أجل.. لقد وضع الموت حدا لآلام صاحبى الفلاح الفقير. أما هذا الوجيه الذى هلك فى هذه القرية البائسة، القرية التى استهلك أهلها قبل أن يقصمه القدر، فقد استراح منه حقا كل شىء.. من العباد والبلاد، والشجر والدواب. * * * * موت.. وموت: وطلع الصباح فكان يوما مثيرا فى حياة القرية بما ضم من مناظر كثيرة لم يألفها الريفيون! حضر الباشا صهر الوجيه الهالك، وصاحب المقاطعة المترامية الأطراف، وسيد أولئك الفلاحين الذين يعملون له ولا يرونه، واقتضت عظمته وتقاليد الأسرة أن تكون الجنازة مظاهرة كبرى يحشد فيها أعيان القرى المجاورة، وتزدحم فيها الجماهير المشدوهة، ويشتغل فيها أصحاب الجلابيب الزرق بخدمة الوفود المتتابعة، لقد نسوا فى غمرة الحادث الجديد زميلهم الذى كان منذ حين قريب بين أكفهم يهيلون عليه التراب فى سكون وريبة. وما فكر أحدهم قط فى أن يقارنوا بين موت وموت! وأنى لهم ذلك وهم لم يفكروا ساعة أو يقارنوا بين حياة وحياة! حياة السادة وحياة الرقيق... حياة الناعمين وحياة الكادحين! إن طول ما ألفوا الهوان واستكانوا له، أوقع فى روعهم أن الدنيا هكذا قسمة ضيزى وشقاء مقيم! ثم جاء المساء وكنت أسير الهوينى فى حارات القرية الهامدة، فأبصرت سرادقا فخما تقع فى جوفه وأمامه الثريات البراقة، وينبعث منه صوت المذياع القوى. والفلاحون يتهامسون بعبارات لم أتبينها... من يدرى؟ ربما كانوا يتناجون بسيرة الفقيد السيئة، وما خلف بينهم من مظالم، وما قدم لنفسه من آثام! وارتفع صوت القارئ فى السرادق يحيى ليالى المآتم، فتلا هذه الآيات: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين * من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون). وخيل إلى- وأنا أسمع على البعد- أن الباشا الكبير كان يستمع إلى هذه الآيات فى تخشع وتحزن ظاهرين!. * * * ص _055
पृष्ठ 55