فلما خلونا يعلمُ اللهُ وحدهُ ... لقد كرمتْ نجوى وعفَّتْ سرائرُ
وبتُّ يظن الناسُ فيَّ ظنونهمْ ... وثوبيَ مما يرجمُ الناسُ طاهرُ
وللغزي مثل بيت الرضي الثاني:
حتى إذا طاح عنها المرط من دهش ... وانحل بالضم نظم العقد في الظلم
تبسمت فأضاء الليل فالتقطت ... حبَّات منتثر في ضوء منتظم
والجميع مأخوذ من قول الأول:
أضاءتْ لهم أحسابُهم ووجوههُم ... دجى الليل حتى نظمَ الجزعَ ثاقبهُ
وينظر إلى هذه المعاني، وإن لم يذكر العقد والنظم وغيرهما، قول القائل:
سفرت والليل داجٍ سليمى ... فبدا للسفر فيه السبيلُ
فأضاءَ الصبح لما توارتْ ... وقفَ الركبُ وحارَ الدليلُ
وأخذت معنى بيت السيد الرضي الأول فقلت:
بتنا حليفي هوًى في عفةٍ وتقًى ... وليس إلاّ صبابات وأشواقُ
يبثّ كل امرئ منَّا لصاحبه ... حتى بدا من ضياء الصبح إشراقُ
وقال شرف الدين ﵀ وقد أحسن في مطلعها ما شاء:
وفى ليَ دمعي يوم بانوا بوعده ... فأجريته حتى غرقتُ بمدّه
ولو لم يخالطه دم غال لونه ... لما مال حادي العيس عن قصد ورده
أأحبابنا هل ذلك العيش راجع ... بمقتبل غض الصبا مستجده
وإنَّ على الماءِ الذي تردونه ... غزالًا بجلد الماء رقة جلده
يغار ضياء البدر من نور وجهه ... وبخجل غصن البان من لين قدّه
السيد محيي الدين يوسف بن يوسف بن زيلاق الكاتب الهاشمي الموصلي، يضرب به المثل في العدالة، وله الرتبة العليا في الشرف والأصالة، فارس مبارز في حلبات الأدب، وعالم مبرز في لغة العرب بطبعٍ أخذ لطافة الهواء ورقة الماء، كأنما ظهرت له أسرار القلوب فهو يتقرب إليها بكل محبوب، شعره أحسن من الروض جاده الغمام، وأزهى من اللؤلؤ الرطب زانه النظام، وكلامه يشفي السقام ويطفي الأوام، وبديهته أسرع من الطرف وأحلى من ثمار المنى دانية القطف، حسن العشرة، كريم النفس، جامع بين أدبها وأدب الدرس، أجاز لي قبل اجتماعي به أن أروي عنه ما تصح روايته من معقول ومنقول، وكتب بذلك إليّ، وكان بيني وبينه مكاتبات ومراسلات، فلما اجتمعت به وتجاذبنا أطراف الكلام وتجارينا في وصف النثر والنظام، وعاشرته مدة فملأ سمعي ببدائع فرائده التي هي أحسن من الدرر في قلائده، وطلبت أن يأذن لي في الرواية عنه فاعتذر اعتذار خجل وأطرق إطراق وجل، وقال: يا فلان أنا والله أجلك عن هذا الهذر وأنت أولى من عذر فإني لم أكن بك خبيرًا قبل الاجتماع ولا ريب أن العيان يخبر بما لا يعبر عنه السماع وقد صغّر الخبرَ الخبرُ كما يقال وعند الامتحان تظهر خبايا الرجال، وأذن بعد جهد شديد واعتذار ما عليه مزيد، وأقمنا زمانًا يزيد حسنًا وإحسانًا ما ذممت له مشهدًا ولا مغيبًا، وما زال ربع أنسي به خصيبًا، وفارقته مفارقة السيف لجفنه، وسحت للبين سحب جفني وجفنه، وذلك في سنة سبع وخمسين وستمائة، فقال: كأنك تنشد حين رأيتنا:
سمعت بوصف الناس هندًا فلم أزل ... أخا صبوة حتى نظرت إلى هند
فلما أراني الله هندًا وزرتها ... تمنيتُ أنْ تزداد بعدًا على بعدِ
فأخذتُ الدواة وكتبت بديهًا:
أمولاي لو بالغت في وصف لوعتي ... وشوقي وما أخفيه من صادق الودّ
وأعطيت إرسال المقال وأصبحت ... فنونُ المعاني من عبيدي ومن جندي
وطاوعني نظمُ القريضِ وحوكهُ ... فجئتُ به أزهى وأسنى من العقد
ورمتُ به وصفَ الصبابةِ والأسى ... لبعدكم لم أبدِ بعضَ الذي عندي
وأنشدني المولى قريضًا محبّرًا ... أسالَ به سلكَ الدموع على خدّي
سمعت بوصف الناس هندًا فلم أزل ... أخا صبوة حتى نظرت إلى هند
فلما أراني الله هندًا تضاعف اشت ... ياقيَ واستسلفتُ وجدًا على وجد
وهذا الذي ألقاه والشملُ جامعٌ ... فوا أسفي مما ألاقيه في البعد
1 / 19