يدعو لهذه النفوس ومنابتها بالسقايا، ويقول أن منابتها لم تزل تسقي الورى، يعني أن أبا الممدوح وقومه كانوا كلهم مفضلين على الناس، فسيقت منابت هذه النفوس، كما لم يزالوا يسقون الناس، وجعل النفوس منابت لما أراد أن يدعو لها بالسقي، ثم قال سقيت بيد أبي أيوب، يريد بذلك أن سقيا يديه أعظم السقيا، وهو أفضل قومه وخير من نبت فيهم، وليس الغرض أن يدعو لقوم أبي أيوب بإفضال أبي أيوب عليهم، ولكن الغرض تعظيم شأن إعطائه، كأنه لو دعا بأن يسقيهم الغيث لكان دون سقيا أبي أيوب، وهذا ظاهر ولقد أحسن في هذا النحو القائل:
سقى الجِيرَةَ الغَادِينَ وَسمِيُّ عَارِضٍ ... هزيمَ الحَيا سبط الرِوَاقين مُمرِعِ
بسُحبٍ كأجفَانِي وَبرقٍ كَحُرقَتِي ... ورَعدٍ كإعَوالي وغَيثٍ كأدمُعِي
يريد بذلك تعظيم شان ركابه، وقد قال الشيخ أبو الفتح غير ما قلناه، ولم يعد الصواب لكنا قلنا برأينا
تكبُو وَرَاءَكَ يا بنَ أحمَدَ قُرَّحٌ ... ليسَتْ قَوَائِمُهُنَّ مِن آلاتِهَا
قال أبو العلاء: الهاء في آلاتها راجعة على وراء، لأنها مؤنثة، وكذلك قدام وأمام، وهذا ما لا يحتمل البيت غيره، وقد روي هذا التفسير عن قائل البيت وإنما أشكل على السامع لأن) وراء (لفظها لفظ المذكر، ولم يعد تأنيث وراء وقدام إلا بالتصغير لأنهم قالوا) قديدمة وورية (قال القطامي:
قُدَيدمِة التَّجرِيبِ والحِلمِ أنّني ... أرى غَفَلاتِ العَيش قَبلَ التَّجارِبِ
وقال آخر:
قد طَرقتْ وُريَّةَ الشَبابِ ... فمَرحبًا بطَيفِها المُنتَابِ
وقال الأحسائي: يقول ليست قوائم المتبعين لك من آلات مجازاتك، فإذا تبعوك وقصروا عن إتباعك.
غَلِتَ الَّذي حَسَبَ العُشُورَ بآيَةٍ ... تَرتِيلُكَ السَّورَاتِ من آياتِها
قال أبو العلاء: ذهب إلى أن الغلت في الحساب خاصة والغلط واحد كأن أحد الحرفين مبدل من الآخر، وذهب أبو عبيدة إلى أن الغلت في الحساب خاصة والغلط في غير ذلك. والعشور جمع عشر، والمعنى أن الذي حسب العشور غلط في العدد، لأن ترتيل هذا الممدوح إذا قرأ السور يجب أن يحسب آية فتكون الآيات العشر بترتيله إحدى عشرة آية، وهذا من الغلو الذي يقصده الشعراء، وهو كذب صراح.
وقال الأحسائي: يقول أن الذي قاس مناقبك غيرك، وقدر أنك تزيد عليهم حتى يحسب كل آية لهم بعشر آيات من مناقبك لا عشر آيات بآية.
فإذا نَوَتْ سَفَرًا إلَيكَ سَبقتَها ... فأضَفتَ قَبلَ مُضَافِها حالاتِها
قال أبو الفتح: يقول ليس ينبغي أن نعذل المرض الذي بك، وكان قد اعتل لأنك تشوق أمراضها معها فقد شقت المرض حتى زارك، كما شقت صاحبه فإذا أرادت الرجال إليك السفر سبقتها بإضافتك أحوالها قبل إضافتك إياها.
قال ابن فورجة: هكذا رواه الشيخ أبو الفتح، وكذا رويته أيضا عن دعة مشايخ إلا أن الصواب عندي أن يروي) سبقتها (بالنون لما أنا اذكره وهذا البيت بعد قوله:
لا نَعزُلُ المرضَ الذي بكَ، شائِقٌ ... أنتَ الرّجالَ وشَائِقٌ عِلاَّتِها
والهاء في سبقتها عائدة إلى الرجال، يقول أنت تشوق الرجال وتشوق علاتها، لأنك فرد عجيب في جميع محاسنك، وإنما يريد بذلك إقامة العذر للحمى، وتحسين أمرها كما يفعل الشعراء بالأحوال الذميمة للممدوحين، فيقول إذا نوت الرجال السفر إليك سبقت العلات الرجال فجاءتك قبلها، إلا أنها أعراض وأولئك جسوم، والأعراض أخف فأضفتها قبل أن تضيف الرجال، فلهذا، قلت الصواب) سبقنها (والمضاف مصدر أضفت كما أن المقام مصدر أقمت، والمصاب مصدر أصبت.
حرف الحاء
ومن حرف الحاء قوله من القصيدة التي اولها:
جَلَلًا كَما بِي فَليَكُ التَّبريجُ ... أغِذَاءُ الرَّشَأِ الأغَنِّ الشِّيحُ
قال ابن جني: معنى البيت إذا كان أحد في شدة فليكن كما أنا عليه، تعظيما لما هو فيه من الشدة فتم الكلام. ثم استأنف قولا آخر في النصف الثاني فقال متعجبا من حسن المشبب به: أغذاء ذا الرشا الأغن الشيح أي كأنه ظبي في الحقيقة من حسنه ورشاقته، وهو كقول ذي الرمة:
أيا ظَبيةَ الوَعساءِ بينَ جُلاجلٍ ... وبينَ النَّقا آأنتِ أم أمُّ سالمِ
1 / 20