وكان الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام فى هذه الأيام على ما يعهده أصحابه رسوخا وسموا، عملت ذراعاه فى حفر الخندق وتهشيم صخره ورفع ثراه، واختلط العرق المتصبب بالغبار الثائر من هذه الجهود المتواصلة، وكانت حناجر المجاهدين ترتفع بين الحين والحين بغناء حماسى، تستريح على نشيده نفوسهم المتعبة، ويتجدد على يقينه نشاطهم الدائب:
والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
وحقا.. كانت حدود المدينة على من بها من المؤمنين أشبه بجدران المصيدة ولكن فى وسط هذه الأمواج المقنطة كان فى المدينة رجال تتساقط هموم الدنيا عند أقدامهم...
التفوا حول الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام ، ولا شىء فى قلوبهم إلا العزم المبرم على مواصلة الكفاح معه، والسير فى أنحاء المدينة المهددة يغالبون دعاية المترددين، ويبثون معانى الرجاء فى نفوس الناس، كأن لسان حالهم ينطق: بأنه علينا أن نثبت قدر ما تطيقه قوى البشر، وعلى الله- بعد- كشف الكربة وإزاحة الغمة:
(ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما).
أهى الوقيعة بين قريش واليهود، أم هو التفكك بين قبائل العرب تفككا جعل صفوفهم لا ترغب فى إطالة الحصار؟ أم هو سوء الأحوال الجوية التى عاكست الهاجمين من ريح وبرد؟ أم هى أشياء أخرى غير ذلك؟ قل ما شئت فى تعليل الهزيمة التى نزلت بأعداء الإسلام فلطمت خيلهم، واقتلعت خيامهم، وأذلت كبرياءهم، وردتهم خائبين، ولكنك مهما قلت فلن تصل إلى سبب عقلى يعتمد على مقدمات مادية ظاهرة لهذا النصر الذى سيق إلى محمد عليه الصلاة والسلام وأصحابه، وإنك تصيب صميم الحق إذا قلت إن هذه النعمة المسبغة على المسلمين كانت تفضلا أعلى، ساقه الله الذى يذل من يشاء ويعز من يشاء، كانت نصرا آتاه الله هذه الطائفة المصابرة
पृष्ठ 181