وهذا معنى قوله تعالى: "وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا".
(والحظر) المنع، والمحظور الممنوع (١).
وتركيب الآية يفيد أن عطاء الرب لا يمنع، ولا يجوز أن يمنع، لأن من مقتضى ربوبيته دوام عطائه ومدده لعموم خلقه بعلمه وحكمته.
وقدم المفعول، وهو (كلا) ردًا على من يعتقد أن الله تعالى يمد بعضًا دون بعض. وفيه إيجاز بالحذف، والأصل كلا الفريقين: يعني فريق مريدي العاجلة، ومريدي الآخرة.
و(نمد) من الإمداد وهو المواصلة بالشيء، وذلك الشيء يسمى مددًا. وأصل المدد البسط للشيء، فيستطيل ويتسع ومنه مدّ يده ومدّ شبكته، ومنه مدّ الله لك أسباب السعادة أي بسطها ووسعها. والإمداد بالشيء والمواصلة به يكون به دوام فائدته وامتداد النفع به. والخلق كلهم في حاجة دائمة، وفاقة مستمرة إلى مدد الله وعطائه، وأنكل بره وإحسانه.
وهو ﵎ لا يزال يواصلهم في كل لحظة من وجودهم بما يحتاجون إليه من فيض عطائه.
وأضاف العطاء للرب لأنه من مقتضى ربوبيته بتكوينه للخلق، وتطويرهم، وإعطائهم ما يحفظهم في تلك الأطوار.
وأضاف الرب إلى ضمير المخاطب، وهو النبي ﵌ لتشريفه بهذه الإضافة. ولما تشرف بهذه الإضافة الربانية- والرب ﷻ قد مضى في وصفه في الآية أنه عام الرحمة والنعمة والنوال؛ فمن شكر نعمة هذا الشرف أن يتخلق العبد- وهو محمد ﵌ بما هومن مقتضى وصف ربه.
هذا من فوائد هذه الإضافة في هذا المقام.
وقد كان- ﵌ رحمة للعالمين، شديد الشفقة على الخلق أجمعين حريصًا على هدايتهم إلى الصراط المستقيم، حتى خاطبه ربه بقوله: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: ٣]. أي قاتل نفسك غمًا لعدم إيمانهم
وكان أساس شرعه على العدل والإحسان: العدل مع كل أحد، والإحسان إلى كل شيء، فقال تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ [المائدة: ٨]. أي لا يحملنكم بغض قوم على عدم العدل فيهم- وقال صلى الله عليهم وآله وسلم: «ان الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة» (٢).
ولما كان هو ﵊ قدوتنا، فنحن مخاطبون بأن نكون مثله في عموم رحمته
_________
(١) في تفسير الطبري (٨/ ٥٦): "محظورًا: أي منقوصًا".
(٢) من حديث شداد بن أوس. أخرجه الترمذي في الديات باب ١٤، والنسائي في الضحايا باب ٢٢ و٢٧.
1 / 58