404

ثم أعرضوا وانصرفوا عن قولهم بسحرية القرآن؛ لاشتمال على البلاغة والمتانة وأنواع الخواص، والمزايا الممدوحة عندهم إلى ما هو الأدنى والأنزل منه، { بل قالوا } ما هو إلا { أضغاث أحلام } أي: من تخليطات القوة المتخيلة وتمويهاتها التي رآها في المنام، ثم سطرها، وسماه كلاما نازلا من السماء موحى إليه من عند الله { بل افتراه } واختلقه واخترعه من تلقاء نفسه، ونسبه إلى الوحي ترويجا له بلا رؤيته في المنام { بل هو شاعر } فصيح تكلم بكلام كاذب مخيل نظمه على وجه يعدب الأسماع، وبالجملة ما هو نبي ولا كلامه الذي أتى به وحي نازل من الله كما ادعاه مثل كلام سائر الرسل، وإلا { فليأتنا بآية } مقترحة أو غيرها تلجئنا إلى تصديقه والإيمان به { كمآ أرسل الأولون } [الأنبياء: 5] أي: مثلما أرسل بها الأنبياء الماضون: كالعصا، واليد، البيضاء وإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، وغير ذلك من الآيات الواقعة من الرسل الما ضين.

ثم لما تقاولوا بما تقاولوا، واهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا أن ينزل عليه مثلما أنزل على أولئك الرسل نزلت: { مآ آمنت قبلهم } رسلنا الذين جاءوا بالآيات المقترحة { من قرية } أي: أهلها من القرى التي أرسلوا إليهم لذلك { أهلكناهآ } واستأصلناها، ولو تأتي أنت أيضا بمقترحاتهم، لما آمنوا لك مثلما لم يؤمنوا لهم { أ } تزعم يا أكمل الرسل أنهم لو أتيت لهم ما اقترحوا { فهم يؤمنون } [الأنبياء: 6] بك، كلا وحاشا، إنهم من شدة شكيمتهم وغلظ حجابهم وقسوتهم لا يؤمنون بك أصلا، وغاية الأمر أنه لو أتيت إياهم بمقترحهم لهم يقبلوا منك ألبتة، ولم يؤمنوا لك فاستحقوا الأهلاك والاستئصال حينئذ، وقد مضى أمرنا ونفذ حكمنا على ألا نستأصل قومك في النشأة الاولى، لذلك لم ننزل عليك ما اقترحوا منك.

[21.7-11]

{ و } إن أنكروا رسالتك يا أكمل الرسل معللين بأنك بشر مثلهم، والبشر لا يكون رسولا، قل لهم نيابة عنا: { مآ أرسلنا قبلك } رسولا على أمة من الأمم الماضية { إلا } أرسلنا { رجالا } منهم لا نساء، كاملا في الرجولية والعقل، بالغا نهاية الرشد والتكميل { نوحي إليهم } مثلما أوحينا إليك؛ ليرشدوا الناس إلى توحيدنا، ويوقظوهم من منام الغفلة، ويهدوهم إلى الصلاح، والفوز بالفلاح، وإن أنكروا هذا قل لهم: { فاسئلوا أ } أيها المنكرون { هل الذكر } أي: العلم والخبرة من أحبارهم وقسيسكم من المشتغلين لحفظ التوراة والإنجيل وسائر الكتب الإلهية { إن كنتم لا تعلمون } [الأنبياء: 7] أيها الجاهلون المكابرون.

{ و } إن أنكروا رسالتك معللين بأنك تأكل وتشرب مثلهم، والرسول لا بد ألا يأكل ولا يشرب مثل سائر الناس، قل لهم أيضا نيابة عنا: { ما جعلناهم } أي: الرسل الماضين { جسدا } أي: أجراما وأصناما { لا يأكلون الطعام } بدل ما يتخلل من أجزائهمن ولا يشربون الشراب المحلل لغذائهم؛ إذ هم أجسام ممكنة محدثة، محتاجة إلى التغذي، قابلة للنمو والذبول، مشرفة إلى الفناء والانهدام مثل أجسام سائر الأنام { وما كانوا خالدين } [الأنبياء: 8] دائمين مستمرين بلا ورود موت عليهم، وتحليل لتركيبهم، بل هم هلكى في قبضة قدرتنا وجنب وجودنا وحياتنا.

{ ثم } بعدما كذبهم المنكرون { صدقناهم الوعد } وأوفينا لهم الوعود المعهودة الذي وعدناهم من إهلاك عدوهم وإنجائهم من بينهم سالمين { فأنجيناهم } على الوجه الذي عهدنا معهم { ومن نشآء } من أتباعهم الذين سبقت رحمتنا عليهم في حضرة علمنا { وأهلكنا المسرفين } [الأنبياء: 9] المصرين على البغي والعناد، المنهمكين في الجور والفساد.

ثم قال سبحانه: { لقد أنزلنآ إليكم } يا معشر قريش { كتابا } جامعا لما في الكتب السالفة مع أنه ذكر { فيه ذكركم } وشرفكم، ونجابة عرقكم، وطينتكم، وكمال دينكم، ونبيكم، وظهوره على الأديان { أفلا تعقلون } [الأنبياء: 10] كلها، وتستعملون عقولكم بما فيه فتدركون مزية كتابكم، ورسولكم على سائر الكتب والرسل، ويشرف دينكم على سائر الأديان.

ولا تبالوا أيها المترفون بترفهكم وتنعمكم، ولا تعتروا بإمهالنا إياكم، ولا تؤمنوا عن فكرنا وإنزال عذابنا ونكالنا.

{ و } اعلموا أنا { كم قصمنا } أي: قهرنا كثيرا { من } أهل { قرية } وكسرنا ظهورهم، وبعدناهم عن أماكنهم التي يترفهون فيها؛ لأنها { كانت ظالمة } خارجة عن مقتضى الأوامر والنواهي المنزلة منا على رسلنا أمثالكم، وبعدما أخرجناها وأهلكناها { وأنشأنا بعدها } وبدلنا أهلها { قوما آخرين } [الأنبياء: 11] منقادين لحكمنا مطيعين لأمرنا.

[21.12-18]

अज्ञात पृष्ठ