حطين مرت مئات السنين والشرق الإسلامى الأوسط يهب عليه وباء متتابع من زحف الصليبيين القاسى، واندفاعهم فى صميم الرقعة المقدسة التى رفرفت عليها أعلام التوحيد دهرا، وصارت بثراها وبيئتها وطن الإسلام الذى لا ريب فيه، لقد كان المستقبل مبهما، وكان إلى الأمس القريب مظلما لا تبدو فيه بارقة أمل. وماذا ترى العين خلال هذا الكسف المتساقط من ناحية الغرب؟ لقد تضافرت قوى الصليبيين على أن يهدموا ما بنى لله محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وها هو ذا جيشهم تنتظم فرقه أمشاجا من إنجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، أخذوا على أنفسهم العهود أن يرتووا من دماء المسلمين، وكلما انقطع فوج بدأ فوج، وكلما ظن المسلمون أن الهجوم انتهى إذا هو يبدأ انسياحه كرة أخرى!
لقد عاش المسلمون أجيالا متعاقبة قابعين فى أوطانهم، ولقد كانوا يغزون غيرهم، وما يفكر فى غزوهم أحد، وكانوا يصفعون الشيطان وما يستطيع الشيطان إلا الفرار من طريقهم، حتى إذا ناموا فى مهاد الراحة، ولم يحلموا فى نومهم العميق إلا بأمجاد الماضى البعيد جاء أوان اليقظة المريرة، فصحوا على سنابك الخيل الكافرة تقتحم حدود الأناضول وتهبط إلى بوادى سوريا، وتجتاز مغارس الزيتون من فلسطين.
وحاول المسلمون عبثا أن يطفئوا النار التى اشتعلت فى ديارهم فجأة فوقفوا يضربون يمينا وشمالا، ولكن خطط الدفاع المرتجل لم تجد فتيلا أمام سيول هذا الهجوم المبيت. وانفتحت العيون على الحقيقة القاتلة وعلى الواقع الحقير فإذا الشرق الإسلامى مقطع الأرجاء، ممزق الأحشاء، وإذا المسلمون يعيشون فى مستعمرات لاتينية، يبسط السلطان فيها حكام صليبيون!؟
إن البعض قد يسىء الظن بالأمة الإسلامية حين تخضع للانكسار العسكرى ولعله يحسب باطن النفس الإسلامية من ظاهرها. ويظن أن سكوتها للغلب القاهر سكوت قبول ورضاء واستكانة، وهذا خطأ فإن المسلمين الذين رباهم القرآن الكريم على ضرب من الأدب يفرض أن يكونوا على حد ما قال:
पृष्ठ 196