ص _180 المحتسبة الموقنة.. إن اليقين الإسلامى قد كفل من التماسك بين أبنائه ما جعل بناءهم تهزه الحوادث هزا، ولكن لا تسقط منه لبنة، ولا تحدث فيه فجوة، فبقى على هول الأحداث شامخا شاهقا يرتد عنه الطرف وهو حسير!. * * * ورجع الرسول عليه الصلاة والسلام إلى بيته ليخلع عنه درعه ويستجم قليلا بعد هذا الجهاد الشاق، فألقى الله فى روعه أن جبريل لم يخلع درعه بعد، لقد سبقك إلى ديار اليهود الغادرين يحاسبهم على ما قدموا، فعاد المسلمون كرة أخرى يستأنفون الحرب والنضال، ولكنهم فى هذا الدور من المعركة مهاجمون محاصرون بعد أن كانوا مدافعين محصورين: (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا * وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا * وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤوها وكان الله على كل شيء قديرا). وبعد.. فإذا ظن أحد أن القوة المادية هى كل ما ينبغى أن نحرص عليه ونسعى إليه، فلتكن له من هذه الموقعة عبرة.. إن المسلمين اليوم بحاجة إلى الإيمان اليقظ قبل حاجتهم إلى أسباب الغلب المادى. ص _181 موقعة بدر * هذان خصمان اختصموا فى ربهم: ترمق الأعين سيرة النبى الكريم وصحابته الأبرار لتقرأ فى صحائفها معالم الأسوة الحسنة، ولتلمح فى ثناياها طرائق الجهاد المنطوى على أروع صور التضحية وأصدق مظاهر الكفاح، لا لمغنم زائل، بل فى سبيل الله، وإعلاء لكلمته. وموقعة بدر- من بين أحداث السيرة الحافلة- ما إن يطالع المرء أنباءها ويستعرض مقدماتها ونتائجها حتى يحس لها منزلة خاصة، وحتى يدرك أن التاريخ أودع فى فصولها سرا تكتنفه الهيبة، وجعل من أدوار القتال فيها، ومن الإعداد له ثم الانصراف عنه، موعظة خالدة لا تفتأ تتجدد ذكراها ما بقى فى الدنيا صراع بين الظلام والنور. إن كتب السنة أحصت الذين اشتركوا فى بدر من جند الحق وسجلت أسماءهم واحدا واحدا، فأصبح كل اسم بهذه المنقبة التى لازمته خالدا تتناقله الأجيال المتعاقبة كما تتناقل كلمة الحكمة العالية، أو كما تتناقل أحرف المثل السائر، ولكن لما هذا؟ ولماذا تأخذ غزوة بدر ذلك الوصف المجيد وهذا الأثر البعيد؟ وكيف تكون بدر موقعة حربية معدودة مع أنها لم يحتشد لها إلا بضع مئات من الناس؟ مئات تعد على الأصابع! ولم تستغرق إلا يوما أو بعض يوم، على حين نجد تاريخ الحياة فى ماضيها وحاضرها زاخرا بالوقائع التى تساق إليها الألوف المؤلفة، والتى تظل دائرة الرحى الشهور الطوال، تعصف عليها ريح الموت آناء الليل وأطراف النهار. فما تكون موقعة بدر إلى جانب هذه المواقع الطاحنة؟. لا شك أن هذا كلام له بواعثه، بل له وجاهته عند من يقيسون الأشياء بأحجامها، وعند من ينظرون فى الأمور إلى كمها لا إلى كيفها، بلى إننا نضع بدرا فى عداد هذه المعارك الهائلة، وقد نرى كفتها ترجح بالكثير منها، وما ظنك بموقعة يكون مصيرها هو الفاصل فى عبادة الله على هذه الأرض، هل ستبقى أم ستفنى؟ ويشعر قائد المعركة هذه الحقيقة الحاسمة الخطيرة فهو يؤكدها بقوة. ص _182 روى أصحاب السيرة أنه "لما كان يوم بدر نظر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم نحو الألف، وإلى أصحابه رضى الله عنهم وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ثم استقبل القبلة ومد يده وجعل يهتف: اللهم آتنى ما وعدتنى، اللهم أنجز لى ما وعدتنى، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلن تعبد فى الأرضي " وما زال يهتف بربه مادا يده حتى سقط رداؤه عن منكبيه، وحتى نزل الوحى مطمئنا له: (سيهزم الجمع ويولون الدبر). نعم.. وما ظنك بموقعة يكون القتال فيها بداية لسلسلة من المعارك تشتعل نيرانها فى البر والبحر، ويحتدم النزاع فيها بين الحق والباطل، وتهتم بخوضها والتعبئة لها أمم المشرق والمغرب، هذه السلسلة من المعارك التى خاضها المسلمون- من بعد- فى فارس والروم وفى الصين والأندلس.. لا تحسب أن الصلة بينها وبين بدر مقطوعة أو ضعيفة، كلا.. إنها صلة النسب المتين بين الأصل ونتائجه أو بين الأب وذريته. فكأن أول سيف شهر فى بدر إيذان بابتداء النضال المسلح بين الباطل المتكبر والحق الذى يريد أن يقمعه، كلما انتهت معركة قامت أختها... ولذلك يقول على بن أبى طالب: "أنا أول من يجثو للخصومة بين يدى الرحمن يوم القيامة، ذلك أن الله يقول:(هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم).وهؤلاء الخصوم- كما تحدث أبو ذر- هم على وصحبه الذين برزوا يوم بدر يجالدون بسيوفهم طائفة من أئمة الكفر فيقتلونهم جميعا، ويفقدون أحدهم- عبيدة بن الحارث- ليسبقهم إلى الجنة، ثم يدركه بعد قليل حمزة فى أحد، ثم يدركه بعد سنين على.. ثم تتتابع سلسلة الشهداء من أجناد الحق رضوان الله عليهم أجمعين حتى قيام الساعة. * * * * أصابع القدر: موقف الطرفين فى هذه المعركة يمثل التناقض الكامل، فإن المشركين قد خرجوا فى تعبئة تامة، وفصلوا عن مكة وهم متأهبون لقتال عنيف. ومع انتهاء السبب الذى ص _183 خرجوا من أجله فإنهم أصروا على القتال الذى استعدوا له ووثقوا بنتيجته ورغبوا أن يقرع آذان العرب نبؤه. أما المسلمين فقد كانوا يهاجمون طرق التموين التى يعتمد عليها أهل مكة ويفرضون نوعآ من الحصار الحربى على ما يستند إليه هؤلاء الطغاة من موارد غنية وهم قد خرجوا لاعتراض قافلة لا شوكة لها، يعتبر الاستيلاء عليها غنيمة باردة، ولذلك لم يأخذوا الأهبة لقتال، حتى فاجأتهم الحوادث بنجاة القافلة، وبمجىء صناديد قريش وأبطالها يتحدون هؤلاء المعترضين، ولم يكن بد من قبول هذا التحدى وإلا ضاعت هيبة المسلمين، وواجه النبى صلى الله عليه وسلم الموقف بما يتطلبه من إيمان وثقة، غيرأن كثيرا من المسلمين تساءل وحاول التملص، إذ كيف يواجه هذا العدو الذى لم يستعد له؟ (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون * يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون). عدم التهيؤ ثم قلة العدد ثم سوء الموضع الذى وجد المسلمون أنفسهم فيه، فقد نزلوا بكثيب أعفر، تسوخ فيه الأقدام وحوافر الدواب. ونزلوا على غير ماء على حين سبقهم المشركون إلى ماء بدر! ولكن القدر كان يدفع الأمور فى مجراها الذى أعده إعدادا محكما، فها هو ذا قد جمع بين الفريقين على غير موعد: (ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا). وها هو ذا يغرى كليهما بالآخر ويجعله يرى عدوه ضيئلا قليلا: (وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور). وها هو ذا يبعث الشيطان لينفخ روح الغرور فى أتباعه وليصيح بينهم: (لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم). ص _184 أما فى معسكر المؤمنين فإن الأمور كانت تجرى بسرعة عجيبة، فقد قام المهاجرون يتبايعون على الموت. وأحس الأنصار بأن الكلمة الفاصلة لهم فى خوض هذه المعمعة، وإذا زعيمهم سعد بن معاذ يقول: "يا رسول الله.. قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على هذا عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة، فامض لما أردت! فوالذى بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما يتخلف منا أحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا وعدوك، إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله عز وجل يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله ".
وهكذا جرفت موجة الإيمان عوامل التردد كافة، وأنست المسلمين ما بينهم وبين عدوهم من فوارق مادية شاسعة. وأملوا فى الله نصره القريب.
ثم تبدل الحال، وأمطرت السماء، وتغير الجو، واستقى المسلمون واستراحوا من عناء يومهم ونشطوا للقتال المنتظر بعد ما جمدت الرمال تحت أقدامهم:
(إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام).
***
* القتال:
وجاءت الساعة الرهيبة، ودار القتال، ومشى ملك الموت وئيدا يقط رقبة الكفر، وتنجست الرمال العفراء بدم الطائفة التى طالما آذت الله ورسوله، ووطئت أقدام المسلمين خدودا وجباها، طالما استنكرت أن تسجد لله رب العالمين، وتحركت سواعدهم، تطيح بهامات طالما استخفت بحق الله، واستكبرت على الإيمان والمؤمنين. يقول شاهد عيان لأبى لهب يخبره بما كان: "لا شىء يا عماه! ما كان إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا ويأسروننا كيف شاءوا... لقينا رجالا لا يتلقاهم شىء ولا يقوم لهم شىء".
पृष्ठ 186