأخلاق الصوفية أنها تجعل الفقر مما يجب أن يرغب فيه جميع الناس، ولو عقل الصوفية لعرفوا أن للفقر خلقة بشعة لا يطمع في التعرف إليها رجل كريم. الفقر هو البلية العظمى، والنكبة الكبرى، والبلاء الماحق، والشر الملعون. الفقر هو العورة التي يفتضح بها الرجال، الفقر هو المقتل الذي يصرع به الأبطال، الفقر هو أقبح الصفات التي تنزه عنها الله ذو الجلال، الفقر فضيلة سخيفة لا يدعو إليها إلا رجل سخيف!
هجوم على الصوفية
للصوفية عذر واحد، وهو عذر جميل، هم يرون حب المال يذهب بالناس إلى البغي في أكثر الأحيان، ولكني مع هذا أجزم بأن بغى الغني أجمل صورة من عدالة الفقير، وهل للفقير عدالة؟ إنه شخص مضيع وهو في المجتمع لا يحسب له حساب، والخلق الحق هو الذي يرفع الشخصية الإنسانية ويقيم لها الموازين.
ولو أن الصوفية درسوا الطبيعة الإنسانية حق الدرس لتغير موقفهم في فهم الفقر، لو أنهم عرفوا أن الفقير لا يصلح لقيادة النهضات الاجتماعية والسياسية والخلقية لأيقنوا أن الغنى سلاح ماض في أيدي المصلحين، ولكن الواقع أن الصوفية كانت هممهم في الأغلب همما ترابية، أليسوا هم الذين وضعوا القواعد للسؤال؟ وهل يسأل الناس إلا الصغار والضعفاء؟ وأي قيمة للخلق إذا انتهى بصاحبه إلى الضعف والصغار، ونأى به عن مواطن الرجال؟
إن الجنة وما فيها من خير ونعيم لا تساوي ذلة السؤال، والله لم يخلقنا لنسأل الناس، وهو لم يمنحنا العقل والعافية إلا لنستعبد خيرات الأرض ونستغني عن المخلوقين. ولولا الأدب لقلت إن الله دعانا إلى الاستغناء عنه منذ فطر الأرض والبحر والهواء على خدمة أبدية لا يحرم منها إلا أهل الخمود.
إن الله دعانا إلى الكرامة ومهد لنا سبلها وأعاننا عليها، ولم يشأ أن يذل الكفار بحرمانهم من استخراج ثمرات الأرض؛ لأنه سبحانه لا يحب لأبنائه أن يعيشوا عيش العبيد، والمؤمن والكافر أمام عدله ورحمته سواء.
الدعوة إلى الفقر تنافي الخلق، وتنافي الأدب، وتنافي الإيمان.
الدعوة إلى الفقر هي السوس الذي قضى على عظام المسلمين، وجعلهم من أذل الشعوب بعد أن كانوا من أقوى الأعزاء.
الدعوة إلى القناعة رذيلة إنسانية لا يجترمها إلا رجل غافل أو مخبول.
وكيف نقنع وقد هدانا الله إلى أسرار الوجود فعرفنا أن الخير لا نهاية له، وأن النعيم أعظم وأكبر من أن تقام له حدود.
لو عاش أهل الأرض بعقول الصوفية وأوهامهم وأغلاطهم لما استطاع الإنسان أن يسخر البرق والماء، لو عاش أهل الأرض بأذهان الصوفية لما كانت هذه النعم التي يمرح فيها أهل الشرق والغرب، لو عاش أهل الأرض بأذهان الصوفية لما كانت هذه الوثبات التي يموج بها العالم السياسي فيقيم قناطر من الخير على بحار من الدماء. الصوفية قوم كسالى وادعون، ذهب بهم الجوع إلى أودية الموت.
بعض ما يجلب المال من هوان النفوس
قد يقول القارئ: وما شأنك أنت؟ أنت تؤرخ التصوف، فكيف تستطيل على الصوفية؟
وأجيب بأني أيضا متصوف، ولكن أي تصوف؟ إنه تصوف استقيته من مورد الحياة، هو تصوف حق يقوم على أساس الحق، فإن كان التصوف القديم هو الزهد فالتصوف الجديد هو الإخلاص المطلق في حب الحياة والفوز والمجد، التصوف الذي أدعو إليه هو الشره الشريف على فهم ما في الدنيا من خير وشر، وجمال وقبح، وحق وزيغ، هو أن تكون قوة كاشفة قاهرة تستوعب أسرار الوجود، ثم تسخره لخدمة الإنسان والحيوان، هو أن تجعل الدنيا فردوسا يذكر بما وعدت به من نعيم الفراديس، هو أن تكون غنيا بعقلك وجهدك وخلقك فلا يكون لمخلوق فضل عليك، هو أن تكون شبيها بربك في كرمه وغناه.
أنا لا أريد أن يتصوف الرجل تصوف العبيد، وإنما أريد أن يتصوف تصوف الملوك.
ولكن هناك وجه آخر نفهم به جمال الدعوة إلى الفقر. وتفصيل ذلك: أن الغنى لا ينتظرنا في كل وقت، ولا نقتنصه حين نشاء، فقد يحتاج الغنى أحيانا إلى مسالك ينفر منها الكريم، وفي هذه الحال يكون الفقر أجمل وأشرف.
في أحيان كثيرة يكون من النبل أن نحرر رقابنا من رق الطمع، وأن نتغنى بقول الذي يقول:
حرام على من وحد الله ربه
وأفرده أن يجتدي أحدا رفدا
ويا صاحبي قف بي مع الحل وقفة
أموت بها وجدا وأحيا بها وجدا
وقل لملوك الأرض تجهد جهدها
فذا الملك ملك لا يباع ولا يهدى
وأنت لو نظرت حولك لرأيت طوائف من الأغنياء لم يصلوا إلى غناهم إلا بوسائل يفزع من تصورها كرام الرجال ؛ فهذا الذي يسكن قصرا فخما ويعيش الأمراء لم يصل إلى الغنى إلا منذ اليوم الذي باع فيه نفسه وقلبه وضميره لأحد الوزراء أو لأحد الأحزاب، وذاك الذي يأمر ونهى ويطغى ويستطيل هو في حقيقة أمره أذل من القراد بمناسم الجمال الجرب؛ لأنه لا يصبح ولا يمسي إلا وهو تابع ذليل، وذلك الذي لا يمده لمصافحتك إلا وهو متكلف، ولا يواسيك إن حزنت، ولا يعودك إن مرضت، ولا تراه إلا أشم الأنف منتفخ الأوداج، ذلك المتكبر المتجبر الذي يحاول أن يخرق الأرض ويطاول الجبال، هو في قرارة نفسه مستعبد لجبهة قوية يرى سوطها مسلطا عليه في كل حين، وهو على كبريائه ترتعد فرائصه كلما تمثل له شبح من يملك أمره في يقظة أو في منام.
إن أكثر من ترى من أصحاب الحول والطول كان مثلهم مثل المرأة التي لا تفرط في عرضها بسبب القوت، وإنما تفرط في عرضها لتقضي لبانتها من الترف، وبعض النساء لا يؤذيها أن تجوع، ولكن يؤذيها أن تخرج وهي عاطل من الأساور والدمالج والخلاخيل.
وهل تظن أن الذي يبيع ضميره يبيعه ليقتات؟ وكيف يكون الأمر كذلك وأكبر البطون يملأه رغيف جاف، ويرويه كوب من الماء القراح؟ إنما يبيع الناس ضمائرهم ليتحلوا بالحلي الكواذب من صور الأمر والنهي والطغيان.
انظر هذه النظرة إلى حقائق الجاه والمال، ثم ارجع إلى الصوفية تجدهم أعقل الناس وأشرف الناس.
أتراك نظرت وفكرت؟ إن كنت فعلت فاعلم أن الصوفية حين دعوا إلى الفقر والورع والزهد لم يكونوا عابثين، وإنما كانوا يدافعون عن الكرامة الإنسانية التي لا تضيع ولا تمتهن إلا في أسواق المنافع، وحفظ الكرامة هو الحجر الأول في صرح الأخلاق.
انظر هذه النظرة لترى ما في مسالك الصوفية من المعاني الشعرية، وهل من القليل أن تخلص من ربقة الأغراض فلا يكون لأحد سلطان عليك؟ هل من القليل أن تشعر بأن مائدتك الجافية هي من كسب يدك، وأن ثوبك الحقير لم ينسج خيوطه أحد سواك؟ هل من القليل أن تعرف زوجتك وأن يعرف أبناؤك أن ليس لهم سيد بعد الله غيرك؟ هل من القليل أن يكون كل ما في بيتك من أثاث ورياش إنما وصل إليك بفضل كدحك، وإن كان غطاؤك من الخيش، وسريرك من الجريد؟
إن الصوفية لا يحرمون عليك أن تثري من الحلال، فقد كان الصوفية بالفعل من أهل الكسب، ولكن أي كسب؟ انظر إلى أسمائهم وألقابهم تجد فيهم الخواص والخراز والوقاد والصباغ والحداد والسماك والقصاب والدقاق.
انظر إلى ألقابهم تجدهم كانوا من أهل العمارة والصناعة والزراعة، انظر إلى ألقابهم تجدهم كانوا من أقطاب السعي في سبيل الرزق الحلال.
كن كيف شئت في فهم الدنيا والمعاش، ولكن تذكر أن المتصوف رجل دقيق الإحساس، وأنه لا يهون عليه في سبيل الدنيا ما يهون عليك، ومن أجل هذا تراه في أدبه صادقا كل الصدق، وتكاد تلمس في كل سطر بل كل حرف أنه يخفي بلية موجعة رماه بها التصون والعفاف.
وما نريد نسلك جميع المتصوفين في سلك واحد، هيهات، فنحن نحتقر التبلد الذي يوسم بالتعفف. ولكنا لا نملك الغض من الأدب الحق، أدب النفوس التي ترحب بالفقر حين لا ينال الغنى إلا بالذل، ولا يدرك إلا بالضيم.
وفي ظلال هذه المعاني نقرأ أدب الصوفية في ذم الغنى ومدح الفقر، فنراه صورا طريفة من أحوال النفوس والقلوب، ونرى أنفسنا أمام صروح عالية من مكارم الأخلاق.
إن الصوفية الصادقين لا يؤثرون الفقر إلا فرارا من المال المشوب بالشبهات. والخوف على النفس والقلب والضمير من أدناس الحرام هو خوف نبيل لا يستشعره غير صحاح القلوب.
وما أسعد من ينفرون من الحرام، ولا يأنسون بغير الحلال!
آداب الطعام
متابعة الصوفية للرسول في خشونة الطعام
الصوفية يتابعون الرسول في خشونة الطعام، والرضا منه بالقليل، وكان
صلى الله عليه وسلم
يأكل خبز الشعير غير منخول، وما ذم طعاما قط، لكنه إن أعجبه أكله، وإن كرهه تركه، وإن عافه لم يبغضه إلى غيره، وكان يلعق بأصابعه الصحفة، وكان يلعق أصابعه من الطعام حتى تحمر. وكان لا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه واحدة واحدة، وكان لا يسأل أهله طعاما ولا يتشهاه عليهم، ما أطعموه أكل، وما أعطوه قبل، وما سقوه شرب، وكان ربما قام فأخذ بنفسه ما يأكل أو يشرب.
1
نفرتهم من البطنة وإيثارهم للحرمان
وكان يقول: «إياكم والبطنة فإنها مفسدة للبدن، مورثة للسقم، مكسلة عن العبادة»، ويقول: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه، حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا بد فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس».
2
وقد أثرت عن الصوفية أقوال في النهي عن كثرة الطعام، قال مالك بن دينار: «وددت أن رزقي حصاة أمصها فقد ضجرت من كثرة تردادي إلى الخلاء» وباع جارية فزارته يوما فقال: كيف ترين مواليك؟ فقالت: ما أكثر خير بيوتهم! فقال: أخبرتني عن عمران حشوشهم».
3
وهو بهذا لا يتمثل طيبات الطعام إلا مقرونة بما ستصير إليه!
ويمكن الجزم بأن سياسة الصوفية فيما يختص بالطعام كانت قائمة على أساس الحرمان
4
وكان فيهم من يصوم الدهر «ولا يفطر غير أيام العيدين وأيام التشريق
5 »، وسمع شعيب بن حرب يقول: «أكلت في عشرة أيام أكلة، وشربت شربة»،
6
وتحدث التستري عن نفسه فقال: «رجعت إلى تستر فجعلت قوتي اقتصارا على أن يشتري لي بدرهم من الشعير الفرق فيطحن ويخبز لي فأفطر عند السحر كل ليلة على أوقية واحدة بحتا بغير ملح ولا إدام، فكان يكفيني ذلك الدرهم سنة. ثم عزمت على أن أطوي ثلاث ليال، ثم أفطر ليلة، ثم خمسا ثم سبعا، ثم خمسأ وعشرين ليلة، وكنت عليه عشرين سنة».
7
ومن الصوفية من حدث عن نفسه أنه تقوت في بضعة عشر يوما - أو سبعة عشر يوما - خمس حبات، أو قال: ثلاث حبات، فقيل له: وكيف عملت؟ فقال: لم يكن عندي غيرها، فاشتريت بها لفتا، وكنت آكل كل يوم واحدة. ولا عبرة بأن يقال: إن هذا الرجل اكتفى بهذا القدر للضرورة فقد أثر عنه أنه كان لا يسأل أحدا شيئا.
8
قبول فريق منهم لأطعمة السلاطين
ومع إيثار الصوفية للإقلال من الطعام، والرضا من العيش بالدون ، كان فيهم من يأكل طعام السلاطين ويقبل جوائزهم، وقد بلغ ابن عبد البر، وهو بشاطبة، أن قوما عابوه بأكل طعام السلطان وقبول جوائزه، فقال:
قل لمن ينكر أكلي
لطعام الأمراء
أنت من جهلك هذا
في محل السفهاء
لأن الاقتداء بالصالحين من الصحابة والتابعين، وأئمة الفتوى من المسلمين من السلف الماضين هو ملاك الدين
9
فقد كان زيد بن ثابت وهو من الراسخين في العلم يقبل جوائز معاوية وابنه يزيد، وكان ابن عمر مع ورعه وفضله يقبل هدايا صهره المختار بن أبي عبيد، ويأكل طعامه، ويقبل جوائزه. وقال عبد الله ابن مسعود - وكان قد ملئ علما - لرجل سأله فقال: إن لي جارا يعمل بالربا ولا يجتنب في مكسبه الحرام يدعوني إلى طعامه فأجيبه؟ قال: نعم، لك المهنأ، وعليه المأثم، ما لم تعلم الشيء بعينه حراما. وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه حين سئل عن جوائز السلاطين: لحم ظبي ذكي. وكان الشعبي - وهو من كبار التابعين وعلمائهم - يؤدب بني عبد الملك بن مروان ويقبل جوائزه ويأكل طعامه. وكان إبراهيم النخعي وسائر علماء الكوفة والحسن البصري مع زهده وورعه وسائر علماء البصرة وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبان بن عثمان والفقهاء السبعة بالمدينة - حاشا سعيد بن المسيب - يقبلون جوائز السلطان.
وكان مالك وأبو يوسف والشافعي وغيرهم من فقهاء الحجاز والعراق يقبلون جوائز السلاطين والأمراء، وكان سفيان الثوري مع ورعه وفضله يقول: جوائز السلطان أحب إلي من صلة الأخوان؛ لأن الإخوان يمنون والسلطان لا يمن، ومثل هذا عن العلماء والفضلاء كثير قد جمع الناس فيه أبوابا.
10
ويظهر من هذا أن الصوفية كانوا فريقين: فريقا يبالغ في الإقلال من الطعام ويروض نفسه على الجوع، وفريقا يتسامع بعض التسامح فيوسع على نفسه بأكل ما يصل إليه من أطعمة السلاطين والأمراء.
ولكن الحال الغالب عليهم هو الحرمان، وكان فيهم من يحرص على خبز الشعير
11
ويتجنب ترف الاستحمام،
12
وإيثار الشعير له معناه، فهو في خشونته من حيث المطعم يناسب الصوف في خشونته من حيث الملبس، وإذا التقت خشونة الطعام وخشونة اللباس مع هجر الحمام نشأت عن ذلك صورة شعثاء لا يتمثلها الرجل المترف إلا بعنف شديد.
ولا جدال في أن لذلك تأثيرا على الأخلاق؛ لأن المرء يتأثر في أخلاقه بما يأكل وما يلبس، فما قيمة ذلك من الوجهة الأخلاقية؟
فضل الجوع في كبح الشهوات
نستطيع أن نجزم بأن سياستهم في الطعام لها أثر بالغ في حرب الشهوات، فالرجل لا تصبو نفسه، ولا يطمح بصره إلى الحسن الممنوع، إلا حين ينشط الجسم وتهيج الحواس، وهيهات أن تستيقظ جوارح رجل يكتفي بخبز الشعير، ثم لا يأكل منه إلا القليل.
والذين يتخلقون بأخلاق الصوفية في الطعام يستطيعون بسهولة أن يستهينوا بما تعرض الحياة من صنوف الشهوات. وقد كنت وأنا طالب في الأزهر أكتفي بالخبز الجاف مصحوبا بأدام تافه هو الفول المدمس في الصباح، والفول النابت في المساء، وكنت يومئذ في ميعة الشباب، ومع ذلك لا أذكر أني تعرضت لشهوة جامحة أو هوى غلاب.
هذا جانب من الفضل في تلك السياسة الصوفية.
13
أثر الجوع في قتل الحيوية
أما الجانب الآخر فهو الخطر الذي يهدد من يكتفون بالطعام الخشن القليل.
إن الجوع يقتل الحيوية، ويروض الجائع على صغر النفس، وموت العزيمة، وانحلال الشخصية. ولا يمكن لرجل يكتفي بأكلة واحدة في الأسبوع أن يكون من رجال الأعمال. وما الذي يحمل المرء على التفكير في عظائم الأمور وهو يعيش في العام بدراهم معدودات؟
فضل الطعام في إعداد الرجال لجلائل الأعمال
إن الطعام يقوى شهوة النهم، كما يقول البوصيري، والنهم يتطلب وقودا من طيبات الأرزاق، والرزق الطيب لا ينتهب ولا يختلس، ولكنه يأتي بفضل العزيمة المتوثبة والساعد المتين.
فلا حرج علينا بعد هذا البيان، من التصريح بأن الصوفية فتنوا العالم الإسلامي، وأضروا به حين حببوا إليه الظمأ والجوع.
ونظرة في مدينة كالقاهرة ترينا شاهد ذلك: فطبقات العوام يحمدون الله على الخبز والملح والماء، ومن أجل هذا يسيرون في الحياة بخطوات بطيئة متثاقلة، ويكتفون بالمساكن القذرة، والمآكل الخسيسة، والملابس الرخيصة، على حين يقتحم الأجانب حصون المنافع الاقتصادية ، ويأكلون الطيبات، ويقيمون في أحياء جميلة هم منشئوها، ويعرفون أدب الزينة وأدب الاستقبال.
ولو سألت الرجل الذاوي الجسم بفضل الجوع أن يتأهب للحرب لتردد وجزع، وكيف يرحب بالحرب وليس له فيها مغنم مرموق؟ أما الرجل الذي عرف أطايب العيش ففيه من قوة المراس، وحب النضال، والشوق إلى العراك، ما يدفعه إلى المخاطرة بنفسه في سبيل ما تنتج الحرب من مغانم وأسلاب.
والموت نفسه قد يتمثل للرجل السليم متعة رياضية، أما الجسم العليل فق شبع من الموت!!
السر في إسراف الصوفية حين يتحدثون عن الطعام
ولكن ما رأى القارئ في أن الحرمان الذي كاد يلتزمه الصوفية عاد بشيء من النفع على قواعد الأخلاق؟
الشبه بينهم وبين شعراء البادية
لقد حرم الصوفية أنفسهم من الطعام، فكان ذلك الحرمان سببا لإكثارهم من التحدث عن الطعام، وأدب الطعام، ومثلهم في ذلك مثل شعراء البادية، فإن قصائد المديح في الجاهلية وصدر الإسلام يكثر فيها الكلام عن اللحوم والألبان، ويكثر فيها مدح الكرماء بكثرة الرماد وهزال الفصلان، ويرجع ذلك إلى أن الشعراء كان أكثرهم من أهل الفقر والجوع فكان نحر الجزور يتمثل لهم شيئا هائلا جدا، وكان الشعر ترقص عرائسه في أحلامهم كلما تصوروا المصعب وقد جدله السيف، وكان خير الرجال عندهم من صح فيه قول النابغة الذبياني:
له بفناء البيت سوداء فخمة
تلقم أوصال الجزور العراعر
14
وخير الناس من صح فيهم قول مسكين الدرامي:
كأن قدور قومي كل يوم
قباب الترك ملبسة الجلال
15
كأن الموقدين بها جمال
طلاها الزفت والقطران طالي
بأيديهم مغارف من حديد
أشبهها مقيرة الدوالي
16
فحرمان الصوفية من الطعام شغلهم به، وحملهم على وصف أصنافه، والتهيؤ للصبر عنه، وبسط القول فيما ينبغي له من آداب.
17
شغلهم بترتيب أوقات التبلغ
ومصداق ذلك أنا نراهم يتحدثون عن رياضة النفس على الجوع باهتمام شديد، هو آية الحرص على الطعام لو يعلمون، كأن يقول صاحب قوت القلوب:
ومن كان ذا معلوم فالمستحب له أن لا يزيد على رغيفين في يوم وليلة ، وليجعل بينهما وقتا طويلا مرة ، وقصيرا أخرى، على حسب الحاجة وتوقان النفس إلى الغداء، لا على طرد العادة والشهوة. والرغيف ستة وثلاثون لقمة، يكون قوام النفس في كل ساعة ثلاث لقمات، فإذا أراد أن يأكل الرغيف على هذا التقسيم فليجرع بعد كل ثلاث لقم جرعة ماء، فذلك اثنا عشر جرعة في تضاعيف ستة وثلاثين لقمة، ففي ذلك قوام الجسم وصلاحه في كل يوم وليلة على هذا الترتيب.
18
وهذه الرياضة اليومية، أو الساعية إن شئت، هي الشغل كل الشغل بالطعام!
رأيهم في دعوة الإخوان- أدب المائدة
وقد تحدثوا عن أدب المائدة، ودعوة الإخوان، وعن الإكثار والإقلال، فقالوا: مثلا، إن من إكرام الضيف تعجيل الطعام لهم، وأفضل ما قدم إليهم اللحم، وخير اللحم السمين النضيج، فإن كان بعد اللحم حلاوة فقد جمع لهم الطيبات.
18
وهذا التحديد له دلالة نفسية.
واستحبوا أن يأكل الرجل في منزل أخيه على نحو ما يأكل في منزله بغير تكلف ولا تزين؛ لأنه قد يدخل من الرياء والتزين في الطعام مثل ما يدخل في سائر الأعمال.
19
وتلك دقة في فهم أحوال النفس.
رأي ابن أدهم في الطعام والأثاث واللباس
وحدثوا أن سفيان الثوري دعا إبراهيم بن أدهم وأصحابه إلى طعام فقصروا في الأكل، فلما رفعوا الطعام قال له الثوري: إنك قصرت في الأكل، فقال إبراهيم: قصرت أحدهم في الطعام فقصرنا في الأكل.
19
ودعا إبراهيم الثوري أصحابه إلى طعام فأكثر منه فقال له: يا أبا إسحق، أما تخاف أن يكون هذا إسرافا؟ فقال إبراهيم: ليس في الطعام إسراف.
19
وهم يوصون بلعق الأصابع، وأكل ما سقط من فتات الطعامن لأنه فيما يقال من مهور الحور العين.
19
وقال أبو سليمان الداراني: أكل الطيبات يورث الرضا عن الله عز وجل.
وهذه الجملة كررها المكي فذكرها في فصلين متجاورين، ولهذا التكرار معنى.
ومن الأخبار التي اهتموا بروايتها أن المائدة التي أنزلت على بني إسرائيل من السماء كان فيها من كل البقول إلا الكراث، وكان فيها سمكة عند رأسها خل، وعند ذنبها ملح، وكان عليها سبعة أرغفة، على كل رغيف زيتونتان، وحب رمان، وهذا عندهم من أحسن الطعام إذا اتفق.
20
وحدثوا أن الحسن البصري قال: كل نفقة ينفقها الرجل على نفسه وأبويه فمن دونهم يحاسب عليها، إلا نفقة الرجل إذا دعا إخوانه إلى طعام، فإن الله سبحانه وتعالى يستحي أن يسأله عن ذلك.
21
وحضر الثوري - وكان صوفيا - على مائدة أحد أبناء الدنيا، وكان فيه بخل فقدم حملا
22
فجعلوا يأكلون، فلما رآهم يمزقون كل ممزق ضاق صدره فقال: يا غلام، ارفع إلى الصبيان. فرفع الحمل إلى داخل الدار، فقام الثوري يعدو خلف الحمل، فقال صاحب المنزل: إلى أين، يا أبا عبد الله؟ فقال: آكل مع الصبيان! فاستحيا الرجل وأمر برد الحمل حتى استوفوا منه.
23
وحدث أحدهم قال: كنا في جماعة عند رجل فجعل يقدم إلينا ألوان الرؤوس، منها طبيخا وقديدا، فجعلنا نقصر في الأكل نتوقع بعد الألوان حملا أو جديا. قال: فجاءنا بالطست ولم يقدم إلينا غيرها، فقال لي بعض الشيوخ من أهل التصوف وكان مزاحا: هو تعالى يقدر أن يخلق رؤوسا بلا أبدان! قال: فبتنا تلك الليلة جياعا، فطلب بعضنا في آخر الليل خبزا أو فتيتا لسحوره.
24
ودفع إبراهيم بن أدهم إلى بعض إخوانه دراهم فقال: خذ لنا بهذه زبدا وعسلا وخبزا حورانيا، فقال: يا أبا إسحق، بهذا كله؟! فقال ابن أدهم: ويحك! إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال، وإذا عدمنا صبرنا صبر الرجال. وأصلح ذات يوم طعاما فأكثر، ودعا نفرا يسيرا منهم الثوري والأوزاعي، فقيل له: أما تخاف أن يكون هذا إسرافا؟ فقال: ليس في الطعام إسراف، إنما الإسراف في الأثاث واللباس.
25
وحدثوا عن سهل أنه سئل كيف كان في بدايته فأخبر بضروب من الرياضات منها أنه كان يقتات ورق النبت مدة، ومنها أنه أكل دقاق التبن ثلاث سنين، ثم ذكر أنه اقتات ثلاثة دراهم ثلاث سنين، قيل: وما هو؟ قال: كنت أشتري في كل سنة بدانقين تمرا، وأربعة دوانق كسبا، ثم أعجنها عجنة، ثم أجزئها ثلث مئة وستين كبة أفطر في كل ليلة على كبة، فقيل له: فكيف أنت في وقتك هذا؟ قال: آكل بلا حد ولا توقيت.
25
وكان معروف الكرخي يهدي إليه طيبات الطعام فيأكل فيقال له: إن أخاك بشرا لا يأكل من هذا. فيقول: أخي بشر قبضه الورع، وأنا بسطتني المعرفة، ثم قال: إنما أنا ضيف في دار مولاي، إذا أطعمني أكلت، وإذا جوعني صبرت، مالي والاعتراض والتخير!
25
فهذا كله دليل على شغفهم بالطعام، ومع هذا كان فيهم متكبرون، وهم عند بعضهم من أنقة النفوس، قال قائلهم: أنا لا أجيب دعوة. قيل: ولم؟ قال: انتظار المرقة ذل. وقال آخر: إذا وضعت يدي في قصعة غيري ذلت له رقبتي. وكان بعضهم يقول: لا تجب دعوة إلا من يرى لك أنك أكلت رزقت. وأنه سلم إليك وديعة كانت لك عنده، ويرى لك الفضل في قبولها منه.
25
نفرة بعضهم من إجابة الدعوات
هذا، ولا مفر من الاعتراف بأن ما وضع الصوفية في كتبهم من أدب الطعام أكثره مقبول، يشهد بحسن الفهم وسلامة الذوق، ويدل على بصر بأوضاع الحياة الاجتماعية. ولايمنع من صحته ما نراه من تغير آداب الأطعمة والموائد، فإنا لا نحكم لهم أو عليهم إلا بعد أن نتمثل ما كانوا عليه من الحياة الفطرية، ولكل زمن آداب.
آداب الصيام
ينظر الصوفية إلى الصيام نظرة خلقية وروحية، وهم يقسمونه إلى ثلاث درجات:
صوم العموم.
وصوم الخصوص.
وصوم خصوص الخصوص.
أما صوم العموم فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة، وأما صوم الخصوص فهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام، وأما صوم خصوص الخصوص فصوم القلب عن الهمم الدنية، والأفكار الدنيوية، وكفه عما سوى الله عز وجل بالكلية، كما عبر الغزالي في الجزء الأول من الإحياء.
وليس الطعام وحده، ولا الشراب وحده، ولا اللمس وحده، مما يفطر به الصائم عند الصوفية. فهناك أشياء يفطر بها الصائمون ويفسد بها الصيام وليست مع ذلك من اللمس أو الطعام أو الشراب، فالصائم يبطل صومه في نظر الصوفية بالفكر فيما سوى الله عز شانه واليوم الآخر، وبالفكر في الدنيا إلا دنيا تراد للدين لعد ذلك من زاد الآخرة.
ويرى بعض الصوفية أن من تحركت همته بالتصرف في نهاره لتدبير ما يفطر عليه كتبت عليه خطيئة؛ لأن ذلك لا يقع إلا من قلة الوثوق بفضل الله وقلة اليقين بالرزق الموجود.
وصوم خصوص الخصوص لا يتم إلا بستة أمور:
الأول:
غض البصر وكفه عن النظر إلى كل ما يذم وكل ما يكره، وإلى ما يشغل القلب وينهى عن ذكر الله.
الثاني:
حفظ اللسان عن الفضول - وهم يعبرون عنه بالهذيان - وحفظه عن الكذب والغيبة والنميمة والفحش والجفاء والخصومة والمراء وإلزامه السكوت وشغله بذكر الله وتلاوة القرآن.
ومن الصوفية من يرى أن الغيبة تفسد الصوم، وهم يستندون إلى أحاديث مروية عن الرسول
صلى الله عليه وسلم .
الثالث:
كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه؛ لأن كل ما حرم قوله حرم الإصغاء إليه. ولذلك سوى الله سبحانه بين السمع وأكل السحت فقال:
سماعون للكذب أكالون للسحت
وقال:
لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت .
الرابع:
كف بقية الجوارح عن الآثام من اليد والرجل، وكفها عن المكاره، وكف البطن عن الشبهات وقت الإفطار؛ لأنه لا معنى للصوم عن الحلال ثم الإفطار على الحرام.
الخامس:
أن لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار بحيث يمتلئ فما من وعاء أبغض إلى الله من بطن مليء من حلال، فالصوم يراد به قهر أهواء النفس أو كما يقولون قهر عدو الله الشيطان، وقهر أهواء النفس أو كما يقولون كسر الشهوة لا يتم لمن يتدارك عند فطره ما فاته في نهاره من ألوان الطعام والشراب.
ولم يفت الصوفية أن ينصوا على الخطر الذي يهدد من يسرف في الأكل بعد أن تخوى معدته، وهم يرون ذلك يضاعف قوة النفس ويساعد على انبعاث الشهوات.
ومن رأى الصوفية أنه لا يليق بالصائم أن يأكل عند الإفطار أكثر مما كان يأكل لو لم يصم؛ لأن الغرض من الصيام هو حرمان النفس من مألوفها قبل الصيام، والذي يملأ معدته عند الإفطار على نية التعويض تعويض المعدة ما فاتها بالصيام لم يرد لنفسه من الخير إلا قليلا.
السادس:
أن يكون قلبه بعد الإفطار مضطربا بين الخوف والرجاء؛ إذ ليس يدري أيقبل صومه فهو من المقربين؟ أم يرد عليه فهو من الممقوتين؟
ومفسدات الصوم عند الصوفية هي اقتراف المكاره، أما المفطر بالطعام والشراب فهو أخف من ذلك. وعندهم أن من كف عن الأكل والجماع وأفطر بالآثام مثله مثل من مسح على أعضائه في الوضوء ثلاث مرات، ومن فعل ذلك فصلاته مردودة عليه؛ لأنه ترك المهم وهو الغسل. أما الذي يصوم بجوارحه عن المكاره ويفطر بالأكل فمثله مثل من غسل أعضاءه مرة مرة فصلاته متقبلة لإحكامه الأصل وإن ترك الفضل.
ومعنى ذلك بصريح العبارة أن المهم في الصوم هو كف الجوارح عن الآثام، والإفطار بالطعام ليس بشيء عند الصوفية، وإنما هو شبيه بمن تفوته السنة في آداب الوضوء، أما الإفطار بالمآثم فهو أخطر ما يعرض له الصائمون وليس لآثم عندهم صيام وإن قتله الظمأ والجوع.
وعند تأمل هذه الأحكام نرى الصوفية يقفون عند المعاني وهم بذلك يخالفون رجال الشرع الذين يجعلون غاية الصوم أو شرائط الصوم موقوفة على الكف عن شهوات الحواس.
وليس معنى هذا أن الصوفية لا تهمهم ظواهر الصيام، لا، وإنما يرون وقوف الصيام عند الجوع والعطش غاية سوقية لا يتسامى إليها أرباب القلوب.
هم لا ينكرون أثر الظمأ والجوع في كسر الشهوات، ولكنهم يرون كف النفس عن الآثام غاية الغايات، وكل طاعة هي عندهم باب لإصلاح النفوس.
والصوفية هم الذين عطروا أيام الصوم بالأنفاس الروحية، وإليهم يرجع الفضل في نظم ما ساد على ألسنة الناس من الأناشيد، وقد سلكوا مسالك مختلفة من التنغيم والتطريب، وكثرت منظوماتهم في الفن الغنائي الذي يعرف باسم «كان وكان» وإليكم هذا الشاهد الطريف:
أيا من عمره طال
إلى كم أنت بطال
جميع الدهر نقال
على دهرك أثقال
تبارز بالمعاصي
وعنا أنت قاصي
وتدعو بالخلاص
وما عندك إقبال
إلى الغيبة ترتاح
وما عندك إصلاح
وما يرضيك يا صاح
سوى قد قيل أو قال
تمد الطرف في الصوم
ولا تخشى من اللوم
ليكتب منك في اليوم
وفي الليلة أفعال
فتب ذا الشهر كي يمضي
وكمل صومه فرضا
لعل الله أن يرضى
ويصلح منك أحوال
وإليكم هذا الشاهد:
إن كنت تطلب توبه
انهض فهذا وقتها
فبعد خمس ليال
يقال فرغ رمضان
يرحل وما أودعته
إلا زخاريف العمل
وا حسرتك حين يشهد
عليك بالخسران
تصوم نهارك ولما
تفطر تحصل فايتك
تشبع وتنسى الجائع
هذا هو الخذلان
تقطع صيامك غيبه
والصوم قبوله من عجب
تأكل لحوم العالم
وترتجي الإحسان
من ليس يحفظ لسانه
ولا الجوارح من زلل
ما له من الصوم إلا
يقضي النهار جوعان
بالله عليك قم ودع
شهر الصيام قبل السفر
ولا تخليه يرحل
وهو عليك غضبان
بيض سواد الصحيفة
فالموت أدنى من نفس
وخف إلهك تحظى
منه غدا بأمان
وفي رحاب الصوفية ظهرت القصيدة المشهورة التي يتغنى المنشدون في توديع رمضان:
شهر الصيام لقد كرمت نزيلا
ونويت من بعد المقام رحيلا
وأقمت فينا ناصحا ومؤدبا
وشفيت منا بالفؤاد غليلا
نبكيك يا شهر الصيام بأدمع
تجري فتحكي في الخدود سيولا
أسفأ على الأنس الذي عودتنا
وصنيع فعل لا يزال جميلا
شهر الأمانة والصيانة والتقى
والفوز فيه لمن أراد قبولا
تبكي المساجد حسرة وتأسفا
إذ عطلت من أنسه تعطيلا
فيه الجنان تفتحت لقدومه
وتزينت ولدانها تجميلا
وتفيأت أشجارها بظلالها
وقطوفها قد ذللت تذليلا
وهي قصيدة طويلة يجدها القارئ في كتاب الروض الفائق.
وللصوفية توسلات خاصة بشهر رمضان:
إلهي، وقف السائلون ببابك، ولاذ الفقراء بجنابك، ووقفت سفينة المساكين على ساحل كرمك، يرجون الجواز إلى ساحة رحمتك ونعمتك.
إلهي، إن كنت لا تكرم في هذا الشهر الشريف إلا من أخلص لك في صيامه، فمن للمذنب المقر إذا غرق في بحر ذنوبه وآثامه.
إلهي، إن كنت لا ترحم إلا الطائعين، فمن للعاصين؟ وإن كنت لا تقبل إلا العاملين، فمن للمقصرين؟
إلهي، ربح الصائمون، ونحن عبيدك المذنبون، فارحمنا برحمتك، وجد علينا بفضلك ومنتك، واغفر لنا أجمعين برحمتك ، يا أرحم الراحمين.
ولهم فيه تأوهات وحسرات كلوعة الذي يقول:
إخواني، ما أحسن من خلع عليه مولاه خلع القبول! وما أنعم بال من بلغه غاية المقصود والسول! وما أشقى من رد عليه صيامه، وأحصي عليه قبحه وآثامه، ومضت في البطالة شهوره وأعوامه، وآثر شهوة نفسه على خدمة ربه إلى أن ذهبت ساعاته وأيامه!!
وجملة القول أن الصوفية يرون الصيام فرصة من فرص القلب والروح، وترك الطعام والشراب هو أهون ما يفكر فيه الصائمون، والأصل عندهم أن يسلم القلب من الزيغ وأن تسلم الجوارح من آفات البغي والعدوان. وكذلك كانت أقوالهم في الصوم وآدابه مغمورة بمعاني الرفق والصفاء.
ولا يمكن القارئ أن يتصور مبلغ ما صنع الصوفية في تحبيب الصوم إلا إن زار المساجد في رمضان؛ فهناك يجد الترتيل والتسبيح والتهليل، وهي تقاليد طريفة يرجع الفضل في إقامتها وتثبيتها إلى الصوفية، وهم قوم لم يشغلهم الحرام والحلال وإنما انغمست أرواحهم في لطف الغناء فكانت أحاديثهم وأناشيدهم ترتيلات قدسية لا يدرك أسرارها غير أرباب القلوب.
إن رجال الشريعة يختلفون فيما ينعقد به الصوم من النية، أما الصوفية فيوجبون النية في كل لحظة، ويرون رمضان كله موسما سنويا تطهر فيه السرائر والنفوس.
ورجال الشريعة يختلفون فيما يفسد الصوم، ولهم في ذلك مزالق؛ لأنهم يقفون عند المحسوس من الطعام والشراب. أما الصوفية فيشغلون بحساب النفس، ويرون الصوم أصلا من الأصول في تطهير النفوس والقلوب، والصائم عندهم لا يشغل نفسه بحديث الظمأ والجوع، كما يفعل العوام من أشباه الصالحين، وإنما يشغل نفسه بالحقائق الجدية، ويتسامى إلى الاتصال برب العزة والجبروت.
ينظر العامي إلى الهلال فيراه فاتحة للمعجزات الحسية، وينظر الصوفي إلى الهلال فيراه فاتحة لطوائف من المعاني الروحية، وإذا كان الصائم من العامة يفرح عند الغروب؛ لأنه سيرجع إلى الحرية الطبيعية فإن الصوفي لا يفرح عند الغروب إلا حين يوقن أنه قضى يوما سعيدا لم يدنس فيه لسانه بغيبة أو نميمة، ولم يأثم قلبه بالتفكير فيما سوى الحضرة الربانية.
الصوم هو صوم الصوفية، والصوفية هم الناس، ومن عداهم أشباح بلا أرواح.
وما فضل الجوع في تهذيب النفوس؟ إن لحظة واحدة من كبح جماح النفس وصدها عن شهوات البغي والعقوق أفضل وأشرف من ألف يوم يقضيها العامي في الظمأ والجوع.
إن الصوم عن الطعام ليس بشيء في جانب الصوم عن الآثام. وهل يتشهى الناس الطعام بقدر ما يتشهون الوقوع في الأعراض!!
ما هو الكف عن أكلة يتشهاها البطن؟ إن العزيمة الصادقة لا تعرف إلا في إقامة العدل؛ لأن ابن آدم يتشهى الظلم أكثر مما يتشهى أطايب الطعام والشراب.
الصوم صوم النفوس لا صوم البطون، الصوم الأعظم هو الكف عن إيذاء الناس، ومن هنا صح لبعض الصوفية أن يقول:
إذا ما المرء صام عن الدنايا
فكل شهوره شهر الصيام
آداب الزواج
الأغلب على الصوفية أن ينفروا من الزواج، وقد استشار رجل الشعبي في التزوج فقال: «إن صبرت عن الباه فاتق الله ولا تتزوج، فإن لم تصبر فاتق الله وتزوج».
1
وقيل لمالك بن دينار: لو تزوجت! فقال: إني طلقت الدنيا ثلاثا فلا رجعة لي فيها.
1
وقيل لبعض الصالحين: إلام تبقى عزبا ولا تتزوج؟ فقال: مشقة العزوبة أسهل من مشقة الكد في مصالح العيال.
2
وهذا الجواب الأخير فيه سياسة الصوفية، فهم ينفرون من الزواج هربا من تكاليف العيش، وقد حمل ذلك بعضهم على ابتكار المعاذير، ولكن السبب الأصيل هو الرغبة في راحة البال.
والظاهر أن الصوفية قبل الإسلام كانوا يميلون إلى العزوبة تأسيا بالنصرانية، ولهذا رأينا الرسول يحاربهم أشد الحرب، فقد قال لعكاف بن وداعة: يا عكاف، ألك امرأة؟ قال: لا. قال النبي: فأنت إذن من إخوان الشياطين، إن كنت من رهبان النصارى فالحق بهم، وإن كنت منا فمن سنتنا النكاح».
3
وهذا السؤال من جانب الرسول لا يمكن أن يقع بمثل هذه الحدة إلا إن سبق بشواهد من حياة عكاف، ونرجح أنه كان لعكاف هذا آراء تشبه الدعوة إلى التبتل والرهبانية.
وقد بقي شيء من هذا المعنى في أنفس الصوفية، فإنهم حدثوا أن سبب تزويج أبي أحمد القلانسي أن شابا من أصحابه خطب ابنة لصديق لأبي أحمد فلما حضر وقت عقد النكاح امتنع الشاب، واستحيا من ذلك الرجل الذي كان يزوجه بابنته، فلما رأى ذلك أبو أحمد قال: يا سبحان الله! يزوج رجل بكريمته فتمتنع عليه! وعقد النكاح على أبي أحمد، فقبل أبو البنت رأسه وقال: ما علمت أن لي عند الله تعالى من المقدار أن يكون لها مثلك زوج.
4
وهذه الحكاية فيها معنى لطيف هو أدب القلانسي في إنقاذ الموقف - كما نعبر في هذه الأيام - ولكن النتيجة كانت غريبة فقد بقيت تلك الفتاة ثلاثين سنة عند أبي أحمد وهي بكر.
4
فمن أين جاء هذا التبتل؟ جاء من النصرانية أولا، ومن الصابئية ثانيا.
أما التبتل في النصرانية فمعروف، وأما الصابئون فإن العابد منهم ربما خصى نفسه
5
وفي الجزء الرابع من عيون الأخبار
6
أن ابن المبارك خصى نفسه وعاش مجبوبا، وتلك نزعة صابئية، ولكنا رأينا بعد البحث أن ما في عيون الأخبار خطأ، وأن الذي خصى نفسه هو أبو المبارك الصابي، وليس ابن المبارك الصوفي، وقد هدانا إلى تصحيح هذا الخطأ ما كتبه الجاحظ عن الصابئين في الجزء الأول من الحيوان.
7
وكلام الصوفية عن الزواج يشعر بأنه كان في أنفسهم من التكاليف الثقال، وعندهم أن الفقير إذا تزوج فمثله مثل رجل قد ركب السفينة فإذا ولد له فقد غرق،
8
ويؤيد هذا المعنى أنهم نصوا على آداب الزواج: «وليس من آدابهم أن يتزوجوا ذوات اليسار ويدخلوا في رفق نسائهم، ومن أدب الفقير أن يتزوج بفقيرة مقلة وأن ينصفها، وإن رغبت فيه امرأة غنية أن لا يرتفق منها».
9
وهذه آداب ترتكز على حفظ الكرامة، واستقلال النفس، والبعد من المغانم الدنيوية، وهم يتمثلون أنفسهم فقراء، ولا يتسامون إلى المرأة الغنية، وإنما يقبلونها إن رغبت فيهم، وكانت الفتيات تميل إليهم في بعض الأحيان.
ويظهر أنه كان معروفا عنهم التقصير في رعاية الأطفال، فإن السراج الطوسي يقول: «وليس من آداب من تزوج أو كان له ولد أن يكل أمر عياله إلى الله تعالى، ويجب عليه أن يقوم بفرضهم إلا أن يكونوا مثله في الحال».
10
والنص على هذا الأدب لا يقع بغير سبب، وإنما هو موجه إلى ناس كانوا يرون من التوكل أن يكلوا أمر عيالهم إلى الله.
وهذا من الصوفية ضعف رأى، إن وقع منهم، وهم صالحون لقبول مثل هذا الرأي الضعيف.
11
وجملة القول أن الصوفية ينظرون إلى الزواج كأنه غل من الأغلال التي تشل حركة الروح، وقليل منهم من يفطن إلى ما في الزواج والذرية من المعاني الروحية، فالرجل المتأهل الذي يعاني مشاق العيش تتفتح أمامه أبواب من الجهاد لا تخلو من شرف ونبل، وفي رعاية الأهل ميدان لخبرة الخلق والروح، وأخشى أن يكون الميل إلى العزوبة جبنا وهلعا من تكاليف الحياة، ولعله لا يكون إلا كذلك، ولا عبرة بدعوى الانقطاع إلى الله، فالسعي في بر الأهل والذرية هو أيضا انقطاع إلى الله.
وفي أعمال المرء كثير من الوجوه المادية، ولكنها عند النية تصبح وجوها روحية. وقصير النظر هو الذي يتوهم أن العبادة لا تكون إلا في العزلة والتسبيح.
على أن في السعي للأهل تعرضا لضروب من المعاملات تتبين فيها جواهر الأخلاق، وفي الاتصال بالنسا عن طريق المعاش أبواب من المحن الخلقية يعرف عندها فضل الرجل الكريم الخلال.
للصوفية أن يفروا من الزواج، ولكن عليهم أن يتذكروا أنهم يفرون من الجهاد، وأي جهاد أقسى من السعي للأهل والأطفال؟ إن التصوف كل التصوف أن تواجه مكاره العيش اعتمادا على رعاية الله، أما إيثار العزوبة حبا في السلامة، أو رغبة في الانقطاع إلى الله، فهو من أعمال الجبناء والغافلين.
ومن الخير أن نشير إلى أن من الصوفية من لم يفته الترغيب في الزواج، وإن كان نفر منه المريدين، فقد حدث المكي أن بشر بن الحارث كان يقول في أحمد بن حنبل: فضل علي بثلاث: بطلب الحلال لنفسه ولغيره وأنا أطلب الحلال لنفسي، واتساعه للنكاح وضيقي عنه، وقد جعل إماما للعامة وأنا أطلب الوحدة لنفسي. ونقل أن بشر بن الحارث رؤى في المنام بعد وفاته فسئل عن حاله فقال: رفعت سبعين درجة في عليين، وأشرف بي على مقامات الأنبياء، ولم أبلغ منازل المتأهلين،
12
وأنه قال: وعاتبني ربي عز وجل فقال: يا بشر، ما كنت أحب أن تلقاني عزبا، وأن صاحب الرؤيا قال له: ما فعل أبو نصر التمار؟ فقال: رفع فوقي سبعين درجة، فقال الحالم: بماذا؟ فقال: بصبره على بناته والعيال.
13
ومضى فحدث أن ابن مسعود كان يقول: لو لم يبق من عمري إلا عشرة أيام أموت في آخرها لأحببت أن أتزوج ولا ألقى الله عز وجل وأنا عزب، وأن رسول الله قال: تناكحوا تناسلوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة، حتى بالسقط والرضيع.
13
وحدث أيضا أن بعض الصالحين كان يعرض عليه التزوج فيأباه برهة من دهره، فانتبه من نومه ذات يوم فقال: زوجوني! فسئل عن سبب ذلك فقال: رأيت في نومي كأن القيامة قد قامت وكنت في جملة الخلائق في الموقف وبي من العطش ما يكاد يقطع عنقي، وكذلك الخلائق في شدة العطش من الحر والشمس والكرب. قال: فبينا نحن كذلك إذ الولدان يتخللون الجمع عليهم مناديل من نور، وبأيديهم أباريق من فضة وأكواب من ذهب، وهم يسقون الواحد بعد الواحد، ويتخللون الجمع ويجاوزون أكثر الناس. قال: فمددت يدي إلى أحدهم فقلت: اسقني شربة فقد أجهدني العطش. فقال: ليس لك فينا ولد، إنما نسقي آباءنا. فقالت: ومن أنتم؟ فقالوا: نحن من مات من أطفال المسلمين.
14
ورواية أمثال هذه الأخبار هي دعوة إلى الزواج، وهذه الأحلام نفسها تدل على أن من الصوفية من كان يشعر بأهمية الزواج من الوجهة الدينية.
ولنقيد ما تنبه إليه أحدهم من فضيلة الصبر على البنات والعيال، فهي لمحة تدل على بصر بعزائم الأمور في عالم الأخلاق.
على أن الصوفية في زواجهم وعزوبتهم ينتهون إلى غاية واحدة هي الفناء، والرجل الجائع الخامد يعسر عليه أن يأتي بنسل متين، وما نظن الرسول يكاثر بالأنباء الضعفاء، إنما يكاثر بالذرية القوية التي تحفظ الثغور وتقيم الحصون، وهؤلاء لا ينجبهم إلا من يعرفون قوة الجسم قبل أن يعرفوا صفاء الروح، وذخيرة الأمم في العوام لا في الخواص.
أدب الأخوة
اهتمام الصوفية بالأخوة
اهتم الصوفية بالأخوة أبلغ اهتمام، ولم يفرط منهم في بيان آدابها إلا القليل، وهم يرون أنفسهم مسئولين عن رعاية ما سنه الحكماء في مختلف الملل من أدب الصداقة والوداد، فيروون ما أثر عن النصارى واليهود، والفرس والروم، ويتمثلون بكلام الشعراء، وإن لم يكن أولئك الشعراء من المعروفين بالزهد والصلاح.
وقد يستطيع الناقد أن يجد مغمزا في أكثر ما سن الصوفية من شرائع الأخلاق، ولكن ما كتبوه عن أدب الأخوة أمنع من أن يمتد إليه فكر بغمز أو تجريح، فهؤلاء الناس فهموا الصداقة كما ينبغي أن تفهم، وكلامهم فيها كلام من يعرف قيمة الصديق، ولا نبالغ إذا قلنا إن أكثر من كتبوا في آداب المودة عيال عليهم؛ لأن الصوفية يتكلمون عن الألفة كلام من يعتقد أنه سيحاسب يوم القيامة عما قدم في عالم الأخوة والوداد. فلا تسأل أين الجديد في كلامهم عن الصداقة، ولكن انظر إلى الحماسة التي صوروا بها أواصر المودة لترى فضلهم في تعريف الناس بحقائق الإخاء، وليس المهم أن تدعو إلى فكرة، ولكن المهم أن تصل بالفكرة إلى أعماق القلوب.
ولسنا في حاجة إلى تأكيد أهمية الصداقة في الحياة الروحية والاجتماعية، فمشاكل الأفراد والجماعات يرجع أكثرها إلى انفصام عرى المودة بين الناس، ولو عرفت الجماهير كيف تتعامل وكيف تتواد لانعدمت أصول كثيرة من جراثيم الشقاق.
وباب الأخوة والصحبة في مؤلفات الصوفية باب نفيس نود لو أخذت منه صورة للمطالعة في المدارس الثانوية، ففيه من الحكم والأمثال والأقاصيص نكت بديعة تمتع العقل والروح. وفيما كتب الصوفية عن أدب الأخوة ما يكفي لتوجيه النفوس إلى الاقتناع بأن الأخوة مشكلة أخلاقية، وأنها جديرة بأن تكون مما يضوع في الموازين عند تقويم ملكات الرجال.
الأخوة عمل ينفع
وأعجب ما تنبهت له من كلام الصوفية ما قيل: إن الأخوين في الله عز وجل إذا كان أحدهما أعلا مقاما من الآخر رفع الآخر معه إلى مقامه، وأنه يلحق به كما تلحق الذرية بالأبوين والأهل بعضهم ببعض؛ لأن الأخوة عمل كالولادة.
1
الأخوة عمل كالولادة؟ هذا والله عجيب، وهو يدلنا على فهمهم للمشقات التي يعانيها من ينشئون الأخوات، فالمودة في تصورهم تحتاج إلى ضروب من السياسة العملية لا يصبر عليها إلا الراشدون، والذي يرعى صديقه لا يقل جهدا عن الذي يرعى ولده، وله من رعاية الصداقة أجر في الآخرة يساوي أجره في رعاية الأهل والأطفال.
من هو الصديق في عرف الصوفية؟
ولكن من هو الصديق في عرف الصوفية؟
هو الأمين، ولا أمين إلا من خشي الله عز وجل، فلا تصحب الفاجر فتعلم فجوره، ولا تطلعه على سرك. وليكن صاحبك من إذا خدمته صانك، وإن قعدت بك مؤونة مانك، وإن مددت يدك بخير مدها، وإن رأى منك حسنة عدها، وإن رأى منك سيئة سدها، وإن سألته أعطاك، وإن سكت ابتداك، وإن نزلت بك نازلة واساك، وإن قلت صدق قولك، وإن تنازعتما آثرك، إن صديقك هو من يسد خللك، ويستر زللك، ويقبل عللك. ومن حق الصديق عليك أن تتجاوز له عن ثلاث: عن ظلم الغضب، وظلم الهفوة، وظلم الدالة.
2
ذلك هو الصديق في عرف الصوفية، فهو أولا رجل يخاف الله، وهو ثانيا رجل مواس ألوف، كثير الصفح، وافر الحياء.
الأخ والصديق
وهذا الصديق أخ لك لم تلده أمك، والقرابة تحتاج إلى مودة، أما المودة فلا تحتاج إلى قرابة، وقد قيل لحكيم بن مرة: أيما أحب إليك، أخوك أم صديقك؟ فقال: إنما أحب أخي إذا كان صديقا،
3
وقال أكثم ابن صيفي: يا بني، تقاربوا في المودة، ولا تتكلوا على القرابة،
4
وكان عبد الله بن الحسن البصري يعرف إخوان الحسن إذا جاءوه لطول لبثهم عنده، ولشدة شغله بهم، فيقول لهم: لا تملوا الشيخ! فكان الحسن إذا علم ذلك يقول: دعهم يا لكع، فإنهم أحب إلي منكم، هؤلاء يحبوني لله عز وجل، وأنتم تريدوني للدنيا
5
وكان الحسن وأبو قلابة يقولان: إخواننا أحب إلينا من أهلينا وأولادنا؛ لأن أهلينا يذكرونا الدنيا وإخواننا يذكرونا الآخرة.
6
فأساس العلاقة هو العمل الصالح لا المنافع الدنيوية، وأخوة القرابة عديمة القيمة إذا عريت من أخوة المودة، وهذه نظرة سليمة تصلح لجميع الناس في كل زمان ومكان.
الحب في الله
وأصل الحب أن يكون في الله، وقد روي عن النبي أنه قال: ينصب لطائفه من الناس كراسي حول العرش يوم القيامة، ووجوهم كالقمر ليلة البدر، يفزع الناس وهم لا يفزعون، ويخاف الناس ولا يخافون، وهم أولياء الله عز وجل الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فقيل: من هؤلاء يا رسول الله؟ فقال: هم المتحابون في الله عز وجل. ورواه أبو هريرة فقال فيه: إن حول العرش منابر من نور، عليها قوم لباسهم نور، ووجوههم نور، ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء، فقالوا: يا رسول الله، صفهم لنا، فقال: هم المتحابون في الله عز وجل، والمتجالسون في الله تعالى، والمتزاورون في الله تعالى
7
وهؤلاء المتحابون في الله إذا التقوا فهش بعضهم إلى بعض تتحات عنهم الخطايا كما يتحات ورق الشجر في الشتاء إذا يبس
8
والمتآخيان في الله يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
8
ومن شرط المحبة في الله: «أن لا تكون لرحم يصلها، أو لنعمة يربها
9 » فقد جاء في الأثر أن رجلا زار أخا في الله في قرية أخرى، فأرصد الله تعالى على مدرجته ملكا فقال: أين نريد؟ قال: أردت أخا لي في هذه القرية. قال: هل بينك وبينه رحم تصلها، أو له عليك نعمة تربها؟ قال: لا، إلا أني أحببته في الله تعالى، قال الملك: فإني رسول الله إليك، إن الله تبارك وتعالى قد أحبك كما أحببته فيه.
9
والحب في الله يوجب التزاور والتباذل والتصافي. ولقاء الإخوان له لذة تعدل الصلاة في جماعة والتهجد من الليل.
10
وهذا النوع من المودة هو أفضل وأشرف ما يقع بين الناس من العلاقات الوجدانية.
كيف نعامل الصديق المذن
ومن واجب المؤمن أن يرعى حرمة الصداقة، وأن يتأسى بالدعاء المأثور «يا من أظهر الجميل، وستر القبيح، ولم يؤاخذ بالجريرة، ولم يهتك الستر »،
10
فيظهر حسنات إخوانه، ويستر مساويهم، ويتجاوز عن سيئاتهم ويسدل الستر على ما يقعون فيه من خطايا وهفوات.
وقد اختلف مذهب الصحابة في الأخ يحب أخاه في الله، ثم ينقلب الآخر عما كان عليه، هل يبغضه بعد ذلك؟ فكان أبو ذر يقول: إذا انقلب عما كان عليه وتغير فأبغضه من حيث أحببته، وكان أبو الدرداء يقول بخلاف ذلك، وقد حدثوا أن شابا غلب على مجلسه حتى أحبه أبو الدرداء، فكان يقدمه على الأشياخ ويقربه فحسدوه، وأن الشاب وقع في كبيرة من الكبائر فجاءوا إلى أبي الدرداء وحدثوه وقالوا: لو أبعدته! فقال: سبحان الله ! لا نترك صاحبنا لشيء. وقال بعض التابعين في مثله: إنما أبغض عمله وإلا فهو أخي. وكذلك قال الله عز وجل لنبيه في عشيرته:
فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون
ولم يقل: قل إني بريء منكم للحمة النسب، وقد قيل للصداقة لحمة كلحمة النسب. وكان أبو الدرداء يقول: إذا تغير أخوك وحال عما كان عليه فلا تدعه لأجل ذلك، فإن أخاك يعوج مرة ويستقيم أخرى، وكان يقول: داو أخاك، ولا تطع فيه حاسدا فتكون مثله. وقال إبراهيم النخعي: لا تقطع أخاك، ولا تهجره عند الذنب فإنه يركبه اليوم ويتركه غدا. وقال أيضا: لا تحدثوا الناس بزلة العالم، فإن العالم يزل الزلة ثم يتركها، وروى عن الرسول أنه قال: شرار عباد الله المشاءون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبرآء العيب.
11
فالرأي الأول يقول بقطيعة المذنب، وله وجه، أما الرأي الثاني فهو غاية في التسامح، وهو رأي حكيم؛ لأن مقاطعة المذنبين تغريهم بالإثم، وتزين لهم الفسوق، وتملأ صدورهم بالحقد على الصالحين، وتلك جراثيم لفساد الأخلاق.
والرجل الصالح حقا هو الذي يعرف ضعف النفس الإنسانية، ويعرف كيف يسوس المذنبين فينقلهم من الغي إلى الرشد، ويغنمهم لحزب الهدى بعد أن غنمهم الشيطان مرة لحزب الضلال.
ولكن هذه النظرة الحكيمة ليست من حظ جميع الصوفية، وإنما هي من حظ أشرافهم الذين أغنتهم نفوسهم عن كسب الشرف المزيف الذي يجتلب باسم الغيرة على الخلق والدين.
والرجل النافع هو الذي يفكر عند أول وهلة في إنقاذ من زلت قدمه، ولا يشغل نفسه عن الواجب بترديد الصياح والصراخ.
وعند هذه النقطة الدقيقة تزل أقدام كثير ممن يتحدثون عن الأخلاق فأكثر أهل الغيرة لا يغارون إلا على منافعهم الذاتية، ومن منافعهم أن تسمع أصواتهم باستنكار الإثم والفسوق!
وللشيطان في هذه المزالق حيل شيطانية! فهو يخيل للناس أن من واجبهم أن يصيحوا ويصرخوا، وأن من التهاون أن يسكتوا عن منكر رأوه بأعينهم، أو ترامت أخباره إليهم، وكذلك ينطلقون فيضيفون إثما إلى إثم، وعدوانا إلى عدوان.
ولا سبيل إلى قهر الشيطان إلا بالموازنة بين الحالين: حال الغضب، وحال الستر. فالذي يعلن غضبه حين يذنب أخوه يستطيع أن يضمن رضا العامة، ولكنه قد يبعد من رضا الله؛ لأن إعلان الغضب قد يجر على أخيه المذنب مصائب أدبية واجتماعية، ويعرض رزقه ورزق أهله للضياع، إذا كان ممن يعيشون بمعاملة الناس، وإعلان الغضب قد ينتهي إلى التشهير، ولذلك عواقب وخيمة لا يستهين بها إلا الغافلون. وحين ينتهي الغضب المطبوع أو المصنوع إلى مثل هذه الحال فهو بلا ريب من الكبائر عند من يفهمون دقائق الأخلاق.
أما الستر فهو من أخلاق الكرام بين الرجال، وهو عنوان النبل والدين وله مزايا كثيرة:
فهو أولا دليل على الرفق، ومن واجب المؤمن أن يستر عورة أخيه، وأن ينصحه في السر لا في العلانية، وهو ثانيا شاهد على نزاهة النفس؛ لأن إظهار السخط على المذنبين يرجع في أكثر الأحوال إلى شهوة خفية هي حب التسلط والاستعلاء.
فإن لم يكن بد من الغضب على المذنبين فليكن ذلك في حدود العقل، فإن كانت الذنوب متصلة بالمصالح الاجتماعية والمعاشية بذل الناصح جهده ليجمع بين الفضيلتين: إنقاذ المذنب بالنصح، والسعي الرزين لسلامة ما يتصل بأعماله من شؤون المعاش، وإن كانت الذنوب واقعة في حدود التكاليف الذاتية التي يوجبها الشرع فمن الأدب أن نترك حساب ذلك لعلام الغيوب.
وليس معنى هذا أنا نقول بترك الناس يذنبون كيف يشاءون، لا، ولكنا نقول بكف عادية الناصحين، فأكثر النصح ظلم وعدوان، ومن أدعياء الأخلاق من يختلق لخصومه طوائف من المساوئ والعيوب، ثم يمضي فيلبس ثياب الأتقياء، وينقلب إلى واعظ يبكي على الفضيلة بدموع التماسيح. وأمثال هؤلاء تروج دعواتهم، ويمسون ولهم سوق في عالم الأراجيف، وقد يفسد الزمن فيكون لمفترياتهم صوت مسموع، وفي الدنيا شهداء راحوا ضحية هذه الدعاوى الباطلة، دعاوى الحرص على الفضيلة والأخلاق، وبدعوى الفضيلة والخلق تنتهب حقوق، وتضيع على أهلها حقوق.
وهذا الذي نقول به تنبه له كبار الصوفية، فقد كان الرجل إذا كره من أخيه خلقا عاتبه فيما بينه وبينه، أو كاتبه في صحيفة. قال المكي: وهذا لعمري فرق بين النصيحة والفضيحة، فما كان في السر فهو نصيحة، وما كان في العلانية فهو فضيحة، وقلما تصح فيه النية لله تعالى؛ لأن فيه شناعة.
12
وقد أفصح الغزالي عن ذلك حين قال:
وروى في الإسرائيليات أن أخوين عابدين كانا في جبل، ونزل أحدهما ليشتري من المصر لحما بدرهم، فرأى بغية عند اللحام فرمقها وعشقها واجتذبها إلى خلوة فواقعها، ثم أقام عندها ثلاثا، واستحيا أن يرجع إلى أخيه حياء من جنايته، فافتقده أخوه واهتم بشأنه، فنزل إلى المدينة فلم يزل يسأل عنه حتى دل عليه، فدخل إليه وهو جالس معها فاعتنقه وجعل يقبله ويلتزمه، وأنكر الآخر أنه يعرفه لفرط استحيائه منه، فقال: قم يا أخي؛ فقد علمت شأنك وقصتك، وما كنت قط أحب إلي ولا أعز من ساعتك هذه. فلما رأى أن ذلك لم يسقطه من عينه قام فانصرف معه.
قال الغزالي: فهذه طريقة قوم، وهي ألطف وأفقه من طريقة أبي ذر رضي الله عنه، وطريقته أحسن وأسلم. فإن قلت: ولم قلت هذا ألطف وأفقه ومقارف هذه المعصية لا تجوز مؤاخاته ابتداء، فتجب مقاطعته انتهاء؛ لأن الحكم إذا ثبت بعلة فالقياس أن يزول بزوالها، وعلة عقد الأخوة التعاون في الدين، ولا يستمر ذلك مع مقارفة المعصية؟ فأقول: أما كونه ألطف فلما فيه من الرفق والاستماله والتعطف المفضي إلى الرجوع والتوبة لاستمرار الحياء عند دوام الصحبة ، ومهما قوطع وانقطع طمعه في الصحبة أصر واستمر، وأما كونه أفقه فمن حيث أن الأخوة عقد ينزل منزلة القرابة، فإذا انعقدت تأكد الحق، ووجب الوفاء بموجب العقد، ومن الوفاء به أن لا يهمل أيام حاجته وفقره، وفقر الدين أشد من فقر المال، وقد أصابته جائحة، وألمت به آفة افتقر بسببها في دينه، فينبغي أن يراقب ويراعى ولا يهمل، بل لا يزال يتلطلف به ليعان على الخلاص من تلك الواقعة التي ألمت به، فالأخوة عدة للنائبات وحوادث الزمان، وهذا من أشد النوائب، والفاجر إذا صحب تقيا وهو ينظر إلى خوفه ومداومته فسيرجع على قرب، ويستحيي من الإصرار، بل الكسلان يصحب الحريص في العمل فيحرص حياء منه.
13
فضل الصفح والإغضاء
وعلى الصديق أن يعاتب صديقه إذا جد ما يوجب ذلك، فمعاتبة الصديق خير من فقده
14
ومن واجب الرجل أن يصبر لأخيه، ويشكر له، ويحلم عنه
15
وليتذكر أن من اقتضى إخوانه ما لا يقتضون منه فقد ظلمهم، ومن اقتضى منهم ما يقتضون منه فقد أتعبهم؛ ومن لم يقتضهم فقد تفضل عليهم.
16
وعليه أن يزور صديقه، وأن يشيعه حين يتفضل بزيارته، وأن يسأل عنه حين يغيب، فقد كان عطاء يقول: تفقدوا إخوانكم بعد ثلاث، فإن كانوا مرضى فعودوهم، وإن كانوا مشاغيل فأعينوهم، وإن نسوا فذكروهم.
17
أدب الصديق
ومن الأدب أن يسكت الرجل عن ذكر عيوب الصديق في غيبته وحضرته، وأن يسكت عن التجسس والسؤال عن أحواله، وإذا رآه في طريق أو حاجة لم يفاتحه بذكر غرضه من مصدره ومورده، ولا يسأله عن وجهته، فقد يثقل عليه ذلك أو يحتاج إلى أن يكذب فيه، ومن الأدب أن يسكت عن أسراره التي بثها إليه، ولا يبثها إلى غيره ألبتة، ولا إلى أخص أصدقائه، ولا يكشف شيئا منها ولو بعد القطيعة، فإن ذلك من لؤم الطبع، وأن يسكت عن القدح في أحبابه وأهله وولده، وأن يسكت عن حكاية قدح غيره فيه. ولا ينبغي أن يخفى ما يسمع من الثناء عليه، فإن السرور به يحصل أولا من المبلغ ، ثم من القائل، وإخفاء ذلك من الحسد، وخلاصة القول أنه يحسن السكوت عن كل كلام يكرهه الصديق جملة وتفصيلا، إلا إذا وجب عليه النطق في أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، ولم يجد رخصة في السكوت.
18
وهذه الآداب تدل على بصر الصوفية بأسرار النفوس، فالمرء يحب بفطرته أن يحتفظ بأشياء كثيرة من شؤونه الشخصية، ويسوءه أن يتعقب أسراره أخ أو صديق، ومن الناس من يظن أن الصداقة تعطيه الحق في أن يعرف تفاصيل ما أنت عليه في شؤونك الوجدانية والمعاشية، ويرى من سوء الرعاية أن تطوي عنه بعض أخبارك، ومنهم من يتوهم أن الأدب يفرض عليه أن ينقل إليك ما يهمس به أعداؤك وحاسدوك، وينسى أن لذلك عواقب بعضها خطر وبعضها قبيح، فقد تتأرث بذلك عداوات كانت خمدت، وقد يفل ذلك من عزم الصديق فيقتل حيويته ويصده عن الكفاح المشروع، ومن الأصدقاء من يحسب أن من حقه أن يتعرض بالنقد والملام لأحبابك وأهلك وأبنائك، وتلك ضروب من الفضول لا يقع فيها رجل حصيف.
ترك المماراة
وقد اهتم الصوفية اهتماما خاصا بتقبيح المماراة والمدافعة في كل ما يتكلم به الصديق، وحدثوا أن الرسول قال: من ترك المراء وهو مبطل بني له بيت في ربض الجنة، ومن ترك المراء وهو محق بنى له بيت في أعلا الجنة. هذا مع أن تركه مبطلا واجب، وقد جعل ثواب الفضل أعظم لأن السكوت عن الحق أشد على النفس من السكوت عن الباطل. وعلى الجملة فلا باعث على المماراة إلا إظهار التميز بمزيد العقل والفضل. واحتقار المردود عليه بإظهار جهله، وهذا يشتمل على التكبر والاحتقار والإيذاء والشتم بالحمق والجهل، ولا معنى للمعاداة إلا هذا.
19
وأشهد أن هذا الأدب من خير ما دعا إليه الصوفية، وقد غفلت عنه في حياتي الأدبية فأضعت جميع أصدقائي، وأكاد أحكم بأن حملة الأقلام في عصرنا هذا قل أن يبقى لهم صديق، فباسم حرية الرأي، وحرية النقد، وحرية النشر، وحرية القول تقع كلمات وعبارات تأتي على المودة من الأساس.
ولا أنكر أن في الجدل والمماراة فوائد تعليمية، وباسم هذه الفوائد ترتكب من الشطط ما لا يباح، ولكن لا يمكن نكران ما في انهدام صروح المودات من الخسران المبين.
وأذكر أني قمت وأنا طالب في الجامعة المصرية فماريت طالبا ألقى درسا من دروس التمرين، وكانت مماراة عنيفة غضب لها الأستاذ الدكتور منصور فهمي وأقبل يعاتبني في قسوة، فقلت: إني لا أضمر سوءا لهذا الطالب فهو صديقي، فقال الأستاذ: ما هكذا يعامل الصديق الصديق!
ولو تأدبنا بأدب الصوفية في ترك المماراة لما شاهدنا كل يوم مصرعا في الحياة السياسية والاجتماعية، ففي أكثر الأحزاب يشب الخلاف وتتقد نيران المماراة، ثم تصل إلى الصحف فيضيف لها اللغط وقودا إلى وقود، وما هي إلا أيام حتى تستفحل العداوات بين أصدقاء كان تآلفهم مضرب الأمثال.
وقد يقال إن ناسا تصاولوا في ميادين الأدب والسياسة ثم ظلوا أصدقاء وهذا صحيح، ولكن من يضمن سلامة القلوب من الندوب التي يورثها الجدل العنيف؟ هؤلاء لم يظلوا أصدقاء على نحو ما كانوا في سال العهد، ولكنهم يتجملون فيخفون العتب ويظهرون الوداد.
ترك الخلاف
ولا يكتفي الصوفية بتقبيح المماراة، بل يوصون بترك الخلاف، وكل صاحب تقول له: قم بنا، ويقول إلى إين؟ فليس بصاحب
20
والخلاف أصل كل فرقة، وهي لطيفة الشيطان في افتراق المتحابين في الله.
20
وقال أبو سعيد الخراز: صحبت الصوفية خمسين سنة ما وقع بيني وبينهم خلاف، فقيل له: وكيف ذاك؟ فأجاب: لأني كنت معهم على نفسي.
20
الوفاء في الحياة وبعد الممات
والوفاء من شروط الإخاء، وهو أن يكون الرجل لصديقه في غيبته ومن حيث لا يعلم ولا يبلغه مثل ما كان له في شهوده ومعاشرته، ويكون له بعد موته ولأهله من بعده كما كان له في حياته، وكان من الصالحين من يخلف أخاه في عياله بعد موته أربعين سنة لا يفقدون إلا وجهه، ويقال: إن مسروقا ادان دينا ثقيلا وكان على أخيه خيثمة دين، فذهب مسروق فقضى دين خيثمة وهو لا يعلم، وذهب خيثمة فقضى دين مسروق سرا وهو لا يعلم. فمن حقيقة المؤاخاة في الله عز وجل إخلاص المودة بالغيب والشهادة، واستواء القلب مع اللسان، واعتدال السر مع العلانية في الجماعة والخلوة، فإذا لم يختلف ذلك فهو إخلاص الأخوة، وإن اختلف ففيه مداهنة في الأخوة، وممازقة في المودة، وذلك دخل في الدين، ولا يكون مع حقيقة الإيمان.
21
والصوفية لا يبذلون المودة لجميع الناس؛ فلا تصح مؤاخاة مبتدع في الله تعالى، ولا محبة فاسق على فسوقه، ولا محبة فقير أحب غنيا لأجل دنياه، وقد تصح الأخوة بين العالم والجاهل، وبين الصالح والطالح، إذا صحت النية، وكان للعالم رجاء في تعليم الجاهل، وللصالح أمل في تقويم الطالح.
22
وقال سهل بن عبد الله: اجتنب صحبة ثلاثة أصناف من الناس: الجبابرة الغافلين، والقراء المداهنين، والمتصوفة الجاهلين.
23
ومع هذا التحرز يوصون عند المحبة بالقصد في الحب كما يوصون عند العداوة بالقصد في البغض، عملا بما روي عن علي: أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما، وتأدبا بقول عمر بن الخطاب: لا يكن حبك كلفا، وبغضك تلفا، وقول أسلم في تفسيره: إذا أحببت فلا تكلف كما يكلف الصبي بالشيء يحبه، وإذا أبغضت فلا تبغض بغضا تحب أن يتلف به صاحبك ويهلك.
24
الصوفية لا يبذلون المودة لجميع الناس
والمحبة عند الصوفية عمل، وكل عمل يحتاج إلى حسن خاتمة، فمن لم يحسن عاقبة الصحبة أدركه سوء الخاتمة، وبطل عنه ما كان عليه قبل ذلك.
25
القصد في الحب والبغض
فإن سأل القارئ: كيف تفرد الصوفية بإطالة القول في أدب الأخوة؟ فإنا نجيب بأن فراغ حياتهم من الشواغل المادية مال بهم إلى الإكثار من الكلام عن الشواغل المعنوية، والرجل الخلي البال من هموم المعاش يجد متسعا من الوقت لتأمل آداب الصحبة والألفة ومعاملة الرجال، أما الذين تكثر شواغلهم الدنيوية فينصرفون عن النوازع الوجدانية، ولا يلتفتون إلى دقائق الخواطر والإشارات فيما يتصل بأدب التودد إلى الناس.
كيف تفرد الصوفية بإطالة القول في أدب الأخوة
يضاف إلى هذا أن الصوفية يقفون عند المودة المنزهة عن الأغراض، وهي مودة لا تخلو لها قلوب المشغولين من أهل المنافع، الذين لا يبذلون التحية إلا لغرض مكنون.
وليتذكر القارئ أنا نكتب هذا وخواطرنا موزعة بين أشتات من شواغل الحياة، فلسنا ندرك أغراض الصوفية على نحو ما كانوا يدركون، ومن المؤكد أن علائقهم فيما بينهم كانت تجلب إليهم ضروبا من المتع والمسرات لا تتيسر لمن يقفون في ألفتهم عند الحدود الرسمية والمعاشية.
ولست أدري كيف يعسر على من يعيشون عيش الصخب والضجيج أن تكون لهم جوانب روحية يخلون إليها من وقت إلى وقت ليتنسموا روح الأنس والصفاء في ظلال المودة والإخاء الأمين!
الحب الحب الحب!
بداية الصوفية في الحب
يجب أن يكون عنوان هذا الفصل على هذه الصورة، فما أعرف كلمة من أسماء المعاني شغلت الصوفية كما شغلتهم كلمة الحب، ويكفي أن نتذكر أن أناشيد الصوفية تدور كلها حول الحب، وأن التصوف لا يصلح إلا بفضل الحب، ولا يفسد إلا بسبب الحب؛ فالحب هو الأول والآخر في حياة أولئك الناس.
وأغلب الظن عندي أن الصوفية ابتدأوا حياتهم بالحب الحسي، ثم ترقوا إلى الحب الروحي، والانتقال من حب الجمال إلى التصوف معقول؛ ولا سيما في حالة الحرمان من المحبوب، والحرمان قد يكون من آثار التصون والتجمل والعفاف، ثم يصير بأصحابه إلى الضعف فلا ترى منهم غير الأنين والحنين، وكذلك كان العذريون فهم في الأغلب ضعفاء، والضعف الحسي هو بداية الإقبال على المعاني الروحية في أكثر الأحوال.
1
وتمرس الصوفية بالحب في مطلع الشباب هو السر فيما يظهر عليهم من معاني الظرف، وقد حدثوا أن حد تلامذة ابن جابر الإشبيلي قال لغلام جميل الصورة: بالله أعطني قبلة تمسك رمقي. فشكاه الغلام إلى الشيخ وقال له: يا سيدي، قال لي هذا كذا. فقال له الشيخ: وأعطيته ما طلب؟ فقال: لا. فقال الشيخ: فما هذه الثقالة؟ ما كفاك أن حرمته حتى تشتكي به أيضا؟!
2
وكان ابن جابر هذا من المعروفين بالزهد والصلاح.
وخرج أبو حازم الصوفي يرمي الجمار ومعه قوم متعبدون وهو يكلمهم ويحدثهم ويقص عليهم، فإذا هو بامرأة حاسر قد فتنت الناس بحسن وجهها وألهتهم بجمالها، فقال لها: يا هذه، إنك بمشعر حرام، وقد فتنت الناس وشغلتهم عن مناسكهم؛ فاتقي الله واستتري، فإن الله عز وجل يقول في كتابه العزيز:
وليضربن بخمرهن على جيوبهن . فقالت: يا أبا حازم، إني من اللاتي قال فيهن الشاعر:
أماطت كساء الخز عن حر وجهها
وأرخت على المتنين بردا مهلهلا
من اللاء لم يحججن يبغين حسبة
ولكن ليقتلن البريء المغفلا
فقال أبو حازم لأصحابه: تعالوا ندع الله لهذه الصورة الحسنة ألا يعذبها الله بالنار. فجعل أبو حازم يدعو وأصحابه يؤمنون، فبلغ ذلك الشعبي فقال: ما أرقكم يا أهل الحجاز وأظرفكم! أما والله لو كان من قرى العراق لقال: اعزبي عليك لعنة الله!
3
ونحن نرى ذلك ظرفا صوفيا قبل أن يكون ظرفا حجازيا.
والصوفية أنفسهم يعرفون محنتهم بالعلاقات الغرامية وفيهم من يعتذر بأن الهوى لم يغز قلوبهم إلا لحكمة إلهية فيقول:
إن الله جل ثناؤه إنما امتحن الناس بالهوى ليأخذوا أنفسهم بطاعة من يهوونه، وليشق عليهم سخطه ويسرهم رضاؤه، فيستدلوا بذلك على قدر طاعة الله عز وجل؛ إذ كان لا مثل له ولا نظير، وهو خالقهم غير محتاج إليهم، ورازقهم مبتدئا غير ممتن عليهم، فإن أوجبوا على أنفسهم طاعة من سواه كان هو تعالى أحرى بأن يتبع رضاه.
4
ظرف الصوفية
وهم يقيسون الحب الروحي بالحب الحسي، ويقولون: إذا استولى الحب أدهش عن إدراك الألم، والتجربة أعدل شاهد على ذلك، ويذكرون أن سمنون المحب قال: كان في جوارنا رجل له جارية يحبها غاية الحب، فاعتلت، فجلس الرجل يصنع لها حيسا، فبينا هو يحرك ما في القدر إذ قالت الجارية: آه. فدهش الرجل وسقطت الملعقة من يده، وجعل يحرك ما في القدر بيده حتى تساقط لحم أصابعه، وهو لا يحس بذلك.
قال العاملي - وهو من أنصار الصوفية - فهذا وأمثاله قد يصدق به في حب المخلوق، والتصديق به في حب الخالق أولى؛ لأن البصيرة الباطنة أصدق من البصر الظاهر، وجمال الحضرة الربوبية أوفى من كل جمال، فإنه الجمال الخالص البحت، وكل جمال في العالم فهو مختلط ناقص.
5
بين النوازع الحسية والعواطف الروحية
وشعراء الصبوات هم ألسنة أرباب العوارف الروحية، وقد سمع أبو الفتح الأعور الصوفي هذا البيت:
وجهك المأمول حجتنا
يوم يأتي الناس بالحجج
فتواجد وصاح ودق صدره إلى أن أغمي عليه وسقط، فلما انقضى المجلس حركوه فوجدوه ميتا، فغسلوه ودفنوه.
وهذا البيت الذي قتل رجلا صوفيا هو من قطعة لرجل فاجر هو عبد الصمد بن المعذل الذي يقول:
يا بديع الدل والغنج
لك سلطان على المهج
إن بيتا أنت ساكنه
غير محتاج إلى السرج
وجهك المأمول حجتنا
يوم يأتي الناس بالحجج
قال ابن أبي حجلة: «والصوفية إذا قالوا: وجهك المأمول حجتنا نقلوه إلى ما لهم في ذلك من المعاني».
6
ونقل الأنطاكي قول البهاء زهير في هجر الدلال:
عتب الحبيب فلم أجد
سببا لذاك العتب حادث
ما كنت أعلم أنه
ممن تغيره الحوادث
ثم قال: وفي هذا الاصل كلام للعارفين، وكل يأخذ ما يناسبه من الإشارات، والبهاء زهير لا يكثر عليه مثل هذا، فلقد سمعت مولانا عارف الوقت الشيخ شمس الدين البكري أدام الله مدده يقول: إنه كان إماما عارفا، أو ذا لسان عارف».
7
فالبهاء زهير على هذا عارف القلب أو عارف اللسان؛ أي إنه يتكلم فيعبر عن المعاني الروحية بألفاظ حسية، وكل الشعراء ذلك الرجل إن شاء الصوفية.
وقد يروق لهم أن يتعقبوا أخيلة الحسيين بالنقد والتجريح، كالذي وقع لهم في لوم من ينام في غيبة حبيبه ليرى طيف الخيال؛ إذ قالوا: إن تخصيص النوم بأنه يريهم أحبتهم نقص بين في مودتهم، فإن الحال إذا تمكنت لم تفترق الروحان وإن افترق الشخصان، فالمحب المشاهد لصاحبه على كل حال مستغن عن الاستعانة على إحضاره برؤية الخيال».
8
وكيف تحتاج هذه اللمحة إلى تقييد، ونحن نرى جمهور المؤلفين في الحب والمحبين لا يخلون من نزعة صوفية، فابن داود صاح الزهرة، وابن حزم صاحب طوق الحمامة، وابن القيم صاحب الروضة، والأنطاكي صاحب تزيين الأسواق، كل أولئك فيهم نفحات صوفية، والجمع بين النزعة الحسية والروحية يظهر لهم من الأمور التي لا تحتاج إلى جدل ولا تأويل.
ولابن القيم في هذا مذهب طريف؛ فهو يذكر الأدب في الصبوة الحسية ثم يؤيده بالأدب في العلاقة الروحية كأن يقول: ومن علامات الحب إغضاؤه عند نظر محبوبه إليه، ورميه بطرفه نحو الأرض، وذلك من مهابته له، وحياته منه، وعظمته في صدره؛ ولهذا يستهجن الملوك من يخاطبهم وهو يحد النظر إليهم، بل يكون خافض الطرف إلى الأرض، قال تعالى مخبرا عن كمال أدب رسوله في ليلة الإسراء:
ما زاغ البصر وما طغى ، وهذا غاية الأدب؛ فإن البصر لم يزغ يمينا ولا شمالا، ولا طمح متجاوزا إلى ما هو رائيه، ومقبل عليه كالمتشارف إلى ما وراء ذلك؛ ولهذا اشتد نهي النبي
صلى الله عليه وسلم
للمصلي أن يزيغ بصره إلى السماء ... الخ.
9
وكان يقول: ومن علامات المحبة كثرة ذكر المحبوب واللهج بذكره وحديثه، فمن أحب شيئا أكثر من ذكره بقلبه ولسانه، ولذلك أمر الله سبحانه عباده بذكره على جميع الأحوال، وأمرهم بذكره أخوف ما يكونون فقال تعالى:
يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ، والمحبون يفتخرون بذكر أحبابهم وقت المخاوف وملاقاة الأعداء، كما قال:
ذكرتك والخطي يخطر بيننا
وقد نهلت منا المثقفة السمر
وفي بعض الآثار الإلهية: إن عبدي كل عبدي يذكرني وهو ملاق قرنه؛ فعلامة المحبة الصادقة ذكر المحوب في الرغب والرهب، كما قال بعض المحبين في محبوبته:
يذكرنيك الخير والشر والذي
أخاف وأرجو والذي أتوقع
10
تأييد الحب الحسي بالمعاني الدينية
قلت: إن أكثر الصوفية عرفوا الحب الحسي في مطلع الشباب، فلأذكر أن هذا هو السر في التباس الأمر على فريق منهم عند التفرقة بين الشهوات الحسية والمعنوية، فظلوا يحنون إلى الجمال المحسوس، بحجة أنه يقربهم إلى الجمال المعقول «وإنما تسترت هذه الطائفة لهواها وشهواتها، وأوهمت أنها تنظر عبرة واستدلالا، حتى آل ببعضهم الأمر إلى أن ظنوا أن نظرتهم عبادة؛ لأنهم ينظرون إلى الجمال الإلهي، ويزعمون أنا الله سبحانه وتعالى عن قول النصارى يظهر في تلك الصورة الجميلة، ويجعلون هذا طريقا إلى الله، كما وقع فيه طوائف كثيرة ممن يدعي المعرفة والسلوك».
11
ومن رأي ابن الجوزي أن أكثر المتصوفة قد سدوا على أنفسهم باب النظر إلى النساء الأجانب لبعدهم عن مصاحبتهن، وامتناعهم عن مخالطتهن، واشتغلوا بالتعبد عن النكاح، واتفقت صحبة الأحداث لهم على وجه الإرادة، وقصد الزهادة، فأمالهم إبليس إليهم، وهم في ذلك على أقسام: القسم الأول: أخبث القوم وهم ناس تشبهوا بالصوفية ويقولون بالحلول، ويزعمون أن الحق تعالى اصطفى أجساما حل فيها بمعنى الربوبية، والقسم الثاني: قوم يتشبهون بالصوفية في ملبسهم ويقصدون الفسق، والقسم الثالث: قوم يستبيحون النظر إلى المستحسن، واستئناسا بما روي عن الرسول: اطلبوا الخير عند حسان الوجوه، وقوله: ثلاثة تجلو البصر: النظر إلى الخضرة، والنظر إلى الماء، والنظر إلى الوجه الحسن. وهما حديثان لا أصل لهما عن رسول الله. والقسم الرابع: قوم يقولون: نحن لا ننظر نظر شهوة وإنما ننظر نظر اعتبار، فلا يضرنا النظر، وذلك في رأي ابن الجوزي محال.
12
فتنة الصوفية بالأحداث
وقد شغل ابن الجوزي نفسه بتعقب الصوفية، فنقل عنهم حكايات غريبة، وعلق عليها تعليقات تدل على بصر بدقائق علم النفس والأخلاق، ولا بد لنا من عرض نماذج من ملاحظاته؛ لأنها ثمرة من ثمرات التصوف، وكل ما كتب للتصوف أو عليه فهو مظهر من آثاره في الحياة العقلية والذوقية.
نقل بسنده أن عبد الله بن الزبير الحنفي قال: كنت جالسا مع أبي النصر الغنوي وكان من المبرزين العابدين، فنظر إلى غلام جميل فلم تزل عيناه واقعتين عليه حتى دنا منه فقال: سألتك بالله السميع، وعزه الرفيع، وسلطانه المنيع، إلا وقفت علني أروى من النظر إليك. فوقف قليلا ثم ذهب ليمضي فقال له: سألتك بالله الحكيم المجيد، الكريم المبدئ المعيد، إلا ما وقفت! فوقف ساعة، فأقبل يصعد النظر إليه ويصوبه، ثم ذهب ليمضي. فقال: سألتك بالواحد الأحد، الجبار الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، إلا وقفت! فوقف ساعة فنظر إليه طويلا، ثم ذهب ليمضي، فقال: سألتك باللطيف الخبير، السميع البصير، وبمن ليس له نظير، إلا وقفت! فوقف فأقبل ينظر إليه ثم أطرق رأسه إلى الأرض، ومضى الغلام، فرفع رأسه بعد طويل وهو يبكي فقال: قد ذكرني هذا بنظري وجها جل عن التشبيه، وتقدس عن التمثيل، وتعاظم عن التحديد، والله لأجهدن نفسي في بلوغ رضاه بمجاهدتي جميع أعدائه، وموالاتي لأوليائه، حتى أصير إلى ما أردته من نظري إلى وجهه الكريم، وبهائه العظيم، ولوددت أنه قد أراني وجهه وحبسني في النار ما دامت السموات والأرض، ثم غشى عليه.
ونقل بسنده أن أحدهم قال: كنت مع محارب بن حسان الصوفي في مسجد الخيف ونحن محرمون، فجلس إلينا غلام من أهل المغرب فرأيت محاربا ينظر إليه نظرا أنكرته، فقلت له بعد أن قام: إنك محرم في شهر حرام في بلد حرام في مشعر حرام، وقد رأيتك تنظر إلى هذا الغلام نظرا لا ينظره إلا المفتون! فقال لي: تقول هذا، يا شهواني القلب والطرف! ألم تعلم أنه قد منعني من الوقوع في شرك إبليس ثلاث؟ فقلت: وما هي؟ فقال: سر الإيمان، وعفة الإسلام. وأعظمها الحياء من الله تعالى أن يطلع علي وأنا جاثم على منكر نهاني عنه، ثم صعق حتى اجتمع الناس علينا.
وهنا يقول ابن الجوزي في التعليق على هاتين الحادثتين:
انظروا إلى جهل الأحمق الأول ورمزه إلى التشبيه، وإن تلفظ بالتنزيه، وإلى حماقة هذا الثاني الذي ظن أن المعصية هي الفاحشة فقط، ما علم أن نفس النظر بشهوة يحرم، ومحا عن نفسه أثر الطبع بدعواه الت تكذبها شهوة النظر.
13
وروى بسنده أن بعضهم قال: قلت لأبي الكميت الأندلسي وكان جوالا في أرض الله: حدثني بأعجب ما رأيت من الصوفية فقال: صحبت رجلا منهم يقال له مهرجان، وكان مجوسيا فأسلم وتصوف، فرأيت معه غلاما جميلا لا يفارقه، وكان إذا جاء الليل قام فصلى ثم ينام إلى جانبه، ثم يقوم فزعا فيصلى ما قدر له، ثم يعود فينام إلى جانبه، حتى فعل ذلك مرارا، فإذا أسفر الصبح أو كاد يسفر أوتر، ثم رفع يديه وقال: اللهم إنك تعلم أن الليل مضى علي سليما لم أقترف فيه فاحشة، ولا كتبت علي فيه الحفظة معصية، وأن الذي أضمره بقلبي لو حملته الجبال لتصدعت، أو كان بالأرض لتدكدكت، ثم يقول: يا ليل اشهد بما كان مني فيك، فقد منعني خوف الله عن طلب الحرام، والتعرض للآثام، ثم يقول: سيدي! أنت تجمع بيننا على تقى، فلا تفرق بيننا في يوم تجمع فيه الأحباب! فأقمت معه مدة طويلة أراه يفعل ذلك في كل ليلة، وأسمع هذا القول منه. فلما هممت بالانصراف من عنده قلت له: سمعتك تقول إذا انقضى الليل كذا وكذا فقال: وسمعتني؟ قلت: نعم! قال: فو الله يا أخي إني لأداري من قلبي ما لو داراه سلطان من رعيته لكان الله حقيقا بالمغفرة له، فقلت: وما الذي يدعوك إلى صحبة من تخاف على نفسك العنت من قبله؟
ونقل بسنده أن أبا حمزة الصوفي قال:
رأيت ببيت المقدس فتى من الصوفية يصحب غلاما مدة طويلة، فمات الفتى وعال حزن الغلام عليه حتى صار جلدا وعظما من الضنى والكمد، فقلت له يوما: لقد طال حزنك على صديقك، حتى أظن أنك لا تسلو بعده أبدا فقال: كيف أسلو عن رجل أجل الله عز وجل أن يصيبه معي طرفة عين أبدا، وصانني عن نجاسة الفسوق في خلال صحبتي له وخلواتي معه في الليل والنهار.
ويقول ابن الجوزي في التعقيب على هاتين القصتين:
هؤلاء قوم رآهم إبليس لا ينجذبون معه إلى الفواحش فحسن لهم بداياتها فتجعلوا لذة النظر والصحبة والمحادثة، وعزموا على مقاومة النفس في صدها عن الفاحشة، فإن صدقوا وتم لهم ذلك فقد اشتغل القلب الذي ينبغي أن يكون شغله بالله تعالى لا بغيره، وصرف الزمان الذي ينبغي أن يخلو فيه القلب بما ينفع في الآخرة بمجاهدة الطبع في كفه عن الفاحشة، وهذا كله جهل وخروج عن آداب الشرع، فإن الله عز وجل أمر بغض البصر؛ لأنه طريق إلى القلب، ليسلم القلب لله تعالى من شائب يخاف منه، وما مثل هؤلاء إلا كمثل من أقبل إلى سباع في غيضة وهي متشاغلة عنه لا تراه، فأثارها وحاربها وقاومها، فيا بعد سلامته من جراحه إن لم يهلك.
14
واستطرد ابن الجوزي فذكر أنه كان ببلاد فارس صوفي كبير فابتلي بحدث فلم يملك نفسه أن دعته إلى فاحشة، فراقب الله عز وجل، ثم ندم على هذه الهمة، وكان منزله على مكان عال ووراء منزله بحر من الماء، فلما أخذته الندامة صعد السطح ورمى بنفسه إلى الماء، وتلا قوله تعالى:
فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم
فغرق في البحر.
قال ابن الجوزي: انظر إلى إبليس كيف درج هذا المسكين من رؤية هذا الأمرد، وإدمان النظر إليه، إلى أن مكن المحبة من قلبه، وإلى أن حرضه على الفاحشة، فلما رأى استعصامه حسن له بالجهل قتل نفسه فقتل نفسه، ولعله هم بالفاحشة ولم يعزم، والهمة معفو عنها لقوله عليه السلام: عفى لأمتي عما حدثت به نفوسها، ثم إنه ندم على همته والندم توبة، فأراه إبليس أن من تمام الندم قتل نفسه كما فعل بنو إسرائيل، فأولئك أمروا بقوله تعالى:
فاقتلوا أنفسكم
ونحن نهينا عنه بقوله تعالى:
ولا تقتلوا أنفسكم
فلقد أتى بكبيرة عظيمة، وفي الصحيحين عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: من تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدأ فيها أبدا.
15
ونقل أن يوسف بن الحسين كان يقول: كل ما رأيتموني أفعله فافعلوه إلا صحة الأحداث فإنها فتنة الفتن، ولقد عاهدت ربي أكثر من مئة مرة أن لا أصحب حدثا ففسخها علي حسن الخدود، وقوام القدود، وغنج العيون، وما سألني الله معهم عن معصية، وأنشد قول مسلم بن الوليد في معنى ذلك:
إن ورد الخدود والحدق النج
ل وما في الثغور من أقحوان
واعوجاج الأصداغ في ظاهر الخد
وما في الصدور من رمان
تركتني بين الغواني صريعا
فلهذا أدعى صريع الغواني
وفي التعقيب على هذا التصريح الفاتك يقول ابن الجوزي:
هذا الرجل قد فضح نفسه في شيء ستره الله عليه، وأخبر أنه كلما رأى فتنة نقض التوبة، فأين عزائم التصوف في حمل النفس على المشاق؟ ثم ظن بجهله أن المعصية هي الفاحشة فقط، ولو كان له علم لعلم أن صحبتهم والنظر إليهم معصية، فانظر إلى الجهل كيف يصنع بأربابه.
16
وقد أطلنا الاقتباس من ابن الجوزي لأن الصفحات التي كتبها في هذا الموضوع من خير ما قرأنا في الدراسات النفسية والخلقية، ولأنها تصور ما كان يعرض للصوفية من الحيرة المطبقة في تفهم الفروق بين مسالك الرشد والغي، ومعالم الهدى والضلال.
هجوم ابن الجوزي عليهم
وقد فصل ابن القيم أحوال المحبين، وعرض لمن عرفوا بالتصون والعفاف، فقال عن محمد بن داود الأصبهاني، وكان من أهل المروءة والدين، ومن أصدق الناس في العشق العفيف:
وأما قصة محمد بن داود الأصبهاني فغايتها أن تكون من سعيه المعفو، لا من عمله المشكور، وسلط الناس بذلك على عرضه، والله يغفر لنا وله، فإنه تعرض بالنظر إلى السقم الذي صار به صاحب فراش، وهذا لو كان ممن يباح له لكان نقصا وعيبا، فكيف من صبي أجنبي؟ وأرضاه، الشيطان بحبه والنظر إليه عن مواصلته، إذ لم يطمع في ذلك منه، فنال منه ما عرف أن كيده لا يتجاوزه، وجعله قدوة لمن يأثم به بعده كأبي محمد بن حزم الظاهري وغيره، وكيد الشيطان أدق من هذا.
17
وهذا نظر قريب من نظر ابن الجوزي، ويمتاز مع ذلك بالتلطف والرفق فهو يعترف بعفاف ابن داود، ولكنه لا يجعله قدوة لمن سواه، وحسب ابن داود من السلامة أن لا يحشر في زمرة الآثمين.
رأي ابن القيم في صبابة ان داود
ونستطيع الجزم بأن صحبة الأحداث كانت من الفتن الظاهرة في حياة الصوفية، وكانت لهم في هذا الباب كنايات، من ذلك قولهم للغلام الصبيح (شاهد) ومعناهم فيه أنه لحسن صورته شهيد بقدرة الله عز اسمه على ما يشاء، ويحكى أن أصحاب أبي علي الثقفي تحاموا لفظة (الشاهد) بين يديه هيبة له، فتواصوا فيما بينهم أن يقولوا للغلام الصبيح (حجة)، فاتفق أنهم صحبوه في بعض الطريق فتراءى لهم من بعيد غلام فقال أحدهم (حجة)، وهو يظن أن أبا علي لا يفطن لمغزاه، فلما قرب الغلام منهم كان غير مليح، فالتفت أبو علي إليهم وقال: داحضة.
18
ويؤيد هذا أن أكثر من ألفوا في التصوف عرضوا لهذه المسألة وأطالوا في الزجر والترهيب، وقد عقد لها القشيري فصلا قال فيه:
ومن أصعب الآفات في هذه الطريقة صحبة الأحداث، ومن ابتلاه الله بشيء من ذلك فبإجماع الشيوخ ذلك عبد أهانه الله عز وجل وخذله، بل عن نفسه شغله، ولو بألف كرامة أهله، وهب أنه بلغ رتبة الشهداء ... أليس قد شغل ذلك القلب بمخلوق؟ وأصعب من ذلك تهوين ذلك على القلب، حتى يعد ذلك يسيرا، وقد قال الله تعالى: «وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم». وهذا الواسطي رحمه الله يقول: إذا أراد الله هوان عبد ألقاه إلى هؤلاء الأنتان والجيف. سمعت أبا عبد الله الصوفي يقول: سمعت محمد بن أحمد النجار يقول: سمعت أبا عبد الله الحصري يقول: سمعت فتحا الموصلي يقول: صحبت ثلاثين شيخا كانوا يعدون من الأبدال، كلهم أوصوني عند فراقي إياهم وقالوا: اتق معاشرة الأحداث ومخالطتهم ... فليحذر المريد من صحبة الأحداث ومخالطتهم، فإن اليسير منه فتح باب الخذلان، وبدء حال الهجران، ونعوذ بالله من قضاء السوء.
19
ونظر محمد بن أسباط الصوفي إلى أبي المثنى الشيباني، وقد نظر في وجه غلام مليح فقال: إدمان النظر، يكشف الخبر، ويفضح البشر، ويطول به المكث في سقر.
20
وقال المعلى الصوفي: شكوت إلى بعض الزهاد فسادا أجده في قلبي، فقال: هل نظرت إلى شيء فتاقت إليه نفسك؟ قلت: نعم! قال: احفظ عينيك، فإنك إن أطلقتهما أوقعتاك في مكروه، وإن ملكتهما ملكت سائر جوارحك.
20
وقال مسلم الخواص لمحمد بن علي الصوفي: أوصني، فقال: أوصيك بتقوى الله في أمرك كله، وإيثار ما يحب على محبتك، وإياك والنظر إلى كل ما دعاك إليه طرفك، وشوقك إليه قلبك، فإنهما إن ملكاك لم تملك شيئا من جوارحك، حتى تبلغ بهما ما يطالبانك به، وإن ملكتهما كنت الداعي لهما إلى ما أردت، فلا يعصيان لك أمرا، ولا يردان لك قولا.
20
وقال الأسود بن طالوت: نظر إلي أبو عمر الصوفي، وقد أطلت النظر إلى غلام جميل، فقال: ويحك، إن طرفك لعظيم ما جتنى من البلاء، قد عرضك للمكروه وطول العناء، لقد نظرت إلى حتف قاتل للقلوب، وبلاء مظهر للعيوب، وعار فاضح للنفوس، ومكروه مذهل للعقول، أكل هذا لاغترار بالله جرأك عليه حتى أمنت مكره، ولم تخف كيده؟ اعلم أنك لم تكن في وقت من أوقاتك، ولا حالة من حالاتك أقرب إلى عقوبة الله منك في حالتك هذه، ولو أخذك لم يخلصك الثقلان، ولم يقبل فيك شفاعة إنس ولا جان.
21
ورأى بعض الزهاد صوفيا يضحك إلى غلام جميل فقال له: يا خرب القلب ويا خرب الطرف، أما تستحي من كرام كاتبين، وملائكة حافظين، يحفظون الأفعال، ويكتبون الأعمال، وينظرون إليك، ويشهدون عليك، بالبلاء الظاهر، والغل الدخيل المخامر، الذي أقمت نفسك فيه مقام من لا يبالي من وقف عليه، ونظر من الخلق إليه.
21
الدفاع عن الصوفية
ولكن ما دلالة هذه الشواغل؟ هي بلا جدال باب من الأخلاق والمخلصون من الصوفية عرفوا خطر هذه المزالق الوجدانية، وتنبهوا إلى خطرها في عالم الأخلاق.
ولابن الجوزي أن يقول فيهم ما شاء، فلن ينكر أحد أن هؤلاء القوم وقفوا موقف التحرز والخوف من فتن جائحة كانت تقتل الكرامات والعزائم والنفوس في كثير من الأندية الأدبية والسياسية، وكانوا وحدهم أصحاب الضمائر في عهود كان فيها استهداء الغلمان شريعة من شرائع الاجتماع.
وهل من القليل أن يتواصى الصوفية بالحذر من صحبة الأحداث في أزمنة كان يشتري فيها الغلمان المتخيرون ليمسوا زينة القصور في قرطبة والقاهرة ودمشق وبغداد؟
إن من سوء الرعاية أن نغفل أثر هذا التحرز في عالم الأخلاق، لقد كان الصوفية يؤاخذون على النظرة في أيام كانت تكتب فيها أخبار الفسق والمجون بعبارات مكشوفة ينكرها الأدب ويأباها الحياء.
ومن الذي يضمن أن يكون ابن الجوزي صادقا في كل ما كتب عن مغامز الصوفية؟
أولئك قوم كانت لهم في شبابهم صبوات، فلما من الله عليهم بالتوبة والهداية ظل خصومهم يتذكرون ماضيهم، ويضيفون إليه ما شاء الإفك والبهتان، ليغضوا من أقدارهم وليصرفوا عنهم الناس.
ونحن مع ذلك لا ننكر أن من الصوفية من زلت أقدامهم في صحبة الأحداث، فالعصمة لله وحده، وادعاء العصمة هو في ذاته وقاحة خلقية، ولا يدعي التصون المطلق إلا خادع أو مخدوع، ولكن من المكابرة أن نجحد ما أثر عن الصوفية من الفضل في هذا الباب، وهل في الأدب كله كلمة أبلغ وأفصح وأنصع وأصدق من قول الواسطي طيب الله ثراه: «إذا أراد الله هوان عبد ألقاه إلى هؤلاء الأنتان والجيف!».
أترون كيف تضطرم نار الغيرة على الكرامة في أحشاء هذه الحروف؟ وهل رأيتم صدقا أكرم وجها من صدق هذا المعنى؟ هل رأيتم احتقارا للشهوات الحسية أعنف من هذا الاحتقار؟ أرأيتم كيف تكون بلاغة من من خبر الدنيا، وعرف مكارهها، وتبين عناصر الشر فيها، واهتدى إلى معالم النجاة والهلاك؟ الحق أن هذه المسألة في غاية الدقة: فالصوفية على خطر، وناقدوهم على خطر الصوفية على خطر؛ لأن الاعتبار بالجمال قد يكون وسوسة خفية من مكر الشيطان.
وناقدوهم على خطر؛ لأن الإحساس بروعة الجمال قد يكون بابا إلى صقل النفس والوجدان.
وقد يكون الماضي كله ضلالة من الضلالات يوم تنكشف الحقائق، ويتبين أن الوجود كله معقود الأواصر بقوة كهربائية لا نملك منها الفرار، قد يظهر يوما أننا لا نملك الرغبة، ولا نملك الزهد، وإنما نحن مسخرون في وجود عجيب يربطنا بقوة قاهرة حول تيارات من الحسن والقبح. إنه ليوم عصيب، ذلك اليوم الذي نعرف فيه أننا لا نملك غير الثرثرة، وأن قانون الوجود يسخرنا كما يشاء، وأن تاريخ المذاهب الأخلاقية لم يكن إلا مظهرا من مظاهر ذلك القانون.
أترون الرجل يخرج على مألوف العرف وهو طائع؟ أترونه يثور على التقاليد الدينية والاجتماعية وهو مطلق الاختيار والحرية؟ ولماذا لا يكون هذا النزاع بين الغواية والهداية نزاعا فرضته تلك القوة الكهربائية التي لم نعرف من أسرارها إلا شيئا يشبه السراب حين يتمثل في الأحلام؟
ثم ما رأيكم في هذه الفلسفة؟ أترونها نوعا من الشطح؟ ليكن ذلك، فنحن من تلاميذ الصوفية، وهم أقدر الناس على الشطح والهيام في أودية الخيال!
ولكن حذار أن تنكروا أن الفتن التي اصطدم بها الصوفية كانت مما لا يمكن تحاشيه في هذا العالم الغريب، إن الدنيا خلقت كما شاء البارئ أن تخلق، ففيها الخير والشر، والرشد والغي، والهدى والضلال، وفيها ما شاء البارئ من السم والترياق، فانظروا كيف شئتم، ولكن تأدبوا، وتذكروا أن النار إن سلطت عليكم فستحولكم إلى رماد مهين مهما اعتصمتم بالفروض والظنون.
قولوا - إن شئتم - إن هناك قوانين أخلاقية عاش بفضلها العالم إلى اليوم ثم تذكروا أن هناك شيئا اسمه الوقاحة، وشيئا اسمه الحياء، فإن وصلتم إلى هذه الغاية فاعترفوا - إن كنتم منصفين - أن الصوفية تفردوا بين الناس بالحرص على فضيلة الحياء.
إن الوسوسة الخلقية هي في ذاتها أدب عظيم، والصوفية هم الذين ملأوا الدنيا بالتنفير من فتنة الجمال، والجمال في ذاته نفحة إلهية، ولكن الفسق يحوله إلى عصارة قذرة لا يسكن إليها رجل في شمائله ذوق، وفي روحه صفاء.
وكيف كان الفسق قذرا مع أنه من النتائج الطبيعية لنظام الأرواح والأبدان؟
عند هذه المشكلة نتبين رغبة الإنسانية في الكمال المطلق، فالفسق لا يقع إلا بسبب نزعتين: الاستعلاء الآثم من جانب، والاستحذاء الساقط من جانب، ولا كذلك العفاف فإنه لا يكون إلا بفضل عاطفتين شريفتين: الإبقاء الكريم من جانب، والإباء النبيل من جانب.
فإن قلتم: وكيف اعترفت بهذه المصطلحات؟ فإني أجيب بأن بقاءها على هذه الأزمنة الطوال يدل على أن تلك القوة الكهربائية لها في بقائها سر خاص. وحين يصح أن هناك فروقا جوهرية بين التحليق والإسفاف في عالم الأخلاق فسنعرف أن الصوفية كانوا أشرف الناس.
على أن التحرز فيه معنى المقاومة، والمقاومة من أصول التغلب في هذا الوجود، ولو قد نظر ابن الجوزي هذه النظرة لعرف فضل هذا المعنى في قصة ذلك الصوفي الذي ابتلي بحب الجمال المحسوس، ثم قاوم وغالب حتى فارق الحياة وهو نقى الثياب.
وإنا لنرجو القارئ أن يرحمنا من تهمة التعصب للصوفية، فنحن - يشهد الله - لا نحب إلا الوقوف في صف المظلومين، والصوفية قاسوا من الظلم ألوانا كثيرة، منها اتهامهم بالفسق والمجون، وممن؟ من ناس يتركون قصور الوزراء والأمراء والملوك تعج بالدنس والرفث والقذارة والرجس، ثم يوجهون جهودهم إلى حرب طائفة من الفقراء الذين لا يجدون الكفاف إلا بشق الأنفس في هذا العالم السخيف.
يرحمكم الله، أيها المؤلفون في الأخلاق، فأكثركم من أهل الجبن والتلفيق وأي مظهر للجبن أقبح وأبشع من أن تصنف الكتب الطوال العراض في مثالب الصوفية، على حين يترك الملوك الظالمون في العصور الماضية بلا رقيب ولا حسيب؟
أين ما وضع ابن الجوزي وأمثاله في نقد الاستبداد، وكان يعيش في عصر لا تحترم فيه ملكية ولا تحفظ حقوق؟ أين ما كتب هؤلاء المتفيهقون في الفساد الخلقي والاجتماعي الذي كان يندلع لهيبة من قصور الأمراء والوزراء؟ أين ما دونوا من أصول الأخلاق القومية والدولية في أزمان طغى فيها تيار المطامع الأجنبية، وتعرضت ديار العرب والإسلام للخراب والإقواء؟
إن الفقير كان ولا يزال مكشوف العورات، والغنى منذ الزمن القديم يستر العيوب. ألم نجد ناسا ينكرون أن يكون الرشيد عرف مجالس الشراب!
ولكن ما هذا؟ لعلنا نسرف في اتهام الإنسانية بإيثار الملق والمداهنة والرياء؟
إن الصوفية كانوا دعاة الأخلاق، فمن واجب الناس أن ينبهوهم إلى ما ينزلقون فيه، ومن حق الناس أن يحسدوهم على دعوى التفرد بالشرف والاستقامة والتدين، فالصوفية هم الذين خلقوا أسباب الحسد، وهم الذين دعوا الناس إلى محاسبتهم على ما يقولون وما يعملون.
أما الملوك والأمراء والوزراء فلم يكن فيهم من يدعي أنه نموذج في الأخلاق، ولهذا سكت عنهم أكثر المؤلفين في الأخلاق، وأريد المؤلفين المخلصين، أما المنافقون فلم يكن لهم بد من مداراة أصحاب الملك، وأرباب الجاه والثراء.
لكل إنسان أن يعيش كيف يشاء، وعلى الله حساب الناس فيما يسرون وما يعلنون، ولكن ليحذر من ينصب نفسه داعية للخلق الجميل، فإن الناس سيحاسبونه على كل صغيرة وكبيرة، وسيقولون فيه كل شيء، بالحق وبالباطل، فلينظر أين يضع قدمه، وأين يوجه خطراته النفسية والروحية، وكيف تكون صلته بالله وصلته بخلق الله. إن الدعوة إلى الخلق الجميل كالدعوة إلى الدين الحق، وقد رأينا كيف عانى الأنبياء، من ظلم الجاهلين والسفهاء، فمن تسامت نفسه إلى الدعوة إلى البر والشرف فليوطن نفسه على احتمال الضيم والأذى والعقوق.
رأي ابن القيم في الجمال
ولنقيد أن هذه الأزمات لا تقع إلا حين تكون الريب والشبهات، فإذا صفت النفس، وأمن المريد من عنف الشهوة، فإن الصوفية يطلقون لأخيلتهم العنان في تصوير الجمال، وقد تحفظ ابن القيم ما شاء أن يتحفظ ولكنه عقد فصلا مهما في كتاب (روضة المحبين) وهو الفصل التاسع عشر الذي تكلم فيه عن «فضيلة الجمال، وميل النفوس إليه على كل حال».
وقد قسم الجمال إلى قسمين: ظاهر، وباطن، وبين أن الجمال الباطن هو المحبوب لذاته، وهو جمال العلم والعقل والجود والعفة والشجاعة، وهذا الجمال الباطن هو محل نظر الله من عبده وموضع محبته، وهو يزين الصورة الظاهرة وإن لم تكن ذات جمال. وأما الجمال الظاهر فزينة خص الله بها بعض الصور عن بعض، وهي من زيادة الخلق التي قال الله تعالى فيها:
يزيد في الخلق ما يشاء .
قال ابن القيم: وكما أن الجمال الباطن من أعظم نعم الله تعالى على عبده فالجمال الظاهر نعمة منه أيضا على عبده، فإن شكره بتقواه وصيانته ازداد جمالا على جماله، وإن استعمل جماله في معاصيه سبحانه قلبه له شينا ظاهرا في الدنيا قبل الآخرة، فتعود تلك المحاسن وحشة وقبحا وشينا، وينفر عنه من رآه، فكل من لم يتق الله عز وجل في حسنه وجماله انقلب قبحا وشينا يشينه بين الناس، فحسن الباطن يعلو قبح الظاهر ويستره، وقبح الباطن يعلو جمال الظاهر ويستره.
22
وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
يدعو الناس إلى جمال الباطن بجمال الظاهر كما قال جرير بن عبد الله - وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسميه يوسف هذه الأمة - قال: قال لي رسول الله
صلى الله عليه وسلم : أنت امرؤ قد حسن الله خلقك فأحسن خلقك.
22
وقال بعض الحكماء: ينبغي للعبد أن ينظر كل يوم في المرآة، فإن رأى صورته حسنة لم يشنها بقبيح فعله، وإن رآها قبيحة لم يجمع بين قبح الصورة وقبح الفعل.
22
ومن الواجب أن نتأمل ما في هذا الكلام من التربية الخلقية، فابن القيم يجعل الحسن الظاهر من طيبات الأرزاق، ولكنه يشترط لذلك أن يحسن الخلق ويكمل الدين، وهو يلح في هذا المعنى بصيغ مختلفة من التأكيد، ويستشهد بكلام الرسول وكلام الحكماء.
وهذا التأكيد يدل على قوة الحاسة الخلقية، فالحسن الفاجر هو في الواقع حسن وضيع، وفي الخلق السليم جمال أبرع من الجمال المحسوس، والمعنويات في جوهرها أشرف من المحسوسات، والعقل الصحيح يتمثل المحسوس من صور التقريب للمعقول، والجمال الحسي لا يمكن أن يكون غاية إلا عند أهل الضعة والإسفاف من طلاب الدون في عالم الشهوات.
والجمع بين المعقول والمحسوس هو غاية الغايات، ولا يتفق ذلك إلا حين يشاء الله أن يسبغ نعمه على بعض العباد، كالذي وقع في حياة محمد بن عبد الله ويوسف بن يعقوب.
صور مبتكرة في التنفير من الحب الأثيم
ويمضي ابن القيم فيقول: ولما كان الجمال من حيث هو محبوبا للنفوس، معظما في القلوب، لم يبعث الله نبيا إلا جميل الصورة، حسن الوجه، كريم الحسب، حسن الصوت، كذا قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
أجمل خلق الله وأحسنهم وجها، كما قال البراء ابن عازب رضي الله عنه وقد سئل: أكان وجه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مثل السيف؟ قال: لا، بل مثل القمر. وفي صفته
صلى الله عليه وسلم : كأن الشمس تجري في وجهه. يقول واصفه: لم أر قبله ولا بعده مثله. وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يستحب أن يكون الرسول الذي يرسل إليه حسن الوجه، حسن الاسم، وكان يقول: إذا أبردتم إلي بريدا فليكن حسن الوجه، حسن الاسم. وقد روى الخرائطي من حديث ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه: من آتاه الله وجها حسنا، واسما حسنا، وخلقا حسنا، وجعله في موضع غير شائن له، فهو من صفوة الله من خلقه. وقال وهب: قال داود: يا رب، أي عبادك أحب إليك؟ قال: مؤمن حسن الصورة. قال: فأي عبادك أبغض إليك؟ قال: كافر قبيح الصورة. ويذكر عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كان ينتظره نفر من أصحابه على الباب فجعل ينظر في الماء ويسوي شعره ولحيته، ثم خرج إليهم، فقلت: يا رسول الله، وأنت تفعل هذا؟ قال: نعم! إذا خرج الرجل إلى إخوانه فليهيئ من نفسه، فإن الله جميل يحب الجمال ... ودخلت امرأة جميلة على الحسن البصري فقالت: يا أبا سعيد، أيحل للرجال أن يتزوجوا على النساء؟ قال: نعم. فقالت: وعلى مثلي؟ ثم دلت، فقال الحسن: ما على رجل كانت هذه في زاوية بيته ما فاته من الدنيا.
23
وكذلك يدور ابن القيم حول الجمال يمدحه ويطريه ويصف به أشرف الناس، وما كان لنا أن نهتم بهذا لولا دلالته على نزعة أصيلة من نزعات الصوفية: فالنبي جميل، والله جميل، وصفوة الله من خلقه هم المؤمنون من أهل الجمال.
وأظرف موقف في هذه الأحاديث هو موقف الحسن البصري وقد رأى تلك الحسناء، والحسن البصري هو إمام الصوفية، وهو مع ذلك يعرف كيف يقول: «ما على رجل كانت هذه في زاوية بيته ما فاته من الدنيا».
وهي عبارة بصرية تمثل اللهفة والشوق إلى أفنان الجمال.
دعوة النفس إلى حرب الهوى
أولئك هم الصوفية، وتلك نظراتهم إلى صباحة الوجوه، أفلا يكون لذلك أثر في فهمهم للأدب وتصورهم للأخلاق؟
وكيف يمكن أن لا تؤثر هذه النزعات في اتجاهاتهم الخلقية والأدبية؟ إن الخلق يصدر عن النفس، والأدب ينبغ من القلب، وأمثال هذه النفوس والقلوب لا تفيض إلا بالرحيق السلسبيل في الأدب والأخلاق. ولا يمكن أن يمتري منصف في قوة الخلق عند أولئك القوم، وإن جهد ناس في رميهم بالحصيات، أما الأدب فحسبهم من التفوق فيه أن تفردوا بالإخلاص، والإخلاص هو أساس العظمة في جميع الميادين.
بين العقل والدين
واهتمام الصوفية بالجمال ساقهم إلى فن من الأدب الرفيع: هو الكلام عن فضل العفاف، وكلامهم فيهم مزاج من الأدب والأخلاق، ومن الصحف الباقية ما كتبه ابن القيم عن عفاف يوسف، إذ بين «أن الداعي الذي اجتمع في حقه لم يجتمع في حق غيره، فإنه
صلى الله عليه وسلم
كان شابا، والشباب مركب الشهوة، وكان عزبا ليس عنده ما يعوضه، وكان غريبا عن أهله ووطنه، والمقيم بين أهله وأصحابه يستحي منهم أن يعلموا به فيسقط من عيونهم، فإذا تغرب زال هذا المانع، وكان في صورة المملوك والعبد لا يأنف مما يأنف منه الحر، وكانت المرأة ذات منصب وجمال، والداعي مع ذلك أقوى من داعي من ليس كذلك، وكانت هي المطالبة فيزول بذلك كلفة تعرض الرجل وطلبه وخوفه من عدم الإجابة، وزادت مع الطلب الرغبة التامة والمراودة التي يزول معها ظن الامتحان والاختبار لتعلم عفافه من فجوره، وكانت في محل سلطانها وبيتها بحيث تعرف وقت الإمكان ومكانه الذي لا تناله العيون، وزادت مع ذلك تغليق الأبواب لتأمن هجوم الداخل على بغتة، وأتته بالرغبة والرهبة، ومع هذا كله عف لله ولم يطعها، وقدم حق الله وحق سيده على ذلك كله، وهذا أمر لو ابتلي به سواه لم يعلم كيف كانت تكون حاله».
24
إن حوادث الصوفية في الحب العفيف كانت تروى، وهي آيات من الأدب الممتع، وأي جمال فات هذه القصة، وقد رواها المبرد بسنده عن رجاء بن عمرو النخعي قال:
كان بالكوفة فتى جميل الوجه، شديد التعبد والاجتهاد، فنزل في جوار قوم من النخع فنظر إلى جارية جميلة فهويها وهام بها عقله، ونزل بالجارية ما نزل به، فأرسل يخطبها من أبيها، فأخبره أبوها أنها مسماة لابن عم لها ، فلما اشتد عليهما ما يقاسيانه من ألم الهوى أرسلت إليه الجارية: قد بلغني شدة محبتك لي، وقد اشتد بلائي بك، فإن شئت زرتك، وإن شئت سهلت لك أن تأتيني إلى منزلي، فقال للرسول: ولا واحدة من هاتين الخلتين، إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم، أخاف نارا لا يخبو سعيرها، ولا يخمد لهيبها، فلم أبلغها الرسول قوله قالت: وأراه مع هذا يخاف الله؟ والله ما أحد أحق بهذا من أحد، وإن العباد فيه لمشتركون. ثم انخلعت من الدنيا وألقت علائقها خلف ظهرها وجعلت تتعبد، وهي مع ذلك تذوب وتنحل حبا للفتى وشوقا إليه حتى ماتت من ذلك، فكان الفتى يأتي قبرها فيبكي عنده، ويدعو لها، فغلبته عينه ذات يوم على قبرها فرآها في منامه في أحسن منظر، فقال: كيف أنت، وما لقيت بعدي؟ فقالت:
نعم المحبة يا سؤلي محبتكم
حب يقود إلى خير وإحسان
فقال: على ذلك، إلام صرت؟ فقالت:
إلى نعيم وعيش لا زوال له
في جنة الخلد ملك ليس بالفاني
فقال لها: اذكريني هناك، فإني لست أنساك. فقالت: ولا أنا والله أنساك، ولقد سألت مولاي ومولاك أن يجمع بيننا فأعني على ذلك بالاجتهاد. فقال لها: متى أراك؟ فقالت: ستأتينا عن قريب فترانا، فلم يعش الفتى بعد الرؤيا إلا سبع ليال حتى مات رحمه الله.
25
فهذه القصة من وضع الصوفية، وهي من القصص التعليمية التي ألفت لرياضة النفس على إيثار العفاف، وهي - على جمال مغزاها من الوجهة الخلقية - متخيرة الألفاظ، بارعة الخيال.
وأجمل من هذه القصة وأمتع ما حدثوا أن امرأة جميلة كانت بمكة، وكان لها زوج، فنظرت يوما إلى وجهها في المرآة فقالت لزوجها: أترى أحدا يرى هذا الوجه ولا يفتن؟ قال: نعم. قالت: من؟ قال: عبيد بن عمير. قالت: فائذن لي فيه فلأفتننه! قال: قد أذنت لك. فأتته كالمستفتية، فخلا معها في ناحية من المسجد الحرام، فأسفرت عن وجه مثل فلقة القمر، فقال لها: يا أمة الله، استتري! فقالت: إني قد فتنت بك! فقال: إني سائلك عن شيء، فإن أنت صدقتني نظرت في أمرك. قالت: لا تسألني عن شيء إلا صدقتك. قال: أخبريني لو أن ملك الموت أتاك ليقبض روحك، أكان يسرك أن أقضي لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت، فلو دخلت قبرك وأجلست للمسائلة، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت، فلو أن الناس أعطوا كتبهم ولا تدرين أتأخذين كتابك بيمينك أم بشمالك، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت، فلو أردت الممر على الصراط ولا تدرين هل تنجين أو لا تنجين، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت، فلو جيء بالميزان وجيء بك فلا تدرين أيخف ميزانك أم يثقل، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت، فلو وقفت بين يدي الله للمساءلة أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت. ثم قال: اتقي الله فقد أنعم عليك، وأحسن إليك.
فرجعت إلى زوجها فقال: ما صنعت؟ فقالت: أنت بطال ونحن بطالون! وأقبلت على الصلاة والصوم والعبادة، فكان زوجها يقول: ما لي ولعبيد بن عمير، أفسد علي أمرأتي، كانت في ليلة عروسا فصيرها راهبة.
26
أرأيتم ما في هذه القصة من وجوه التربية الخلقية؟
إن هذا الفن من الأقاصيص هو من وضع الصوفية ومن نحا نحوهم من أهل الزهد والعفاف، وهو بما فيه من عناصر الصدق والإخلاص خليق بمطاردة ما وضع المفسدون من أخبار الفسق والمجون، فإن لم يكن الصوفية خلقوا هذا الفن فهم الذي أحيوه وأذاعوه، فإليهم الفضل في حياته على كل حال، وهو فضل ليس بالقليل.
ويتصل بهذا روايتهم للأخبار القصيرة التي تردع الهوى، وترد شارد العقل، من أمثال هذه الكلمات:
قال إبراهيم بن أبي بكر بن عياش: شهدت أبي عند الموت فبكيت، فقال: ما يبكيك؟ فما أتى أبوك فاحشة قط. وقال عمر بن حفص بن غياث: لما حضرت أبي الوفاة أغمي عليه فبكيت عند رأسه، فقال لي حين أفاق: مايبكيك؟ قلت: أبكي لفراقك، ولما دخلت فيه من هذا الأمر - يعني القضاء - فقال: لا تبك، فإني ما حللت سراويلي على حرام قط، ولا جلس بين يدي خصمان فباليت على من توجه الحكم عليه منهما. وقال سفيان بن أحمد: شهدت الهيثم بن جميل وهو يموت، وقد سجي نحو القبلة، فقامت جارية تغمز رجليه، فقال اغمزيهما، فإن الله يعلم أنهما ما مشتا إلى حرام قط.
27
ولهذه الكلمات نظائر كثيرة جدا، وهي تؤيد ما ذهبنا إليه من أن اهتمام الصوفية بالجمال ساقهم إلى فنون ممتعة من صور الأدب والأخلاق.
ولكن هل وقفت الصوفية في حرب الهوى عند ابتداع هذه الأقاصيص؟ هيهات! فقد وضعوا طرائق للرياضة النفسية تعد من أبدع الدساتير في عالم الأخلاق، وهم يوصون مدمني الشهوات بملاحظة الأمور الآتية، وهي كفيلة بتخليص أسير الهوى من براثن الشيطان:
الأول:
عزيمة حر يغار لنفسه وعليها.
الثاني:
جرعة صبر يصبر نفسه على مرارتها تلك الساعة.
الثالث:
قوة نفس تشجعه على شرب تلك الجرعة، والشجاعة كلها صبر ساعة، وخير العيش ما أدركه العبد بصبره.
الرابع:
ملاحظته حسن موقع العاقبة، والشفاء بتلك الجرعة.
الخامس:
ملاحظته الألم الزائد على لذة طاعة هواه.
السادس:
إبقاؤه على منزلته عند الله تعالى وفي قلوب عباده، وهو خير وأنفع له من لذة مرافقة الهوى.
السابع:
إيثار لذة العفة وعزتها وحلاوتها على لذة المعصية.
الثامن:
فرحه بغلبة عدوه، وقهره له. ورده خائبا بغيظه وغمه وهمه، حيث لم ينل منه أمنيته.
28
التاسع:
التفكير في أنه لم يخلق للهوى، وإنما هيء لأمر عظيم لا يناله إلا بمعصية الهوى.
العاشر:
أن لا يختار لنفسه أن يكون الحيوان البهيم أحسن حالا منه، فإن الحيوان يميز بطبعه بين مواقع ما يضره وما ينفعه، فيؤثر النافع على الضار، والإنسان أعطى العقل لهذا المعنى.
29
الحادي عشر:
أن يسير بفكره في عواقب الهوى: فيتأمل كم أفاتت معصيته من فضيلة، وكم أوقعت في رذيلة، وكم أكلة منعت أكلات، وكم من لذة فوتت لذات، وكم من شهوة كسرت جاها، ونكست رأسا، وقبحت ذكرا، وأورثت ذما، وألزمت عارا لا يغسله الماء، غير أن عين الهوى عمياء.
الثاني عشر :
أن يتصور العاقل انقضاء غرضه ممن يهواه، ثم يتصور حاله بعد قضاء الوطر، وما فاته وما حصل له.
الثالث عشر:
أن يتصور ذلك في حق غيره حق التصور، ثم ينزل نفسه تلك المنزلة، فحكم الشيء حكم نظيره.
الرابع عشر:
أن يتفكر فيما تطالبه به نفسه من ذلك، ويسأل عنه عقله ودينه يخبرانه بأنه ليس بشيء.
الخامس عشر:
أن يأنف لنفسه من ذل طاعة الهوى، فإنه ما أطاع أحد هواه إلا وجد في نفسه ذلا، ولا يغتر بصولة أتباع الهوى وكبرهم، فهم أذل الناس بواطن، قد جمعوا بين الكبر والذل.
السادس عشر:
أن يوازن بين سلامة الدين والعرض والمال والجاه، وبين نيل اللذة المطلوبة، فإنه لا يجد بينهما نسبة ألبتة، فليعلم أنه من أسفه الناس يبيعه هذا بهذا.
السابع عشر:
أن يأنف لنفسه أن يكون تحت قهر عدوه، فإن الشيطان إذا رأى من العبد ضعف عزيمة وسقوط همة، وميلا إلى هواه طمع فيه وصرعه، وألجمه بلجام الهوى، وساقه حيث أراد، ومتى أحس منه بقوة عزم وشرف نفس وعلو همة لم يطمع فيه إلا اختلاسا وسرقة.
الثامن عشر:
أن يعلم أن الهوى ما خالط شيئا إلا أفسده، فإن وقع في العلم أخرجه إلى البدعة والضلالة، وصار صاحبه من جملة أهل الأهواء، وإن وقع في الزهد أخرج صاحبه إلى الرياء ومخالفة السنة، وإن وقع في الحكم أخرج صاحبه إلى الظلم وصده عن الحق، وإن وقع في القسمة خرجت عن قسمة العدل إلى قسمة الجور، وإن وقع في الولاية والعزل أخرج صاحبه إلى خيانة الله والمسلمين حيث يولي بهواه، ويعزل بهواه، وإن وقع في العبادة خرجت عن أن تكون طاعة وقربة، فما قارن الهوى شيئا إلا أفسده.
التاسع عشر:
أن يعلم أن الشيطان ليس له مدخل على ابن آدم إلا من باب هواه، فإنه يطيف به ليعرف أين يدخل عليه حتى يفسد قلبه وأعماله، فلا يجد مدخلا إلا من باب الهوى فيسري منه سريان السم في الأعضاء.
العشرون:
أن يتذكر أن مخالفة الهوى تورث العبد قوة في بدنه وقوة في لسانه، وأن أغزر الناس مروءة أشدهم مخالفة لهواه، وأنه ما من يوم إلا والهوى والعقل يعتلجان، فأيهما قوي على صاحبه طرده وتحكم وكان الحكم له، وأن الله سبحانه جعل الخطأ واتباع الهوى قرينين، وجعل الصواب ومخالفة الهوى قرينين.
الحادي والعشرون:
أن يعرف أن الهوى تخليط ومخالفته حمية، وأنه يخاف على من أفرط في التخليط وجانب الحمية أن يصرعه داؤه. وأن الهوى رق في القلب، وغل في العنق، وقيد في الرجل، ومتابعه أسير، فمن خالفه عتق من رقه وصار حرا، وخلع الغل من عنقه، والقيد من رجله، واستطاع مسايرة الصالحين.
30
وهذه الأمور لخصناها من كلام مطول أثبته ابن القيم في نهاية كتابه الممتع (روضة المحبين) وقد وصل به اجتهاده إلى نحو خمسين وسيلة لدعوة النفس إلى حرب الهوى. وفي هذه الشواهد مقنع لمن يمتري في مزج الصوفية بين العقل والدين، فهم لا يعتمدون على الشرع وحده، وإنما يجعلون الكرامة الإنسانية مما تنصب له الموازين، وهل كان الشرع في جوهره إلا مبعث يقظة للعقل والوجدان؟
الموسيقا والغناء
فضل الموسيقا في التذكير بعالم الأرواح
ليس من المبالغة أن نحكم بأن الصوفية تفردوا بين أهل الأدب والأخلاق بالتجويد في الموسيقا والغناء، فهم الذين نظروا في ذلك نظرا فلسفيا، وهم الذين جعلوا الموسيقا والغناء من المشاكل الخلقية، وهم الذين صيروا إنشاد الشعر في المحافل العلنية بابا من الأدب الرفيع.
ولنبدأ هذا الفصل بتحليل الحوار الممتع الذي وضعه إخوان الصفا في فضل الأنغام الموسيقية، فهو يمثل فهم الصوفية لأثر الموسيقا في تثقيف الأرواح والقلوب.
حدثوا أن جماعة من الحكماء والفلاسفة اجتمعوا في دعوة ملك من الملوك فأمر أن يكتب كل ما يتكلمون به من الحكمة، فلما غنى الموسيقار لحنا مطربا قال أحد الحكماء: إن للغناء فضيلة يتعذر على المنطق إظهارها، ولم يقدر على إخراجها بالعبارة فأخرجها النفس لحنا موزونا، فلما سمعتها الطبيعة استلذتها وفرحت وسرت بها فاسمعوا من النفس حديثها ومناجاتها.
وقال آخر: احذروا عند استماع الموسيقا أن تثور بكم شهوات النفس البهيمية نحو زينة الطبيعة، فتميل بكم عن سنن الهوى وتصدكم عن مناجاة النفس العليا.
وقال آخر للموسيقار: حرك النفس نحو قواها الشريفة من الحلم والجود والشجاعة والعدل والكرم والرأفة، ودع الطبيعة لا تحرك شهواتها البهيمية.
وقال آخر: الموسيقار إذا كان حاذقا بصنعته حرك النفوس نحو الفضائل ونفى عنها الرذائل.
وقال آخر: سمع فليسوف نغمة القينات فقال لتلميذه: امض بنا نحو هذا الموسيقار لعله يفيدنا صورة شريفة، فلما قرب منه سمع لحنا غير موزون ونغمة غير طيبة فقال لتلميذه: زعم أهل الكهانة أن صوت البوم يدل على موت إنسان، فإن كان ما قالوا صدقا فصوت هذا الموسيقار يدل على موت البوم!
وقال آخر: الموسيقار وإن كان ليس بحيوان فهو ناطق فصيح يخبر عن أسرار النفوس وضمائر القلوب.
1
وقال آخر: لا يفهم معاني الموسيقار ولطيف عبارته عن أسرار الغيوب إلا النفوس الشريفة الصافية من الشوائب الطبيعية، والبريئة من الشهوات البهيمية.
وقال آخر: إن النفوس الناطقة إذا صفت عن الشهوات الجسمانية، وزهدت في الملاذ الطبيعية، وانجلت عنها الأصدية الهيولاينة، ترنمت بالألحان الحزينة، وتذكرت عالمها الروحاني الشريف العالي، وتشوفت نحوه فإذا سمعت الطبيعة ذلك اللحن تعرضت للنفس بزينة أشكالها، ورونق أصباغها، كيما تردها إليها، فاحذروا من مكر الطبيعة أن تقعوا في شبكتها.
وقال آخر: إنما تشخص أبصار الناظرين إلى الوجوه الحسان؛ لأنها أثر من عالم النفس، ولأن عامة المرئيات في هذا العالم غير حسان لما يعرض لها من الآفات الشائنة المشوهة، إما في أصل التركيب أو بعده. وبيان ذلك أن الصغر من المواليد يكونون ألطف بنية وأظرف شكلا وصورة لقرب عهدها من فراغ الصانع منها، وهكذا حكم ما يرى من حسن الثياب ورونقها في مبدأ كونها قبل الآفات العارضة لها من الهوام والبلى والفساد.
اختلاف الناس في فهم الصور المعنوية للموسيقا والغناء
تلك فقرات قصيرة من الحوار الطويل الذي كتبه إخوان الصفا في فضل الموسيقا والغناء
2
ولم ننقل الحوار برمته لأن منهج البحث لا يحتم ذلك. ويكفي أن ندل القارئ على الغرض الذي وضع لأجله ذلك الحوار، وهذه الفقرات تشير إلى أنهم يتمثلون أصولا روحانية للهياكل الجسمانية، ويتصورون أن الغناء قد يوجه النفس إلى الخير حينا، وإلى الشر أحيانا، يوجهها إلى الخير حين ينبه الموسيقار إلى الواجب الأشرف في تحريك النفوس نحو قواها الشريفة من الحلم والجود والشجاعة والعدل، ويوجهها إلى الشر حين يتغنى بالشهوات الحسية فيثير في النفس أسباب الشوق إلى موارد الغي والضلال.
وإخوان الصفا من الصوفية، وإن لم يصرحوا بذلك، وهم يستشهدون بكلام أهل التصوف في مواطن كثيرة، وفي هذا الباب نقلوا من نوادرهم ما يؤيد رأيهم في اختلاف التأثيرات الموسيقية باختلاف النفوس. وهم يرون أن «كل نفس إذا سمعت من الأوصاف ما يشاكل معشوقها، ومن النغمات ما يلائم محبوبها، فرحت وسرت والتذت بحسب ما تصورت من رسوم معشوقها، واعتقدت في محبوبها، وتلك المعشوقات تختلف باختلاف الطباع، فللطبع السليم معشوقات روحانية، وللطبع العليل معشوقات أرضية، وقد صرحوا بأن أبصار الناظرين تشخص إلى الوجوه الحسان لأنها أثر من عالم النفس، كأن ذلك العالم كله جمال. وعلى هذا الأساس يكون الغناء العذب تذكيرا بالمحاسن المغيبة في عالم الأرواح».
الألحان في الأغاني الدينية وفي القرآن
والحق أن الغناء كان منذ الزمن القديم عنصرا حبا في التقاليد الدينية، وكان من الأنبياء من يعتمد على صوته الجميل في جذب الناس، ففي الحديث أن داود عليه السلام قد أعطي حسن الصوت حتى كان يستمع لقراءته إذا قرأ الزبور الجن والإنس والوحش والطير
3
وكان بنو إسرائيل يجتمعون فيستمعون، وكان يحمل من مجلسه أربع مئة جنازة ممن قد مات».
3
ولا تزال الكنائس المسيحية منذ نشأتها الأولى عامرة بالأناشيد، وللكنائس الفرنسية تأثير في الموسيقا والغناء يعرفه من يهتم باللوحات الغنائية، وقد جمعت عددا وفيرا من أناشيد الرهبان، ولا سيما الأناشيد المعروفة بالجريجوارية.
والقرآن نفسه لحن وقرئ بالألحان منذ عهد الرسول، وصح للجاحظ أن يحكم بأن القراءة بالألحان غير الغناء.
4
وكذلك درج الصوفية على مدح الصوت الحسن فكان ذو النون يراه مخاطبات وإشارات إلى الحق أودعها كل طيب وطيبة
5
وكان يحيى بن معاذ يراه روحة من الله لقلب فيه حب الله.
5
رأي الصوفية في السماع
وأهم ما امتاز به الصوفية هو التحرز في السماع، وهم يكرهونه إذا تطرق إلى الغرض منه الفساد والمخالفة واللهو وترك الحدود
6
وعندهم ما يسمى السماع بالحال، والذي يسمع بحاله يتأمل إذا سمع حتى يرد عليه معنى من ذكر عتاب أو خطاب، أو ذكر وصل أو هجر، أو قرب أو بعد، أو تأسف على فائت، أو تعطش إلى ما هو آت، أو ذكر طمع، أو يأس أو بأس، أو بسط أو استئناس، أو خوف الافتراق، أو وفاء بالعهد، أو تصديق بالوعد، أو نقض للعهد، أو ذكر قلق أو اشتياق، أو فرح الاتصال، أو ترح الانفصال، أو التحسر على ما لم ينل، أو القنوط من الذي أمل، أو ذكر صفاء المحبة، أو التمكن من المودة، أو ذكر اعتراض الصبوة بعد تمكنه من الحظوة، أو ذكر محافظة الرقيب عند ملاحظة الحبيب، أو تباريح الشجون، وفنون الفتون، فإذا طرق سمعه من ذلك حال مما يوافق حاله فيكون كالقادح يقدح في سره على قدر قوة إرادته فيعجز عن الضبط.
7
وعندهم السماع بالحق ومن الحق، والذي يسمع بالحق ومن الحق لا يلتفت إلى هذه الأحوال؛ لأنها وإن كانت شريفة فهي ممزوجة بحظوظ البشرية، والذين يكون سماعهم بالله ولله ومن الله وإلى الله هم الذين وصلوا إلى الحقائق وعبروا الأحوال، وفنوا عن الأفعال والأقوال، ووصلوا إلى محض الإخلاص وصفاء التوحيد، فخمدت بشريتهم، وفنيت حظوظهم، وبقيت حقوقهم، فشهدوا موارد الحق بالحق بلا علة ولا حظ للبشرية، وأطلعتهم تلك الموارد على أسرار حكمته، وأرتهم آثار قدرته، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
8
حسن النية وشرف القصد هما الأساس في إباحة الغناء
وينبغي أن نتذكر أن الصوفية تفردوا بين رجال الدين بالتشيع للموسيقا والغناء، فمن الفقهاء من يرى أن الغناء لهو مكروه يراد به الباطل، ويقضي بأن من استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته،
9
وذلك الفقيه هو الشافعي رحمه الله. أما مالك فقد نهى عن الغناء وقال: إذا اشترى جارية فوجدها مغنية كان له ردها، وهو مذهب سائر أهل المدينة إلا إبراهيم بن سعد.
10
وأما أبو حنيفة فكان يجعل سماع الغناء من الذنوب.
10
أما الصوفية فقد أقبلوا على الغناء، ولم يشترطوا إلا حسن النية، وشرف القصد، وتفردت الطريقة المولوية باستجازة العزف على الآلات الموسيقية على اختلاف أنواعها أثناء مجلس الذكر، وكان لهذه الطريقة أشياع في الأقطار الفارسية والتركية، وكان لهم في مصر تكية في حي السيوفية بالقاهرة، وكانت لهم حضرة أسبوعية يتشوف إليها المولعون بالموسيقا والغناء، وقد أغلقت الحكومة المصرية تلك التكية، ورأينا يوم إغلاقها جماعة من أهل الأدب يعترضون في الجرائد على حرمان الموسيقا من براعة أولئك القوم.
11
والذي يراجع كتب التصوف يراها تفيض بالكلام عن الوجد والسماع وآداب المستمعين. وفي كتاب الإحياء فصل ممتع لخصته وناقشته في كتاب الأخلاق عند الغزالي
12
ولا أرى العود إلى تلخيصه في هذا الحديث، ويكفي أن يتذكر القارئ أن عناية الصوفية بالكتابة عن الموسيقا والغناء فيها وساوس كثيرة تمثل عنايتهم بالفنون وحرصهم على الأخلاق.
13
بين الفقهاء والصوفية
أما طريقة التغني في مجالس الصوفية فقد بينها الأستاذ التفتازاني في مقال نشره في مجلة المعرفة - عدد يونيه سنة 1931 - وهو يقول: «إن الصوفية درجوا منذ القديم على أن يبدأوا مجالس الذكر ب (لا إله إلا الله) وتعرف عندهم بالأرضية، ويأخذ (الرسيم) الذي هو رئيس المجلس في التدرج بالذاكرين أثناءها من الراست «الرصد» إلى الدوكه إلى السيكاه إلى الجهر كاه (الجركاه) إلى الحجاز ثم الرهاوي فالكردي فالبياتي فالصبا. وهنا تبدو مقدرة الرئيس في نقل الذاكرين من نغمة إلى نغمة كما تبدو مقدرة المنشدين في متابعتهم للأنغام والإنشاد. والغالب في الإنشاد على الأرضية أن يكون من كلام الصوفية كقولهم:
إلهي توسلنا بجاه محمد
نبيك وهو السيد المتواضع
أنلنا مع الأحباب رؤيتك التي
إليها قلوب الأولياء تسارع
إلى آخر القصيدة، ثم ينفرد رئيس المنشدين بعد الوصول إلى نغمة الرصد أو إلى النغمة التي ينتهي عندها إنشاد القصيدة بالاستغاثة (أغثنا أدركنا يا رسول الله ) ثم يقول الموال من نفس النغمة، فالأبيات التي سينشدها عند قيام المجلس من نفس النغمة أيضا ينشدها على الأرض مقطعة، وعند قيام الذاكرين يكرر الأبيات بالطريقة المألوفة، ثم ينفرد بعد ذلك بالمقطعات والقصائد والرقائق وما إليها من كلام الصوفية. وقد يستبيح بعضهم أن ينشد الأدوار الموسيقية بمذاهبها وورودها المعروفة على مجلس الذكر، ولكن هذه الطريقة قاهرية محضة، ويكاد لا يتبعها إلا رجال الطريقة الليثية أصحاب الفضل على هذا الفن وأساتذة مبرزيه وحملة ألويته في القاهرة منذ مائتي عام».
طرائق الإنشاد في مجالس الذكر
وقد لا حظت أن مجالس الصوفية كانت تنقلب أحيانأ إلى مجالس فنية، فهي مجالس تعقد ظاهرا لذكر الله، ولكن الغرض منها الغناء. فقد كان في حي الحسين منزل تقام فيه حضرة كل ليلة ثلاثاء. وكان ذكر الله في الصورة الشكلية يتولاه طائفة من العجزة عجزة الدراويش، أما نظام المجلس فيقوم على فن الشيخ حسن الحويحي، وكان منشدا حلو الصوت، عذب الأداء، خفيف الروح، وكان ينشد في الحضرة أبياتا من شعر ابن الفارض، مثل:
ما بين معترك الأحداق والمهج
أنا القتيل بلا إثم ولا حرج
ثم يندفع فيغني «آنست يا نور الوجود، شرفت يا روح المهجة، بعد البعاد أنا قلبي عليك» أو «الكمال في الملاح صدف» إلى آخر الأغاني الطريفة التي كانت تغنى في الليالي الملاح.
وكنت ألاحظ أن أهل ذلك المنزل يجعلون ليلة الحضرة ليلة قصف فيجمعون خلانهم حول الموائد ويتندرون بأطايب الأحاديث.
وكان المستمعون يقترحون «الأدوار» على نحو ما كانوا يفعلون في حفلات الطرب والأنس، وقد اقترح بعضهم دور «حود من هنا وتعال عندنا»؛ فغضب الشيخ الحويحي وقال: نحن لسنا في الأزبكية ... أما أنا فكنت أفهم من شواهد الحال أن الأزبكية ليست منهم ببعيد!
وكان الشيخ الحويحي ريحانة عصره، فلما انتقل إلى جوار ربه تعطلت تلك الحضرة، فما استطاع منشد آخر أن يجذب القلوب إلى ذلك المكان.
14
مجالس الصوفية تنقلب أحيانا إلى مجالس فنية
وكانت مجالس الذكر مدرسة لتخريج المغنين ففيها ظهرت تباشير النبوغ للمرحومين عبده الحامولي، ومحمد عثمان، وسلامة حجازي، ويوسف المنيلاوي، وسيد درويش. وفي القرى المصرية مئات من قراء الموالد هم في الأصل من أتباع الصوفية.
أثر الغناء في الأدب
واهتمام الصوفية بالغناء عاد على الأدب بكثير من النفع؛ فهناك مجموعات شعرية وضعت لحفظ الأناشيد الصوفية، منها سفينة النجاة، وهي مجموعة صنفت منذ عشرين عاما صنفها الأديب محمود نسيم، وقد عاونته على ترتيبها يوم كنت موصول العهد بالسادة الشاذلية.
وقد انتقل فريق من تلك الأناشيد إلى الأغاني الحسية، أغاني المرح والطرب في عالم الحس الذي يتاخم عالم الروح. ومنذ ليال كان صالح عبد الحي يغني في قاعة المذياع:
إن شكوت الهوى فما أنت منا
احمل الصد والجفا يا معنى
وهي قصيدة صوفية يتلقاها أكثر الناس بالقبول، وهي في أنفسهم صورة من الوجد الحسي المشبوب.
وأكثر الأغاني الصوفية رمزيات وفيها ما يفصح عن أغراضهم كالذي نراه في هذه الحائية:
أبدا تحن إليكم الأرواح
ووصالكم ريحانها والراح
وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم
وإلى لذيذ لقائكم ترتاح
وا رحمتا للعاشقين تكلفوا
ستر المحبة والهوى فضاح
بالسر إن باحوا تباح دماؤهم
وكذا دماء البائحين تباح
يا صاح ليس على المحب ملامة
إن لاح في أفق الوصال صباح
سمحوا بأنفسهم وما بخلوا بها
لما دروا أن السماح رباح
ودعاهم داعي الحقائق دعوة
فغدوا بها مستأنسين وراحوا
ركبوا على سنن الوفا، ودموعهم
بحر، وحادي شوقهم ملاح
والله ما طلبوا الوقوف ببابه
حتى دعوا وأتاهم المفتاح
لا يطربون لغير ذكر حبيبهم
أبدا فكل زمانهم أفراح
حضروا فغابوا عن شهود ذواتهم
وتهتكوا لما رأوه وصاحوا
أفناهم عنهم وقد كشفت لهم
حجب البقا فتلاشت الأرواح
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
إن التشبه بالكرام فلاح
15
بين الرمز والإفصاح
وفي الصوفية من اهتم بتحديد المعاني المنقولة من الحسيات إلى الذوقيات، فقد حدث ابن عربي أن من سماعهم قول ابن حيوس:
أسكان نعمان الأراك تيقنوا
بأنكم في ربع قلبي سكان
ودوموا على حفظ الوداد فطالما
بليت بأقوام إذا استحفظوا خانوا
سلوا الليل عني مذ تناءت دياركم
هل اكتحلت بالنوم لي فيه أجفان
ثم قال: «السماع الروحاني في ذلك: سكان نعمان الأراك هم العارفون في نعيم حضرة المشاهدة ومحلها قلوبهم. يقول لطيفته الربانية لهذه الهمم: داوموا فإني دفعت إلى نفوس أخذ عليها العهد الإلهي في الميثاق الأول فخانوا، ثم أخذ يصف نفسه بالقيومية تخلقا إلهيا، أي على قدر التجرد من عالم التركيب الذي هو محل النوم إلى العالم الأنزه الأقدس الذي لا نوم فيه ميراثا نبويا من أنه لا ينام قلبه
صلى الله عليه وسلم ، ثم أخذ يخاطب الهمم أن لمعان سيوفها إذا برقت من منازلها منازل الأحبة فغمد هاتيك السيوف أجفاني، أي لا أنام، يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار».
16
وهذه العبارة فيها حيرة، حيرة ابن عربي بين مقام الله ومقام الرسول، وسبب ذلك يرجع إلى قوله بالحقيقة المحمدية، فالنبي مألوه من جانب وإله من جانب، فهو رب ومربوب، هو رب حين تراه صاحب الفضل على جميع الموجودات، وهو مربوب حين تتصور تبعيته لواجب الوجود، وقد فصلنا هذه القضية في الجزء الأول تمام التفصيل.
ثم حدثنا أن من سماع الصوفية قول مهيار:
من ناظر لي بين سلع وقبا
17
كيف أضاء البرق أم كيف خبا
نبهني وميضه ولم تنم
عيني ولكن رد قلبا عزبا
برق له قد صار قلبي خافقا
18
واستبردته أضلعي ملتهبا
يالبعيد من منى دنا به - يوهمني الصدق - بريق كذبا
ولنسيم سحر بحاجر
ردت به عهد الصبا ريح الصبا
ألية ما فتح العطار عن
أعبق منها نفسا وأطيبا
سل من يدل الناشدين بالغضا
على الطريد ويرد السلبا
أراجع لي - والمنى تعلة -
وطالع نجم زمان غربا
وطوقة بين القباب بمنى
لا خائفا عينا ولا مرتقبا
ثم قال: «السماع الروحاني للعارف في ذلك: من ناظر لي بين المقامات المحمدية كيف لمع برق المعرفة، أم كيف خبا مطويا في غيم الكون، أيقظني لمعانه على أن عيني ما نامت عنه، ولكن كان العقل منصرفا إلى عالم التدبير فرده إلى العالم المدبر، فسكنت له همم القلوب بعد طيرانها خضعا كسلسلة على صفوان ، واستبردت برد السرور ما كان حاميا بنور التنزلات الإلهية، فلما لاح له المعين من خلق خلقة الرصد مثال النور المنزل ليقبله منه عرفه بالحفظ الإلهي فقال: يوهمني الصدق بريق كذب. ثم رجع ينادي أيضا بالبعد من عالم الأنفاس في البرزخ المشترك بين النور والظلمة دل عليه وعلى عصر شبابه ريح الصبا وشروق نفس التنفس من نفس الرحمن بما هو أطيب من المسك عرفا ونشرا، ثم قال: سل من يدل الناشدين قلوبهم بمقام الاشتياق على الطريق عن البناء الأعز، ويرد قلبا أخذ منه على غرة، ثم قال: أراجع لي ذلك السلب، والمنى قد تكون أماني، وهل يطلع نجم سعد غرب؟ أي صار في الحجاب. وهل أراني طائفا مترددا بين القباب الساترة شموسا لا خائفا بقول: لم؟ ولا مترقبا وعد حصول الاتصال وانتظام الشمل بالأحباب».
19
وهذا الكلام على ركاكته واضح المدلول، فهو يعني أن الصوفية قد يتغنون بأشعار حسية، ولكنهم ينقلونها إلى آفاق روحانية.
وما احتاج ابن عربي إلى هذا الشرح إلا لأنه كان مشغوفا بتقعيد التصوف، أي إقامته على قواعد وأصول.
وكان الأفضل أن يترك هذه المعاني بلا شرح، فللأرواح آفاق أوسع وأرحب مما يظن، والصوفي الموصول القلب والروح بعالم المعاني قد يفهم من الغناء أشياء لا يصل إليها شرح ولا تفسير ولا تأويل.
وشعراء الحواس أنفسهم لا تفتنهم «ليلى» من حيث هي امرأة، وإنما يتمثلون بها معاني كثيرة جدا، منها الهجر والوصل والعذاب والنعيم.
والصوفي يعجز حقا وصدقا عن شرح أسباب هيامه حين يسمع الغناء، ومثله مثل الموسيقار الحساس الذي يطرب من حيث لا يعرف بالضبط كيف طرب.
والصوفي الحق لا ينكر المحسوسات، فهو قد يحب «ليلى» الحقيقية بجانب «ليلى» المجازية؛ لأن ليلى الحقيقية سطر جميل في لوح الوجود.
الصوفي الحق لا يحتاج إلى التبرؤ من جميع المحسوسات كما يتبرأ أمثال ابن عربي؛ لأن المحسوسات هي التصوير للمعقولات، وهي المفتاح الذي تدخل به فردوس المعاني.
الصوفي الحق يرتاح لكل قول، ولكل صوت، ولكل منظر، ولكل مخبر، وهذه المرئيات ليست من الأوهام، وإنما هي شواهد تشير إلى حقائق، كما تشير الألفاظ إلى المعاني.
الصوفي الحق يعذر جميع المضللين وجميع المفتونين؛ لأنهم في رأيه من السالكين وإن جهلوا الطريق.
الصوفي الحق يطرب لكل شيء، ويأنس بكل شيء، ويتغافل عن الشروح؛ لأنها تفسد النفحات الوجدانية التي تأخذ عبيرها من الإبهام والغموض.
الصوفي الحق لا يعرف ماذا يريد، وهل كان مجنون ليلى يعرف بالضبط ماذا يريد؟
الصوفي الحق يرتاح إلى الحيرة كما يرتاح الجاهلون إلى اليقين. •••
اللهم ضللني في هواك، واجعلني وحدي أسير الضلال في هواك، فبفضلك ورحمتك ذاق العارفون طعم الضلال.
وهل كانت الهداية الصريحة إلا نصيب الأغبياء!
الآداب الصوفية عند الشعراني
مولد الشعراني ونشأته
رأينا من الخير أن ندرس بعض الشخصيات الصوفية التي اهتمت بنشر محاسن الأخلاق، فبدا لنا أن نكتب فصلا عن الغزالي، ثم تذكرنا أننا نشرنا عنه كتابا في أكثر من أربع مئة صفحة هو «الأخلاق عند الغزالي» الذي قدمناه إلى الجامعة المصرية في سنة 1924 وتذكرنا أيضا أن مؤلفات الغزالي كانت من أهم مراجع هذا الكتاب، فنحن ما نسيناه حتى نفرده ببحث خاص.
وبعد التأمل رأينا أن ندرس إحدى الشخصيات المصرية التي أثرت أبلغ التأثير في ذيوع الثقافة الصوفية بين المصريي، فرأينا الشعراني أكبر شخصية أثرت في الأذواق المصرية، وسيطرت على الجماهير زمنا غير قليل.
وقد يكون من أسباب ميلي إلى درس هذه الشخصية أن الشعراني عرف سنتريس - وفي ألفاظه وتعابيره أخيلة لا تزال حية في سنتريس - فقد نشأ في ساقية أبي شعرة وهي بلدة تجاور بلدنا ولنا فيها أقارب وأصدقاء. ومن أجل نشأته في ساقية أبي شعرة سمي الشعراني، وهو عند نفسه يسمى الشعراوي، وهو اسم كثير الذيوع في البلاد المصرية كان يسمى به الناس أبناءهم تيمنا بذلك الإمام الجليل.
ويظهر أن شخصية الشعراني غرست في ساقية أبي شعرة حب التصوف فلا تزال عامرة بذكريات الأولياء، ولا يزال أهلها يقيمون الموالد وينشرون آداب الطريق، وقد بلغ بهم الأمر أن اخترعوا شخصية جديدة هي شخصية الشيخ خالد، وقد زعموا أنه خالد بن الوليد، فجذبوا به الناس إلى بلدهم عددا من السنين.
وفي ساقية أبي شعرة ضريح لرجل من الصالحين اسمه الشعراوي، وهم يؤكدون أنه والد عبد الوهاب الشعراوي الذي نكتب عنه هذا الفصل
1
وهو كلام لا نعرف مبلغه من الصواب.
زوجته وأخوه
ولد الشعراني في قلقشندة في بيت جده لأمه سنة 898 وبعد أربعين يوما من مولده انتقل إلى بلدة أبيه ساقية أبي شعرة فنشأ بها وأقام فيها إلى الثانية عشرة، وظل موصول العهد بالبلد الذي نشأن فيه لأنا نراه يكثر من التحدث عن أولياء المنوفية
2
ثم انتقل إلى القاهرة فتلقى العلم على كبار الشيوخ في عصره، ثم ارتفع شأنه فصار شيخ زاوية، وكان هذا المنصب من المناصب المرموقة في ذلك الحين،
3
وأقبل على التأليف فترك ثروة فقهية وصوفية لم يترك مثلها من العلماء إلا الأقلون.
ولسنا في حاجة إلى ترجمة الشعراني فكتبه هي ترجمة نفسه لأنه يتحدث عن أحواله وأعماله في جميع المناسبات حتى أخبار بيته وأهله يراها القارئ في كتبه مفصلة أتم تفصيل.
4
والذي يتذكر أن العرب والمسلمين قلما يتحدثون عن نسائهم في الأشعار
5
والمصنفات يدهش حين يرى الشعراني يقول: وما رأت عيني من نساء عصري أكثر مواظبة على قيام الليل من زوجتي أم عبد الرحمن فربما صلت خلفي وهي حبلى على وجه الولادة بنصف القرآن، وهذا عزيز جدا
6
أو يقول: وأما أم ولدي عبد الرحمن رضي الله عنها فلها الآن معي تسع عشرة سنة فما رأيتها قط وهي تقضي حاجتها في خلاء البيت إلى وقتي هذا
7
أو يقول: وممن اطلعت عليها من النساء تخاف على رؤية شخصها وهي في الإزار وتستحي أن يراها أحد، وهي خارجة من الخلاء زوجتي فاطمة أم عبد الرحمن رضي الله عنها. سافرت بها إلى الحجاز ثلاث مرات، فما أظن أن العكام رأى لها حجما قط من حين خرجت من بيتها إلى أن دخلت مكة المشرفة ثم رجعت إلى بيتها، وكانت تركب في مثل العقبات فوق ظهر القتب داخل الحمل المغطى، ونزل نساء الأكابر كلهم في نزول العقبة وطلوعها، وهي لم تنزل وما شعرت قط بقضاء حاجتها، لا في المحطات ولا في حال السير رضي الله عنها، ولم تركب قط حمارا، وقالت: لا أستطيع أن يراني أحد، حتى الكحال عجزت فيها أنه يرى عينيها فلم أقدر عليها. ورضيت بالوجع وصبرت حتى زال الرمد وضاف ميق عينها اليسرى عن العين اليمنى إلى الآن، فهذا أمر رأيته منها، ولم يبلغني وقوع ذلك لأحد من عيال إخواننا. فالحمد لله رب العالمين على ذلك.
8
وهذه الفقرات تدل على أمرين: الأول: أنه كان سعيدا في حياته المنزلية، ولذلك أثر في فهمه لقواعد الأخلاق، والثاني: أنه كان يتمثل الكمال الخلقي في المرأة على وجه لا يخلو من تعسف، بدليل أنه رأى من موجبات الحمد أن ترحب زوجته بألم الرمد في سبيل التحرز من رؤية الكحال، أي طبيب العيون.
رضاه عن نفسه
وبجانب اطمئنان الشعراني على أخبار بيته كان له جانب آخر من الطمأنينة هو الأنس بمودة أخيه أفضل الدين؛ فقد كان أخوه هذا من أهل الصلاح، وكان به حفيا، فهو يذكره في مناسبات كثيرة بلسان رطب، ويضفي عليه حلل الثناء.
9
ويظهر أيضا من حديثه أنه كان راضيا عن أصدقائه، فهو يطوف بأخبارهم من حين إلى حين، ويتحدث عنهم حديث الفرح الجذلان.
ويضاف إلى ذلك كله رضاه عن نفسه، فقد كان يرى مسلكه في دنياه من أشرف المسالك، ولذلك نراه يكثر من الحديث عن «منن» الله عليه كأن يقول: «عرضوا علي نحو أربعة آلاف دينار أوصى بها لي قاضي إسكندرية فرددتها احتياطا لنفسي من أكل مال القضاء والشبهات التي لم تقسم لي وخوفا عليها من ميلها إلى جمع مال الدنيا، فالحمد لله على ذلك»، وكأن يقول في مقدمة كتابه تنبيه المغترين: «شيدت أخلاقه بأفعال السلف الصالح من الصحابة والتابعين، والعلماء العاملين، وبما من الله علي بالتخلق به أوائل دخولي في طريق محبة القوم، خوفا أن يقول بعض المتعنتين: كيف يأمرنا فلان بالتخلق بأخلاق القوم، وهو لم يقدر على هذه الأخلاق؟ فلذلك صرحت بكثير من الأخلاق التي من الله بها علي دون أقراني»، وكذلك قال في مقدمة كتاب لطائف المنن، وهو كتاب مملوء بالزهو والخيلاء، وكله شواهد بأن الشعراني كان عند نفسه أفضل الناس.
وهذا الرضا المطلق عن النفس والأهل يفسر لنا جانبا مهما من شخصية الشعراني، فهو سر ما اتصف به من الجرأة في نقد ما رآه من الزيغ والانحراف في أخلاق معاصريه. والرجل حين يخلص من آفات نفسه يفرغ للناس، وكذلك كان الشعراني قوى الجنان، وهو يحارب طغيان الولاة وإسفاف العلماء.
والرضا عن النفس ليس من الشمائل المقبولة عند الصوفية، ولكن هذه خصيصة من خصائص النفس الشعرانية، ونحن ننص عليها من أجل ذلك، فما نملك خلق النفوس من جديد لنسلكها في سمط واحد، وإنما نسجل ما عرفناه من ألوان النفوس.
وربما كان من العدل أن نقيد هذا المنزع من الخيلاء، فالشعراني كان يستبيح الحديث عن فضائل النفس حين تخلص النية، وحين يكون لذلك غرض مقبول، كالتأثير على المريدين، وجذبهم إلى الاعتقاد في شيخهم ليقبلوا على تعاليمه بنفوس معمورة بالحب والإجلال.
10
اعتقاده في الكرامات
وكما حدثنا الشعراني عن أهله وعن نفسه حدثنا كذلك عن عقيلته فهو رجل يؤمن بالكرامات إيمانا مطلقا، ويرى الأولياء يقدرون على كل شيء. وليس من المستبعد عنده أن يعرف الولي أخبار البيوت، ومن الممكن في رأيه أن يبيع الرجل الحشيش وهو في حقيقة أمره من الأولياء، ويجوز في تصوره أن ينقل الرجل من مكة إلى مصر في مثل لمح البصر إذا دفعه أحد الواصلين. وحدثنا أن أستاذه الخواص كان يرسل أصحاب الحوائج إلى رجل كان يبيع الفجل على باب الأزهر فيقضيها لهم في الحال، وأن هذا الرجل كان لا يأكل أحد من فجله وببدنه مرض من جذام أو برص، أو غيرهما إلا شفي لساعته، وحدث عن الشوني أن أحد الحمارين في قنطرة الموسكي كان معروف البركة فلا تركب حماره مومس إلا تابت، ولا تعود للزنا أبدا، وأن أحد باعة الحشيش كان لا يشتري أحد منه قطعة إلا تاب عن الحشيش،
11
وحدثنا أنه اجتمع بإبليس على ساحل النيل وجادله، وسمع منه أن الإنسان ككفتي الميزان، وقلبه كلسان الميزان.
12
ومؤلفات الشعراني تفيض بالأقاصيص عما صنع المجاذيب، ولهذا الجانب أهمية في فهمه لقواعد الأخلاق، فالشخصية الخلقية في نظر الشعراني هي شخصية تصدق كل شيء، وإن أحالته العقول، ما لم يعارض النصوص الشرعية، فمن حدثنا أنه قرأ القرآن كله خمس مرات من المغرب إلى العشاء فهو صادق، ومن حدثنا أنه قرأ القرآن كله بالحروف
13
ثلاث مئة ألف مرة في يوم وليلة فهو صادق؛ لأنه «إذا تجردت الروح عن هذا الجسم الكثيف فعلت ذلك».
14
ويظهر من النقول المبثوثة في كتب الشعراني أن الصوفية المصريين لعهده كانوا جميعا يقولون بالكرامات، ويظهر كذلك أنه كان في مصر لذلك العهد طوائف من الفقهاء تنكر الكرامات: لأنه شغل نفسه بمحاجة من ينكرون ما اختص به الأولياء.
والتعليل نفسه يدل على سذاجة عقلية: فهو ينقل عن أستاذه محمد المرصفي أن الأولياء يتفق لهم أن يقضوا في يوم واحد ما لا يمكن قضاؤه إلا في سنين؛ لأن أعمار هذه الأمة قصيرة فأقدر الله الخواص على إنجاز الأعمال بسرعة البرق ليرجحوا على عباد الأمم السابقة الذين عاشوا نحو الخمس مئة سنة.
14
وليس يعنينا أن نناقش صحة الكرامات: لأننا لم نصل في فهمها إلى حكم مقبول. وإنما يعنينا أن نسجل أن الشعراني كان يرى الشخصية الخلقية شخصية لا يؤذيها أن تعق العقل، ولا يضيرها أن تسوء الظواهر في بعض الأحوال. وما كتبه عن الخواص يشهد بأنه كان يؤمن بالكرامات إيمان المجاذيب،
15
وما كتبه عن نفسه يدل على حمق؛ فقد حدث أنه سمع تسبيح الجمادات والحيوانات، وسمع من يتكلم في أطراف مصر، بل في سائر أقاليم الأرض، وسمع تسبيح السمك في البحر المحيط.
16
ويهمنا أيضا أن نسجل أثر الشعراني وأمثاله في تلوين العقلية المصرية، فقد انطبع هذا الشعب على الإيمان بكل مجهول. وقد رأيت من كبار العلماء من يدافع عن الكرامات في دروسه بالأزهر الشريف، وللشيخ الدجوي في ذلك مباحث طوال . ورجاني أحد الأدباء الممتازين أن أكتب فصلا في هذا الكتاب أشرح به وجه الحق في الكرامات. ورأيت رجلا من أهل الفضل يتحدث عن القطب وكرامات الأقطاب، وما أحسبه كان من المازحين. ومنذ أيام تلقيت رسالة من أحد قراء البلاغ حدثني كاتبها عن رجل من علماء الأزهر أنه رأى النبي في المنام، وأن النبي قضى بأن يكون إمام الأولياء.
وما ادعى أن الاعتقاد في الكرامات خاص بأهل مصر: فقد عقد لها الغزالي بابا في الإحياء. وإنما أحكم بأن الشعراني كان أكبر من غرسوا هذه العقيدة في البيئات المصرية، وإليه يرجع الفضل في توجيه الناس إلى ما في الكرامات من حدائق الخيال!
والاعتقاد في الكرامات عزاء كبير للفقراء؛ فهم يخلقون لأنفسهم دنيا من المجد الموهوم يعوضون بها ما ضاع عليهم من حظوظ الحياة. ومن المؤكد أن هذه الوساوس لا تسود إلا في عصور الضعف السياسي والاقتصادي حين تصح الأمة وهي فارغة الأيدي من سلطان الجاه والمال. ومن ذلك رأينا المسلمين في عصور قوتهم لا يعرفون غير الواقع، مع أن الصلاح كان من أغلب الصفات عليهم، ثم رأيناهم في عصور الانحطاط يصدقون كل شيء ويلقون زمامهم إلى كل مخلوق، عساهم ينسون ما هم فيه من شظف العيش ونكد الشقاء.
انطباع الشعب المصري على الإيمان بكل مجهول
والتصوف نفسه من مظاهر الضعف، والرجل لا يتصوف إلا حين ييأس؛ لأنه بفطرته حيوان مفترس لا ينتظر المجهول من حظوظ النفس، وإنما يصاول ويفتك ليظفر بحظوظ الأمراء والملوك.
وقد جاء في كليلة ودمنة أن ذا المروءة لا ينبغي له إلا إحدى اثنتين: أن يكون بين الملوك مكرما، أو بين النساك متبتلا. وهذه الكلمة هي الفيصل؛ فالرجل يطلب المنزلة العالية في جميع الأحوال، فإن فاتته بين الملوك لم تفته بين النساك. ومعنى ذلك أن التعبد نفسه لا يخلو من كبرياء.
وقد استطاع الصوفية بدهائهم المصقول وكبريائهم المكبوت أن يجعلوا كلمة الحرمان هي العليا؛ فما زالوا يغمزون أهل الدنيا ويلمزونهم ويسوئون سمعتهم ويرمونهم بالبهتان حتى صح عند السواد أن الفقراء هم الملوك حقا، وأن الملوك المتوجين لا يملكون غير «الدنيا» وهي متاع المفتونين!
والذي يراجع سير الأنبياء يرى الفقراء كانوا أسرع الناس إلى إجابة الدعوة
ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا
وإنما كان ذلك لأن الأنبياء يعدون أتباعهم السلطان المطلق في عالم السماء. والفقراء بفطرتهم الحيوانية يتشوفون إلى السيطرة، فإن فاتتهم هنا أدركوها هناك.
التصوف من سمات الضعف
وخلاصة القول أن الشعراني وأصحابه وجدوا في مصر تربة خصبة فأنبتوا فيها ما شاءوا من صنوف الخيال، وكان شيوع الشعوذة الصوفية في هذه البلاد يسير جنبا لجنب مع ما اصطفاه نصارى مصر من النحلة الأرثوذوكسية، فإن اصطفاء نصارى مصر للمذهب الأرثوذوكسي لم يقع إلا بفضل ما هم عليه من الضعف؛ لأنه مذهب مشبع بالخرافات، والخرافات هي السند لكل مخلوق ضعيف.
والذي يتأمل أحوال مصر في العشرين سنة الماضية يؤكد صدق ما أقول في أيام الحرب العالمية كان لمشايخ الطرق سلطان عظيم؛ لأن الناس كانوا يئسوا من المجد السياسي، فلما هبت الثورة المصرية في سنة 1919 شغل الجمهور بشاغل جديد، وانقطع الخلاف بين الشاذلية والخلوتية، وحل محله الخلاف بين السعديين والوطنيين والدستوريين.
ولأمر ما كان التصوف يسمى الفقر، وكان الصوفية يسمون الفقراء، أترونني بهذا أغض من تلك النزعة الروحية؟
هيهات، وإنما أردها إلى أصل صحيح من ضمائر الناس.
ألم تسمعوا أن أحد الرؤساء هدد مرءوسه فقال: إن لم تستقم أقمتك من غد في الصف الأول؟
والصف الأول هو صف المبكرين إلى الصلاة: صف من يسبقون الإمام إلى رؤية المحراب!
ولا يعرف الناس لزوم المحاريب إلا بعد أن تخلو أيديهم من أدوات الحرب في سبيل المجد أو في سبيل المعاش.
مالي ولهذا الاستطراد؟ يكفي أن أسجل أن القاهرة لم تمتلئ بالزوايا ولم يكن للشعراني فيها حظ مرموق إلا لأن أهلها كانوا غلبوا على أمورهم الدنيوية، فمضوا يلتمسون الأسباب إلى فتح أبواب السماء.
وما كان الشعراني بالأحمق، وكيف وهو الذي أحصيت عليه أنه قال في مؤلفاته أكثر من خمسين مرة: «العاقل من عرف زمانه ».
إي والله، فقد عرف الرجل زمانه فساس أهله بما ينبغي أن يساسوا به فلم يمت إلا وهو (القطب الرباني، والمحقق الصمداني)، وذلك متاع ليس بالقليل.
دهاء الصوفية
أترانا نتجنى على الشعراني حين نصفه بالترفق في مداراة الناس ليظفر بالسمعة وبعد الصيت؟
انظر في مقدمة «اليواقيت والجواهر» ومقدمة «البحر المورود»، فإن فعلت فستعرف أنه كان يحرص أشد الحرص على الظفر بالزعامة في التصوف والدين، أي أنه كا يريد أن يكون مرضيا عنه من أهل الحقيقة وأنصار الشريعة، وإلى هاتين الجبهتين كانت ترجع أصول الصدارة بين الناس.
كان الشعراني يؤلف الكتاب في التصوف ثم يمضي إلى العلماء فيستكتبهم بالقبول ليصح له القول بأن كتبه ليس فيها ما يخالف الشرع، وكان الناس يعرفون عنه ذلك فيعمدون إلى كتبه فيضيفون إليها زيادات تدخله في الحظيرة الخطرة: حظيرة الصوفية المتفلسفين الذين يتطلعون إلى الخروج على المألوف من مقبول الآراء.
17
حرص الشعراني على رضا جميع الطبقات
ولكن مهلا - فهذا الرجل الذي نضيفه إلى أصحاب المطامع كان من نوادر الرجال في كرم الأخلاق، وفي كتبه صحائف تكتب بماء الذهب، ولو شئت لقلت بمداد من دماء القلوب، فقد حدثنا هذا الرجل - وهو صادق - أنه كان يزجر من يراه من أصحابه يتجسس على عيوب الناس
18
وهذا أدب نبيل.
وحدثنا - وهو صادق - أن من منن الله عليه كثرة ستره لعورات المسلمين الذين لم يتجاهروا بالمعاصي، وأنه يرى ذلك من جملة الواجبات. وهو الذي يقول:
إن من جلة سترنا للمسلم أن نغلق عليه بابه إذا رأيناه خارجا وهو سكران، ونأمر الأجنبية التي معه في الخلوة المحرمة أن تنزل من حائط الجار إن خفنا أن أحدا ينظرها إذا خرجت من المحل الذي هي فيه. كل ذلك حتى لا يعلم أحد بعصيان ذلك الرجل، لا سيما إن كان جارا لنا. وكم يترتب على كشف السوءات مفسدة، فإياك يا أخي أن تفشي سر أخيك المسلم ولو لأعز أصدقائك، فإنه يحكي ذلك لكل الناس إن كان ساذجا، وإن كان حاذقا فيحكي ذلك لبعض الناس ويأمرهم بالكتمان؛ فيصير كل واحد يخبر صاحبه ويأمره بالكتمان حتى تمتلئ البلد
19
وأحدهم يحسب أنه كتم ما رأى، والحال أنه هتك أخاه بين الناس.
20
ولا يكتفي بذلك، بل يذكر أن من نعمن الله عليه انشراح صدره، ومطاوعة نفسه في محبة ستر عدوه وكراهته لكشفها مع أن الغالب على الناس إظهار الشماتة بالعدو، وإظهار عورته.
21
وهذا الأدب دعا إليه الشعراني في جميع مؤلفاته، وهو يرى العصاة من أصحاب الجدود العوائر، وينظر إليهم بعين العطف والإشفاق، ويترفق في هدايتهم إلى الله، وهذا من أخلاق الأنبياء.
22
والذي يلفت النظر في هذا الموطن هو التغاضي عن عيوب الأعداء؛ لأنه يفرض قوة عظيمة في ضبط النفس، فهو من أخلاق الأقوياء من الرجال، وفي أصدقائي رجل ابتلاه الله بلؤم الحاقدين، وامتحنه بكيد السفهاء، ومع ذلك لا أذكر أن لسانه أو قلمه خاض في عرض أحد ممن يتقولون عليه الأقاويل، وقد يتفق له في أحيان كثيرة أن يحارب خصومه أعنف الحرب، ولكنه لا يحاربهم إلا في العلانية، ولا يتعرض أبدا لمقاتلهم الأخلاقية. وإنما يثير في وجوههم الدخان فيتوهم من لا يعرف أنه يقذفهم بالنار، مع أنه يصرف الناس عامدا عن دخائلهم الأثيمة، ويشغل الجمهور عن مساويهم بأمور صغيرة هي الكلام عن العلم والجهل. وأعداء هذا الرجل يعرفون فيه ذلك الخلق ويفهمون أن زوال الجبل من مكانه أقرب إلى الإمكان من خوض قلمه أو لسانه في الأعراض. ولذلك يهجمون عليه مستسلين، وهو لو شاء لزلزل بهم الأرض، ولكن نعمة الله عليه في هذا الأدب أحب إليه من قهر الأعداء.
شواهد من أخلاقه العالية
ومما يجب النص عليه من أحوال الشعراني أنه كان يعتقد أن الخير في مصر ينتهي بانتصاف القرن العاشر، ثم تصبح دنيا المصريين مسبعة لا أمن فيها، ولا سلام، وانظر ما يقول في البحر المورود:
23
أخذ علينا العهد أن لا نتصدر للشفاعة في الناس عند الحكام إذا دخل النصف الثاني من القرن العاشر، إلا إن كانت عندنا حال وتصريف في الحكام بالولاية والعزل، فإن من لا كشف عنده ربما أغلظ على الحاكم فقال له الحاكم: إن كنت صالحا فانفحني فلا يقدر على نفحه فيفتضح عند الحاكم، وسمعت سيدي عليا الخواص يقول: كان عند الحكام بقية خوف من الله تعالى يمتنعون به عن ظلم العباد فرفع الله ذلك خامس عشر صفر سنة ثمان وثلاثين وتسع مئة. قال: وعن قريب يصير حاشية الحاكم يأخذون من الإنسان الجعالة ولا يقضون له حاجة، ويطلب فلوسه مثلا فلا يصل إليها، والله غفور رحيم.
والخواص الذي نقل الشعراني عنه أن الحياء ذهب من الحكام في الخامس عشر من صفر سنة ثمان وثلاثين وتسع مئة هو نفسه الذي قال:
كان قد بقي في الناس بعض سترة لبعضهم بعضا فرفع الله تعالى حكمها في سنة سبع وأربعين وتسع مئة وما بقي أحد يقدر على كشف عورة أخيه ويسترها إلا قليل من الناس، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
24
ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك .
وقد طاف حول هذه المسألة في كتاب آخر هو لواقح الأنوار، فذكر مرة أنه لم يبق في مصر من يصلح للأستاذية في الطريق؛ لأن الأشياخ فقدوا وكان آخرهم علي المرصفي،
25
وذكر مرة ثانية أنه أدرك طريق الفقراء، ولها حرمة عند الناس، وعلى أصحابها الخير والهيبة، فرفع الله تعالى ذلك بموت السادة: علي المرصفي وعلى الخواص ومحمد الشناوي.
26
ويظهر أن الشعراني لم يكفه أن يذهب الخير من مصر بانتصاف القرن العاشر، بل ترقى في سوء الظن فحكم بأنه أخذ يذهب من الدنيا منذ انقضى الثلث الأول من القرن السادس، وقال في ذلك:
أخذ علينا العهد العام من رسول الله أن لا نتمنى الموت إلا إن خفنا على أنفسنا من فتنة في ديننا في هذا الزمان الذي يرى الإنسان دينه في كل يوم ينقص عن اليوم الذي قبله، وهذا الأمر قد وقع من حين انتهى كمال الدين، وهو سنة سبع وثلاثين وخمس مئة، كما رأيت ذلك في لوح نزل من السماء في واقعة في المنام ، وقد أخذت الأمور كلها يا أخي في النقص، وصار دين المؤمن ينقص كل يوم عن الحال الذي قبله، وصار يتصعب على الإنسان القبض على دينه كما يتصعب عليه القبض على جمرة في كفه ليلا ونهارا، فكما ضعف عن دوام القبض على الجمرة كذلك ضعف عن دوام القبض على الدين على حد سواء، فلا يموت الإنسان يوم يموت إلا على أنقص الأحوال. وأول أخذ الدين في النقص من سنة سبع وخمسمئة حين بلغ أهل العلم حدهم، وأهل الطريق حدهم. هذا ما رأيته مكتوبا في لوح تجاه مدرسة الشيخ إبراهيم المواهبي الشاذلي بباب الخرق
27
من مصر المحروسة، وكان في سلسلة فضة، وقد أشار إلى ذلك الشيخ عبد العزيز الدريني في منظومته وكان في سنة سبعين وخمس مئة يقول:
وقد بدا النقص في الأحوال أجمعها
وبدلت صفوة الأوقات بالكدر
28
وهذه الفقرة تشهد بأنه رأى ذلك التاريخ مرتين، مرة في لوح نزل من السماء، ومرة في لوح مكتوب تجاه مدرسة بباب الخلق، ومع ذلك نراه في مكان آخر يحكم بأن الدين أخذ في النقص في منتصف القرن السابع
29
ويقول:
وقد مضى الإئمة والعلماء والقوامون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأظلمت الدنيا لفقدهم، وكانت أنفاسهم تحميهم من الظلمة حتى يقوموا بالمرتبة حين كان الدين في زيادة، فلما أخذ الدين في النقص في سنة ثلاث وخمسين وست مئة ضعفت قلوب العلماء وعجزت عن إزالة المنكرات لكثرتها، وقلة من يساعد عليها، وقلة الولاة الذين يسمعون للعلماء.
30
وما ندري كيف وقع الشعراني في هذه الورطة فأخذ يؤرخ نقص الدين ويضطرب في التاريخ.
وما ندري أيضا كيف صح عنده أن الدين لم يلحقه نقص إلا في القرن السادس، أو السابع، أو العاشر، مع أنه هو نفسه روي أن سفيان الثورة كان يخرج إلى السوق فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فما مات حتى صار يرى المنكر فلا ينكره، فقيل له في ذلك فقال: كان قد انفتح في الإسلام ثلمة فأردنا أن نسدها فانفتح فيه ذروة وانهدمت من أركانه أركان، ثم صار يبول الدم من الحزن إلى أن مات.
31
ولسنا في حاجة إلى النص على أن من عادة الناس أن يشكوا زمانهم، وأن يترحموا على الأزمان السوالف، وإنما المهم أن ننص على أن الشعراني يفصل بين عهود الخير وعهود الشر بتاريخ محدود، ويستند تارة إلى لوح نزل من السماء، ويعتمد تارة أخرى على كلام الخواص.
ولهذه النظرة أثر في أحكامه الأخلاقية: فهو من المتشائمين، بل من اليائسين، والمصلح اليائس لا يرجى له نجاح.
ذهاب الخير من مصر بانتصاف القرن العاشر
على أن للشعراني كلمات أخرى تمثل رأيه في الطبيعة الإنسانية وتصرفه عن الاعتماد على مثل ما توهم من رفع الخير من قلوب الناس في تاريخ محدود، فقد اتفق له مرة أن يحكم بأن الخير هو الأصل، وأن الشر عارض، ولم يحدد ذلك بزمان، واتفق له مرة أخرى أن يحكم بأن «طينة الآدمية واحدة»، وأن الجائز وقوعه من أفسق الفاسقين جائز وقوعه من أصلح الصالحين،
32
ولم يخرج عن هذه «الطينة» في رأيه سوى الأنبياء لعصمتهم، وبعض الكمل لحفظهم،
32
وتنتهي هاتان الفكرتان إلى غاية واحدة هي أن الإنسان صالح للخير وهو أصل، وصالح للشر وهو عارض، وأنه حين يصلح لا يصلح أبدا، وحين يسوء لا يسوء أبدا، بل يجوز للفاسق أن يعمل ما يعمل الصالح، ويجوز أن يقع الصالح فيما يقع فيه الفاسق.
ومعنى ذلك أن التسامي إلى الهداية ليس له زمان، بل هو مطلوب في كل زمان.
رأي الشعراني في الطبيعة الإنسانية
ويتصل بهذا رأيه في الذات الإنسانية، فالإنسان صنعة الله تعالى، وصنعته كلها حسنة، والقبيح إنما هو عارض عرض من حيث الصفات لا الذوات، وجميع ما أمرنا الله بمعاداته إنما هو من حيث الصفات، فلو أسلم اليهودي وحسن إسلامه أمرنا بمحبته، فما زالت منه إلا صفة الكفر، وذاته لم تتغير.
33
فالذات الإنسانية حسنة في جميع الأحوال من حيث هي ذات، ولا تقبح إلا بقبح الصفات.
ولعله أخذ هذا المعنى من ابن عربي حين حكم بأن الطهارة من الحدث غير معقولة المعنى ؛ لأن الحدث وصف نفسي للعبد، فكيف يمكن أن يتطهر الشيء من حقيقته، فإنه لو تطهر من حقيقته انتفت عينه، وإذا انتفت عينه فمن يكون مكلفا بالعبادة.
34
ولهذا الملحظ قيمة في توجيه النظر الأخلاقي؛ فكل إنسان له قيمة ذاتية، وإن أمعن في الكفر والفسوق، وعلى رجال الأخلاق أن ينظروا إلى الملحدين والآثمين نظرة إشفاق؛ لأنهم في حقيقة الوجود جواهر علاها الصدأ فبدت كالمعدن الخسيس، ولو أمكن جلاء تلك الجواهر لنصبت لها سوق في عالم النفائس، وتسابق إليها عشاق اللؤلؤ المكنون.
الإسناد والإيجاد
ويزيد في قيمة هذه النظرة الخلقية أنها موصولة عنده بأدب آخر هو التفكير في الإسناد والإيجاد، فمن الأدب الذي اختاره الشعراني أن نضيف كل محمود في الوجود إلى الله إسنادا وإيجادا، وأن نضيف كل مذموم في الوجود إلى النفس والشيطان إسنادا لا إيجادا. وعلى ذلك ينزل قوله تعالى:
ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ، وإن كان الكل من عند الله، وينزل قول الرسول: (الخير كله بيديك، والشر ليس إليك) أي لا يضاف إليك أدبا كما لا يقال: (سبحان خالق الخنازير)، وإن كان هو الخالق بإجماع الناس في جميع الديانات.
35
وهذه المسألة من المشكلات، وقد عرض لها في لواقح الأنوار بكلام متموج لا يحل ولا يربط
36
إذ قال:
أخذ علينا العهد العام من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أن ندفع غضبنا ونكظم غيظنا، ونأمر بذلك جميع إخواننا، وإذا غضب أحدنا وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع، فإن لم يزل فليتوضأ، ويحتاح من يريد العمل بهذا العهد إلى السلوك على يد شيخ صادق يدخله إلى حضرة الرضا بكل واقع في الوجود، وبطريقه الشرعي فلا يبقى عنده شيء يغضبه؛ لإنه حكيم عليم، وما ترك الناس يغضبون إلا حجابهم عن شهود أن الله هو الفاعل لكل ما برز في الوجود، وشهودهم الفعل من جنسهم، فلذلك غضبوا على غضبهم، ولو سلكوا الطريق لوجدوا الفعل لله تعالى ببادئ الرأي فلم يجدوا من يرسلون عليه غضبهم ، ووجدوا كل شيء وقع في الوجود هو عين الحكمة فذهب اعتراضهم ... فعلم أن الكامل لا يغضب لنفسه قط، وإنما يغضب إذا انتهكت حرمات الله تعالى. وكأن الحق يقول للكامل: إذا رأيت عملا برز على يد أحد من عبيدي مخالفا لشريعة نبي فاغضب، ولو شهدت أني أنا الفاعل، لكني لا آمرك أن تغضب على فعلي، وإنما آمرك أن تغضب على وجه نسبة الفعل إلى عبدي.
37
وهذا كلام متهافت؛ لأنه لا يعرف أحد كيف يفعل الله الفعل ثم يغضب ويأمرنا أن نغضب. وكيف يغضب أو نغضب وكل شيء وقع في الوجود هو عين الحكمة والصواب؟
إن الشعراني هنا متهافت، ولكن المهم أن نسجل أنه ينهي عن الغضب ويدعو إلى كظم الغيظ، ويروض المريد على الرضا بكل واقع في الوجود.
ومسألة «النسبة» مسألة هينة: لأننا لا نذب حين نذنب إلا كما تفعل السيارة حين تدوس طفلا في الطريق. فالسيارة هي التي قتلت على طريق النسبة، والقاتل الحق هو السائق، وهو وحده المسئول
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ، وما قتل السيف إذ قتل، وإنما قتل السياف.
الترفق في معاملة الفاسقين
وهذا الاتجاه في فهم الإيجاد والإسناد جعل الشعراني يترفق في معاملة الفاسقين، فهو ينهى عن صحبتهم، ولكنه يراها متعينة حين نقصد بها تمهيد بساط التوبة لهم، كما عليه الدعاة إلى الله «فإنهم لا يبعدون عن مستقيم ولا أعوج؛ فإن المستقيم لا يجوز هجره، والأعوج محتاج إلى من يقوم عوجه، وقد أغفل هذا الأمر خلق كثير من طلبة العلم فبعدوا عن خلطة المعوجين من الظلمة فحرموا بركة هدايتهم، ولو أنهم قربوا منهم مع العفة عما بأيديهم من الدنيا
38
وسارقوهم بالوعظ لربما أثرت فيهم مواعظهم».
39
والشعراني ينهى عن اغتياب الفساق، ويرى أنه لا يجوز لك أن تستغيب فاسقا أو تؤذيه أو تشق عليه، ويستأنس بحديث (لا غيبة في فاسق)، ويقول: إن بعضهم قال في تأويله «احفظوا لسانكم في حقه ولا تغتابوه، فجعل لفظ (لا) ناهية»،
40
وهو يميل إلى قبول هذا التأويل.
وصرح في البحر المورود أن العهد أخذ علينا أن نرفق بالمسيئين، وأن نكون أرحم بهم من أنفسهم، بحكم الإرث لرسول الله الذي قال: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) وقد قالوا: من نظر إلى الخلق بعين الحقيقة رحمهم، ومن نظر إليهم بعين الشريعة مقتهم. ثم قال في تفسير هذه الكلمة: «وعين الحقيقة أن تشهد أن الحق تعالى ما دام يخلق فيهم المعاصي لا يمكنهم الرجوع عن الوقوع فيها، قال تعالى:
ثم تاب عليهم ليتوبوا ، فإذا انتهى خلق المعصية فيهم تابوا لا محالة».
41
وهذه المسألة لا تبعد كثيرا عن رأيه الذي عرضناه آنفا في الإسناد والإيجاد.
الرفق بالأعداء
والشعراني لا يبيح أن ندعو على من ظلمنا فلا نقول قط: «اللهم من كادنا فكده، ومن بغى علينا فخذه» ونحو ذلك، والرأي عنده أن نرجع إلى نفوسنا فننظر السبب الذي تحكم فينا ذلك الظالم بسببه فنتوب منه ونستغفر ونرجع إلى الله، فإن لم تتيسر لنا توبة صبرنا واحتسبنا، وقد دعا رسول الله على قريش بالهلاك فأنزل الله تعالى عليه:
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين
فاستحيا من الله، وترك الدعاء عليهم، وصار يدعو لهم بالهداية.
وهنا يبلغ الشعراني ذروة التصوف إذ يقول في تلطف وترفق:
واعلم يا أخي أن من شأن كل عارف أن يرى نفسه قد استحقت الخسف به لولا عفو الله، وأن جميع ما يقع عليه من البلايا والمحن دون ما كان يستحق، ويرى جميع الظلمة في هذه الدار كزبانية جهنم، إلا أنهم خالفوا الزبانية في هذه الدار في ظلمهم للعباد في كونهم تحت النهي، بخلاف الزبانية فإنهم هناك تحت الأمر. ومعلوم عند كل عارف أن حكم الإرادة لا مرد له؛ لأنه لا يصح قط لأحد أن يخالف إرادة الله، بخلاف أمره فيصح مخالفته لقوة سلطان الإرادة فافهم،
42
ومن هذا المشهد قل تكدير العارفين لمن ظلمهم وآذاهم، فإن الظالم حكمه حكم السوط الذي يضرب به، فالغيظ حقيقة إنما يكون من الضارب الظالم لا من السوط، فمن اغتاظ من السوط فهو محجوب عن تمام العقل.
43
ومعنى هذا أن ما يقع علينا من الظلم إنما هو تأديب من الله، والظالمون هم أدوات التأديب، ونحن حين نثور عليهم يكون مثلنا مثل من يثور على السوط الذي يضرب به، والأولى أن يثور على حامل السوط، ولكن حامل السوط في هذه المرة هو الله الذي لا يظلم أحدا من العالمين.
كيف نعامل من يظلمنا
ويمضي الشعراني في الترفق، فيذكر أن العهد أخذ علينا أن لا نطلق أبصارنا في عيوب الناس، ولا نسأل قط عن تحقيق ما سمعناه في حقهم من التهم، ونحفظ أسماعنا وأبصارنا عن مثل ذلك، فمن شق جيب الناس شقوا جيوبه، ومن كان عليه دين قديم قضاه لا محالة،
44
وهو يحرص على توكيد هذا الأدب الجميل، وينقل أن الحسن البصري كان يقول: والله لقد أدركنا قوما كانت عيوبهم مستورة فبحثوا عن عيوب الناس فأظهر الله عيوبهم، ورأينا أقواما ليس لهم عيوب فبحثوا عن عيوب الناس فأحدث الله لهم عيوبا.
ولا يقف الشعراني عند هذا الحد من أدب النفس، بل يرى من حسن الخلق أن تغفر لمن آذاك من الناس،
45
ويوصي بأن يكون الإنسان نفاعا لمن يذمونه ويقعون في عرضه ممن لا يعرفون أدب الرجال،
45
ويرجون أن نعود أنفسنا طلاقة الوجه لكل مسلم من عدو وصديق.
46
غض البصر عن عيوب الناس
ولا يكفي عنده أن نترفق بالمسلمين وحدهم، فإن الترفق واجب في معاملة جميع الناس، ويقول في ذلك:
وكثيرا ما كاتبت اليهود والنصارى أصحاب المكوس في تخفيف المظالم عن المسلمين،
47
وأقول في كتابي لهم: أسأل الله للمعلم فلان أن يرضى عنه، ويدخله الجنة مع الصديقين والشهداء والصالحين، وأضمر له سؤال التوبة من الكفر ليصح دخوله الجنة، وربما أنكر ذلك من لا علم له بطرق السياسة، فإني أعلم أني لو قلت له: أسأل الله للمعلم فلان أن يتوفاه على الإسلام لنفر خاطره مني، ولم يقبل شفاعتي، كما ينفر المسلم من قول أحد له: أسأل الله أن يميت البعيد على غير الإسلام. قال تعالى :
كذلك زينا لكل أمة عملهم ، فاعرف يا أخي طرق السياسة، وعود نفسك طيب الكلام، فإنه أحسن سواء كان المخاطب صالحا أو طالحا، والله عليم حكيم.
48
وما نحب أن تفوت هذه المناسبة بدون أن نقيد أن الشعراني يذكر في مواطن مختلفة أن كثيرأ من اليهود أسلموا على يديه بفضل الرفق و(الكلام لحلو) على حد تعبيره. واليهود في كلامه هم مثال الكفر الموبق، وهو يضرب بهم المثل حين يتكلم عن أهل الزيغ، وهذا يدل على أن يهود مصر لعهده لم تكن لهم منزلة اجتماعية.
49
كيف نعامل النصارى واليهود
ولم يفت الشعراني أن يضع للمريد دستورا يسير عليه في معاملة الفرق الإسلامية، وعنده أنه لا ينبغي التجرد للرد على أمثال المعتزلة والجبرية إلا إن عارض كلامهم نصا قاطعا أو إجماعا عاما؛ «لأن دين الإسلام يشملهم ويعمهم» لانبساط شعاع نوره على قلوب جميع المسلمين. والخطأ من كل وجه لا يكون إلا للكفار، فإذا سمعنا الجبري مثلا يقول: (لا فعل إلا لله) لا يجوز لنا الإنكار عليه بمجرد هذا القول، وإنما ننكر عليه قوله بعد إسناد الأفعال إلى العباد فقط لكون الحق تعالى أضاف أفعاله إليهم فمن نفى إسناده فقد أخطأ لقصور نظره. وإذ سمعنا المعتزلي يقول: (الفعل للعبد) لا ننكر ذلك بل بعدم إضافتها إلى الله جملة واحدة، فكل من الجبري والمعتزلي مخطئ من وجه، والكامل من نظر بعين الحقيقة وبعين الشريعة فرأى الفعل لله إيجادا وللعبد إسنادا.. وقس على الجبرية والمعتزلة غيرهما من الفرق الإسلامية.
50
وهذه اللفتة تدل على اهتمام الشعراني بتصفية البيئة الإسلامية وحمايتها من الجدل المؤذي الذي يفسد ما بين الناس من صلات الإخاء.
كيف نعامل الفرق الإسلامية؟
والشعراني ينصح بمداراة الحكام ويقول: «أخذ علينا العهد بأن نأمر إخواننا أن يدوروا مع الزمان وأهله كيف داروا، ولا يزدرون قط من رفعه الله عليهم، ولو في أمور الدنيا وولايتها، كل ذلك أدبا مع الله عز وجل الذي رفعهم؛ فإنه ما يرفع أحدا إلا لحكمة، ثم أي فائدة لازدرائهم من ارتفع عليهم ، مع أن أحدا لا يسمع لهم؟ وهذا العهد قل من يعمل به من الناس فيقولون عن المحتسب أو الوزير أو غيرهما: من أين لهؤلاء السفل الضخامة علينا ونحن نعرف آباءهم، وفلان كان أبوه زبالا، وفلان كان أبوه نوتيا، وفلان كان أبوه فلاحا، ونحو ذلك من الهذيانات. ومن أقام هذا الميزان اليوم على الناس حرم بركة أهل زمانه».
51
وظاهر من هذا الكلام أن المصريين الذي عرفهم الشعراني في القرن العاشر كانوا كالمصريين الذين نعرفهم اليوم في القرن الرابع عشر؛ فالنوتية عمل حقير، والفلاحة عمل حقير، والمرء لا يصح له أن يكون وزيرا إلا إن كان من بيت له ماض في ولاية أمور الناس.
والمهم هو أن نسجل هذه النظرة الخلقية؛ فالذي يعادي الحكام ويفكر في لمزهم وغمزهم هو رجل حرم بركة أهل زمانه، وهذا الرأي حق وصدق فالحكام يملكون ما لا نملك، وبيدهم تصريف الأمور. والطعن في آبائهم وأجدادهم هذر سخيف لا يحسنه غير السخفاء.
وهذا الأدب له غور أعمق من ذلك؛ لأن انتقاص الحكام يزعزع الوحدة القومية، ويقسم الأمة إلى شطرين: رعية حاقدة، وحكام مبغوضين، وسلامة الأمة لا تكون إلا بالألفة بين الحاكمين والمحكومين.
والشعراني يكرر هذا المعنى كلما لاحت فرصة. ومن رأيه أنه ينبغي لنا إذا اجتمعنا بسلطان أو أمير أو كبير في قومه أن نسأله أن يدعو لنا. ولو كان غير صالح، فإن الله تعالى يستحي أن يرد دعاء هؤلاء الأكابر بين قومهم ورعيتهم ويخجلهم. ويضرب المثل بما وقع لفرعون حين طلب منه قومه أن يطلع لهم نيل مصر لما توقف، فإنه قال: يا رب لا تخجلني بين عبادك فأجابه. ثم يقول الشعراني:
وهذا سر قل من يتنبه له من الناس ... ولما طلعت للباشا داود نائب مصر في هذا الزمان في قضية أوجبت ذلك في سنة خمس وأربعين وتسع مئة سألته الدعاء بأمور كانت متوقفة علي شهورا، فنزلت من القلعة فوجدتها كلها قد قضيت، فاعلم ذلك واعمل عليه.
52
كيف نعامل الحكام؟
والظاهر أن الشعراني كان رجلا أزرق الناب ، فإنه قدر في كظم الغيظ على ما لم يقدر عليه أحد من الصوفية، هو رجل سياسي حنكته الأيام فاصطنع المجاملة والمداراة؛ وذلك أدب لا يعاب، ولكن لا يمكن القول بأن مقامه يساوي مقام المخاطرين من أرباب الشجاعة الأدبية الذين أسمعوا كبار الخلفاء ما لا يحبون.
إن أدب الشعراني في هذه الشؤون أدب عيسوي، فهو لا يبعد كثيرا عن أدب المسيح إذ قال: دعوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله.
فالمريد الذي يؤدبه الشعراني هو رجل يقبل كل شيء ليس له أن يثور على الحكام وإن كانوا ظلمة؛ لأن الله لا يرفع أحدا إلا لحكمة، وقد يكون الحاكم الظالم سوطا سلطه الله على المذنبين!
المريد الذي يؤدبه الشعراني رجل ترابي، هو كأكثر من نعرف من أهل هذا العصر، ففي الناس من يؤيدون كل حكومة، ويسيرون في كل ركاب، ويكادون يقولون حين يسمعون كلام أي وزير: صدق الله العظيم!
وهذا أدب جميل إذا قيس بما فيه من سلامة العواقب، وبما يجلب من الحظوظ الدنيوية، ولكنه أدب منحظ إذا تذكرنا أن من واجب أهل الرأي أن يقفوا وقفة الآساد في وجوه الظالمين.
وعذر الشعراني يبدو مقبولا؛ لأن الواعظين لا يسمع لهم حين يقاومون الحكام، وفاته أن الرأي يتكون من تلك الكلمات الصغيرة التي ينقلها المنكرون من مكان إلى مكان، وأعنف الحكام وأصلبهم لا يقدر على الوقوف في وجوه الناس حين يغضبون، وهل تقدر وأنت سيد على تذمر الخدم في بيتك؟! إن الذين يصانعون الحكام الظالمين باسم السياسة وتدبر العواقب هم قوم جبناء يسترون جبنهم بتصنع الحكمة، وبعد النظر، ومرونة العقل، وهذه الشمائل المصقولة لا تنبت إلا في قلوب الضعفاء، وقد صرح الشعراني عن جبنه
53
حين قال:
أخذ علينا العهد أن لا تتصدر لإزالة منكرات الولاة إلا إن كان معنا تصريف فيهم، وإلا آذونا ونفونا من بلادنا، وأحوجونا إلى الاستخفاء زمانا طويلا.
54
ومعنى هذا أن إزالة منكرات الولاة لا تكون إلا عند ضمان السلامة، والسلامة مطلب وضيع في نظر كبار الرجال.
الشخصية الخلقية للمريد
ننتقل من هذا إلى رأيه في تربية المريد من الوجهة العقلية، وهو ينهاه عن قراءة كتب التصوف والتوحيد المطلق، فلا يقرأ كتب ابن عربي أو غيره من غلاة الصوفية؛ «وذلك لعدم الفائدة، وشدة الإنكار على من تفوه بما ذكروه فيها مما يخالف عقول غالب الناس؛ وما كل ما يعلم يقال. وربما فهموا منها أمورا تخالف صريح السنة فيموتون على اعتقادها فيخسرون مع الخاسرين. وما رأينا قط مريدا بلغ مبلغ الرجال بمطالعة كتاب».
55
ولا ينافي هذا ما جاء في مقدمة اليواقيت والجواهر من الدعوة إلى قراءة كتب ابن عربي فإنه هناك احترس حين أقنع المريد بأن ما جاء في كتب ابن عربي مخالفا للشرع إنما هو من وضع الدساسين، ونخلص من هذا إلى أن التصوف عنده يجب أن يقيد بالشرع، وأن المريد يجب عليه أن يحترس من مزالق العقول.
تربية المريد من الوجهة العقلية
ونهيه عن قراءة كتب التصوف لم يمنعه من أن يملأ كتبه بأقوال الصوفية في الرمزيات، فقد نقل كلمة أبي الحسن الشاذلي في تفسير آية:
وما تلك بيمينك يا موسى
على الطريقة الصوفية: «يقال للولي: وما تلك بيمينك أيها الولي؟ فيقول: هي دنياي أنفق منها على نفسي وأهلي وإخواني، فيقال له: ألقها، فيلقيها فيجدها حية تسعى في هلاك قابضها، فيأخذ حذره منها، فإذا حذر منها يقال له: خذها ولا تخف. فكما ألقاها أولا بإذن حال بدايته فكذلك أخذها بإذن حال نهايته».
56
والواقع أن الشعراني سلك مسالك الصوفية في أكثر مؤلفاته، فتجوز في الألفاظ والمعاني، ودخل إلى قلوب القراء بأساليب لا تخلو من فتون، ولكن الخطر عند الشعراني يخالف الخطر عند ابن عربي؛ فالذي يؤمن بكل ما أشار به الشعراني يخرج وهو مخبول، والذي يؤمن بكل ما أشار به ابن عربي يخرج وهو زنديق، والفرق بعيد بين الزندقة وبين الخبال.
فسذاجة الشعراني هي أصل ما يقع فيه من انحراف، ومكر ابن عربي هو أصل ما يقع فيه من ضلال.
تأثر الشعراني بالبيئة المصرية
بقيت مسألة يجب النص عليها: وهي أن الشعراني لا يكاد يعرف غير البيئة المصرية، فهو يضع الآداب لمواطنيه من أهل مصر، ولا يفكر فيمن عداهم من المسلمين، وهو حين يتحدث عن نقص الدين أو رفع الرأفة من قلوب الناس لا يعني أحدا غير المصريين، وقد مضت النصوص التي تعين هذا المعنى، ويؤيدها قوله في البحر المورود:
أخذ علينا العهد إذا كان لنا جار ساكن على الخليج أيام قطعه، أو نزح الخرارات منه، وعلمنا عجزه عن نزح ما تحت بيته إما لفقر أو بخل أن نوهم جماعة الوالي أن تلك الخرارات نشأت من بيتنا دون بيته، ثم انتزحها نيابة عن جارنا، ولا ندع جماعة الوالي يرعبوه مع قدرتنا على ذلك، ولا سيما إن كان عنده ضعيف أو نفساء أو فرح أو غرماء يطالبونه وهو عاجز عن الوفاء ومستخف بالبيت. والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
57
وهذا النص يدل دلالة قاطعة على أن الضمير «نا» في قوله (أخذ علينا العهد) يراد به الصوفية المصريون؛ فآداب الشعراني هي آداب محلية أوحاها ظرف المكان.
والأصل في كل دعوة أدبية أو اجتماعية أو دينية أن تصطبغ بالموطن الذي نشأت فيه، وكذلك يجب أن تغلب الألوان المحلية في كل أثر أدبي أو اجتماعي أو ديني، ولكنا لا نجد هذا الشرط يتحقق عند أي مؤلف على نحو ما تحقق عند الشعراني؛ فالبيئة المصرية تطل من كل سطر، بل من كل حرف، وهو في اتجاهاته الذهنية، وأخيلته الأدبية، مصري صميم عرف أخلاق الفلاحين، وأخلاق أهل القاهرة التي يسميها «مصر المحروسة». ومعرفته لأهل مصر في مسالكهم الخلقية والمعاشية يعطي كتبه منزلة عظيمة هي تأريخ المجتمع المصري في ذلك الحين.
وقد شرحنا ذلك بالتفصيل في القسم الأول من هذا الكتاب فليرجع إليه القارئ هناك.
58
الشعراني والخواص
وفي ختام هذا الفصل ينبغي أن ننص على أن مصادر الشعراني في كتبه الأخلاقية ترجع إلى أصلين: الأول: كتب الفقه والتصوف والحديث، والثاني: ما تلقاه شفويا عن أشياخه في الطريق، وهنا نذكر بالذات عليا الخواص، وكان من مشاهير الأولياء وله ضريح يزار بالحسينية، فقد أكثر الشعراني من نقل أقواله، والاستشهاد بآرائه في كثير من الشؤون.
وإذا صدق الشعراني فيما نقل عنه - وهوعندنا صادق - فإن الخواص يعد بما نقل عنه من أئمة التصوف، ورجال الأخلاق، ومن أعيان مصر في القرن العاشر، وإذا كان الخواص لم يترك شيئا يستحق الذكر من المؤلفات، فإن الشعراني صنع معه ما صنع أفلاطون مع سقراط.
ما هذا؟ أيصح في الأذهان أن يقرن اسم الشعراني إلى اسم أفلاطون، واسم الخواص إلى اسم سقراط؟
وهل يقدم هذا الكلام إلى الجامعة المصرية؟
إي والله! هذا من موجبات العجب، ولكنه حق؛ فإن شطحات الشعراني وحدها تضعه في الصف الأول بين رجال الخيال، وإحاطته بالعلوم الإسلامية والعربية وصدق رأيه في معرفة أهل زمانه تضيفه إلى صفوف العلماء والحكماء. ولا أنكر أن له أحيانا جرأة تثير النفوس، ولكن مجموعة ما ألف هذا الرجل تشهد بأنه كان من العظماء، وليس من الحتم أن يكون جوهر علمه من جوهر العلم الذي أذاعه أفلاطون، فإن الفرق بين العقلين عظيم، ولكن مجهود الشعراني في نشر الثقافة الشرعية والصوفية لا يقل خطرا عن مجهود أفلاطون في نشر ثقافة اليونان.
إننا ننظر إلى الشعراني بعيون جلتها حقائق العلم الحديث، ومن أجل ذلك ننكره ونقسو عليه، ولو أننا تمثلنا العصر الذي نشأ فيه، ونظرنا فيما ترك من المصنفات وما سطر من أخبار الحقائق والأضاليل، وتذكرنا ما رعي من الفقراء وما هدى من الطلاب، وما تسامى إليه حين تطلع إلى أسرار الوجود، لو نظرنا هذه النظرة لأحسسنا بتيارات من العطف تجرف ما أخذنا عليه من الوساوس والهفوات.
وأما الخواص فماذا نقول فيه؟
ليمر من شاء بشارع الحسينية، فإن فعل فسيرى ضريحا لا يعرفه غير العوام، وهم لا يذكرون إلا أنه كان رجلا صالحا يعيش من جدل الخوص فهل في الناس اليوم من يعرف أن هذا الرجل المجهول هو الذي قال: «من أراد أن يعرف مرتبته في العلم الذي يزعم أنه من أهله فليرد كل قول إلى قائله، وكل علم إلى عالمه ، وكل شيء استفاده من أمر دنياه وآخرته إلى من استفاد منه، وينظر نفسه بعد ذلك».
59
أترون عمق الفكر في هذا الكلام البسيط؟
إن الخواص الذي عرفناه في كتب الشعراني لا يقل عظمة عن سقراط الذي عرفناه في كتب أفلاطون. والفرق بين الرجلين أن سقراط أولع بمخاطبة العقول، والخواص أغرم بمخاطبة القلوب. والعقل أبقى من القلب، وله في كل زمان أنصار وأشياع.
إن أفلاطون عاش لأنه وقف عند حدود الأرض، ومات الشعراني لأنه تطلع إلى السماء. عاش أفلاطون لأنه تحدث عن شؤون يفهمها الأصحاء، ومات الشعراني لأنه خاض في شؤون لا يدركها غير من انقطع عن دنياه. والانقطاع عن الدنيا من أعراض الموت، ولكن من ينكر أن رأى المحتضر قد يكون أصدق رأى، وحديثه أبلغ حديث؟
وهل من القليل أن تعيش شطحات الشعراني أربعة قرون؟
ذلك ضرب من الحياة لو تعلمون.
المهلكات والمنجيات
تحديد الشخصية الخلقية
طال الطواف بآراء الصوفية في الأخلاق، ورأينا ألوانا مختلفات من مذاهبهم في العيش ومناحيهم في السلوك، ولكن الشخصية الخلقية للصوفي الحق لا تزال خافية بعض الخفاء، وأخشى أن نكون أطلنا في بيان النواحي الفلسفية من التصوف، وأخشى أيضا أن نكون أسرفنا في نقد المذاهب الصوفية إسرافا يضلل القارئ، ويصرفه عن تنور ما في الشخصية الصوفية من سماحة وصفاء.
ولكن ما اصطنعناه من العنف في نقد المذاهب الصوفية، وما آثرنا من التعمق في عرض التصوف من الناحية الفلسفية، كان أمرا يوجبه البحث كل الوجوب؛ لأن هذا الكتاب لم يؤلف لشرح التصوف، ولا لتأريخ التصوف، وإنما ألف لغاية صريحة: هي بيان تأثير التصوف في الأدب والأخلاق، وقد وصلنا من ذلك إلى بعض ما نريد.
ثم نظرنا فرأينا منهج البحث يسمح بتصوير الشخصية الخلقية للصوفي الحق، ونريد الناحية العملية في حياة المريد، الناحية التي تصور ما يخاف وما يرجو في حياة الأخلاق.
مزايا النظرة الصوفية
قد يقال: وما الفرق بين الصوفي وبين غيره من أرباب السلوك السليم إذا غضضنا النظر عن الناحية الفلسفية ؟
ونجيب بأن الناحية الفلسفية هي في الأصل عماد الناحية العملية، فالصوفي يتفلسف في جميع أعماله، ولا يتقدم ولا يتأخر إلا بموازين.
وللصوفي ميزة ليست لسواه من رجال الأخلاق فهو «يحس» المواعظ، و«يذوق» الأمثال، والحكمة على لسان الصوفي متوقدة ملتهبة تأخذ وقودها من الضمائر والقلوب.
وهناك ميزة ثانية هي الإلحاح، الإلحاح، ولو شئت لكررتها ألف مرة، فالصوفي يحب أن ينقل جميع ما أثر من أقوال الأنبياء والحكماء والصالحين في تأكيد المعنى الذي يدعو إليه، وربما كان الصوفية هم الذين تفردوا بالإطناب في شرح أدواء النفوس، وأمراض القلوب، وبكوا على مصاير العاصين، والغافلين أحر البكاء.
وهناك ميزة ثالثة هي شعور الصوفي بأثقال الأوزار والذنوب، فهو رجل تواب أواب لا يذنب حين يذنب إلا وهو في غاية من الخجل والاستحياء.
وهناك ميزة رابعة هي الإيمان، فالصوفي وإن تفلسف لا يعتقد أن الأخلاق وسيلة نفعية تطلب للمعاش وحسن الصلات مع الناس، وإنما يعتقد أن الأخلاق صلة بينه وبين الله، ولله صورة جميلة في أنفس المخلصين من أهل التصوف، وهم يحبونه كل الحب، ويستحيونه كل الاستحياء، وهم من أجل ذلك لا يبالون الشرائع ولا القوانين، وإنما يفكرون في صلاتهم الحقيقية بذلك المحبوب المعبود.
وما أنكر أن الصوفية قد يصلون إلى الوسوسة الخلقية في أكثر الأحيان، ولكن عذرهم في ذلك مقبول، فهم يتسامون إلى الظفر بالرضوان عند محبوب لا تناله الأوهام ولا الظنون، ورضوانه غرض عزيز المنال.
آفات الشبع وفوائد الجوع
ولنفصل شمائل الصوفي من الناحية الخلقية فنقول:
يخاف الصوفي شهوة الطعام والشراب، وهو على حق، فكل الرذائل تصدر عن الطعام والشراب، وما أمن إنسان غوائل ما يأكل وما يشرب إلا انقلب إلى مخلوق سفيه ممقوت.
وهل ذل من ذل وضاع من ضاع إلا بسبب الحرص على الطعام أو الشرب؟
والصوفي لا يجزع حين يجوع، وإنما يلتفت إلى نفسه فيقول: أي شيء تخافين؟ أتخافين أن تجوعي؟ لا تخافي ذلك، أنت أهون على الله من ذلك، إنما يجوع محمد وأصحابه.
1
أو يقول: إلهي أجعتني وأعريتني، وفي ظلم الليالي بلا مصباح أجلستني ، فبأي وسيلة بلغتني ما بلغتني.
1
أو يقول: إلهي، ابتليتني بالمرض والجوع، وكذلك تفعل بأوليائك، فبأي عمل أؤدي شكر ما أنعمت به علي.
1
الصوفي يرى الشبع من المهلكات، ويرى في الجوع فوائد:
الأولى:
صفاء القلب، وإيقاد القريحة، ونفاذ البصيرة، فإن الشبع يورث البلادة، ويعمى القلب، ويكثر البخار على الدماغ.
الثانية:
رقة القلب وصفاؤه ليتهيأ لإدراك لذة المناجاة.
الثالثة:
الانكسار والذل وزوال البطر والفرح والأشر الذي هو الطغيان والغفلة عن الله.
الرابعة:
أن لا ينسى بلاء الله وعذابه ولا ينسى أهل البلاء.
الخامسة:
كسر شهوة المعاصي والاستيلاء على النفس الأمارة بالسوء.
السادسة:
دفع النوم وسهولة السهر.
السابعة:
تيسير المواظبة على العبادة، فإن الاهتمام بالأكل قد يضيع على العابد أطيب الأوقات.
الثامنة:
صحة البدن ودفع الأمراض.
التاسعة:
خفة المؤونة، فإن من تعود قلة الأكل كفاه اليسير من المال.
العاشرة:
التمكن من الإيثار والصدقة بما فضل من الأطعمة على اليتامى والمساكين.
2
وللصوفية كلام كثير في النهى عن الشبع والتشويق إلى الجوع، وقد نقدنا هذه النظرة حين تكلمنا على آداب الطعام، ولكن لا مفر من الاعتراف بأن لإيثار الجوع مزية أساسية هي الخلاص من شهوة البطن والسلامة من أمراض الأبدان والأخلاق، فأخطر الأمراض الجسمانية مصدرها الأكل، وأخطر الأمراض الأخلاقية مصدرها الأكل، ولا تسهل المعاصي إلا على من يسرفون في الطعام والشراب.
هل نعلن حين نبتلى بالشهوات
ولم يفت الصوفية أن ينصوا على أن الجوع قد يتطرق إليه الرياء، كأن يأكل الرجل في الخلوة ما لا يأكل مع الجماعة، وهذا هو الشرك الخفي.
3
ومن رأيهم أن حق العبد إذا ابتلي بشهوات وأحبها أن يظهرها، وهذا عندهم صدق الحال، فإن إخفاء النقص وإظهار ضده من الكمال هو نقصان متضاعفان، والكذب مع الإخفاء كذبان، فيكون مستحقا لمقتين، ولا يرضى عنه إلا بتوبتين صادقتين، ولذلك شدد الله أمر المنافقين فقال: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار)؛ لأن الكافر كفر وأظهر، والمنافق كفر وستر، فكان ستره لكفره كفرا آخر؛ لأنه استخف بنظر الله إلى قلبه، وعظم نظر المخلوقين فمحا الكفر عن ظاهره، والعارفون يبتلون بالشهوات بل بالمعاصي، ولا يبتلون بالرياء والغش والإخفاء.
ذلك كلام الغزالي في الإحياء
3
وهو كلام نفيس، وهو يصور صدق الشخصية الخلقية أجمل تصوير، فالصوفي الحق قد يقع في المعصية، ولكنه لا يرائي ولا ينافق؛ لأنه يختار بين حالين: الاستخفاف بنظر الناس، والاستخفاف بنظر الله.
الصوفي يرى الناس أحقر من أن يتهيبهم، ويتقي لغوهم وفضولهم وسفاهتهم، ويرى الحياء لا يكون إلا من الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
الصوفي يؤذيه أن يكون كبعض الأراذل الذين يستبيحون جميع المنكرات في الخفاء، ثم يلقون الناس بوجوه الصالحين الزاهدين المتبتلين، وما عرفوا الصلاح ولا الزهد ولا التبتل، وإنما هم لصوص سفلة يسرقون السمعة الحسنة من المجتمع المغفل الذي يعيش عيش القرود، فلا يصدق غير ما ترى عيناه المفتوحتان بلا وعي ولا إحساس.
الصوفي يؤذيه أن يعرف بالصدق حين يكون من الصادقين؛ لأن في الشهرة بالصدق فتنة تجره إلى الريا.
والصوفي لا يستهويه أن يرى المنافقين والمخادعين في نجاح ورفاهية ونعيم؛ لأنه يعرف أن حظوظهم في دنياهم ليست إلا حراما في حرام، ولا فرق بين انتهاب السمعة وانتهاب المال، وإن خفي ذلك على الغافلين.
ومن المنافقين من لا يكفيه أن يستر الله عورته الخفية فيجره الشره في انتهاب السمعة الحسنة إلى الوقوع في أعراض الناس ليصح عند الجمهور المغفل أنه من أهل الغيرة على الأخلاق، وبهذه الأساليب تسير بين الجماهير أباطيل وأضاليل تنصب لها موازين فيشقى بها بها ناس ويسعد ناس.
الصوفي يقف المتفرج على الضلالات الاجتماعية، ويرى الرذيلة المكشوفة أهون من الرذيلة المستورة؛ لأن الرذيلة المكشوفة تعصم صاحبها من موبقات كثيرة أهونها الصلاح المزيف، والأدب المكذوب.
أما الرذيلة المستورة فتخلق لصاحبها موبقات مهلكة ماحقة أيسرها الشعور بأن الكذب على الله وعلى الناس أمر تجيزه العقول، عقول السفلة المهتوكين أمام الله والمستورين أمام الناس.
وقد بدا لأهل أمريكا منذ أعوام أن يحرموا شرب الخمر فوقعوا في خطر ماحق هو الرياء والنفاق، واشتبهت المسالك في تمييز الفاضل من المفضول ، ولو أصرت أمريكا على هذه النزعة «الإعلانية» لفقدت ميزتها الأصلية وهي صراحة القلوب والأعمال.
والأمم التي تحرص على سلامة الظواهر هي الأمم المهددة بالاستعباد والزوال.
وشاهد ذلك يؤخذ من حياة الشعوب في هذه الأيام، فالأمم التي تكثر من الكلام على التحليل والتحريم هي الأمم التي تعاني آلام الاستعباد؛ لأن انشغالها بالنفاق والرياء والخداع لم يترك لها من فراغ البال ما تستعد به لمقاومة المكاره والخطوب. ولا كذلك الأمم التي جعلت حسابها مع الله لا مع الناس.
وحسب المرء من السفالة والضعة والحطة أن لا يكون له رقيب غير طوائف من المخلوقات تستبيح في السر ما تنكر في العلانية.
وحسب الأخلاق من الضعف أن لا تتماسك إلا بأسباب واهية من الرياء.
وقد حار الباحثون في فهم السر الذي قضى بأن تخلد الكتب التي بلغها الأنبياء والمرسلون.
فليفهموا - إن شاءوا - أن مرجع ذلك السر إلى الصدق، فالأنبياء والمرسلون لم يكن فيهم رجل كاذب، وإنما كانوا جميعا صادقين، فقد سجلوا عيوبهم ومساويهم تسجيلا صريحا لا مواربة فيه ولا تضليل، وهل كانت الكتب التي بلغها الأنبياء والمرسلون إلا تسجيلا للمآسي الإنسانية الممثلة في أخطاء الأنبياء والمرسلين؟
سيفنى كل شيء، وتبقى خطيئة داود.
سيفنى كل شيء، ويبقى العتاب الموجه إلى الرسول في القرآن.
سيفنى كل شيء، وتبقى صور البكاء على الآثام والذنوب، بكاء الأنبياء والمرسلين.
وسيبقى كل شيء إلا الصلاح المزيف الذي ظفر به الأوباش من من أدعياء الاستقامة والعدالة والصلاحية لتربية العقول والقلوب.
وأشقى الأمم هي التي يكون معلموها ومربوها مخادعين ومنافقين.
أشقى الأمم هي التي تعيش بعقول الأطفال فلا ترى غير الظواهر والعناوين.
أشقى الأمم هي التي تحاسب على الرغيف المسروق، ولا تحاسب على المجد المسروق.
أشقى الأمم هي التي ينصب فيها للظاهر ميزان، ولا ينصب فيها للباطن ميزان.
وإنما فرض عليها هذا الشقاء؛ لأنها حرمت حقا وصدقا من جواهر الأخلاق.
وهل تظفر أمة بجمال الخلق حين يسرها أن تجمل الوجوه، وإن قبحت القلوب؟
إن المصدر الأصيل للخلق الجميل هو القلب، فإن غفلت الأمم عن هذا الجوهر فهي أمم مضيعة مفتونة لا تصلح لغير الرق والاستعباد.
لن تفلح أمة إلا حين تتخلق بأخلاق الله، وهو عز شأنه لا ينظر إلى الصور، ولا إلى الأعمال، وإنما ينظر إلى القلوب.
تباركت يا ربي وتعاليت، وبك يستعز ويستنصر كل من شاءت رحمتك أن لا يكون له نصير غيرك.
وما أسعد من تفضلت عليه فكتبت أن لا يعرف نصيرا سواك.
شهوة الفرج
وكما يخاف الصوفية شهوة البطن يخافون شهوة الفرج، وينكرون أن يتناول الرجل من الأدوية ما يقوي شهوته على الاستكثار من الوقاع، كما يتناول بعض الناس أدوية تقوي المعدة لتعظم شهوة الطعام. ومثال ذلك عندهم مثال من ابتلي بسباع ضارية، وحيات عادية، فتنام عنه في بعض الأوقات فيحتال لإثارتها وتهيجها.
4
آداب الزواج
وهم في أغلب أحوالهم يؤثرون العزوبة على الزواج، ولكنهم يدعون إلى الزواج عند خوف الفتنة، ويتحرزون من كل ما يثير الشهوات، ويستقبحون أن تمر صورة الشهوة المحرمة على خيال المريد، ولذلك تفاصيل مرت في الكلام على الحب.
ومن علامة صدق المريد أن يتزوج فقيرة متدينة ولا يطلب الغنية، فإن لزواج الغنية آفات، منها المغالاة في الصداق، وتسويف الزفاف، وفوت الخدمة، وكثرة النفقة، وإذا أراد طلاق الغنية لسبب مقبول فقد يمنعه الحرص على مالها، والفقيرة بخلاف ذلك.
5
ويستحب الصوفية أن تكون المرأة دون الرجل بأربع: السن والطول والمال والحسب.
وأن تكون فوقه بأربع: الجمال والورع والخلق والأدب.
ويوجب الصوفية أن يصبر الرجل على امرأته، وحدثوا أن أحدهم خطب امرأة ذات جمال، فلما قرب زفافها أصابها الجدري، فاشتد حزن أهلها لذلك خوفا من أن يستقبحها، فأراهم الرجل أن عينيه أصابهما رمد وأن بصره ذهب، وزفت إليه وذهب عن أهلها الحزن، فبقيت عنده عشرين سنة ثم توفيت، ففتح عينيه، فسأله إخوانه عن سر ذلك فقال: تعمدته لأجل أهلها حتى لا يحزنوا، فقيل له: سبقت إخوانك بهذا الخلق.
وتزوج بعض الصوفية امرأة سيئة الخلق فكان يصبر عليها، فقيل له: لم لا تطلقها؟ فقال : أخشى أن يتزوجها من لا يصبر عليها فيتأذى بها.
وللصوفية أحاديث في الزاوج يضيق عن سردها المجال، وللقارئ أن يرجع إلى قصة سعيد بن المسيب في الإحياء فهي صورة من الأدب الرفيع.
ولهم في مدافعة الشهوات آيات.
مدافعة الشهوات
حدث أحمد بن سعيد عن أبيه قال: كان عندنا بالكوفة شاب متعبد، ملازم للمسجد الجامع لا يكاد يفارقه، وكان حسن الوجه، حسن القامة، حسن السمت، فنظرت إليه امرأة ذات جمال وعقل فشغفت به، وطال عليها ذلك، فلما كان ذات يوم وقفت له على الطريق وهو يريد المسجد فقالت له: يا فتى، اسمع مني كلمات أكلمك بها ثم اعمل ما شئت، فمضى ولم يكلمها، ثم وقفت له بعد ذلك على طريقه وهو يريد منزله، فقالت له: يا فتى، اسمع مني كلمات أكلمك بها، فأطرق مليا وقال لها: هذا موقف تهمة، وأنا أكره أن أكون للتهمة موضعا. فقالت له: والله ما وقفت موقفي هذا جهالة مني بأمرك. ولكن معاذ الله أن يتشوف العباد إلى مثل هذا مني، والذي حملني على أن لقيتك في هذا الأمر بنفسي معرفتي أن القليل من هذا عند الناس كثير، وأنتم معاشر العباد على مثال القوارير أدنى شيء يعيبها، وجملة ما أقول لك أن جوارحي كلها مشغولة بك، فالله الله في أمري وأمرك.
فمضى الشاب إلى منزله وأراد أن يصلي فلم يعقل كيف يصلي، فأخذ قرطاسا وكتب كتابا ثم خرج من منزله، وإذا بالمرأة واقفة في موضعها فألقى إليها الكتاب، ورجع إلى منزله. وكان في الكتاب:
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلمي أيتها المرأة أن الله عز وجل إذا عصاه العبد حلم، فإذا عاد إلى المعصية مرة أخرى ستره، فإذا لبس لها ملابسها غضب الله تعالى لنفسه غضبة تضيق منها السموات والأرض والجبال والشجر والدواب، فمن ذا يطيق غضبه؟ فإن كان ما ذكرت باطلا فإني أذكرك يوما تكون فيه السماء كالمهل، والجبال كالعهن، وبحثوا الأمم لصولة الجبار العظيم، وإني والله قد ضعفت عن إصلاح نفسي، فكيف إصلاح غيري، وإن كان ما ذكرت حقا فإني أدلك على طبيب هدى يداوي الكلوم الممرضة، والأوجاع المرمضة، ذلك الله رب العالمين، فاقصديه بصدق المسألة فإني مشغول عنك بقوله تعالى:
وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع * يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور
فأين المهرب من هذه الآية؟
ثم إنها جاءت بعد ذلك بأيام فوقفت له على الطريق، فلما رآها من بعيد أراد الرجوع لمنزله كيلا يراها فقالت: يا فتى، لا ترجع، فلا كان الملتقى بعد هذا اليوم أبدا إلا غدا بين يدي الله تعالى، ثم بكت بكاء شديدا وقالت: أسأل الله الذي بيده مفاتيح قلبك أن يسهل ما قد عسر من أمرك!
ثم إنها تبعته وقالت: امنن علي بموعظة أحملها عنك.
فقال: أوصيك بحفظ نفسك من نفسك، واذكري قوله تعالى:
وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار .
فأطرقت وبكت بكاء أشد من بكائها الأول، ثم أفاقت ولزمت بيتها وأخذت في العبادة، ولم تزل على ذلك حتى ماتت كمدا.
6
وإنما ذكرت هذا الشاهد لعذوبته من الوجهة الأدبية، وهناك شواهد تعد بالمئات، وهي تصور جوانب من حلاوة الأدب وطهارة الأخلاق.
والمهم أن نسجل أن الصوفي يخاف ربه أشد الخوف، ويكره الشهوة أشد الكره، ولا يتقدم ولا يتأخر إلا وهو في حيطة وحذر من أحابيل المفاتن والصبوات.
والصوفية يعرفون مزالق النفوس والأهواء فيتحرزون من النساء، ومن الوجوه الصباح، ويجاهدون أهواءهم بالعزلة في بيوتهم، وبالظمأ والجوع، وبمصاحبة الأتقياء.
وقد أشرنا غير مرة إلى أن الشهوات هي الأصل في عمارة الوجود، ولكن من ذا الذي يرضى أن تذهب مروءته ليعمر الوجود؟
من ذا الذي يرضى أن يكون وقودا في أتون العمران؟
من ذا الذي يرضى أن يكون عضوا في الجمعية الأثيمة التي تعمر الوجود بأسباب الشهوات؟
وما قيمة الوجود كله إذا خرجنا من ربحه خاسرين؟
وما غنيمة الرجل الذي يجاهد لإغناء الحياة الأدبية بالصور الحسية والاجتماعية على نحو ما فعل ميسيه ولامرتين إذا خرج من جهاده بمحصول سخيف هو فقد كرامته بين الناس؟
وهل يستطيع أطرف الأدباء أن يكون أخلد من إبليس؟ إن بعض الأدباء - وأنا منهم - يتوهمون أن وصف الشهوات والمآثم يرفع الأدب ويحييه؛ وذلك ضلال مبين.
فما ظفرت ولا ظفر أمثالي بغير عصارة مريرة الطعم والمذاق.
إن الصوفية أعقل من الأدباء وأشرف.
سيلقى الصوفية ربهم راضين مبتسمين، أما نحن فسنذهب إلى النار في ركاب امرئ القيس الذي أنذره الرسول.
لقد فقدنا كل شيء، حتى الطمع في عفو الله، وهل يعفو الله على من خلدوا آثار المآثم والشهوات باسم الأدب الرفيع؟
إن من أشنع الأضاليل أن تظن أن من الأدب أن تصف كل ما ترى العيون. إن من أشنع الأضاليل أن تحسب أن من واجبك أن تصور كل ما في الوجود.
إن من أسخف الأباطيل أن تخال أنك جندي من جنود الحب والهيام والفتون.
تلك دنيا من الوهم السخيف طفنا بملاهيها ونحن سفهاء، ثم رجعنا نادمين، وأين نحن من الصوفية؟
أين مكان المسود من مكان السيد؟
أين يقع حال اللاهين اللاعبين الذين لا تغنيهم الحلائل عن الخليلات من حال الصوفية الذين لا يعرفون اللذات إلا في حدود الحلال؟
قولوا في الصوفية ما شئتم، ولكن تذكروا أنهم أشراف متصونون يكرهون مواطن التهم ومواضع الشبهات.
وهل في الدنيا حال أشرف من حال من يقطع السبيل على اللاغين والمتقولين، فلا يمكن السفلة من الوقوع في عرضه كلما شاء لهم هواهم أن يلمزوه في الأندية والمجتمعات؟
إن أصغر مزية للتصون هي رد الأعداء خائبين، الأعداء اللئام الذي يعرفون صدق سريرتك، ثم يتوكأون على قصيدة تقولها في منظر جميل ليستبيحوا عرضك عند من تعرف ومن لا تعرف.
إن أهون فضيلة من فضائل التصون هي إجاعة الأوباش الذين لا يجدون وسيلة لإشباع بطونهم غير الوقوع في أعراض الرجال.
فإن قلت إن الصوفية على طهارتهم لم يسلموا من ألسنة الأنذال، فإني أجيبك بأن حالهم أفضل من حال الأديب الوصاف الذي يمكن الأنذال من اتهامه بالإثم والفتون، فلا يجدون من يصرفهم عن غيهم باسم العقل والوجدان.
إن الصوفية أفضل من الأدباء وأشرف .
فليكن من همنا أن نحاول اللحاق بأولئك القوم.
ولكن أين العوائم وأين القلوب!
آفات اللسان
وكما يحترس الصوفية من شهوات البطن والفرج يحترسون من آفات اللسان.
والصوفية هم أكثر الناس كلاما في التحذير من الكذب والغيبة والنميمة والفضول.
وما اتفق لرجل من الصوفية أن يؤلف كتابا إلا تكلم على آفات اللسان. فقد علمتهم التجارب أن اللسان يضر كما ينفع، وهدتهم عظات الأيام إلى أن اللسان قد يجر صاحبه إلى المخاطر والمعاطب.
وما تقدم إنسان أو تخلف إلا كان لسانه من أسباب ما غنم من تقدم، أو رزئ من تخلف.
وشواهد الحال في كل مجتمع تشهد بأن الألسنة لها أثر فعال في مراكز الرجال.
فالرجل العاقل يلقى الناس بما يحبون، ويأبى عليه أدبه أن يواجههم بما يكرهون.
وقد يسوء حظ الرجل وبجانبه التوفيق فيتوهم أن من واجبه أن يصارح الناس بعيوبهم ومساويهم، وهو يحسب ذلك من الشجاعة الأدبية، ولو عقل لعرف أن الشجاعة الصحيحة هي ضبط اللسان وحبسه عن إيذاء الناس.
وقد يتفق في بعض الأحيان أن نقهر على الجهر بكلمة الحق، ولكن تلك الحال هي الشاهد على العجز الموبق، فالرجل الحكيم يستطيع دائما أن يكون عفيف القول رطب اللسان، ولا تصدر الكلمة السفيهة عن لسان الرجل إلا وهو مقهور مغلوب، وما قهره ولا غلبه إلا ضعف عزيمته عن مقاومة ما في صدره من أهواء وشهوات.
آفات الأقلام
اهتم الصوفية بالكلام على آفات الألسنة، وكادوا يسكتون عن آفات الأقلام، وإنما كان الأمر كذلك لأن الأقلام في الأزمان الخالية لم يكن لها مجال.
أما اليوم فالقلم يأسو ويجرح، وهو صديق من أصدقاء السوء والبهتان، كان القدماء يقولون:
جراحات السنان لها التئام
ولا يلتام ما جرح اللسان
وكان اللسان يجرح في بيئات ضيقة محصورة يعد أصحابها بالعشرات أو بالمئات.
أما اليوم فالقلم يجرح في بيئات يعد أصحابها بالألوف أو بالملايين.
والكلمة الجارحة في جريدة أو في مجلة تنتقل من بلد إلى بلد، ومن قطر إلى قطر، ومن قارة إلى قارة، وتحدث من الآثار السيئة ما تعجز عن غسله الأنهار والبحار.
كانت الغيبة باللسان توجه إلى فرد من الأفراد، أما الغيبة بالقلم فقد تؤذي حكومة من الحكومات أو شعبا من الشعوب.
وما بنا أن ننهى عن نقد الحكومات والشعوب، ولكنا نوازن بين حالين: حال من يغتاب فردا، وحال من يغتاب حكومة أو أمة.
فالذي يغتاب فردا يعطل مصلحة فردية، أما الذي يغتاب حكومة فهو يحرض عليها جماهير كثيرة فيسوق الشعب إلى التمرد والعصيان، ولذلك عواقب تهدد مصالح الألوف والملايين، والذي يغتاب أمة قد يعرضها لأخطار من الوجهة الاقتصادية أو الوجهة الدولية. والناس يقعون في هذه المآثم كل يوم، ولا يتنبهون لخطر ما يصنعون.
ومن تقاليد هذا العصر أن ننشئ الجرائد والملجلات لمحاربة الحكومات والأحزاب، ومن حقنا أن نفعل ذلك، والحجة في أيدينا وهي الغيرة على المصلحة القومية، ولكن يغيب عنا أن الأهواء قد تكون لها مسالك في تزيين ما تتورط فيه أحيانا من الجور والاعتساف.
فالذي يهجم على رئيس الحكومة أو رئيس حزب لا يعرف في الأغلب خطر ما يصنع من الوجهة الأخلاقية؛ لأن التمذهب في الحياة السياسية قد يحول صاحبه إلى طاغية يستبيح كل شيء في تأييد المذهب الذي انحاز إليه، وفي السياسيين رجال عرفوا بالأدب والذوق، ولكنهم في الجدل السياسي يخرجون على ما عرفوا به من التجمل وضبط النفس، حتى لتحسب للرجل منهم شخصيتين مختلفتين أشد الاختلاف.
وإنما كان ذلك لأن مذاهب السلوك في العصر الحديث لا تعرف مآثم الاغتياب في الحياة الاجتماعية والسياسية، كما تعرفها في الحياة الفردية، فرئيس الحكومة أو رئيس الحزب لا يجوز اغتيابه من حيث هو فرد، ولكن يجوز اغتيابه من حيث هو رئيس حكومة أو رئيس حزب، والغيبة الاجتماعية والسياسية أبشع أثرا من الغيبة الفردية، ولكن أين من يتنبه إلى دقائق الأخلاق؟
يضاف إلى ذلك أن الغيبة الاجتماعية والسياسية تنشر بطريقة علنية في الجرائد والمجلات، وقراء الصحف فيهم من يصدق كل ما يقرأ، وهنا وجه الخطر، فلو كان الناس جميعا قادرين على نقد ما يقرأون لخفت أضرار الغيبة الاجتماعية والسياسية، وبقيت مهابة رؤساء الحكومات ورؤساء الأحزاب في صدور الناس.
وإذا كان في الأحاديث النبوية ما ينذر بأن اللسان قد يهوي بصاحبه في النار سبعين خريفا، فنحن نؤكد أن القلم قد يهوي بصاحبه في النار سبع مئة ألف خريف.
والقلم في هذا الزمان أخطر الآفات، وعلى حملة الأقلام أكبر الإثم في خلق الضغائن والحقود بين الأفراد والجماعات والشعوب، وهم المسئولون أمام الله وأمام التاريخ عن تكدير السلام وسوق الناس إلى المجاوز البشرية.
وكتاب السياسة لا تروج أسواقهم إلا إن عرفوا بالقدرة والبراعة في تصوير مقاتل الحكومات والأحزاب، والجريدة التي تؤثر العقل على الهوى يتلقاها الناس بفتور وعدم اكتراث؛ لأن في بني آدم حيوانية مقهورة تطلب الغذاء من الأقاويل والأراجيف، ولذلك يصفقون لمن يجترح المآثم باسم الغيرة على عمار الكون مع أنهم يعرفون أن بيته خراب.
وسيأتي يوم تعتدل فيه الموازين الذوقية والأدبية والاجتماعية والسياسية، فيعرف من لم يكن يعرف أن العالم السياسي كان يتلون بألوان الشهوات والأهواء وأن من أقطاب السياسية الدولة من يضرب الأمم بعضها ببعض في خطبة ومقالة، وهو معقول بعقال الشراب.
سيأتي يوم يعرف فيه المسلمون أن حضارتهم العظيمة لم تقوضها غير الأقلام الباغية، أقلام الكتاب والمؤلفين الذين غفلوا عن أخطار الغيبة الاجتماعية، فحبروا الفصول الطوال في المفاضلات بين الأمم الإسلامية حتى شطروها إلى عناصر يبغي بعضها على بعض بلا تورع ولا استحياء.
وثورة الأمة الفارسية على اللغة العربية كانت لها أسباب من هذا النوع.
وثورة الأمة التركية على الحروف العربية كانت لها دواع من هذا القبيل.
ولن تزول آثار هذه الغيبة القلمية إلا يوم يمن الله على المسلمين بكتاب حكماء يعرفون كيف يقتلعون جذور هذه الفتن من الأفئدة والقلوب.
ولكن متى يأتي ذلك اليوم؟
إن الأقلام تقدم ما تشاء من الألوان، وهي تبغي على العدل والسلام بلا حق، وتأخذ الأجر على خدمة البغي والإثم والعدوان.
متى يعرف الناس أن صراخ الأرامل وبكاء اليتامى في أعقاب ما تصنع الحرب من إهلاك الأزواج والآباء كان مرجعه إلى القلم الأثيم؟
متى يعرف الناس أن «الدعايات» التي تنظمها الحكومات والأحزاب هي سموم خطرة تفتك أشد الفتك بطمأنينة الأمم والشعوب.
متى يعرف الناس أن «الدعاية» يجب أن تكون بابا من الهداية؟
متى يفهم بنو آدم قيمة الصدق في الوصف؟
متى يجيء رجل صوفي ينبه أهل هذا الزمان إلى خطر القلم، كما نبه الصوفية إلى خطر اللسان في الأيام الخالية؟
متى؟ مت؟ إن أهل هذا العصر لا يفهمون من الأخلاق إلا شيئا واحدا، هو أن يحسن المرء أساليب الرياء حتى يسلم من شر الجواسيس، فلا تكون له صحيفة في سجلات السوابق، وذلك حظ خسيس لو يعلمون!
مزايا الصمت
كان الصوفية يعرفون أن لا نجاة من خطر اللسان إلا بالصمت، وهم يذكرون أن عقبة بن عامر سأل رسول الله عن النجاة فقال: أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك.
7
وفي هذه الكلمات نظام الأخلاق؛ فحفظ اللسان أصل عظيم من أصول السلامة، وقرار المرء في بيته أدب نفيس لا يتأدب به غير أحرار الرجال، وهل كان العطب والهوان إلا في الضجر من أمان البيت؟
إن عورات المرء تنكشف حين يخرج من بيته، وماذا يلقى حين تضيق عليه رحبة البيت؟ يلقى اللاغين والآثمين من أكلة اللحوم - لحوم الأعراض - يلقى المتجبرين من أهل الغواية والإثم والفسوق، يلقى حطب جهنم من الأوباش الذين لا يعرفون كيف يقضون الوقت بالاستماع إلى موعظة حسنة أو الاطلاع على كتاب نفيس.
والناجحون في هذا الوجود هم الذين يعرفون كرامة البيوت.
والصعاليك هم الذين يجدون راحتهم في هجر بيوتهم ليعيشوا من فضلات السفهاء.
وفي الدنيا ناس لا يجدون القوت، ولكنهم يسترون فاقتهم بالقرار في بيوتهم، وهؤلاء هم حزب الله، وهم المصطفون الأبرار يوم ينصب الميزان.
وأبشع هوان في الدنيا هو الاعتماد على الناس، وما مد مخلوق يده إلى صديق أو قريب إلا كان ذلك بداية الخذلان، ولا استطاع المرء أن يعيش في حماية أصدقائه، أو رعاية أقربائه، إلا وقد عرف أنه مخلوق ذليل مهين .
فمن أين جاء للرجل الذي اسمه محمد أن يقول في وصية من استهداه: «وليسعك بيتك»؟
تلك حكمة لا تخرج إلا من لسان رعاه الله واصطفاه.
أما وصيته بالبكاء على الخطيئة فأمرها معروف. ولا يصلح الرجل للخير إلا إن عرف كيف يبكي على خطاياه.
إن الصوفية يخشون شر اللسان، ويستأنسون بقصة معاذ بن جبل إذا قال: يا رسول الله، أنؤاخذ بما نقول؟ فقال الرسول: ثكلتك أمك يا ابن جبل، وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم.
8
ونحن نعرف جيدا أخطار اللسان: فصاحبنا عيسى بن هشام تكدر عيشه وساءت سيرته؛ لأنه ابتلي بعدو سفيه لا يتقي الله في الأعداء والأصدقاء، فأذاع عنه من الإفك ما أذاع ليسقط مكانه في المجتمع، وصديقنا الحارث بن همام كان رجلا يصلح لأعاظم الشؤون، ثم ابتلته المقادير بصديق ينفس عليه مكانته العلمية والأدبية، فأخذ يلمزه من حيث لا يحتسب ليسوي سمعته عند من يملكون منافعه الدنيوية، وأخونا العزيز هيان بن بيان كان خليقا بأن يشغل أعظم منصب في الدولة، ثم شاء الحظ العاثر أن يكون له زميل ساقط الهمة والمروءة والشرف، لا يعيش إلا بالتزلف إلى الكبرياء، ومن الكبرياء من يسرهم أن تسوء سمعة الرجال ليتفردوا بالسيطرة والجبروت.
وكذلك صح عندنا بعد التجارب الأليمة أن السلامة لا تكون إلا لمن رحمه الله فكتب أن يعيش بلا أقرباء ولا أصدقاء ولا رفقاء.
والويل كل الويل لمن وثق بالأصدقاء، وأمن غدر الزمان!
ويعتقد الصوفية أن الأعضاء كلها تذكر اللسان بواجبه وتقول: اتق الله فينا فإنك إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا.
9
ويروون أن ابن مسعود كان على الصفايلبي ويقول: يا لسان، قل خيرا تغنم، واسكت عن شر تسلم، من قبل أن تندم.
فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، أهذا شيء تقوله؟ أو شيء سمعته؟ فقال: لا، بل سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: إن أكثر خطايا ابن آدم في لسانه.
10
ويروون أن ابن عمر حدث أن رسول الله قال: من كف لسانه ستر الله عورته، ومن ملك غضبه وقاه الله عذابه، ومن اعتذر إلى الله قبل الله عذره.
10
وأن معاذ بن جبل قال: يا رسول الله أوصني، فقال له الرسول: اعبد الله كأنك تراه، وعد نفسك في الموتى، وإن شئت أنبأتك بما هو أملك من هذا كله، وأشار بيده إلى لسانه.
10
وأن رسول الله قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت.
10
وأن الحسن قال: ذكر لنا أن النبي - صلى الله عليه - قال: رحم الله عبدا قال خيرا فغنم، أو سكت فسلم.
10
وأن البراء بن عازب قال: جاء أعرابي إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فقال: دلني على عمل يدخلني الجنة، فقال الرسول: أطعم الجائع، واسق الظمآن، وأمر بالمعروف، وانه عن المنكر، فإن لم تستطع فكف لسانك إلا من خير.
10
وأن الرسول قال: الناس ثلاثة: غانم وسالم وشاجب، فالغانم الذي يذكر الله تعالى، والسالم الساكت، والشاجب الذي يخوض في الباطل.
11
ويؤكدون أن المنصور بن المعتمر لم يتكلم بكلمة بعد عشاء الآخرة أربعين سنة.
وأن الربيع بن خيثم ما تكلم بكلام الدنيا عشرين سنة، وكان إذا أصبح وضع دواة وقرطاسا وقلما، فكل ما تكلم به كتبه، ثم يحاسب نفسه عند المساء.
قال أستاذنا الغزالي طيب الله ثراه:
فإن قلت: فهذا الفضل الكبير للصمت ما سببه؟ فاعلم أن سببه كثرة آفات اللسان من الخطأ والكذب والغيبة والنميمة والرياء والنفاق والفحش والمراء وتزكية النفس والخوض في الباطل والخصومة والفضول والتحريف والزيادة والنقصان وإيذاء الخلق وهتك العورات. فهذه آفات كثيرة وهي سباقة إلى اللسان لا تثقل عليه، ولها حلاوة في القلب، وعليها بواعث من الطبع ومن الشيطان، والخائض فيها قلما يقدر أن يمسك اللسان فيطلقه بما يحب، ويمسكه ويكفه عما لا يحب، فإن ذلك من غوامض العلم، ففي الخوض خطر، وفي الصمت سلامة، فلذلك عظمت فضيلته، هذا مع ما فيه من جمع الهمة، ودوام الوقار، والفراغ للفكر والذكر والعبادة والسلامة من تبعات القول في الدنيا ومن حسابه في الآخرة، فقد قال تعالى:
ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد .
12
ويمضي الغزالي فيقسم الكلام إلى أربعة أقسام: قسم هو ضرر محض، وقسم هو نفع محض، وقسم فيه ضرر ومنعفة، وقسم ليس فيه ضرر ولا منفعة. أما الذي هو ضرر محض فتركه واجب، وكذلك ما فيه منفعة لا تفي بالضرر. وأما الكلام الذي لا منعة فيه ولا ضرر فهو فضول، والاشتغال به تضييع زمان، وهو عين الخسران.
12
بقي القسم الرابع وهو معرض لأخطار الرياء والتصنع والغيبة وتزكية النفس، ولا يسلم من آفاته إلا من وقف على دقائق الأخلاق.
حقارة الفضول
ويستقبح الصوفية أن يتكلم الرجل فيما لا يعنيه، ويروون أن الرسول قال: أول من يدخل من هذا الباب رجل من أهل الجنة، فدخل محمد بن سلام، فقال إليه ناس من أصحاب الرسول وأخبروه بذلك وقالوا: أخبرنا بأوثق عمل في نفسك ترجو به؟ فقال: إني لضعيف، وإن أوثق ما أرجو به سلامة الصدر، وترك ما لا يعنيني.
وأن أبا ذر قال: قال لي رسول الله: ألا أعلمك بعمل خفيف على البدن، ثقيل في الميزان؟ قلت: بلى يا رسول الله، فقال: هو الصمت، وحسن الخلق، وترك ما لا يعنيك.
13
وقال مجاهد: سمعت ابن عباس يقول: خمس هن أحب إلي من الدراهم الموقوفة: لا تتكلم فيما لا يعنيك فإنه فضل - أي فضول - ولا آمن عليك الوزر، ولا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعا، فإنه رب متكلم في أمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه فعنت، ولا تمار حليما ولا سفيها، فإن الحليم يقليك، والسفيه يؤذيك، واذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به، وأعفه مما تحب أن يعفيك منه، وعامل أخاك بما تحب أن يعاملك به. واعمل عمل رجل يعلم أنه مجازى بالإحسان مأخوذ بالاجترام.
13
وقال مؤرق العجلي: أمر أنا في طلبه منذ عشرين سنة لم أقدر عليه، ولست بتارك طلبه. قالوا: وما هو؟ قال: السكوت عما لا يعنيني.
وقد شرح الغزالي حدود هذه الآفة فقال: حد الكلام فيما لا يعنيك أن تتكلم بكل ما لو سكت عنه لم تأثم ، ولم تستضر به في حال أو مآل. مثاله أن تجلس مع قوم فتذكر لهم أسفارك وما رأيت فيها من جبال وأنهار، وما وقع لك من الوقائع، وما استحسنته من الأطعمة والثياب، وما تعجبت منه من مشايخ البلاد ووقائعهم، فهذه أمور لو سكت عنها لم تأثم ولم تستضر بالسكوت.
ومن جملتها أن تسأل غيرك عما لا يعنيك، فأنت بالسؤال مضيع وقتك وقد ألجأت صاحبك أيضا بالجواب إلى التضييع، هذا إذا كان الأمر مما لا يتطرق بالسؤال عنه آفة، وأكثر الأسئلة فيها آفات، فإنك تسأل غيرك عن عبادته مثلا فتقول له: هل أنت صائم؟ فإن قال نعم، كان مظهرا لعبادته فيدخل عليه الرياء، وإن لم يدخل الرياء عليه سقطت عبادته من ديوان السر، وعبادة السر تفضل عبادة الجهر بدرجات، وإن قال: لا، كان كاذبا، وإن سكت كان مستحقرا لك وتأذيت به، وإن احتال لمدافعة الجواب افتقر إلى جهد وتعب فيه، فقد عرضته بالسؤال إما للرياء أو للكذب أو للاستحقار، أو للتعب في حيلة الدفع، وكذلك سؤال عن سائر عباداته، وعن المعاصي، وعن كل ما يخفيه ويستحي منه، وكذلك سؤالك عما حدث به غيرك. وكأن ترى إنسانا في الطريق فتقول: من أين؟ فربما يمنعه مانع من ذكره، فإن ذكره تأذى به واستحيا، وإن لم يصدق وقع في الكذب، وكنت أنت السبب.
14
وهذه الشواهد تمثل أشياء من صور المجتمع لعهد الغزالي، ولو عاش في عصرنا لأضاف أشياء، فمن الناس من يدخل بيتك فيسألك عن كل ما تقع عليه عيناه: يسأل عن تكاليف الأثاث، وعدد الحجرات والغرفات، وقد يسأل عن البيت متى بنيته، وكيف أقمته، وربما سألك عن الجيران وجيران الجيران، وقد يسألك عن أطفالك وعن أسنانهم ومدارسهم، وما تنتظر لهم في المستقبل القريب أو البعيد، وهو لا يسكت عن حالك في وظيفتك، ويرى من حقه أن يعرف مكاسبك ومغانمك، وقد يرى من حقه أيضا أن يعرف تكاليف أثوابك، وأن يبدي ملاحظته السديدة على هندامك!
واللغو والفضول من أظهر شمائل الناس في هذه الأيام، ولا بد من صوفي جديد يضع للمجتمع الحاضر قواعد ينتهي إليها الناس. إن كانوا صالحين للتأدب بأدب الرجال.
وأغرب ما تراه العيون غرام بعض الصحفيين بالبحث عن مذاهب الناس ومسالكهم في الحياة، وقد يطيب لهم أن يسألوك عن كل شيء، كأن من حق الجمهور أن يعرف ما تأكل وما تشرب وما تلبس، وتلك شهوات سخيفة يعيش منها الفارغون والبطالون.
والصوفي يكره لنفسه ولمريديه أن يقعوا في شيء من ذلك، والأدب الحق أن لا تدخل في شؤون معارفك وأصدقائك، بل الأدب كل الأدب أن تجهل من أمورهم كل شيء.
والرجل المهذب هو الذي يدخل بيوت الناس وعينه عمياء، وأذنه صماء، فلا يرى ولا يسمع، ثم يخرج وهو سليم القلب من أوضار الانتقاد والاعتراض.
آفة المراء والجدال
والصوفية يكرهون لمريديهم أن يقعوا في آفة المراء والجدال، ويستأنسون بقول الرسول: من ترك المراء وهو محق بني له بيت في أعلا الجنة، ومن ترك المراء وهو مبطل بني له بيت في ربض الجنة.
15
فترك المراء من المحق أعلا منزلة؛ لأن المحق يجد عسرا وصعوبة في ترك الجدال، ومن أجل ذلك كان انصرافه عن المجادلة أدل على قوة نفسه، وشدة امتلاكه لهواه.
ويستأنسون أيضا بقول الرسول: إن أول ما عهد إلي ربي ونهاني عنه بعد عبادة الأوثان، وشرب الخمر ملاحاة الرال.
16
والرسول يرى الجدال من أسباب انحلال الشعوب ويقول: ما ضل قوم بعد أن هداهم الله إلا أوتوا الجدل.
16
وشواهد الأحوال تؤيد هذه النظرة النبوية، فالأمم التي تكثر فيها المخاصمات والمجادلات هي الأمم المعرضة للانحلال، وأقوى الأمم اليوم هي الأمة الإنجليزية، وهي أقل الأمم غراما بالمجادلات الصحفية والبرلمانية، وستظل قوية إلى أن يبتليها الله بجماعة من الصحفيين الطائشين الذين يقتلعون بالجدل والمهاترة أصول الهيبة والحب من قلوب الناس.
والسر في قبح الجدل يرجع إلى ما فيه من شهوة الاستعلاء، ومن هنا كان خطره على الصداقات والمودات، ولا يمكن أن تصح بينك وبين رجل مودة إذا ظننت أنك أفضل منه، أو ظن أنه أفضل منك.
وكان سفيان يقول: صاف من شئت، ثم أغضبه بالمراء، فليرمينك بداهية تمنعك العيش.
16
وهذا كلام يعرف صدقه من ابتلاهم الله بمجادلة الناس.
وقد شرح الغزالي حقيقة المراء فقال:
حد المراء هو كل اعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه: إما في اللفظ، وإما في المعنى، وإما في قصد المتكلم. وترك المراء بترك الإنكار والاعتراض. فكل كلام سمعته فإن كان حقا فصدق، وإن كان باطلا أو كذبا ولم يكن متعلقا بأمور الدين فاسكت عنه، والطعن في كلام الغير تارة يكون في لفظه بإظهار خلل فيه من جهة النحو أو من جهة اللغة، أو من جهة العربية، أو من جهة النظم والترتيب بسوء تقديم أو تأخير، وذلك يكون من قصور المعرفة، وتارة يكون بطغيان اللسان، وكيفما كان فلا وجه لإظهار خلله. وأما في المعنى فكأن يقول: ليس كما تقول وقد أخطأت فيه من وجه كذا وكذا. وأما في قصده فمثل أن يقول: هذا الكلام حق، ولكن ليس قصدك منه الحق، وإنما أنت فيه صاحب غرض ... وهذا الجنس إن جرى في مسألة علمية فربما خص باسم الجدل، وهو أيضا مذموم، بل الواجب السكوت، أو السؤال في معرض الاستفادة لا على وجه العناد ... وأما المجادلة فعبارة عن قصد إفحام الغير وتعجيزه وتنقيصه بالقدح في كلامه ونسبته إلى القصور والجهل.
17
ومعنى هذا أن من أدب المريد أن يترك الاعتراض على الناس تركا كليا، ومعناه أيضا أن من سوء السلوك أن نتحدث عن خطب الخطباء، ورسائل الكتاب، وقصائد الشعراء، وآثار المؤلفين، فلا نصحح أغلاطهم، ولا ننبه على الضعيف من أساليبهم، والمبتذل من معانيهم؛ لأن الباعث على ذلك هو الترفع بإظهار العلم والفضل، والتهجم على الغير بإظهار الجهل والنقص، وهما شهوتان باطنتان للنفس.
وقد هدتنا التجارب إلى صدق هذه النظرة الصوفية، فكل ما نجترحه باسم النقد الأدبي هو ضلال في ضلال، وهو يخلق من العداوات والحزازات ما نعجز عن دفعه في أكثر الأحيان.
وقد نهجم على ناس فنصحح أغلاطهم علانية في الجرائد والمجلات، وتكون الحجة أننا نخدم الحياة العلمية والأدبية، وفي هذا ظل من الحق، ولكن من نهجم عليهم يؤذون أنفسهم ويسودون صحائفهم بالطعن فينا، وتشويه سمعتنا عند من نعرف ومن لا نعرف، وقد يكون فيمن نصحح أغلاطهم ناس صغار يستبيحون خلق المآثم والعيوب، وإشاعة الأقاويل والأراجيف.
وفيمن ابتلاهم الله بالصراحة في النقد الأدبي رجل خدم الحياة الأدبية نحو عشرين سنة، فلم يخرج من ذلك الكفاح العنيف إلا بمغانم باطلة هي ما رماه به أدعياء العلم والأدب من أدناس الزور والبهتان.
أستغفر العقل، ففيهم من يظفر من ذلك الكفاح بمحصول نفيس: هو اليأس من أدب الناس، والثقة المتينة بعدل الله. وحسن الظن بالله هو أساس التصوف، وهو لا يتم إلا إن اقترن بسوء الظن بالناس.
وإذا كان الصوفية يكرهون لمريديهم أن يجادلوا الناس، فهناك رجال يكرهون للصوفية أن يعترفوا بوجود الناس، وسيطول ندمهم على ما صنعت أيديهم حين أقاموا الموازين لمؤلفات ودواوين لا يصلح أهلها لشيء، وإن كان الله تلطف فأباحهم الاستمتاع بنعمة الشمس والهواء.
وأي منظر أقبح من منظر مخلوق ترفع اسمه بقلمك، فيكون جزاؤك أن يأكل لحمك في الأندية والمجتمعات؟
وأي ندم أوجع من ندم رجل يخلق بقلمه منازل أدبية لبعض المخلوقات، ثم تعتمد تلك المخلوقات على ما غنمت بفضله من الشهرة فتؤذيه أبلغ إيذاء باسم الانتصاف للحق والغيرة على ما سموه الأدب الرفيع؟
وما قيمة الحياة الأدبية والعلمية إذا خرجنا من خدمتها مجرحين بأظافر الأوباش؟
ولكن لعل لله حكمة فيما يبتلي به العلماء من تصحيح أغلاط الجهلاء.
تباركت يا ربي وتعاليت، فلك الفضل في كل حال، وكنت أحكم الحاكمين في خلق الشر والدمامة والقبح، فتلك أصول قام على أساسها الوجود، ولو رحمت من يرجون رضاك من شر خلقك لكان نصيبهم الضياع.
فيا أيها المريد، جادل من شئت، وناضل من شئت، على شرط أن تكون لك نية حسنة في الجدال والنضال.
ولا يضيرك بعد ذلك أن يأكل لحمك السفهاء، فأنت في وجود لا يسلم فيه من أذى الناس إلا الخاملون والضعفاء، وهل سلم الأنبياء والمرسلون من أذى الناس حتى تطلب السلامة من أذى الناس؟
قبح الخصومة
ولكن تذكر أيها المريد مهما كان حالك وشأنك ما حدث ابن قتيبة إذ قال: مر بي بشر بن عبد الله فقال: ما يجلسك ههنا؟ فقلت: خصومة بيني وبين ابن عم لي فقال: إن لأبيك عندي يدا، وإني أريد أن أجزيك بها، وإني والله ما رأيت شيئا أذهب للدين، ولا أنقص للمروءة، ولا أضيع للذة، ولا أشغل للقب من الخصومة. قال: فقمت لأنصرف فقال لي خصمي: ما لك؟ قلت: لا أخاصمك! فقال: إنك عرفت أن الحق لي! فقلت: لا، ولكني أكرم نفسي عن هذا.
18
والصوفية لا ينكرون أن يخاصم الرجل في سبيل حقوقه، ولكنهم ينكرون اللدد في الخصومة، لما في اللدد من التسلط والإيذاء ولا سيما إذا امتزج اللدد بكلمات لا يحتاج إليها في تأييد الحجة وإظهار الحق «فأما المظلوم الذي ينصر حجته بطريق الشرع من غير لدد ولا زيادة لجاج على قدر الحاجة، ومن غير قصد عناد وإيذاء ففعله ليس بحرام، ولكن الأولى تركه ما وجد إلى الترك سبيلا، فإن ضبط اللسان في الخصومة على قدر الاعتدال متعذر، والخصومة توغر الصدر وتهيج الغضب. وإذا هاج الغضب نسي المتنازع فيه وبقي الحقد بين المتخاصمين حتى يفرح كل واحد بمساءة صاحبه، ويحزن بمسرته، ويطلق اللسان في عرضه، فمن بدأ بالخصومة فقد تعرض لهذه المحذورات».
18
والحق أن هذا الجانب من الأدب دقيق، فالخصومة في سبيل الحقوق واجبة، ولكنها تجر أحيانا إلى ضيم وهوان. والوقوف أمام المحاكم يغض من أقدار الرجال، وما ينبغي أن يعرف الرجل أبواب المحاكم إلا حين تضيق أمامه جميع المسالك. والذي يقف للدفاع عن حقه أمام المحكمة قد تسوقه الظروف إلى التزيد، والتزيد قبيح، وقد ينتهي إلى رمي الخصم بعبارات أو إشارات لا تصلح للصدور من رجل كريم. ومن هنا كره الصالحون أن يكون الرجل فصيح اللسان أمام القضاة؛ لأن فصاحة اللسان قد تحق الباطل في بعض الأحيان.
صيانة اللسان عن الفحش واللعن
والصوفية يكرهون للمريد أن يتقعر في الكلام بالتشدق ، وتكلف السجع والفصاحة، والتصنع فيه بالتشبيبات والمقدمات، وما جرت به عادة المتفاصحين المدعين للخطابة،
19
ويذكرون أن عمر بن سعد بن أبي وقاص جاء إلى أبيه سعد يسأله حاجة، فتكلم بين يدي حاجته بكلام فقال له سعد: ما كنت من حاجتك بأبعد منك اليوم، إني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: يأتي على الناس زمان يتخللون الكلام بألسنتهم كما تتخلل البقر الكلأ بألسنتها.
19
ولا يدخل في هذا تحسين ألفاظ الخطابة والتذكير من غير إفراط وإغراب، فإن الغرض من الخطابة تحريك القلوب وتشويقها وقبضها وبسطها، ولرشاقة اللفظ تأثير في ذلك، فأما المحاورات التي تجري لقضاء المصالح فلا ينبغي أن يقع فيها أي تكلف.
ومعنى هذا أن الصوفية يرون التفصح من غير موجب ينافي أدب الرجل المهذب.
والصوفية يكرهون لمريديهم أن تقع ألسنتهم في الفحش، والفحش هو كلام «غليظ» بجانب سلامة الذوق، وقد نهى الرسول عن أن تسب قتلى بدر من المشركين فقال: لا تسبوا هؤلاء، فإنه لا يخلص إليهم شيء مما تقولون، وتؤذون الأحياء، ألا إن البذاء لؤم
20
وقال: إن الله لا يحب الفاحش المتفحش الصياح في الأسواق.
وقال إبراهيم بن ميسرة: يؤتى بالفاحش المتفحش يوم القيامة في صورة كلب أو في جوف كلب.
21
ويكره الصوفية أن يتكلم الرجل عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة «وأكثر ذلك يجري في ألفاظ الوقاع وما يتعلق به، فإن لأهل الفساد عبارات صريحة فاحشة يستعملونها فيه، وأهل الصلاح يتحاشون عنها، بل يكنون ويدلون عليها بالرموز فيذكرون ما يقاربها ويتعلق بها ... وهناك عبارات فاحشة يستقبح ذكرها، ويستعمل أكثرها في الشتم والتعيير، وهذه العبارات متفاوتة في الفحش وبعضها أفحش من بعض، وربما اختلف ذلك بعادة البلاد ... والباعث على الفحش إما قصد الإيذاء، وإما الاعتياد الحاصل من مخالطة الفساق وأهل الخبث واللؤم، ومن عادتهم السب».
21
والغزالي بهذه العبارة متنبه إلى تلون الألفاظ بألوان الأقاليم، فما يستقبح هنا قد لا يستقبح هناك، والمعول عليه هو البعد عن مخاطبة الناس بما لا يحبون.
وبسبب هذا التحرز أولع العرب بالتأليف في الكنايات ليرشدوا الجمهور إلى مواقع الخشونة في التعابير، وينبهوه إلى المقبول من الألفاظ في مختلف الأحوال.
ويكره الصوفية أن تجري الألسنة بكلمات اللعن، واللعن عبارة عن الطرد والأبعاد من الله تعالى، وذلك غير جائز إلا على من اتصف بصفة تبعده من الله عز وجل، وهو الكفر والظلم، بأن يقول: لعنة الله على الظالمين وعلى الكافرين. ولكن في لعن أوصاف المبتدعة خطر؛ لأن معرفة البدعة غامضة، ولم يرد فيه لفظ مأثور. والتفصيل فيه أن كل شخص ثبتت لعنته شرعا تجوز لعنته، كقولك: فرعون لعنه الله، وأبو جهل لعنه الله؛ لأنه قد ثبت أن هؤلاء ماتوا على الكفر وعرف ذلك شرعا، أما شخص بعينه في زماننا كقولك زيد لعنه الله، وهو يهودي مثلا، فهذا فيه خطر؛ فإنه ربما يسلم فيموت مقربا عند الله، فكيف يحكم بكونه ملعونا.
22
ونقل الغزالي أن نعيمان شرب الخمر فحد مرات في مجلس رسول الله، فقال بعض الصحابة: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به! فقال الرسول: لا تكن عونا للشيطان على أخيك.
قال الغزالي: وهذا يدل على أن لعن فاسق بعينه غير جائز.
ثم قال: فإن قيل: هل يجوز لعن يزيد لأنه قاتل الحسين أو آمر به؟ قلنا: هذا لم يثبت أصلا. فلا يجوز أن يقال إنه قتله أو أمر به ما لم يثبت، فضلا عن اللعنة؛ لأنه لا تجوز نسبة مسلم إلى كبيرة من غير تحقيق، ولا يجوز أن يرمي مسلم بفسق وكفر من غير تحقيق.
23
ونص الغزالي على اسم يزيد له دلالة اجتماعية، فهو يصور بعض عيوب المجتمع في القرن الخامس، ولعلها من عيوبه إلى اليوم، فقد كان وقوع الناس في أعراض الخلفاء والملوك والوزراء من العيوب الشائعة في الممالك الإسلامية، وإليها يرجع أكبر الأسباب في زعزعة الأمن والثقة بين الناس، والخصومة بين الأمويين والعلويين لها دخل في ذلك، وقد نهى الصالحون عن مضغ حوادث التاريخ، ولا سيما حين ينتهي ذلك إلى النزاع والشقاق، وهذه الآفة على ما فيها من بشاعة كان لها فضل على الأدب يراه من اطلع على كتاب «المدائح النبوية في الأدب العربي»، فقد بينا هناك كيف أتى الكميت بالأعاجيب وهو يهجو الأمويين، وكيف برع دعبل وهو يهجو العباسيين، ولكن ذلك الهجوم على ما فيه من روعة فنية وأدبية لا يليق بالمريد؛ لأن هذه الخصومات أصبحت في ذمة التاريخ، والإقبال عليها قد يولد في النفس أحقادا جديدة يشقى بها الناس من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
وقد بدأ الشيعة يتأثرون بمذهب أهل السنة في التغافل عن سيئات الماضي، وفي رجال الشيعة لهذا العهد من يروض تلاميذه على دراسة التاريخ دراسة علمية لا مذهبية، وسيأتي يوم قريب جدا يتأدب فيه المسلمون جميعا بأدب الصوفية الذين يستنكرون تكفير مسلم أو تفسيقه بلا بينة ولا برهان.
والتسامح أساس الحب، ولا يعطف المسلمون بعضهم على بعض إلا إذا اقتربوا في فهم الأشياء، وتناسوا ما في التاريخ من ضغائن وظلمات.
24
خطر المزاج
والصوفية يبغضون الإفراط في المزاح والمداومة عليه؛ لأن ذلك يورث الضحك، وكثرة الضحك تميت القلب وتورث الضغينة في بعض الأحوال، وتسقط المهابة والوقار.
25
وقال يوسف بن أسباط: أقام الحسن ثلاثين سنة لم يضحك، وقيل: أقام عطاء السلمي أربعين سنة لم يضحك. ونظر وهيب بن الورد إلى قوم يضحكون في عيد فطر فقال: إن كان هؤلاء قد غفر لهم فما هذا فعل الشاكرين، وإن كان لم يغفر لهم فما هذا فعل الخائفين.
26
وقال عمر بن عبد العزيز: اتقوا الله وإياكم والمزاح فإنه يورث الضغينة ويجر إلى القبيح، تحدثوا بالقرآن وتجالسوا به، فإن ثقل عليكم فحديث حسن من أحاديث الرجال.
وقيل: لكل شيء بذر، وبذر العداوة المزاح.
قال الغزالي فإن قلت: فقد نقل المزاح عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأصحابه فكيف ينهي عنه؟ فأقول: إن قدرت على ما قدر عليه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأصحابه وهو أن تمزح ولا تقول إلا حقا، ولا تؤذ قلبا، ولا تفرط فيه، وتقتصر فيه أحيانا على الندور، فلا حرج عليك فيه. ولكن من الغلط العظيم أن يتخذ الإنسان المزاح حرفة فيواظب عليه ويفرط فيه، ثم يتمسك بفعل الرسول
صلى الله عليه وسلم
فيكون كمن يدور نهاره مع الزنوج ينظر إليهم وإلى رقصهم، ويتمسك بأن الرسول أذن لعائشة في النظر إلى رقص الزنوج في يوم عيد، وهو خطأ؛ إذ من الصغائر ما يصير كبيرة بالإصرار، ومن المباحات ما يصير صغيرة بالإصرار.
27
ولا ريب في أن المزاج فيه أحيانا مطايبات تشرح الصدور، ولكن المهم هو أن لا يقع في المزاح ما يؤذي الرفيق والصديق والجليس، فمن الناس من يأمن جانبك فيمازحك بما لا تحب، وأمثال هؤلاء قد حرمهم الله نعمة الخلق الكريم، وصحبتهم بلاء، وأسوأ الناس حظا في دنياه من ابتلى برفاق محرومين من نعمة الذوق لا يرعون حرمة المجلس ولا حق الجليس.
والمزاح في الأصل فيض من جذل النفس، وقد يجب في بعض الأحيان، ولكن الحيطة فيه قد تصعب، وسياسة النفس عند الانشراح لا يقدر عليها إلا الأقلون، فمن واجب من يهمه أمر نفسه أن يترك المزاح جملة واحدة إلا إن صادف من يدركون قيمة المطايبات، وهم في هذا الزمن أقل من القليل.
يضاف إلى هذا أن الناس لا يدركون النكتة بطعم واحد، فما يضحك له هذا قد يغضب منه ذاك، وفي بني آدم مخلوقات لها أذواق غلاظ، والهرب من صحبة هؤلاء واجب مفروض على الرجل الحصيف.
وقد أثر عن كبار الرجال كثير من المزاح والمطايبات، ولكن هؤلاء الرجال الكبار كانوا يعرفون كيف يمازحون ويطايبون، وكان جلساؤهم في الأغلب من أهل الفطنة والذوق، فما جاز لهم لا يجوز لك، فقد تكون ممن ابتلاهم الله بأن يعيشوا في عصر محروم من نعمة الفطنة والذوق.
وما أحب أن أزيد، وقاك الله من أهل زمانك وحماك!
النهي عن السخرية والاستهزاء
وهناك آفة أشنع من المزاح وهي السخرية والاستهزاء، وذلك محرم لما فيه من الإيذاء، قال الله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ، ومعنى السخرية الاستهانة والتحقير والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء ... وهذا إنما يحرم في حق من يتأذى به، فأما من جعل نفسه مسخرة وربما فرح من أن يسخر به كانت السخرية في حقه من جملة المزح.
28
شناعة الكذب
والصوفية ينهون عن الوعد الكاذب، ولا نرى موجبا لشرح هذه الآفة؛ فقد فشت في هذا الزمان حتى صارت من قواعد السلوك. والله المستعان على أهل هذا الزمان!
ويكره الصوفية لمريديهم أن يكذبوا في القول واليمين «وهو من قبائح الذنوب، وفواحش العيوب»،
29
فقد قال الحسن: كان يقال: إن من النفاق اختلاف السر والعلانية، والقول والعمل، والمدخل والمخرج، وقال رسول الله: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم، المنان بعطيته، والمنفق سلعته بالحلف الفاجر، والمسبل إزاره. وقال: ما حلف حالف بالله فأدخل فيها مثل جناح بعوضة إلا كانت نكتة في قلبه إلى يوم القيامة. وقال: ثلاثة يحبهم الله، رجل كان في فئة فنصب نحره حتى يقتل أو يفتح الله عليه وعلى أصحابه، ورجل كان له جار سوء يؤذيه فيصبر على أذاه حتى يفرق بينهما موت أو ظعن، ورجل كان معه قوم في سفر أو سرية
30
فأطالوا السرى حتى أعجبهم أن يمسوا الأرض فنزلوا فتنحى يصلي حتى يوقظ أصحابه للرحيل. وثلاثة يشنأهم الله: التاجر، أو البياع الحلاف والفقير المحتاج،
31
والبخيل المنان.
والصوفية يرون الكذب أقبح من الزنا ويستأنسون بما روي عن عبد الله بن جراد قال: سألت رسول الله فقلت: يا رسول الله، هل يزني المؤمن؟ قال: قد يكون ذلك. قلت: يا نبي الله، هل يكذب المؤمن؟ قال: لا، ثم أتبعها
صلى الله عليه وسلم
بقول الله تعالى:
إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله .
وسمع رسول الله يقول في دعائه: «اللهم طهر قلبي من النفاق، وفرجي من الزنا، ولساني من الكذب».
فجعل الكذب في بشاعة الزنا والنفاق.
وقال
صلى الله عليه وسلم : «ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم ، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعابد مستكبر».
وقال: لو أفاء الله علي عدد هذا الحصى لقسمتها بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا، ولا كذابا، ولا جبانا ... وقام رسول الله وكان متكئا فقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، ثم قعد وقال: ألا وقول الزور.
وقال: إن العبد ليكذب الكذبة فيتباعد عنه الملك مسيرة ميل من نتن ما جاء به.
وقال: تقبلوا لي بست أتقبل لكم بالجنة، قالوا: وما هن؟ قال: إذا حدث أحدكم فلا يكذب، وإذا وعد فلا يخلف، وإذا ائتمن فلا يخن، وغضوا أبصاركم، واحفظوا فروجكم، وكفوا أيديكم.
وقال: كل خصلة يطبع أو يطوى عليها المسلم إلا الخيانة والكذب.
ومن أبلغ ما قيل في تقبيح الكذب قول ابن السماك: ما أراني أؤجر على ترك الكذب لأني إنما أدعه أنفة.
وهنا تظهر سماحة التصوف، فالصوفي يكره الكذب؛ لأنه ينافي شرف النفس، وهم مع ذلك فطنوا إلى ما في الكذب من الإضرار بالناس، فنصوا على «أن الكذب ليس حراما لعينه، بل لما فيه من الضرر على المخاطب أو على غيره».
32
وقد تكلم الصوفية على ألوان من الأكاذيب، وسكتوا عن أشياء لم تعرفها العصور الماضية إلا قليلا، سكتوا عن الأكاذيب التي يعرفها «المهذبون» من أهل هذا الجيل، وعن الأخبار التي يخترعونها اختراعا أثيما ليغضوا من أقدار الرجال، وهم في هذا يعتمدون على الغفلة الفاشية بين الناس، فأكثر خلق الله يصدقون كل ما يسمعون، والحط من قيمة الرجل باختراع الأكاذيب أمر سهل؛ لأنه يقوم على انعدام الضمير، والضمير عند أكثر من تعرف لفظ بلا مدلول.
والكذب لا يقف ضرره على المكذوب عليه، بل ضرره بالكاذب أقبح وأشنع؛ لأنه يمحق شخصيته الخلقية، ويقفه أمام نفسه موقف الذليل المهين، وأوقح الناس لا يستطيع الفرار من رؤية الأشياء على ما هي عليه، فالكاذب يعرف جيدا أنه كاذب، وهذه المعرفة تؤذيه أشد الإيذاء؛ لأنها تقتل ثقته بشرف النفس، وإذا انعدمت ثقة مخلوق بشرف نفسه فمصيره إلى الانحلال .
والصدق ينفع الناس، ولكن فضله على الصادق أعظم وأجزل؛ لأنه يقدم إلى صاحبه ذخائر من الثقة والأمانة والشرف، وثقة المرء بقدرته على كرم الخصال تسوقه إلى ميادين المجد، وترفع رأسه في السر والعلانية، وتؤهله للمنازل الكريمة بين الرجال.
وأكثر من درسوا الأخلاق يتوهمون أنها ترجع إلى غايات نفعية هي الصلاحية للحياة السعيدة بين الناس. ولو تأملوا لعرفوا أن للأخلاق منفعة نفسية، فهي ترسل الأشعة الكريمة على آفاق النفس، وتحيط القلب الطيب بأرواح الفراديس.
ولا يعرف صدق هذه العبارة إلا من راض نفسه على التخلق بأخلاق الحكماء، وما في الأخلاق الصوالح من صعوبة وعسر هو أساس ما فيها من نشوة روحية؛ لأنها تصورنا أمام أنفسنا بصورة القادرين المسيطرين على زيغ الأهواء والميول.
والصوفية يرون الكذب مما يطلب في بعض الأحوال، كأن يتوقف عليه الصلح بين الناس، وكأن يكون وسيلة لتغطية الضغائن والحقود.
ومعنى هذا أن الخلق يحسن أو يقبح تبعا لما يسوق من المغانم، أو يجر من المفاسد.
والذي يدل على استثناء بعض ضروب الكذب ما روي عن أم كلثوم قالت: ما سمعت رسول الله يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث: الرجل يقول القول يريد به الإصلاح، والرجل يقول القول في الحرب، والرجل يحدث امرأته والمرأة تحدث زوجها.
قال الغزالي: فهذه الثلاث ورد فيها صريح الاستثناء، وفي معناها ما عداها إذا ارتبط به غرض مقصود صحيح، له أو لغيره، أما ماله فمثل أن يأخذه ظالم ويسأله عن ماله فله أن ينكره، أو يأخذه سلطان فيسأله عن فاحشة بينه وبين الله تعالى ارتكبها فله أن ينكر ذلك، فيقول: ما زنيت وما سرقت ... وذلك أن إظهار الفاحشة فاحشة أخرى، فللرجل أن يحفظ دمه وماله الذي يؤخذ ظلما، وعرضه بلسانه وإن كان كاذبا، وإن كان عرض غيره فبأن يسأل عن سر أخيه فله أن ينكره، وأن يصلح بين اثنين، وأن يصلح بين الضرات من نسائه، بأن يظهر لكل واحدة أنها أحب إليه، أو يعتذر إلى إنسان وكان لا يطيب قلبه إلا بإنكار ذنب، وزيادة تودد فلا بأس به.
33
والمهم من كل ذلك هو النص على أن الصوفية يبغضون الكذب أشد البغض حين يكون فيه إضرار وإيذاء، ويتسامحون فيه حين يكون أقرب إلى الخير من الصدق.
مآثم الاغتياب
ننتقل إلى رأي الصوفية في الغيبة: قال الغزالي: «والنظر فيها طويل».
والواقع أن الصوفية جميعا تكلموا على مآثم الاغتياب، وكان في النية أن نعقد فصلا للكلام على هذه الآفة الخبيثة التي يرجع إليها أكثر أسباب الفساد بين الناس، وهي في حقيقة الأمر أفظع المهلكات، وهي سلاح الضعفاء والعاجزين والأوغاد، وما سهلت الغيبة على لسان مخلوق إلا كان ذلك شاهدا على ترديه في بؤرة الانحطاط.
34
والله عز شأنه ذم الغيبة في كتابه العزيز، وشبه صاحبها بأكل لحم الميتة فقال:
ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه ، وقال
صلى الله عليه وسلم : كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه. وقال: لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تناجشوا
35
ولا تدابروا، ولا يغتب بعضكم بعضا، وكونوا عباد الله إخوانا. وقال: إياكم والغيبة، فإن الغيبة أشد من الزنا، فإن الرجل قد يزني ويتوب فيتوب الله سبحانه عليه، وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه. وقال: مررت ليلة أسرى بي على أقوام يخمشون وجوههم بأظافيرهم فقلت: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يغتابون الناس ويقعون في أعراضهم.
وقال البراء: خطبنا رسول الله حتى أسمع العواتق
36
في بيوتهن، فقال: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته».
وقيل أوحي إلى موسى عليه السلام: من مات تائبا من الغيبة فهو آخر من يدخل الجنة، ومن مات مصرا عليها فهو أول من يدخل النار.
وقال أنس: خطبنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فذكر الربا وعظم شأنه
37
فقال: إن الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله في الخطيئة من ست وثلاثين زنية يزنيها الرجل، وأربى الربا عرض الرجل المسلم.
ولما رجم رسول الله ماعزا في الزنا قال رجل لصاحبه: هذا أقعص كما يقعص الكلب! فمر
صلى الله عليه وسلم
وهما معه بجيفة فقال: انهشا منها! فقالا: يا رسول الله، ننهش جيفة! فقال: ما أصبتما من أخيكما أنتن من هذه.
وقال الحسن: والله للغيبة أسرع في دين الرجل المؤمن من الأكلة في الجسد.
38
وقال بعضهم: أدركنا السلف وهم لا يرون العبادة في الصوم، ولا في الصلاة، ولكن في الكف عن أعراض الناس.
وسمع علي بن الحسين رجلا يغتاب آخر فقال له: إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس.
وإنما أطلنا نقل هذه النصوص لغرضين:
الأول:
دلالتها على اهتمام الصوفية بتقبيح الاغتياب،
والثاني:
ما فيها من الصور الأدبية، فهي جميعا من الكلام النفيس،
وإنا لنرجو أن ينتفع بها أحد القارئين فتكون نعمة من الله على هذا الكتاب.
والغيبة هي أن نذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه، سواء ذكرته بنقص في بدنه أو في نسبه أو في خلقه، أو في فعله، أو في قوله، أو في دينه، أو في دنياه، حتى في ثوبه وداره ودابته.
39
وهي لا تقتصر على اللسان، بل يتحقق أذاها بالتعريض والإشارة والإيماء والغمز والهمز والكتابة والحركة، وكل ما يفهم المقصود فهو داخل في الغيبة وهو حرام.
والاغتياب بالكتابة هو في عصرنا أشنع أنواع الاغتياب؛ لأنه ينشر في الكتب والجرائد والمجلات فيطير من أرض إلى أرض.
ومن الغيبة أن تقول: (بعض من مر بنا اليوم، أو بعض من رأيناه) إذا كان المخاطب يفهم منه شخصا معينا، فإذا لم يفهم عينه حاز فقد كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إذا كره من إنسان شيئا قال: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا.
40
والتصديق بالغيبة غيبة، بل الساكت شريك المغتاب، قال
صلى الله عليه وسلم : المستمع أحد المغتابين.
40
ولا يخرج المستمع من إثم الغيبة إلا أن ينكر بلسانه، أو بقلبه إن خاف، وإن قدر على القيام أو قطع الكلام بكلام آخر يفعل لزمه إثم الغيبة .
وإن قال بلسانه: اسكت، وهو مشته لذلك بقلبه فذلك نفاق، ولا يخرج من الإثم ما لم يكرهه بقلبه.
40
قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : من أذل عنده مؤمن فلم ينصره وهو يقدر على نصره أذله الله يوم القيامة على رءوس الخلائق.
وقال: من رد عن عرض أخيه بالغيب كان حقا على الله أن يرد عن عرضه يوم القيامة.
وقال أيضا: من ذب عن عرض أخيه بالغيب كان حقا على الله أن يعتقه من النار.
وقد عرض الغزالي أسبابا للغيبة تدل على بصره بأخلاق الناس، وأنا أرجع أسباب الغيبة إلى سبب واحد هو شعور المغتاب بالانحطاط، فهو يريد أن يحط من أقدار الناس ليصبح من المألوف أن الناس جميعا منحطون فيتساوى الفاضل بالمفضول.
والجهلاء يولعون باغتياب العلماء ليوهموا أنفسهم ويوهموا الجمهور أن العلم مزية صغيرة، وأن المزايا كلها فيما يدعيه الجاهلون من متانة الأخلاق.
ومن هنا لم تسلم أعراض العلماء من ألسنة السفهاء، فكل ذي نعمة محسود، وما ظفر رجل بمنزلة علمية أو أدبية أو اجتماعية إلا ضاقت به صدور الجهلاء والمهازيل والمتخلفين.
وسينقضي الدهر قبل أن تصح أخلاق الناس فيثق أهل الفضل بأنهم في أمان من تقول المتقولين، وإرجاف المرجفين، ومكايد المنحطين.
ومن الصور التي لا تزال حية من عهد الغزالي إلى اليوم صورة الرفاق الذين لا تطيب مجالسهم إلا بأكل لحوم الناس، وهي ما سماه «موافقة الأقران ومجاملة الرفقاء ومساعدتهم على الكلام، فإنهم إذا كانوا يتفكهون بذكر الأعراض فيرى أنه لو أنكر عليهم، أو قطع المجلس استثقلوه، ونفروا عنه فيساعدهم، ويرى ذلك من حسن المعاشرة، ويظن أنه مجاملة في الصحبة، وقد يغضب رفقاؤه فيحتاج إلى أن يغضب لغضبهم إظهارا للمساهمة في السراء والضراء فيخوض معهم في ذكر العيوب والمساوي».
41
وقد أخذت هذه الصورة ألوانا جديدة في العصر الحاضر: العصر الدميم الذي لا يفوز فيه إلا أهل البذاءة والرقاعة والانحطاط، وصار من تقاليد المجالس أن يكون فيها سفهاء يقدمون الفواكه المحرمة للآذان الشرهة التي لا يغذيها غير سماع الزور والبهتان.
والرجل الذي يصون لسانه عن الخوض في لغو الحديث لا يصلح اليوم للمجالس، ولا سيما إذا كان أصحاب تلك المجالس من الذين رفعهم الدهر المخبول فوصلوا بالدس والكيد إلى ما يعجز عنه الأحرار والأشراف.
وقد نبه الغزالي على دقائق من الغيبة يقع فيها رجال الدين، ورجال الدين في أغلب أحوالهم من أهل الغفلة والعجرفة، ولا سيما في العصور التي يغلب فيها الرياء.
ولنعط الكلمة للغزالي فهو بأحوالهم أبصر وأعرف، قال:
وأما الأسباب الثلاثة التي هي في الخاصة فهي أغمضها وأدقها؛ لأنها شرور عرضها
42
الشيطان في معرض الخيرات، وفيها خير، ولكن شاب الشيطان بها الشر:
الأول:
أن تنبعث من الدين داعية التعجب في إنكار المنكر والخطأ في الدين فيقول: ما أعجب ما رأيت من أمر فلان! فإنه قد يكون صادقا، ويكون تعجبه من المنكر، ولكن كان حقه أن يتعجب ولا يذكر اسمه فيسهل الشيطان عليه ذكر اسمه في إظهار تعجبه فصار به مغتابا وآثما من حيث لا يدري. ومن ذلك قول الرجل: تعجبت من فلان كيف يحب جاريته وهي قبيحة، وكيف يجلس بين يدي فلان وهو جاهل!
الثاني:
الرحمة، وهو أن يغتم بسبب ما يبتلي به فيقول: مسكين فلان قد غمني أمره، وما ابتلى به! فيكون صادقا في دعوى الاغتمام ويلهيه الغم عن الحذر من ذكر اسمه فيذكره فيصير به مغتابا فيكون غمه ورحمته خيرا، وكذا تعجبه، ولكن ساقه إلى شر من حيث لا يدري، والترحم والاغتمام ممكن دون ذكر اسمه فيهيجه الشيطان على ذكر اسمه ليبطل به ثواب اغتمامه وترحمه.
الثالث:
الغضب لله تعالى، فإنه قد يغضب على منكر قارفه إنسان إذا رآه أو سمعه فيظهر غضبه ويذكر اسمه، وكان الواجب أن يظهر غضبه عليه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يظهره على غيره، أو يستمر اسمه ولا يذكره بالسوء، فهذه الثلاثة مما يغمض دركها على العلماء فضلا عن العوام؛ فإنهم يظنون أن التعجب والرحمة والغضب إذا كان لله تعالى كان عذرا في ذكر الاسم، وهو خطأ.
43
وما قاله الغزالي عن رجال الدين في القرن الخامس هو من آفاتهم في القرن الرابع عشر. ومن النادر جدا أن تتصل برجل من رجال الدين فيوحي إليك بأدبه ولطفه وروحه معاني الهداية، وكيف يكون ذلك وهم لا يعرفون غير القعقعة والجعجعة في خطبهم وأحاديثهم ومقالاتهم! وقد يتفق لهم أن يؤلفوا الكتب وينشئوا المجلات في الدعوة إلى الله، ولكن تنقصهم البشاشة والروحانية فيعجزون عن نقل الناس من الظلمات إلى النور، وقد ينقلونهم أحيانا من الهدى إلى الضلال.
وربما رجع ذلك إلى أزمة وجدانية وعقلية متصلة بالعصر الحديث، فشيوع التعاليم المدنية والأنظمة المدنية أوهم رجال الدين أنهم في حرب مع الجيل الجديد، وهم بالفعل في حرب، وهذا الروح المشبع بسوء الظن والخوف من الهزيمة يحملهم على الإسراف في اتهام أبناء الجيل الجديد بالوقوع في المآثم، والخروج على أدب الدين الحنيف.
وبفضل هذا الإسراف صارت طلعة رجل الدين طلعة كريهة لا يلقاها الناس بالترحيب؛ لأنه لا ينظر إلا إلى عيوبهم، ولا يهتم إلا بالكشف عن مساويهم، ولا يطول لسانه إلا حين يجد مجالا للتقريع والتأنيب، ولو عقل لعرف أن من واجبه أن يدلهم على مبلغ صلاحيتهم للخير والهداية.
وإذا حرم رجال الدين نعمة الحب، حب الناس لهم والتشوف إليهم، فقد عجزوا عجزا تاما عن نصرة الدين، والخير لا ينتظر من الواعظ البغيض الذي لا يحدث الناس إلا بما يكرهون.
ومن المؤلم أن يعجز الأشياخ عما يقدر عليه القسيسون، فالقسيس لا يزال رجلا لطيفا يداخل الناس ويسايرهم ويسامرهم ليعرف أهواءهم، ويقتلها برفق. والترغيب على لسان القسيس أكثر من الترهيب، وقد كان أشياخنا كذلك قبل أن تشيع الأحقاد بين الأحزاب المدنية والدينية، يوم كان «شيخ الطريقة» يدخل البلد فيملأها بالبشاشة والروحانية.
وفي مصر اليوم وعاظ يسيرون في البلاد هادين ومرشدين، والأمل كبير في أن يتخلقوا بأخلاق الصوفية؛ فتكون فيهم الوداعة والبشاشة والرفق ليصلوا إلى قلوب الناس، ويحببوهم في الأعماق الصالحات، وقد يوفقون إلى السياسة الرشيدة فيتصلون بمن في الأقاليم من معلمين وموظفين، ويشوقونهم إلى التأدب بأدب الدين الحنيف، ويومئذ يصل الواعظ إلى المنزلة التي كان يتمتع بها الشعراني والمرصفي والشناوي في القرن العاشر، حين كان الصوفية يسيطرون بالأدب الحق على قلوب العوام والخواص.
وقد أفاض الغزالي في علاج الغيبة، وله في ذلك صحائف بيض نود لو يرجع إليها القارئ في الجزء الثالث من الإحياء، فقد تنقله من حال إلى حال، وهو يوصي بأن يتدبر المرء في نفسه، فإن وجد فيها عيبا اشتغل بعيب نفسه، وإذا لم يجد عيبا في نفسه فليشكر الله تعالى، ولا يلوثن نفسه بأعظم العيوب، فإن ثلب الناس وأكل لحم الميتة من أعظم العيوب.
وقد تحدث عمن يشترك في الغيبة مجاملة لإخوانه فقال: علاج ذلك أن تعلم أن الله تعالى يغضب عليك إذا طلبت سخطه في رضاء المخلوقين. فكيف ترضى لنفسك أن توقر غيرك وتحتقر مولاك فتترك رضاه لرضاهم، إلا أن يكون غضبك لله تعالى؛ وذلك لا يوجب أن تذكر المغضوب عليه بسوء، بل ينبغي أن تغضب لله أيضا على رفقائك إذا ذكروه بالسوء، فإنهم عصوا ربك بأفحش الذنوب وهي الغيبة.
44
وتكلم على من يغتاب غيره استهزاء به فقال: وأما الاستهزاء فمقصودك منه إخزاء غيرك عند الناس بإخزاء نفسك عند الله تعالى وعند الملائكة والنبيين عليهم الصلاة والسلام، فلو تفكرت في حسرتك وجنايتك وخجلك وخزيك يوم القيامة لأدهشك ذلك عن إخزاء صاحبك.
44
والصوفية يحرمون الغيبة بالقلب، وهي سوء الظن.
وهذه غيبة هينة من حيث صلتها بالمجتمع؛ لأنها قليلة الإيذاء، ولكن ضررها راجع عليك؛ لأنها تفسد قلبك، وتشغل ضميرك، وتزعزع وجدانك، وتضيع صفاء نفسك. والواجب أن يخلو قلبك خلوا تاما من كل سوء فلا يكون فيه غير صور الخير والجمال.
وكفارة الغيبة هي الندم والتوبة والتأسف واستقالة من أذيتهم بالاغتياب.
قبح النميمة والسعاية
والصوفية يبغضون النميمة، وهي نقل آراء الناس بعضهم في بعض، وهي آفة سيئة العواقب. ولا يقترفها إلا المحرومون من نعمة الحب، حب الخير للناس.
وإذا كانت النميمة إلى من يخاف جانبه سميت سعاية.
قال مصعب بن الزبير: نحن نرى أن قبول السعاية شر من السعاية؛ لأن السعاية دلالة والقبول إجازة، فاتقوا الساعي فلو كان صادقا في قوله لكان لئيما في صدقه؛ حيث لم يحفظ الحرمة ولم يستر العورة.
45
وقال رجل لعمرو بن عبيد: إن الأسواري ما يزال يذكرك في قصصه بشر، فقال له عمرو: يا هذا، ما رعيت حق مجالسة الرجل حين نقلت إلينا حديثه، ولا أديت حقي حين أعلمتني عن أخي ما أكره، ولكن أعلمه أن الموت يعمنا، والقبر يضمنا، والقيامة تجمعنا، والله يحكم بيننا، وهو خير الحاكمين.
46
ورفع بعض السعاة إلى الصاحب بن عباد رقعة نبه فيها على مال يتيم يحمله على أخذه لكثرته، فوقع على ظهر الرقعة: «السعاية قبيحة، وإن كانت صحيحة، فإن كنت أجريتها مجرى النصح فخسرانك فيها أكثر من الربح، ومعاذ الله أن نقبل مهتوكا في مستور. ولولا أنك في خفارة شيبك لقابلناك بما يقتضيه فعلك في مثلك، فتوق يا ملعون العيب، فالله أعلم بالغيب. الميت رحمه الله، واليتيم جبره الله، والساعي لعنه الله».
47
وقال بعضهم: لو صح ما نقله النمام إليك، لكان هو المجترئ بالشتم عليك، والمنقول عنه أولى بحلمك؛ لأنه لم يقابلك بشتمك.
كلمة ختامية في الفرق بين الصوفية وبين غيرهم من رجال الأخلاق
أما بعد، فقد عرضنا ألوانا من المهلكات، وأشرنا إشارات خفيفة إلى طرق الخلاص، ومنهج البحث لا يوجب أن نطيل في شرح المهلكات والمنجيات، فما أردنا إلا الوصول إلى غرض واحد هو بيان الحرص الشديد من جانب الصوفية على تقوية الشخصية الخلقية.
قد يقال: إن الصوفية لم يأتوا بشيء جديد، فهم يرضون ويغضبون على نحو ما يقع لسائر رجال الأخلاق، ونقول: إن ما امتاز به الصوفية هو التحرز الشديد من آفات الأخلاق، والإلحاح الموصل في تعرف أهواء النفوس والقلوب، وإنا لنرجو أن يرجع القارئ إلى الجزء الثالث والرابع من كتاب الإحياء، فقد شرح الغزالي ضروب المهلكات والمنجيات شرحا وافيا، وفصلها أوسع تفصيل، وجمع بين المعقول والمنقول بأسلوب شائق جذاب، وما عرف إنسان مؤلفات الغزالي إلا أحس بوجوب الرجوع إلى درس نفسه من جديد.
خاتمة الكتاب
ما أحسبني أحتاج إلى التذكير بالأساس الذي قام عليه هذا الكتاب، فقد فصلت القول فيه كل التفصيل، واعتذرت غير مرة بارتباط بعض أجزاء الكتاب ببعض ارتباطا يجعل من العسير في بعض الأحيان أن يكون البحث الواحد في الأدب الصرف أو الخلق البحت، فلم يبق إلا أن يكون التقسيم مبنيا على غلبة الخصائص الأدبية أو الأخلاقية، وكذلك صنعت في تبويب هذا الكتاب، فجعلت الجزء الأول في الأدب، والجزء الثاني في الأخلاق.
وقد امتد بنا الشوط في الدراسات والمراجعات وهممنا بأن نجعل هذا الكتاب مرجعا شاملا لجميع الآراء الصوفية، ولكن الوفاء لمنهج البحث صرفنا عما هممنا به من الاستطراد والاستقصاء، فما كانت غايتنا إلا بيان تأثير التصوف في الأدب والأخلاق، وفي مثل هذه الحال لا يطلب منا أن نقف عند كل باب وقفة الشارحين والمحققين، فذلك يطلب ممن يؤلف كتابا في شرح الأخلاق الصوفية على نحو ما صنع المكي في قوت القلوب، والغزالي في إحياء علوم الدين.
وقد شهد القارئ في الجزء الأول أننا حرصنا على بيان الخصائص الأساسية للأدب الصوفي، وأسهبنا في الكلام على الأشعار والفقرات التي حملت معاني التصوف عن طريق التصريح أو التلميح، واهتممنا بإظهار ما بين ذلك الأدب وبين المجتمع من صلات، فاتخذناه وثيقة نعرف بها كيف كانت الروح الفكرية والاجتماعية في البيئات التي عاش فيها أولئك القوم.
ولم يفتنا أن ننص على مزالقهم الأدبية والعقلية ونحن نحلل تلك الأشعار والفقرات؛ لأننا رأينا أن منهج البحث يوجب أن تكون في هذا الكتاب أحكام أدبية يهتدي بها من يراجع أدب الصوفية.
وقد جرى ذلك كله في حدود القصد والاعتدال فلم نخرج من الأطناب إلى التطويل، ولم نسرف في عرض الشخصيات الأدبية والفلسفية، وإنما وقفنا عند الشواهد التي تكفي لبيان المذهب الأدبي أو الفلسفي في ميدان التصوف، فالحكم العطائية مثلا لم تكن كل ما عرفه الأدب الصوفي من هذا النوع، وأشواق ابن الفارض لها نظائر وأمثال، والحلاج لم يكن أول وآخر من استشهدوا في سبيل القول بوحدة الوجود، فهناك الشلمغاني الذي أحرقت جثته في بغداد، فمن شاء أن يمضي في درس الأنواع والشخصيات فليسر على بركة الله فقد مهدنا له الطريق.
وما أذكر أني ألححت في الشرح والتبيين إلحاحا كاد يثقل منهج البحث إلا حين تكلمت على نظرية وحدة الوجود، وحجتي في ذلك أن هذه النظرية ظلت غامضة على اختلاف الأجيال، ولم يفهمها من الباحثين إلا الأقلون، والذين فهموها جبنوا عن عرضها عرضا واضحا صريحا، وأكثر من فهموها كانوا يؤمنون بها إيمانا لا يخلو من جهل وسخف، فرأيت أن أدرس ما لها وما عليها بحيدة نزيهة، واستطردت فبينت أثرها في المذاهب الصوفية والشعبية، وكدت أنطق القارئ بالقول بأنها رجعة إلى المذاهب الوثنية، فالقول بوحدة الوجود يفرض أن نرى الألوهية في كثير من الأشياء، وهذا عند التأمل ليس إلا صورة من الرجعة لأساطير اليونان.
وما رأى في ذلك شيئا من الغضاضة على أقطاب التصوف والتشيع، فالمذاهب الفلسفية يتسلسل بعضها عن بعض، وتنتقل إلى الناس بطرائق نجهلها من طرائق الوجود فيتقبلونها بلا وعي ولا احتساب؛ لأن الإنسان في الواقع يرزح تحت أعباء ثقال من مواريث الأفكار والعقائد والمذاهب، وقد شرحت ذلك في المقال الذي نشرته في جريدة البلاغ منذ سنين في الرد على الفيلسوف ليفي برول، وأنا أقرر بصراحة أن ما نظنه خصائص أصيلة لبعض الديانات هو عند التحقيق محصول قديم تضاءل أثره حينا من الزمان ثم رجعت إليه الحيوية والطرافة حين اقتضى ذلك نظام الكون، والوثنية وإن استقبحها المؤمنون دين صحيح قام على الشعر والخيال والإيمان بوحدة الوجود.
رجونا القارئ مرات أن يكتفي منا بالإيجاز، وعساه يفعل فلا يتهمنا بالتقصير. وقد أشرنا مرة إلى ما صنع أبو الحسن الشاذلي حين فسر بعض آيات القرآن على الطريقة الصوفية، ولو كان المجال اتسع لأشرنا إلى جميع من فسروا القرآن على ذلك الأسلوب كما صنع ملأ سلطان على وغيره من الذين رأوا أن أكثر آيات القرآن رموز لمعان روحية، وهذا اعتساف بلا جدال، ولكن النص عليه واجب.
وأشرنا كذلك إلى من وجه أشعار الفجور وجهة روحية ، ولو اتسع المجال لتكلمنا على كثير ممن صنعوا هذا الصنيع، ونوهنا بمن عكسوا القضية فنقلوا المعاني الروحية إلى أذواق حسية.
1
ليت وليت!
ليت الزمان كان أعفانا من الشواغل التي تقصم الظهر فمضينا نشرح ما تمثلناه وتصورناه ثم تحققناه من الثورة التي أحدثها التصوف في عالم الأدب والأخلاق.
لقد وضعنا القاعدة حين ألفنا كتاب (الأخلاق عند الغزالي) فتحدثنا قليلا عن أنصار الغزالي وخصومه، وكان لذلك أثر ظاهر في تصوير مذاهب ذلك الفيلسوف، ولو أننا عقدنا بابا في هذا الكتاب للكلام على أنصار التصوف وخصوم التصوف لاتضح هذا المذهب الفلسفي أكثر مما اتضح، ولكن يعزينا أننا لم نغفل هذه الناحية كل الإغفال، فقد بسطنا القول فيما بين رجال الحقيقة، ورجال الشريعة من خلاف، وبينا ما للتصوف وما عليه بيانا شافيا.
ولكن لا مفر من تنبيه القارئ إلى أن هناك ثروة أدبية وفلسفية أثارها التصوف، وهي الشاهد على تأثيره في الأدب والأخلاق، وهذه الثروة تنتظر من يثيرها في كتاب غير هذا الكتاب، فما كان في مقدورنا أن نتخطى منهج البحث، ونحن مقيدون بسلاسل من حديد هي التقاليد الجامعية التي توجب الوقوف عند الأصول وتكره الإفاضة في الحديث عن الفروع؛ لأن نظام الرسالة يغاير نظام الكتاب.
وكان في النية أن نعقد بابا للفرق بين تصوف أهل السنة وتصوف الشيعة، ولكنا عند التأمل لم نر موجبا لهذه التفرقة، فالصوفية لا يعيرون هذا الخلاف كبير الفتات، والخلاف بين أهل السنة والشيعة ليس خلافا دينيا كما يتوهم الأكثرون، وإنما هو في أغلب صوره خلاف سياسي، ومن قال بغير ذلك فهو غافل أو جهول، والصوفية من الشيعة يرون الغزالي من أساتذتهم وهو سني، والصوفية من أهل السنة يرون الحلاج من أساتذتهم وهو شيعي. وكتب التصوف تسكت عن هذه الفروق المذهبية؛ لأن للتصوف غاية تفوق ذلك.
ولكن كانت هناك محاولة تنفع لو اتسع الوقت، وهي شرح تأثر المذاهب الصوفية بالبيئات المحلية، فمن المؤكد عندنا أن الصوفية متصلون بالأرض التي ينشأون فيها أتم اتصال، ومثلهم في ذلك مثل الفقهاء، فالفقيه المصري يعاني مشكلات لا يعانيها الفقيه العراقي، وقصة تحليل النبيذ في حياة أبي حنيفة هي الشاهد على ذلك، فقد كان الخلاف حول الشراب مما يشغل أهل العراق
2
والحال كذلك في التصوف:
فالمعضلات التي اهتم بها الشعراني معضلات مصرية، والأزمات التي عاناها صدر الدين الشيرازي هي أزمات فارسية، فعند الشيرازي ألوان من المشكلات الأخلاقية أنشأها البلد الذي عاش فيه، وآداب المريدين عنده لها لون خاص يدركه من يتعمق في درس كتاب «الأسفار»، ولو اتسع المجال لتحدثنا عن هذا الفيلسوف في فصل خاص، فله ذوق يشبه ذوق عمر الخيام في بعض مراميه مع حفظ الفارق بين التصون والمجون.
ليت ثم ليت! وهل ينفع شيئا ليت؟
ليتنا استطعنا أن نتكلم على الصوفية في العصر الحاضر، فلهم أذواق وأخلاق تستحق التسجيل، ولكن عاقنا سوء الظن بمحصولهم الأدبي، فليس فيهم رجل فيلسوف، وإن كثر فيهم المتحذلقون!
يضاف إلى ذلك أننا أقمنا هذا الكتاب على أصول يغلب فيها النقد والتجريح. والتعرض للأحياء بهذه الحرية قد يؤذيهم أشد الإيذاء.
وما رأيت في صوفية هذا العصر غير رجلين: رجل طيب القلب يرى الصوفية منزهين عن الملام، ورجل جاهل يرى التصوف بابا من الانحلال، وقد صنت قلمي عن التعرض لهذا وذاك.
ومع هذا نرى عقل العصر الحاضر يميل أشد الميل لدراسة التصوف، وهي ظاهرة حسنة تبشر بإقبال الناس على المعاني الروحية، وإن كان أغلب الباحثين في التصوف لهذا العهد لا ينظرون إليه إلا من الناحية الفلسفية أو الاجتماعية.
3
ولا بد من النص على أن دراسة التصوف الإسلامي كانت توجب الطواف بما كتب عنه في اللغة الفارسية واللغة التركية، ففي الفرس والترك صوفية لهم مقام عظيم في الأدب والأخلاق، ولكن الله أغنانا عن ذلك بعض الإغناء؛ فقد اعتمدنا على مؤلفات عربية كان مؤلفوها يمثلون القومية الإسلامية، يوم كانت اللغة العربية هي لغة التأليف في أكثر الأقطار الإسلامية.
وكذلك يجد القارئ روح الصوفية ممثلة في هذا الكتاب أجمل تمثيل وإن تباعدت بهم المنازل، وانقسموا إلى قبائل وشعوب.
وقد رأى القارئ أننا في أغلب الأحوال عطفنا على الصوفية أشد العطف، ولا غضاضة في ذلك، فقد يتفق للباحث أن يتعقب الصوفية على نحو ما صنعنا في كتاب «الأخلاق عند الغزالي»، ولكن تعقب الصوفية والنص على أغلاطهم وهفواتهم لا يصرف المنصف عن الاعتراف بأخطارهم العالية بين رجال الأخلاق.
ودراسة مؤلفات الصوفية دراسة عميقة تدلنا على ألوان المعارف الفلسفية والنفسية التي عرفها الأسلاف، فالصوفية هم علماء النفس عند المسلمين، وهم الصلة بين القديم والحديث، القديم الذي عرفه الفرس والروم والهنود والمصريون، والحديث الذي ابتكره العرب والمسلمون.
والفرق بين باحث مثل أرسططاليس، وباحث مثل الغزالي بعيد جدا، فأرسططاليس يبحث أصول الأخلاق من الناحية النظرية، ولا يهمه غير إقناع العقل، أما الغزالي فيهتم بإنارة القلب، ويسوق الشواهد والأمثال بأسلوب خلاب يحرك القلوب، وهو مع ذلك لا يغفل عن تعليل الأخلاق وتحليلها من الوجهة النظرية، فقارئ كتاب أرسططاليس يخرج عالما، وقارئ كتاب الغزالي يخرج عالما ومهتديا.
ولو شئنا لغضضنا النظر عن المفاضلة بين أرسططاليس والغزالي، وفاضلنا بين ابن مسكويه والغزالي، فابن مسكويه معلم، والغزالي واعظ، والفرق بين المذهبين لا يحتاج إلى بيان.
وما نقول به قد تنبه إليه القدماء حين وازنوا بين كتاب المكي، وكتاب الغزالي، فقد قالوا: كتاب الإحياء يورثك العلم، وكتاب القوت يورثك النور.
وإنما كان الأمر كذلك لأن المكي في قوت القلوب غلبت عليه النزعة الروحية، ولا كذلك الغزالي في الإحياء فقد غلبت عليه النزعة العلمية.
ومن الواضح أن الأخلاق لا يكفي في فهمها قبول العقل، وإنما يجب أن تتغلغل إلى القلب بحيث يصبح الحس الخلقي جارحة وجدانية.
وعند هذه النقطة يظهر الفرق بين الصوفية وبين رجال الأخلاق، فالفلاسفة يعللون ويحللون في حدود المنطق والعقل، أما الصوفية فيزيدون على ذلك ربط الشخصية الخلقية بالشخصية الدينية، فالوازع عند الفلاسفة هو العقل، والوازع عند الصوفية هو العقل والوجدان ومراعاة الأدب مع الله ذي القوة والجبروت والجلال والجمال.
قد يقال: إن في الصوفية ناسا يستهينون بالأخلاق العملية.
وهذا حق، ففي الصوفية قوم يحتقرون الظواهر، ويحتقرون الأعمال.
وهؤلاء على ضلالهم الظاهر لهم مكانة أخلاقية؛ لأنهم لا يثورون على الظواهر إلا وهم يعلمون أنهم عربات تجرها قاطرة الوجود، فهم في ضلالهم وهداهم تابعون أوفياء.
وليس المهم أن تنساق مع المأثور من نظام الأخلاق، ولكن المهم أن لا تتقدم ولا تتأخر إلا وأنت شاعر بأنك على هدى أو على ضلال.
وزيغ بعض الصوفية زيغ جميل؛ لأنهم حولوا الوجود إلى قوة شعرية تموج بالمفاتي وتزخر بالغرائب والأعاجيب.
وهؤلاء المسرفون على أنفسهم قد استطاعوا أن يحفظوا الشخصية الخلقية نقية سليمة، فهم تصوروا الشرور والآثام مقاصد أرادها علام الغيوب، ولم يتصوروا أنفسهم ثائرين على العزة الربانية، وبذلك بقيت ضمائرهم خالصة من شوائب العناد والمكابرة، فعاش أدبهم الأثيم ينفح بالعطر والطيب على اختلاف الأجيال.
ونخلص من ذلك كله إلى حقيقة واضحة، وهي أن الصوفية في ضلالهم وهداهم كانوا قوما يعرفون جواهر الأخلاق، فللعوام عندهم نظام، وللخواص نظام، وقد كرهوا أن نحدث العوام بما نحدث به الخواص، فالأخلاق تتلون وتتشكل باختلاف الأشخاص، وهذه نظرة لا تخلو من حصافة وسداد.
وفي الصوفية من ثار على الكتب المقدسة وثار على الأنبياء، وهذا في رأي رجال الشرع كفر موبق، ولكنه عظيم جدا من الوجهة الأخلاقية؛ لأنه يمنح الشخصية الخلقية قوة ساحقة تجترف جميع العوائق، وتقف الرجل أمام الله وجها لوجه، كما وقف الأنبياء والمرسلون، وليس هذا بالقليل.
ولا تظهر قيمة هذه النظرة إلا إذا تدبرنا ما وقع فيه بعض النصارى، وبعض المسلمين من الاستعباد للنصوص، فالخضوع المطلق للنصوص عطل المواهب في البيئات النصرانية والإسلامية، وخضوع بعض المتصوفة أمام أشياخهم لم يكن إلا صورة من خنوع بعض النصارى أمام القسيسين والرهبان، وجرأة الأحرار من الصوفية هي فيما أفترض أساس الثورة التي أقامها جمهور من النصارى على الكنيسة الأرثوذوكسية والكنيسة الكاثوليكية، فالبروتستانت من النصارى هم تلاميذ الصوفية من المسلمين؛ لأنهم رفضوا أن يكون بينهم وبين الله وسيط، كما رفض أحرار الصوفية أن يكون بينهم وبين الله وسيط.
وسيأتي يوم يتضح فيه أن ثورة بعض النصارى على عبادة الصور لم تكن إلا أثرا لاطلاع بعض القسيسين على المذاهب الصوفية.
إن الصوفي المعتدل يقبل من شيخه كل شيء، كما يقبل النصراني المعتدل من القسيس كل شيء، والصوفي المعتدل يقدم كلام شيخه على القرآن والحديث، كما يقدم النصراني المعتدل كلام الرهبان على كلام الإنجيل، أما الصوفي الثائر فيرفض جميع النصوص ويتسامى إلى مخاطبة الله والفهم عنه بلا مرشد ولا دليل، وهنا أقول بصراحة: إن هذا أساس متين لبناء الشخصية الخلقية، وإن غضب رجال الدين.
4
وهنا تعرض شبة في غاية من الخطورة يصورها هذا السؤال:
كيف يسلم المجتمع مع هذه الآراء؟
ونجيب بأن هذه الآراء تعرض المجتمع لأخطر أنواع الانحلال؛ لأنها تفتح الباب للطفيليين والواغلين من أدعياء الأخلاق، وستمصي دهور ودهور قبل أن تصلح هذه الآراء لأن تكون شريعة يعيش عليها جميع الناس.
إن الخلق الصحيح هو الذي يروضك على أن تعيش سليما معافى من آفات الشطط والجموح، وينظمك في سلك واحد مع من تسايرهم وتعاشرهم من خلق الله أو خلق الشيطان.
والعاقل
والعاقل - أعني صاحب الشخصية الخلقية - هو الذي يفهم أنه مسئول عن مراعاة منافعه الأدبية والاقتصادية بحيث يضمن الربح ويأمن الخسران.
ومن أجل هذا حرص جمهور الصوفية على رياضة مريديهم سليمة تبعدهم عن المزالق ومواطن الشبهات، كالذي صنع مؤلف القوت ومؤلف الإحياء.
ومن أجل هذا أيضا قسم الصوفية مريديهم إلى: عوام، وخواص، وخواص الخواص، ولكل فرقة من هؤلاء الثلاثة آداب.
أليس الصوفية هم الذين قضوا بأن صوم خصوص الخصوص لا يقع فيه الفطر بالطعام والشراب، وإنما يقع الفطر بارتكاب المآثم ونهش الأعراض؟
ولكن هذا الذوق الرقيق لا ينفع ما دام في الدنيا ناس لهم أذواق غلاظ، والذوق الغليظ هو الغالب على بني آدم في كل زمان وفي كل مكان.
أما بعد - وقد تعبنا من أما بعد - فإن موقفنا من هذه الآراء موقف المؤرخ للنظريات الفلسفية، ونحن نعرضها بقوة وعنف كأننا من أهلها، وليس الأمر كذلك، وإنما هي عدوى وصلتنا من أستاذنا الغزالي -طيب الله ثراه -، فقد كان يسهب في شرح المردود من الآراء حتى اتهم بأنه من أنصار تلك الآراء، فإن بدا لبعض الناس أن يتهمونا بتزيين ما لا يقبله رجال الدين فليذكروا أننا لا نفكر في متابعة أحد من رجال الدين، وإنما نجعل النظرية الفلسفية أساس هذه البحوث.
وما دامت المقادير شاءت أن يكون هذا الكتاب من محصول الجامعة المصرية فليكن صورة صحيحة من صور التفكير في الجامعة المصرية، والتفكير في الجامعة المصرية يقوم على أساس متين: هو الصراحة التامة في عرض النظريات والأفكار والآراء.
ورحمة الله وسعت كل شيء، فلن تضيق عن باحث يدرس أوهام القلوب، وشهوات العقول.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب
अज्ञात पृष्ठ