هذا أيضا من أكبر أسباب التطويح بالكتاب في متايه الخطأ والغلط؛ إذ إنه كثيرا ما يتفق للواحد منهم أن يقدم على استعمال كلمة أو جملة، وهو لا يملك من الأدلة على صحتها سوى كون فلان ممن يثق بطول باعه وسعة اطلاعه قد سبقه إلى استعمالها في كتابه أو في ديوانه. ولو استطعنا التقصي في البحث عن منشإ غلطة ما، لانتهينا منه في سلسلة طويلة حلقاتها كتاب وشعراء كلهم سابق لتال، وكل تال منهم عد سابقه أكبر حجة في علوم اللغة، فنقل عنه ما نقل، ولم يوجس أقل خوف من سقوطه في وهدة الزلل.
ولست أدري هل أسعد الحظ أحدا من الكتاب فعصمه من نقل الخطأ عن غيره وصانه من توهم غلط سابقه صوابا؟ أما أنا فأعترف بأني طالما أخذت بشرك الاعتماد على غيري، وأخطأت في استعمال كثير من الكلمات والعبارات منقولة عمن لم أشك حينئذ في كونه خير من يصح الاستناد إليه والاعتماد عليه.
7
رابعا:
إهمال اللغة:
ويراد به أن معظم طلبة العلم في هذه الأيام قلما يهتمون - وهم في المدارس - أن يردوا من مناهل علوم اللغة ما يروي غليلهم ويقضي حاجتهم. فهم - في الغالب - يقتصرون منها على ما يمكنهم من اجتياز الامتحان وإحراز الشهادة. وبعد خروجهم من دور العلم تراهم لا يبدون أقل اهتمام للاحتفاظ بما حصلوه والسعي في إحيائه وإنمائه بالمطالعة والمراجعة، بل يهملونه وينسون حتى أبسط القواعد التي كان يجب عليهم أن يتذكروها صونا لأقلامهم وألسنتهم من ارتكاب الخطأ في ما يكتبون ويخطبون.
ولهذا الإهمال أسباب كثيرة ليس هنا محل بسطها واستيفاء الكلام عليها. ويهمنا منه أنه - لسوء الحظ - أمر واقع لا يسع أحدا منا إنكاره، وآثاره ظاهرة في ما يكتبه فريق كبير من خريجي مدارسنا. فإن الغلطات التي تبدو منهم تدل جليا على تفريطهم في حفظ أبسط القواعد المقيسة المطردة في الصرف والنحو وغيرهما من علوم اللغة. ولولا هذا الإهمال لقلت كثيرا غلطات الكتاب وانحصرت في ما يسهل تداركه ولا يصعب اجتنابه.
خوارج الأدب
بقي أن الكلام على العامل الأخير - الإهمال - يقتادني إلى ذكر شيء ولو على سبيل الاختصار، عن ثورة يثير غبارها ويشب نارها بعض المردة الذين خرجوا في هذه الأيام على نظام اللغة الشامل لجميع علومها وآدابها، خروجا أشبه بشق عصا الطاعة للحكومة أو بعقوق الوالدين والمروق من الدين. وكأن الناس لم يكفهم في الوقت الحاضر ما يعانونه من شرور البدع والأضاليل في الدين والسياسة والعادات القومية وغيرها، حتى يبتلوا بخطب هؤلاء الخوارج الذين قاموا على اللغة يطعنون في قواعدها وأحكامها، ويتزاهدون حماتها الزائرين عن حرماتها، ويبالغون في ازدرائهم وتفييل آرائهم وتسفيه أحلامهم.
وكثيرا ما تراهم يجاوزون حد القدح في اللغة، إلى الوقيعة في أيمتها الذين وضعوا أساسها، ورفعوا في الخافقين نبراسها، وقيدوا شوارد مفرداتها، وجمعوا قواعدها وأحكامها، وجلوا غوامض علومها وفنونها، وجعلوا ذلك كله في كتب تسهل علينا رود مناجعها وورود مشارعها، فيبخسونهم حقهم، ويجحدون فضلهم، ولا يذكرون لهم واحدة من هذه الحسنات. ولا يقتصرون على إنكارها، بل - لشدة غلوهم في الجور والتحامل - يعدونها كلها سيئات، ويزينون للشعراء والكتاب أن ينظموا ويكتبوا كيف شاؤوا، لا يراعون أحكام الصرف والنحو والمعاني والبيان، ولا يتقيدون في الشعر بالجري على قواعد علمي العروض والقافية قائلين لهم: إن هذه القواعد والأحكام وضعت لاعتبارات طوتها الأيام، وفي أحوال ظلها زال ولونها حال، فهي إذا مما عتق وشاخ، ولا بد لها من الانحلال والاضمحلال.
अज्ञात पृष्ठ