بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْحَمد لله حمدا موافيا لنعمه مكافئا لمزيده وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ شَهَادَة مخلص فِي توحيده وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا ﷺ عَبده وَرَسُوله خَاتم أنبيائه وَخير عباده ﷺ وعَلى آله وصحابته وَسَائِر المتمسكين بسنته المحتذين لطريقه
أما بعد فإنني وقفت على فضيحة ابْن عقيل الَّتِي سَمَّاهَا نصيحة
1 / 29
وتأملت مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ من الْبدع القبيحة والشناعة على سالكي الطَّرِيق الْوَاضِحَة الصَّحِيحَة فَوَجَدتهَا فضيحة لقائلها قد هتك الله تَعَالَى بهَا ستره وَأبْدى بهَا عَوْرَته وَلَوْلَا أَنه قد تَابَ إِلَى الله ﷿ مِنْهَا وتنصل وَرجع عَنْهَا واستغفر الله تَعَالَى من جَمِيع مَا تكلم بِهِ من الْبدع أَو كتبه بِخَطِّهِ أَو صنفه أَو نسب إِلَيْهِ لعددناه فِي جملَة الزَّنَادِقَة وألحقناه بالمبتدعة المارقة
وَلكنه لما تَابَ وأناب وَجب أَن تحمل مِنْهُ هَذِه الْبِدْعَة والضلالة على أَنَّهَا
1 / 31
كَانَت قبل تَوْبَته فِي حَال بدعته وزندقته
ثمَّ قد عَاد بعد تَوْبَته إِلَى نَص السّنة وَالرَّدّ على من قَالَ بمقالته الأولى بِأَحْسَن كَلَام وأبلغ نظام وَأجَاب على الشّبَه الَّتِي ذكرت بِأَحْسَن جَوَاب وَكَلَامه فِي ذَلِك كثير فِي كتب كبار وصغار وأجزاء مُفْردَة وَعِنْدنَا من ذَلِك كثير
فَلَعَلَّ إحسانه يمحو إساءته وتوبته تمحو بدعته فَإِن الله تَعَالَى يقبل التَّوْبَة عَن عبَادَة وَيَعْفُو عَن السَّيِّئَات
وَلَقَد كنت أعجب من الْأَئِمَّة من أَصْحَابنَا الَّذين كفروه وأهدروا دَمه وأفتوا بِإِبَاحَة قَتله وحكموا بزندقته قبل تَوْبَته وَلم أدر أَي شَيْء أوجب هَذَا فِي حَقه وَمَا الَّذِي اقْتضى أَن يبالغوا فِيهِ هَذِه الْمُبَالغَة حَتَّى وقفت على هَذِه الفضيحة
فَعلمت أَن بهَا وبأمثالها استباحوا دَمه
وَقد عثرت لَهُ على زلات قبيحة وَلَكِن لم أجد عَنهُ مثل هَذِه الَّتِي بَالغ فِيهَا فِي تهجين السّنة مُبَالغَة لم يبالغها معتزلي وَلَا غَيره
وَكَانَ أَصْحَابنَا يُعَيِّرُونَهُ بالزندقة
فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو الْخطاب مَحْفُوظ بن أَحْمد الكلواذاني رَحمَه الله تَعَالَى فِي قصيدته يَقُول فِيهَا
(ومذ كنت من أَصْحَاب أَحْمد لم أزل ... أُنَاضِل عَن أعراضهم وأحامي)
(وَمَا صدني عَن نصْرَة الْحق مطمع ... وَلَا كنت زنديقا حَلِيف خصام)
يعرض بِابْن عقيل حَيْثُ نسب إِلَى ذَلِك
1 / 32
وَبَلغنِي أَن سَبَب تَوْبَته أَنه لما ظَهرت مِنْهُ هَذِه الفضيحة أهْدر الشريف أَبُو جَعْفَر رَحمَه الله تَعَالَى دَمه وَأفْتى هُوَ وَأَصْحَابه بِإِبَاحَة قَتله
وَكَانَ ابْن عقيل يخفى مَخَافَة الْقَتْل فَبَيْنَمَا هُوَ يَوْمًا رَاكب فِي سفينة فَإِذا فِي السَّفِينَة شَاب يَقُول تمنيت لَو لقِيت هَذَا الزنديق ابْن عقيل حَتَّى أَتَقَرَّب إِلَى الله تَعَالَى بقتْله وإراقة دَمه
فَفَزعَ وَخرج من السَّفِينَة وَجَاء إِلَى الشريف أبي جَعْفَر فَتَابَ واستغفر
وَهَا أَنا أذكر تَوْبَته وصفتها بِالْإِسْنَادِ ليعلم أَن مَا وجد من تصانيفه مُخَالفا للسّنة فَهُوَ مِمَّا تَابَ مِنْهُ فَلَا يغتر بِهِ مغتر وَلَا يَأْخُذ بِهِ أحد فيضل وَيكون الْآخِذ بِهِ كحاله قبل تَوْبَته فِي زندقته وَحل دَمه
أخبرنَا الشَّيْخ الإِمَام الثِّقَة الْمسند أَبُو حَفْص عمر بن مُحَمَّد بن طبرزد الْبَغْدَادِيّ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاث وسِتمِائَة بمسجدنا المحروس بِظَاهِر دمشق حرسها الله تَعَالَى قلت لَهُ أخْبركُم القَاضِي الْأَجَل الْعَالم أَبُو بكر مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي بن مُحَمَّد الْبَزَّار إجَازَة إِن لم يكن سَمَاعا قَالَ حضرت يَوْم الِاثْنَيْنِ الثَّامِن من الْمحرم سنة خمس وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة تَوْبَة الشَّيْخ الإِمَام أبي الْوَفَاء بن عقيل فِي مَسْجِد الشريف أبي جَعْفَر رَحمَه الله تَعَالَى فِي نهر مُعلى وَحضر فِي ذَلِك الْيَوْم خلق كثير
قَالَ
يَقُول عَليّ بن عقيل إِنَّنِي أَبْرَأ إِلَى الله تَعَالَى من مَذَاهِب المبتدعة الاعتزال وَغَيره وَمن صُحْبَة أربابه وتعظيم أَصْحَابه والترحم على أسلافهم والتكثر بأخلاقهم وَمَا كنت علقته وَوجد بخطي من مذاهبهم وضلالاتهم فَأَنا تائب إِلَى الله سُبْحَانَهُ تَعَالَى من كِتَابَته وقراءته وَإنَّهُ لَا يحل لي كِتَابَته وَلَا قِرَاءَته وَلَا اعْتِقَاده
وَذكر شَيْئا آخر ثمَّ قَالَ فَإِنِّي أسْتَغْفر الله وَأَتُوب إِلَيْهِ من مُخَالطَة المبتدعة الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم ومكاثرتهم والترحم عَلَيْهِم والتعظيم لَهُم فَإِن
1 / 33
ذَلِك كُله حرَام لَا يحل لمُسلم فعله لقَوْل النَّبِي ﷺ من عظم صَاحب بِدعَة فقد أعَان على هدم الْإِسْلَام
وَقد كَانَ سيدنَا الشريف أَبُو جَعْفَر أدام الله علوه وحرس على كافتنا ظله وَمن مَعَه من الشُّيُوخ والأتباع سادتي وإخواني أحسن الله عَن الدّين والمروة جزاءهم مصيبين فِي الْإِنْكَار عَليّ لما شاهدوه بخطي فِي الْكتب الَّتِي أَبْرَأ إِلَى الله تَعَالَى مِنْهَا واتحقق أنني كنت مخطئا غير مُصِيب
وَمَتى حفظ عَليّ مَا يُنَافِي هَذَا الْخط وَهَذَا الْإِقْرَار فلإمام الْمُسلمين أعز الله سُلْطَانه مكافاتي على ذَلِك بِمَا يُوجِبهُ الشَّرْع من ردع ونكال وإبعاد وَغير ذَلِك وأشهدت الله تَعَالَى وَمَلَائِكَته وأولي الْعلم على جَمِيع ذَلِك غير مجبر وَلَا مكره وباطني وظاهري فِي ذَلِك سَوَاء
قَالَ الله تَعَالَى ﴿وَمن عَاد فينتقم الله مِنْهُ وَالله عَزِيز ذُو انتقام﴾
ثمَّ كتب الشُّهُود خطوطهم وَهَذِه نسختها
أشهدني الْمقر على إِقْرَاره بِجَمِيعِ مَا تضمنه هَذَا الْكتاب وَكتب عبد الله بن رضوَان فِي الْمحرم سنة خمس وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة
بِمثل ذَلِك أشهدني وَكتب مُحَمَّد بن عبد الرَّزَّاق بن أَحْمد بن السّني فِي التَّارِيخ
أشهدني الْمقر على إِقْرَاره بِجَمِيعِ مَا تضمنه هَذَا الْكتاب وَكتب الْحسن بن عبد الْملك بن مُحَمَّد بن يُوسُف بِخَطِّهِ
سَمِعت إِقْرَار الْمقر بذلك وَكتب مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْحسن
أشهدني الْمقر على نَفسه بذلك وَكتب عَليّ بن عبد الْملك بن مُحَمَّد بن يُوسُف آخرهَا
وَكتب مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي بن مُحَمَّد بن عبد الله وَحضر فِي هَذَا الْيَوْم فِي مَسْجِد الشريف خلق كثير
1 / 34
فَهَذِهِ الفضيحة من جملَة مَا تَابَ مِنْهُ إِلَى الله تَعَالَى وَأقر بِأَنَّهُ ضلال وبدعة وَأَنه مَتى وجد بِخَطِّهِ وَجَبت مُقَابلَته عَلَيْهِ وينتقم الله مِنْهُ
فَكيف يحْتَج بقول هَذَا مُحْتَج أَو يغتر بِهِ مغتر أَو يَقُول بِهِ قَائِل أَو يتَعَلَّق بِهِ مُتَعَلق مَعَ شَهَادَة قَائِله عَلَيْهِ بالضلال وَإِجْمَاع الْعلمَاء من أهل بلدته على استتابته مِنْهُ وإهدار دَمه بِهِ وبأمثاله وَهَذَا أدل شَيْء على خطئه وضلاله وَإِن كَانَت هَذِه الْمقَالة صدرت مِنْهُ بعد تَوْبَته فَهَذَا دَلِيل على زندقته وإصراره على بدعته ورجوعه إِلَى ضلالته
فَإِن معنى الزندقة إِظْهَار الْحق واعتقاد خِلَافه وَهُوَ النِّفَاق الَّذِي كَانَ على عهد رَسُول الله ﷺ وَيُسمى الْيَوْم الزندقة
وَهَذَا الرجل قد صنف فِي نفي تَأْوِيل الصِّفَات وَالرَّدّ على متأولها جُزْءا مُفردا وصنف فِي الْحَرْف وَالصَّوْت جُزْءا مُفردا وصنف كتاب الِانْتِصَار للسّنة وَغَيرهَا من الْكتب وملأها من السّنة وَالرَّدّ على المبتدعة
فَإِن كَانَ يظْهر ذَلِك ويبطن هَذَا ويعتقده فَهُوَ زنديق فَكيف يجوز أَن يحْتَج مُحْتَج بمقالته أَو يرضى لنَفسِهِ بِمثل حَاله أَو يضل بضلالته ونعوذ بِاللَّه تَعَالَى وَلَا يظنّ بِهِ هَذَا وَلَكِن لما علمت مِنْهُ حالتان حَالَة بِدعَة وَحَالَة تَوْبَة نسبنا كل مَا وجد من كَلَامه من الْبدع إِلَى حَالَة الْبِدْعَة لَا غير
وَمَا عادتي ذكر معائب أَصْحَابنَا وإنني لأحب ستر عَوْرَاتهمْ وَلَكِن وَجب بَيَان حَال هَذَا الرجل حِين اغْترَّ بمقالته قوم واقتدى ببدعته طَائِفَة من أَصْحَابنَا وشككهم فِي اعْتِقَادهم حسن ظنهم فِيهِ واعتقادهم أَنه من جملَة دعاة السّنة
فَوَجَبَ حِينَئِذٍ كشف حَاله وَإِزَالَة حسن ظنهم فِيهِ ليزول عَنْهُم اغترارهم بقوله وينحسم الدَّاء بحسم سَببه
فَإِن الشَّيْء يَزُول من حَيْثُ ثَبت وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق والمعونة ونسأل الله تَعَالَى أَن يثبتنا على الْإِسْلَام وَالسّنة
وعَلى كل حَال فَهُوَ قد نفر من التَّقْلِيد وَأنكر حسن الظَّن بالمشايخ
فَكيف يحسن الظَّن فِيمَن يُنكر حسن الظَّن بِهِ وَكَيف يقبل قَول من ينْهَى
1 / 35
عَن قبُول قَول غَيره وَيَنْبَغِي لنا أَن نقبل قَوْله فِي نَفسه فيساء الظَّن بِهِ وَلَا نقبل قَوْله فِي غَيره كمن أقرّ بِشَيْء عَلَيْهِ وعَلى غَيره قبل قَوْله عَلَيْهِ وَلم يقبل على غَيره
وَهَا أَنا أُجِيب عَن مقَالَته إِن شَاءَ الله تَعَالَى فصلا فصلا وَأبين عوار كَلَامه فرعا وأصلا بِتَوْفِيق الله ومعونته
أما قَوْله إِنَّا كُنَّا أعزاء بَين أهل الْمذَاهب فها نَحن الْيَوْم سَبْعُونَ منفيون محصورون إِلَى آخر كَلَامه
فَهَذَا إِيمَاء مِنْهُ إِلَى أَن أسلافنا رَحِمهم الله تَعَالَى كَانُوا على قَول وَنحن على غَيره وأننا أحدثنا مقَالَة غير مقالتهم استحققنا بهَا الْعقُوبَة
وَهَذَا كذب وفرية وَقَول من لَا حَيَاء لَهُ وَلَا دين فليخبرنا أَي شَيْء أحدثناه وَأي مقَالَة خَالَفنَا فِيهَا أسلافنا فَإِن قَالَ تركْتُم تَأْوِيل الْآيَات وَالْأَخْبَار الْوَارِدَة فِي الصِّفَات وَادّعى أَن السّلف تأولوها وفسروها فقد أفك وافترى وَجَاء بالطامة الْكُبْرَى
فَإِنَّهُ لَا خلاف فِي أَن مَذْهَب السّلف الْإِقْرَار وَالتَّسْلِيم وَترك التَّعَرُّض للتأويل والتمثيل
ثمَّ إِن الأَصْل عدم تأويلهم فَمن ادّعى أَنهم تأولوها فليأت ببرهان عل قَوْله
وَهَذَا لَا سَبِيل إِلَى مَعْرفَته إِلَّا بِالنَّقْلِ وَالرِّوَايَة
فلينقل لنا ذَلِك عَن رَسُول الله ﷺ أَو عَن صحابته أَو عَن أحد من التَّابِعين أَو الْأَئِمَّة المرضيين
ثمَّ الْمُدَّعِي لذَلِك من أهل الْكَلَام وهم أَجْهَل النَّاس بالآثار وَأَقلهمْ علما بالأخبار وأتركهم للنَّقْل
فَمن أَيْن لَهُم علم بِهَذِهِ وَمن نقل مِنْهُم شَيْئا لم يقبل نَقله وَلَا يلْتَفت إِلَيْهِ
وَإِنَّمَا لَهُم الْوَضع وَالْكذب وزور الْكَلَام
وَلَا خلاف بَين أهل النَّقْل سنيهم وبدعيهم فِي أَن مَذْهَب السّلف ﵃ فِي صِفَات الله ﷾ الْإِقْرَار بهَا والإمرار لَهَا
1 / 36
وَالتَّسْلِيم لقائلها وَترك التَّعَرُّض لتفسيرها بذلك جَاءَت الْأَخْبَار عَنْهُم مجملة
1 / 37
ومفصلة
فَروِيَ عَن مَالك بن أنس وَالْأَوْزَاعِيّ وسُفْيَان الثَّوْريّ وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَمعمر بن رَاشد فِي الْأَحَادِيث فِي الصِّفَات أمروها كَمَا جَاءَت
وَقَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر فِي كتاب الْعلم مَا جَاءَ عَن النَّبِي ﷺ من نقل الثِّقَات وَصَحَّ عَن الصَّحَابَة ﵃ فَهُوَ علم يدان بِهِ
وَمَا أحدث بعدهمْ وَلم يكن لَهُ أصل فِي مَا جَاءَ عَنْهُم فَهُوَ بِدعَة وضلالة
وَمَا جَاءَ فِي أَسمَاء الله وَصِفَاته عَنْهُم نسلم لَهُ وَلم نناظر كَمَا لم يناظروا
وَرَوَاهَا السّلف وسكتوا عَنْهَا وَكَانُوا أعمق النَّاس علما وأوسعهم فهما وَأَقلهمْ تكلفا وَلم يكن سكوتهم عَن عي
فَمن لم يَسعهُ مَا وسعهم فقد خَابَ وخسر
وروى مُحَمَّد بن الْحسن صَاحب أبي حنيفَة أَنه أجمع أهل الْعلم فِي الْمشرق وَالْمغْرب على أَن هَذِه الْأَحَادِيث الَّتِي جَاءَت فِي الصِّفَات لَا تفسر أَو كَمَا قَالَ
وَقَالَ حنبلي سَأَلت أَبَا عبد الله أَحْمد بن مُحَمَّد بن حَنْبَل ﵁ عَن هَذِه الْأَحَادِيث الَّتِي تروي أَن الله ﵎ يرى وَأَنه ينزل إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا وَأَنه يضع قدمه وَمَا أشبه ذَلِك
فَقَالَ أَبُو عبد الله رَضِي الله
1 / 38
عَنهُ نؤمن بهَا ونصدق بهَا وَلَا نرد مِنْهَا شَيْئا إِذا كَانَت بأسانيد صِحَاح
وَلَا نرد على الرَّسُول ﷺ قَوْله
ونعلم أَن مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول ﷺ حق وَلَا يُوصف الله تَعَالَى بِأَكْثَرَ مِمَّا وصف بِهِ نَفسه بِلَا حد وَلَا غَايَة ﴿لَيْسَ كمثله شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير﴾
فَنَقُول كَمَا قَالَ وَنصفه كَمَا وصف نَفسه لَا نتعدى ذَلِك وَلَا نزيل عَنهُ صفة من صِفَاته لشناعة شنعت
نؤمن بِهَذِهِ الْأَحَادِيث ونقرها ونمرها كَمَا جَاءَت بِلَا كَيفَ وَلَا معنى إِلَى على مَا وصف بِهِ نَفسه ﵎ وَهُوَ كَمَا وصف نَفسه سميع بَصِير بِلَا حد وَلَا تَقْدِير
صِفَاته مِنْهُ وَله
لَا نتعدى الْقُرْآن والْحَدِيث وَالْخَبَر وَلَا نعلم كَيفَ ذَاك إِلَّا بِتَصْدِيق الرَّسُول ﷺ وتثبيت الْقُرْآن
وَقَالَ أَبُو عبد الله حَدثنَا وَكِيع يَوْمًا بِحَدِيث من هَذِه الْأَحَادِيث فاقشعر زَكَرِيَّاء بن عدي فَقَالَ وَكِيع وَغَضب أدركنا الْأَعْمَش وسُفْيَان يحدثُونَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيث وَلَا يُنْكِرُونَهَا
وَهَذَا مِمَّا لَا نعلم فِيهِ بَين سلفنا ﵏ اخْتِلَافا وَالْمُنكر لَهُ إِمَّا جَاهِل أَو متجاهل قَلِيل الدّين وَالْحيَاء لَا يخَاف من الله تَعَالَى إِذا كذب وَلَا يستحيي من النَّاس إِذا كذب
وَنحن على طَريقَة سلفنا وجادة أَئِمَّتنَا وَسنة نَبينَا ﷺ مَا أحدثنا قولا وَلَا زِدْنَا زِيَادَة بل آمنا بِمَا جَاءَ وأمررناه كَمَا جَاءَ وَقُلْنَا بِمَا قَالُوا وسكتنا عَمَّا سكتوا عَنهُ وسلكنا حَيْثُ سلكوا فَلَا وَجه لنسبة الْخلاف والبدعة إِلَيْنَا
وَإِنَّمَا تكلم ابْن عقيل على حَال نَفسه فِي حَال بدعته
حِين أحدث فِي دين الله ﷿ وَخَالف سلفه وأئمته وسَادَة أهل مذْهبه وَاتبع أهل الْكَلَام والبدع وَفَارق السّنة وَأخذ فِي الْبِدْعَة أهْدر دَمه وأخيف سربه وَقصد بالأذى والتشريد والإخافة والتطريد وَصَارَ ذليلا حَقِيرًا فنسب حَاله إِلَى من سواهُ وَجعل الْحَدث مِنْهُ حَادِثا مِمَّن عداهُ وكسى وَصفه لغيره وعير أهل السّنة بِمثل ذَنبه
كَمَا قيل رمتني بدائها وانسلت
1 / 39
أما أهل السّنة المتبعون للآثار السالكون طَرِيق السّلف الأخيار فَمَا عَلَيْهِم غَضَاضَة وَلَا يلحقهم عَار مِنْهُم الْعلمَاء الْعَامِلُونَ وَمِنْهُم الْأَوْلِيَاء والصالحون وَمِنْهُم الأتقياء الْأَبْرَار والأصفياء والأخيار أهل الولايات والكرامات وَأهل الْعِبَادَات والاجتهادات بذكرهم تزين الْكتب والدفاتر وأخبارهم تحسن المحافل والمحاضر تحيا الْقُلُوب بِذكر أخبارهم وَتحصل السَّعَادَة باقتفاء آثَارهم بهم قَامَ الدّين وَبِه قَامُوا وبهم نطق الْكتاب وَبِه نطقوا وهم مفزع الْخلق عِنْد اشتداد الْأُمُور عَلَيْهِم فالملوك فَمن دونهم يقصدون زياراتهم ويتبركون بدعائهم ويستشفعون إِلَى الله ﷾ بهم
فَنحْن أَصْحَاب المقامات الفاخرة وَلنَا شرف الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَمن نظر فِي كتب الْعلمَاء الَّتِي أفردت لذكر الْأَوْلِيَاء لم يجد فِيهَا إِلَّا منا وَمَتى نقلت الكرامات لم تنقل إِلَّا عَنَّا وَمَتى أَرَادَ واعظ أَو غَيره يطيب مَجْلِسه ويزينه زينه بأخبار بعض زهادنا أَو كرامات عبادنَا أَو وصف عُلَمَائِنَا وَعند ذكر صالحينا تنزل الرَّحْمَة وتطيب الْقُلُوب ويستجاب الدُّعَاء ويكشف الْبلَاء وَللَّه در الْقَائِل
(ذهبت دولة أَصْحَاب الْبدع ... ووهى حبلهم ثمَّ انْقَطع)
(وتداعى بانصداع شملهم ... حزب إِبْلِيس الَّذِي كَانَ جمع)
(هَل لكم بِاللَّه فِي بدعتكم ... من فَقِيه أَو إِمَام يتبع)
1 / 40
(مثل سُفْيَان أخي الثَّوْريّ الَّذِي ... علم النَّاس خفيات الْوَرع)
(أَو سُلَيْمَان أخي التيم الَّذِي ... هجر النّوم لهول المطلع)
(أَو إِمَام الْحَرَمَيْنِ مَالِكًا ... ذَلِك الْبَحْر الَّذِي لَا ينتزع)
(أَو فَقِيه الشَّام أوزاعيها ... ذَاك لَو قارعه القرا قرع)
(أَو فَتى الْإِسْلَام أَعنِي أحمدا ... ذَاك حصن الدّين إِن حصن منع)
(لم يخف سوطهم إِذْ خوفوا ... لَا وَلَا سيفهم حِين لمع) الرمل
أما هُوَ حزبه من أهل الْكَلَام فَمَا ذكرهم إِلَّا ذمهم والتحذير مِنْهُم والتنفير من مجالستهم وَالْأَمر بمباينتهم وهجرانهم وَترك النّظر فِي كتبهمْ لَا يثبت لأحد مِنْهُم قدم فِي الْولَايَة وَلَا يقوم لَهُم فِي الصَّالِحين راية وَلَا يكون لأحد مِنْهُم كَرَامَة وَلَا يرَوْنَ رَبهم فِي الْآخِرَة وَلَا كرامه يكذبُون بكرامات الصَّالِحين وَيُنْكِرُونَ نعْمَة الله على عباده الْمُؤمنِينَ فهم فِي الدُّنْيَا ممقوتون وَفِي الْآخِرَة معذبون لَا يفلح مِنْهُم أحد وَلَا يوفق لاتباع رشد
قَالَ الإِمَام أَحْمد لَا يفلح صَاحب كَلَام أبدا وَلَا يرى أحد نظر فِي الْكَلَام إِلَّا فِي قلبه دغل
وَقَالَ الإِمَام الشَّافِعِي مَا ارتدى أحد بالْكلَام فأفلح
وَقَالَ حكمي فِي أهل الْكَلَام أَن يضْربُوا بِالْجَرِيدِ وَيُطَاف بهم فِي العشائر والقبائل وَيُقَال هَذَا جَزَاء من ترك الْكتاب وَالسّنة وَأخذ فِي الْكَلَام
وَقَالَ أَبُو يُوسُف من طلب الْعلم بالْكلَام تزندق
وَقَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر أجمع أهل الْفِقْه والْآثَار من جَمِيع أهل الْأَمْصَار أَن أهل
1 / 41
الْكَلَام أهل بدع وزيغ لَا يعدون عِنْد الْجَمِيع فِي طَبَقَات الْعلمَاء وَإِنَّمَا الْعلمَاء أهل الْأَثر والمتفقه فِيهِ
وَقَالَ أَحْمد بن إِسْحَاق الْمَالِكِي أهل الْأَهْوَاء والبدع عِنْد أَصْحَابنَا هم أهل الْكَلَام فَكل مُتَكَلم من أهل الْأَهْوَاء والبدع أشعريا كَانَ أَو غير أشعري لَا تقبل لَهُ شَهَادَة ويهجر ويؤدب على بدعته فَإِن تَمَادى عَلَيْهَا استتيب مِنْهَا
وذم أهل الْكَلَام كثير وَابْن عقيل من أهل الْكَلَام وَهُوَ فِي هَذِه الْحَالة ينصر مَذْهَبهم فَلذَلِك تكلمنا عَلَيْهِ وَذكرنَا عيوبه لدُخُوله فِي جُمْلَتهمْ ودعايته إِلَى طريقهم
فصل
وَأما قَوْله فَإِن الأحمق من اغْترَّ بأسلافه وَسكن إِلَى مقَالَة أشياخه آنسا بتقليدهم من غير بحث عَن مقالتهم فَهَذَا كَلَام مَسْمُوم رَدِيء يُشِير بِهِ إِلَى ذمّ اتِّبَاع طَريقَة السّلف الصَّالح ﵃ ويعيب مَا مدحه أَئِمَّتنَا رَحْمَة الله عَلَيْهِم وَمَا أوصونا بِهِ من لُزُوم طريقهم والاهتداء بهديهم وَيَدْعُو إِلَى مقَالَة أهل الْكَلَام وَالنَّظَر فِي المعقولات وَهُوَ علم الْكَلَام الَّذِي ذكرنَا عَن الْأَئِمَّة رَحْمَة الله عَلَيْهِم ذمه وإفضاءه بِصَاحِبِهِ إِلَى الزندقة والبدعة وَعدم الْفَلاح
وَقد ظهر برهَان قَوْلهم فِي ابْن عقيل فَإِنَّهُ حِين اشْتغل بِهِ وآثره على علم الْأَثر صَار زنديقا دَاعِيَة إِلَى ترك اتِّبَاع السّلف الْمُتَّفق على صوابهم الْمجمع على هدايتهم الَّذين أخبر الله تَعَالَى بِرِضَاهُ عَنْهُم واختياره لَهُم ومدحهم وَأثْنى عَلَيْهِم وحسبك بِمن مدحه الله تَعَالَى وَأثْنى عَلَيْهِ وَخبر من وصّى بهم النَّبِي ﷺ وحث النَّاس على اتباعهم والاقتداء بهم
ثمَّ لم يزل أَئِمَّتنَا وعلماؤنا يحثوننا على التَّمَسُّك بهديهم وَالسير بسيرتهم فجَاء هَذَا الْمِسْكِين يحذرنا مِنْهُم وَيُرِيد منا أَن نسيء الظَّن بهم
1 / 42
ونهجر طريقتهم ونصير إِلَى اتِّبَاع أهل الْكَلَام والاقتداء بهم وَهَذَا من أدل الْأَشْيَاء على ضلاله وقبح مقاله فَإِنَّهُ لَوْلَا مُخَالفَته لَهُم وسلوكه غير طريقتهم لما نفرنا مِنْهُم
على أَنه قد قَالَ فِي آخر هَذِه الْمقَالة فَالله الله الزموا طَريقَة السّلف الصَّالح فناقض كَلَامه هَذَا تسترا بعد أَن فَضَح نَفسه وكشف السّتْر عَنْهَا بذمه لقَولهم وتنفيره من اتباعهم ودعايته إِلَى مخالفتهم
ولسنا مِمَّن يقبل قَوْله فِي ذمّ من مدحه الله تَعَالَى وَرَسُوله ﷺ وَالْأَئِمَّة وَلَا نهجر طَريقَة من أمرنَا بسلوكها لقَوْله
قَالَ الله تَعَالَى ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَالَّذين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ﴾ وَقَالَ ﷾ ﴿مُحَمَّد رَسُول الله وَالَّذين مَعَه﴾ الْآيَة
وَقَالَ النَّبِي ﷺ خير النَّاس قَرْني ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ
وَقَالَ النَّبِي ﷺ لَا تسبوا أَصْحَابِي فَإِن أحدكُم لَو أنْفق مثل أحد ذَهَبا مَا بلغ مد أحدهم وَلَا نصيفه
وَقَالَ ﷺ إِن الله اختارني وَاخْتَارَ أَصْحَابِي فَجعل لي مِنْهُم أصهارا وأنصارا
وَقَالَ ﷺ عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين من بعدِي عضوا عَلَيْهَا بالنواجذ
1 / 43
وَقَالَ ﷺ اقتدوا بالذين من بعدِي أَبُو بكر وَعمر وَقَالَ ﷺ أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ
وَقَالَ ﷺ حِين ذكر الْفرق إِنَّهَا كلهَا فِي النَّار إِلَّا وَاحِدَة قيل من الْوَاحِدَة قَالَ مَا أَنا عَلَيْهِ وأصحابي
ويروى عَن ابْن مَسْعُود ﵁ أَنه قَالَ إِن الله نظر فِي قُلُوب الْعباد فَوجدَ قلب مُحَمَّد ﷺ خير قُلُوب الْعباد فَبَعثه برسالته
ثمَّ نظر فِي قُلُوب الْعباد فَوجدَ قُلُوب أَصْحَابه خير قُلُوب الْعباد بعده فاختارهم لصحبة نبيه ونصرته ﷺ وَلم يزل أَئِمَّتنَا يحثوننا على اتِّبَاع سبيلهم والاهتداء بهديهم
وَقَالَ ابْن مَسْعُود ﵁ من كَانَ مِنْكُم متأسيا فليتأس بأصحاب رَسُول الله ﷺ فَإِنَّهُم كَانُوا أبر هَذِه الْأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا وأقربها هَديا وأحسنها حَالا قوم اخْتَارَهُمْ الله لصحبة نبيه ﷺ وَإِقَامَة دينه فاعرفوا لَهُم فَضلهمْ وَاتبعُوا آثَارهم فَإِنَّهُم كَانُوا على الْهدى الْمُسْتَقيم
وَرُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ رَحمَه الله تَعَالَى بعض هَذَا الْكَلَام أَو قريب مِنْهُ
1 / 44
وَقَالَ ابْن مَسْعُود ﵁ اتبعُوا وَلَا تبتدعوا فقد كفيتم
وَقَالَ ﵁ إِنَّا نقتدي وَلَا نبتدي وَنَتبع وَلَا نبتدع وَلنْ نضل مَا تمسكنا بالأثر
وَقَالَ ﵁ أَنا لغير الدَّجَّال أخوف عَلَيْكُم من الدَّجَّال أُمُور تكون من كبرائكم فأيما مرية أَو رجيل أدْرك ذَلِك الزَّمَان فالسمت الأول فَأَنا الْيَوْم على السّنة
وَقَالَ حُذَيْفَة بن الْيَمَان يَا معشر الْقُرَّاء خُذُوا طَرِيق من قبلكُمْ فوَاللَّه لَئِن اسْتَقَمْتُمْ لقد سبقتم سبقا بَعيدا وَلَئِن تَرَكْتُمُوهُ يَمِينا وَشمَالًا لقد ضللتم ضلالا بَعيدا
وَقَالَ الإِمَام أَحْمد ﵁ أصُول السّنة عندنَا التَّمَسُّك بِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَاب رَسُول الله ﷺ والاقتداء بهم وَترك الْبدع وكل بِدعَة ضَلَالَة
وَرُوِيَ عَن عمر بن عبد الْعَزِيز ﵁ كَلَام مَعْنَاهُ قف حَيْثُ وقف الْقَوْم فَإِنَّهُم عَن علم وقفُوا وببصر ناقد قد كفوا وَإِنَّهُم على كشفها كَانُوا أقوى وبالفضل لَو كَانَ فِيهَا أَحْرَى فلئن قُلْتُمْ حدث بعدهمْ فَمَا أحدثه إِلَّا من سلك غير سبيلهم وَرغب بِنَفسِهِ عَنْهُم وَلَقَد تكلمُوا مِنْهُ بِمَا يَكْفِي ووصفوا مِنْهُ مَا يشفي فَمَا دونهم مقصر وَمَا فَوْقهم مجسر لقد قصر عَنْهُم
1 / 45
قوم فجفوا وطمح آخَرُونَ عَنْهُم فغلوا وَإِنَّهُم فِيمَا بَين ذَلِك لعلى هدى مُسْتَقِيم
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ إِمَام أهل الشَّام رَحمَه الله تَعَالَى أَصْبِر نَفسك على السّنة وقف حَيْثُ وقف الْقَوْم واسلك سَبِيل سلفك الصَّالح فَإِنَّهُ يسعك مَا وسعهم وَقل بِمَا قَالُوا وكف عَمَّا كفوا وَلَو كَانَ هَذَا خيرا مَا خصصتم بِهِ دون أسلافكم فَإِنَّهُ لم يدّخر عَنْهُم خير خبئ لكم دونهم لفضل عنْدكُمْ وهم أَصْحَاب رَسُول الله ﷺ اخْتَارَهُمْ الله تَعَالَى وَبَعثه فيهم ووصفهم فَقَالَ ﴿مُحَمَّد رَسُول الله وَالَّذين مَعَه أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم﴾ الْآيَة
وَسَأَلَ رجل الْحسن بن زِيَاد اللؤْلُؤِي عَن زفر بن الْهُذيْل أَكَانَ ينظر فِي الْكَلَام فَقَالَ سُبْحَانَ الله مَا أحمقك مَا أدْركْت مشيختنا زفر وَأَبا يُوسُف وَأَبا حنيفَة وَمن جالسنا وأخذنا عَنْهُم يهمهم غير الْفِقْه والاقتداء بِمن تقدمهم
فَهَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة وَهَذَا قَوْلهم يحثوننا على اتِّبَاع سلفنا والاقتداء بهم
أفترانا نَتْرُك قَول الله ﷾ وَقَول رَسُوله ﷺ وَوَصِيَّة أَئِمَّتنَا فِي ترك اتِّبَاع سلفنا ونقبل قَول ابْن عقيل فِي قَوْله دعوا الِاقْتِدَاء بهم وقلدوني
1 / 46
وَاتبعُوا قولي وَقَول أمثالي من الْمُتَكَلِّمين
ولسان حَاله يَقُول أَنا الْكثير الزلات أَنا الْمَعْرُوف بالبدع والضلالات أَنا الْكثير العثار أَنا الْجَاهِل بالآثار أَنا الْمُخْتَار علم الْكَلَام المذموم على علم نَبينَا الْمُخْتَار فَاتبعُوني ودعوا اتِّبَاعه فَإِنَّهُ يدعوكم إِلَى النجَاة وَأَنا أدعوكم إِلَى النَّار
ثمَّ لَا خلاف بَيْننَا أَن الْإِجْمَاع حجَّة قَاطِعَة فَإِذا اجْتمعت الصَّحَابَة ﵃ على أَمر ثمَّ اتبعهم عَلَيْهِ أَئِمَّة التَّابِعين واقتدى بهم من بعدهمْ من الْأَئِمَّة فِي كل عصر وزمان وحث بَعضهم بَعْضًا على التَّمَسُّك بِهِ وحذروا أَصْحَابهم من مُخَالفَته فَكيف يُقَال لمتبع ذَلِك أَحمَق مغتر إِنَّمَا الأحمق المغتر الْمُخطئ المبتدع هُوَ الْمُخَالف لذَلِك الرَّاغِب عَنهُ
قَالَ الله تَعَالَى ﴿وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نوله مَا تولى ونصله جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرا﴾
فَإِن قَالَ إِنَّمَا أمرْتُم بِالِاجْتِهَادِ والمصير إِلَى مَا دلّ عَلَيْهِ الدَّلِيل ونهيتم عَن التَّقْلِيد المذموم قُلْنَا الْجَواب عَن هَذَا من أوجه أَحدهَا أَن طَرِيق
1 / 47
السّلف قد ثَبت بِالدَّلِيلِ الْقَاطِع سَلَامَته وَصِحَّة حجَّته من الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع فَلَا حَاجَة إِلَى الْكَشْف عَن صِحَّته بِدَلِيل آخر
الثَّانِي أَن فِي هَذَا القَوْل إلزاما للعامة بِالِاجْتِهَادِ فِي دقائق الْأُمُور والاعتقادات وَهَذَا خطأ من وُجُوه
أَحدهَا أَن فِيهِ تخطئة رَسُول الله ﷺ فَإِن النَّبِي ﷺ لم يَأْمر أحدا من أمته بِعلم الْكَلَام وَالنَّظَر فِي أَدِلَّة الْعُقُول ليعرف بِهِ صِحَة معتقده بل قنع مِنْهُم بِمُجَرَّد الْإِسْلَام
وَقَالَ ﷺ أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله فَإِذا قالوها عصموا مني دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وحسابهم على الله ﷿ أفترى بِكَوْن النَّبِي ﷺ مخطئا فِي قبُول ذَلِك مِنْهُم وقناعته بِمُجَرَّد إسْلَامهمْ من أَن يتعلموا علم الْكَلَام وينظروا فِي الْعرض والجوهر والجسم وَيكون المتكلمون هم المصيبون فِي خطأ من لم يتَعَلَّم ذَلِك وَلم ينظر فِيهِ فَإِن كَانَ هَذَا هَكَذَا فَلْيَدعُوا لأَنْفُسِهِمْ شَرِيعَة ودينا غير دين الْإِسْلَام ويدعوا دين مُحَمَّد ﷺ
الثَّانِي أَن تَكْلِيف الْعَامَّة الِاجْتِهَاد تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق
فَإِنَّهُم لَو اشتغلوا بِعلم مَا يصيرون بِهِ مجتهدين لانقطعوا عَن المعايش والحراثة والزراعة وَخَربَتْ الدُّنْيَا وَهلك الْخلق وَانْقطع النَّسْل وَترك الْجِهَاد وَخَربَتْ الدُّنْيَا وَلَا سَبِيل إِلَى هَذَا وَقد قَالَ الله تَعَالَى ﴿لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا﴾
1 / 48
الثَّالِث أَن الْإِجْمَاع مُنْعَقد على أَن الْعَامَّة لَا يكلفون الِاجْتِهَاد فِي أحكامهم وَأَن لَهُم تَقْلِيد الْعلمَاء فِي أُمُورهم وَكَذَلِكَ أَمرهم الله تَعَالَى بسؤال عُلَمَائهمْ فَقَالَ ﴿فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ﴾
الرَّابِع أَن فِي القَوْل بِوُجُوب الِاجْتِهَاد على الْكل حكما على عَامَّة الْخلق بالضلال لتضييعهم الْوَاجِب عَلَيْهِم
وَإِنَّمَا الَّذِي قيل إِنَّه لَا يجوز لَهُم التَّقْلِيد هُوَ الْأَمر الظَّاهِر الَّذِي قد علموه لظُهُوره من غير احْتِيَاج إِلَى تَعب وَلَا فكر وَلَا نظر كتوحيد الله ﷾ ورسالة مُحَمَّد ﷺ وَمَعْرِفَة وجوب الصَّلَوَات الْخمس وَصَوْم رَمَضَان وَسَائِر الْأَركان الَّتِي اشْتهر وُجُوبهَا وَعلم ذَلِك بِالْإِجْمَاع عَلَيْهَا فَلَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى بحث وَلَا نظر فَهَذَا لَا يجوز تقليدهم فِيهِ
وَأما دقائق الاعتقادات وتفاصيل أَحْكَام الْعِبَادَات والبياعات فَمَا يَقُول بِوُجُوب اجتهادهم فِيهَا إِلَّا جَاهِل وَهُوَ بَاطِل بِمَا ذَكرْنَاهُ
ثمَّ إِن اغْترَّ مغتر بقول ابْن عقيل هَذَا وَلم يقنع بِاتِّبَاع سلفه وَلَا رَضِي بِاتِّبَاع أئمته وَلم يجوز تقليدهم فِي مثل السُّكُوت عَن تَأْوِيل الصِّفَات الَّتِي وَقع الْكَلَام فِيهَا فَكيف يصنع فَهَل لَهُ سَبِيل إِلَى معرفَة الصَّحِيح من ذَلِك بِاجْتِهَاد نَفسه وَنظر عقله وَمَتى يَنْتَهِي إِلَى حد يُمكنهُ التَّمْيِيز بَين صَحِيح الدَّلِيل وفاسده فَهَذَا ابْن عقيل الَّذِي زعم أَنه استفرغ وَسعه فِي علم الْكَلَام مَعَ الذكاء والفطنة فِي طول زَمَانه مَا أَفْلح وَلَا وفْق لرشد بل أفْضى أمره إِلَى ارْتِكَاب الْبدع المضلات وَالْخَطَأ الْقَبِيح ومفارقة الصَّوَاب حَتَّى استتيب من مقَالَته وَأقر على نَفسه ببدعته وضلالته
فَأَنت أَيهَا المغتر بقوله هَذَا مَتى تبلغ إِلَى دَرَجَته فَإِذا بلغتهَا فَمَا الَّذِي أعْجبك من حَالَته حَتَّى تقتدي بِهِ وَقد ذكرنَا مَا قَالَه الْأَئِمَّة فِي ذمّ الْكَلَام وَأَهله ونسأل الله السَّلامَة
الْوَجْه الْخَامِس إننا إِذا نَظرنَا فِي الدَّلِيل وَجَدْنَاهُ يقْضِي خلاف مَا دَعَا
1 / 49