وهذه الغارة الشعواء يشنونها على اللغة، ويسعون في أن يقوضوا أبنية قواعدها ويجتثوا أعراق أحكامها؛ ليضمنوا خلو جو العيث والإفساد من كل واقف بالمرصاد، فيتسنى لهم أن يذهبوا في الكتابة كل مذهب لا يبالون في استعمال الكلمات بما نصت عليه معاجم اللغة، ولا يكترثون في صوغ الجمل والتراكيب لما ورد عنها في كتب علم الأدب. فيجيء ما تخطه أقلامهم في الطروس والدفاتر، أو تنطلق به ألسنتهم على المنابر، معارض سخافة وركاكة يتردد الاختلال في مذاهبها ويتمشى الاعتلال في مناكبها. وإذا اطلع أحد أبناء اللغة البررة الأوفياء على هذه الأسقاط والسفاسف، وحملته غيرته على التنبيه إلى ما يراه فيها من العيوب والهفوات، تصدى له أولئك المعسلطون
8
يتنقصونه ويستزرونه، ويتهمونه بأنه من ذوي العقول الجافة الجامدة المطبوعين على كراهية الحديث الجديد وحب التمسك بالرميم البالي. قال لي أحدهم ذات يوم: «إن المهم في الكلام نثرا كان أو شعرا إنما هو معناه لا لفظه. فبالمعنى - وهو الجوهر - يجب أن نعنى لكي يجيء ساميا رائعا طريفا أنيقا، أما اللفظ - وهو العرض - فليجئ كما يجيء لا نكترث له ولا نبالي به». فأجبته: «لا أدري كيف يستطاع الإتيان بمعنى أنيق طريف في لفظ ركيك سخيف؟! وأين تلك المعاني السنية التي تزكو أغراسها في دمن الاختلال والاعتلال؟! ولماذا لا تتلألأ الصهباء إلا في أكثف إناء؟ وهل يضر الشمس أن تطلع في أنقى جو وأصفى سماء؟ وإذا أمكن أن يكون السيف الماضي الحد في غمد من ذهب، أفليس من الخرق أن نصر على جعله في قراب من خشب؟!» فسكت ولم يحر جوابا.
وهذه الوساوس التي ينفثها أولئك النزاغون في عقد ترهاتهم وأباطيلهم، بل هذه الدسائس التي يدسونها للغة ويبثون سمومها في ما يكتبونه وينشرونه بين خريجي المدارس وطلبتها، كان لها أسوأ تأثير في أذهان جانب كبير منهم، وكانت من أكبر الأسباب لإعراضهم عن اللغة وإهمالهم لقواعدها وأحكامها.
شدة خطرهم على اللغة
وليعلم القراء أن خطر خوارج الأدب على اللغة شديد جدا؛ لأنهم لا يفتأون يناصبونها العداء، ولا ينفكون يكيدون لها المكايد ويخفون في سبيل تحصيلها الفخاخ والمصايد. وهم يسلطون عليها معاول تقويض وتهديم أشد تخريبا وتدميرا من المعاول التي يسلطها الفوضويون على الحكومات والإباحية المعطلة على الأديان. فإذا لم يهب سدنة اللغة وحفاظها في جميع الأقطار العربية هبة رجل واحد لدرء هذه المفاسد، تفاقم الخطب واستطار الشر واتسع الخرق على الراقع.
ولست أجهل أن كلامي هذا سيضرم في قلوب هؤلاء المردة نار الغيظ والحنق، فيحملون علي أشد حملة يستطيعونها، ويعرضونني لسهام المثالب والمطاعن. وأقل ما يرمونني به أني مفرط في المحافظة على القديم وشديد الغلو في مقاومة كل حديث جديد. وإني لكما يقولون مفرط كل الإفراط في المحافظة على القديم، ولماذا؟ لكي أبطل مشورات المغرين بالتفريط في أكرم ما نباهي به ونفاخر، وأحبط مساعي المؤتمرين على ضياع أغلى تراث تركه الأوائل للأواخر. أما في ما سوى ذلك، فإني بريء من كل ما يتهمونني به، وعلى الدوام يرونني في مقدمة المصرحين علنا بأن اللغة في أشد احتياج إلى إصلاح يرقيها ويمكنها من الوفاء بحاجات هذا العصر. ولكن الإصلاح شيء والهدم والتدمير أو الاجتياح والاستئصال شيء آخر!
اللغة وسيول اللهجات العامية
وخلاصة ما أروم بيانه في هذا التمهيد أني بوضعي لتذكرة الكاتب أردت أن أقضي واجبا علي في خدمة اللغة والمشتغلين بها، بذكراهم ما يقع في كلامهم من الخطأ لكي يجتنبوه، ويجيء ما يكتبونه صافيا على قدر الإمكان من أكدار اللحن ونقيا من شوائب الغلط. وهذا أحد الأمور التي يتحتم علينا أن نسرع في قضائها؛ لكي يكون إصلاح اللغة المنشود مستكملا جميع وجوهه. أما الأمور الأخرى فكثيرة، وأهمها التعجيل في إنشاء سد حصين متين يعترض للهجات العامية في جميع الأقطار العربية، ويصد سيولها الجارفة التي تطمو كل يوم على اللغة الفصحى محاولة إغراقها وابتلاعها كما يتمنى خوارج الأدب.
وهذه اللهجات العامية قد اتسع نطاق شيوعها كما تقدم الكلام، وذاع دورانها في ألسنة جميع الناطقين بالضاد، حتى تناول معظم أحاديث الناس في البيوت؛ في أكواخ الفقراء وقصور الأغنياء، وفي المعامل والمتاجر، والمدارس والأندية، ودواوين الحكومة وغيرها من الأماكن التي يجتمعون فيها لأغراض مختلفة. وأوشك استخدام كلماتها أن يشمل كل ما عندنا من رياش وأثاث ومتاع وإناء، وكل ما على أجسادنا من ثياب وملابس، من قمة الرأس إلى أخمص القدم، وكل ما يباع في مخزن التاجر ودكان البدال وحانوت العطار، من بضائع ومنسوجات ومصنوعات وعروض وسلع وعقاقير، وكل ما يعرض في علوم الطب والعلاج والهندسة، والملاحة والطيران وسكك الحديد، وصناعات البناء والحدادة والنجارة والخياطة، من اصطلاحات وتعابير وعدد وآلات وأدوات، وما يجد كل يوم من المكتشفات والمخترعات.
अज्ञात पृष्ठ