نُحسِنُ الهِناءَ إذا استهنأتَنا ... ودفَاعًا عَنكَ بالأيدي الكِبارِ
يعني بالنعم الضخام وبياض يد النعمة مجاز لا حقيقة.
الثَّابِتينَ فُرُوسَةً كَجُلُودِها ... في ظَهرِها والطَّعنُ في لَبَّاتِها
قال أبو العلاء: قوله في ظهرها كقول الآخر:
كُلُو في نِصفِ بطنِكُمُ تَعِيشُوا ... فإنَّ زمانكُم زَمَنٌ خَمِيصُ
وقول علقمة:
بها جيفُ الحسري فأما عظامُها ... فبيضٌ وأمّا جلدُها فَصليبُ
والمعنى أنه وصفهم بالثبات على ظهور الخيل وهي الطعن في لباتها.
العارِفينَ بِهَا كَما عَرَفتْهُمُ ... والرَّاكبينَ جُدُودُهُم أُمَّاتِها
قال أبو العلاء: لو كان الكلام منثورا لكان الواجب أن يقال والراكب جدودهم على التوحيد لأن أسم الفاعل إذا تقدم جرى مجرى الفعل فيقال) مررت بالراكب الخيل جدوده وجدودهم (لأن الألف واللام تنوب عن الذي واللذين والذين فإذا جمعت أو ثنيت فهو على قول من قال) قمن النساء. وأكلوني البراغيث (وقال أبو علي: هذا البيت يحتمل معنيين، أحدهما وهو الظاهر أن هذه الخيل تعرفهم وهم يعرفونها لأنها من نتاجهم. والثاني: أنها تناسلت عندهم. فجدود هؤلاء الممدوحين كانت تركب أمات هذه الخيل، وهم اليوم يركبون بناتها، ولو ساعده الوزن لقال والراكبين آباؤهم ليكون أصح في التقابل وهذا المعنى سواء وقوله:
بَنُو قَتلَى أبيكَ بأرضِ نَجدٍ ... وَمَن أبقَى وأبقَتهُ الحِرَابُ
وقوله في أخرى:
لَعلَّ بَينَهمُ لِبَنيكَ جُندٌ ... فَأوَّلُ قُرَّحِ الخَيلِ المِهارُ
وأنشدني أبو العلاء لنفسه في هذا المعنى:
بَناتِ الخَيلِ تَعرفُها دَلُوكٌ ... وَصارِخةٌ وآلسُ واللُّقَانُ
هذه كلها من بنات الروم، يقول أبوك.... بأماتها في هذه الديار فهي تعرفها. وهذا المعنى على ظهوره وإظهار أبي الفتح إياه في كتاب الفسر ليس بذلك السائغ عندي. لما أذكره وهو أن توالي الأبيات تدل على غير ما حكى.
يقول:
ومَقانبٍ بمقَانبٍ غادَرتُها ... أقوَاتَ وَحشٍ كُنَّ من أقَواتِها
أقبَلتُها غُررَ الجِيادِ كأنَّما ... أيدِي بَني عِمرانَ في جَبَهاتِها
الثَّابتينَ فُرُوسةً كجُلُودِها ... في ظَهرِها والطَّعن في لَبَّاتِها
العارِفينَ بها كما عَرَفتهُم ... والرَّاكبِينَ جُدُودُهمْ أُمَّاتِها
فهذا يصف خيل نفسه التي قاتل عليها عدوه، وليس يصف خيل الممدوحين اللهم إلا أن يدعي مدع أنه قاتل على خيل الممدوحين، وفي هذا) نبو (أو يعني أنه قادها إليه. والمعنى جيد لأنه يريد أن يقود الخيل إلى الشعراء من نتائجه، والمعنى عندي هو الذي أورده، وهو أنه يصف معرفتهم بالخيل ولا يعرفها إلا من طال مراسه لها، والخيل أيضا تعرفهم لأنهم فرسان، وقد قال أبو الطيب في بيت آخر: فالخَيلُ واللّيلُ والبَيداءُ تَعرِفُني وهذا ظاهر من أمثال العرب:) الخيلُ تُعرفُ من فُرسانها البُهُم (وقوله) والراكبين جدودهم أماتها (يريد بذلك أن جدودهم أيضا كانوا من ركاب الخيل، أي أنهم عريقون في الفروسية، ويوضح معنى ذلك ما أنشده أبو العلاء نفسه:
يا ابن الأُلى غيرَ زَجر الخَيلِ ما عَرَفوا ... إذ تعرفُ العُربُ زَجر الشاءِ والعَكرِ
فهذا هو الأشبه والمعنى الأول غير ممتنع.
سُقِيَتْ مَنابِتُها الَّتِي سَقَتِ الوَرَى ... بِيَدي أبِي أُيوبَ خَيرِ نَباتِها
قال ابن جني: جعل النفوس منيات لما أراد أن يدعو لها بالسقي، إذا كانت المنابت محتاجة إلى السقي اتساعا فيقول سقى منابت هذه النفوس بيدي أبي أيوب هذا الممدوح الذي هو خير نباتها، أي نفسه أشرف هذه النفوس المذكورة، أي لا زال ظله وعرفه على أهله وذويه، لأنه إذا أفاض عرفه فقد أفاضه على كافة الورى، لأنهم معاط مساميح هذا مع ما يتولاه هو من إعطائه كافة الناس، والهاء في نباتها تعود على المنابت، فجعل النبات هو الذي يسقي المنبت قلبا لعادة وإغرابا في القول وتغلغلا في الصنعة.
قال ابن فورجة: الهاء في قوله منابتها، عائدة على النفوس في البيت الذي تقدمه وهو:
تِلكَ النُّفوسُ الغالِباتُ على العُلا ... والمجدُ يَغلِبُها على شَهَواتِها
1 / 19