قوله تعالى: { إن الذين آمنوا } يعني صدقوا واستقاموا على الدين، وقيل: المراد به الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم وهم المنافقون، وقيل: من آمن أي داوم على الايمان والاخلاص { والذين هادوا } اليهود { والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } { لقد أخذنا ميثاق بني اسرائيل } بالتوحيد { وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم } بما يخالف أهواءهم { فريقا كذبوا وفريقا يقتلون وحسبوا الا تكون فتنة } يعني حسب بنو إسرائيل أنهم لا يصيبهم من الله فتنة أي بلاء وعذاب في الدنيا والآخرة { فعموا } عن الدين { وصموا } حين عبدوا العجل ثم تابوا عن ذلك فتاب الله عليهم { ثم عموا وصموا } مرة ثانية بطلبهم المحال في صفات الله سبحانه وهو الرؤية، قوله تعالى: { لقد كفر الذين قالوا ان الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني اسرائيل اعبدوا الله } الآية وهذا احتجاج على النصارى أنه من يشرك بالله في عبادته وفيما هو مختص به من صفاته ومن أفعاله فقد حرم الله عليه الجنة التي هي دار الموحدين أي حرمه دخلوها ومنعه منها كالمنع من المحرم عليه { ومأواه النار } أي مصيره { وما للظالمين من أنصار } من معين ينجيهم من عذاب الله تعالى، قال جار الله: هذا من كلام الله تعالى على أنهم ظلموا أنفسهم وعدلوا عن سبيل الحق فيما يقولون على عيسى (عليه السلام)، فلذلك لم يساعدهم عليه وإن كانوا معظمين له بذلك ورافعين، أو من قول عيسى (عليه السلام) على معنى ولا ينصركم أحد فيما تقولون علي ولا يساعدكم عليه لاستحالته وبعده عن المعقول أو ولا ينصركم ناصر في الآخرة من عذاب الله تعالى { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } أي أحد ثلاثة قيل: هؤلاء صنف آخر، وقيل: هو جمهورا لفرق الملائكة والنسطورية واليعقوبية لأنهم يقولون ثلاثة أقانيم جوهر واحد أب وابن وروح القدس إله واحد ولا يقولون ثلاثة آلهة وهو معنى قولهم، قال جار الله في معنى قوله: { وما من إله إلا إله واحد } للاستغراق المقدرة وهي المقدرة مع لا التي لنفي الجنس في قوله:
لا إله إلا هو
[البقرة: 163] أي لا إله في الوجود قط إلا الله موصوف بالوحدانية لا ثاني له وهو الله وحده لا شريك له { وإن لم ينتهوا } يمتنعوا ويكفوا { عما يقولون } من المذاهب الفاسدة { ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم } ، قيل: في الدنيا، وقيل: في الآخرة { أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه } عن هذه الشهادة المقررة عليهم بالكفر وهذا الوعيد الشديد، ويرجعون عما يقولون ويطلبون المغفرة منه بالتوبة { والله غفور رحيم } ولما تقدم ذكر مقالة النصارى عقبه بالاحتجاج عليهم والرد فقال سبحانه: { ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } أي مضت من قبله الرسل، يعني لم يكن المسيح وإن آتاكم بالأعاجيب من الآيات والمعجزات إلا كسائر الأنبياء قبله فكما أنهم لم يكونوا آلهة كذلك عيسى (عليه السلام) أحيى الميت وأبرأ الأكمه والأبرص، وموسى ألقى العصا فصارت حية وفلق البحر وإن خلقه من غير ذكر فقد خلق آدم من غير ذكر وأنثى، وإبراهيم ألقي في النار فلم يحرق والجميع سواء في الاعجاز، قوله تعالى: { وأمه صديقة } أي وما أمه إلا كسائر النساء المصدقات للأنبياء فما منزلتهما إلا منزلة بشرين أحدهما أنثى والآخر صحابي فمن أي اشتبه عليكم أمرهما حتى وصفتموهما بما لو يوصف به سائر الأنبياء، وقيل: بصدق رسول الله ومنزلة ولدها ومنزلتها وما أخبرها به، قوله تعالى: { كانا يأكلان الطعام } لأن من احتاج إلى الغذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم والنفض لم يكن إلا جسما مركبا من عظم ولحم وعروق وعصب ودم وأخلاط وأمزجة مع شهوة وقرم وغير ذلك مما يدل على أنه مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام، قوله تعالى: { انظر كيف نبين لهم الآيات } أي الاعلام من الأدلة الظاهرة على بطلان قولهم: { ثم انظر أنى يؤفكون } كيف يصرفون عن استماع القول وتأمله.
[5.76-81]
{ قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا } وهو عيسى لا يضرك بمثل ما يضركم الله من المصائب والبلايا في الأنفس والأموال، ولا ينفعكم بمثل ما ينفعكم به من صحة الأبدان والخصب والسعة، ولأن كلما يستطيعه البشر من المنافع والمضار فبأقدار الله تعالى وتمكينه، فكأنه لا يملك منه شيئا، قال جار الله: وهذا دليل قاطع على أن أمره مناف للربوبية حيث جعله لا يستطيع ضرا ولا نفعا وصفة الرب أن يكون قادرا على كل شيء { والله هو السميع العليم } يعني أتشركون بالله ولا تخشونه وهو الذي يسمع ما تقولون ويعلم ما تعتقدون ويعلم ما تعبدون { قل يا أهل الكتاب } يعني النصارى { لا تغلوا في دينكم غير الحق } يعني لا تجاوزوا الحق إلى غيره غلوا باطلا { ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل } هم أئمتهم في النصرانية كانوا على الضلال قبل مبعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) { وأضلوا كثيرا } ممن شايعهم على التثليث { وضلوا } لما بعث محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) { عن سواء السبيل } حتى حسدوه وكذبوه، قوله تعالى: { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل } يعني نزل لعنهم في الزبور { على لسان داوود } وفي الانجيل على لسان عيسى (عليه السلام)، وقيل: إن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت قال داوود: اللهم العنهم واجعلهم آية، فمسخوا قردة، ولما كفروا أصحاب عيسى (عليه السلام) بعد المائدة قال عيسى (عليه السلام): اللهم عذب من كفر بعدما أكل من المائدة عذابا لم تعذبه أحدا من العالمين، والعنهم كما لعنت أصحاب السبت فأصبحوا خنازير، وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبي { ذلك بما عصوا } قال جار الله: لم يكن ذلك اللعن الشنيع الذي كان بسبب المسيح إلا لأجل المعصية والاعتداء لا لأجل سبب آخر غير المعصية والاعتداء بقوله: { كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه } يعني لا ينهي بعضهم بعضا، ثم قال: { لبئس ما كانوا يفعلون } للتعجب من فعلهم مؤكدا لذلك بالقسم، فيا حسرتا على المسلمين في اعراضهم عن التناهي عن المناكير، قال جار الله: وما فيه من المبالغات في هذا الباب، قوله تعالى: { ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا } الآية نزلت في اليهود الذين كانوا يوالون المشركين، وقيل: في المنافقين الذين كانوا يوالون اليهود، قال جار الله: هم منافقو أهل الكتاب كانوا يوالون المشركين ويصافونهم { أن سخط الله عليهم } والمعنى يوجب سخط الله { ولو كانوا يؤمنون بالله } إيمانا خالصا من غير نفاق ما اتخذوا المشركين { أولياء } يعني أن موالاة المشركين كفى بها دليلا على نفاقهم وأن إيمانهم ليس بإيمان بالله تعالى والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) { وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء } يعني اليهود، وقيل: معناه أنهم لو كانوا يؤمنون بالله تعالى وموسى كما يزعمون ما اتخذوا المشركين أولياء، وقيل: هذه موالاة التناصر والمعاونة على معاداة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) { ولكن كثيرا منهم فاسقون } متمردون في كفرهم ونفاقهم.
[5.82-89]
{ لتجدن } يا محمد أو أيها السامع { أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا } يعني مشركي العرب بمظاهرتهم لليهود على معاداة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) { ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا للذين قالوا إنا نصارى } لم يرد فيه جميع النصارى مع ما هم فيه من عداوة المسلمين وإنما نزلت هذه الآية في النجاشي، قال المفسرون: ائتمر المشركون على أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يؤذونهم ويعذبونهم فافتتن منهم من افتتن وعصم الله من شاء ومنع الله رسوله بعمه أبي طالب فلما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما بأصحابه ولم يقدر على منعهم ولم يؤمر بالجهاد بعد أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة، وقال: " إن بها ملكا صالحا لا يظلم ولا يظلم عنده أحدا فأخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجا " وأراد به النجاشي، قال في الثعلبي: فخرج إليه سرا إحدى عشر رجلا وأربع نسوة وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذه الهجرة الأولى، ثم خرج جعفر بن أبي طالب وتتابع المسلمون اليها فكان جميع من هاجر إليها اثنين وثمانين رجلا سوى النساء والصبيان فأقام المسلمون هنالك بخير دار وأحسن جوار إلى أن هاجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلا أمره، وقدم جعفر من الحبشة ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بخيبر فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا أدري أنا أشد فرحا بفتح خيبر أم بقدوم جعفر " وكتب النجاشي الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إني أشهد أنك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صادق مصدق وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت لله رب العالمين، فنزلت: { ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا انا نصارى } يعني وفد النجاشي الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب السبعون وكانوا أصحاب الصوامع، وقيل: هم ناس من أهل الكتاب، والثاني أنهم المتمسكون بالنصرانية عن أبي علي، قيل: لأنهم سمعوا الحق ولم ينكروا خلاف اليهود، وقيل: إذا أسلموا حسن إسلامهم ، وقيل: هم أقل عداوة ولذلك قال: { أقربهم مودة } قوله: { ذلك بأن منهم قسيسين } أي من النصارى { ورهبانا } أي علماء وعباد { وأنهم لا يستكبرون } قوله تعالى: { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق } الآية نزلت في النجاشي وأصحابه وذلك أنه قال لجعفر بن أبي طالب حين اجتمع في مجلسه المهاجرون: هل في كتابكم ذكر مريم؟ فقال جعفر: فيه سورة تنسب إليها فقرأ إلى قوله:
ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون
[مريم: 34] وقرأ سورة طه إلى قوله:
وهل أتاك حديث موسى
अज्ञात पृष्ठ