قال ابن جني: لم يقل في سرعة الأوبة، وتقليل اللبث شيء كهذا في المبالغة، اختلفت أهل النظر في هذا الموضع؛ فقال قوم إن السهم والحجر ونحوهما إذا رمي بهما صعدًا فبتناهي صعودهما كانت لهما في آخر ذلك لبثه ما، ثم يتصوب منحدرا، وقال آخرون: لا لبثة له هناك، وإنما أول وقت انحداره في عقيب وقت صعوده وهذا القول أشبه بأن يقال.
وقال ابن فورجة: هذا البيت مدخول لأن قوله) في هواء (ليس يوجب فوقًا ولا يمينيًا ولا شمالًا، إذ في كل الجهات غير تحت الهواء، وكل سهم رمى به فإن ممره في هواء سواء عاليت به في السماء أو خفضته إلى رمية على الأرض، إلا أنه لم يجد لفظة بقيمها هذا المقام يقيمها هذا المقام ونؤدي المعنى إلا السكاك وقد تقدمت، وهو لا يرى تكرير اللفظ في قصيدة وقد غلط به أيضا شاعر محدث فقال في غزل:
أرامٍيهنَّ باللحَظَاتِ خَلسًا ... فَترجِع نحو مقَلَتي سِهاَمِي
وذاك لأنّهن لِفَرطِ لُطفٍ ... هَواءُ ليس يَمسك سهمَ رامي
ألا ترى أن لقائل أن يقول: كل هواء لا يمسك السهم إلا أنه إذا لم يمسكه فليس يعود إلى الرامي، اللهم إلا أن يكون الهواء الذي فوقه وإنما هذا معنى قول الأول: ومن جول الطوى رماني لأنّ من رمى وهو في بئر عادت إليه رميته
حَييَّ مِنْ إلَهيِ أنْ يَرَاني ... وقد فارقَتْ دَارَك وَاصْطِفاكا
قال ابن جني: الاصطفاء ممدود فقصره، وأنشد أحمد بن يحيى:
فلو أنَّ الأطَّبا كانَ حَوْلي ... وكانَ معَ الأطّباءِ الأساةُ
وعنه أيضا:
وأنْتَ لو باكَرْتَ مَشْمولةً ... صَفْرا كلَوْنِ الفَرسِ الأشْقَرٍ
وقال الشيخ: الأحسن في هذا البيت أن يكون اصطفاك في القافية فعلًا ماضيًا، ويكون معطوفًا على قوله) فارقت (، كأنه قال قد فارقت دارك وقد اصطفاك الله، وهذا أبلغ في خطاب الممدوح؛ لأنه يحكم له بأن الله اصطفاه. والوجه الآخر: إنما يصف فيه نفسه أنه فارقه، وفارق اصطفاءه، وليس في هذا تشريف الممدوح.
وقال ابن فورجة: ما قال الرجال إلا اصطفاكا بفتح الطاء، وكيف يجوز أن يقول اصطفاك ولا معنى لحياء المتنبي من الله سبحانه إذا فارق دار عضد الدولة فاصطفاه، بل يجب أن يتقرب إلى الله ﷿ بتلك المفارقة والزهد في داره، وإنما كان يجب أن يقول حيي من أصدقائي وأقراني لذلك، إذا كانوا هم الذين يلومنه ويعيرونه بمفارقته له، وزهده في جنبته، ولا جنبة أعلى منها، فأما الله تعالى فرضاه في زهده في جنبته، وتركه إياها، إذ كان ملكًا ظالمًا، وإنما يقول: أنا حيي من إلهي أن أفارقك وقد اصطفاك الله ﷿، وجعل إليك الأرزاق، ووكل إليك العباد، ألا تراه كيف بين وجه حيائه من الله تعالى إذ ذكر اصطفاءه له ولو لم يذكره لا مخلص من هذا السؤال.
حرف اللام
من التي أولها:
رُوَيَدَكَ أيُّها المَلِكُ الجَلِيلُ
قوله:
لأُكِيتَ حاسِدًا وأَرى عَدُوًا ... كأَّنُهما وَدَاعُكَ والرَّحِيلُ
قال ابن جني: سألته وقت القراءة عليه عن معنى هذا البيت فقال) أرى (من الورى. وهو داء في الجوف، قال: وشبهت الحاسد بالوداع، والعدو بالرحيل لقبحها عندي، وإتي أبغضها كما أبغض الوداع والرحيل.
ومَا أخْشَى نُبوَّكَ عن طَرِيقٍ ... وسَيفُ الدَّولةِ المَاضي الصَّقيلُ
قال الشيخ: لما أخبر عن السحاب بالهاء فقال) فها أنا بالسماح له عذول (رجع إلى خطاب سيف الدولة: لأنه ابتدأ في أول الأبيات بخطابه، ولو أمكنه أن يقول: وأنت سيف الدولة، لكان ذلك أبين، ولكنه لم يمكنه الوزن من المراد وهذا كقولك لرجل اسمه علي أو غيره:) قد فعلت جميلًا وعلي أهل لذاك (فاستغنى بعلم المخاطب بالمراد عن القول وأنت من أمرك.
وقال ابن فورجة: ليس قوله:) وسيف الدولة (ضرورة عاد بها من لفظ الخطاب إلى لفظ الإخبار؛ إذ قد قال) نبوك (بل يعني أني لا أخشى نبوك عن هذا الطريق وسيف الدولة لا يكون إلا الماضي الصقيل، وأنت سيفها فلا تكون إلا ماضيًا صقيلًا وسيف الدولة في هذا البيت يعني به سيف الحديد لا الممدوح على أنه لا يمتنع أن يقال عناه ورجع من لفظ الخطاب إلى لفظ الإخبار.
وُكلُّ شَوَاةِ غِطْريفٍ تَمنىَّ ... لِسَيْرك أنَّ مَفْرقها السَّبِيلُ
1 / 57