عموم النوال من الكبير المتعال
﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (١٩) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (٢٠)﴾ [الإسراء: ١٩ و٢٠].
تمهيد:
إن هذه الموجودات كلها علويها وسفليها، مشمولة برحمة الله مغمورة بنعمته. وأول تلك النعم هو وجودها، وذلك الوجود من مقتضى الرحمة.
ثم تتنوع تلك النعم الرحمانية بتنوع أجناس الموجودات وأنواعها وأصنافها وأفرادها، وتتفاوت أيضا حسب ذلك. وينال كل حظه منها بتقدير الحكيم العليم.
ومن مظاهر هذه الرحمة العامة أن كل موجود قد أعطي من التكوين ما يناسب وجوده، وما يتوقف عليه بقاؤه، أو ارتقاؤه، سواء أكان من عالم الجماد، أو عالم النبات، أو عالم الحيوان.
وقد مضى قبل هذه الآية ذكر مريدي العاجلة الذين لا يعملون إلاّ لها، وما أعد لهم من عذاب النار. وذكر مريدي الآخرة بأعمالهم في الدنيا، وما أعد لهم من حسن الجزاء. فحالتهم في الآخرة متباينة: هؤلاء في النعيم المقيم، وأولئك في العذاب الأليم، هذا في الآخرة.
وأما في الدنيا فإنهم قد أعطوا من نعم الحياة، ومُكنوا من أسبابها.
فقد تساووا في الخلقة البشرية، وفي العقل المميز المفكر، وفي الإرادة الحرة.
وقد أظلتهم السماء، وأصابتهم نعمة الشمس والقمر والكواكب وما ينزل من السماء.
وقد أقلتهم الأرض وشملتهم نعمة الهواء، والماء، والغذاء، والدواء، من النبات والحيوان والجماد، وكل ماء يخرج من الأرض.
وشاهدوا كلهم آيات الله الكونية الدالة عليه.
وجاءتهم كلهم رسل الله بآياته السمعية داعية إليه، فاختار كل بعقله- وهو حر في إرادته حرية لا يمكن لأحد أن يكابر فيها ما اختار لنفسه.
وحجة الله بما تقدم قائمة عليه. وبقوا بعد ذلك الاختيار- الذي اختلفت به منازلهم عند الله- فيما أعد لهم يوم لقاه، سواء في تلك النعم الدنيوية، والتمكن من أسباب بقائها والتقدم فيها، لا فرق في ذلك بين بر وفاجر، ومؤمن وكافر.
وهذا معنى قوله تعالى: ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ﴾.
وليس تعالى مانعًا كافرًا لكفره، أو عاصيًا لعصيانه من هذه الحياة وأسبابها، وليس أحد على منع ما لم يمنعه الله بقادر.
1 / 57