لم يبدأ جناح حياته السياسية بالدعوة إلى الفصل بين الهند وباكستان، بل لقد بذل الرجل كل جهده في بادئ الأمر للتوفيق بين البلدين والإبقاء على وحدة شبه القارة الهندية، ولكنه اضطر في النهاية إلى المناداة بالفصل بعد أن استنفد كل وسيلة للتوفيق.
وأكبر دليل على هذا أن جناح لم ينضم فورا إلى حزب الرابطة الإسلامية بعد تأسيس هذا الحزب وآثر أن يعمل للتوفيق، فلم يصبح عضوا فيه إلا بعد انقضاء سبع سنوات على تأسيس الحزب، وحاول بعد أن انضم لحزب الرابطة أن يقف من حزب المؤتمر الهندي موقف الصديق وقال إنه ليس هناك ما يمنع من أن يصبح حزب الرابطة الإسلامية جناحا وحزب المؤتمر جناحا آخر، وبهذا يمكن لشبه القارة كله أن يطير وأن يحلق في الجو حتى تتحقق له الحرية، وليس هناك طائر يمكن أن يطير بجناح واحد!
وهكذا ظل جناح رسول مودة وإخاء بين المسلمين والهندوس حتى استحق من هؤلاء وأولئك كل تقدير وإجلال.
ولكنه مع ذلك أثبت أنه سياسي صادق، بعيد النظر، واسع الأفق، راجح الفكر، فما كاد يقتنع بأن الخير في قسمة شبه القارة الهندية واستقلال مسلميها في دولة قائمة بذاتها؛ حتى سار قدما في تحقيق فكرته هذه ولم يتراجع قط.
وقد كانت المصاعب التي واجهت جناح منذ أول يوم من جهاده كفيلة بأن تبعث اليأس إلى نفسه وتثنيه عن عزمه، ولكنه استطاع بإخلاصه وصبره وكفاحه ومثابرته وتضحياته أن يقود السفينة إلى بر الأمان وأن يحقق الأماني القومية لمسلمي الهند حتى أصبح مثلا يحتذى لغيره من المجاهدين، وبذلك استطاع أن يجمع حوله تأييد 100 مليون مسلم كانت تضمهم شبه القارة الهندية واستطاع بهذا التأييد أن يحقق حلم «الباكستان».
ولعل من أبلغ الأدلة على بعد نظره ما رواه لنا السيد أصفهاني وزير الصناعة الباكستاني، إذ قال:
في عام 1942 وقبل تأسيس باكستان بخمس سنوات، اجتمعنا في بومباي لدراسة الحالة التي نشأت عن اعتقال غاندي وجميع أعضاء اللجنة التنفيذية لحزب المؤتمر الوطني الهندي والزج بهم في السجن، وكان الاعتقال قد تم قبل هذا الاجتماع ببضعة أيام وراجت في أوساط حزب المؤتمر والدوائر الهندوسية على أثر هذا الاعتقال دعايات تنادي بضرورة اتفاق حزب الرابطة الإسلامية مع حزب المؤتمر على الإضراب لتحقيق استقلال شعوب شبه القارة.
فاجتمعت اللجنة التنفيذية لحزب الرابطة الإسلامية في بومباي، وخاصة بعد أن حرص زعماء حزب المؤتمر الذين كانوا خارج السجن والزعماء الهنود عامة على التأكيد بأن حزب المؤتمر يريد أن يكون عادلا مع المسلمين وأنه سيمنحهم الاستقلال الذي يريدونه، ورأت طائفة من زعماء حزب الرابطة في مختلف الأقاليم أن هذه هي فرصتنا للتضامن مع حزب المؤتمر إذا كنا نرغب في نيل حريتنا، وكنت أنا من بين من يرون هذا الرأي.
ووصلت إلى بومباي في مساء اليوم السابق لعقد الاجتماع، ولا أزال أذكر جيدا تلك المقابلة التي جمعتني بالقائد الأعظم مع اثنين من أخلص أصدقائي، وكان أحدهما من الأعضاء البارزين في اللجنة التنفيذية للحزب. وفي هذه المقابلة انطلقنا نعرب عن رأينا بحرية وصراحة ونبين كيف أن الظروف التي كانت سائدة في البلاد تدعونا إلى عدم تفويت مثل هذه الفرصة التي ستمكننا من انتزاع الحرية من أيدي البريطانيين ومنحها للهندوس والمسلمين على السواء.
ولم تمض بضع دقائق حتى أدركت أن جناح لا يقرنا في الرأي وأن هدوءه المعتاد يخفي وراءه فكرته التي كان ينادي بها، وهي أن مصالح المسلمين تقتضي منا اتخاذ سياسة ترمي إلى تفادي الوقوع في أساليب البريطانيين والهندوس على السواء، وكان من رأيه أن نتخذ موقف المحايد الحذر وألا نعبأ بأي القوتين وأن نغتنم كل فرصة لتدعيم حزب الرابطة الإسلامية.
अज्ञात पृष्ठ