فقال أحمد: إن بلادنا في حاجة إلى جرعات قوية من قلة الأدب حيال الملوك، حتى تفيق من إغمائها الطويل ..
فقال كمال: ولكن الكلاب يعيدونها إلى الحكم المطلق، تحت ستار برلمان مزيف، وفي نهاية التجربة سنجد فاروق في قوة فؤاد واستبداده أو أشد، كل هذا يرتكب بأيدي بعض أبناء الوطن.
فضحك ياسين، وقال وكأنه يفسر ويوضح: كمال ولو أنه كان على صباه من محبي الإنجليز كشاهين وعدلي وثروت وحيدر، إلا أنه انقلب وفديا بعد ذلك ..
فقال كمال جادا، وهو ينظر إلى أحمد خاصة: انتخابات مزورة، كل شخص في البلد يعلم بأنها مزورة، ومع ذلك يعترف بها رسميا وتحكم بها البلاد، ويعني هذا أن يستقر في ضمير الشعب أن نوابه لصوص سرقوا كراسيهم، وأن وزراءه لصوص سرقوا بالتالي مناصبهم، وأن سلطاته وحكومته مزيفة مزورة، وأن السرقة والتزييف والتضليل مشروعة رسميا، أفلا يعذر الرجل العادي إذا كفر بالمبادئ والخلق وآمن بالزيف والانتهازية؟
فقال أحمد متحمسا: دعهم يحكمون، في كل شر جانب خير، ومن الأفضل لشعبنا أن يسام الخسف من أن يخدر بحكم يحبه ويثق به دون أن يحقق له - هذا الحكم - آماله الحقيقية، طالما فكرت في هذا حتى انقلبت أرحب بحكم الطغاة من أمثال محمد محمود وإسماعيل صدقي ..
ولاحظ كمال أن عبد المنعم لا يشترك في الحديث كعادته، فأراد أن يجره إليه فقال: لماذا لا تحدثنا عن رأيك؟
فابتسم عبد المنعم ابتسامة لا معنى لها، وقال: دعني اليوم أستمع ..
فضحك ياسين قائلا: فرفش حتى لا يجدك المولود واجما، فيفكر في العودة من حيث أتى ..
وندت عن ياسين حركة أدرك كمال منها أنه يهم بانتحال عذر للذهاب، أجل جاء وقت القهوة، ونظام «السهر» عنده لا يمكن أن يغيره شيء، وفكر كمال في الخروج معه حيث لا ضرورة لوجوده، وجعل يراقبه متوثبا، وإذا بصرخة تنطلق من حجرة نعيمة عنيفة قاسية تحمل في طياتها أنغام الأعماق البشرية، وتتابعت الصرخات في عنف، وتطلعت الأعين نحو باب الحجرة، وساد بينهم صمت، حتى همس إبراهيم في رجاء: لعله الطلق الأخير إن شاء الله ..
حقا؟ بيد أنه تواصل حتى وجموا، وامتقع لون عبد المنعم، ثم عاد الصمت مرة أخرى ولكن إلى حين، ورجع الطلق ولكنه كان خواء، تقذف به حنجرة بحت وصدر تصدع فكأنه النزع. ودلت حال عبد المنعم على أنه في حاجة إلى تشجيع، فقال له ياسين: كل ما تسمع أحوال مألوفة في الولادة العسيرة ..
अज्ञात पृष्ठ