طرقتكَ زائرةً فحيّ خيالها ... بيضاءُ تخلطُ بالحياءِ دلالها
يقول فيها:
مالتْ بقلبكَ فاستقادَ ومثلها ... قادَ القلوبَ إلى الصبا فأمالها
وكأنما طرقتْ بنفحةِ روضةٍ ... سحّتْ بها ديمُ الربيع ظلالها
باتتْ تسائلُ في الظلامِ معرِّسًا ... بالبيدِ أشعثَ لا يملُّ سؤالها
لم يأت في صفة الطيف بغريب، والناس فيه عيال على قيس بن الخطيم في قوله:
أنَّى سربتِ وكنتِ غيرَ سروبِ ... وتقربُ الأحلامُ غيرَ قريبِ
ما تمنعي يقظي فقد تؤتينهُ ... في النومِ غيرَ مصردٍ محسوبِ
كان المنى بلقائها فلقيتها ... فلهوتُ من لهوِ امرئٍ مكذوبِ
وقد أحسن جرير في قوله:
أتنسى إذ تودِّعنا سليمى ... بفرعِ بشامةٍ سقيِ البشامُ
بنفسي مَنْ تجنُّبهُ عزيزٌ ... عليّ ومن زيارتهُ لمامُ
ومنْ أمسي وأصبح لا أراهُ ... ويطرقني إذا هجعَ النيامُ
البشام: شجر طيب الريح يستاك به، ويروى:
أتذكرُ يومَ تصقلُ عارضيها ... بفرعِ بشامةٍ سقيُ البشامُ
قال أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري: قولهم: امرأةٌ نقية العارض، أي نقية عرض الفم، وأنشد البيت، يعني به الأسنان وما بعد الثنايا، والثنايا ليست من العارض.
وقال ابن السكيت: العارض: الناب والضرس الذي يليه، واحتج بقول ابن مقبل:
هزئتْ ميةُ أنْ ضاحكتها ... فرأتْ عارضَ عودٍ قد ثرمْ
قال: والثرم لا يكون إلاّ في الثنايا.
وأبيات جرير وإن خلت من معنىً في الطيف مبتكر فهي حلوة الألفاظ سهلة.
ولأبي عبادة البحتري في وصف الخيال الفضل على كل متقدم ومتأخر، فإنه تغلغل في أوصافه وتنوَّق في ذكره، وكان لهجًا بتكرار القول فيه، وإن كان لأبي تمام مواضع لا يجهل فضلها ولا ينكر حقها، وسأورد من شعرهما فيه، ومن أشعار غيرهما، ما يناسب الغرض في هذا المختصر الذي جمع بمزاحمة الأوقات.
قال أبو تمام:
زار الخيال لها لا بل أزاركهُ ... فكرٌ إذا نامَ فكرُ الخلقِ لم ينمِ
ظبيٌ تقنصتهُ لما نصبتُ له ... في آخر الليلِ أشراكًا من الحلمِ
وقوله:
عادكَ الزورُ ليلةَ الرملِ من ... رملةَ بينَ الحمى وبينَ المطالِ
نمْ فما زاركَ الخيالُ ولكن ... ك بالفكرِ زرتَ طيفَ الخيالِ
وقال:
الليالي أحفى بقلبي إذا ما ... جرحتهُ النوى من الأيامِ
يا لها ليلة تنزهت الأرْ ... واحُ فيها سرًا من الأجسامِ
مجلسٌ لم يكنْ لنا فيه عيبٌ ... غيرَ أنّا في دعوةِ الأحلامِ
البيت الأول أخذه المتنبي، فقال:
وكم لظلام الليل عندك من يدٍ ... تخبِّرُ أنَّ المانويّةَ تكذبُ
ضده لابن منير الطرابلسي:
ما مانَ مانيّ لولا ليل عارضهِ ... ما شدَّ حبل المنايا بالأمانيّ
قال البحتري:
وإني وإنْ ضنَّتْ عليَّ بودِّها ... لارتاح منها للخيال المؤرقِ
يعزُّ على الواشينَ لو يعلمونها ... ليالٍ لنا نزدارُ فيها ونلتقي
فكم غلةٍ للشوقِ أطفأتُ حرَّها ... بطيفٍ متى يطرقْ دجى الليل يطرقِ
أضمُّ عليهِ جفنَ عيني تعلقًا ... به عندَ إجلاءِ النعاسِ المرنّقِ
وقال:
بلى وخيالٌ من أثيلةَ كلما ... تأوَّهتُ من وجدٍ تعرَّضَ يطمعُ
إذا زورةٌ منه تقضتْ مع الكرى ... تنبَّهتُ من وجدٍ له أتفزَّعُ
ترى مقلتي مالا ترى في لقائهِ ... وتسمعُ أذني رجعَ ما ليسَ تسمعُ
ويكفيك من حقٍّ تخيُّلُ باطلٍ ... تردُّ بهِ النفسُ اللهيفَ فترجعُ
وقال:
إذا ما الكرى أهدى إليَّ خيالهُ ... شفى قربه التبريحَ أو نقعَ الصدا
إذا انتزعتهُ من يديَّ انتباهةٌ ... عددتُ حبيبًا راحَ مني أو غدا
ولم أرَ مثلينا ولا مثلَ شأننا ... نعذَّبُ أيقاظًا وننعمُ هجّدا
وقال:
وليلةَ هوَّمنا مع العيسِ أرسلتْ ... بطيفِ خيالٍ يشبهُ الحقَّ باطله
فلولا بياضُ الصبحِ طالَ تشبُّثي ... بعطفيْ غزالٍ بتُّ وهنًا أغازله
وقال:
أمنكَ تأوُّبُ الطيفِ الطروبِ ... حبيبٌ جاءَ يهدى من حبيبِ
تخطى رقبةَ الواشينَ كرهًا ... وبعدَ مسافةِ الخرقِ المجوبُ
1 / 14