السنة، وحيد الأمة، العالي الهمة، العالم العابد، الفقيه الزاهد، الورع المجاهد، العاملِ بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ. قال: وبنى للشيخ أبي الفتح بن المنِّي دكة في موضع جلوسه في الجامع، فتأثر أهل المذاهب من ذلك، وجعل الناس يقولون لي: هذا بسببك - فإنه ما ارتفع هذا المذهب عند السلطان - حتى مال إلى الحنابلة - إلا بسماع كلامك، فشكرت الله على ذلك.
قال: وقد تاب على يدي أكثر من مئة ألف، وصار لي اليوم مئة وخمسون مصنفًا، ولم ير واعظ مثل جمعي، فقد حضر مجلسي: الخليفة، والوزير، وصاحب المخزن، وكبار العلماء، والحمد لله على نعمه. وسمع المستضيء بالله ابنَ الجوزي ينشد تحت داره شعر:
ستنقلُك المنايا عن ديارِكْ ... ويُبدِلُك الردى دارًا بدارِكْ
وتتركُ ما عُنيت به زمانًا ... وتُنقل من غناك إلى افتقارِكْ
فدودُ القبرِ في عينيك يرعى ... وترعى عينُ غيرِك في ديارِك
فجعل أمير المؤمنين يمضي في قصره، ويقول: أي والله! "وترعى عين غيرك في ديارك"، ويكررها، ويبكي حتى الليل. وحاصل الأمر: أن مجالسه الوعظية لم يكن لها نظير، ولم يسمع بمثلها، وكانت عظيمة النفع، يتذكر بها الغافلون، ويتعلم منها الجاهلون، ويتوب فيها المذنبون، ويسلم فيها المشركون، ويتسنن فيها المبتدعون.
قال ابن الجوزي: ولا يكاد يُذكر لي حديث إلا ويمكنني أن أقول: صحيح، أو حسن، أو محال.
قال سبطُه أبو المظفر: أقلُّ ما كان يحضر مجلسه عشرُة آلاف، وربما حضر عنده مئة ألف، وسمعته يقول على المنبر في آخر عمره: كتبت بإصبعيَّ هاتين ألفي مجلدة، وتاب على يدي مئة ألف، وأسلم على يدي عشرون ألف يهودي ونصراني.
قال: وكان يختم القرآن في كل سبعة أيام، وما مازح أحدًا قط، ولا لعب مع
1 / 54