405

{ فلمآ أحسوا } وأدركوا { بأسنآ } بعد تعلق أرادتنا بانتقامهم، ورأوا مقدمات عذابنا وبطشنا { إذا هم } مع شدة شكيمتهم ووفور قوتهم وقدرتهم { منها } أي: من قرارهم { يركضون } [الأنبياء: 12] ويهربون سريعا ركض الخيل من الأسد.

ثم قيل لهم على سبيل التهكم والاستهزاء: { لا تركضوا } أيها المترفهون المتنعمون، إلى أين تمشون عن منتزهاتكم { وارجعوا إلى مآ } أي: إلى أوطانكم وقراكم التي { أترفتم } ومتعتم { فيه و } اسكنوا في { مساكنكم } التي كنتم فيها طول دهركم، لم تتركونها وتخرجون عنها؟ { لعلكم تسألون } [الأنبياء : 13] عن سبب الخروج والجلاء منها.

ثم لما ضاق عليهم أنواع العذاب ولحقت بهم وأدركتهم، ولم ينفعهم الفرار والتحرز { قالوا } متأسفين متحسرين: { يويلنآ } وهلاكنا تعالى { إنا كنا ظالمين } [الأنبياء: 14] متجاوزين مخرجين عن مقتضى العدل الإلهي؛ لذلك لحقنا ما لحقنا.

{ فما زالت تلك } تلك الكلمة المذكورة؛ يعني: يا ويلنا إنا كنا ظالمين { دعواهم } أي: دعاؤهم، ونداؤهم جارية على ألسنتهم على وجه الخضوع والخشوع والتذلل التام والانكسار المفرط؛ لأنهم قصدوا بها النجاة والخلاص، إذ هم اعترفوا بذنوبهم في ضمنها، وندموا عن فعلهم بتكرارها، ومع ذلك لم ينفعهم؛ لمضي وقت التوبة والندامة { حتى جعلناهم حصيدا خامدين } [الأنبياء: 15] أي: صارت أجسامهم مثل: المحصود الخامد من النبات، كأنه ماشم رائحة من الحياة في وقت من الأوقات.

{ و } كيف لا نأخذهم بظلمهم ولا نجعلهم محصودا خامدا جامدا؛ إذ { ما خلقنا السمآء } المزينة بزينة الكواكب، كل منها مقدر لأمور لا يعرف تعديده وإحصاءه غيرنا { والأرض } المزينة بزينة المعادن والنبات، والحيوان، والأشجار، والأنهار، وأنواع الفواكه، والأثمار، كل منها مشتمل على حكم ومصالح لا يسعه إلا حضرة علمنا { وما } يحصل { بينهما } من امتزاج آثارهما وأفعالهما من العجائب والغرائب التي تدهش منها العقول، وتكل في وصفها الألسنة، وتنحسر الصدور { لعبين } [الأنبياء: 16] أي: ما جعلناهما عبئا باطلا بلا سرائر ودعنا فيها، وبدائع أضمرنا في خلقها وظهورها، إذ الحكيم لا يفعل فعلا إلا وقد أودع فيه من المصالح الحكم ما لا يعد ولا يحصى.

فكيف يليق بجنابنا، وينبغي لشأننا أن يتصف أفعالنا المتقنة وآثارنا المحكمة باللهو واللعب، وتدبيراتنا بالعبث الخالي عن الحكمة والمصلحة؟ مع أنا { لو أردنآ } أي: قدرنا وفرضنا ما استحال علينا { أن نتخذ لهوا } ولعبا باطلا خاليا عن الفائدة، مخلا لكمال عزتنا وحكمتنا وعلو شأننا وعظمتنا { لاتخذناه من لدنآ } أي: من قبلنا، ومن جملة أفعالنا وآثارنا الصادرة وقدرتنا الكاملة وإرادتنا الخالصة، كلا وحاشا { إن كنا فاعلين } [الأنبياء: 17] أي: ما كنا مرتكبين العبث الخالي عن الفائدة سيما مع استكمال كمال قدرتنا ووفور علمنا على أنواع الحكم والمصالح.

{ بل نقذف } أي: بل اللائق المستحسن منا، المناسب بعلو شأننا أن نضمحل ونبطل { بالحق } الذي هو شمس وجودنا، ولمعان آثار فضلنا وجودنا { على الباطل } الذي هو الظل الزائغ الآفل، والعدم والعاطل الزائل { فيدمغه } أي: يمحقه ويسقط عنه اسم الوجود المستعار ويلحقه إلى ما هو عليه من العدم بلا عبرة واعتبار؛ ليظهر عند المعتبرين أن

ما هذه الحياة الدنيآ إلا لهو ولعب

[العنكبوت: 64]

وإن الآخرة هي دار القرار

अज्ञात पृष्ठ