السكرية‏

السكرية‏

السكرية

السكرية

تأليف

نجيب محفوظ

السكرية

1

تقاربت الرءوس حول المجمرة، وانبسطت فوق وهجها الأيدي. يدا أمينة النحيلتان المعروقتان، ويدا عائشة المتحجرتان، ويدا أم حنفي اللتان بدتا كغطاء السلحفاة، وأما هاتان اليدان الناصعتا البياض الجميلتان فكانتا يدي نعيمة. وكان برد يناير يكاد يتجمد ثلجا في أركان الصالة، تلك الصالة التي بقيت على حالها القديم بحصرها الملونة وكنباتها الموزعة على الأركان، إلا أن الفانوس القديم بمصباحه الغازي قد اختفى وتدلى مكانه من السقف مصباح كهربائي، كذلك تغير المكان؛ فقد رجع مجلس القهوة إلى الدور الأول. بل انتقل الدور الأعلى جميعه إلى هذا الدور تيسيرا للأب الذي لم يعد قلبه يسعفه على ارتقاء السلم العالي. ثمة تغير أدرك أهل البيت أنفسهم؛ فقد جف عود أمينة واشتعل رأسها شيبا، ومع أنها لم تكد تبلغ الستين إلا أنها بدت أكبر من ذلك بعشر، ولكن تغير أمينة كان لا شيء بالقياس إلى ما جرى لعائشة من تدهور وانحلال، كان مما يدعو إلى السخرية أو الرثاء أن شعرها لم يزل مذهبا وعينيها زرقاوان. ولكن هذه النظرة الخامدة لا توحي بحياة، وهذه البشرة الشاحبة بأي مرض تنضح؟ وهذا الوجه الذي نتأت عظامه، وغارت فيه العينان والوجنتان أهو وجه امرأة في الرابعة والثلاثين؟ وأما أم حنفي فبدا أن الأعوام تتراكم عليها، ولا تنال من جوهرها. لم تكد تمس لحمها وشحمها فتكاثفت كالغبار، أو كالقشور فوق جلدها وحول رقبتها وثغرها، غير أن عينيها الساهمتين لاحتا مشاركتين لأهل البيت في حزنهم الصامت. نعيمة وحدها بدت في هذه المجموعة كالوردة المغروسة في حوش مقبرة، استوت شابة جميلة في السادسة عشرة من عمرها، مجللة الرأس بهالة ذهبية، مزينة الوجه بعينين زرقاوين، كعائشة في شبابها أو أفتن ملاحة، ولكنها كانت نحيفة رقيقة كالخيال، تعكس عيناها نظرة وديعة حالمة تقطر طهارة وسذاجة وغرابة عن هذا العالم، وكانت ملتصقة بمنكب أمها كأنها لا تود أن تفارقها لحظة. وقالت أم حنفي، وهي تفرك يديها فوق المجمرة: سينزل البناءون عن العمارة في هذا الأسبوع بعد عام ونصف من العمل ..

فقالت نعيمة في نغمة ساخرة: عمارة عم بيومي الشرباتلي ..

ارتفعت عينا عائشة عن المجمرة إلى وجه أم حنفي لحظة ولكنها لم تعلق بكلمة، قد علموا في حينه بهدم البيت الذي كان يوما بيت السيد محمد رضوان ثم إعادة بنائه عمارة مكونة من أربعة أدوار باسم عم بيومي الشرباتلي، تلك الذكريات القديمة، مريم وياسين، ولكن ترى أين مريم، وأم مريم وبيومي الشرباتلي الذي استولى على البيت بالوراثة والشراء، أيام كانت الحياة حياة، والقلب ناعم البال! وعادت أم حنفي تقول: أجمل ما فيها يا ستي دكان عم بيومي الجديدة؛ ثريات ودندرمة وحلوى، كلها مرايا وكهرباء، والراديو ليل نهار، يا عيني على حسنين الحلاق ودرويش بائع الفول والفولي اللبان وأبو سريع صاحب المقلى وهم ينظرون من دكاكينهم البالية إلى دكان زميلهم القديم وعمارته ..

فقالت أمينة، وهي تشبك الشال حول منكبيها: سبحان ربك الوهاب ..

فعادت نعيمة تقول وهي تحيط عنق أمها بذراعيها: سد جدار العمارة سطحنا من هذه الناحية، وإذا عمرت بالسكان فكيف نستطيع أن نمضي الوقت فوق السطح؟

لم يكن في وسع أمينة أن تتجاهل سؤالا توجهه حفيدتها الجميلة مراعاة لخاطر عائشة قبل كل شيء فقالت: لا يهمك السكان، امرحي كيف شئت ..

واسترقت النظر إلى عائشة؛ لترى وقع إجابتها اللطيفة؛ إذ إنها باتت من شدة الخوف عليها وكأنما تخافها، ولكن عائشة كانت مشغولة في تلك اللحظة بالتطلع إلى مرآة فوق نضد بين حجرة السيد وحجرتها. لم تزايلها عادة التطلع إلى المرآة، وإن لم يعد لها معنى، وبمرور الزمن لم يعد يروعها منظر وجهها الضحل، وكلما سألها صوت باطني «أين عائشة زمان؟» أجابت دون اكتراث «وأين محمد وعثمان وخليل؟» وكانت أمينة تلاحظ ذلك فينقبض قلبها، وسرعان ما يسري الانقباض إلى أم حنفي التي اندمجت في الأسرة حتى ورثت عنها همومها. ونهضت نعيمة إلى الراديو القائم ما بين حجرة الاستقبال وحجرة السفرة وأدارت مفتاحه وهي تقول: ميعاد إذاعة الأسطوانات يا ماما ..

وأشعلت عائشة سيجارة، وأخذت نفسا عميقا، وجعلت أمينة ترنو إلى الدخان وهو ينبسط سحابة خفيفة فوق المجمرة. وانبعثت من الراديو صوت يغني «يا عشرة الماضي الجميل يا ريت تعودي.» وعادت نعيمة إلى مجلسها، وهي تحبك الروب حول جسمها. كانت - كأمها في الزمان الخالي - تهوى الغناء. وهبت كيف تسمعه وكيف تحفظه وكيف تعيده بصوت حسن. لم ينل من هذا الهوى شعورها الديني الذي غلب على كافة مشاعرها؛ فهي تواظب على الصلاة، وتصوم رمضان مذ بلغت العاشرة. وتحلم كثيرا بعالم الغيب، وترحب بغبطة لا حد لها بزيارة الحسين إذا دعتها جدتها إليها، ولكنها في الوقت نفسه لم تقلع عن حب الغناء؛ فهي تغني كلما خلت إلى نفسها في حجرتها أو في الحمام. وكانت عائشة ترضى عن كل ما يصدر عن وحيدتها؛ الأمل المضيء في أفقها المظلم، تعجب بتدينها كما تعجب بصوتها؛ وحتى عن التصاق الفتاة بها - ذلك الالتصاق الذي بدا خارقا للحد - فهي تشجعه وتحبه ولا تطيق أن تسمع عنه أية ملاحظة، بل هي تضيق بالنقد عامة وإن هان وحسن القصد فيه. من ذلك أنه لم يكن لها من عمل في البيت غير القعود وحسو القهوة والتدخين، فإذا دعتها أمها إلى المشاركة في عمل - لا لحاجتها إلى مساعدتها ولكن لتخلق لها ما تتسلى به عن أفكارها - امتعضت وقالت جملتها المشهورة: «أف .. دعيني وشأني.» ولم تكن تسمح لنعيمة بأن تمد للعمل يدا، كأنما كانت تخاف عليها أقل حركة، ولو أمكن أن تصلي نيابة عنها لفعلت وكفتها جهد الصلاة، وكم من مرة حدثتها أمها في هذا الشأن قائلة: إن نعيمة أصبحت «عروسا» وينبغي لها أن تلم بواجبات «ست البيت»! فكانت تقول لها بصوت ينم عن الضجر: «ألا ترينها كالخيال؟! أن ابنتي لن تتحمل أي جهد فدعيها وشأنها، لم يعد لي من أمل في الدنيا سواها.» ولم تكن أمينة لتعيد القول. كان قلبها يتقطع حزنا عليها، وتنظر إليها فتجدها مثالا مجسما لخيبة الأمل، وترى وجهها التعيس الذي فقد كل معنى للحياة فتذهب نفسها حسرات؛ لذلك أشفقت من مضايقتها؛ ولذلك اعتادت أن تتحمل ما قد ينم عنها من جفاء في الرد أو قسوة في الملاحظة بصدر رحيب وعطف سمح. لم يزل الصوت يغني: «يا عشرة الماضي الجميل ...» وجعلت عائشة تدخن سيجارتها وتصغي إليه. هذا الغناء الذي كانت تحبه، وما زالت تحبه، فالحزن واليأس لم يقتلا الإحساس به، بل لعلهما قوياه في نفسها بما يردده عادة من معاني الشجن والحسرات، ولو أن شيئا في الوجود ليس بمستطيع أن يعيد عشرة الماضي الجميل، بل إنها لتتساءل أحيانا أكان هذا الماضي حقيقة لا حلما ولا خيالا؟ إذن أين البيت العامر؟ وأين الزوج الكريم؟ وأين عثمان وأين محمد؟! وهل لا يفصلها عن ذلك الماضي إلا ثمانية أعوام؟ ولم تكن أمينة ترتاح إلى هذه الأغاني إلا في النادر. إن فضيلة الراديو الأولى في نظرها أنه أتاح لها سماع القرآن الكريم والأخبار، أما الأغاني فكانت تجزع عند تلقي معانيها الحزينة وتشفق على ابنتها من سماعها حتى قالت مرة لأم حنفي: «أليس هذا هو النواح؟» كانت لا تني عن التفكير في عائشة حتى كادت تنسى ما أخذ ينتابها هي من أعراض الضغط ومتاعبه، ولم تكن تجد فرجة إلا في زيارة الحسين وغيره من الأولياء، وشكرا للسيد الذي لم يعد يحجر عليها فتركها تنطلق إلى بيوت الله كما تحب. لم تعد - هي أيضا - أمينة العهد الماضي. غيرها كثيرا الحزن والتوعك. وقد فقدت مع الزمان مثابرتها العجيبة على العمل وطاقتها الخارقة في التنسيق والتنظيف والتدبير؛ ففيما عدا شئون السيد وكمال لم تكن تعنى بشيء. عهدت بحجرة الفرن والمخزن لأم حنفي، قانعة بالإشراف وحده، وحتى الإشراف كانت تتهاون فيه. وكانت ثقتها في أم حنفي لا حد لها؛ فليست هي بالغريبة عن الدار وأهلها، ثم إنها شريكة العمر ورفيقة السراء والضراء، وقد اندمجت في الأسرة حتى صارت قطعة منها، وتمثلت بكل قلبها مسراتها وأحزانها. وساد الصمت حينا كأنما استأثر الغناء بوعيهم، حتى قالت نعيمة: لمحت في الطريق اليوم صديقتي سلمى، كانت معي في الابتدائية، وستتقدم العام المقبل في امتحان البكالوريا ..

فقالت عائشة بامتعاض: لو سمح جدك لك بالاستمرار في الدراسة لتفوقت عليها .. ولكنه لم يسمح!

وفطنت أمينة لما أوحت به جملة: «ولكنه لم يسمح» من الاحتجاج فقالت: جدها له آراؤه التي لا ينزل عنها، ترى أكنت ترحبين باستمرارها في التعليم رغم ما في ذلك من تعب وهي العزيزة الرقيقة التي لا تحتمل التعب؟! ..

فهزت عائشة رأسها دون أن تنبس. أما نعيمة فقالت بحسرة: وددت لو أتممت تعليمي، كل البنات يتعلمن اليوم كالصبيان ..

فقالت أم حنفي باحتقار: يتعلمن لأنهن لا يجدن العريس، أما الجميلة مثلك ..

فهزت أمينة رأسها موافقة، ثم قالت: وأنت متعلمة يا ست البنات. حائزة على الابتدائية، ماذا تريدين أكثر من ذلك؟ ولست في حاجة إلى الوظيفة، فلندع الله أن يقويك وأن يكسو جمالك الفتان بالعافية واللحم والدهن.

فقالت عائشة بحدة: أريد لها العافية لا السمانة، السمانة من العيوب خاصة في البنات، أمها كانت زين أيامها، ولم تكن سمينة.

فابتسمت أمينة وقالت برقة: حقا أمك يا نعيمة كانت زين أيامها ..

فقالت عائشة وهي تتنهد: ثم صارت عبرة الأيام!

فغمغمت أم حنفي: ربنا يفرحك بنعيمة ..

فقالت أمينة وهي تربت على ظهر نعيمة بحنان: آمين يا رب العالمين ..

وعدن إلى الصمت، وإلى سماع الصوت الجديد الذي كان يغني: «أحب أشوفك كل يوم»، وإذا بباب البيت يفتح ثم يغلق فقالت أم حنفي «سيدي الكبير» وقامت مسرعة إلى الخارج لتضيء مصباح السلم. وما لبثن أن سمعن دقات عصاه المعهودة. ثم تراءى عند مدخل الصالة فوقفن جميعا في أدب. ووقف قليلا ينظر إليهن خلال أنفاسه المبهورة ثم قال: «مساء الخير» فرددن في صوت واحد: «يسعد مساك»، وسبقت أمينة إلى حجرته فأضاءتها، ومضى الرجل على أثرها في هالة من وقار الشيخوخة البيضاء. وجلس كي يسترد أنفاسه. ولم تكن الساعة قد جاوزت التاسعة مساء. ظلت أناقته كما كانت في الماضي، فالجبة الجوخ والقفطان الشاهي والكوفية الحرير كالعهد القديم، أما هذا الرأس المرصع بالبياض، والشارب الفضي، والجسم النحيل الذي خلا من سكانه، فكانت جميعا - كعودته المبكرة - من طوارئ الزمن الجديد. ومن طوارئ هذا الزمن أيضا سلطانية اللبن الزبادي والبرتقالة اللتان أعدتا لعشائه، فلا خمر ولا مزة ولا لحوم ولا بيض، وإن بقي بريق عينيه الزرقاوين الواسعتين آية على أن رغبته في الحياة لم تفتر ولم تهن. ومضى يخلع ملابسه بمعاونة أمينة كالمعتاد، ثم ارتدى جلبابه الصوفي وتلفع بالعباءة ولبس طاقيته ثم تربع على الكنبة. وقدمت له صينية العشاء فتناوله دون حماس، ثم قدمت له أمينة قدحا مملوءا حتى نصفه بالماء فأخذ زجاجة الدواء وسكب في القدح ست نقط، ثم تجرعه بوجه مقطب متقزز، ثم تمتم: «الحمد لله رب العالمين.» طالما قال له الطبيب إن الدواء مؤقت أما «الرجيم» فدائم، وطالما حذره من الاستهتار أو الإهمال، فالضغط قد استفحل، والقلب قد تأثر به. وأجبرته التجربة على الإيمان بتعليمات الطبيب بعد أن عانى من الاستهانة بها ما عانى. فما من مرة خرج عن حده حتى تداركه الجزاء، وأخيرا أذعن لحكمه، لا يأكل ولا يشرب إلا ما يسمح به، ولا يسهر إلى ما بعد التاسعة، ولكن قلبه لم يتخل عن الأمل في أن يسترد يوما - بقدرة قادر - صحته وأن ينعم بحياة طيبة هادئة، وإن تكن حياة الماضي قد ولت إلى الأبد. وامتدت أذنه إلى الغناء المترامي من الراديو في ارتياح، وكانت أمينة تحدثه من مجلسها فوق الشلتة عن برد اليوم والمطر الذي انهمر في الضحى فلم يلق إليها بالا وقال في سرور: قيل لي إنه ستذاع الليلة بعض الأغاني القديمة ..

فابتسمت المرأة في ترحيب إذ كانت تحب هذا اللون من الغناء، ربما متابعة لحب السيد له أكثر من أي شيء آخر. ولبث السرور متألقا في عيني الرجل لحظات حتى أدركه فتور. لم يعد بمستطيع أن ينعم بشعور سار دون تحفظ، أو دون أن ينقلب عليه فجأة فيستيقظ من حلمه مرتطما بالواقع، الواقع يحدق به من جميع النواحي. أما الماضي فحلم، فيم السرور وقد ولت إلى الأبد أيام الأنس والطرب والعافية؟ وانطوى اللذيذ من المأكل والمشرب والهناء؟ وأين مسيره في الأرض كالجمل وضحكته المجلجلة من الأعماق؟ وطلوع الفجر عليه وهو ثمل بشتى المسرات؟! اليوم يقضى عليه بأن يعود من سهرته في التاسعة كي ينام في العاشرة، والأكل والشرب والمشي بحساب دقيق مسجل في دفتر الطبيب، وهكذا البيت الذي غشاه الزمن بالكآبة هو قلبه ومقامه، وعائشة التعيسة شوكة في جنبه لا يستطيع أن يصلح ما فسد من حياتها وهيهات أن يطمئن على حالها. أليس قد ينكشف عنها الغد وحيدة بائسة بلا أب ولا أم؟ وما يعانيه من قلق على صحته هو المهددة بالمضاعفات، وأخوف ما يخاف أن تخونه قواه فيلزم الفراش كالميت وليس بميت مثل الكثيرين من أصدقائه وأحبائه، وهذه الأفكار التي تحوم حوله كالذباب فيستعيذ بالله من شرها، أجل ينبغي أن يسمع الأغاني القديمة ولو لينام على الأنغام .. - اتركي الراديو مفتوحا حتى لو نمت ..

فهزت رأسها بالإيجاب باسمة، فعاد يقول متنهدا: ما أشق السلم علي! - استرح يا سيدي عند كل بسطة .. - لكن جو السلم شديد الرطوبة، ما ألعن هذا الشتاء .. «ثم متسائلا» .. أراهن على أنك زرت الحسين كالعادة رغم هذا البرد ..

فقالت في حياء وارتباك: في سبيل زيارته يهون كل صعب يا سيدي .. - الحق علي وحدي!

فقالت في استرضاء: إني أطوف بالضريح الطاهر، وأدعو لك بالصحة والعافية.

ما أمس حاجته إلى صادق الدعاء، فكل طيب يدبر عنه، حتى الدش البارد الذي اعتاد أن ينعش به جسده كل صباح حرم عليه لخطورته - فيما قيل - على حال شرايينه، وإذا صار كل طيب ضارا فليرحمنا الله، ومضى وقت قصير ثم ترامت إلى الحجرة صفقة باب البيت وهو يغلق فرفعت أمينة عينيها متمتمة: «كمال!» ولم تكد تمر دقائق حتى دخل كمال الحجرة في معطفه الأسود الذي نم على نحافته وطوله، يتطلع إلى أبيه خلال نظارته الذهبية، وقد أضفى عليه شاربه المربع الغزير الأسود وقارا ورجولة. انحنى على يد والده مسلما فدعاه إلى الجلوس وهو يسأله كالعادة باسما: أين كنت يا أستاذ؟

وكان كمال يحب هذه اللهجة الودية اللطيفة التي لم يحظ بها إلا بعد عمر طويل، فأجاب وهو يجلس على الكنبة: كنت في القهوة مع الأصحاب.

ترى أي نوع من الأصحاب؟ بيد أنه يبدو جادا رزينا وقورا أكثر من سنه، ثم إن أكثر لياليه تقضى في مكتبته، شتان ما بينه وبين ياسين، وإن كان لكل آفته. وعاد يسأله باسما: أشهدت اليوم المؤتمر الوفدي؟ - نعم، وسمعنا خطبة مصطفى النحاس، كان يوما مشهودا. - قيل لنا إنه كان حدثا عظيما، ولكني لم أستطع حضوره فنزلت عن بطاقة الدعوة إلى أحد الأصدقاء، لم تعد الصحة تحتمل التعب ..

فداخل كمال العطف وتمتم: ربنا يقويك .. - ألم تقع حوادث؟ - كلا مر اليوم بسلام، واكتفى البوليس بخلاف عادته بالمراقبة ..

فهز الرجل رأسه في ارتياح، ثم قال في لهجة ذات معنى: نعود إلى موضوعنا القديم، أما زلت عند رأيك الخاطئ عن الدروس الخصوصية؟!

لم يزل يشعر بالارتباك والحرج كلما وجد نفسه مضطرا إلى إعلان مخالفته لرأي والده، فقال برقة: لقد انتهينا من هذا الموضوع! - في كل يوم يطلب إلي أصدقاء أن تعطي دروسا خصوصية لأبنائهم، لا ترفض الرزق الحلال، إن الدروس الخصوصية مصدر رزق واسع للمدرسين، والذين يطلبونك من أعيان الحي .. فلم ينبس كمال بكلمة وإن نطق وجهه بالرفض المؤدب، فعاد الرجل يقول متأسفا: تأبى هذا كي تضيع وقتك في قراءة لا نهاية لها وكتابة بلا أجر، أيصح هذا من عاقل مثلك؟

وهنا خاطبت أمينة كمال قائلة: ينبغي أن تحب المال كما تحب العلم (ثم موجهة الخطاب إلى السيد وهي تبتسم في خيلاء): إنه كجده لا يعدل بحب العلم شيئا.

فقال السيد متأففا: رجعنا إلى جده! .. يعني كان الإمام محمد عبده؟!

ومع أنها لم تعرف شيئا عن الإمام إلا أنها قالت بحماس: لم لا يا سيدي؟! كان كل الجيران يقصدونه في شئون دينهم ودنياهم!

فغلبت روح الفكاهة على السيد فقال ضاحكا: مثله الآن كل عشرة بقرش!

واحتج وجه المرأة دون لسانها. وابتسم كمال بعطف وارتباك، واستأذن في الانصراف ثم غادر الحجرة. وفي الصالة اعترضت نعيمة سبيله لتريه فستانها الجديد، وذهبت لتجيء به، فجلس إلى جانب عائشة ينتظر. كان - كبقية أهل البيت - يجامل عائشة في شخص نعيمة، ولكنه إلى هذا كان معجبا بالفتاة الحسناء إعجابه بأمها قديما. وجاءت نعيمة بالفستان فبسطه على يديه وراح يتفحصه وهو يبدي الإعجاب، وكان يتأمل صاحبة الفستان بعطف وحب، مأخوذا بجمالها البديع الهادئ الذي اكتسى من صفائها ورقتها نورانية ذات بهاء. ومضى عن المكان بقلب لا يخلو من شجن، إن مصاحبة أسرة حتى شيخوختها لمما يحزن. ليس مما يهون أن يرى أباه في وهنه بعد سطوة وجبروت أو يرى ذبول أمه وتواريها وراء الكبر، أو يرى انحلال عائشة وتدهورها، هذا الجو المشحون بنذر التعاسة والنهاية. ورقي في السلم إلى الدور الأعلى - شقته كما يسميه - حيث يعيش منفردا بين حجرة نومه ومكتبته المطلتين على بين القصرين. وخلع ملابسه ومضى مرتديا جلبابه متلفعا بالروب إلى المكتبة، وكانت مكونة من مكتب كبير فيما يلي المشربية وصفين من خزانات الكتب على جانبيها. وكان يريد أن يقرأ فصلا على الأقل في كتاب «منبعا الدين والأخلاق» لبرجسون، وأن يراجع مراجعة أخيرة مقاله الشهري لمجلة «الفكر» الذي اتفق أن كان عن البراجمتزم. هذه السويعات الموهوبة للفلسفة، التي تمتد حتى منتصف الليل، هي أسعد أوقات يومه، وهي التي يشعر فيها - على حد تعبيره - بأنه إنسان، أما بقية اليوم الذي ينقضي في عمله كمدرس بمدرسة السلحدار الابتدائية أو في إشباع شتى مطالب الحياة الضرورية، فمداره الحيوان الكامن فيه، المستهدف أبدا تأمين ذاته وتحقيق شهواته. ولم يكن يحب عملة الرسمي ولا يحترمه، ولكنه لم يعلن سخطه، خاصة في بيته، أن يشمت به الشامتون، ومع ذلك فقد كان مدرسا ممتازا حائزا للتقدير، وكان الناظر يعهد إليه ببعض النشاط المدرسي، حتى رمى نفسه متفكها بالعبودية، أليس هو العبد ذي يتقن العمل الذي لا يحبه؟! والحق أن ولعه بالتفوق الذي اعتاده منذ الصغر هو الذي دفعه إلى الاجتهاد والامتياز دفعا لا هوادة فيه. وقد صمم من بادئ الأمر على أن يكون شخصية محترمة بين التلاميذ والمدرسين فكان له ما أراد، بل كان شخصية محترمة ومحبوبة معا، رغم رأسه وأنفه العظيمين .. ولا شك أنه كان لهما - رأسه وأنفه - أو كان لإحساسه الأليم بهما الفضل الأول في هذا التصميم القوي الذي خلق منه هذه الشخصية المهابة. كان يعلم بأن رأسه وأنفه سيثيران من حوله الفتن فاستل عزمه ليرد عنهما وعنه كيد العابثين. أجل لم ينج أحيانا من غمز وتعريض في أثناء الدرس أو في ملعب المدرسة، فكان يلقى الهجوم بحزم شديد، ثم يلطفه بعطفه المطبوع، إلى ما أثر عنه من مقدرة في الشرح والتفهيم، وما يأخذ فيه بين آونة وأخرى من موضوعات طريفة حماسية تمس القومية أو ذكريات الثورة، كل أولئك جعله يستميل إليه «الرأي العام» بين التلاميذ، وكان ذلك - إلى حزمه المتوثب عند الضرورة - كفيلا بالقضاء على الفتن في مهدها! ولشد ما آلمه أول الأمر الغمز الجارح، ولشد ما استثار المنسي من أحزانه، بيد أنه سر آخر الأمر بالمنزلة الرفيعة التي بات يحتلها في نفوس الصغار الذين كانوا يتطلعون إليه بإعجاب وحب وإجلال. وواجهته مشكلة أخرى تتعلق بمقالاته الشهرية في مجلة «الفكر» وكان يخاف هذه المرة الناظر والمدرسين أن يسألوه عما يعرض فيها من فلسفات قديمة وحديثة تنقد أحيانا العقائد والأخلاق بما لا يتفق ومسئولية «المدرس» ولكن من حسن الحظ أن أحدا من المسئولين لم يكن بين قراء «الفكر»، ثم تبين له بعد ذلك أن المجلة لا تطبع أكثر من ألف نسخة يصدر نصفها إلى البلاد العربية، فشجعه ذلك على الكتابة إليها وهو آمن على نفسه ووظيفته. في هذه السويعات القلائل ينقلب «مدرس اللغة الإنجليزية بالسلحدار الابتدائية» سائحا حرا يجوب أجواء لا تحد من الفكر، فيقرأ ويتأمل ويدون الملاحظات التي يجمعها بعد ذلك، في مقالاته الشهرية، تحثه على جهاده الرغبة في المعرفة وحب الحقيقة وروح المغامرة النظرية والحنين إلى العزاء والتخفيف من جو الكآبة الذي يغشاه والشعور بالوحدة الذي يستكن في أعماقه. قد يلوذ من الوحشة بوحدة الوجود عند سبينوزا، أو يتعزى عن هوان شأنه بالمشاركة في الانتصار على الرغبة مع شوبنهور، أو يهون من إحساسه بتعاسة عائشة بجرعة من فلسفة ليبنتز في تفسير الشر، أو يروي قلبه المتعطش إلى الحب من شاعرية برجسون، بيد أن جهاده المتواصل لم يجد في تقليم مخالب الحيرة التي تبلغ حد العذاب، فالحقيقة معشوق ليس دون المعشوق الآدمي دلالا وتمنعا ولعبا بالعقول وإثارة للشك والغيرة مع إغراء عنيف بالتملك والوصال، وهي كالمعشوق الآدمي عرضة لأن تكون ذات وجوه وأهواء وتقلبات، ولا تخلو في كثير من الأحايين من مكر وخداع وقسوة وكبرياء، وكان إذا ركبته الحيرة وأعياه الجهد يقول متعزيا: «قد أكون معذبا حقا ولكنني حي، إنسان حي، ولن تكون حياة الإنسان الخليقة بهذا الاسم بلا ثمن!»

2

مراجعة الدفاتر وضبط الحسابات وتسوية ميزانية اليوم السابق، كل ذلك كان أحمد عبد الجواد يؤديه على خير الوجوه وبالدقة المعهودة فيه من قديم غير أنه يؤديه اليوم بمشقة لم يكن يجدها من قبل أن يركبه العمر والمرض. وكان منظره وهو منكب على دفاتره تحت لافتة البسملة، وشاربه الفضي يكاد يختفي تحت أنفه الكبير الذي زاده ضمور الوجه ضخامة، كان ذلك المنظر مما يستحق العطف، غير أن منظر وكيله ومساعده جميل الحمزاوي الذي كان يهدف إلى السبعين كان مما يستحق الرثاء. ولم يكن يفرغ من زبون حتى يتهالك على مقعده، وهو يلهث، فكان أحمد يقول لنفسه في شيء من الامتعاض: «لو كنا موظفين لأغنانا المعاش في مثل سننا من الكد والعمل!» ورفع السيد رأسه عن الدفتر وهو يقول: ما زالت الحالة متأثرة بعض الشيء بالأزمة الاقتصادية ..

فارتسم الامتعاض على شفتي الحمزاوي الباهتتين وقال: بدون شك، غير أن هذا العام خير من العام السابق. والعام السابق خير من الذي قبله، الحمد لله على أي حال ..

عام 1930 وما تلاه من أعوام، تلك الفترة التي كان التجار من أصحابها يسمونها أيام الرعب، حين استبد إسماعيل صدقي بالحياة السياسية وسيطر القحط على الحياة الاقتصادية، وكانوا يصبحون ويمسون على أخبار الإفلاس والتصفيات، ويقبلون الأكف وهم يتساءلون عما يخبئ لهم الغد، وقد كان من المحظوظين بغير شك لأن ضيقته له تبلغ به الإفلاس الذي تهدده عاما بعد عام. - أجل، الحمد لله على أي حال ..

ووجد جميل الحمزاوي يرنو إليه بنظرة غريبة، فيها تردد وحرج، ماذا عنده يا ترى؟ وقام الرجل فقرب مقعده من المكتب ثم جلس وهو يبتسم في ارتباك. وكان البرد قاسيا رغم سطوع الشمس، وكان للهواء حملات قوية ارتجت لها الأبواب والنوافذ وتعالى الصفير. قال السيد وهو يعتدل في جلسته: هات ما عندك، إني موقن بأنك ستقول شيئا هاما.

فخفض الحمزاوي عينيه وقال: موقفي لا أحسد عليه، ولا أدري كيف أتكلم ..

فقال السيد مشجعا: ولكني عاشرتك أكثر مما عاشرت أهلي فتستطيع أن تفضي إلي بكل ما في نفسك .. - العشرة هي التي تصعب علي يا سي السيد .. - العشرة؟!

لم يخطر له هذا على بال .. - أتريد؟ .. حقا!

قال الحمزاوي بحزن: آن لي أن أعتزل، الله لا يكلف نفسا إلا وسعها ..

وانقبض قلب السيد، فاعتزال الحمزاوي للعمل ليس إلا نذيرا له بالاعتزال، كيف ينهض بأعباء العمل في دكانه وهو على ما هو عليه من مرض وكبر؟ ونظر إلى وكيله في حيرة فعاد الرجل يقول متأثرا: إني آسف جدا، ولكني لم أعد أطيق العمل، ولى ذلك الزمان، غير أني دبرت الأمر فلن أتركك وحدك، سيملأ مكاني من هو أقدر مني ..

إن ثقته في أمانة الحمزاوي قد رفعت عن كاهله نصف متاعبه، فكيف يعود ابن الثالثة والستين إلى ملازمة الدكان من طلعة الشمس إلى مغيبها؟ قال: ولكن اعتزال العمل والقبوع في البيت يسرعان بالإنسان إلى التدهور، ألا ترى هذا في أصحاب المعاشات من الموظفين؟

فقال جميل الحمزاوي باسما: التدهور موجود قبل الاعتزال.

وضحك السيد فجأة كأنما ليداري الحرج الذي شعر به مقدما قبل أن يقول له: يا عجوز يا مكار، أنت تهجرني تلبية لإلحاح ابنك فؤاد ..

فهتف الحمزاوي متأثرا: معاذ الله، إن حالتي الصحية لا تخفى على أحد، وهي السبب الأول والأخير ..

من يدري؟ فؤاد وكيل نيابة ومثله لا يرتاح لبقاء أبيه عاملا بسيطا في دكان ولو كان صاحب الدكان هو الذي مهد له السبيل؛ ليتبوأ مركزه في النيابة. ولكنه شعر بأن تصريحه قد آلم وكيله الطيب فتراجع متسائلا في لطف: متى ينقل فؤاد إلى القاهرة؟ - في صيف هذا العام أو في صيف العام القادم على الأكثر ..

ومضت فترة سكون مشحونة بالحرج حتى قال الحمزاوي مجاريا السيد في لطفه: وإذا أقام معي في القاهرة وجب التفكير في تزويجه، أليس كذلك يا سي السيد؟ إنه ابني الوحيد على سبع بنات، ولا بد من تزويجه، وكلما فكرت في ذلك جرت في خاطري الآنسة المهذبة حفيدتك ..

واسترق إلى وجه السيد نظرة استطلاع ثم تمتم: لسنا قد المقام طبعا ..

فلم يسع السيد إلا أن يقول: أستغفر الله يا عم جميل، نحن أخوان من قديم الزمن ..

ترى أحرضه فؤاد على جس النبض؟ وكيل نيابة شيء عظيم والعبرة في الأصل بالطيبة، ولكن أهذا وقت التحدث في الزواج؟ - حدثني أولا أأنت مصمم على اعتزال العمل؟

وجاءه صوت من باب الدكان يقول: يا ألف صباح الخير ..

فابتسم السيد بدافع المجاملة رغم استيائه لانقطاعه عن الموضوع الذي يهمه، وقال: أهلا وسهلا .. (ثم وهو يشير إلى المقعد الذي أخلاه الحمزاوي): تفضلي ..

جلست زبيدة بجسم قد ترهل، ووجه قد تقنع بالأصباغ، أما الحلي فلم يعد لها أثر في عنقها أو أذنيها أو ساعديها، ولا للجمال القديم مكان، وجعل السيد يرحب بها كعادته مع كل زائر لا أكثر، أما قلبه فلم يرتح للزيارة، فما من مرة تجيئه إلا وترهقه بالمطالب. سألها عن الصحة فأجابت وهي لا تعني شيئا: «الحمد الله.» وقال لها بعد هنيهة صمت .. أهلا .. أهلا، فابتسمت شاكرة ولكن بدا أنها استشعرت الفتور الكامن في مجاملاته. وضحكت متجاهلة الجو الذي يكتنفها، وكانت الأيام قد علمتها البرود، ثم قالت: لا أحب أن أضيع وقتك، وأنت مشغول، ولكنك أنبل من عرفت في حياتي، فإما أن تمدني بسلفة أخرى، وإما أن تجد لبيتي شاريا ويا حبذا لو تكون أنت الشاري!

فقال أحمد عبد الجواد متنهدا: أنا؟! يا ليت، الزمن غير الزمن يا سلطانة. طالما صارحتك بالحقيقة ولكن يبدو أنك لا تصدقين يا سلطانة ..

فضحكت ضحكة دارت بها خيبة أملها وقالت: السلطانة مفلسة، فما العمل؟ - في المرة السابقة أعطيتك ما قدرت عليه، ولكن الحال لا يسمح بتكرار ذلك ..

فتساءلت في قلق: ألا يمكن أن تجد لبيتي شاريا؟ - سأبحث لك عن شار، أعدك بذلك.

فقالت ممتنة: هذا ما ينتظر منك يا سيد الكرماء، (ثم بلهجة حزينة): ليست الدنيا وحدها التي تغيرت ولكن الناس تغيروا أكثر، سامح الله الناس، في أيام العز كانوا يستبقون إلى تقبيل حذائي. والآن إذا لمحوني على جانب من الطريق مالوا إلى الجانب الآخر.

لا بد أن يتنكر للإنسان شيء، بل أشياء، الصحة أو الشباب أو الناس، أما أيام العز، أيام الأنغام والحب فأين هي؟! - ومن ناحية أخرى فأنت يا سلطانة لم تعملي للأيام حسابها.

فتنهدت آسفة وهي تقول: نعم، لست كأختك جليلة التي تتاجر بالأعراض، وتقتني المال والبيوت، وفضلا عن ذلك فقد ابتلاني الله بأولاد الحرام حتى بلغ الفجر بحسن عنبر أنه كان يبيعني شمة الكوكايين - عندما ندر في الأسواق - بجنيه! - لعنه الله! - حسن عنبر؟ .. ألف لعنة! - بل الكوكايين. - والله الكوكايين أرحم من الإنسان. - لا .. لا، من المحزن حقا أنك وقعت في شره.

فقالت بتسليم وقنوط: هد حيلي وضيع مالي، ما علينا، متى تجد لي شاريا؟ - إن شاء الله عند أول فرصة.

فقالت في عتاب وهي تنهض: اسمع، إذا زرتك في المرة القادمة فابتسم من قلبك، كل إساءة تهون إلا التي تجيئني من ناحيتك، أنا عارفة أني أضايقك بمطالبي ولكني في ضيق لا يعلم به إلا الله، وأنت أنبل الناس في نظري.

فقال لها معتذرا: لا تتوهمي ما ليس في، الأمر أني كنت مشغولا بمسألة هامة عند قدومك، وهموم التجار لا تنتهي كما تعلمين! - رفع الله عنك الهموم.

فحنى رأسه شاكرا وهو يوصلها، ثم ودعها قائلا: أهلا بك من القلب في كل حين ..

ولمح في عينيها نظرة خابية تفيض غما فرق لها، وعاد إلى مجلسه منقبض الصدر فالتفت إلى جميل الحمزاوي وقال: دنيا .. - كفاك شرها وأطعمك خيرها.

غير أن نبرات الحمزاوي قست وهو يستدرك قائلا: ولكنها عاقبة عادلة لامرأة مستهترة!

فهز أحمد عبد الجواد رأسه هزة مقتضبة سريعة كأنما يعلن بها احتجاجا صامتا على قسوة هذه الموعظة، ثم سأله بصوت رجع به إلى النغمة التي قطعها مجيء زبيدة: ألا تزال مصمما على رأيك في هجرنا؟

فقال الرجل في حرج: ليس هجرا ولكنه تقاعد، وأنا آسف من كل قلبي. - كلام كالذي داريت به زبيدة منذ دقيقة! - أستغفر الله، إني أتكلم من قلبي، ألا ترى يا سيدي أن الكبر يكاد يعجزني؟

ثم دخل الدكان زبون فمضى الحمزاوي إليه، وإذا بصوت عتيق يتعالى من الباب قائلا في لهجة الغزل: من هذا الذي يجلس وراء المكتب كالقمر؟!

بدا الشيخ متولي عبد الصمد في جلباب خشن رث لا لون له، ومركوب متفزز، معصوب الرأس بتلفيعة من وبر، مستند القامة على عكاز، وكان يرمش بعينيه الحمراوين مسددا بصره نحو الجدار الملاصق لمكتب السيد، وهو يظن أنه يسدده نحوه. فابتسم السيد رغم همه قائلا: تعال يا شيخ متولي، كيف حالك؟

فكشف الرجل عن فم لم يبق فيه ناب واحد وهو يهتف: يا ضغط زل، يا صحة عودي إلى سيد الناس ..

وقام السيد فاتجه نحوه فاعتدل بصر الشيخ إليه ولكنه تراجع في الوقت نفسه كالهارب، ثم جعل يدور حول نفسه مشيرا إلى الجهات الأربع وهو يصيح: «من هنا تفرج .. ومن هنا تفرج .. ومن هنا تفرج .. ومن هنا تفرج.» ثم إلى الطريق قائلا: ليس اليوم، غدا، أو بعد غد، قل الله أعلم .. ومشى في خطوات واسعة لا يناسب نشاطها مظهره البالي.

3

يوم الجمعة رجعت الفروع إلى الأصل وعمر البيت القديم بالأبناء والأحفاد؛ ذلك تقليد سعيد لم ينقطعوا عنه. ولم تعد أمينة «بطلة» يوم الجمعة كما كانت قديما؛ فأم حنفي تبوأت المركز الأول في المطبخ، ولم تكن أمينة تني عن تذكير القوم بأن أم حنفي تلميذتها؛ فإن غرامها بالثناء كان يتشجع على الإفصاح عن ذاته كلما شعرت بقلة استحقاقها له، إلى أن خديجة - رغم أنها في حكم الضيفة - لم تقصر في إهداء معونتها. وقبيل ذهاب السيد إلى الدكان التف به الضيوف، إبراهيم شوكت وابناه عبد المنعم وأحمد، وياسين وابناه رضوان وكريمة، يكتنفهم ذلك الخشوع الذي يجعل من ضحكهم ابتساما ومن حديثهم همسا. وكان السيد يجد في حضورهم سرورا يزداد تعلقا به كلما تقدم به العمر، فعتب على ياسين انقطاعه عن زيارته في الدكان اكتفاء بزيارة يوم الجمعة، ألا يريد هذا البغل أن يفهم أنه يتوق إلى رؤيته كل حين؟ وابنه رضوان جميل المحيا ذو العينين المكحولتين والبشرة الوردية الذي يعكس جماله ألوانا متنوعة تذكره مرة بياسين ومرة بهنية أم ياسين وثالثة بصديقه الحبيب محمد عفت فهذا أحب الأحفاد إلى قلبه، وكريمة أخته مصغر شابة في الثامنة من عمرها سوف تنضج نضجا عجيبا كما تشهد عيناها السوداوان - عينا زنوبة أمها - اللتان يبسم لهما خاطره ابتسامة ندية بالحياء والذكريات. أما عبد المنعم وأحمد فحسبه أن يرى في وجهيهما قدرا لا يستهان به من أنفه العظيم كما يرى عيني خديجة الصغيرتين، غير أنهما أجرأ من الآخرين في مخاطبته، وكلهم - هؤلاء الأحفاد - يشقون طريق دراستهم بنجاح يدعو إلى الفخار، لكنهم يبدون مشغولين بأنفسهم عن جدهم؛ فمن جهة يعزونه بأن حياته لم ولن تنقطع ومن ناحية أخرى يذكرونه بأن شخصه يتراجع رويدا عن مركز الاهتمام الذي كان يستأثر به، ولم يكن ذلك ليحزنه، فإن الإيغال بالعمر يجيء بالحكمة كما يجيء بالوهن والمرض. ولكن هيهات أن يمنع ذلك الذكريات من أن تتدفق، عندما كان مثل هؤلاء في مطلع العمر، وعندما كان العام 1890، وكان يتعلم قليلا ويلهو كثيرا ما بين مغاني الجمالية ومرتاد الأزبكية، وفي ركابه يجري محمد عفت وعلي عبد الرحيم وإبراهيم الفار، وكان أبوه يملأ الدكان نفسها، يزجر وحيده قليلا، ويرق له كثيرا، وكان العمر صفحة مطوية مكتظة بالآمال، ثم كانت هنية .. ولكن مهلا! لا ينبغي أن تستخفه الذكريات.

وقام ليصلي العصر فكان ذلك إيذانا بالانصراف، ثم ارتدى ملابسه ومضى إلى الدكان، وتجمعوا هم في مجلس القهوة حول مجمرة الجدة، في جو التلاقي والسمر. احتلت الكنبة الرئيسية أمينة وعائشة ونعيمة، أما الكنبة اليمنى فجلس عليها ياسين وزنوبة وكريمة، وعلى الكنبة اليسرى قعد إبراهيم شوكت وخديجة وكمال، على حين اتخذ رضوان وعبد المنعم وأحمد مجالسهم على كراسي توسطت الصالة تحت المصباح الكهربائي. وكان إبراهيم شوكت، كعادته التي لم يغيرها الزمن، ينوه بألوان الطعام التي أعجبته، غير أن تنويهه اقتصر في الأعوام الأخيرة على فضل الأستاذة على تلميذتها النجيبة. وكانت زنوبة تعيد ثناءه كالصدى فإنها لم تكن تهمل فرصة يمكن أن تتودد بها إلى أحد من أهل زوجها. والحق أنها مذ فتحت لها أبواب آل زوجها، وأتيحت لها مخالطتهم وهي تعمل بلباقة فائقة على توثيق علاقتها بهم، لأنها عدت ذلك اعترافا بمكانتها بعد أن انقضت أعوام وهي تعيش في عزلة كالمنبوذة.

وكان موت وليد لياسين السبب الحقيقي في زيارة أهله لبيته للتعزية، فصافحت يدها أيديهم لأول مرة مند زواجها، وتشجعت بذلك فزارت السكرية، ثم زارت بين القصرين عند اشتداد المرض على السيد، بل أقدمت على زيارته في حجرته. فتقابلا كشخصين جديدين لا تاريخ مشتركا بينهما. هكذا اندمجت زنوبة في آل أحمد حتى غدت تخاطب أمينة فتقول لها يا تيزة وتنادي خديجة فتقول لها يا أختي، وبدت دائما مثالا للاحتشام، وعلى خلاف نساء الأسرة أنفسهن تجنبت التبرج خارج بيتها، حتى بدت أكبر من سنها؛ إذ بادر الذبول إلى جمالها قبل الأوان، فلم تصدق خديجة أبدا أنها في السادسة والثلاثين، ولكنها استطاعت أن تفوز من الجميع بشهادة طيبة لها حتى قالت عنها أمينة يوما: «لا شك أن أصلها طيب، ربما أصلها البعيد، فليكن، ولكنها بنت حلال، هي الوحيدة التي عمرت مع ياسين!» وبدت خديجة في شحمها ولحمها أضخم من ياسين نفسه، ولم تكن تنكر أنها سعيدة بذلك، كما كانت سعيدة بعبد المنعم وأحمد وحياتها الزوجية الموفقة عامة، بيد أنها لم تكف يوما عن التشكي اتقاء العين. وقد تغيرت معاملتها لعائشة تغيرا كليا فلم تند عنها لها طوال ثمانية أعوام كلمة واحدة تنم عن سخرية أو خشونة ولو على سبيل الممازحة، بل حرصت الحرص كله على الترفق بها والتودد إليها وملاطفتها، خشوعا حيال تعاستها وخوفا من الأقدار التي قضت عليها بما قضت، وإشفاقا من أن تضع المرأة المحزونة حظيهما موضع المقارنة، وقد وقفت موقفا كريما يوم حتمت على إبراهيم شوكت أن ينزل عن حقه المشروع في ميراث أخيه المتوفى لنعيمة فآل الميراث كله لعائشة وكريمتها دون شريك. وأملت خديجة أن يذكر صنيعها في حينه ولكن عائشة استغرقها ذهول غيب عنها كرم أختها فلم يقعد ذلك بخديجة عن غمرها بالعطف والرحمة والتسامح كأنما انقلبت أما أخرى لها، ولم تكن تطمع في أكثر من رضائها ومودتها كي تطمئن على أسباب التوفيق التي هيأها لها الله. وأخرج إبراهيم شوكت علبة سجائره وقدمها لعائشة فتناولت سيجارة شاكرة، وتناول أخرى، وراحا يدخنان. كثيرا ما يكون إفراط عائشة في التدخين وتعاطي القهوة ملتقى ملاحظات وإن تكن تقابل منها عادة بهز الكتفين، أما أمها فتقنع بأن تقول في لهجة الدعاء: «ربنا يصبرها»، وأما ياسين فكان أجرأ الأهل في نصحها؛ كأنما قد أهله لذاك فقد وليده. غير أن عائشة لم تكن تعده مصابا مثلها وتضن عليه بمكانة مرموقة في دولة المبتلين؛ إذ إن ابنه مات وهو دون العام لا كعثمان أو محمد. والواقع أن حديث المصائب، كان يبدو كثيرا هوايتها المفضلة؛ كأنما كانت تعتز بدرجتها الممتازة في دنيا الشقاء. واستمع كمال إلى ما يدور من حديث عن المستقبل بين رضوان وعبد المنعم وأحمد فأرهف السمع باسما، وكان رضوان ياسين يقول: كلنا من القسم الأدبي، فليس أمامنا من كلية جديرة بالاختيار إلا الحقوق.

فأجابه عبد المنعم إبراهيم شوكت بصوته القوي المفعم بنبرات التوكيد، وكان يهز رأسه الضخم الذي جعله أقرب الشبان شبها إلى كمال: مفهوم .. مفهوم، ولكنه لا يريد أن يفهم؟

وأومأ عند عبارته الأخيرة إلى أخيه أحمد الذي ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة، فانتهز إبراهيم شوكت الفرصة وقال مشيرا إلى أحمد أيضا: ليدخل الآداب إذا شاء ولكن عليه أن يقنعني بقيمتها، أنا أفهم الحقوق ولكنني لا أفهم الآداب!

وغض كمال بصره فيما يشبه الأسى؛ إذ عاودته أصداء نقاش قديم عن الحقوق والمعلمين: إنه ما زال يتنفس في جو الآمال القديمة، بيد أن الحياة تجبهه بصدمات قاسية كل يوم، فوكيل النيابة مثلا لا يحتاج إلى تعريف؛ أما كاتب مقالات مجلة «الفكر»، فربما احتاج إلى تعريف أكثر من مقالاته الغامضة نفسها! ولم يدعه أحمد إبراهيم شوكت لحيرته فنظر إليه بعينيه الصغيرتين البارزتين وهو يقول: إني أترك الجواب لخالي كمال ..

وابتسم إبراهيم شوكت ابتسامة يداري بها حرجه، أما كمال فقال دون حماس: ادرس ما تشعر بأنه يوافق موهبتك.

وبدا الظفر في وجه أحمد فردد رأسه الرشيق بين أخيه وأبيه غير أن كمال عاد يقول: ولكن ينبغي أن تعلم أن الحقوق تفتح لك مجالا من الحياة العملية الممتازة لا تستطيعه الآداب. سيكون مستقبلك إذا اخترت الآداب في التعليم، وهو مهنة شاقة ولا جاه لها .. - بل سأتجه إلى العمل في الصحافة. - الصحافة! .. (صاح إبراهيم شوكت) إنه لا يدري ماذا يقول.

فقال أحمد مخاطبا كمال: إن قيادة الفكر وقيادة عربة كارو شيء واحد في أسرتنا!

فقال رضوان ياسين باسما: إن أكبر قادة الفكر في وطننا من الحقوق ..

فقال أحمد في كبرياء: إن الفكر الذي أعنيه شيء آخر؟

فقال عبد المنعم شوكت عابسا: وهو شيء مخيف هدام، إني أعلم وا أسفاه بما تعني ..

وعاد إبراهيم شوكت يقول لأحمد وهو ينظر إلى الآخرين كأنما يشهدهم على ما يقول: فكر قبل أن تقدم، إنك ما زلت في السنة الرابعة، لن يعدو ميراثك المائة جنيه في العام، وإن بعض أصحابي يشكون مر الشكوى من أن أبناءهم الجامعيين لا يجدون عملا، أو يعملون كتبة بمرتبات تافهة، وأنت حر بعد ذلك فيما تختار ..

وتدخل ياسين في المناقشة بأن اقترح قائلا: لنسمع رأي خديجة، إنها المدرسة الأولى لأحمد، وهي أقدرنا على الاختيار بين الحقوق والآداب ..

وامتلأت الثغور بالابتسام، حتى أمينة ابتسمت وهي عاكفة على كنجة القهوة، بل حتى عائشة ابتسمت، فتشجعت خديجة بابتسامة عائشة فقالت: سأقص عليكم قصة طريفة. أمس بعد العصر بقليل - والدنيا تظلم بسرعة في الشتاء كما تعرفون - كنت راجعة من الدرب الأحمر إلى السكرية، فشعرت كأن رجلا يتبعني، وإذا به يمر بي تحت قبة المتولي وهو يقول: «على فين يا جميل»، فالتفت نحوه قائلة: «على البيت يا سي ياسين!»

وضجت الصالة بالضحك. ونظرت إليه زنوبة نظرة ذات معنى تجلى فيها الانتقاد واليأس، أما ياسين فجعل يشير للضاحكين بيده حتى عاد السكون، ثم تساءل: أمن المعقول أن يصيبني العمى إلى هذا الحد؟

فحذره إبراهيم شوكت قائلا: حاسب!

أما كريمة فأمسكت بيد أبيها وضحكت كأنها رغم كونها بنت ثمانية قد فهمت المقصود من قصة عمتها. وقالت زنوبة تعليقا على الحال: شر الأمور ما يضحك.

وحدج ياسين خديجة بنظرة مغيظة وهو يقول: «حفرت لي حفرة يا بنت الإيه» فقالت خديجة: إذا كان أحد في الموجودين في حاجة إلى الآداب فهو أنت لا أحمد ابني المجنون!

وصدقت زنوبة على قولها، أما رضوان فدافع عن أبيه ودعاه بالبريء المظلوم، وظل أحمد ينظر إلى كمال متعلقا به كالأمل، أما عبد المنعم فكان يسترق النظر إلى نعيمة التي تبدت لصق أمها كالوردة البيضاء، وكانت كلما شعرت بعينيه الصغيرتين تورد وجهها الشاحب الرقيق، حتى عاد إبراهيم شوكت يقول مغيرا مجرى الحديث مخاطبا أحمد: انظر إلى الحقوق وكيف جعلت من ابن الحمزاوي وكيل نيابة قد الدنيا ..

شعر كمال كأن هذا القول انتقاد مر موجه إلى شخصه، أما عائشة فقالت لأول مرة: إنه يريد أن يخطب نعمة.

وفي فترة الصمت التي استقبل بها الخبر قالت أمينة: أبوه فاتح جدها أمس ..

وتساءل ياسين جادا: وهل وافق أبي؟ - هذا سابق لأوانه.

فتساءل إبراهيم شوكت بحذر وهو ينظر إلى عائشة: وما رأي عائشة هانم؟

فقالت عائشة دون أن تنظر إلى أحد: لا أدري ..

فقالت خديجة وهي تتفحصها بعمق: ولكنك أنت الكل في الكل ..

وأراد كمال أن يشهد بشهادة طيبة لصديقه فقال: فؤاد شاب ممتاز حقا ..

فقال إبراهيم شوكت بحذر كالمتسائل: أظن أهله من السوقة؟!

فقال عبد المنعم شوكت بصوته القوي: نعم، خاله مكاري ، وخاله الآخر فران، وعمه كاتب محام .. «ثم بلهجة استدراكية ضعيفة»: ولكن هذا كله لا ينقص من قدر الإنسان فالإنسان بنفسه لا بأهله!

وأدرك كمال أن ابن أخته يريد أن يقرر حقيقتين يؤمن بهما على تنافرهما، أولا وضاعة أصل فؤاد، وثانيا أن وضاعة الأصل لا تنقص من قدر الشخص. بل أدرك أكثر من هذا أنه يحمل في الأولى على فؤاد وأنه يكفر في الثانية عن حملته الظالمة مرضاة لعقيدته الدينية القوية. ومن عجب أن تقرير هاتين الحقيقتين أراحه وكفاه شر التورط في الإفصاح عنهما بنفسه، فإنه كابن أخته لم يكن يؤمن بفوارق الطبقات، وكان مثله أيضا يميل للحملة على فؤاد والحط من شأنه الذي يدرك خطورته وتفاهته هو بالقياس إليه. والظاهر أن أمينة لم ترتح لهذه الحملة فقالت: أبوه رجل طيب، خدمنا العمر كله بأمانة وإخلاص.

فجمعت خديجة شجاعتها وقالت: ولكن ربما عاشرت نعيمة - لو تم هذا الزواج - أناسا ليسوا أهلا للمعاشرة، الأصل كل شيء ..

وجاءها تأييد من حيث لم ينتظر أحد، فقالت زنوبة: صدقت، الأصل كل شيء!

واضطرب ياسين، واسترق إلى خديجة نظرة سريعة، وهو يتساءل عن رجع قول زوجته في نفسها، وتعليقها الباطني عليه وما يستدعيه ذلك إلى خواطرها عن عالم العوالم والتخت. حتى لعن زنوبة في سره على «قنزحتها» الفارغة، واضطر أن يتكلم ليغطي على كلام زوجته، فقال: تذكروا أنكم تتحدثون عن وكيل نيابة ..

فقالت خديجة متشجعة بسكوت عائشة: أبي الذي جعل منه وكيل نيابة، أموالنا نحن التي صنعته!

فقال أحمد شوكت في سخرية نطقت بها عيناه البارزتان اللتان تذكران بالمرحوم خليل شوكت: نحن مدينون لأبيه أكثر مما هو مدين لنا!

فأشارت إليه خديجة بسبابتها وهي تقول بلهجة ملؤها الانتقاد: أنت دائما ترميننا بكلام غير مفهوم.

فقال ياسين بلهجة من يأمل في إنهاء الموضوع: أريحوا أنفسكم فالكلمة الأخيرة لبابا ..

وزعت أمينة فناجيل القهوة. واتجهت أعين الشباب إلى حيث جلست نعيمة لصق أمها. قال رضوان لنفسه: بنت لطيفة وجميلة، ليته كان في الإمكان أن أصادقها وأزاملها، لو مشينا في الطريق معا لاحتار الرجال أينا الأجمل! وقال أحمد لنفسه أيضا: جميلة جدا، ولكنها كأنما هي ملزوقة في خالتي بالغرا، ولا حظ لها من الثقافة. أما عبد المنعم فقال: جميلة وست بيت وشديدة التقوى، لا يعيبها إلا ضعفها، وحتى ضعفها جميل، خسارة في عين فؤاد، ثم جاوز الحديث الباطني فسألها: وأنت يا نعيمة خبرينا عن رأيك؟

فتورد الوجه الشاحب، وقطبت ثم ابتسمت، وتوتر حالها وهي تمزج الابتسام بالتقطيب؛ لتخلص منهما معا، ثم قالت في حياء واستياء: لا رأي لي، دعني وشأني!

فقال أحمد ساخرا: الحياء الكاذب ..

ولكن عائشة قاطعته متسائلة: الكاذب؟!

فاستدرك قائلا: الحياء موضة قديمة، ينبغي أن تتكلمي وإلا ضاعت منك الحياة ..

فقالت عائشة بمرارة: إننا لا نعرف هذا الكلام.

فقال أحمد، متشكيا دون أن يعبأ بنظرة أمه المنذرة: أراهن على أن أسرتنا متأخرة عن العصر الحديث بأربعة قرون!

فسأله عبد المنعم ساخرا: لم حددتها بأربعة؟

فقال دون اكتراث: على سبيل الرأفة.

وإذا بخديجة توجه الخطاب إلى كمال متسائلة: وأنت! .. متى تتزوج أنت؟

بوغت كمال بالسؤال فتهرب قائلا: حديث قديم! - وجديد في الوقت نفسه، ولن نتركه حتى يجمع الله شملك على بنت الحلال.

تابعت أمينة الحديث الأخير باهتمام مضاعف، فزواج كمال أعز أمانيها، وكم رجته أن يحقق أمنيتها حتى تقر عينها بحفيد من صلب ابنها الوحيد، قالت: عرض عليه أبوه عرائس من أحسن الأسر، ولكنه يتعلل دائما بعذر أو بآخر .. - أعذار واهية، كم عمرك الآن يا سي كمال؟ .. تساءل إبراهيم شوكت ضاحكا: ثمانية وعشرون عاما! فات الوقت ..

أنصتت أمينة إلى رقم العمر بدهش كأنما لا تريد أن تصدق. أما خديجة فاحتدت وهي تقول: أنت مغرم بتكبير عمرك!

أجل فهو الأخ الأصغر، فالكشف عن عمره كشف غير مباشر عن عمرها، مع أن زوجها بلغ الستين إلا أنها كانت تكره أن تذكر بأنها في الثامنة والثلاثين، أما كمال فلم يكن يدري ماذا يقول، ولم يكن الموضوع في نظره مما يحسم بكلمة، ولكنه كان يشعر دائما بأنه مطالب بإيضاح موقفه فقال بلهجة المعتذر : إني مشغول نهاري بالمدرسة وليلي بمكتبي.

فقال أحمد بحماس: حياة عظيمة يا خالي، ولكن الإنسان ينبغي مع ذلك أن يتزوج.

وقال ياسين الذي كان أعرف الجميع بكمال: أنت تتجنب الشواغل حتى لا تشغلك عن طلب «الحقيقة» ولكن الحقيقة في هذه الشواغل؛ لن تعرف الحياة في المكتبة، ولكن الحقيقة في البيت والشارع ..

فقال كمال ممعنا في الهرب: تعودت أن أنفق مرتبي لآخر مليم، ليس عندي مدخر، كيف أتزوج؟!

فقالت خديجة تحاصره: انو الزواج مرة وستعرف كيف تستعد له.

وقال ياسين ضاحكا: إنك تنفق مرتبك لأخر مليم حتى لا تتزوج ..

كأنهما شيء واحد. ولكن لم لم يتزوج رغم استجابة الظروف ورغبة الوالدين؟ أجل مضت فترة في ظل الحب فكان الزواج ضربا من العبث. وتبعتها فترة حل محل الحب فيها بديل هو الفكر فاستغرق الحياة بنهم، وكانت فرحة الأفراح أن يعثر على كتاب جميل أو يظفر بنشر مقالة. وقال لنفسه إن المفكر لا يتزوج، وما ينبغي له. كان ينظر إلى فوق ويظن أن الزواج سيحمله على النظر إلى تحت. وكان - وما زال - يلذ له موقف المشاهد المتأمل بقدر ما ينفر من الاندماج في ميكانيكية الحياة. وإنه ليضن بحريته كما يضن البخيل بماله. ثم إنه لم يبق عنده من المرأة إلا شهوة تقضى: وإلى هذا كله فالشباب لم يضع هباء ما دام لا ينقضي أسبوع دون مسرات فكرية ولذات جسدية، ثم إنه حائر يداخله الشك في كل شيء، والزواج نوع من الإيمان، قال: أريحوا أنفسكم، سأتزوج عندما أرغب في الزواج.

فابتسمت زنوبة ابتسامة أرجعتها إلى الوراء عشرة أعوام وتساءلت: ولم لا ترغب في الزواج.

فقال كمال فيما يشبه الضجر: الزواج حبة وأنتم تجعلون منه قبة ..

ولكنه كان يؤمن في أعماقه بأن الزواج قبة لا حبة. وكان يساوره شعور غريب بأنه يوم يذعن للزواج فسيقضى عليه قضاء مبرما. وأنقذه من موقفه صوت أحمد وهو يقول له: آن لنا أن نصعد إلى المكتبة.

فنهض مرحبا بدعوته، ومضى خارجا وعبد المنعم وأحمد ورضوان في أثره. وصعدوا إلى حجرة المكتب لاستعارة بعض الكتب كعادتهم كلما جاءوا البيت القديم زائرين: وكان مكتب كمال يتوسط الحجرة تحت المصباح الكهربائي بين صفين من خزائن الكتب، فجلس إلى مكتبه على حين رأى الشبان يطالعون عناوين الكتب المصفوفة على الأرفف، ثم اختار عبد المنعم كتاب «محاضرات في تاريخ الاسلام»، وجاء أحمد بكتاب «مبادئ الفلسفة»، ثم وقفوا حول مكتبه وهو يردد بصره بينهم صامتا، حتى قال أحمد متضايقا: لن أقرأ كما أحب حتى أتقن لغة أجنبية واحدة على الأقل.

وتمتم عبد المنعم وهو يقرأ صفحات كتابه: لا أحد يعرف الإسلام على حقيقته.

فقال أحمد ساخطا: أخي يتلقى حقيقة الاسلام على يد رجل شبه عامي في خان الخليلي ..

فصاح به عبد المنعم: صه يا زنديق!

ونظر كمال إلى رضوان متسائلا: وأنت ألا تريد كتابا؟

فأجاب عنه عبد المنعم: وقته مشغول بقراءة الجرائد الوفدية ..

فقال رضوان وهو يومئ إلى كمال: في هذا يتفق معي عمي!

عمه لا يؤمن بشيء، ورغم ذلك فهو وفدي! كما أنه يشك في الحقيقة عامة، ورغم ذلك فهو يتعامل مع الناس والواقع. تساءل وهو يردد عينيه بين عبد المنعم وأحمد: وأنتما وفديان كذلك فما وجه الغرابة؟ وكل وطني فهو وفدي، أليس كذلك؟

فقال عبد المنعم بصوته اليقيني: الوفد أفضل الأحزاب بلا ريب، ولكنه في ذاته لم يعد مقنعا كل الإقناع ..

فقال أحمد ضاحكا: إني أوافق أخي على رأيه هذا، أو بالأحرى لا أوافقه على رأي إلا هذا، وربما اختلفنا في درجة الإقناع الخاصة بالوفد، أكثر من ذلك فإن الوطنية نفسها يجب أن تكون موضع استفهام، أجل إن الاستقلال فوق كل نزاع، أما معنى الوطنية بعد ذلك فينبغي أن يتطور حتى يفنى في معنى أشمل وأسمى، وليس ببعيد أن ننظر في المستقبل إلى شهداء الوطنية كما ننظر الآن إلى ضحايا المعارك الحمقاء التي تنشب بين القبائل والأسر!

معارك حمقاء يا أحمق! فهمي لم يستشهد في معركة حمقاء، ولكن أين وجه اليقين؟ ورغم خواطره قال بحدة: أي قتيل في سبيل شيء فوق نفسه فهو شهيد، وقد تتغير قيم الأشياء أما موقف الإنسان منها فهو قيمة لا تتغير ..

وغادروا حجرة المكتب ورضوان يقول مخاطبا عبد المنعم ردا على ملاحظة له: السياسة أخطر وظيفة في المجتمع ..

ولما عادوا إلى مجلس القهوة كان إبراهيم شوكت يقول لياسين: وهكذا فنحن نربي ونوجه وننصح ولكن كل ولد يندمج في مكتبة، وهي عالم مستقل عنا، يزحمنا فيه أناس غرباء، لا ندري عنهم شيئا فما عسى أن نصنع؟!

4

كان الترام مكتظا حتى لم يعد به موضع لواقف، وقد انحشر كمال بين الواقفين وكأنه يطل عليهم بقامته الطويلة النحيلة. كانوا مثله - فيما بدا له - يقصدون مكان الاحتفال بالعيد الوطني - عيد 13 نوفمبر - فردد عينيه في الوجوه مستطلعا ومرحبا.

والحق أنه يشارك في هذه الأعياد كأشد المؤمنين بها وإن آمن في الوقت نفسه بألا إيمان له. وكان الناس يتحادثون معلقين على الموقف دون سابق تعارف مكتفين بوحدة الهدف وبرابطة «الوفدية». التي ألفت بين قلوبهم. قال أحدهم: عيد الجهاد هذا العام عيد جهاد بكل معنى الكلمة، أو هذا ما يجب أن يكون ..

فقال آخر: يجب أن يرد فيه على هور وتصريحه المشئوم.

وثار ثالث لذكر هور فصاح: ابن الكلب قال: نصحنا بأن لا يعاد دستور 1923، ولا دستور 1930، ما شأنه هو ودستورنا؟

فأجابه رابع: لا تنس أنه قال قبل ذلك: على أننا عندما استشارونا نصحنا، إلخ ... - أجل، من الذين استشاروه؟ - سل عن ذلك حكومة القوادين! - توفيق نسيم وكفى! أنسيتموه؟ ولكن لماذا هادنه الوفد؟ - لكل شيء نهاية، انتظروا خطبة اليوم.

أصغى كمال إليهم، بل اشترك في حديثهم، وأعجب من هذا أنه لم يكن دونهم حماسا. وكان هذا ثامن عيد جهاد يشهده: وكان كالآخرين قد امتلأ بمرارة التجارب السياسية التي خلفتها الأعوام السابقة. أجل. لقد عاصرت عهد محمد محمود الذي عطل الدستور ثلاث سنوات قابلة للتجديد، واغتصب حرية الشعب في نظير وعده له بتجفيف البرك والمستنقعات! كما عشت سنين الإرهاب والعهر السياسي التي فرضها إسماعيل صدقي على البلاد، كان الشعب يثق في قوم ويريدهم حكاما له ولكنه يجد فوق رأسه دائما أولئك الجلادين البغضاء، تحميهم هراوات الكونستبلات الإنجليز ورصاصهم، وسرعان ما يقولون له بلغة أو بأخرى أنت شعب قاصر ونحن الأوصياء، والشعب يخوض المعارك دون توقف فيخرج من كل وهو يلهث، حتى اتخذ في النهاية موقفا سلبيا شعاره الصبر والسخرية، فخلا الميدان إلا من الوفديين من ناحية والطغاة من ناحية أخرى، وقنع الشعب بمجلس المتفرج وراح يشجع رجاله في همس دون أن يمد لهم يدا. إن قلبه لا يستطيع أن يتجاهل حياة الشعب، إنه يخفق معه دائما، رغم عقله التائه في ضباب الشك. غادر الترام عند شارع سعد زغلول، وسار في طابور غير منتظم نحو سرادق الاحتفال المقام في جوار بين الأمة، تقابلهم بين كل عشرة أمتار مجموعة من الجنود تحت رئاسة كونستابل إنجليزي تنطق وجوههم بالصرامة والبلادة. والتقى قبيل السرادق بعبد المنعم وأحمد ورضوان وشاب لا يعرفه وقد وقفوا معا يتحادثون، فأقبلوا نحوه مسلمين ولبثوا معه بعض الوقت. منذ شهر تقريبا ورضوان وعبد المنعم بين طلبة الحقوق أما أحمد فقد انتقل إلى السنة النهائية بالثانوي. وإنه ليراهم في الطريق «رجالا» بخلاف ما يراهم في البيت فليسوا إلا أبناء أخته وأخيه. وما أجمل رضوان، كذلك جميل، صاحبه الذي قدمه إليه باسم حلمي عزت، وقد صدق من قال إن الطيور على أشكالها تقع. وكان أحمد يسره، وينتظر منه دائما قولا غريبا ممتعا أو سلوكا لا يقل عنه غرابة، إنه أقرب الجميع إلى روحه، أما عبد المنعم فما أشبهه به لولا ميله إلى القصر والامتلاء؛ لذلك فحسب يحبه، أما يقينه وتعصبه فما أرذلهما!

وأقبل على السرادق الضخم، وألقي نظرة شاملة على الجموع الحاشدة، مرورا بكثرتها الهائلة، وتطلع مليا إلى المنصة التي سيعلو عندها عما قليل صوت الشعب، ثم اتخذ مجلسه. إن وجوده في مثل هذا الجمع الحاشد يطلق من أعماق ذاته الغارقة في الوحدة شخصا جديدا ينتفض حياة وحماسا. هنا ينحبس العقل في قمقم إلى حين، وتنطلق قوى النفس المكبوتة طامحة إلى حياة مفعمة بالعواطف والأحاسيس دافعة إلى الكفاح والأمل ، وعند ذاك تتجدد حياته وتنبعث غرائزه وتتبدد وحشته، ويتصل ما بينه وبين الناس فيشارك في حياتهم ويعتنق آمالهم وآلامهم. إنه بطبعه لا يطيق أن يتخذ من هذه الحياة حياة ثابتة له ولكن لا بد منها بين حين وآخر حتى لا ينقطع ما بينه وبين الحياة اليومية، حياة الناس، فلتؤجل مشكلات المادة والروح والطبيعة وما وراء الطبيعة، وليمتلئ اهتماما بما يحب هؤلاء الناس وبما يكرهون، بالدستور .. بالأزمة الاقتصادية .. بالموقف السياسي .. بالقضية الوطنية؛ لذلك لم يكن عجيبا أن يهتف: «الوفد عقيدة الأمة»، غداة ليل قضاه في تأمل عبث الوجود وقبض الريح، والعقل يحرم صاحبه نعمة الراحة؛ فهو يعشق الحقيقة ويهوى النزاهة ويتطلع إلى التسامح ويرتطم بالشك ويشقى في نزاعه الدائم مع الغرائز والانفعالات، فلا بد من ساعة يأوي فيها المتعب إلى حضن الجماعة؛ ليجدد دماءه ويستمد حرارة وشبابا. في المكتبة أصدقاء قليلون ممتازون مثل دارون وبرجسون ورسل. في هذا السرادق آلاف من الأصدقاء، يبدون بلا عقول، ولكن يتمثل في مجتمعهم شرف الغرائز الواعية، وليسوا في النهاية دون الأول خلقا للحوادث وصنعا للتاريخ. في هذه الحياة السياسية يحب ويكره ويرضى ويغضب ويبدو كل شيء ولا قيمة له. وكلما واجه هذا التناقض في حياته زعزعه القلق. ولكن ليس ثمة موضع في حياته يخلو من تناقض وبالتالي من قلق. لذلك شد ما يحن قلبه إلى تحقيق وحدة منسجمة تتسم بالكمال والسعادة، ولكن أين هذه الوحدة؟! ويشعر بأن الحياة العقلية لا مفر منها ما دام به عقل يفكر فلا يقعده ذلك عن التطلع إلى الحياة الأخرى تدفعه كافة القوى المعطلة المكبوتة؛ فهي صخرة النجاة. فلعله لذلك بدا هذا الجمع رائعا، وكلما ازداد كثرة ازداد روعة. وها هو القلب ينتظر ظهور الزعماء بنفس الحرارة واللهفة كالآخرين. وقد جلس عبد المنعم وأحمد على مقعدين متجاورين، أما رضوان وصاحبه حلمي عزت فيسيران في الممر الذي يشق السرادق ذهابا وجيئة أو يقفان عند المدخل يتبادلان الحديث مع بعض المشرفين على الاحتفال فيا لهما من شابين ذوي نفوذ! وكانت همسات القوم تتجمع فتحدث لغطا عاما، أما الأركان التي احتلها الشباب فعلا ضجيجها وتخللته الهتافات. ثم ترامى هتاف قوي ذو دلالة من الخارج فتطلعت الرءوس إلى مدخل السرادق الخلفي، ثم هبوا واقفين، وتعالى هتاف يصم الآذان، ثم لاح مصطفى النحاس فوق المنصة وهو يحيي الألوف بابتسامة وضيئة ويدين قويتين. وتطلع إليه بعينين اختفت منهما نظرة الشك إلى حين، وكان يتساءل: كيف أومن بهذا الرجل بعد أن فقدت الإيمان بكل شيء؟ ألأنه رمز الاستقلال والديمقراطية؟ مهما يكن من أمر فإن التجاوب الحار المتبادل بين الرجل والشعب ظاهرة جديرة بالنظر، وهي بلا شك قوة خطيرة تلعب دورها التاريخي في بناء القومية المصرية. وتشبع الجو بالحماس والحرارة، وتعب المشرفون على الحفل حتى نشروا السكون في الأركان، كي يسمع الناس المقرئ وهو يتلو ما تيسر من القرآن مرددا فيما يتلو:

يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال . وكان الناس ينتظرون هذا النداء فتعالى الهتاف والتصفيق حتى احتج بعض المتزمتين وطالبوا بالصمت احتراما لكتاب الله. وأثار قولهم في نفسه ذكريات قديمة يوم كان يعد واحدا من هؤلاء المتزمتين. فارتسمت على شفتيه ابتسامة ما واستشعر من توه عالمه الخاص الحافل بالمتناقضات الذي يبدو من تعارض متناقضاته وكأنه فراغ. ووقف الزعيم وراح يلقي خطابه. ألقاه بصوت رنان وبيان نافذ فاستغرق إلقاؤه ساعتين. ثم ختمه جاهرا في عنف سافر بالدعوة إلى الثورة، وبلغ الحماس من القوم مداه فوقفوا على المقاعد، وجعلوا يهتفون بحماس جنوني. ولم يكن دونهم حماسا وهتافا. نسي أنه مدرس مطالب بالوقار وخيل إليه أنه رجع إلى الأيام المجيدة. التي سمع عنها وحال عمره دون الاشتراك فيها. أكانت الخطب تلقى بهذه القوة؟ أكان الناس يتلقونها بمثل هذا الحماس؟ أكان الموت لذلك يهون؟ من مثل هذا الموقف بدأ فهمي دون ريب، ثم اندفع إلى الموت. إلى الخلود أم إلى الفناء؟! أمن الممكن أن يستشهد رجل في مثل حاله من الشك؟ لعل الوطنية - كالحب - من القوى التي نذعن لها وإن لم نؤمن بها!

إن فورة الحماس عالية، الهتافات حارة متوعدة ، المقاعد ترتج بمن فوقها، فما الخطوة التالية؟ ما يدري إلا والجموع تتجه نحو الخارج. وغادر موضعه وهو يلقي نظرة عامة باحثا عن شباب أسرته ولكنه لم يعثر لهم على أثر. وغادر السرادق من الباب الجانبي، ثم سار مستهدفا شارع قصر العيني في خطوات سريعة حتى يسبق الجموع. ومر في طريقه ببيت الأمة وكان كلما مر به يعلق به بصره، وردد عينيه بين الشرفة التاريخية والفناء الذي شهد أجل الذكريات الوطنية، أجل لهذا البيت مثل السحر في نفسه؛ فها هنا كان يقف سعد، وها هنا كان يقف فهمي وأقرانه، وفي هذا الطريق الذي يسير فيه الآن كان ينطلق الرصاص ليستقر في صدور الشهداء. إن قومه في حاجة دائمة إلى الثورة ليقاوموا موجات الطغيان التي تترصد سبيل نهضتهم، في حاجة إلى ثورات دورية تكون بمثابة التطعيم ضد الأمراض الخبيثة، والحق أن الاستبداد هو مرضهم المتوطن. هكذا نجح اشتراكه في العيد الوطني في تجديد نفسه؛ فلم يكن يهمه في تلك اللحظة إلا أن تجيب مصر على تصريح هور إجابة حاسمة كاللكمة القاضية. وانتصبت قامته النحيلة الطويلة، وارتفع رأسه الكبير، واشتد وقع خطاه وهو يتقدم أمام الجامعة الأمريكية متخيلا أمورا جليلة وأفعالا خطيرة. حتى المدرس ينبغي أن يثور أحيانا مع تلاميذه. وابتسم فيما يشبه الكآبة .. مدرس كبير الرأس مقضي عليه بأن يعلم مبادئ الإنجليزية - المبادئ فحسب - رغم أنه يطلع بها على أسرار وأسرار، يحتل جسمه من مزدحم الأرض موضعا ضئيلا، أما خياله فيضطرب في الدوامة التي تحيط بمغالق الطبيعة. يسأل في الصباح عن معنى كلمة وهجاء أخرى ويتساءل بالليل عن معنى وجوده ذلك اللغز القائم بين لغزين. وفي الصباح أيضا يضطرم فؤاده بالثورة على الإنجليز وفي الليل تدعوه الأخوة العامة المعذبة - أخوته لبني الإنسان - للتعاون أمام لغز القضاء. وهز رأسه في شيء من العنف كأنما ليطرد عنه هذه الخيالات. وقد ترامت إلى مسامعه أصوات الهتاف وهو يقترب من ميدان الإسماعيلية فأدرك أن المتظاهرين قد وصلوا إلى شارع قصر العيني؛ ودعاه الشعور بالنضال الذي يعمر صدره إلى التوقف لعله يشترك على نحو ما في مظاهرة 13 نوفمبر. شد ما طال بالوطن موقف الصابر الذي يتلقى الضربات. اليوم توفيق نسيم وأمس إسماعيل صدقي وأول أمس محمد محمود، تلك السلسلة المشئومة من الطغاة التي تمتد إلى ما قبل التاريخ. كل ابن كلب غرته قوته يزعم لنا أنه الوصي المختار وأن الشعب قاصر.

مهلا! .. إن المظاهرة تغلي وتفور، ولكن ما هذا؟! التفت كمال إلى الوراء في اضطراب: سمع صوتا اهتز له قلبه. وأنصت في انتباه فصك الصوت مسامعه مرة أخرى. إنه الرصاص. ورأى المتظاهرين عن بعد يضطربون في دوامة خطيرة لا يتضح له أمرها، ولكن جماعات كانوا يهرعون نحو الميدان، وآخرين إلى الشوارع الجانبية، وكثير من الكونستبلات الإنجليز فوق الجياد ينهبون الأرض. وعلا الهتاف واختلط بأصوات الغضب والصراخ واشتد انطلاق الرصاص، وخفق قلبه وتساءلت دقاته عن عبد المنعم وأحمد ورضوان، وامتلأ اضطرابا وغضبا، وتلفت يمنة ويسرة فرأى قهوة غير بعيد على الناصية فاتجه إليها - وقد أغلق بابها نصف إغلاق - وما إن مرق منها حتى تذكر دكان البسبوسة بالحسين حيث سمع طلقات الرصاص لأول مرة، وشاع الاضطراب في كل مكان، وانطلق الرصاص في غزارة مخيفة ثم متقطعا. وترامت أصوات كسر زجاج وصهيل خيل، وعلت أصوات مزمجرة دلت على أن تجمعات ثائرة تنتقل من مكان إلى مكان بسرعة خاطفة. ودخل المشرب شيخ وقال قبل أن يسأله أحد عما وراءه: «إن رصاص الكونستبلات ينهال على الطلبة والله أعلم بعدد الضحايا»، ثم جلس وهو يلهث، وعاد يقول بصوت متهدج: «غدروا بالأبرياء غدرا، لو كان تفريق المظاهرة غايتهم لأطلقوا الرصاص في الهواء من مواقعهم البعيدة، ولكنهم سايروا المظاهرة في هدوء مصطنع، وجعلوا يوزعون أنفسهم على مخارج الطريق، وفجأة أشهروا المسدسات وأطلقوا الرصاص على المقاتل، أطلقوا بلا رحمة، وسقط الصغار يتخبطون في دمهم، الإنجليز وحوش، ولكن الجنود المصريين ليسوا دونهم وحشية، إنها مذبحة مدبرة يا إلهي!» وجاء صوت من آخر المقهى يقول: «كان قلبي يحدثني بأن اليوم لن يمضي على خير.» فأجاب آخر: «أيام تنذر بالشر. فمنذ أعلن هور تصريحه والناس تتوقع أحداثا خطيرة، هذه معركة وستتلوها معارك، وأؤكد لكم هذا!» - الضحايا الطلبة دائما، أعز أبناء الأمة، وا أسفاه! - ولكن الضرب سكت، أليس كذلك؟! أنصتوا .. - المظاهرة الأصلية عند بيت الأمة، وسيستمر الضرب هنالك ساعات طويلة!

ولكن الصمت ساد الميدان. ومضى الوقت ثقيلا مشحونا بالتوتر. وأخذت الظلمة تدنو حتى أضيئت أنوار المقهى ثم لم يعد يسمع صوت كأنما حل بالميدان والشوارع المحيطة به الموت، وفتح باب المقهى على مصراعيه فتراءى الميدان خاليا من المارة والمركبات. ثم جاء طابور من فرسان البوليس ذوي الخوذات الفولاذية فطاف بالميدان يتقدمه الرؤساء الإنجليز: وكان باطن كمال لا يكف عن التساؤل عن مصير الأبناء. ولما دبت الحركة في الميدان مرة أخرى غادر المقهى متعجلا، ولم يعد إلى بيته حتى مر بالسكرية وقصر الشوق واطمأن على عبد المنعم وأحمد ورضوان.

وخلا إلى نفسه في مكتبته بقلب مليء بالحزن والأسى والغضب. لم يقرأ كلمة ولم يكتب كلمة، وظل عقله غائبا في منطقة بيت الأمة، في هور والخطبة الثائرة والهتاف الوطني وأزيز الرصاص وصرخات الضحايا. ووجد نفسه يحاول أن يتذكر اسم صاحب دكان البسبوسة التي اختبأ بها قديما ولكن الذاكرة لم تسعفه.

5

كان منظر بيت محمد عفت بالجمالية من المناظر المألوفة المحبوبة لدى أحمد عبد الجواد. هذه البوابة الخشبية التي تبدو من الخارج كأنها مدخل وكالة قديمة، وذلك السور العالي الذي يخفي ما وراءه خلا رءوس الأشجار العالية، أما هذه الحديقة المظللة بأشجار التوت والجميز والمهندسة بأشجار الحناء والليمون والفل والياسمين فشأنها عجيب، وعجيب أيضا بركة المياه التي تتوسطها، ثم الفراندا الخشبية التي تمتد بعرض الحديقة. وكان محمد عفت واقفا على سلم الفراندا ينتظر القادم وهو يحبك عباءته المنزلية، أما علي عبد الرحيم وإبراهيم الفار فقد جلسا على كرسيين متجاورين. وسلم أحمد على الإخوان ثم تبع محمد عفت إلى الكنبة التي تتوسط الفراندا وجلسا معا. وكانت بدانتهم قد زايلتهم جميعا فيما عدا محمد عفت الذي بدا مترهلا كما بدا وجهه شديد الاحمرار، وقد صلع علي عبد الرحيم واشتعلت رءوس الآخرين شيبا، وانتشرت في صفحات الوجوه التجاعيد، وبدا علي عبد الرحيم وإبراهيم الفار أشد إذعانا للكبر، غير أن حمرة وجه محمد عفت كانت بالاحتقان أشبه، وبقي أحمد رغم ضموره وشيبه جميلا صافيا. وكان أحمد يحب هذا المجلس حبا جما، كما يحب منظر الحديقة التي تترامى حتى السور العالي المشرف على الجمالية، وقد مال برأسه إلى الوراء قليلا كأنما ليمكن أنفه العظيم من الارتواء بعبير الفل والياسمين والحناء، وربما أغمض عينيه أحيانا ليخلص لسماع زقزقة العصافير اللاهية فوق أغصان التوت والجميز. غير أن أنبل ما خالط قلبه في تلك اللحظة كان شعور الأخوة والصداقة الذي يكنه لهؤلاء الرجال. كان يرنو بعينيه الزرقاوين الواسعتين إلى وجوههم الحبيبة التي نكرها الكبر فيفيض قلبه بالأسى والحنان عليهم وعلى نفسه. وكان أشدهم تعلقا بالماضي وذكرياته، يفتنه كل ما يذكر بجمال الشباب وصبوة العواطف ومغامرات الفتوة. وقام إبراهيم الفار إلى خوان قريب وضع عليه صندوق النرد فجاء به وهو يتساءل: من يلاعبني؟

فقال أحمد مستنكرا وكان قليلا ما يشترك في ألعابهم: أجل اللعب إلى حين، لا يجوز أن نشغل به عن أنفسنا من أول الجلسة.

فأعاد الفار الصندوق إلى مكانه، ثم جاء نوبي بصينية عليها ثلاثة أقداح شاي وكأس ويسكي بالصودا فتناول محمد عفت الكأس باسما وتناول الثلاثة الآخرون أقداح الشاي. وكان هذا التوزيع الذي يتكرر كل مساء كثيرا ما يضحكهم؛ فقال محمد عفت وهو يلوح بالكأس في يده ويشير إلى أقداح الشاي في أيديهم: عفا الله عن الأيام التي أدبتكم!

فقال أحمد عبد الجواد متنهدا: إنها أدبتنا جميعا، وأنت أولنا، غير أنك قليل الأدب ..

وكان صدر إليهم أمر طبي واحد في أوقات متقاربة من عام واحد بالامتناع عن تناول الخمر، غير أن طبيب محمد عفت سمح له بكأس واحدة في اليوم، وظن أحمد عبد الجواد يومذاك أن طبيب صديقه يتسامح فيما يتشدد فيه طبيبه هو، فما كان منه إلا أن عرض نفسه عليه ولكن الطبيب حذره في جد وحزم قائلا : «إن حالتك غير حالة صديقك»، وقد افتضح أمر سعيه إلى طبيب محمد عفت فكان موضع قفش وتعليق طويلين: وعاد أحمد يقول ضاحكا: لا شك أنك نفحت طبيبك برشوة كبيرة حتى سمح لك بهذه الكأس!

فقال الفار متأوها وهو يرنو إلى الكأس بيد محمد عفت: كدت والله أنسى نشوتها!

فقال له علي عبد الرحيم ممازحا: فسدت توبتك بهذا القول يا عربيد.

فاستغفر الفار ربه ثم تمتم في استسلام: الحمد لله .. - بتنا نحسد على كأس واحدة! أين .. أين النشوات؟!

فقال أحمد عبد الجواد ضاحكا: إذا ندمتم فاندموا على الشر لا على الخير يا أولاد الكلب! - إنك كسائر الوعاظ، ألسنتهم في دنيا وقلوبهم في دنيا أخرى ..

وإذا بعلي عبد الرحيم يقول رافعا صوته إلى درجة جديدة منذرة بتغيير مجرى الحديث: يا رجال! ما رأيكم في مصطفى النحاس؟! الرجل الذي لم تؤثر فيه دموع الملك الشيخ المريض فأبى أن ينسى ثانية واحدة مطلبه الأسمى «دستور سنة 1923» ..

ففرقع محمد عفت بأصابعه وقال في سرور: برافو .. برافو! .. إنه أصلب من سعد زغلول نفسه، من كان يرى الملك الجبار مريضا باكيا ثم يصمد أمامه بهذه الشجاعة النادرة ويردد في ثبات صوت الأمة التي أولته زعامتها قائلا: «دستور سنة 1923 أولا».

وهكذا عاد الدستور، فمن كان يتصور ذلك؟

فقال إبراهيم الفار وهو يهز رأسه في عجب: تصوروا هذا المنظر، الملك فؤاد وقد حطمه المرض والشيخوخة، يضع يده على كتف مصطفى النحاس في مودة بالغة! ثم يدعوه إلى تأليف وزارة ائتلافية، فلا يتأثر النحاس لذلك كله. ولا ينسى واجبه كزعيم أمين، يغفل لحظة واحدة عن الدستور الذي توشك الدموع الملكية أن تغطي عليه، لا يتأثر لشيء من هذا ويقول بشجاعة وصلابة: دستور سنة 1923 أولا يا مولاي.

علي عبد الرحيم محاكيا نفس اللهجة: أو الخازوق أولا يا مولاي!

أحمد عبد الجواد ضاحكا: قسما بمن جرت مقاديره بأن نرى الويسكي بيننا ونتجنبه إنه لموقف عظيم!

وشرب محمد عفت بقية كأسه ثم قال: نحن في عام 1935، ثماني سنوات مرت على موت سعد، وخمسة عشر عاما منذ الثورة، ولا يزال الإنجليز في كل مكان، في الثكنات والبوليس والجيش وشتى الوزارات، الامتيازات الأجنبية التي تجعل من كل ابن لبؤة سيدا مهابا ما زالت قائمة، ينبغي أن تنتهي هذه الحال المؤسفة .. - ولا تنس الجلادين أمثال إسماعيل صدقي ومحمد محمود والإبراشي! - إذا ذهب الإنجليز فلن يبقى لأحد من هؤلاء شأن، ستصبح الانقلابات في خبر كان .. - نعم، وإذا فكر الملك أن يلعب بذيله فلن يجد من يسانده!

وعاد محمد عفت يقول: سيجد الملك نفسه بين اثنتين؛ فإما احترام الدستور وإما السلام عليكم!

فتساءل إبراهيم الفار فيما يشبه الشك: وهل يتخلى عنه الإنجليز إذا طلب حمايتهم؟ - إذا سلم الإنجليز بالجلاء فلماذا يحمون الملك؟

فتساءل الفار مرة أخرى: وهل يسلم الإنجليز بالجلاء حقا؟!

فقال محمد عفت في ثقة من يعتز بثقافته السياسية: لقد دهمونا بتصريح هور فكانت المظاهرات، وكان الشهداء رحمة الله عليهم، ثم كانت الدعوة إلى الائتلاف، ثم عاد دستور سنة 1923، أؤكد لكم أن الإنجليز راغبون الآن في المفاوضة، حقا إن الإنسان لا يدري كيف تنكشف هذه الغمة، كيف يمكن أن يذهب الإنجليز أو ينتهي نفوذ الخواجات، ولكن ثقتنا في مصطفى النحاس لا نهاية لها .. - ثلاثة وخمسون عاما من الاحتلال تنتهي بشوية كلام حول مائدة؟! - كلام قد سبق بدم زكي مسفوح .. - ولو! ..

فقال محمد عفت وهو يغمز بعينه: سيجدون أنفسهم في مركز حرج وسط حالة دولية خطيرة! - يستطيعون أن يجدوا دائما من يؤمن ظهرهم، وإسماعيل صدقي حي لم يمت!

فعاد محمد عفت يقول بلهجة العارف: حادثت كثيرين من المطلعين فوجدتهم متفائلين، يقولون إن العالم مهدد بحرب طاحنة، وإن مصر في فوهة المدفع، وإن من صالح الطرفين الاتفاق المشرف ..

ثم واصل حديثه بعد أن مسح على كرشه في ثقة واطمئنان: إليكم خبرا هاما، وعدت بأن أرشح في دائرة الجمالية في الانتخابات القادمة، وعدني النقراشي نفسه.

وتهللت وجوه الأصدقاء سرورا، ثم لما جاء دور التعليق قال علي عبد الرحيم متصنعا الجد: لا يعيب الوفد إلا أنه يرشح حيوانات أحيانا باسم نواب !

فقال أحمد عبد الجواد كأنما يدافع عن عيب الوفد: وماذا يفعل الوفد؟ إنه يريد أن يمثل الأمة كلها، والأمة أبناء حلال وأبناء سفلة، فمن يمثل أولاد السفلة إلا الحيوانات؟!

فلكزه محمد عفت في جنبه وهو يقول: عجوز وقارح، أنت وجليلة شخص واحد، كلاكما عجوز وقارح! - إني أرضى لو رشحوا جليلة؛ فهي عند اللزوم قد تفرش الملاية للملك نفسه!

وهنا قال علي عبد الرحيم باسما: قابلتها أول أمس أمام عطفتها، ما زالت كالحمل ولكن الكبر أكل عليها وبال!

فقال الفار: صارت معلمة قد الدنيا، بيتها شغال ليل نهار، ويموت الزمار وصباعه بيلعب.

فضحك علي عبد الرحيم طويلا ثم قال: كنت مارا أمام بيتها فرأيت رجلا يتسلل إليه وهو يظن أنه بمأمن من الرقباء، فمن تظنونه كان؟ .. (ثم أجاب وهو يغمز بعينه صوب أحمد عبد الجواد): المحروس كمال أفندي أحمد خوجة مدرسة السلحدار!

ضحك محمد عفت والفار ضحكة عالية، أما أحمد عبد الجواد فقد اتسعت عيناه دهشا وانزعاجا، ثم تساءل في ذهول: كمال ابني؟! - أي نعم، كان ملتفا في معطفه، وعلى عينه نظارته الذهبية. وشاربه الغليظ يختال وقارا، كان يسير في رزانة ومهابة كأنما ليس هو ابن «ضحكجي أغا»، وبنفس الوقار انعطف إلى البيت كأنما ينعطف إلى الجامع الحرام، فقلت له في نفسي: خفف الوطء يا ابن المركوب!

وعلا الضحك، أما أحمد عبد الجواد فلم يكن أفاق من ذهوله ولكنه رأى أن يتخفف منه بالمشاركة في الضحك. وتساءل محمد عفت بلهجة ذات مغزى وهو يحدق في وجه أحمد: ما وجه العجب في ذلك أليس هو ابن حضرتك؟!

فقال أحمد عبد الجواد وهو يهز رأسه عجبا: عرفته دائما مؤدبا مهذبا هادئ الطبع، لا يرى إلا في مكتبته وهو يقرأ أو يكتب حتى أشفقت عليه من الإغراق في الانزواء والإفراط في عمل لا جدوى منه ..

فقال إبراهيم الفار مداعبا: من يدري فلعل في بيت جليلة فرعا من دار الكتب!

وقال علي عبد الرحيم: أو لعله يعتزل في مكتبته لمطالعة كتاب «رجوع الشيخ»، ماذا تنتظر من رجل بدأ حياته بتقرير أن الإنسان أصله قرد!

وضحكوا فضحك معهم أحمد عبد الجواد الذي كان يعلم بخبرته أن الاستسلام للجد في أمثال هذه الأحوال يجعل منه هدفا سهلا للمزاح والقفش، ثم قال: لهذا لا يفكر الملعون في الزواج حتى ظننت به الظنون! - ما عمر المحروس الآن؟ - في التاسعة والعشرين .. - يا سلام! يجب أن تزوجه، لماذا يرغب عن الزواج؟

تجشأ محمد عفت ثم مسح على كرشه وهو يقول: هذه موضة فحسب، ولكن بنات اليوم يزحمن الشوارع فضعفت الثقة بهن، ألم تسمعوا الشيخ حسنين وهو يغني: يا ما نشوف حاجات تجنن، البيه والهانم عند مزين؟ - ولا تنس الأزمة الاقتصادية وضيق المستقبل أمام الشباب، إن خريجي الجامعة يتوظفون بعشرة جنيهات إن وجدوا وظيفة بطلوع الروح!

وتساءل أحمد عبد الجواد في قلق بين: أخاف أن يعرف أن جليلة كانت يوما صاحبتي أو تعرف هي أنه ابني!

فتساءل علي عبد الرحيم ضاحكا: أحسبتها تستجوب الزبائن؟!

فقال محمد عفت وهو يغمز بعينه: لو عرفته الفاجرة، لقصت عليه قصة أبيه من الألف إلى الياء!

فهتف أحمد عبد الجواد وهو ينفخ: لا قدر الله ولا كان ..

فتساءل إبراهيم الفار: أتحسب أن الذي يستطيع أن يعرف أن جده الأول قرد يعجز عن معرفة أن أباه فاسق فاجر؟!

فضحك محمد عفت عاليا حتى سعل، وصمت لحظات ثم قال: الحق أن مظهر كمال خداع؛ رزين هادئ متزمت، خوجة بكل معنى الكلمة ..

فقال علي عبد الرحيم بلهجة الترضية: يا سيدي ربنا يخليه ويطول عمره، ومن شابه أباه فما ظلم ..

فعاد محمد عفت يتساءل: المهم أهو «حلنج» كأبيه؟ .. أعني هل يجيد معاملة النساء والاستحواذ عليهن؟

فقال علي عبد الرحيم: أما هذا فلا أظن! يخيل إلي أنه يظل متقدما برزانته ووقاره حتى يغلق الباب عليه وعلى صاحبة النصيب، ثم يأخذ في نزع ثيابه بنفس الرزانة والوقار، ثم يرتمي عليها، وهو في الغاية من الجد والتجهم، ثم يرتدي ملابسه ويذهب بعين الجد والرزانة كأنما يلقي درسا خطيرا! - يخلق من ظهر الخلنج دهل!

وساءل أحمد عبد الجواد نفسه فيما يشبه السخط: لماذا يبدو لي الأمر غريبا؟! وصمم على أن يتناسى الخبر. ولما رأى الفار يذهب إلى صندوق النرد ويعود به، قال دون تردد إنه آن لهم أن يلعبوا. بيد أن أفكاره ظلت تدور حول الخبر الجديد. وقال لنفسه متعزيا إنه رباه فأحسن تربيته حتى حصل على الشهادة العليا وصار مدرسا محترما فله أن يفعل ما يشاء. ولعله من حسن التوفيق أن يعرف كيف يلهو رغم عوده الرفيع ورأسه وأنفه العظيمين! ولو أنصف الحظ لتزوج كمال منذ سنوات، ولما تزوج ياسين أبدا، ولكن من يدعي القدرة على حل هذه الرموز؟! وإذا بالفار يسأله: متى رأيت زبيدة آخر مرة؟

فأجاب أحمد بعد تذكر: في يناير الماضي. أي منذ عام تقريبا، يوم جاءتني في الدكان لأبيع لها البيت ..

فقال إبراهيم الفار: اشترته جليلة، ثم وقعت المجنونة في حب عربجي كارو فتركها على الحديدة، وهي الآن تقيم بحجرة على سطح بيت سوسن العالمة في حال من الاضمحلال يرثى لها!

فهز أحمد عبد الجواد رأسه في أسف، وتمتم: السلطانة في حجرة فوق السطح! - سبحان من له الدوام.

فقال علي عبد الرحيم: نهاية محزنة، بيد أنها كانت متوقعة ..

فندت عن محمد عفت ضحكة رثاء وقال: فليرحم الله من يأمن إلى هذه الدنيا!

ثم دعا الفار إلى اللعب فتحداه محمد عفت، وسرعان ما التفوا جميعا حول النرد، وأحمد عبد الجواد يقول: ترى من يكون حظه كجليلة، ومن يكون كزبيدة!

6

في إحدى حجرات قهوة أحمد عبده، جلس كمال وإسماعيل لطيف. وهي نفس الحجرة التي كان كمال يجالس فيها فؤاد الحمزاوي في مطلع شبابه. وبالرغم من برودة ديسمبر كان جو القهوة دافئا. إذ إنه بإغلاق مدخلها يسد المنفذ الوحيد لها إلى سطح الأرض، فكان من الطبيعي أن تدفأ وإن انتشرت الرطوبة في جنباتها بدرجة محسوسة. ولم يكن إسماعيل لطيف ليرضى بالجلوس في قهوة أحمد عبده، لولا رغبته في مجاراة كمال. إنه الصديق القديم الذي لم تنقطع بكمال أسبابه، رغم أن مطالب الرزق دفعت به إلى طنطا خبيرا محاسبا مذ تخرج في مدرسة التجارة. فكان إذا عاد إلى القاهرة في إجازة اتصل به تليفونيا بمدرسة السلحدار، ونال منه موعدا للقاء في هذا الركن الأثري. وجعل كمال ينظر إلى صديقه القديم، كما بدا له بمنظره المدمج وملامحه المدببة الحادة، ويعجب لما آل إليه حاله من رزانة وأدب واستقامة، جعلته مثالا طيبا للزوج والأب، هذا الذي كان يوما مثالا فذا للقحة والاستهتار والفظاظة. وصب كمال الشاي الأخضر في قدح صاحبه ثم في قدحه وهو يقول باسما: يبدو أن قهوة أحمد عبده لا تعجبك؟

فارتفع رأس إسماعيل في تطاوله المعهود، وقال: إنها غريبة حقا، ولكن لماذا لا نختار مكانا فوق سطح الأرض؟! - على أي حال هي أنسب مكان للناس المستقيمين أمثالك.

فضحك إسماعيل وهو يهز رأسه في تسليم، كأنما يقر بأنه أصبح جديرا حقا بفضيلة الاستقامة، هو الذي كان وكان، وعند ذلك سأله كمال مجاملا: كيف الحال في طنطا؟ - عال، أما النهار فعمل متواصل في المصلحة، وأما الليل فأقضيه مع زوجي وأولادي. - وكيف حال الأنجال؟ - نحمده، إن راحتهم دائما على حساب تعبنا، ولكن نحمده في جميع الأحوال ...

فسأله كمال مدفوعا بحب الاستطلاع الذي يثيره في نفسه حديث الأسرة بصفة عامة: وهل وجدتهم حقا السعادة الحقيقية، كما يقول العارفون؟ - نعم، إنهم لكذلك. - رغم متاعبهم؟ - رغم كل شيء!

وجعل كمال ينظر إلى صاحبه بفضول أشد، هذا شخص جديد لا يكاد يمت بصلة إلى إسماعيل لطيف الذي زامله فيما بين عامي 1921 و1927، تلك الفترة الفذة من حياته التي عاشها بكل جوارحه، فلم تمض دقيقة من زمانها دون سرور عميق أو ألم شديد، فكانت عهد الصداقة الحقة متمثلة في حسين شداد، وعهد الحب الصادق متبلورا في عايدة، وعهد الحماسة العارمة مستمدة من شعلة الثورة المصرية الرائعة، ثم عهد التجارب العنيفة التي قذف بها الشك والمجون والأهواء، وقد كان إسماعيل لطيف هذا رمز العهد الأخير، ودليله الخطير، فأين هو اليوم من ذاك؟! وعاد إسماعيل لطيف يقول في شيء من التذمر: بيد أن هناك أمورا تشغل بالنا باستمرار، كالكادر الجديد ووقف الترقيات والعلاوات، وأنت تعلم أنني تعودت على الحياة الرغيدة في كنف أبي، ولكن أبي لم يترك ميراثا، ووالدتي بدورها تستهلك كل معاشها؛ لذلك رضيت في سبيل الرزق أن أعمل في طنطا. وهل كان مثلي يرضى بذلك؟!

فضحك كمال قائلا: مثلك ما كان يرضى بشيء!

فابتسم إسماعيل فيما يشبه الزهو اعتزازا بماضيه الحافل الذي هجره بمحض اختياره.

وسأله كمال: ألا تنازعك نقسك إلى معاودة شيء من الماضي؟ - كلا، شبعت من كل شيء، وأستطيع أن أقول بأني لم أضجر من حياتي الجديدة بعد، كل المطلوب مني أن أبدي شيئا من المهارة بين حين وآخر، حتى أفوز ببعض النقود من والدتي، كذلك على زوجي أن تلعب نفس الدور مع أبيها؛ إذ إني ما زلت مغرما بالحياة الرغيدة ..

فلم يملك كمال أن يقول ضاحكا: علمتنا وتركتنا وحدنا في الطريق ..

فضحك إسماعيل ضحكة عالية أعادت إلى وجهه الرزين كثيرا من ملامح الماضي الماكرة، وقال: أآسف أنت على ذلك؟ كلا، أنت تحب هذه الحياة بإخلاص عجيب، غير أنك رجل معتدل، إني فعلت في سنوات لعبي القلائل ما لن تفعل مثله مدى عمرك .. (ثم بلهجة جدية): تزوج وغير حياتك!

فقال كمال بلهجة عابثة: هذا أمر جدير بالتفكير!

ما بين 1924 و1935 خلق إسماعيل لطيف جديد جدير بأن يزوره غواة الأعاجيب. على أي حال إنه الصديق القديم الباقي، أما حسين شداد فقد اختطفته فرنسا من وطنه، وكذلك حسن سليم أمسى الخارج مقامه ومعاشه، لم يعد لهما من سبب في القلب وا أسفاه، ولم يكن إسماعيل لطيف يوما صديق الروح. ولكنه ذكرى حية من الماضي العجيب؛ لذلك فهو خليق بأن يعتز به، وأعتز به أيضا لوفائه، لا مسرة روحية في مصاحبته، ولكنه آية حية على أن الماضي لم يكن خيالا؛ ذلك الماضي الذي أحرص على إثبات حقيقته حرصي على الحياة نفسها، ترى ماذا تصنع عايدة في هذه اللحظة من الزمان؟ وأين هي من عالم المكان؟ وكيف استطاع القلب أن يبرأ من مرض حبها؟! كل أولئك أعاجيب .. - إني معجب يا سيد إسماعيل، أنت شخص جدير بكل توفيق ..

وألقى إسماعيل نظرة على ما حوله، استعرض بها السقف والفوانيس والحجرات والوجوه الحالمة والعاكفين على السمر واللعب، ثم تساءل: ماذا يعجبك في هذه القهوة؟

فلم يجبه كمال على سؤاله، ولكنه قال بلهجة آسفة: أما علمت؟! سوف تهدم في القريب ليقام على أنقاضها عمارة جديدة، سيختفي هذا الأثر إلى الأبد! - مع ألف سلامة، فلتختف هذه المقبرة ليقوم فوقها عمران جديد.

أنطق بالحق؟ ربما، ولكن للقلب لواعجه، يا قهوتي العزيزة أنت قطعة من نفسي، فيك حلمت كثيرا وفكرت كثيرا، وفيك سكن ياسين أعواما، واجتمع فهمي بالثوار؛ ليفكروا ويعملوا من أجل عالم أفضل، ثم أني أحبك لأنك مصنوعة من مادة الحلم، ولكن ما جدوى هذا كله؟! وما قيمة الحنين إلى الماضي؟! ربما ظل الماضي أفيونة أصحاب القلوب، وأشقى ما تصاب به أن تكون ذا قلب حنون وعقل شاك! فلنقل أي كلام ما دمنا لا نؤمن بشيء. - في هذا صدقت، إني أقترح أن يهدموا الهرم إذا وجدوا لأحجاره فائدة ما للمستقبل! - الهرم! ما دخل الهرم في قهوة أحمد عبده؟! - أعني الآثار، أعني أن نهدم كل شيء في سبيل اليوم والغد.

فضحك إسماعيل لطيف، وتطاول بعنقه - كما كان يفعل قديما كلما تحدى - ثم قال: أحيانا تكتب كلاما يناقض هذا القول، إني كما تعلم أقرأ بين حين وآخر مجلة الفكر إكراما لك، وسبق أن صارحتك برأيي، إي نعم، مقالاتك عسيرة، المجلة كلها جافة والعياذ بالله، لم أستطع المثابرة على اقتنائها لأن زوجتي لا تجد فيها شيئا يقرأ، ولا تؤاخذني فهذا قولها! أقول إني وجدت أحيانا فيما تكتب نقيض ما تقول الآن، ولكني لا أزعم أني أفهم كثيرا - وبيني وبينك ولا قليلا - مما تكتب، وبهذه المناسبة أليس من الأفضل أن تكتب كما يكتب الكتاب المحبوبون؟ لو فعلت لوجدت جمهورا كثيرا، ولربحت مالا وفيرا ..

في زمن مضى كان يحتقر مثل هذا الرأي في عناد وثورة، الآن ما زال يحتقره ولكن دون ثورة، لكنه يشك في هذا الاحتقار، لا لشبهة في أنه في غير موضعه، ولكن لأنه يرتاب أحيانا في قيمة ما يكتب، وربما ارتاب في ارتيابه نفسه، وسرعان ما اعترف فيما بينه وبين نفسه بأنه قد ضاق بكل شيء ذرعا، وأن الدنيا تبدو أحيانا كلفظة قديمة اندثر معناها. - إنك لم ترض يوما عن عقلي!

إسماعيل وهو يقهقه: أتذكر؟ يا لها من أيام!

أيام مضت، لم تعد نيرانها تحرق، لكنها مصونة في موضعها كالجثة العزيزة أو كعلبة الملبس المستكنة في مكانها منذ ليلة عائدة .. - ألم يبلغك شيء عن حسين شداد أو حسن سليم؟!

رفع إسماعيل حاجبيه الكثيفين، وقال: ذكرتني! حدثت أمور في العام الماضي الذي قضيته بعيدا عن القاهرة ..

ثم استطرد في اهتمام متزايد: علمت حال عودتي من طنطا أن أسرة شداد انتهت.

تفجرت في قلب كمال ثورة اهتمام طاغية، وعانى كثيرا وهو يغالب آثارها الظاهرة، ثم تساءل: ماذا تعني؟ - أخبرتني والدتي أن شداد بك أفلس، التهمت البورصة آخر مليم في حوزته، انتهى شداد، ثم إنه لم يتحمل الصدمة فانتحر! - يا له من خبر! متى حدث ذلك؟ - منذ أشهر، وضاع القصر الكبير فيما ضاع من متاع؛ ذلك القصر الذي عشنا في حديقته زمنا لا ينسى ..

أي زمن، وأي قصر، وأي حديقة، أي ذكريات، أي ألم نسي، أي نسيان مؤلم، الأسرة الرفيعة، الرجل العظيم، الحلم الكبير، أليس هذا الجيشان أضخم مما ينبغي أن يستدعيه الحال؟! وهذه الخفقة التي تمخض عنها القلب أشد مما تستحق ذكريات عفى عليها النسيان.

قال كمال بصوت حزين: انتحر البيك، وضاع القصر، ولكن ما مصير أهله؟

قال إسماعيل في امتعاض: لم تعد لأم صديقنا إلا خمسة عشر جنيها شهريا من ريع وقف، وقد انتقلت إلى شقة متواضعة بالعباسية، وقد زارتها والدتي فعادت تصف حالها وهي تبكي، تلك السيدة التي تقلبت في نعيم لا يتصوره الخيال، ألا تذكر؟

يذكر ولا شك، أم يظنه نسي؟ يذكر الحديقة والكشك والنعيم الذي كان يترنم به الهواء، ويذكر السرور والحزن، بل إنه الساعة حزين حقا، إن الدموع تطرق أبواب عينيه الخلفية، ولن يحق له أن يحزن بعد الساعة على قهوة أحمد عبده التي يتهددها الزوال، فكل شيء ينبغي أن ينقلب رأسا على عقب. - إنه لشيء محزن، ومما يضاعف الحزن أننا لم نقم بواجب العزاء، ترى ألم يعد حسين من فرنسا؟ - لا شك أنه عاد عقب الحادث، كذلك حسن سليم وعايدة، ولكن لا أحد منهم في مصر الآن. - وكيف عاد حسين تاركا أسرته على حالها؟ ومن أين له أن ينفق بعد إفلاس والده؟ - سمعت أنه تزوج هناك، ولا يبعد أن يكون قد وجد عملا في أثناء إقامته الطويلة في فرنسا، لا أدري شيئا عن هذا، فأنا لم أره منذ ودعناه معا، كم مضى على ذلك؟ عشرة أعوام على وجه التقريب. أليس كذلك؟ إنه تاريخ قديم، كم أثار شجوني!

كم وكم، أما هو فالدموع لا تزال تطرق أبواب عينيه الخلفية، إنها لم تفتح منذ ذلك العهد وعلاها الصدأ، وقلبه يقطر حزنا، فيذكر بذلك القلب الذي اتخذ من الحزن شعارا، إن هذا الخبر قد رجه رجا عنيفا حتى كاد ينفض عنه الحاضر كله، ويكشف عن الإنسان القديم الذي كان حبا خالصا وحزنا خالصا، أهذه هي نهاية الحلم القديم؟ الإفلاس والانتحار! كأنما قضي بأن تؤدبه هذه الأسرة بأدب الآلهة الساقطين! الإفلاس والانتحار، وإذا كانت عايدة لا تزال في بحبوحة من العيش بفضل مكانة زوجها، فماذا طرأ على كبريائها الملائكي؟ وهل هبطت الأحداث بشقيقتها الصغيرة إلى ... - كان لحسين أخت صغيرة: ما اسمها؟ إني أذكره حينا وأنساه أحيانا كثيرة! - بدور، إنها تعيش مع والدتها وتقاسمها متاعب الحياة الجديدة ..

تصور آل عايدة في حياة متواضعة! كحياة هؤلاء الناس حولنا، فهل تمضي بدور يوما بجورب مرفو؟ وهل تتخذ من الترام مركبا؟ أو تتزوج من موظف بمصلحة كذا؟ ولكن ماذا يهمه من ذلك كله؟ آه .. لا تغالط نفسك فأنت اليوم حزين ومهما يكن لعقلك من رأي في الطبقات وفوارقها، فإنك تشعر من جراء هذا الانقلاب بانهيار مخيف، ويعز عليك أن تسمع بأن مثلك العليا تتمرغ في التراب، فلتهنأ على أي حال بأنه لم يبق من الحب شيء، أجل .. ماذا بقي من الحب القديم؟ إذا قال لا شيء فإن قلبه يخفق في حنان عجيب عند تردد أي أغنية من أغاني ذلك العهد، رغم ابتذال ألفاظها ومعانيها وأنغامها، فما معنى ذلك؟ لكن مهلا، إنها ذكرى الحب لا الحب نفسه، ونحن نحب الحب في جميع الأحوال خاصة الأحوال التي لا حب فيها، أما في هذه اللحظة فإني أشعر كأني غريق في بحر الهوى؛ ذلك أن المرض الكامن ينفث سمومه حين الضعف الطارئ، وما الحيلة ما دام الشك الذي زلزل الحقائق جميعا يقف عند الحب في حذر، لا لأنه شيء فوق الشك، ولكن احتراما للحزن، وحرصا على حقيقة الماضي.

وعاد إسماعيل إلى المأساة سائقا كثيرا من التفاصيل، حتى ضاق بها فيما بدا، فقال بلهجة من يود الفراغ من السيرة كلها: الدوام الله، إنه شيء مؤسف حقا، ولكن حسبنا نكدا ..

ولم يحاول كمال أن يدعوه إلى مزيد. كان فيما قال الكفاية. إلى أن وجد رغبة إلى الصمت والتأمل. وكان يبكي بكاء صامتا بدموع غير منظورة يذرفها قلبه. وأدهشه ذلك بصفته مريضا قديما قد برئ من مرضه، وقال لنفسه متعجبا: تسعة أعوام أو عشرة! ما أطولها وما أقصرها، ترى ما صورة عايدة الآن؟ كم يود أن يديم إليها النظر؛ ليطلع على سر ذلك الماضي الساحر. بل ليقف على سر نفسه. إنه الآن لا يراها إلا لمحا خاطفا في نغمة قديمة معادة، أو صورة في إعلان صابون، أو من سباته كالفزع وهو يهمس: هذه هي .. ولكن ما هي على الحقيقة قسمة من قسمات نجمة سينمائية، أو ذكرى متسللة، فيستيقظ والواقع؟! ونبا به مجلسه، فتاقت نفسه إلى رحلة مغامرة في دنيا الغيب، فقال لإسماعيل: أتقبل دعوتي إلى كأسين في مكان لطيف مأمون؟

فقهقه إسماعيل قائلا: إن زوجتي تنتظرني؛ لنذهب معا إلى زيارة خالتها ..

ولم يكترث لرفض دعوته. طالما كانت نفسه نديمه. وغادرا المكان وهما يتبادلان الحديث: أي حديث: وفيما بين ذلك قال كمال لنفسه : قد نضيق بالحب إذا وجد، ولكن شد ما نفتقده إذا ذهب.

7

مليح هذا المجلس .. غير أن اليد قصيرة، من هذا الموضع الدافئ ترى الغادي والرائح .. من شارع فاروق وإليه .. ومن الموسكي وإليه .. ومن العتبة وإليها، ولولا برودة يناير القاسية لما توارى المشتاق وراء زجاج القهوة، تاركا رغم أنفه الركن البديع التابع للقهوة على الطوار المقابل، ولكن سيأتي الربيع يوما .. أجل سيأتي، غير أن اليد قصيرة، ستة عشر عاما أو يزيد وأنت حبيس الدرجة السابعة، دكان الحمزاوي بيع بأبخس الأثمان .. وربع الغورية على ضخامته لا يدر إلا جنيهات .. أما بيت قصر الشوق فمسكني ومأواي، وإذا كان لرضوان جد غني؛ فكريمة لا عائل لها غيري، رب أسرة وعشيق، ولكن للأسف اليد قصيرة.

وفجأة وقعت عيناه الحائرتان على شاب طويل نحيل ذي شارب مربع ونظارة ذهبية، يخطر في معطفه الأسود قادما من الموسكي. متجها نحو العتبة، فابتسم ونهض بنصفه الأعلى كأنما يهم بالقيام، ولكنه لم يفارق مجلسه. ولولا أن الشاب كان مسرعا لمضى إليه ودعاه إلى مجالسته. كمال خير سمير حين الضجر، لم يخطر الزواج له على بال رغم اقترابه من الثلاثين، لم تعجلت الزواج قبل الأوان؟ ولم وقعت فيه مرة أخرى قبل أن أفيق من لطمته الأولى؟ ولكن من ذا الذي لا يشكو؛ أعزب كان أم متزوجا؟ وكانت الأزبكية ملاذا ومتعة، ثم حل بها البوار فهي اليوم بؤرة الحثالة والسفلة، لم يبق لك من عالم المسيرات إلا لذة المشاهدة في هذا المفرق من الطرق، ثم، الصيد الرخيص، وخير الصيد الرخيص خادمة مصرية من العاملات في الأسر الإفرنجية .. فهي في الغالب مهذبة المظهر نظيفة، أما سيد مزاياها دون منازع فضعف الخلق، وتوجد أكثر ما توجد بسوق الخضار بميدان الأزهار.

كان قد فرغ من حسو قهوته، وجلس وراء زجاج النافذة المغلقة يرسل طرفه إلى ملتقى الطرق، يتابع كل ذات حسن، فتنطبع على عدسة عينه صور النساء من ذوات المعاطف والملاءات اللف، يراهن كلا وأجزاء في مثابرة لا تعرف الكلال. كان يجلس أحيانا فيطول به الجلوس حتى العاشرة، وفي أحيان أخرى ربما لم يطل به الجلوس إلا ريثما يشرب قهوته، ثم ينهض مسرعا في أثر صيد قد آنس منه استجابة ورخصا، كأنه تاجر روبابيكيا. ولكنه كان يقنع في الغالب بالمشاهدة، وربما تبع الحسناء دون مقصد جدي، أما الإقدام الحق، كأن يصطاد خادما خليعة أو أرملة فوق الأربعين، فكان يقع على فترات وفي حرص شديد؛ إذ إنه لم يعد الرجل الذي كان؛ لا لأن الموارد قد ناءت بالأعباء فحسب، ولكن لسن الأربعين التي نزلت به ضيفا دون دعوة أو استئذان. يا لها من حقيقة مرعبة! «وشعرة بيضاء في عارضي طالما أوصيت الحلاق بمعالجتها، وقال الحلاق إن أمر الشعرة هين، ولكن الشيب لا يلبث أن ينفجر. تبا لهما، للحلاق وللشيب، ووصف الرجل صبغة مفيدة ولكني لن ألجأ إليها، بيد أن أبي بلغ الخمسين دون أن تحترق له شعرة، أين أنا من أبي؟! لا في الشيب وحده؛ كان شابا في الأربعين، وكان شابا في الخمسين، أما أنا! رباه، لم أفرط أكثر مما فرط أبي ...» أرح رأسك وأتعب قلبك. ترى أكانت حياة هارون الرشيد حقا كما يرويها الرواة؟ أين زنوبة من هذا كله؟! جانب من الزواج خدعة بنت كلب، ولكن قوته في أنك تحتضن الخدعة ما حييت، وسوف تدول دول وتنقلب أزمان، ولم يزل الدهر يتمخض عن امرأة سارحة ورجل جاد في أثرها، الشباب لعنة، والكهولة لعنات، فأين راحة القلب أين؟ وأتعس ما في الدنيا أن تتساءل يوما ذاهلا أين أنا!

وغادر القهوة في منتصف العاشرة، فقطع العتبة متمهلا إلى شارع محمد علي، ثم مال إلى حانة «النجمة»، وحيا «خالو» الماثل وراء البار في وقفته التقليدية، فرد الرجل تحيته بابتسامة عريضة كشفت عن أنياب صفر مثرمة، ثم أشار بذقنه إلى الحجرة الداخلية كأنما ليخبره بأن أصحابه في الانتظار. وكان يمتد أمام البار دهليز ينتهي إلى ثلاث حجرات متداخلة يضج جوها بالعربدة، فمضى إلى الأخيرة منها، ولم يكن بها إلا نافذة واحدة ذات قضبان حديدية تطل على عطفة الماوردي، قد صفت بها ثلاث موائد متفرقة في الأركان، خلت اثنتان وأحدق بالثالثة أصحابه الذين استقبلوه مهللين، شأنهم كل مساء. كان ياسين - رغم شكواه - أصغرهم سنا، أما أكبرهم فكان أعزب من أصحاب المعاشات، يليه في مجلسه باشكاتب بالأوقاف، فرئيس المستخدمين بإدارة الجامعة، ثم محام من ذوي الأملاك غير مشتغل. كان الإدمان يلوح في سحناتهم نظرة ذابلة وبشرة محتقنة أو بالغة الشحوب، وكانوا يتوافدون إلى الحانة فيما بين الثامنة والتاسعة فلا يفارقونها إلا في الهزيع الأخير من الليل، يتجرعون أردأ أنواع الخمر وأشدها مفعولا وأرخصها ثمنا، غير أن ياسين لم يكن يلازمهم من البداية إلى النهاية، أو لم يكن يفعل ذلك إلا في القليل النادر، وفيما عدا ذلك فكان يمضي معهم ساعتين أو ثلاثا كيفما اتفق؛ وكالعادة استقبله الأعزب العجوز قائلا: أهلا بالحاج ياسين ..

وكان يصر على وصفه بالحاج إكراما لاسمه المبارك، أما المحامي وكان أشدهم إدمانا فقال: تأخرت يا بطل، حتى قلنا لقد عثر في امرأة ستحرمنا من أنسه الليلة كلها.

فعلق الأعزب العجوز على كلام المحامي متفلسفا: لا يفرق بين الرجل والرجل إلا امرأة!

فقال له ياسين مداعبا، وكان قد جلس فيما بينه وبين باشكاتب الأوقاف: لا خوف عليك من هذه الناحية ..

فقال العجوز وهو يرفع الكأس إلى فيه: إلا لحظات شيطانية؛ فقد تستثيرني بنت في الرابعة عشرة ..

فقال الباشكاتب: الاسم لطوبة والفعل لأمشير! - لا أفهم ما تقصد بهذا الكلام البارد. - ولا أنا فاهم!

وجاء خالو بالكأس والترمس، فتناول ياسين الكأس وهو يقول: يناير هذا العام شايف كيفه.

فقال رئيس المستخدمين: لله في خلقه شئون، جاء يناير بالبرودة ولكنه ذهب بتوفيق نسيم إلى غير رجعة!

فصاح المحامي: أنقذونا من السياسة، ما زلنا نسكر ونمز بالسياسة حتى أخمدت أنفاسنا، شوفوا حكاية ثانية ..

فقال رئيس المستخدمين: حياتنا في الواقع سياسية ولا شيء غير هذا .. - أنت رئيس مستخدمين درجة سادسة، ما لك أنت والسياسة؟!

فقال الرئيس محتدا: درجة سادسة قديم من فضلك، من أيام سعد!

فقال الأعزب العجوز: أنا درجتي السادسة من أيام مصطفى كامل؛ لذلك أحلت بها على المعاش إكراما لذكراه .. اسمعوا، أليس من الأفضل أن نسكر ونغني؟

فقال ياسين وهو يهم بإفراغ كأسه: لنسكر أولا يا والدي ..

لم يتمتع ياسين في حياته بنعمة الصداقة العميقة، ولكنه كان له في كل مجلس - قهوة أو حانة - أصحاب، وكان يألف بسرعة ويؤلف بأسرع من ذلك. ومنذ اتخذ هذه الحانة - تبعا لتطور حالته المادية - مجلسا ليليا مختارا عرف هذه الجماعة، وتوثقت أسباب السمر بينهم، غير أنه لم يقابل أحدا منهم في الخارج، ولم يسع إلى ذلك. جمع بينهم الإدمان والاسترخاص، وكان رئيس المستخدمين أرقاهم مركزا، ولكنه كان كثير العيال، أما المحامي فقد جاء هذه الحانة جريا وراء سمعة خمرها القوية، بعد أن لم تعد تؤثر فيه الخمور النظيفة إلا في النادر، ثم ألفها واعتادها، وجعل ياسين يشرب ويثرثر، قاذفا بنفسه في دوامة العربدة التي تجتاح المكان وترتطم بأركانه. وكان العجوز الأعزب أحب أفراد الجماعة إليه. ولم يكن يشبع من مداعبته خاصة فيما يتعلق بالرموز الجنسية، فكان الرجل يحذره من الإفراط، ويذكره بمسئولياته العائلية، فيقول له ياسين في استهانة ومباهاة: «نحن قوم خلقنا لهذا، هكذا أبي، وهكذا كان جدي من قبل.» وأعاد هذا القول في هذه السهرة، فتساءل المحامي مازحا: وأمك؟ .. أكانت كذلك أيضا؟

وضحكوا كثيرا، وضحك ياسين، غير أن قلبه غاص في صدره متوجعا، وأفرط في الشراب، وخيل إليه رغم نشوته أنه يتدهور، فلا المكان مكانه، ولا الخمر خمره، ولا اليوم يومه «وفي كل مكان يتغامزون علي، فأين أنا من أبي؟ ليس أتعس من أن يزيد عمرك وتنقص نقودك، بيد أن رحمة الشراب واسعة، تفيض عليك أنسا، أنسا رقيقا وعزاء جميلا يهون عنده كل خطب، فقل ما أعظم مسرتي، لن يعود العقار الذي ضاع، ولا الشباب الذي انقضى، ولكن الخمر تصلح أن تكون خير رفيق على مدى العمر، رضعتها شابا يافعا، وها هي تؤنس رجولتي، وسوف يهتز لها طربا رأسي المجلل بالمشيب، بذلك يفرح مني القلب رغم العناء، وغدا عندما يستوي رضوان رجلا وتتهادى كريمة عروسا ، أشرب أنخاب السعادة في العتبة الخضراء، فما أعظم مسرتي.»

وإذا بالجماعة تغني: «أسير العشق يا ما يشوف هوان» ثم غنت: «يا جارة الوادي» في جو صاخب وأصوات معربدة، فردد الغناء أقوام من سائر الحجرات والدهليز، ثم ساد صمت مرهق فعاد رئيس المستخدمين يتحدث عن استقالة توفيق نسيم، ويتساءل عن المعاهدة التي تهدف إلى حماية مصر من خطر إيطاليا؛ ذلك الجار الثقيل القائم في ليبيا، فما كان من الجماعة إلا أن رددت في صوت واحد: «ارخى الستارة اللي في ريحنا .. أحسن جيرانا تجرحنا» ورغم إفراط العجوز في الشراب والعربدة؛ فقد احتج على هذه الإجابة الماجنة، ورماهم بالهذر فيما يليق به الجد. فأجابوه في صوت واحد مرددين: «صحيح خصامك والا هزار» فلم يسع الشيخ إلا أن يضحك، وأن يعود إلى مشاركتهم بلا تحفظ.

وغادر ياسين الحانة عند منتصف الليل، فبلغ بيته في قصر الشوق حوالي الواحدة صباحا. وكعادته كل ليلة جعل يمر بحجرات شقته كأنما يقوم بجولة تفتيشية، فوجد رضوان في حجرته يذاكر، وقد رفع الشاب رأسه عن كتاب القانون؛ ليتبادل مع والده ابتسامة. وكان الحب بينهما عميقا، كذلك الاحترام رغم أن رضوان كان يعلم أن والده لا يعود هذه الساعة إلا ثملا. أما ياسين فكان يعجب بجمال ابنه أيما إعجاب، كما يعجب بذكائه واجتهاده، ويرى فيه وكيل نيابة المستقبل الذي سيرفع من شأنه، ويعز من كبريائه، ويعزيه عن أمور كثيرة، سأله: كيف تجد دروسك؟

وأشار إلى نفسه كأنما يقول له: «نحن هنا.» فابتسم رضوان، وابتسمت فيه عينا جدته هنية المكحولتان، فعاد أبوه يسأل: أيزعجك إذا درت الفونوغراف؟ - أما عني فلا. ولكن الجيران نائمون في هذه الساعة المتأخرة.

فابتعد عن الحجرة وهو يقول هازئا: نوم العافية!

ومر بحجرة نوم «الأولاد» فوجد كريمة تغط في نومها على فراش صغير، على حين بقي فراش رضوان في الجانب الآخر من الحجرة خاليا ينتظر فراغه من مذاكرته. وخطر له لحظة أن يوقظها ليداعبها، ولكنه ذكر ما يصحب إيقاظها في تلك الساعة من تذمر فعدل عن خاطرته . واتجه صوب حجرته. أجمل الليالي في هذا البيت حقا هي ليلة الجمعة، تلك العطلة المقدسة. فإذا عاد إلى بيته ليلة الجمعة - بصرف النظر عن الساعة التي يعود فيها - فإنه لا يتردد في أن يدعو رضوان إلى مجلسه بالصالة، ثم يوقظ كريمة وزنوبة، ويدير الفونوغراف، ويمضي في محادثتهم وممازحتهم حتى الهزيع الأخير من الليل. كان مغرما بأسرته - خاصة رضوان - أجل لم يكن يشغل نفسه - أو لم يكن لديه الوقت - ليتابعهم برعايته وتوجيهه، تاركا أمرهم لعناية زنوبة وحكمتهم الفطرية! ومهما يكن الأمر فإنه لم يطق لحظة واحدة أن يمثل حيالهم الدور القاسي الذي مثله أبوه حياله، وكره من صميم قلبه أن يخلق في قلب رضوان شعور الرهبة والخوف الذي كان يجده نحو أبيه! والحق أنه لم يكن يستطيع ذلك حتى لو أراده. وعندما كان يجمعهم حوله بعد منتصف الليل كان يفصح عن ولعه بهم دون تحفظ، وهو في نشوة من الخمر والحب، كان يمازحهم ويسامرهم، وربما قص عليهم نوادر السكارى الذين صادفهم في الحانة، غير عابئ بأثر ذلك في الأنفس البريئة، مستهينا باحتجاجات زنوبة التي تومئ بها إليه من وراء وراء، فيبدو وكأنما نسي نفسه وجرى على سجيته دون حذر أو مبالاة.

وفي حجرته وجد زنوبة - كالعادة - نائمة وليست بنائمة. هكذا كانت أبدا، فقبل أن يلج الحجرة يترامى إليه شخيرها، حتى إذا توسطها تحركت وفتحت عينيها وقالت بلهجتها الساخرة: «حمدا لله على السلامة.» ثم تنهض لمعاونته على خلع ثيابه وترتيبها. وقد بدت في صورتها الطبيعية أكبر من سنها، وكثيرا ما ظنها تماثله سنا، ولكنها باتت أليفته واشتبكت جذورها بجذوره؛ تلك الغانية القديمة التي نجحت في معاشرته فيما لم تنجح فيه سيدة من قبل، فأرست حياته الزوجية على أساس متين، نعم لقد انتابت حياتهما في أول الأمر معارك وعلا بها زئير ولكنها بدت دائما حريصة على حياتهما الزوجية كل الحرص. ومع الأيام صارت أما، ومنيت بالثكل، فلم يبق لها إلا كريمة، غير أن ذلك دعاها إلى مضاعفة الاستمساك بحياتها الزوجية، خاصة بعد أن تهددها الذبول وناوأها الكبر المبكر، ثم علمتها الأيام أن تتحلى بالصبر والمهادنة، وأن تتمرس بدور «السيدة» بكل معنى الكلمة، وغالت في ذلك إلى حد أنها لم تكن تتبرج خارج بيتها حتى فازت أخيرا باحترام بين القصرين، والسكرية إلى حد ما! وكان من حسن سياستها أن تحمل نفسها على معاملة رضوان معاملة كريمة بالغة الرقة والمودة، على الرغم من أنها لم تكن تجد نحوه حبا، خاصة بعد أن ثكلت في الذكر الوحيد الذي أنجبته لياسين، وكانت رغم تغيرها شديدة العناية بحسن هندامها وأناقتها ونظافتها، وقد لاحظها ياسين باسما وهي تعيد ترتيب شعرها أمام المرآة، ومع أنه كان يضيق بها أحيانا إلى حد الضجر، إلا أنه كان يشعر بحق بأنها أصبحت شيئا ثمينا في حياته لا يمكنه الاستغناء عنه بحال. وجاءت بشال فتلفعت به وهي تقفقف من البرد، وقالت متشكية: ما أشد البرد! هلا رحمت نفسك من السهر في الشتاء؟!

فقال ساخرا: الخمر تغير الفصول كما تعلمين، لم تتعبين نفسك بالاستيقاظ؟

فنفخت قائلة: فعلك متعب وكلامك متعب!

بدا في جلبابه كالمنطاد، ومسح بيده على كرشه وهو يرنو إلى المرآة في ارتياح، وكانت عيناه السوداوان تشتعلان، ثم ضحك فجأة قائلا: لو رأيتني وأنا أتبادل التحية مع العساكر! أمسى عساكر آخر الليل أصدقائي الأعزاء!

فغمغمت وهي تتنهد: يا فرحتي!

8

كان منظر رضوان ياسين وهو يسير في الغورية بخطواته المتئدة مما يلفت الأنظار حقا. كان في السابعة عشرة من عمره، مكحول العينين، متوسط القامة مع ميل خفيف إلى الامتلاء، أنيق الملبس إلى حد التبرج، ينتسب ببشرته الوردية إلى آل عفت؛ فهو يشع بهاء ونورا، وتنم حركاته عن دلال من لا يخفى عليه جماله، وعندما مر بالسكرية اتجه رأسه إليها فيما يشبه الابتسام، وذكر لتوه عمته خديجة وابنيها عبد المنعم وأحمد، فوجد لذكرهما شعورا لا يخلو من فتور، والحق أنه لم يجد من نفسه مشجعا - ولو مرة - على أن يتخذ أحدا من أقربائه صديقا بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة. وسرعان ما اجتاز بوابة المتولي، ثم مال إلى الدرب الأحمر ، حتى بلغ به المسير باب بيت قديم فطرقه وانتظر، وفتح الباب عن وجه حلمي عزت، صديق صباه، وزميله اليوم بكلية الحقوق، ومنافسه - فيما بدا - في الجمال. وتهلل وجه حلمي لرؤياه، ثم تعانقا وتبادلا قبلة كعادتهما عند اللقاء. ومضيا معا يصعدان السلم، وفي أثناء ذلك جعل حلمي ينوه بربطة رقبة صديقه وتجاوب لونها مع قميصه وجوربه، وكان يضرب بهما المثل في الأناقة وحسن الذوق، فضلا عن أن اهتمامهما بالملابس والموضة لم يكن دون اهتمامهما بالسياسة أو دراسة القانون. وانتهيا إلى حجرة كبيرة عالية السقف، دل وجود الفراش والمكتب بها على أنها معدة للنوم والمذاكرة معا. والحق أنهما طالما سهرا بها يذاكران، ثم ناما جنبا إلى جنب على الفراش الكبير ذي الأعمدة السوداء والناموسية. ولم يكن بيات رضوان خارج البيت بالشيء الجديد؛ فقد اعتاد منذ صباه أن يدعى إلى أكثر من بيت لقضاء عدة أيام، كبيت جده محمد عفت بالجمالية، أو بيت أمه بالمنيرة التي لم تنجب غيره رغم زواجها من محمد حسن؛ ولذلك؛ ولميل أبيه الطبيعي إلى اللا مبالاة، وترحيب زنوبة الخفي بكل ما يبعده عن بيتها ولو إلى حين، لم يجد معارضة في البيات عند صديقه في مواسم المذاكرة، ثم صار الأمر بعد ذلك مألوفا فلم يكن أحد ليعيره أي اهتمام. وفي مثل هذا الجو من اللا مبالاة نشأ حلمي عزت. توفي أبوه - وكان مأمور قسم - منذ عشرة أعوام. وفي ذلك الوقت كانت أخواته الست قد تزوجن، فعاش وحده مع أمه العجوز. ووجدت المرأة صعوبة في بادئ الأمر في السيطرة عليه، ثم ما لبث أن صار هو المسيطر على البيت كله. وكانت المرأة تعيش على معاش زوجها الصغير، وإيجار الدور الأول من بيتها القديم، فلم تعرف الأسرة الحياة الرهيفة منذ وفاة الأب، ولكن حلمي لم يعجز عن مواصلة حياته المدرسية حتى التحق بكلية الحقوق، محافظا في أثناء ذلك كله على ما تتطلبه حياته من مظاهر الاحترام. وكان سرور حلمي بلقاء صديقه لا يعادله سرور، ولم تكن تطيب له أوقات العمل أو الراحة إلا به؛ لذلك بعث وجوده في نفسه نشاطا وحماسة، فأجلسه على الكنبة الملاصقة لباب المشربية وجلس إلى جانبه، وراح يفكر في اختيار موضوع - وما أكثر المواضيع لمحادثته، غير أن نظرة واجمة لاحت في عيني رضوان اعترضت تيار حماسه، فرنا إليه متسائلا، ثم خمن ما هنالك فتمتم: زرت والدتك؟ أراهن أنك قادم من هناك ..

أدرك رضوان أن صدق تخمين صاحبه يرجع إلى وجهه هو، فلاح الضجر في عينيه، وهز رأسه بالإيجاب دون أن يتكلم، فسأله حلمي: وكيف حالها؟ - عال ..

ثم وهو يتنهد: ولكن هذا المدعو محمد حسن! أنت لم تعرف معنى أن يكون لأمك زوج غير أبيك!

فقال حلمي مواسيا: كثيرا ما يقع هذا، لا عيب فيه، ثم إنه شيء قديم!

فهتف رضوان حانقا: لا لا لا، إنه دائما في البيت، لا يبرحه إلا إلى عمله في الوزارة، نفسي مرة أزورها فأجدها وحدها، ويطيب له أن يمثل دور الوالد والمرشد، سحقا له، وعند كل مناسبة يذكرني بأنه رئيس أبي في إدارة المحفوظات. ولا يتردد عن انتقاد مسلكه في عمله، ولكني من ناحيتي لا أسكت له ..

وصمت دقيقة حتى يهدأ انفعاله، ثم واصل حديثه: أمي حمقاء إذ رضيت أن تتزوج من هذا الرجل، ألم يكن الأفضل أن تعود إلى أبي؟

وكان حلمي يعرف الكثير عن سيرة ياسين المشهورة، فقال باسما: في العشق يا ما كنت أنوح!

فلوح رضوان بيده معاندا، وهو يقول: ولو! إن ذوق النساء سر مخيف والأدهى من ذلك أنها فيما يبدو راضية! - لا تسع وراء ما ينغص صفوك ..

فقال رضوان في نبرات حزينة: يا للعجب، إن جانبا عريضا من حياتي ينضح بالتعاسة، إني أمقت زوج أمي ولا أحب امرأة أبي، جو مشحون بالبغضاء إن أبي - كأمي - لم يحسن الاختيار، ولكن ماذا في وسعي أن أفعل؟! وامرأة أبي تحسن معاملتي ولكن لا أتصور أنها تحبني، هذه الحياة ما أرذلها!

وجاءت خادم عجوز بالشاي، فتحلب ريق رضوان الذي عانى في الطريق من رياح فبراير القاسية. وساد الصمت وهما يذيبان السكر، وتغير تعبير وجه رضوان فآذن ذلك بإنهاء السيرة المحزنة، ورحب حلمي بذلك فقال في ارتياح: تعودت المذاكرة معك، فلا أدري كيف أذاكر وحدي ..

فابتسم رضوان متجاوبا مع هذا الشعور الرقيق: ولكنه سأله فجأة: هل اطلعت على المرسوم الصادر بتأليف وفد المفاوضة؟ - نعم، ولكن كثيرين يلغطون متشائمين بالجو الذي يحيط بالمفاوضة، ويبدو أن إيطاليا - التي تهدد حدودنا - هي محور المفاوضة الحقيقي، والإنجليز من جانبهم يهددون في حال فشل الاتفاق! - إن دماء الشهداء لم تبرد بعد، وعندنا دماء جديدة!

فهز حلمي رأسه قائلا: هذا كلام يقال. لقد سكت القتال وبدأ الكلام، ما رأيك؟ - على أي حال فإن للوفد أغلبية ساحقة في هيئة المفاوضة، تصور أني سألت محمد حسن زوج أمي عن رأيه في الموقف، فقال لي ساخرا: «أتتوهم حقا أن الإنجليز يمكن أن يخرجوا من مصر؟!» هذا هو الرجل الذي ارتضته أمي زوجا!

فضحك حلمي عزت عاليا وسأله: وهل يختلف رأي أبيك عن ذلك؟ - إن أبي يكره الإنجليز، وحسبه ذلك. - أيكرههم من صميم قلبه؟ - إن أبي لا يكره ولا يحب شيئا من صميم قلبه! - إني أسألك عن رأيك أنت، فهل أنت مطمئن؟ - لم لا، حتى متى تبقى القضية معلقة؟ أربعة وخمسون عاما من الاحتلال، أف، لست أنا التعيس وحدي!

فتناول حلمي عزت آخر رشفة من قدحه وقال باسما: يبدو لي أنك كنت تحادثني بهذه الحماسة عندما وقعت عيناه عليك! - من؟

فابتسم حلمي ابتسامة غريبة، وقال: كلما تحمست تورد وجهك وبرز جمالك في أحسن أحواله، وفي لحظة من تلك اللحظات السعيدة رآك ولا شك وأنت تحادثني، كان ذلك يوم ذهب وفد الطلبة إلى بيت الأمة داعين إلى الاتحاد، لا تذكر ذلك اليوم؟

فتساءل رضوان باهتمام لم يحاول إخفاءه: نعم، ولكن من هو؟ - عبد الرحيم باشا عيسى!

فتفكر رضوان قليلا ثم تمتم: رأيته مرة عن بعد .. - أما هو فقد رآك اليوم لأول مرة.

وارتسمت على وجه رضوان علامة استفهام، فعاد حلمي يقول: وعندما قابلني عقب انصرافك سألني عنك، وطلب إلي أن أقدمك إليه في أول فرصة!

وتبسم رضوان ثم قال: هات كل ما عندك.

فقال حلمي وهو يربت منكب صاحبه: دعاني وسألني بخفته - على فكرة هو خفيف جدا: «من المليح الذي كان يحدثك؟» فأجبته أنه زميل في الحقوق وصديق قديم واسمه كذا إلخ. فسألني باهتمام: «ومتى تقدمه إلي؟» فسألته بدوري متجاهلا غرضه: «ولمه يا باشا؟» فانفجر قائلا كالغاضب - هكذا تبلغ به خفة الروح أحيانا: «لأعطيه درسا في الديانة يا ابن الكلب.» فضحكت بدوري حتى كتم فمي بيده ..

وساد الصمت لحظة دوت فيها الريح في الخارج، وترامى صوت ارتطام ضلفة شباك بجدار، ثم علا صوت رضوان وهو يتساءل: سمعت عنه كثيرا، أهو كما يقال؟ - وأكثر .. - لكنه عجوز!

فقال حلمي عزت وأساريره تنطق بالضحك دون صوت: هذا في المرتبة الأخيرة من الأهمية، إنه رجل كبير المقام، ظريف، ذو نفوذ، ولعل شيخوخته أجل فائدة من الشباب ..

فعاود رضوان الابتسام، ثم تساءل: أين منزله؟ - فيلا هادئة في حلوان. - آه تكتظ بالقاصدين من كافة الطبقات! - سنكون ضمن مريديه، لم لا؟! إنه من شيوخ الساسة ونحن من شبابهم!

فتساءل رضوان في شيء من الحذر: وزوجه وأولاده؟ - يا لك من جاهل، إنه أعزب، لم يتزوج قط ولا يحب هذه السيرة، كان وحيد أبويه، وهو يعيش وحده مع خدمه كأنه مقطوع من شجرة، وإذا عرفته فلن تسلو عنه أبدا ..

وتبادلا نظرة باسمة طويلة تفيض بالمؤامرات، حتى قال حلمي عزت في شيء من الجزع: سلني متى نذهب لزيارته من فضلك؟ فقال رضوان وهو ينظر إلى ثمالة الشاي في قدحه: متى نذهب لزيارته؟

9

لاح بيت عبد الرحيم باشا عيسى على ناصية شارع النجاة بحلوان آية في البساطة والأناقة. فيلا سمراء مكونة من دور واحد يعلو عن الأرض بمقدار ثلاثة أمتار تكتنفه حديقة أزهار، ويستهل بسلاملك. وكان البيت والطريق والمنطقة المحيطة به غارقة في صمت مريح. وكان يجلس على أريكة عند الباب البواب وسائق السيارة، بواب نوبي بارع القسمات ممشوق القوام، وسائق في ريق الشباب مورد الخدين. وهمس حلمي عزت في أذن رضوان وهو يمد بصره نحو السلاملك: صدق الباشا فيما وعد، فلا زائر اليوم غيرنا!

وكان حلمي عزت معروفا لدى البواب والسائق، فوقفا لاستقباله في أدب، ولما داعبهما ممازحا انطلقا يضحكان دون كلفة. وكان الجو قارص البرودة رغم جفافه، فدخلا بهو استقبال آية في الفخامة، تتصدره صورة كبيرة لسعد زغلول في بذلة التشريفة. ومال حلمي عزت إلى مرآة ممتدة طولا حتى السقف تتوسط الجدار الأيمن، فألقى على صورته نظرة متفحصة طويلة، فلم يتردد رضوان أن يلحق به، وأن يمتحن منظره بنظرة مثلها، حتى قال حلمي باسما: قمران يرتديان بذلة وطربوشا، واللي يعشق جمال النبي يصلي عليه!

وجلسا متجاورين على كنبة مذهبة ذات غطاء أزرق وثير. ومرت دقائق ثم سمعت حركة آتية من وراء الستار المسدل على باب كبير تحت صورة سعد، فاتجه ناحيتها رأس رضوان وقلبه يخفق باهتمام. وما لبث أن تراءى الرجل في بذلة سوداء أنيقة، تنتشر بين يديه رائحة زكية، وقد بدا داكن السمرة، حليق الوجه، نحيل الجسم، مائلا إلى الطول نوعا، ذا قسمات دقيقة براها الكبر، وعينين صغيرتين ذابلتين، أما طربوشه فقد مال إلى الأمام حتى كاد يمس حاجبيه، وكان يتقدم هادئا وقورا في خطوات متقاربة وبطيئة معا، فانعكس منه إلى قلب الشاب إجلالا وطمأنينة. ولازم الصمت حتى وقف أمام الشابين اللذين وقفا لاستقباله، ثم تفحصهما بنظرة ثاقبة ثبتت على رضوان طويلا حتى اختلج جفناه، ثم ابتسم فجأة، فشاع في الوجه القديم إيناس وجاذبية قربت المسافة التي تفصل بينه وبينهما حتى لم تعد شيئا. ومد حلمي يده فتناولها الآخر واستبقاها في يده، ثم مد بوزه وانتظر، فأدرك حلمي غرضه وسرعان ما عرض له خده فقبله. ثم نظر صوب رضوان قائلا بصوت رقيق: لا تؤاخذني يا بني، فهذه هي طريقة السلام عندي ..

ومد رضوان يده في حياء، فتناولها الرجل وهو يتساءل ضاحكا: وخدك؟

فتورد وجه رضوان، وهتف حلمي مشيرا إلى نفسه: المخابرة يا سعادة الباشا مع ولي الأمر!

فضحك عبد الرحيم باشا واكتفى بمصافحة رضوان، ثم دعاهما إلى الجلوس ، وهو يجلس على مقعد كبير على كثب منهما، وقال باسما: ولي أمرك هذا ملعون يا رضوان، أليس هذا هو اسمك؟ أهلا وسهلا. لقد رأيتك في صحبة هذا الولد الشقي، فراقني أدبك وتمنيت لقاءك، وها أنت لم تضن علي به .. - إني سعيد بالتشرف بمعرفتك يا سعادة الباشا.

فقال الرجل وهو يدير خاتما ذهبيا كبيرا في بنصر يسراه: استغفر الله يا بني، لا تستعمل عبارات التعظيم وألقاب التفخيم، إنني لا أحب شيئا من هذا كله، الذي يهمني حقا هو الروح اللطيف والنفس الصافية والإخلاص، أما سعادة الباشا وسعادة البك فكلنا أبناء آدم وحواء، الواقع لقد راقني أدبك فوددت لو أدعوك إلى بيتي، فأهلا بك وسهلا، أنت زميل حلمي في كلية الحقوق، أليس كذلك؟ - نعم يا افندم، إننا زملاء من عهد خليل أغا الابتدائية ..

فرفع الرجل حاجبيه الأشيبين في إعجاب قائلا: زمالة صبا! .. (ثم وهو يهز رأسه): جميل، جميل، لعلك مثله من حي الحسين؟ - نعم يا سيدي، ولدت في بيت جدي السيد محمد عفت بالجمالية وأقيم الآن بمنزل والدي بقصر الشوق ..

فقال الرجل في سرور بلغ حد النشوة: أحياء مصر الأصيلة، البقاع الطيبة، ما رأيك لقد عشت فيها دهرا مع المرحوم أبي في بيرجوان، كنت وحيد أبوي، وكنت عفريتا، وطالما جمعت الصبيان في شبه زفة ومضينا من حارة إلى حارة نعاكس طوب الأرض، ويا ويل الدنف لو رماه القدر إلى طريقنا، وكان أبي يثور غضبه فيجري ورائي بالعصا، .. قلت يا بني إن جدك هو محمد عفت؟

فقال رضوان بفخار: نعم يا سيدي ..

فتفكر الباشا قليلا ثم قال: أذكر أني رأيته مرة في بيت نائب الجمالية، رجل وجيه ووطني صادق، كاد يرشح نائبا في الانتخابات القادمة لولا تنحيه في آخر لحظة لصديقه النائب القديم، إن الاتحاد الأخير أوجب الصداقة في الانتخابات حتى يظفر إخواننا الأحرار الدستوريون ببعض المقاعد، إذن أنت زميل حلمي في الحقوق! جميل، القانون سيد الدراسات، وهو يتطلب لدراسته ذكاء لماحا، أما عن المستقبل فما عليك إلا الاجتهاد!

وجد في نبراته الأخيرة ما يوحي بالوعد والتشجيع، فدب في قلبه الطموح والحماسة فقال: نحن لم نفشل ولا مرة واحدة في حياتنا الدراسية! - برافو، هذا هو الأساس، بعد ذلك تجيء النيابة ثم القضاء وسيوجد دائما من يفتح الأبواب المغلقة أمام المجتهدين، حياة القضاء شيء عظيم، عمادها الذكاء اليقظ والضمير الحي. لقد كنت بفضل الله من أبنائها الصادقين، وقد تركت القضاء للاشتغال بالسياسة، فالوطنية تحتم علينا أحيانا أن نهجر أعمالنا المحبوبة، ولكن إلى اليوم تجد من يضرب بنا المثل في العدالة والنزاهة، فضع نصب عينيك في الاجتهاد والنزاهة وأنت حر بعد ذلك في حياتك الخاصة، قم بواجبك وافعل ما تشاء، أما إذا قصرت في الواجب فلن يرى فيك الناس إلا النقائص، ألا ترى أنه لا يحلو لكثير من الفضوليين إلا أن يقولوا فلان الوزير به الداء الفلاني، وفلان الشاعر به الداء العلاني. حسن، ولكن ليس كل المصابين وزراء وشعراء، فكن وزيرا وشاعرا أولا وافعل بعد ذلك ما تشاء، لا يغيبن عن ذكائك هذا الدرس يا أستاذ رضوان ..

وهنا قال حلمي عزت بخبث: كفى المرء نبلا أن تعد معايبه، أليس كذلك يا سعادة الباشا؟ فثنى الرجل رأسه إلى منكبه الأيمن، وقال: طبعا، سبحان من له الكمال وحده، الإنسان ضعيف جدا يا رضوان، ولكن عليه أن يكون قويا في الجوانب الأخرى. مفهوم؟ لو تشاء أحدثك عن كبار الرجال في الدولة ولن تجد واحدا خاليا من داء، وسوف نتحادث طويلا ونتدارس العبر كيما تكون لنا حياة موفورة الكمال والسعادة ..

فنظر حلمي إلى رضوان قائلا: ألم أقل لك إن صداقة الباشا كنز لا يفنى؟

فقال عبد الرحيم عيسى موجها الخطاب إلى رضوان الذي لم تكد تتحول عنه عيناه: إني أحب العلم وأحب الحياة وأحب الناس، وديدني أن آخذ بيد الصغير حتى يكبر، وأي شيء في الدنيا خير من الحب؟! يجب إذا واجهتنا مشكلة قانونية أن نحلها معا، وإذا فكرنا في المستقبل أن نفكر معا، وإذا نازعتنا أنفسنا إلى الراحة أن نرتاح معا، ما وجدت رجلا حكيما مثل حسن بك عماد، اليوم هو من رجال السلك السياسي المعدودين، ودعك من أنه من أعدائي السياسيين، ولكنه كان إذا تفرغ لبحث قتله، وإذا طرب رقص عاريا، الدنيا حلوة على شرط أن تكون حكيما واسع .. الإدراك! ألست واسع الإدراك يا رضوان؟

فأجاب عنه حلمي عزت من فوره: إذا لم يكن فنحن على استعداد لتوسيعه!

فأشرق وجه الباشا بابتسامة طفلية نمت عن رغبته التي لا حد لها في المسرة، وقال: هذا الولد عفريت يا رضوان، لكن ما حيلتي؟ إنه زميل صباك، يا بخته! ولست أنا القائل إن الطيور على أشكالها تقع. لازم أنت أيضا عفريت، خبرني يا رضوان من أنت؟ هه. إنك تركتني أتكلم بلا وعي وأنت صامت كدهاة السياسة، هه؟ قل يا رضوان ماذا تحب وماذا تكره؟

عند ذاك دخل الخادم حاملا صينية القهوة، وكان فتى أمرد شبيها بالبواب والسائق، فشربوا أكواب الماء الممزوجة بالزهر، وجعل الباشا يقول: الماء بالزهر شراب أهل الحسين، أليس كذلك؟

فغمغم رضوان باسما: نعم يا سيدي.

فقال الباشا وهو يهز رأسه طربا: يا أهل الحسين مدد.

وضحكوا جميعا، حتى الخادم ابتسم وهو يغادر البهو، واستطرد الباشا متسائلا: ماذا تحب؟ وماذا تكره؟ تكلم بصراحة يا رضوان، دعني أيسر لك الجواب، أأنت مهتم بالسياسة؟

فقال حلمي عزت: كلانا في لجنة الطلبة. - هذا أول سبب للمقاربة بيننا، وهل لك في الأدب؟

فأجاب حلمي عزت: إنه مغرم بشوقي وحافظ والمنفلوطي ..

فنهره الباشا قائلا: اسكت أنت، أريد يا أخي أن أسمع صوته ..

فضحكوا، وقال رضوان باسما: إني أموت في شوقي وحافظ والمنفلوطي ..

فقال الباشا بإعجاب: «أموت في!» يا له من تعبير! لا تسمعه إلا في الجمالية. أهي نسبة إلى الجمال يا رضوان؟ إذن أنت من هواة «فضة ذهب» و«في الليل لما خلي» و«من يكن» و«فنن يشيله وفنن يحطه» الله .. الله! هذا سبب آخر للمقاربة بيننا يا جمالية، وهل تحب الغناء؟ - إنه من غواة ... - اسكت أنت ..

فضحكوا مرة أخرى، وقال رضوان: أم كلثوم. - جميل، لعلي من عشاق القديم، ولكن الغناء كله جميل، فأنا أحبه، ثقيله وخفيفه، كما يقول المعري، أو أموت فيه، كما تقول حضرتك، جميل جدا، الليلة عجب.

ودق جرس التليفون، فنهض الباشا إليه، ووضع السماعة على أذنه وهو يقول: آلو!

أهلا أهلا معالي الباشا. - ... - وما وجه العجب في ذلك! ألا يجلس إسماعيل صدقي نفسه اليوم في هيئة المفاوضات كزعيم من زعماء الوطن؟! - ... - أنا قلت رأيي للزعيم صراحة، وهو رأي ماهر والنقراشي أيضا. - ... - آسف يا باشا، لا أستطيع، أنا لا أنسى أن الملك فؤاد هو الذي عارض في ترقيتي يوما، والملك فؤاد آخر من يتكلم في الأخلاق، وعلى أي حال سأقابلك غدا في النادي، سلام عليكم يا باشا ..

وعاد الرجل متجهم الوجه، ولكنه ما كاد يرى وجه رضوان حتى عاوده الانشراح فواصل حديثه قائلا: نعم يا سيد رضوان، تعارفنا وما أجمل التعارف! أنصحك بالاجتهاد، أنصحك بألا تتخلى عن الواجب والمثل الأعلى، بعد ذلك أحدثك عن الطرب والهناء ..

وهنا نظر رضوان في ساعته، فلاح الجزع في وجه الباشا وقال: إلا هذا! الساعة عدو مجالس الأنس.

فتمتم رضوان في شيء من الارتباك: ولكنا تأخرنا يا سعادة الباشا. - تأخرنا! أتعني أنه تأخر بي العمر! أخطأت يا بني، ما زلت أحب السهر والجمال والغناء بعد الساعة الواحدة، السهرة لم تبدأ بعد، لم نقل إلا بسم الله الرحمن الرحيم، لا تعترض. السيارة تحت أمركما حتى الصباح، وبلغني أنك تبيت خارج البيت للمذاكرة، فلنذاكر، لم لا؟ ما أحلى أن أعود إلى المدخل في القانون العام أو شيء من الشريعة، بهذه المناسبة من يدرس لكم الشريعة؟ الشيخ إبراهيم نديم، مساه الله بالخير، إنه كابتن عظيم، لا تدهش، سنؤرخ يوما لكل رجال العصر، يجب أن تفهم كل شيء، ليلتنا ليلة محبة وصداقة، خبرني يا حلمي، ما أنسب شراب لمثل هذه الليلة؟

فقال حلمي باطمئنان: ويسكي وصودا وشواء.

فتساءل الباشا ضاحكا: وهل الشواء شراب يا شقي؟

10

عقب الغداء من يوم الخميس يلتئم شمل أسرة خديجة على نحو لا يكاد يتغير. وهكذا جمعت الصالة بين الأب إبراهيم شوكت وعبد المنعم وأحمد. ولما كان من النادر أن تبقى خديجة دون عمل فقد جلست بينهم وهي تطرز غطاء مائدة، وقد بدا الكبر أخيرا على إبراهيم شوكت بعد مقاومة طويلة جبارة، فشاب شعره وترهل بعض الشيء، وإن حافظ فيما عدا ذلك على صحة يحسد عليها. وكان يدخن سيجارة، ويأخذ مكانه بين ابنيه في هدوء وطمأنينة، تعكس عيناه البارزتان نظرة الخمول واللا مبالاة التقليدية، على حين لم ينقطع الشابان عن الحديث، فيما بينهما حينا، أو مع الأب أو الأم التي شاركت في الحديث دون أن ترفع رأسها عن عملها، وقد بدت كتلة عظيمة من الشحم واللحم. لم يعد في الجو ما ينغص على خديجة صفوها؛ إذ لم يبق من ينازعها السيادة على بيتها مذ توفيت حماتها. كانت تقوم بواجباتها بهمة لا تخذلها أبدا، وترعى سمانتها بعناية فائقة وهي جوهر جمالها كله، وتحاول فرض رعايتها على الجميع، الأب والابنين، فيطاوع الرجل؛ وأما عبد المنعم وأحمد فيشق كل سبيله كما يرى مستعيذين بحبها من سطوتها. وقد نجحت منذ سنوات في حمل زوجها على احترام تقاليد الدين، فمارس الرجل الصلاة والصوم واعتادهما، وكان عبد المنعم وأحمد قد شبا على ذلك من قبل، غير أن أحمد توقف عن أداء الفريضة منذ عامين، وجعل يتهرب من استجواب أمه كلما استجوبته أو يتعلل بعذر أو بآخر. وكان إبراهيم شوكت يحب ابنيه حبا جما، ويعجب بهما أشد الإعجاب، وينوه في كل فرصة بنجاحهما المتواصل الذي بلغ بعبد المنعم كلية الحقوق وبأحمد نهاية المرحلة الثانوية، وفي ذلك كانت خديجة تقول في مباهاة: كل هذا ثمرة اهتمامي أنا، لو ترك الأمر لك ما فلح أحدهما ولا كان له شأن ..

وقد ثبت أخيرا أنها نسيت مبادئ القراءة والكتابة لعدم الاستعمال مما جعلها هدفا لسخرية إبراهيم، حتى اقترح ابناها أن يذكراها بما نسيت ردا لجميلها الذي تباهي به، فغضبت قليلا وضحكت كثيرا، ثم لخصت الحال في كلمة قائلة: لا حاجة بامرأة إلى الكتابة والقراءة ما دامت لا تكتب رسائل غرام!

بدت في أسرتها سعيدة راضية ، ولعل شهية عبد المنعم وأحمد لم تكن تعجبها كثيرا، كما أن نحافتهما كانت تغيظها، فقالت باستياء: قلت ألف مرة إنه يجب أن تغيرا ريقكما على البابونج ليفتح شهيتكما، يجب أن تأكلا جيدا، ألا تريان أباكما كيف يأكل؟

وابتسم الشابان وهما ينظران نحو أبيهما، فقال الرجل: ولماذا لا تضربين المثل بنفسك، وأنت تأكلين كالطاحونة؟

فقالت باسمة: إني أترك لهما الحكم والخيار.

فقال إبراهيم محتجا: عينك يا شيخة أصابتني؛ لذلك نصحني الدكتور بأن أخلع أسناني ..

فلاحت في عينيها نظرة رقيقة، وقالت: لا تجزع، ستذهب بشرها، ولن تشكو ألما بعد ذلك إن شاء الله ..

وهنا خاطبها أحمد قائلا: جارنا الساكن في الدور الثاني يرجو أن يؤجل دفع الأجرة حتى الشهر القادم، قابلني على السلم فرجاني في ذلك. فسألته وهي تنظر إليه مقطبة: وماذا قلت له؟ - وعدته بأن أحدث أبي .. - وهل حدثت أباك؟ - ها أنا أحدثك أنت! - إننا لا نشاركه في شقته فلا يجوز له أن يشاركنا في رزقنا، ولو تساهلنا معه لتبعه ساكن الدور الأول، أنت لا تعرف الناس فلا تتدخل فيما لا يعنيك ..

فنظر أحمد إلى أبيه متسائلا: ما رأيك يا بابا؟

فابتسم إبراهيم شوكت قائلا: في عرضك لا تصدع دماغي، عندك أمك ..

فعاد أحمد إلى أمه قائلا: إذا تساهلنا مع رجل مزنوق فلن نجوع ..

فقالت خديجة بامتعاض: لقد حدثتني زوجه وأجلت لها الدفع فليرتح بالك، ولكني أفهمتها أن أجرة المسكن واجبة كمصروفات الأكل والشرب، أفي ذلك خطأ، إني ألام أحيانا لأني لم أتخذ من جاراتي صديقات، ولكن من يعرف الناس يحمد الله على الوحدة.

فعاد أحمد يتساءل، وهو يغمز بعينه: وهل نحن خير من الناس؟

فعبست خديجة قائلة: نعم، إلا إذا كان لك في نفسك رأي آخر!

فقال عبد المنعم: رأيه في نفسه أنه خير الناس جميعا، لا رأى إلا رأيه، والحكمة موقوفة على رأسه!

فقالت خديجة متهكمة: ومن رأيه أيضا أن يستأجر الناس البيوت دون دفع أجرتها!

فقال عبد المنعم ضاحكا: إنه غير مقتنع بأنه من حق بعض الناس أن يملكوا بيوتا على الإطلاق ..

فقالت خديجة وهي تهز رأسها: يا عيني على الرأي الفقري ..

وحدج أحمد أخاه بنظرة غاضبة، فهز عبد المنعم منكبيه باستهانة وهو يقول: راجع نفسك قبل أن تغضب ..

فقال أحمد محتجا: يحسن بنا ألا نتناقش معا! - بل انتظر حتى تكبر .. - إنك أكبر مني بعام لا أكثر .. - أكبر منك بيوم يعرف أكثر منك بسنة .. - هذا المثل لا أومن به! - اسمع، لا يهمني إلا شيء واحد، هو أن تعود إلى الصلاة معي ..

فهزت خديجة رأسها بأسف وهي تقول: صدق أخوك، الناس تكبر تعقل، أما أنت فأعوذ بالله منك، حتى أبوك صلى وصام، فكيف فعلت بنفسك ما فعلت؟ إني أتساءل ليل نهار!

فقال عبد المنعم بصوت قوي شديد الثقة بنفسه: بالصراحة إن رأسه يحتاج إلى تطهير من الداخل .. - إنه .. - اسمعي، هذا الشاب لا دين له، هذا ما بت أعتقده ..

فلوح أحمد بيده كالغاضب، وهتف متسائلا: من أين لك الحق في الحكم على القلوب؟ - الأفعال تنم عن السرائر (ثم وهو يداري ابتسامة): يا عدو الله! فقال إبراهيم شوكت دون أن يخرج من هدوئه وطمأنينته: لا تتهم أخاك ظلما.

وقالت خديجة مخاطبة عبد المنعم وهي تلحظ أحمد: لا تسلب أخاك أعز ما يملك الإنسان، كيف لا يكون مؤمنا؟! إن آل أمه لا تنقصهم إلا العمائم ليكونوا من رجال الدين، وكان جده من صميم رجال الدين. لقد نشأنا فوجدنا من حولنا يصلون ويتعبدون كأننا في جامع!

فقال أحمد متهكما: مثل خالي ياسين ..!

وندت عن إبراهيم شوكت ضحكة، فقالت خديجة متظاهرة بالغضب: تكلم عن خالك بأدب، ما له؟ قلبه عامر بالإيمان وربنا يهديه، انظر إلى جدك وجدتك. - وخالي كمال؟ - خالك كمال من محاسيب الحسين، أنت لا تدري شيئا. - بعض الناس لا يدرون شيئا ..

فسأله عبد المنعم محتدا: لو كان الناس جميعا مهملين في دينهم، فهل يشفع لك ذلك؟

فقال أحمد في هدوء: على أي حال اطمئن، فلن تؤخذ يوما بذنبي!

وهنا قال إبراهيم شوكت: كفاكما خصاما، نفسي أراكما كرضوان ابن خالكما ..

فحدجته خديجة بنظرة استياء، كأنما عز عليها أن يعد رضوان خيرا من ابنيها؛ فقال إبراهيم موضحا رأيه: هذا الشاب على صلة بكبار الساسة، شاب ذكي، وقد ضمن بذلك مستقبلا باهرا ..

فقالت خديجة غاضبة: لست من رأيك، رضوان شاب سيئ الحظ، ككل شاب يحرمه سوء الحظ من رعاية أمه، وزنوبة «هانم» لا تهتم في الواقع بأمره، أنا لا أنخدع بحسن معاملتها له فهذه سياسة كسياسة الإنجليز؛ لذلك لا يقر للمسكين قرار، وأكثر أيامه يبيتها خارج بيته، أما صلته بالكبراء فلا معنى لها، إنه طالب مع عبد المنعم في سنة واحدة، فما معنى هذا التداخل الخطير: أنت لا تعرف كيف تضرب الأمثال ..

فرمقها إبراهيم بنظرة كأنما يقول لها: «لا يمكن أن تقريني على رأي»، ثم قال مواصلا إيضاح رأيه: ليس الشبان اليوم كما كانوا في الزمن الماضي، السياسة غيرت كل شيء، فكل كبير له مريدوه منهم، والطموح الذي يريد أن يشق سبيله في الحياة لا بد له من كبير يرجع إليه، إن مكانة والدك الكبيرة تقوم على اتصالاته الوثيقة بالكبراء!

فقالت خديجة بكبرياء: أبي يسعى الناس إلى التعرف به ولا يسعى هو إلى أحد، أما عن السياسة فأبنائي لا شأن لهم بها، لو أتيح لهما أن يريا خالهما الشهيد لأدركا من نفسيهما معنى كلامي، بين يحيا فلان ويسقط علان يهلك أبناء الناس، ولو عاش المرحوم فهمي لكان من أكبر القضاة اليوم ..

فقال عبد المنعم: لكل طريقته، نحن لا نقلد أحدا، ولو أردنا أن نكون كرضوان لكنا ..

فقالت خديجة: أحسنت!

وقال له أبوه باسما: أنت كأمك، وكلاكما لا تساويان شيئا ..

ودق الباب، فجاءت الخادم تؤذن بقدوم الجارة الساكنة في الدور الأول، فقالت خديجة وهي تهم بالقيام: ماذا تريد يا ترى؟ .. إن كان في الأمر تأجيل دفع أجرة فلن يفصل بيننا إلا قسم الجمالية!

11

كان الموسكي شديد الزحام، اكتظ بأهله، وما أكثرهم! فضلا عما استجد عليه ذلك اليوم من تيارات بشرية تدفقت من ناحية العتبة. وكانت شمس أبريل الصافية تقذف لهبا، فشق عبد المنعم وأحمد سبيلهما في جهد غير يسير وهما يتصببان عرقا. وقال أحمد وهو يتأبط ذراع أخيه: حدثني عن شعورك ..

فتفكر عبد المنعم قليلا، ثم راح يقول: لا أدري، الموت رهيب، فما بالك بموت ملك، وكان طريق الجنازة مكتظا بالناس بصورة لم أشهدها من قبل، أنا لم أشهد جنازة سعد زغلول حتى أستطيع المقارنة بين الجنازتين، ولكن يبدو لي أن أكثر الناس كان متأثرا على نحو ما، وبعض النساء يبكين .. نحن المصريين قوم عاطفيون .. - لكني أسألك عن شعورك أنت؟

فعاد عبد المنعم يفكر وهو يتفادى من الارتطام بالناس، ثم قال: لم أكن أحبه، وهذا اعتنقناه جميعا، فأنا لم أحزن، ولكنني لم أسر كذلك، تابعت النعش بعين من لا قلب له، لا له ولا عليه، غير أن فكرة الجبار في النعش أثرت في، لا يمكن أن يمر منظر كهذا دون أن يؤثر في، لله الملك جميعا، هو الحي الباقي فليت الناس يعلمون، غير أنه لو مات الملك قبل أن تتغير الحالة السياسية التي كانت قائمة لزغرد كثيرون وكثيرون جدا .. وأنت ما شعورك؟

فقال أحمد باسما: أنا لا أحب الطغاة أيا كانت الحالة السياسية! - هذا حسن، ولكن منظر الموت .. - ولا أحب الرومانتيكية المريضة!

فتساءل عبد المنعم في ضجر: أسررت إذن؟ - تمنيت أن يمتد بي العمر حتى أرى العالم وقد خلص من كافة الطغاة على اختلاف أسمائهم وأوصافهم ..

وسكتا قليلا وكان التعب قد نال منهما كل منال، ثم عاد أحمد يتساءل: وماذا عما بعد ذلك؟

فقال عبد المنعم بلهجة اليقين التي اشتهر بها: فاروق غلام، ليس له دهاء أبيه ولا نابه الأزرق، فإذا سارت الأمور سيرا حسنا، فنجحت المفاوضات، وعاد الوفد إلى الحكم، فسوف تستقر الأمور وينقضي عهد المؤامرات، .. المستقبل حسن فيما يبدو .. - والإنجليز؟ - إذا نجحت المفاوضات انقلب الإنجليز أصدقاء، وبالتالي ينقطع التحالف القائم بين السراي والإنجليز ضد الشعب، فلا يجد الملك بدا من احترام الدستور .. - الوفد خير من غيره .. - بلا شك، إنه لم يحكم طويلا حتى يعرف مدى قدرته، وقريبا تكشف التجربة عن إمكانياته الحقيقية، إني أوافقك على أنه خير من غيره، ولكن طموحنا لن يقف عنده! .. - طبعا، إني أومن بأن حكم الوفد نقطة ابتداء حسنة لتطور أعظم، وهذا كل ما هنالك، ولكن هل نتفق مع الإنجليز حقا؟ - إما الاتفاق وإما العودة إلى عهد صدقي، في أمتنا احتياطي من الخونة لا ينفد، كل مهمته دائما تأديب الوفد إذا قال الإنجليز «لا»، وإنهم لفي الانتظار وإن انضموا اليوم إلى صفوف الأمة، صدقي ومحمد محمود وغيرهما في الانتظار، هذه هي المأساة ..

وعندما بلغا السكة الجديدة وجدا نفسيهما فجأة أمام جدهما أحمد عبد الجواد الذي كان متجها صوب الصاغة، فتقدما إليه، وسلما عليه بإجلال، فسألهما باسما: من أين وإلى أين؟

فقال عبد المنعم: كنا نتفرج على جنازة الملك فؤاد ..

فقال الرجل دون أن تفارق الابتسامة شفتيه: سعيكما مشكور!

ثم صافحهما ومضى كل إلى حال سبيله، وأتبعه أحمد نظره قليلا، ثم قال: جدنا ظريف وأنيق. لقد ملأ أنفي شذا طيبا .. - نينة تروي عن جبروته الأعاجيب .. - لا أظنه جبارا، هذا شيء لا يصدق.

فضحك عبد المنعم قائلا: إن الملك فؤاد نفسه بدا في أواخر عهده لطيفا طيبا ..

وضحكا معا. ومضيا إلى قهوة أحمد عبده. وفي الحجرة المواجهة للنافورة رأى أحمد شيخا مرسل اللحية حاد البصر يتوسط جمعا من الشبان يتطلعون إليه في اهتمام، فتوقف وهو يقول لأخيه: الشيخ علي المنوفي صديقك، أخرجت الأرض أثقالها، ينبغي أن أتركك هنا ..

فقال له عبد المنعم: تعال اجلس معنا، أحب أن تجالسه وتسمع له، ناقشه كيفما شئت، كثير ممن حوله من طلبة الجامعة ..

فقال أحمد وهو يخلص ذراعه من ذراع أخيه: لا يا عم، كدت مرة أشتبك معه في عراك، أنا لا أحب المتعصبين، مع السلامة ..

فحدجه عبد المنعم بنظرة انتقاد، ثم قال بحدة: مع السلامة، ربنا يهديك ..

وأقبل عبد المنعم على مجلس الشيخ علي المنوفي ناظر مدرسة الحسين الأولية، فنهض الرجل لاستقباله - وقد نهض معه جميع الجلوس حوله - وتعانقا، ثم جلس الشيخ وجلسوا وهو يتساءل متفحصا عبد المنعم بعينيه الحادتين: لم نرك أمس؟ - المذاكرة .. - الاجتهاد عذر مقبول ، وما لأخيك قد تركك وذهب؟

فابتسم عبد المنعم ولم يجب، فقال الشيخ علي المنوفي: ربنا الهادي، لا تعجبوا له. لقد صادف مرشدنا كثيرين من أمثاله هم اليوم من أشد المخلصين لدعوته؛ ذلك أن الله إذا أراد لقوم هداية فلن يكون للشيطان عليهم من سلطان، ونحن جنود الله، ننشر نوره ونحارب عدوه، وهبنا أرواحنا له من دون الناس، فما أسعدكم جنود الله ..

وقال أحد الجالسين: ولكن مملكة الشيطان كبيرة!

فقال الشيخ علي المنوفي معاتبا: انظروا إلى من يخاف دنيا الشيطان والله معه! ماذا نقول له؟ نحن مع الله والله معنا فماذا نخاف؟ من من جنود الأرض يتمتع بقوتكم؟ وأي سلاح أحد من سلاحكم؟

الإنجليز والفرنسيون والألمان والطليان جل اعتمادهم على الحضارة المادية، أما أنتم فاعتمادكم على الإيمان الصادق، إن الإيمان يفل الحديد، الإيمان أقوى قوة في العالم، املئوا قلوبكم الطاهرة بالإيمان تخلص الدنيا لكم ..

فقال آخر: نحن مؤمنون، ولكننا أمة ضعيفة.

فكور الشيخ قبضته وشد عليها وهو يهتف: إذا كنت تستشعر ضعفا فإيمانك يعتريه نقص وأنت لا تدري، الإيمان خالق القوة وباعثها، إن القنابل تصنعها أيد كأيدينا وهي ثمرة القوة قبل أن تكون من مسبباتها، كيف انتصر النبي على أهل الجزيرة؟ وكيف قهر العرب العالم كله؟

فقال عبد المنعم بحماسة: الإيمان .. الإيمان ..

غير أن صوتا رابعا تساءل: ولكن كيف كان للإنجليز هذه القوة وهم قوم غير مؤمنين؟

فابتسم الشيخ متخللا لحيته بأصابعه وهو يقول: لكل قوي إيمانه، إنهم يؤمنون بالوطن وبالمصلحة، أما الإيمان بالله؛ فهو فوق كل شيء، وأحرى بالمؤمنين بالله أن يكونوا أقوى من المؤمنين بالحياة الدنيا، فتحت أيدينا نحن المسلمين ذخيرة مدفونة يجب أن نستخرجها، يجب أن يبعث الإسلام كما بعث أول مرة، نحن مسلمون اسما فيجب أن نكون مسلمين فعلا. لقد من الله علينا بكتابه فتجاهلناه فحقت الذلة علينا، فلنعد إلى الكتاب، هذا هو شعارنا، العودة إلى القرآن، بذلك نادى المرشد في الإسماعيلية، ومن ساعتها ودعوته تسري في الأرواح، غازية القرى والدساكر حتى تملأ القلوب جميعا .. - ولكن أليس من الحكمة أن نتجنب السياسة؟ - الدين هو العقيدة والشريعة والسياسة، إن الله أرحم من أن يترك أخطر أمور الإنسانية دون تشريع وتوجيه، وهذا في الواقع هو درسنا الليلة ..

كان الشيخ شديد الحماسة، وكانت طريقته أن يقرر حقيقة ما، ثم تدور حولها المناقشات ما بين أسئلة من مريديه وأجوبة عليها منه، يقوم أكثرها على الاستشهاد بالقرآن والحديث، وكان يتحدث وكأنه يخطب، أو كأنه يخطب الجالسين في القهوة جميعا. فسمعه أحمد وهو جالس في أقصى المكان، يحتسي الشاي الأخضر، وعلى شفتيه ابتسامة ساخرة. وكان يقيس الشقة بينه وبين هذه المجموعة المتحمسة في عجب، ويجد نحوها ازدراء وغضبا، وثار به التحدي مرة فهم بأن يطلب من الشيخ أن يخفض من صوته حتى لا يعكر على رواد القهوة صفاء راحتهم، ولكنه عدل عما هم به في اللحظة التي تذكر وجود أخيه بينهم. وأخيرا لم يجد بدا من مغادرة القهوة، فقام ساخطا وغادرها ..

12

عاد عبد المنعم إلى السكرية حوالي الثامنة مساء. وكان الجو سكت حنقه فمال إلى اللطافة وشاعت فيه رقة الربيع. كان الدرس ما يزال يكبر في رأسه ويتردد في قلبه، ولكن أعياه الجهد والفكر. وعبر حوش البيت في ظلام دامس ثم اتجه إلى السلم، وفي تلك اللحظة فتح باب الدور الأول، وعلى الضوء المنبعث من داخل الشقة رأى شبحا يتسلل إلى الخارج ثم أغلق الباب وراءه وسبقه إلى السلم. وخفق قلبه وجرى دمه حارا كحشرة هيجها القيظ. رآها في الظلام تنتظر عند أول بسطة وتتطلع نحوه فتطلع نحوها، ولم يتحول عنها رأسه، وعجب كيف يستغفل الصغار الكبار، فهذه الصغيرة غادرت بيتها بحجة زيارة الجيران، وسوف تزور الجيران، ولكن بعد خوض مغامرة خطيرة فوق بسطة السلم المستكنة في الظلام. ولتوه وجد رأسه فارغا. تبخر ما كان يصطرع فيه من أفكار وتطاير، وتركز هو في رغبة واحدة هي أن يشبع النهم الذي بات يؤرق أعصابه وأعضاءه. أما ذلك الإيمان الصادق فيبدو أنه ولى غاضبا، أو غاص في الأعماق يدمدم حانقا ولكن صوته ضاع في أزيز النار المستعرة. أليست هي فتاته؟ بلى، تشهد بذلك حنايا الحوش وبئر السلم وركن السطح المطل على السكرية. وكانت بلا ريب ترقب عودته لتلتقي به في اللحظة المناسبة. كل هذا العناء من أجله هو! ومضى متعجلا حذرا حتى وقف إزاءها على البسطة، لا يكاد يفصل بينهما شيء، وقد سطع أنفه شذا شعرها، ودغدغ عنقه تردد أنفاسها. وربت منكبها برقة هامسا: نصعد إلى البسطة الثانية فنكون في موضع آمن من هذا.

تقدمته دون أن تنبس فتبعها محاذرا. وبلغا البسطة الثانية فيما بين الدورين. فوقفت مستندة إلى الجدار ووقف بين يديها، ثم أحاطها بذراعيه فقاومته بحكم العادة مقدار ثانية ثم سكنت في حضنه .. - حبيبتي .. - انتظرتك في النافذة، نينة مشغولة باستعدادات شم النسيم .. - كل سنة وأنت طيبة، دعيني أشم النسيم بين شفتيك ..

والتقت شفتاهما في قبلة طويلة جائعة. ثم تساءلت: أين كنت؟

ذكر في سرعة خاطفة درس السياسة في الإسلام، ولكنه أجاب: مع بعض الأصدقاء في القهوة ..

قالت بلهجة تشي بالاحتجاج: القهوة ولم يبق على الامتحان إلا شهر؟ - ولكني أعرف واجبي، سأقبلك قبلة ثانية جزاء سوء ظنك بي .. - صوتك عال، أنسيت أين نحن؟ - نحن في بيتنا، في غرفتنا، هذه البسطة هي غرفتنا! - العصر وأنا ذاهبة إلى خالتي نظرت إلى فوق لعلي أراك في النافذة، فإذا بوالدتك تطل على الحارة فالتقت عيني بعينها فارتعدت من الخوف. - ماذا خفت؟

خيل إلي أنها عرفت عمن أبحث وأنها كشفت سري .. - تعنين سرنا، إنه شيء واحد يربطنا، ألسنا الآن شيئا واحدا؟

وضمها إلى صدره بعنف في رغبة جامحة، وفي الوقت نفسه. كأنما كان يجد هاربا من أصوات المعارضة الخافتة في أعماقه باستسلام يائس، فلفحته نيران متأججة، واحتوته قوة قادرة على إذابة اثنين في دوامة واحدة ..

وند عن الصمت تنهيدة ثم تردد أنفاس، وشعر أخيرا بأنه هو وأنها هي وأن الظلام يضم شبحين. ثم جاءه همسها الرقيق يقول في استحياء: نتقابل غدا؟

فرد في امتعاض حاول ما استطاع التستر عليه: نعم .. نعم، ستعلمين في حينه. - أخبرني الآن ..

فقال والامتعاض يزداد ثقلا على قلبه: لا أدري كيف يكون وقتي غدا! - لمه؟ .. - اذهبي بالسلامة، سمعت صوتا! - كلا، لا صوت هناك .. - لا ينبغي أن يجدنا أحد هكذا ..

وربت كتفها كأنما يربت خرقة ملوثة، وتخلص من ذراعيها في رقة مفتعلة ثم رقي في السلم على عجل.

كان والداه جالسين في الصالة يستمعان إلى الراديو، وكانت حجرة المكتب مغلقة الباب مضاءة الشراعة مما دل على أن أحمد يذاكر، فحياهما تحية المساء وقصد حجرة النوم ليخلع ملابسه. واستحم، وتوضأ، وعاد إلى حجرته فصلى، ثم تربع على سجادة الصلاة وراح في تأمل عميق. كانت عيناه ترنوان بنظرة حزينة، وكان صدره يضطرم شجنا، وهفت نفسه إلى البكاء، ودعا ربه أن يطرد الشيطان عن سبيله وأن يشد أزره في مقاومة الغواية. ذلك الشيطان الذي يعترضه في صورة فتاة ويندفع في دمه رغبة جامحة. ودائما أبدا يقول عقله لا فيقول قلبه نعم، ثم يتلقفه ذلك الصراع المخيف الذي ينتهي بالهزيمة والندم. كل يوم تجربة وكل تجربة جحيم فمتى ينقضي هذا العذاب؟! إن نضاله الروحي كله مهدد بالخراب وكأنما يبني قصورا في الهواء ولن يقر قرار لغارق في الطين، فليت الندم يستطيع أن يرجع ساعة مضت.

13

أخيرا اهتدى أحمد إبراهيم شوكت إلى مبنى مجلة «الإنسان الجديد» بغمرة. كان المبنى يقع في مكان وسط بين محطتي الترام، وكان مكونا من دورين وبدروم، فأدرك لأول وهلة أن الدور الأعلى مسكن كما استدل من الغسيل المعلق في شرفته، أما الدور الأول فقد ثبتت لافتة باسم المجلة على بابه، وأما البدروم فقد خصص للمطبعة التي رأي آلاتها خلال قضبان النوافذ. وصعد درجات أربعا إلى الدور الأول، ثم سأل أول من التقى به - وكان عاملا يحمل بروفات - عن الأستاذ عدلي كريم صاحب المجلة، فأشار الرجل إلى باب مغلق في نهاية صالة خالية من الأثاث حيث تراءت لافتة رئيس التحرير، فمضى إليه وهو يتلفت فيما حواليه عله يجد حاجبا ولكنه ألفى نفسه منفردا بالباب فتردد لحظة ثم طرقه برقة حتى جاءه صوت من الداخل يقول : «ادخل»، ففتح الباب ودخل، فالتقت عيناه في نهاية الحجرة بعينين واسعتين تحدقان به متسائلتين من تحت حاجبين كثيفين أشيبين، فرد الباب وراءه وقال بصوت المعتذر: لا مؤاخذة، دقيقة واحدة ..

فقال الرجل بصوت رقيق: تفضل ..

وتقدم أحمد من مكتب كدست فوقه الكتب والأوراق، ثم سلم على الأستاذ الذي قام لاستقباله، ثم جلس بعد أن جلس الرجل وأذن له في الجلوس. شعر بالارتياح والزهو وهو يرنو إلى الأستاذ الكبير الذي تلقى عنه النور والعرفان في الأعوام الثلاثة الماضية، سواء عن مؤلفاته أم مجلته، فراح يملأ عينيه من الوجه الشاحب الذي وخط الشيب شعره وعلاه الكبر فلم يبق له من أمارات الفتوة إلا عينان عميقتان تشعان بريقا نافذا. هذا أستاذه، أو أبوه الروحي كما يدعوه، وإنه الآن في حجرة الوحي التي لا جدران لها ولكن رفوف من الكتب تمتد عاليا حتى السقف.

وقال الأستاذ بلهجة المتسائل: أهلا وسهلا؟

فقال أحمد بلباقة: جئت لأسدد الاشتراك.

ولما اطمأن إلى الأثر الطيب الذي أحدثه قوله استدرك قائلا: وأسأل عن مصير مقالة أرسلتها إلى المجلة منذ أسبوعين.

فابتسم الأستاذ عدلي كريم وهو يتساءل: اسم حضرتك؟ - أحمد إبراهيم شوكت.

فارتسمت على جبين الأستاذ تقطيبة التذكر ثم قال: إني أذكرك، أنت أول مشترك في مجلتي. نعم، وجئتني بثلاثة مشتركين، هه؟ إني أذكر اسم شوكت، وأظنني أرسلت لك خطاب شكر باسم المجلة؟

فقال أحمد في ارتياح ممتنا لهذا التذكر الجميل: جاءني كتاب من حضرتك اعتبرتني فيه «صديق المجلة الأول»! - هذا حق، إن مجلة الإنسان الجديد مجلة مبدأ ولا بد لها من أصدقاء مؤمنين كي تشق طريقها في زحمة مجلات الصور والاحتكار، فأنت صديق المجلة، أهلا وسهلا، ولكنك لم تشرفنا بالزيارة من قبل؟ - كلا، إني لم آخذ البكالوريا إلا في هذا الشهر.

فضحك الأستاذ عدلي كريم قائلا: أنت فاهم أن المجلة لا يزورها إلا الحاصل على البكالوريا؟!

فابتسم أحمد في ارتباك وقال: كلا طبعا، أعني أني كنت صغيرا.

فقال الأستاذ جادا: لا يليق بقارئ الإنسان الجديد أن يحسب العمر بالسنين، في بلادنا شيوخ قد جاوزوا الستين ولكنهم ما زالوا شبانا بعقولهم، وفيها شبان في ربيع العمر ولكنهم معمرون - منذ ألف عام أو أكثر - بعقولهم، وهذا هو داء الشرق .. (ثم بلهجة أرق): وهل أرسلت إلينا مقالات من قبل؟ - ثلاث مقالات كان مصيرها الإهمال، ثم مقالة أخيرة كنت أطمع في نشرها! - عن ماذا؟ لا تؤاخذني فإني أتلقى عشرات المقالات يوميا؟ - عن رأي لوبون في التعليم وتعليقي عليه! - على أي حال ستبحث عنها في السكرتارية - الحجرة المجاورة لحجرتي - وتعلم بمصيرها ..

وهم أحمد بالقيام ولكن الأستاذ عدلي أشار إليه بالاستمرار في الجلوس وهو يقول: المجلة اليوم في شبه إجازة، أرجو أن تمكث معي قليلا لنتحدث.

فتمتم أحمد بارتياح عميق: بكل سرور يا افندم. - قلت إنك أخذت البكالوريا هذا العام، كم سنك؟ - ستة عشر عاما. - سن مبكرة، حسن، هل المجلة منتشرة في المدارس الثانوية؟ - كلا للأسف .. - أعلم هذا، أكثرية قرائنا في الجامعة، القراءة في مصر ملهاة رخيصة، ولن نتطور حتى نؤمن بأن القراءة ضرورة حيوية.

ثم بعد قليل من الصمت: وما حال التلاميذ؟

فنظر إليه أحمد متسائلا كأنما يستزيده تفسيرا لقوله، فقال الرجل: إني أسأل عن الناحية السياسية باعتبارها أوضح من غيرها .. - الأغلبية الساحقة من التلاميذ وفديون .. - ولكن ثمة كلام عن حركات جديدة؟ - مصر الفتاة؟ .. لا وزن لها، فرقة تعد على الأصابع، الأحزاب الأخرى لا أنصار لها إلا أقارب زعمائها، وهناك قلة لا تهتم بشئون الأحزاب كافة، وآخرون - وأنا منهم - نفضل الوفد على غيره ولكننا نطمع فيما هو أكمل ..

فقال الرجل بارتياح: هذا ما أسأل عنه، الوفد حزب الشعب، وهو خطوة تطورية خطيرة وطبيعية في آن واحد، كان الحزب الوطني حزبا تركيا دينيا رجعيا، أما الوفد فهو مبلور القومية المصرية ومطهرها من الشوائب والخبائث، إلى أنه مدرسة الوطنية والديمقراطية، ولكن المسألة أن الوطن لا يقنع، وما ينبغي له أن يقنع، بهذه المدرسة، نريد مرحلة جديدة من التطور، نريد مدرسة اجتماعية، لأن الاستقلال ليس بالغاية الأخيرة، ولكنه الوسيلة لنيل حقوق الشعب الدستورية والاقتصادية والإنسانية.

فهتف أحمد بحماس : ما أجمل هذا الكلام! - ولكن ينبغي أن يكون الوفد نقطة البدء، أما مصر الفتاة فحركة فاشستية رجعية مجرمة، ليست دون الرجعية الدينية خطرا، وهي ليست إلا صدى للعسكرية الألمانية والإيطالية التي تعبد قوة، وتقوم على الاستبداد وتزري بالقيم الإنسانية والكرامة البشرية، إن الرجعية داء مستوطن في الشرق كالكوليرا والتيفويد فينبغي استئصاله ..

فعاد أحمد يقول متحمسا: إن جماعة «الإنسان الجديد» تؤمن بهذا كل الإيمان ..

فهز الرجل رأسه الكبير في أسف وهو يقول؛ ولذلك فالمجلة هدف للرجعيين من كافة النحل، إنهم يرمونني بإفساد الشباب! - كما اتهموا سقراط من قبل ..

فابتسم الأستاذ عدلي كريم في ارتياح وقال: وما وجهتك؟ أعني أي كلية تقصد؟ - الآداب ..

فاعتدل الأستاذ في جلسته، وقال: الأدب وسيلة من وسائل التحرير الكبرى، ولكنه قد يكون وسيلة للرجعية، فاعرف سبيلك، فمن الأزهر ودار العلوم خرجت آداب مرضية عملت أجيالا على تجميد العقل وقتل الروح. ومهما يكن من أمر - ولا تدهش أن يصارحك بهذا الرأي رجل معدود في الأدباء - فالعلم أساس الحياة الحديثة، ينبغي أن ندرس العلوم وأن نشبع بالعقلية العلمية. الجاهل بالعلم ليس من سكان القرن العشرين ولو كان عبقريا، وعلى الأدباء أن ينالوا حظهم منه. لم يعد العلم وقفا على العلماء. أجل لهؤلاء التضلع والتعمق والبحث والكشف، ولكن على كل مثقف أن يضيء نفسه بنوره وأن يعتنق مبادئه ومناهجه ويتحلى بإسلوبه، ينبغي أن يحل العلم محل الكهانة والدين في العالم القديم ..

فقال أحمد مؤمنا على قول أستاذه؛ ولذلك كانت رسالة «الإنسان الجديد» هي تطوير المجتمع على أساس علمي ..

فقال عدلي كريم باهتمام: أجل، على كل منا أن يقوم بواجبه، ولو وجد نفسه وحيدا في الميدان ..

فهز أحمد رأسه موافقا فعاد الآخر يقول: ادرس الآداب كما تشاء، واعن بعقلك أكثر ما تعنى بالمحفوظات، ولا تنس العلم الحديث، ولا يجب أن تخلو مكتبتك - إلى جانب شكسبير وشوبنهور - من كونت ودارون وفرويد وماركس وإنجلز، لتكون لك حماسة أهل الدين، ولكن ينبغي أن تذكر أن لكل عصر أنبياءه، وأن أنبياء هذا العصر هم العلماء .

وابتسم الأستاذ ابتسامة أوحت بأنها تحية الختام فنهض أحمد مادا يده، وسلم ثم غادر الحجرة ممتلئا حياة وسعادة. وفي الصالة الخارجية ذكر الاشتراك والمقالة فمال إلى الحجرة المجاورة، وطرق الباب مستأذنا ثم دخل. رأى حجرة بها ثلاثة مكاتب، اثنان خاليان، والثالث جلست عليه فتاة. لم يكن يتوقع هذا فوقف ينظر إليها في حيرة وتساؤل. كانت في العشرين، عميقة السمرة، سوداء العينين والشعر، وكان في أنفها الدقيق وذقنها المدبب وفمها الرقيق ما يوحي بالقوة، دون أن يفسد ملاحتها. تساءلت وهي تتفحصه: أفندم؟

فقال يعزز مركزه: الاشتراك ..

ودفع المبلغ وأخذ الإيصال، وفي أثناء ذلك كان قد تغلب على ارتباكه فقال: كنت قد أرسلت مقالة إلى المجلة، وأخبرني الأستاذ عدلي كريم بأنها في السكرتارية.

وهنا دعته إلى الجلوس على كرسي أمام المكتب فجلس ثم سألت: عنوان المقالة من فضلك؟

قال دون أن يشعر بارتياح لموقفه هذا أمام فتاة: التعليم عند لوبون.

ففتحت دوسيها، وفرت أوراقا حتى استخرجت المقال، ولمح أحمد خطه فخفق قلبه، وحاول أن يقرأ التوقيع الأحمر عليه من مجلسه غير أنها وفرت عليه عناء المحاولة إذ قالت: موقع عليه بما يأتي «يلخص وينشر في باب رسائل القراء.»

فشعر أحمد بخيبة أمل، ولبث لحظات ينظر إليها دون أن ينبس، ثم تساءل: في أي عدد؟ - في العدد القادم.

فسأل بعد تردد: ومن الذي يلخصه؟ - أنا.

وداخله شعور بالامتعاض، لكنه سأل: ويوقع عليه باسمي؟

فقالت ضاحكة: طبعا، ينشر عادة ما يفيد بأنه جاءتنا رسالة من الأديب (ثم وهي تنظر في الإمضاء): أحمد إبراهيم شوكت ثم نورد تلخيصا وافيا لفكرتك!

فتردد قليلا ثم قال: كنت أفضل لو نشرت بأكملها ..

فقالت باسمة: المرة القادمة إن شاء الله ..

فجعل ينظر إليها صامتا ثم سألها: حضرتك موظفة هنا؟ - كما تراني!

نازعته نفسه أن يسألها عن مؤهلاتها ولكن شجاعته خذلته في اللحظة الأخيرة فسألها: اسم حضرتك من فضلك لأطلبك في التليفون إذا لزم الأمر! - سوسن حماد. - متشكر جدا.

ونهض محييا إياها بيده، وقبل أن يغادر الحجرة التفت نحوها قائلا : أرجو أن تلخصيها بعناية ..

فقالت دون أن تنظر إليه: إني أعرف واجبي!

فغادر الحجرة نادما على قوله ..

14

كان كمال في حجرة مكتبه عندما جاءت أم حنفي لتقول له: سي فؤاد الحمزاوي عند سيدي الكبير ..

ونهض كمال بجلبابه الفضفاض، وغادر الحجرة مسرعا إلى تحت. إذن عاد فؤاد إلى القاهرة بعد غيبة عام، عاد وكيل نيابة قنا العتيد!

وكانت تجيش بصدره مشاعر صداقة ومودة بيد أن شوائب من عدم الارتياح شابتها، فصداقته لفؤاد كانت ولا تزال تنطوي على نوع من الصراع، صراع من الحب والنفور، بين المودة والغيرة، ومهما يحاول أن يتسامى بعقله فالغرائز تشده على رغمه إلى الإسفاف الدنيوي. فلم يكن يشك وهو يهبط السلم في أن هذه الزيارة ستثير عنده ذكريات سعيدة ولكنها في الوقت نفسه ستنكأ جروحا كادت أن تندمل. وعندما مر في الصالة بمجلس القهوة المكون من الأم وعائشة ونعيمة سمع أمه وهي تهمس قائلة: سوف يطلب يد نعيمة ..

ولما شعرت بوجوده التفتت إليه قائلة: صديقك بالداخل، ما ألطفه، أراد أن يقبل يدي فمنعته!

ورأى والده متربعا على الكنبة وفؤاد جالسا على مقعد قبالته. فتصافح الصديقان القديمان وكمال يقول: حمدا لله على السلامة، أهلا وسهلا، .. أنت في إجازة؟ فأجاب عنه السيد أحمد باسما: بل نقل إلى نيابة القاهرة، نقل أخيرا بعد غربة طويلة في الصعيد ..

فجلس كمال على الكنبة وهو يقول: مبارك، من الآن فصاعدا نرجو أن نراك من آن لآخر.

فقال فؤاد: طبعا، وسنقيم من أول الشهر القادم بالعباسية، استأجرنا شقة بجوار قسم الوايلي ..

لم تتغير هيئة فؤاد كثيرا، ولكن صحته تقدمت بدرجة محسوسة فامتلأ عوده وتورد وجهه، أما عيناه فما زالتا تشعان ذلك الوميض الذكي. وسأل السيد أحمد الشاب قائلا: وكيف حال والدك؟ .. لم أره منذ أسبوع؟ - ليست صحته على ما يرام، إنه لا يزال آسفا على ترك المحل، لكن المأمول أن يكون خليفته قائما بالواجب؟

فضحك السيد قائلا: الأمر يقتضيني اليوم يقظة متواصلة، كان والدك يقوم بكل شيء شفاه الله وعافاه ..

واعتدل فؤاد في جلسته ووضع رجلا على رجل فلفتت هذه الحركة انتباه كمال فيما يشبه الانزعاج، أما السيد فلم يبد عليه حتى إنه لاحظها. أهكذا تتطور الأمور، أجل إنه وكيل نيابة قد الدنيا، ولكن أنسي من يكون الشخص المتربع أمامه؟! رباه ليس هذا فحسب. لقد أخرج علبة سجائر وقدمها للسيد فاعتذر شاكرا! حقا إن النيابة تنسي، ولكن من المؤسف أن يمتد نسيانها إلى ولي النعمة الذي يبدو أن فضله تبدد في الهواء كدخان هذه السيجارة الفاخرة. ولم يكن في حركات فؤاد تكلف من أي نوع كان، كان سيدا قد تعود السيادة. وقال السيد مخاطبا كمال: وهنئه أيضا؛ فقد رقي من مساعد إلى وكيل نيابة.

فقال كمال باسما: مبارك .. مبارك، أرجو أن أهنئك قريبا بكرسي القضاء.

فقال فؤاد: الخطوة التالية إن شاء الله.

ربما استباح لنفسه - عندما يصير قاضيا - أن يبول أمام الرجل المتربع أمامه! أما مدرس ابتدائي فيظل مدرسا ابتدائيا، وحسبه شاربه الغليظ وأطنان الثقافة التي عوجت رأسه.

ونظر السيد أحمد إلى فؤاد باهتمام وهو يسأل: وكيف حال السياسة؟

فقال فؤاد بارتياح: وقعت المعجزة! وقعت المعاهدة في لندن، أصغيت إلى الراديو وهو يعلن استقلال مصر، وانقضاء عهد التحفظات الأربعة فلم أصدق أذني. من كان يصدق هذا؟! - إذن أنت من الراضين على المعاهدة؟

فقال وهو يهز رأسه هزة أصحاب الشأن: في الجملة نعم؛ للمعاهدة أعداء مخلصون وآخرون غير مخلصين .. فإذا تأملنا الظروف التي تحيط بنا، وذكرنا أن شعبنا صبر على عهد صدقي رغم مرارته دون أن يثور عليه. فينبغي أن نعد المعاهدة خطوة موفقة، أزالت التحفظات ومهدت الطريق لإلغاء الامتيازات الأجنبية، وحددت مدة الاحتلال بعد قصره على منطقة معينة، إنها خطوة عظيمة بلا شك.

كان حماس السيد أحمد للمعاهدة أقوى وإحاطته بظروفها أقل، وكان يود لو تجاوب الآخر معه تجاوبا أشد، فلما خاب ظنه قال بعناد: على أي حال ينبغي أن نذكر أن الوفد قد أعاد إلى الأمة دستورها وحقق لها الاستقلال ولو بعد حين ..

وفكر كمال: كان فؤاد دائما «باردا» في الناحية السياسية، ولعله لم يتغير ، ولكنه يبدو مائلا إلى الوفد، أما أنا فطالما كنت مندفعا مع العاطفة، ثم انقلبت لا أومن بشيء، والسياسة نفسها لم تسلم من شكي النهم، ولكن قلبي لا يزال ينبض بالوطنية رغم عقلي.

وعاد فؤاد يقول ضاحكا: إن النيابة في عهود الانقلاب تنكمش إلى الوراء على حين يحتل البوليس المقدمة؛ إذ إن عهود الانقلاب عهود بوليسية، فإذا عاد الوفد إلى الحكم ردت للنيابة مكانتها ولزم البوليس حدوده؛ ففي عهد الحكم الطبيعي يكون القانون هو الكلمة العليا.

فعلق السيد على ذلك قائلا: وهل يمكن أن ننسى عهد صدقي؟! لقد كان الجنود يجمعون الأهالي بالعصي أيام الانتخابات، وكثير من الأعيان من أصدقائنا خربت بيوتهم وأشهروا إفلاسهم ثمنا لثباتهم على مبدأ الوفد، ثم إذا بنا نرى «الشيطان» ضمن هيئة المفاوضات في لباس الوطنيين الأحرار!

فقال فؤاد: كانت الظروف توجب الاتحاد، ولم يكن هذا الاتحاد ليكمل دون أن ينضم إليه الشيطان وأعوانه، والعبرة بالخواتيم.

ولبث فؤاد في حضرة السيد فترة غير يسيرة، احتسى في أثنائها القهوة، وجعل كمال يتفحصه بعناية فانتبه إلى بذلته الحريرية البيضاء الأنيقة، والوردة الحمراء التي تزين عروتها، وإلى الشخصية القوية التي أضفتها عليه الوظيفة، فشعر في أعماقه بأنه سيسر - رغم كل شيء - إذا طلب هذا الشاب يد بنت أخته، غير أن فؤاد لم يطرق هذا الموضوع، وبدا عليه أنه يرغب في الذهاب، وما لبث أن قال للسيد: آن وقت ذهابك إلى الدكان، سأمكث بقية الوقت مع كمال، وسوف أزور حضرتك قبل سفري إلى الإسكندرية؛ إذ إنني قررت أن أقضي بقية أغسطس وبعض سبتمبر في المصيف.

ونهض قائما فصافح السيد مودعا ثم غادر الحجرة يتقدمه كمال، وصعدا معا إلى الدور الأعلى حيث استقرا في حجرة المكتب. وجعل فؤاد يتصفح الكتب المصفوفة على الأرفف باسما ثم تساءل: ألا أستطيع أن أستعير منك كتابا.

فقال كمال وهو يداري عدم ارتياحه: بكل سرور، ماذا تقرأ عادة في أوقات فراغك؟ - عندي دواوين شوقي وحافظ ومطران، وبعض كتب الجاحظ والمعري، وأحب بصفة خاصة «أدب الدنيا والدين»، إلى مؤلفات كتابنا المعاصرين، هذا إلى بعض مؤلفات ديكنز وكونان دويل، ولكن انكبابي على القانون يلتهم أكثر وقتي ..

ثم نهض فجال جولة استعراضية بين الكتب قارئا عناوينها ثم عاد وهو ينفخ قائلا: مكتبة فلسفية قحة، لا ناقة لي فيها ولا جمل، إني أقرأ مجلة الفكر التي تكتب فيها، وأتابع مقالاتك التي تظهر تباعا منذ سنوات، لا أزعم أني قرأتها جميعا، أو أني أذكر منها شيئا، إن المقالة الفلسفية أثقل ما يقرأ، ووكيل النيابة رجل مرهق بالعمل، لماذا لا تكتب في الموضوعات الجذابة؟

طالما سمع بأذنه نعي مجهوده، ولكنه لم يحزن لذلك كثيرا كأنما اعتاده، إن الشك يلتهم فيما يلتهم الحزن نفسه، والشهرة ما هي؟ والجاذبية ما هي؟ ولكن مما يسره حقا ألا يجد فيه فؤاد تزجية الأوقات فراغه - وسأله: ماذا تعني بالموضوعات الجذابة؟ - الأدب مثلا. - قرأت لطائف منه مذ كنا معا ولكنني لست أديبا ..

فضحك فؤاد قائلا: إذن ابق في الفلسفة وحدك، ألست فيلسوفا؟

ألست فيلسوفا؟! عبارة مطبوعة في أعماقه، ارتجف من هول وقعها قلبه، هكذا هي مذ ألقيت عليه في شارع السرايات من ثغر عايدة! ولكي يداري جيشة صدره ضحك ضحكة عالية، ثم ذكر الأيام التي كان فؤاد يتودده ويتبعه كظله، ها هو الآن يطالعه رجلا خطيرا جديرا بالتودد والولاء! ماذا جنيت من حياتي؟ وكان فؤاد يتفحص شارب صاحبه ثم ضحك فجأة قائلا: ولو! ..

فتساءل كمال بعينيه عن معنى هذا فعاد الآخر يقول: كلانا يجري نحو الثلاثين دون أن يتزوج، جيلنا مكتظ بالعزاب، جيل الأزمة، أما زلت عند رأيك؟ - لا أتزحزح .. - لا أدري لم أعتقد بأنك لن تتزوج أبدا. - أنت بعيد النظر طول عمرك ..

فقال وهو يبتسم ابتسامة رقيقة كأنما ليعتذر بها سلفا عما سيقول: أنت رجل أناني، تأبى إلا أن تستأثر بكل حياتك لنفسك، يا أخي لقد تزوج النبي ولم يمنعه ذلك من ممارسة حياته الروحية العظيمة ..

ثم مستدركا وهو يضحك: لا تؤاخذني على ضرب المثل بالنبي، كدت أنسى أنك .. ولكن مهلا، إنك لم تعد الملحد القديم ، أنت الآن تشك حتى في الإلحاد، وهذه خطوة كسب للإيمان ..

فقال كمال بهدوء: دعنا من التفلسف فإنك لا تحبه وخبرني لم لم تتزوج أنت ما دام هذا هو رأيك في العزوبة؟

وشعر لتوه بأنه ما كان ينبغي له أن يطرح هذا السؤال خشية أن يفسره الآخر بأنه استدراج إلى الكلام في خطبة نعيمة! ولكن فؤاد لم يبد عليه أنه فكر في هذا، بل ضحك ضحكة عالية وإن لم تخرج به عن حد الوقار، وقال: أنت تعلم أني لم أفسد إلا متأخرا، لم أفسد مثلك في زمن مبكر، فأنا لم أشبع بعد! - أتتزوج إذا شبعت؟

فضرب فؤاد الهواء بظاهر يده كأنما يطرد الكذب وقال بلهجة المعترف: ما دمت قد صبرت حتى اليوم فلأصبر فترة أخرى، أصبر حتى أرقى قاضيا مثلا فيسعني أن أصاهر وزيرا إذا شئت ..

يا ابن جميل الحمزاوي! عروس من صلب وزير وحماتها من المبيضة! أتحدى ليبنتز أن يبرر هذا ولو كما برر وجود الشر في الخليقة! - أنت تنظر إلى الزواج نظرة ...

فقاطعه قبل أن يكمل كلامه ضاحكا: خير من الذي لا يعيره نظرة على الإطلاق! - ولكن السعادة ... - لا تتفلسف! السعادة فن ذاتي، قد تجدها عند كريمة وزير بينما لا تجد إلا التعاسة في وسطك، الزواج معاهدة كالتي وقعها النحاس بالأمس، مساومة وتقدير ودهاء وبعد نظر وفوائد وخسائر، وفي بلدنا لا تأتي الرفعة إلا عن هذا السبيل، في الأسبوع الماضي عين مستشارا رجل لم يبلغ الأربعين من عمره، وقد أخدم القضاء عمري مجتهدا ناصبا دون أن أظفر بهذا المركز السامي!

ومعلم ابتدائي ما قوله؟ في الدرجة السادسة ينقضي عمره، ولو طفح بالفلسفة رأسه .. - إن مركزك يغنيك عن أمثال هذه المغامرات .. - لولا هذه المغامرات ما استطاع رئيس أن يؤلف وزارته!

فضحك كمال ضحكة لا طعم لها وقال: أنت في حاجة إلى شيء من الفلسفة، تحتاج إلى جرعة من سبينوزا .. - اشبع منه أنت، لكن دعنا من هذا، وخبرني عن أماكن اللهو والشراب، في قنا كنت أختلس اللذة في حذر، أن مركزنا يحتم علينا الانزواء ومجانبة البشر، والصراع الأبدي بيننا وبين البوليس يوجب الحذر أكثر، وكيل النيابة مركز خطير متعب ..

عودة إلى الحديث الذي يهدد حرارتي بالانفجار، حياتي في ضوئك تأديب وتهذيب وأشد امتحانا لفلسفتي الحائرة في هذه الحياة .. - تصور أن الظروف تجمعني بكثير من الأعيان، ثم يدعونني إلى سراياتهم، فأجد أن الواجب يقضي بأن أرفض دعوتهم كيلا يؤثر مؤثر في قيامي بواجبي، ولكن عقليتهم لا تفهم هذا، فأعيان الإقليم جميعا يرمونني بالكبر وأنا منه براء.

بل أنت غرور وكبر وغيرة على الواجب معا. وقال موافقا: نعم .. - ولنفس الأسباب خسرت رجال البوليس، أنا لا أرضى عن طرقهم الملتوية؛ لذلك أقف لهم بالمرصاد، ورائي القانون، ووراءهم همجية القرون الوسطى، إن الجميع يكرهونني ولكن الحق معي ..

الحق معك، هذا ما أعرفه فيك من قديم، الذكاء والنزاهة، ولكنك لا تحب ولا يمكن أن تحب، أنت لا تتمسك بالحق لوجه الحق وحده ولكن لوجه الحق والغرور والكبرياء والشعور بالنقص. هكذا الإنسان، إني أصطدم بأمثالك حتى في الوظائف الحقيرة، الإنسان العذب القوي أسطورة، ولكن ما قيمة الحب؟ وما المثالية؟ وما أي شيء؟!

وهكذا طال بهما الحديث. وعندما هم فؤاد بالذهاب مال على أذن كمال متسائلا: أنا جديد في القاهرة، طبعا أنت تعرف بيتا بل بيوتا، مستورة طبعا؟

فقال كمال باسما: إن المدرس كوكيل النيابة يتحرى الستر دائما .. - عال. سنلتقي قريبا، إنني مشغول الآن بترتيب الشقة الجديدة ولا بد أن نسهر كم مرة معا! - اتفقنا ..

وغادرا الحجرة معا فلم يتركه حتى أوصله إلى باب السكة، وعندما مر بالدور الأول في أثناء عودته التقى بأمه واقفة تنتظره عند المدخل، فسألته بلهفة: ألم يكلمك؟

فأدرك ما تسأل عنه، وشعر لذلك بألم لم يشعر بمثله، ولكنه تجاهل الأمر وتساءل بدوره: عن ماذا؟ - نعيمة؟

فأجاب ممتعضا: كلا .. - عجيبة!

وتبادلا نظرة طويلة، ثم عادت أمينة تقول: ولكن الحمزاوي كلم أباك!

فقال كمال وكان يداري ما استطاع ثورة حنقه: لعله لم يكن فيما قال نائبا عن ابنه ..

فقالت أمينة غاضبة: هذا عبث لا يليق .. ألا يدري من يكون هو ومن تكون هي؟ كان ينبغي أن يفهمه جدك حقيقة مركزه. - إن فؤاد بريء، لعل والده أسرع دون تدبر بحسن نية .. - ولكن حدث ابنه دون شك، فهل رفض الآخر؟ ذلك الذي جعلناه موظفا محترما بنقودنا ..! - لا داعي للكلام في هذا الموضوع. - أن هذا يا بني أمر لا يتصوره العقل، ألا يدري أن مصاهرته لا تشرفنا؟! - إذن لا تأسفي عليها .. - لست آسفة، ولكني غاضبة للإهانة .. - لا إهانة هنالك، ليس إلا سوء تفاهم ..

وعاد إلى حجرته حزينا خجلا. وجعل يحدث نفسه: نعيمة وردة جميلة، بيد أني رجل لم يبق لي من الفضائل إلا حب الحقيقة فينبغي أن أسأل نفسي أهي حقا كفء لوكيل نيابة؟ يستطيع رغم وضاعة أصله أن يشرك في حياته من هي أجل ثقافة وأعز محتدا وأكثر مالا وجمالا أيضا. لقد تسرع أبوه الطيب وليس هذا خطأه، ولكنه كان وقحا في حديثه معي، وهو وقح بلا شك، إنه رجل ذكي نزيه كفء وقح مغرور، وما هذا بذنبه ولكن الذنب ذنب هذه الفوارق التي تخلق فينا شتى الأمراض.

15

كانت مجلة «الفكر» تشغل الدور الأرضي بالعمارة رقم 21 بشارع عبد العزيز. وكانت حجرة صاحبها الأستاذ عبد العزيز الأسيوطي تطل بنافذة ذات قضبان على عطفة بركات المظلمة فكانت تضاء ليل نهار. والحق أنه كلما أقبل كمال على إدارة المجلة ذكره موضعها الأرضي المظلم ورثاثة أثاثها بمكانة «الفكر» في بلده، وبمكانته هو في مجتمعه، واستقبله الأستاذ عبد العزيز بابتسامة ترحيب وود، ولا عجب فقد اتصلت بينهما أسباب المعرفة منذ عام 1930 أي منذ بدأ كمال يبعث إليه بمقالاته الفلسفية، ثم مضت ستة أعوام وهما على تعاون صادق غير مأجور، والواقع أن جميع كتاب المجلة كانوا من المتعاونين في سبيل الفلسفة والثقافة لوجه الله وحده! ..

وكان عبد العزيز يرحب بكافة الكتاب المتطوعين حتى المختصين - مثله - في الفلسفة الاسلامية، ومع أنه كان أزهري النشأة إلا أنه سافر إلى فرنسا حيث قضى هنالك أربعة أعوام محصلا ومستمعا دون أن يحصل على درجة علمية. وكان في غنى عن السعي للرزق بعقار يملكه يدر عليه شهريا خمسين جنيها ولكنه أنشأ مجلة «الفكر» في عام 1923، وثابر على إصدارها بالرغم من أنها لم تكن تزيد دخله شيئا يضاهي بعض ما يبذله فيها من جهد. وما كاد يستقر المجلس بكمال حتى دخل الحجرة رجل في مثل سنه، يرتدي بذلة من التيل الرمادي، طويل القامة، وإن كان دون كمال طولا، نحيف، ولكنه أكثر امتلاء منه، مستطيل الوجه، متوسط الجبين، ممتلئ الشفتين، ذو أنف دقيق وذقن مدبب أضفى على سمنته طابعا خاصا. تقدم خفيفا باسم الثغر فمد يده إلى الأستاذ عبد العزيز، فصافحه هذا ثم قدمه إلى كمال قائلا: الأستاذ رياض قلدس مترجم بوزارة المعارف، انضم حديثا إلى جماعة كتاب «الفكر»، وقد أمد مجلتنا العلمية بدم جديد بتلخيصه الشهري للمسرحيات العالمية وكتابة القصص القصيرة.

ثم قدم كمال قائلا: الأستاذ كمال أحمد عبد الجواد، لعلك من قراء مقالاته؟

فتصافح الرجلان ورياض يقول بإعجاب: إني أقرأ مقالاته منذ سنوات، مقالات قيمة بكل معنى الكلمة ..

فشكر كمال متلقيا ثناءه بحذر، ثم جلسا على كرسيين متقابلين أمام مكتب الأستاذ عبد العزيز الذي مضى يقول: لا تنتظر يا أستاذ رياض أن يرد عليك بالمثل قائلا إنه قرأ قصصك القيمة، إنه لا يقرأ قصصا البتة.

فضحك رياض ضحكة جذابة كشفت عن أسنان نضيدة لامعة فلجاء الثنيتين ثم قال: ألا تحب الأدب إذن؟ ما من فيلسوف إلا وله فلسفة خاصة عن الجمال، وهي لا تتأتى له إلا بعد اطلاع واسع على شتى الفنون ومنها الأدب طبعا ..

فقال كمال في شيء من الارتباك: لست أكره الأدب، طالما ارتحت في جنات شعره ونثره، ولكن أوقات الراحة قليلة! - معنى ذلك أنك قرأت ما استطعت من القصص إذ إن الأدب الحديث يكاد يقتصر على القصة والتمثيلية ...

فعاد كمال يقول: قرأت عددا وفيرا منها على مدى العمر، بيد أنني ...

وهنا قاطعه عبد العزيز الأسيوطي قائلا وهو يبتسم ابتسامة ذات معنى: عليك يا أستاذ رياض من الآن فصاعدا أن تقنعه بأفكارك الجديدة، وحسبك أن تعلم الآن أنه فيلسوف، وأن ولعه مركز في الفكر.

ثم التفت إلى كمال متسائلا: جئت بمقال الشهر؟

فأخرج كمال ظرفا متوسطا ووضعه في سكون أمام الأستاذ الذي تناوله بدوره فاستخرج منه أوراق المقالة ثم تصفح العنوان وهو يقول: عن برجسون؟ .. حسن!

فقال كمال: فكرة تقديم عامة تبين الدور الذي لعبته فلسفته في تاريخ الفكر الحديث، وربما ألحقتها بمقالات أخر تفصيلية ..

وكان رياض قلدس يتابع الحديث باهتمام فتساءل وهو يحدج كمال بنظرة لطيفة: تتبعت مقالاتك منذ سنوات، منذ بدأت تكتب عن فلاسفة الإغريق، وهي مقالات متنوعة وأحيانا تكون متناقضة بالقياس إلى ما تعرض من فلسفات، فأدركت أنك مؤرخ، بيد أنني حاولت عبثا أن أهتدي إلى موقفك أنت مما تكتب، وأي فلسفة تنتمي إليها؟

فقال عبد العزيز الأسيوطي: نحن حديثو عهد بالدراسات الفلسفية فيجب أن نبدأ بالعرض العام، ولعل الأستاذ كمال يتمخض فيما بعد عن فلسفة جديدة، ولعلك تكون يا أستاذ رياض من دعاة الكماليزم!

فضحكوا جميعا، وخلع كمال نظارته وراح يجلو ناظريها، وكان سرعان ما يندمج في الحديث خاصة إذا أنس إلى محدثه، وبدا الجو صافيا عذبا. وقال كمال: إني سائح في متحف لا أملك فيه شيئا، مؤرخ فحسب، لا أدري أين أقف ..

فقال رياض قلدس في اهتمام يتزايد: أي في مفترق الطرق. وقفت في ميدانك عهدا قبل أن أعرف وجهتي، ولكني أرجح أنه موقف ذو قصة، لأنه عادة يكون نهاية مرحلة وبدء مرحلة جديدة، ألم تعرف ألوانا من الإيمان قبل موقفك هذا؟

نغمة هذا الحديث تعيد إليه ذكرى أغنية قديمة عالقة جذورها بالقلب، هذا الشاب وهذا الحديث، خلت سنين ناضبة من الصداقة الروحية حتى اعتاد أن يحدث نفسه كلما افتقد من يحدثه، ومنذ عهد بعيد لم يستطع أحد أن يبعث هذا النشاط الروحي في صدره، لا إسماعيل لطيف ولا فؤاد الحمزاوي ولا عشرات المدرسين، هل آن للمكان الذي خلا بذهاب حسين شداد أن يشغل؟! وأعاد وضع النظارة على عينيه وابتسم قائلا: لذلك قصة طبعا، وكالعادة كان لي إيماني الديني، ثم إيماني بالحقيقة .. - أذكر أنك عرضت الفلسفة المادية بحماس يدعو للريبة .. - كان حماسا صادقا ثم لم ألبث أن حركت رأسي مرتابا .. - لعلها الفلسفة العقلية؟ - ثم لم ألبث أن حركت رأسي مرتابا، الفلسفات قصور جميلة هادئة ولكنها لا تصلح للسكنى ..

فقال عبد العزيز باسما: وشهد شاهد من أهلها!

فهز كمال كتفيه استهانة، أما رياض فواصل تحقيقه قائلا: هنالك العلم فلعله نجا من شكك؟ - إنه دنيا مغلقة حيالنا لا نعرف إلا بعض نتائجها القريبة، ثم اطلعت على آراء نخبة من العلماء يرتابون في مطابقة الحقيقة العلمية للحقيقة الواقعية، وآخرين ينوهون بقانون الاحتمال. وغيرهم ممن تراجعوا عن ادعاء الحقيقة المطلقة، فلم ألبث أن حركت رأسي مرتابا!

فابتسم رياض قلدس دون أن ينبس فعاد الآخر يقول: حتى مغامرات الروحية الحديثة وتحضير الأرواح غرقت فيها حتى أذني، ودار رأسي، وما زال يدور في فضاء مخيف، ما الحقيقة؟! ما القيم؟ ما أي شيء؟ إني أحيانا أشعر بتأنيب ضمير لفعل الخير كالذي أشعر به عند الوقوع في الشر!

فضحك عبد العزيز ضحكة عالية، وقال: لقد انتقم الدين منك، هجرته جريا وراء الحقائق العليا فعدت صفر اليدين!

وقال رياض قلدس، وكان يبدو في قوله مجاملا لا أكثر: موقف الشك هذا لذيذ! مشاهدة وتأمل وحرية مطلقة وأخد من كل شيء أخذ السائح!

فقال عبد العزيز مخاطبا كمال: أنت أعزب في فكرك، كما أنت أعزب في حياتك!

وانتبه كمال إلى هذه الملاحظة العابرة باهتمام، ترى أعزوبته نتيجة لفكره أم العكس هو الصحيح؟ أم أن الاثنين نتيجة لشيء ثالث؟ وقال رياض قلدس: العزوبة حال مؤقتة، وربما كان الشك كذلك!

فقال عبد العزيز: ولكنه فيما يبدو لن يميل إلى الزواج أبدا ..

فقال رياض متعجبا: ما الذي يحول بين الشك والحب؟ وما الذي يمنع محبا من الزواج؟ أما الإصرار على العزوبة فليس من الشك في شيء، الشك لا يعرف الإصرار!

فتساءل كمال، وهو غير جاد في باطنه: ألا يحتاج الحب إلى شيء من الإيمان؟

فقال رياض قلدس ضاحكا: كلا، إن الحب كالزلزال الذي يرج الجامع والكنيسة والماخور على السواء ..

زلزال؟ ما أصدقه من تشبيه، زلزال يهدم كل شيء ثم يغرقه في صمت الموت. - وأنت يا أستاذ قلدس. لقد أطريت الشك، فهل أنت من أهله؟

فقال عبد العزيز ضاحكا: إنه ذلك نفسه!

وضجوا بالضحك، ثم قال رياض وكأنما كان يقدم نفسه: لبثت فيه فترة ثم مرقت منه، لم أعد أشك في الدين لأني كفرت به، ولكني أومن بالعلم والفن، إلى الأبد إن شاء الله!

عبد العزيز متسائلا في تهكم: إن شاء الله الذي لا تؤمن به.

فقال رياض قلدس باسما: الدين ملك الناس، أما الله فلا علم لنا به، من ذا الذي يستطيع أن يقول لا أومن بالله، أو يقول أومن بالله؟ الأنبياء هم المؤمنون الحقيقيون، وذلك أنهم رأوه أو سمعوه أو خاطبوا رسل وحيه!

فقال كمال: ولكنك تؤمن بالعلم والفن؟ - نعم .. - الإيمان بالعلم له وجاهته، ولكن الفن؟! أنا أفضل أن أومن بالأرواح عن أن أومن بالقصة مثلا!

فحدجه رياض بنظرة عاتية، وقال بهدوء: العلم لغة العقول، والفن لغة الشخصية الإنسانية جميعا! - ما أشبه هذا الكلام بالشعر!

فتقبل رياض تهكم كمال بابتسامة متسامحة، وقال: العلم يجمع البشر في نور أفكاره، والفن يجمعهم في عاطفة سامية إنسانية، وكلاهما يطور البشرية ويدفعها إلى مستقبل أفضل ..

يا للغرور! يكتب قصة من صفحتين كل شهر، ويظن أنه يطور البشرية؛ وأنا لست دونه سماجة، فلأنني ألخص فصلا من كتاب تاريخ الفلسفة لفدنج، أطالب في أعماقي بالمساواة على الأقل بفؤاد جميل الحمزاوي وكيل نيابة الدرب الأحمر، ولكن كيف تطاق الحياة دون ذلك؟ مجانين نحن أم عقلاء أو مجرد أحياء؟ أف من كل شيء! - وما قولك في العلماء الذين لا يشاركونك في حماستك للعلم؟ - لا ينبغي أن نفسر تواضع العلم بالعجز أو اليأس، العلم سحر البشرية ونورها ومرشدها ومعجزاتها، وهو دين المستقبل. - والقصة؟

بدا رياض لأول مرة وهو يداري استياءه، فاستدرك الآخر كالمعتذر: أعني الفن عموما؛ فقال رياض قلدس متسائلا في حماسة: أتستطيع أن تعيش في وحدة مطلقة؟ لا بد من النجوى، من العزاء، من المسرة، من الهداية، من النور، من الرحلة في أنحاء المعمورة والنفس، هذا هو الفن ..

وهنا قال الأستاذ عبد العزيز: خطر لي خاطر، أن نجتمع نحن وبعض الزملاء مرة كل شهر للحديث في شتى الفكر، على أن ينشر حديثنا بعنوان «محاورة شهر كذا» ..

فقال رياض قلدس، وهو يرمق كمال بنظرة ودية: إن حديثنا لن ينقطع، أو هذا ما أوده، أنعد أنفسنا أصدقاء؟

فقال كمال بحماسة صادقة: بكل تأكيد، يجب أن نتقابل في كل فرصة ..

شمل كمال إحساس بالسعادة لهذه «الصداقة الجديدة»، كان يشعر بأن جانبا ساميا من قلبه استيقظ بعد سبات عميق، فاقتنع أكثر من قبل بخطورة الدور الذي تلعبه الصداقة في حياته، وبأنها عنصر حيوي لا غنى له عنه، أو يظل كالظامئ المحترق في صحراء ..

16

افترق الصديقان الجديدان عند العتبة، فعاد كمال من الموسكي والساعة تدور في الثامنة مساء، يتنفس جوا خانقا شديد الحرارة. وتمهل عند عطفة الجوهري ثم مال إليها، ومرق من ثالث باب على يسار الداخل. ورقي في الدرج حتى الدور الثاني، ثم دق الجرس، ففتحت الشراعة عن وجه امرأة قد جاوزت الستين، حيته بابتسامة كشفت عن أسنان ذهبية، وفتحت الباب فدخل صامتا، أما المرأة فقالت ترحب به: أهلا بابن الحبيب، أهلا بابن أخي ..

وتبعها إلى صالة تتوسط حجرات، فيها كنبتان متقابلتان بينهما سجادة قصيرة مزركشة وخوان ونارجيلة، وشذا بخور في الأركان. كانت المرأة بدينة، هشة من كبر، عاصبة الرأس بمنديل منمنم بترتر. مكحولة العينين تلوح فيهما نظرة ثقيلة تشي بوطأة الكيف، وفي تضاعيف وجهها آثار جمال دابر واستهتار مقيم. تربعت على الكنبة أمام النارجيلة، وأومأت إليه ليجلس إلى جانبها، فجلس وهو يسأل باسما: كيف حال الست جليلة؟

فهتفت محتجة: قل عمتي ..! - كيف حالك يا عمتي؟ - الحال معدن يا ابن عبد الجواد، .. (ثم بصوت مرتفع أجش): بنت يا نظلة ..

وبعد دقائق جاءت الخادم بكأسين مترعتين ووضعتهما على الخوان، فقالت جليلة: اشرب، طالما قلتها لأبيك في الأيام الحلوة الماضية ..

فتناول كمال الكأس، وهو يقول ضاحكا: من المؤسف حقا أني جئت بعد فوات الأوان ..

وهي تلكمه لكمة وسوست لها الأساور الذهبية التي تغطي ساعديها: يا عيب الشوم، أكنت تريد أن تعيث فسادا حيث سجد أبوك؟! ثم مستدركة: ولكن أين أنت من أبيك؟ كان متزوجا للمرة الثانية حين عرفته، تزوج مبكرا على عادة أهل زمان، ولكن ذلك لم يمنعه من أن يرافقني زمنا كان أحلى الحياة، ثم رافق زبيدة ربنا يأخذ بيدها. ثم عشرات غيرنا، سامحه الله، أما أنت فلا تزال أعزب، ولا تزور بيتي مع ذلك إلا كل ليلة جمعة، يا عيب الشوم، أين الرجولة أين؟!

أبوه الذي عرفه عن لسانها غير أبيه الذي عرفه بنفسه، بل غير أبيه الذي حدثه عنه ياسين، رجل الغريزة، والحياة العارمة، لم تشغل هموم الفكر قلبه، فأين هو منه؟! حتى ليلة الجمعة التي يزور فيها هذا البيت لا يصفو له «الحب» فيها إلا بالخمر. فلولا السكر لبدا له الجو متجهما باعثا على الانهزام، وأول ليلة رمت به المقادير إلى هذا البيت ليلة لا تنسى؛ رأى المرأة لأول مرة فدعته إلى مجالستها ريثما تفرغ له فتاة، ولما جره الحديث إلى ذكر اسمه بالكامل هتفت المرأة: أأنت ابن السيد أحمد عبد الجواد التاجر بالنحاسين؟ نعم، أتعرفين أبي؟ يا ألف أهلا وسهلا .. أتعرفين أبي! .. أعرفه أكثر مما تعرفه أنت .. مازج عرقه عرقي .. وزففت له أختك .. كنت في أيامي كأم كلثوم في أيامك الكالحة .. سل عني طوب الأرض .. تشرفنا يا ستي .. اختر من بناتي من تعجبك وليس بين الخيرين حساب. هكذا فسق أول مرة في هذا البيت على حساب والده. وجعلت تنظر إلى وجهه طويلا حتى انقبض قلبه، ولولا الأدب لأعلنت دهشتها، إذن أين هذا الرأس الغريب وذلك الأنف العجيب من الوجه البدري المورد؟ ثم طال الحديث كل مطال، فعرف عنها تاريخ أبيه السري، ميزاته وجلائل أعماله ومغامراته وخفي صفاته، «وأنا من شدة الحيرة متردد أبدا بين وهج الغريزة ونسمة التصوف!»

قال كمال يجيبها: لا تبالغي يا عمتي، أنا مدرس والمدرس يحب الستر، ولا تنسي أني في العطلة أزورك كل أسبوع مرات لا مرة، ألم أكن عندك أول أمس؟ إني أزورك كلما .. «كلما لجت بي الحيرة، إن الحيرة تدفعني إليك قبل الشهوة» - كلما ماذا يا سيد نينة؟ - كلما فرغت من العمل .. - قل غير هذا الكلام .. أف من زمانكم أف، كانت فلوسنا من الذهب وفلوسكم من الحديد والنحاس، وطربنا كان من لحم ودم وطربكم راديو، وكان رجالنا من صلب آدم ورجالكم من صلب حواء، عندك كلام يا خوجة البنات؟

وأخذت من النارجيلة نفسا ثم غنت:

يا خوجة البنات علمهم

ضرب الآلات ونغمهم

فضحك كمال، ومال نحوها فقبل خدها قبلة جمعت بين المودة والمداعبة، فهتفت: شاربك كالشوك، كان الله في عون عطية! - إنها تحب الأشواك .. - بهذه المناسبة كان عندي بالأمس ضابط النقطة على سن ورمح، ولا فخر، كافة زبائني من سادة القوم، أم تظن أنك تتصدق علي بزيارتك! - يا ست جليلة، إنك لجليلة .. - أحبك إذا سكرت؛ فإن السكر يذهب عنك وقار الخوجة ويردك إلى شيء من أبيك، لكن خبرني ألا تحب عطية؟ .. إنها تحبك!

هذه القلوب التي حجرتها فظاظة الحياة كيف تحب؟ ولكن ماذا كان نصيبه من القلوب التي تجود بالحب وتستطيبه؟ فإما أن تحبه بنت صاحب المقلى فيعرض عن حبها، وإما أن يحب عايدة فتعرض عن حبه .. فقاموس حياته لم يعرف للحب من معنى سوى الألم؛ ذلك الألم العجيب الذي يحرق النفس حتى تبصر على ضوء نيرانه المتقدة عجائب من أسرار الحياة، ثم لا تخلف وراءها إلا حطاما. قال يعلق على قولها متهكما: أحبتك العافية .. - لم تعمل في المقدر إلا منذ طلاقها! - الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه. - الحمد لله في جميع الأحوال.

وابتسم ابتسامة ذات معنى، فأدركت معناها وقالت كالمحتجة: أتستكثر على أن أنوه بحمد الله؟ آه منك يا ابن عبد الجواد، اسمع، لا ابن لي ولا بنت، وقد شبعت من الدنيا، وعند الله العفو.

من عجب أن حديث المرأة تتردد فيه كثيرا هذه النغمة الموحية بالزهد! وجعل يختلس إليها النظر وهو يتجرع بقية كأسه، وكانت الخمر تأخذ في نفث سحرها معه من أول كأس. ووجد نفسه يتذكر عهدا مضى أيام كان للكأس فرحة سماوية، ما أكثر الأفراح التي ولت، في البدء كانت الشهوة ثورة وانتصارا، ثم انقلبت مع الزمن فلسفة حمراء، ثم أخمد نشواتها الزمن والعادة، ولم تخل في أحايين كثيرة من عذاب المتردد بين السماء والأرض؛ ذلك قبل أن يسوي الشك بين الأرض والسماء.

ودق الجرس، ودخلت عطية، بيضاء لدنة ممتلئة، لحذائها أطيط ولضحكتها رنين، فقبلت يد المعلمة، ثم ألقت نظرة باسمة على الكأسين الفارغتين وهي تقول مداعبة كمال: خنتني!

ومالت على أذن المعلمة فهمست قليلا، ثم رمقت كمال بنظرة ضاحكة، وسارت إلى الحجرة إلى يمين مجلس المعلمة، فلكزته جليلة قائلة: قم يا نور العين ..

تناول طربوشه ومضى إلى الحجرة. ولم تلبث نظلة أن لحقت به. حاملة صينية عليها زجاجة وكأسان ومزة خفيفة، فقالت لها عطية: هاتي لنا رطلين من العجاتي، أنا جوعانة!

خلع الجاكتة ومد ساقيه في ارتياح، ثم جلس يراقبها وهي تخلع حذاءها وفستانها، ثم وهي تسوي قميصها أمام المرآة وتسرح شعرها. الجسم الذي يحبه، الأبيض اللدن الممتلئ، ترى كيف كان جسم عايدة؟ كثيرا ما تبدو لذاكرته وكأنما لم يكن لها جسم، وحتى ما يذكره من نحافتها وسمرتها ورشاقتها فإنما تستقر في روحه كالمعاني المجردة، أما ما يلتصق عادة بالذاكرة من محاسن الأجساد كالصدور والسيقان والأرداف فلا يذكر البتة أن حواسه اتجهت إلى شيء منها، واليوم لو عرضت له حسناء كل ميزاتها الرشاقة والسمرة والنحافة ما ارتضى أن يبتاعها بريال، فكيف كان هذا الحب؟ وكيف ظلت ذكراه مصونة بالإجلال والتقديس رغم ازدرائه لكل شيء؟! - الدنيا حر، أف .. - إذا لطستنا الخمر استوى لدينا الحر والبرد! - لا تأكلني بعينيك، وارفع نظارتك!

مطلقة ذات بنين، تغطي كآبتها المعتمة بالعربدة، وتمتص الليالي النهمة أنوثتها وإنسانيتها دون مبالاة، يختلط في أنفاسها الوجد الكاذب بالمقت، وهي للاستعباد شر صورة؛ لذلك كانت الخمر نجاة من العذاب كما هي نجاة من الفكر!

وارتمت إلى جانبه ومدت يدها البضة إلى الزجاجة وأخذت تملأ الكأسين. هذه الزجاجة تباع في هذا البيت بضعف ثمنها، كل شيء هنا غال إلا المرأة، إلا الإنسان، ولولا الخمر ما أمكن ذلك المجلس؛ كي يغيب عن عين البشرية المحملقة في اشمئزاز، غير أن حياتنا لا تخلو من مومسات من نوع آخر، منهم وزراء وكتاب!

وبحلول الكأس الثانية في جوفه لاحت بشائر النسيان والمسرة. «هذه المرأة أشتهيها منذ زمن وحتى متى لا أدري، الشهوة سلطان مستبد أما الحب فشيء آخر، وكم يبدو في لباس عجيب إذا برئ من الشهوة، وإذا أتيح لي يوما أن أجدهما في كائن بشري عرفت الاستقرار المنشود؛ ولذلك فلن تزال الحياة تبدو لي عناصر يعوزها الانسجام، فأنا أنشد «الزواج» في الحياتين العامة والخاصة، لا أدري أيهما أصل الأخرى، ولكني متأكد أني تعس رغم سلوكي في الحياة الذي ضمن لي حظي من مسرات الفكر ولذات الجسد؛ كالقطار الذي ينطلق في قوة ولكنه لا يدري من أين ولا إلى أين. والشهوة حسناء طاغية سرعان ما يصرعها القرف، ويهتف القلب ناشدا في يأس أليم السعادة السرمدية، عبثا؛ لذلك فالشكوى لا تنقطع، والحياة خدعة كبرى، وينبغي أن نتجاوب مع حكمتها الخفية كي نتقبل هذه الخدع راضين، فنكون كالممثل الذي يعيي دوره الكاذب على المسرح، ولكنه رغم ذلك يعبد فنه.»

وتجرع كأسه الثالثة دفعة واحدة حتى أغرقت عطية في الضحك. وهي تحب السكر من صميم قلبها ولكنه يفعل بها الأفاعيل، فإذا لم يوقفها عند حدها علا صوتها فتشنجت ثم بكت وتقايأت. ولعبت الخمر برأسه فاهتز طربا، ومد إليها بصره فانبسطت أساريره. هي الآن امرأة فحسب، لا مشكلة، وكأنه لم تعد ثمة مشكلة في الوجود، الوجود نفسه - أثقل مشكلة في الحياة - لم يعد مشكلة، ولكن اشرب واغرق في القبل .. - ما ألطفك إذا ضحكت بلا سبب! - إذا ضحكت بلا سبب فاعلمي أن الأسباب أجل من أن تذكر ..

17

عاد عبد المنعم إلى السكرية ملتفا في معطفه، يحبك من آن لآخر طاقته ليتقي برد الشتاء القارص، وكان الظلام شاملا رغم أن الساعة لم تجاوز السادسة مساء. وما كاد يبلغ مدخل السلم حتى فتح باب الدور الأول وتسلل الشبح اللطيف الذي كان ينتظر، وخفق قلبه وجعل يحملق في الظلام بعينين متقدتين. وتابع شبحها وهو يرقى في السلم في خفة وحذر أن يحدث صوتا، فوجد نفسه موزعا بين رغبة تغريه بالاستسلام وإرادة تحثه على السيطرة على أعصابه التي تلوح بالخيانة والانهيار. وذكر - الآن فقط! - إنها واعدته الليلة من قبل، وقد كان بوسعه أن يقدم موعد عودته أو يؤخره فيتجنب هذا اللقاء، ولكنه نسي ذلك كله، لشد ما ينسى! ولم يكن ثمة وقت للتدبر والتذكر، فليترك هذا إلى حينه، عندما يخلو إلى نفسه في حجرته، إلى تلك اللحظة التي ستشهده. منتصرا ظافرا أو منهزما مغلوبا على أمره. وارتقى السلم في أعقابها دون أن يعزم على أمر، ملقيا بنفسه في خضم الامتحان، ولم يكن شيء لينسيه آلام صراعه الأبدي. وفوق البسطة خيل إليه أن شبحها يضخم حتى ملأ عليه المكان والزمان. وقال وهو يخفي قلقه، ويضمر الصمود مهما كلفه الأمر: مساء الخير ..

فجاء الصوت الرقيق يقول: مساء الخير، أشكرك لأنك سمعت نصيحتي ولبست معطفك ..

فغلبه التأثر لرقتها، وذابت في حلقه كلمة أوشك أن يجبهها بها، ثم قال مداريا ارتباكه: خشيت أن تمطر السماء ..

فرفعت رأسها إلى أعلى كأنما تنظر إلى السماء، وقالت: ستمطر عاجلا أو آجلا، ليس في السماء نجم، وقد ميزتك بصعوبة عندما دخلت الحارة.

فاستجمع قواه المتلاطمة، وقال فيما يشبه التحذير: الجو بارد، وجو السلم خاصة شديد الرطوبة!

فقالت الصغيرة بصراحة تعلمتها على يديه: لا أشعر بالبرد في قربك ..

فلفحت وجهه حرارة منبعثة من الداخل، ونم حاله على أنه سيعاود الخطأ على رغمه، وجعل يستعدي إرادته ليتغلب على الرجفة السارية في بدنه، فسألته: ما لك لا تتكلم؟

وأحس بيدها على منكبه تضغطه برقة، فما تمالك أن طوقها بذراعه، وقبلها قبلة طويلة، ثم أمطرها قبلات حتى سمع صوتها الرقيق يقول لاهثا: لا أطيق البعد عنك ..

فواصل عناقه متذاوبا في حضنها، وهي تهمس في أذنه: أتمنى لو أبقى هكذا إلى الأبد ..

فشد عليها الوثاق قائلا بصوت متهدج: يا للأسف!

فتباعد رأسها في الظلام قليلا، وهي تتساءل: علام تأسف يا حبيبي؟

فقال بعد تردد: على الخطأ الذي نتردى فيه .. - أي خطأ بالله؟

تخلص منها برقة، وراح يخلع معطفه، فطواه، ثم هم بأن يضعه على الدرابزين، ولكنه عدل عن فكرته في اللحظة الأخيرة - لحظة هائلة - فثناه على ذراعه - ثم تراجع إلى الوراء خطوة. كانت أنفاسه تضطرب ولكن عزمة اعترضت تيار استسلامه فقلبت كل شيء. وعادت يدها تتلمس السبيل إلى عنقه فأمسك بها، وانتظر حتى هدأت أنفاسه، ثم قال بهدوء: هذا خطأ كبير .. - أي خطأ؟! لست أفهم شيئا ..

صغيرة لم تبلغ الرابعة عشرة من عمرها، أنت تعبث بها إشباعا لرغبة لا ترحم، ولن يكون لهذا العبث من غاية، ليس إلا عبثا تجلب به غضب الله ومقته. - يجب أن تفهمي، أنستطيع أن نعلن ما نفعل؟ - نعلنه؟ - انظري كيف تستنكرين! ولكن لماذا لا نعلنه إن لم يكن عيبا مزريا؟

وشعر بيدها تتصيده، فارتقى إلى أولى درجات السلم التالية، وكان مطمئنا إلى أنه جاز منطقة الخطر بسلام. - اعترفي بأننا مخطئان، فلا ينبغي أن نصر على الخطأ .. - عجيب أن أسمع منك هذا الكلام. - لا عجب، إن ضميري لم يعد يحتمل الخطيئة، إنها تعذبني وتفسد علي صلاتي .. «صامتة! أذيتها فليسامحني الله، يا للألم! ولكني لن أتراجع، احمد الله على أن الخطأ لم يدفعك إلى ما هو شر منه ..» - يجب أن يكون ما حصل درسا لنا فلا نعود إلى مثله. أنت صغيرة، وقد أخطأت، فلا تجري مرة أخرى وراء الخطأ.

وقالت في نبرات باكية: لم أخطئ، أتنوي هجري؟ ماذا تقصد؟

وكان قد تمالك قوته فقال: عودي إلى بيتك. لا تفعلي شيئا ترين وجوب التستر عليه،. لا تقابلي أحدا في الظلام ..

فقال الصوت متهدجا: أتهجرني؟ أنسيت كلامك عن حبنا؟ - كلام من لا عقل له: أنت مخطئة، ليكن هذا درسا لك، احذري الظلام فقد تكون فيه نهايتك، أنت صغيرة، فمن أين لك هذه الجرأة؟!

تردد في الظلام انتحابها، ولكنه لم يرقق قلبه، كان منتشيا بلذة نصر قاسية. - عي كل كلمة، ولا تغضبي، واذكري أنني لو كنت نذلا ما ارتضيت أن أتركك قبل أن أقضي عليك، أستودعك الله ..

ورقي في السلم وثبا. انتهى من العذاب، ولن يكون طعمة لأنياب الندم، ولكن ليذكر قول أستاذه الشيخ علي المنوفي: أن مغالبة الشيطان لن تكون بتجاهل سنن الطبيعة. أجل ليذكر هذا. وخلع ملابسه على عجل وارتدى الجلباب، ثم قال لأخيه أحمد وهو يغادر الحجرة: أريد أن أخلو إلى والدي في حجرة المكتب، فانتظر قليلا من فضلك.

وفي طريقه إلى الحجرة رجا والده أن يتبعه، فرفعت خديجة رأسها إليه متسائلة: خير؟ .. - سأحدث أبي أولا، ثم يأتي دورك ..

وتبعه إبراهيم شوكت صامتا. كان الرجل قد ركب طاقم أسنانه الجديد، وعاودته طمأنينته الخاملة بعد أن واجه الحياة بلا أسنان ستة أشهر كاملة. وجلسا جنبا إلى جنب والأب يقول: خير إن شاء الله؟

فقال عبد المنعم دون تردد أو تمهيد: أريد يا أبي أن أتزوج!

فحملق الرجل في وجهه، ثم قطب باسما كأنه لم يفهم شيئا، وهز رأسه في حيرة ثم قال: الزواج؟ كل أمر رهن بوقته، لماذا تحدثني عن ذلك الآن؟ - أريد أن أتزوج الآن .. - الآن؟! ما زلت في الثامنة عشرة من عمرك، ألا تنتظر حتى تأخذ شهادتك؟ - لا أستطيع ..

وهنا فتح الباب ودخلت خديجة، وهي تتساءل: ماذا يدور وراء ذلك الباب؟ هل توجد أسرار تحل لأبيك وتحرم علي!

فقطب عبد المنعم متنرفزا، على حين راح إبراهيم يقول وهو لا يكاد يفقه معنى ما يقول: عبد المنعم يريد أن يتزوج ..

فتفحصته خديجة كأنما تخاف عليه الجنون، وهتفت: يتزوج! ماذا أسمع؟ هل قررت أن تترك الجامعة؟

فقال عبد المنعم بصوت قوي غاضب: قلت إني أريد أن أتزوج لا أن أهرب من المدرسة، سأواصل الدراسة متزوجا، هذا كل ما هنالك ..

فقالت خديجة وهي تردد عينيها بينه وبين أبيه: عبد المنعم أأنت جاد حقا؟

فصاح: كل الجد ..

فضربت المرأة كفا على كف وقالت: أصابتك عين، ماذا حصل لعقلك يا بني؟

فنهض عبد المنعم غاضبا وهو يقول: ما الذي جاء بك؟ كنت أريد أن أختلي بأبي أولا ولكنك لا صبر لك. أصغيا إلي، أريد أن أتزوج، أمامي عامان حتى أنتهي من دراستي، وأنت يا أبي تستطيع أن تعولني هذين العامين، لولا تأكدي من هذا، ما عرضت طلبي ..

فجعلت خديجة تقول: يا لطف الله! أكلوا عقله! - من هم الذين أكلوا عقلي؟ - الله بهم أعلم .. منهم لله، أنت أدرى بهم، وسنعرفهم عما قليل ..

فخاطب الشاب أباه قائلا: لا تصغ إليها، إني لا أدري حتى الساعة من التي ستكون من نصيبي، اختاروها بأنفسكم، أريد زوجة لائقة، أي زوجة!

فسألته داهشة: أتعني أنه لا توجد واحدة بالذات هي السبب في هذه البلوى؟ - أبدا، صدقيني، اختاري لي بنفسك .. - وما الداعي إلى السرعة إذن؟ دعني أختار لك، أعطني مهلة، إنها مسألة عام أو عامين؟

فعلا صوته وهو يقول: أنا لا أهزل، دعيني فهو يفهمني خيرا منك!

فسأله أبوه بهدوء: ما وجه السرعة؟

فقال عبد المنعم وهو يغض بصره: لا أستطيع البقاء دون زواج.

فتساءلت خديجة: وآلاف الشبان أمثالك كيف يستطيعون؟

فقال الشاب مخاطبا أباه: لا أقبل أن أفعل ما يفعله الآخرون!

فتفكر إبراهيم قليلا، ثم قال حسما للموقف: يكفي هذا الآن، وسنعود إلى الموضوع في فرصة أخرى.

وهمت خديجة بالكلام ولكن زوجها منعها، وأخذها من يدها فغادرا الحجرة إلى مجلسهما في الصالة. وتحادث الزوجان مقلبين الأمر على جميع وجوهه. وبعد أخذ ورد طويلين مال إبراهيم إلى تأييد مطلب ابنه، وتولى بنفسه إقناع زوجه، حتى سلمت بالمبدأ، وعند ذاك قال إبراهيم: عندنا نعيمة بنت أخي، فلن نتعب في البحث عن عروس.

فقالت خديجة باستسلام: أنا التي أقنعتك بالنزول عن نصيبك من ميراث المرحوم إكراما لعائشة، فلا اعتراض لي على اختيار نعيمة زوجة لابني، إن سعادة عائشة تهمني جدا كما تعلم، ولكني أخاف تفكيرها، وأحسب ألف حساب للشذوذ الذي طرأ عليها، ألم تلمح أمامها مرات عن رغبتنا في تزويج نعيمة من عبد المنعم؟ ومع ذلك خيل إلي أنها كانت ترحب بابن جميل الحمزاوي عندما قيل إن والده طلب له يدها .. - هذا تاريخ قديم، مضى عليه عام أو أكثر، والحمد لله أنه لم يتم، فما كان يشرفني أن يأخذ بنت أخي شاب مثله مهما تكن وظيفته؛ الأصل عندي كل شيء، نعيمة عندنا على العين والرأس.

فقالت خديجة وهي تتنهد: على العين والرأس، ترى ماذا يقول أبي عن هذا اللعب إذا علم به؟!

فقال إبراهيم: سيرحب به دون شك، كل شيء يبدو كالحلم، ولكني لن أندم، فإني موقن بأن تجاهل رغبة عبد المنعم خطأ لا يغتفر، ما دام في الإمكان تحقيقها!

18

لم يطرأ على البيت القديم في بين القصرين أي تغيير يذكر، إلا أن الجيران بما فيهم حسنين الحلاق ودرويش الفوال والفولي اللبان وأبو سريع صاحب المقلي وبيومي الشرباتلي، كل أولئك قد علموا بطريقة أو بأخرى أن اليوم تزوج حفيدة السيد أحمد من ابن عمها - وخالتها - عبد المنعم. حافظ السيد أحمد على تقاليده القديمة فمضى اليوم كغيره من الأيام، فاقتصر على دعوة الأهل، وغاية الأمر أن أعدت العدة لوليمة عشاء. وكان الوقت في مطلع الصيف، وقد اجتمعوا جميعا في حجرة الاستقبال، السيد أحمد عبد الجواد وأمينة وخديجة وإبراهيم شوكت وعبد المنعم وأحمد وياسين وزنوبة ورضوان وكريمة، ما عدا نعيمة التي كانت تأخذ زينتها في الدور الأعلى بمعاونة عائشة. ولعل السيد قد شعر بأن وجوده بينهم يلقي على الاجتماع العائلي ظلا من الوقار الذي لا تستسيغه المناسبة السعيدة، فانتقل عقب الاستقبال بقليل إلى حجرته، حيث لبث ينتظر حضور المأذون. وكان السيد قد صفى تجارته وباع الدكان مؤثرا الراحة لشيخوخته، لا لأنه بلغ الخامسة والستين فحسب، ولكن لأن استعفاء جميل الحمزاوي اضطره إلى بذل نشاط مضاعف لم يعد يحتمله، فقرر إنهاء حياته العملية، قانعا بما تخلف له من تصفية دكانه وما ادخر من مال من قبل قدر أن يكفيه بقية العمر. وكان حدثا هاما في حياة الأسرة، جعل كمال يتساءل عن حقيقة الدور الذي كان يلعبه جميل الحمزاوي في حياته عامة وحياة أبيه خاصة، ولبث السيد في حجرته منفردا، يتأمل أحداث اليوم في صمت، كأنما لا يصدق حقا أن العريس هو عبد المنعم حفيده. ويوم فاتحه إبراهيم شوكت في الأمر عجب، واستنكر، كيف تسمح لابنك بأن يحدثك بهذه الصراحة وأن يملي إرادته عليك، إنكم آباء خلقتم لإفساد الأجيال، ولو في غير الظرف الذي يدرك دقته لقال لا، ولكن كانت هناك عائشة، فحيال تعاستها تخلى عن عناده التقليدي كله، ولم يطق - خاصة بعد ما ثار حول صمت فؤاد الحمزاوي من تعليقات - أن يخيب لها رجاء، وإذا كان زواج نعيمة يخفف من لوعة قلبها فأهلا به وسهلا. هكذا دفعه الحرج إلى أن يقول نعم، وأن يسمح للصبيان أن يملوا إرادتهم على الكبار وأن يتزوجوا قبل أن يتجاوزوا مرحلة التلمذة. ودعا عبد المنعم إلى مقابلته، وطلب إليه أن يتعهد بإتمام دراسته، فتكلم عبد المنعم كلاما جميلا مريحا مستشهدا في أثناء ذلك بالقرآن والحديث. فترك في نفس جده آثارا متباينة من الإعجاب والسخرية. هكذا يتزوج التلميذ اليوم على حين أن كمال لم يفكر في الزواج بعد. وعلى حين رفض هو يوما أن تعلن خطبة المرحوم فهمي - مجرد إعلان خطبة - الذي مات قبل أن يجني ثمرة شبابه الغض، وهكذا يبدو أن العالم قد انقلب على رأسه، وأن دنيا عجيبة أخرى تشب، وأننا غرباء بين أهلينا. اليوم يتزوج التلاميذ ولا ندري ماذا يصنعون غدا.

وفي حجرة الاستقبال كانت خديجة تقول من ضمن حديث طويل: لذلك أخلينا الدور الثاني من سكانه، وسيستقبل الليلة العروسين وهو على أحسن حال.

فقال لها ياسين بلهجة غادرة: عندك كافة المواهب التي تجعل منك «حماة» لا نظير لها، ولكنك لن تستطيعي استغلال مواهبك الفذة مع هذه العروس!

فأدركت ما يرمي إليه، ولكنها تجاهلته قائلة: العروس ابنتي وابنة أختي ..

وقالت زنوبة تلطف من تعريض ياسين: خديجة هانم سيدة كاملة!

فشكرتها خديجة، وكانت تقابل توددها بالشكر والاحترام إكراما لياسين، على الرغم من احتقارها الباطني لها. وكانت كريمة تتألق في سنها العاشرة مما جعل ياسين ينوه بأنوثتها المنتظرة! أما عبد المنعم فراح يحادث جدته أمينة المعجبة بتدينه، وكانت تقطع حديثه بالدعاء له. وسأل كمال أحمد ممازحا: وأنت تتزوج في العام المقبل؟ فقال أحمد ضاحكا: إلا إذا اتبعت سنتك يا خالي!

وكانت زنوبة تتابع حديثهما، فقالت موجهة الخطاب إلى كمال: لو سمح لي سي كمال فإني أعد بأن أزوجه في أيام!

فقال لها ياسين وهو يشير إلى نفسه: إني مستعد لأن أسمح لك عن نفسي!

فقالت وهي تهز رأسها تهكما: لقد تزوجت بما فيه الكفاية، وأخذت نصيبك ونصيب أخيك ..

وانتبهت أمينة إلى موضوع الحديث، فقالت لزنوبة: إذا زوجت كمال، فسأحاول أن أزغرد لأول مرة في حياتي!

وتخيل كمال أمه وهي تزغرد فضحك، ثم تخيل نفسه في مجلس عبد المنعم ينتظر المأذون فوجم. الزواج يهيج دوامة في أعماقه كما يهيج الشتاء الربو عند المريض، وهو يرفضه عند كل مناسبة، لكنه لا يستطيع أن يتجاهله، وهو خالي القلب ولكنه يضيق بخلوه كما كان يضيق قديما بامتلائه، واليوم إذا أراد الزواج فليس أمامه إلا الطريق التقليدي الذي يبدأ بالخاطبة، وينتهي بالأسرة والأطفال والاندماج في ميكانيزم الحياة، فلا يكاد يجد المولع بالتأمل موضعا للتأمل، وسوف يرى الزواج دائما أبدا في مركز عجيب بين الحنين من ناحية والاشمئزاز من ناحية أخرى، أما في نهاية العمر فلن تجد إلا الوحدة والكآبة ..

السعيدة حقا في ذلك اليوم كانت عائشة؛ لأول مرة منذ تسع سنوات تحلت بثوب جميل وعقصت شعرها. وكانت ترقب ابنتها التي تبدت كقبضة من نور بعينين حالمتين، فإذا غلبها الدمع أخفت عنها وجهها الشاحب الذابل. وقد لمحتها أمها مرة وهي تبكي، فنظرت إليها معاتبة وهي تقول: لا يصح أن تترك نعيمة البيت وفي قلبها حزن!

فانتحبت عائشة قائلة: ألا ترينها وحيدة في هذا اليوم لا أب ولا أخ؟

فقالت أمينة: البركة في أمها، ربنا يخليها لها، وهي ذاهبة إلى خالتها وعمها، ولها بعد ذلك الله خالق الملك كله ..

فجففت عائشة عينيها وهي تقول: ذكريات الأموات الأعزاء تغمرني من طلعة الصبح، ووجوههم تلوح لي ، ثم إنني بعد ذهابها سأبقى وحيدة ..

فقالت أمينة في عتاب: لست وحيدة ..

وكانت نعيمة تربت خد أمها وتقول: كيف أستطيع أن أغيب عنك يا ماما؟

فتجيبها عائشة بحنان وهي تبتسم: سيعلمك بيت زوجك كيف تستطيعين!

فقالت نعيمة بقلق: ستزورينني كل يوم، كنت تتحاشين الاقتراب من السكرية، ولكن يجب أن تتخلي عن هذه العادة منذ اليوم. - طبعا، هل تشكين في ذلك؟

وإذا بكمال يقبل عليهما قائلا: استعدا، جاء المأذون ..

وعلقت عيناه بنعيمة في إعجاب. يا للجمال، والرقة، والشفافية! كيف يكون للحيوانية دور في هذا الكائن اللطيف؟!

ولما عرف أن الكتاب قد كتب، تبودلت التهاني، وإذا بزغرودة تقتحم على البيت وقاره وتلعلع في جوه الصامت، فاتجهت الرءوس في دهش إلى حيث وقفت أم حنفي في نهاية الصالة. ولما جاء وقت الوليمة وتوارد المدعوون إلى المائدة، انقبض صدر عائشة وتركز تفكيرها في الفراق الوشيك، فلم تنفتح نفسها للطعام. ثم جاءت أم حنفي فأبلغت أن الشيخ متولي عبد الصمد جالس على الأرض في الحوش، وأنه طلب عشاءه خاصة من اللحوم، فضحك السيد وأمر بأن تهيأ له صينية وتحمل إليه. وما لبث أن ترامى إليهم صوته صاعدا من الحوش وهو يدعو بطول العمر لحبيبه «ابن عبد الجواد» ويتساءل في الوقت نفسه عن أسماء أبنائه وأحفاده ليدعو لهم! فقال السيد باسما: يا للخسارة! .. نسي الشيخ متولي أسماءكم، سامح الله الشيخوخة ..

فقال إبراهيم شوكت: إنه في المائة من عمره، أليس كذلك؟

فأجاب أحمد عبد الجواد بالإيجاب، وعند ذاك تعالى صوت الشيخ مرة أخرى وهو يصيح: باسم الحسين الشهيد أكثروا من اللحم!

فضحك السيد قائلا: سر ولايته قاصر اليوم على اللحوم!

وحين ساعة الوداع سبق كمال إلى الحوش؛ ليتجنب ذلك المنظر، ومع أنه لم يزد على انتقال يسير إلى السكرية إلا أنه كان ذا وقع شديد كالصداع في قلبي الأم وابنتها. والواقع أن كمال كان ينظر إلى هذا الزواج بعين ملؤها الشك، بالنظر إلى جدارة نعيمة للحياة الزوجية. وفي الحوش رأى الشيخ متولي عبد الصمد جالسا على الأرض تحت المصباح الكهربائي المثبت في جدار البيت ليضيء المكان، مادا ساقيه، مرتديا جلبابا أبيض باهتا وطاقية بيضاء، خالعا نعليه مستندا إلى الجدار كالنائم ليريح جوفه مما امتلأ به من طعام - ورأى بين ساقيه ماء يسيل، فأدرك من النظرة الأولى أن الشيخ يبول وهو لا يشعر، وكانت أنفاسه تتردد فتسمع كالفحيح. حدجه كمال بنظرة جمعت بين التقزز والرثاء، ثم خطر له خاطر فابتسم على رغمه، وقال لنفسه: لعله كان طفلا مدللا عام 1830!

19

في اليوم التالي مباشرة ذهبت عائشة لزيارة السكرية. طوال الأعوام التسعة المنقضية لم تغادر البيت القديم إلا لزيارة القرافة، فيما عدا زيارات معدودات لقصر الشوق حين وفاة ابني ياسين الصغيرين. وقفت قليلا عند مدخل السكرية تلقي على المكان نظرة شاملة، حتى غطى الدمع ناظريها. على الأرض أمام مدخل البيت التي أشبعتها أقدام عثمان ومحمد جريا ولعبا، والحوش الذي ازدان يوما بحفل عرسها البهيج، والمنظرة التي كان يجلس فيها خليل يدخن غليونه ويلعب الطاولة والدومينو؛ ذلك شذا الماضي العطر المشبع بالحنان والحب المفقودين، وهي سعيدة، سعادة سارت مسير الأمثال، حتى قيل عنها: الضاحكة المترنمة التي لا شغل لها إلا مضاحكة المرآة ومصاحبة الزينة، والزوج يناجي والأطفال يثبون .. تلك الأيام الماضية. وجففت عينيها حتى لا تلقى العروس باكية. جففت عينين ما تزالان زرقاوين وإن تساقطت أهدابهما وذبلت جفونهما. ووجدت الشقة قد جددت مرافقها وطليت جدرانها فبدت ثغرا باسما في جهاز العروس الذي أنفق عليه بسخاء. واستقبلتها نعيمة في فستان أبيض هفهاف، وقد أرسلت شعرها الذهبي حتى مست أهدابه باطن الساقين، رائقة عذبة وضيئة ينبعث من أردانها عرف ساحر، فتعانقتا عناقا طويلا حارا، حتى قال عبد المنعم، وكان ينتظر دوره في السلام في روب جنزاري شمل به جلبابه الحريري: كفاية، أقل سلام يكفي هذا الفراق الوهمي!

ثم عانق خالته، ومضى بها إلى مقعد وثير فأجلسها وهو يقول: كنا في سيرتك يا خالتي؛ فقد قر رأينا على أن ندعوك للإقامة معنا؟!

فابتسمت عائشة قائلة: أما هذا فلا، سأزوركم كل يوم فتكون فرصة للفسحة ، ما أحوجني إلى الحركة.

فقال عبد المنعم بصراحته المعهودة: نعومة قالت لي إنك لا تحتملين المكوث هنا خشية أن تطاردك الذكريات. إن الذكريات الحزينة لا تطارد المؤمن، وذلك أمر الله، وقد مضى منذ عهد بعيد، ونحن أولادك فقد عوضك الله!

هذا الشاب طيب صريح ولكنه لا يبالي أين يقع كلامه من القلوب الجريحة. - طبعا يا عبد المنعم، ولكني مرتاحة في بيتي، هذا أفضل ..

وإذا بخديجة وإبراهيم وأحمد يدخلون، فيصافحونها، ثم تقول خديجة لعائشة: لو عرفت أن هذا الذي يعيدك إلى زيارتنا لزوجتهما قبل البلوغ!

فضحكت عائشة، وقالت تذكر خديجة بالماضي البعيد: المطبخ واحد، أم تطالب العروس بالاستقلال من حماتها؟

فضحكت خديجة وإبراهيم معا، وقالت خديجة بلهجة لم تخل من معنى: العروس كأمها لا تعنى بالسفاسف!

وقال إبراهيم ليفسر لابنيه ما غمض من تلميح عائشة: بدأت المعارك بين أمكما وأمي بسبب مشكلة المطبخ الذي كانت أمي تستقل به، ومطالبة أمكما بالاستقلال المطبخي ..

فقال العريس متعجبا: كنت تتعاركين يا نينة بسبب المطبخ!

فقال أحمد ضاحكا: وهل من سبب للمعارك التي تدور بين الأمم إلا هذا المطبخ؟!

فقال إبراهيم في تهكم: أمكما قوية كإنجلترا، أما أمي فرحمة الله عليها ..

وجاء كمال، كان يرتدي بذلة بيضاء أنيقة؛ أما وجهه فيتكون من الطاقم المألوف المركب من جبينه البارز وأنفه العظيم ونظارته الذهبية وشاربه المربع الغليظ، وكان يحمل بيده لفة كبيرة بشرت بهدية ممتازة، فقالت خديجة باسمة وهي تتفحص الهدية: حذار يا أخي، إذا لم تتدارك نفسك بالزواج فستظل تجيء بالهدايا دون أن يرد لك الجميل، الأسرة كلها اليوم موشكة على الزواج، هذا أحمد، وهناك رضوان وكريمة، تدارك نفسك بالتي هي أحسن!

وسأله أحمد: بدأت العطلة المدرسية يا خالي؟

فأجاب كمال وهو ينزع طربوشه ويرنو إلى العروس الجميلة: لم تبق إلا فترة يسيرة للمراقبة والتصحيح في الابتدائية!

وغابت نعيمة لتعود مرة أخرى بصينية فضية حافلة بشتى أنواع الحلوى، مختلفة الألوان والطعوم، فمضت فترة لم يسمع خلالها إلا التمطق والمصمصة. ثم راح إبراهيم يحكي ذكريات فرحه، الحفل ، والمغنى، والعالمة. وتابعته عائشة بوجه باسم وقلب محزون، وتابعه كمال بشغف إذ كان يعيد عليه صورا ما زال يذكر بعضها ويود لو يعرف ما فاته منها. قال إبراهيم ضاحكا: السيد أحمد كان كما هو اليوم أو أشد، ولكن أمي رحمها الله قالت بحزم: ليفعل السيد ما يشاء في بيته، أما عندنا فنحن نفرح كما نشاء، وقد كان. وجاء السيد يوم الفرح ومعه أصحابه مساهم الله بالخير جميعا، أذكر منهم السيد محمد عفت جد رضوان، فجلسوا جميعا في المنظرة بعيدا عن الزياط!

وقالت خديجة: أحيت الليلة جليلة أشهر عالمة في عصرها ..

وابتسم قلب كمال، وذكر البدرونة العجوز التي ما تزال تنوه بعهد أبيه! ..

وقال إبراهيم مسترقا النظر إلى عائشة: وكان لنا عالمة خصوصية لبيتنا، ولكن صوتها كان أجمل من العالمة المحترفة، كان يذكرنا بصوت منيرة المهدية في عزها!

فتورد وجه عائشة، وقالت بهدوء: سكت صوتها منذ عهد بعيد، حتى نسيت الغناء ..

فقال كمال: نعيمة تغني كذلك. ألم تسمعها؟

فقال إبراهيم: سمعت عنها ولكني لم أسمعها بعد، الحق أنا عرفناها شيخة لا عالمة! وبالأمس قلت لها: زوجك شيخ المؤمنين، ولكن ينبغي أن تؤجلي الصلاة والعبادة إلى حين!

وضحكوا جميعا، وقال أحمد مخاطبا أخاه: لا ينقص عروسك إلا أن تضمها إلى شعبة الشيخ علي المنوفي معك.

فقال العريس: إن شيخنا أول من نصحني بالزواج ..

فقال أحمد مخاطبا أخاه: لعل الإخوان يعتبرون الزواج مادة من دستورهم السياسي!

والتفت إبراهيم إلى كمال قائلا: أما أنت فكنت - أقصد أيام دخلتي - صغيرا، وكان شعرك غزيرا لا كما هو اليوم، وكنت تتهمنا بسرقة أختيك فلم تغفر لنا ذلك أبدا .. «كنت ميدانا خاليا لم تبدأ به المعارك بعد، يتحدثون عن سعادة الزواج .. لو يعرفون ما يحدث به الأزواج الشاكون! نعيمة أعز علي من أن يملها مخلوق، أي شيء لا ينكشف عن خدعة في هذه الحياة؟!»

قالت خديجة معلقة على قول زوجها: كنا نظن ذلك حبا لنا، ولكن اتضح مع الأيام أنه ليس إلا عداوة للزواج نشأت معه منذ الصغر !

وضحك كمال كما ضحكوا جميعا. إنه يحب خديجة، ويزيد من حبه علمه بحبها الشديد له، أما تعصب العريس فشد ما يزعجه، ولكنه من ناحية أخرى يحب أحمد ويعجب به، وهو نافر من الزواج ولكن يطيب له أن تذكره خديجة به في كل مناسبة، وكان قلبه شديد التأثر بجو الزواج المحيط به، فانتشى قلبه وحواسه، ووجد حنينا وإن يكن بلا هدف، ثم تساءل كأنما يتساءل لأول مرة: ماذا يمنعني من الزواج؟ .. حياة الفكر كما كان يزعم قديما؟! إني أشك اليوم في الفكر والمفكر معا، أهو الخوف، أم الانتقام، أم الرغبة في الألم، أم رد الفعل الصادر من الحب القديم .. في حياتي مسوغ لأي من هذه الأسباب!

وسأل إبراهيم شوكت كمال: أتدري لماذا آسف على عزوبتك؟ - نعم؟ .. - إني أعتقد أنك زوج مثالي إذا تزوجت، فأنت رجل بيت بطبعك، منظم، مستقيم، موظف محترم، ولا شك أنه توجد فتاة في مكان ما من الأرض تستحقك، وأنت مضيع عليها حظها!

حتى البغال أحيانا تنطق بالحكم، فتاة في مكان ما من الأرض ولكن أين؟ أما عن اتهامه بالاستقامة فما هو إلا كافر فاسق سكير منافق! فتاة في مكان ما من الأرض، فلعله غير بيت جليلة بعطفة الجوهري، وهذه الآلام التي تتطاحن في قلبه ما علتها؟ والحيرة التي لا مهرب منها إلا بالخمر والشهوات! ويقولون تزوج حتى تنجب فتخلد، وشد ما طمح إلى الخلود في شتى أشكاله وألوانه، فهل يركن يائسا في النهاية إلى هذه الوسيلة الفطرية المبتذلة؟ وثمة أمل أن يجيء الموت بلا ألم يشوه راحته الأبدية، كم بدا الموت مخيفا لا معنى له؛ ولكنه - بعد أن فقدت الحياة كل معانيها - يبدو اللذة الحقيقية في الحياة، ما أعجب العاكفين على العلم في معاملهم، ما أعجب الزعماء الذين يلقون بأنفسهم في المهالك في سبيل الدستور، أما الذين يدورون حول أنفسهم في حيرة وعذاب فالرحمة لهم! وردد بصره بين أحمد وعبد المنعم في إعجاب مقرون بالغبطة. إن الجيل الجديد يشق سبيله العسير إلى هدف بين دون شك أو حيرة، ترى ما سر دائي الوبيل؟!

قال أحمد: سأدعو العروسين ووالدي وخالتي إلى لوج في الريحاني الخميس القادم.

فتساءلت خديجة: الريحاني؟ ..

فقال لها إبراهيم مفسرا: كشكش بك!

فضحكت خديجة وقالت: كاد ياسين يطرد من بيتنا وهو عريس بسبب أخذه أم رضوان ليلة إلى كشكش!

فقال أحمد باستهانة: كان زمان وجبر، جدي الآن لا يمانع في ذهاب جدتي إلى كشكش بك!

فقالت خديجة: خذ العروسين وأباك، أما أنا فكفاية علي الراديو ..

وقالت عائشة: وكفاية علي أنا بيتكم ..

وراحت خديجة تقص قصة ياسين وكشكش بك حتى حانت من كمال نظرة إلى ساعته فتذكر موعد رياض قلدس، فنهض مستأذنا في الانصراف.

20 - أتستطيع أن تستمتع بجمال الطبيعة حقا بالرغم من أن الامتحان لم يبق عليه إلا أيام؟

كان السائل طالبا، والمسئول طالبا كذلك، في جماعة من الطلاب افترشت العشب على هيئة نصف دائرة فوق هضبة خضراء في أعلاها كشك خشبي احتله طلاب آخرون، وعلى مرمى البصر تراءت جماعات النخيل وحيضان الأزهار تتخللها مماشي الفسيفساء، قال الطالب المسئول: كما يستمتع عبد المنعم شوكت بالحياة الزوجية، رغم اقتراب الامتحان.

كان عبد المنعم شوكت جالسا في محيط نصف الدائرة، وكذلك أحمد شوكت، فقال عبد المنعم: الزواج، بخلاف ما تظنون، يهيئ للطالب أحسن فرصة للنجاح.

فقال حلمي عزت، وكان يجلس لصق رضوان ياسين في الطرف الآخر من نصف الدائرة: هذا إذا كان الزوج من الإخوان المسلمين!

وضحك رضوان عن ثغره اللؤلؤي، رغم ما أثاره الحديث في نفسه من غم. أجل إن سيرة الزواج تثير قلقه، فلا يدري إن كان يقدم يوما على هذه المغامرة أم لا، مغامرة مخيفة بقدر ما هي ضرورية، ولكن ما أبعدها عن روحه وجسده! وتساءل طالب: وما الإخوان المسلمون؟

فأجابه حلمي عزت: جمعية دينية تهدف إلى إحياء الإسلام علما وعملا، ألم تسمع بشعبها التي بدأت تتكون في الأحياء؟ - غير الشبان المسلمين؟ - نعم .. - وما الفرق؟

فأجاب وهو يشير إلى عبد المنعم شوكت: سل الأخ ..

فقال عبد المنعم بصوته القوي: لسنا جمعية للتعليم والتهذيب فحسب، ولكننا نحاول فهم الإسلام كما خلقه الله، دينا ودنيا وشريعة ونظام حكم .. - أهذا كلام يقال في القرن العشرين؟

فقال الصوت القوي: وفي القرن العشرين بعد المائة .. - احترنا يا هوه بين الديمقراطية والفاشستية والشيوعية. هذا خازوق جديد!

فقال أحمد ضاحكا: لكنه خازوق رباني!

فعلت ضجة ضحك، إلا أن عبد المنعم حدجه بنظرة غاضبة، وكأن رضوان ياسين ساءه التعبير، فقال: خازوق؟! تعبير غير موفق.

وعاد الطالب يسأل عبد المنعم: وهل ترجمون الناس إذا خالفوكم؟ - إن الشبان يتهددهم زيغ في العقيدة، وانحلال في الخلق، وليس الرجم بأشد ما يستحقونه، ولكننا لا نرجم، وإنما بالموعظة الحسنة والمثال الطيب نهدي ونرشد، وآية ذلك أن بيتنا يضم أخا ممن يستحقون الرجم، وها هو يمرح أمامكم، ويتطاول على خالقه سبحانه!

فضحك أحمد، وقال حلمي عزت مخاطبا إياه: إذا آنست من أخيك خطرا، فإني أدعوك للإقامة معي في الدرب الأحمر .. - أأنت مثله؟ - كلا، ولكننا معشر الوفديين قوم متسامحون، المستشار الأول لزعيمنا قبطي، هكذا نحن ..

وعاد الطالب الأول يقول: كيف تدعون إلى هذا الهراء في نفس الشهر الذي ألغيت فيه الامتيازات الأجنبية؟

فقال عبد المنعم متسائلا: أنبطل ديننا إكراما للأجانب؟

وإذا برضوان ياسين يقول وكأنما كان في واد آخر: ألغيت الامتيازات، فدع الذين انتقدوا المعاهدة يتكلمون ..

فقال حلمي عزت: هؤلاء النقاد غير مخلصين، إنها الكراهية والحسد، إن الاستقلال الحقيقي الكامل لا يؤخذ إلا بالحرب: فكيف يطمعون في أن ننال بالكلام أكثر مما نلنا؟

فجاء صوت يقول في ضجر: دعونا نتساءل عن المستقبل! - المستقبل لا يبحث في شهر مايو والامتحان على الأبواب، أريحونا .. لن أعود إلى الكلية بعد اليوم حتى يتسع لي الوقت للمذاكرة .. - مهلا، إن الوظائف لا تنتظرنا، ما مستقبل الحقوق أو الآداب؟ التسكع أو الوظائف الكتابية، تساءلوا عن المستقبل إذا شئتم .. - أما وقد ألغيت الامتيازات فستفتح الأبواب! - الأبواب؟! السكان أكثر من الأبواب! - اسمعوا .. النحاس أدخل الطلبة الجامعة وكانت أبوابها مغلقة، وأتاح لهم النجاح بعد أن أعجزهم المجموع المتعسف فهل يعجز عن توظيفنا؟

ولاح في أقصى الحديقة سرب ، فانعقدت الألسنة واتجهت نحوه الرءوس، كان مكونا من أربع فتيات قادمات من الجامعة متجهات صوب مديرية الجيزة. لم تكد تميزهن الأبصار بعد، ولكنهن تقدمن متمهلات يسقن الأمل في رؤيتهن عن قرب؛ إذ كان الممر الذي يسرن فيه ينعطف أمام مجلس الصحاب في مسيرة نحو الشمال، وصرن في مجال البصر، ورددت الألسن أسماءهن وأسماء كلياتهن، واحدة من الحقوق وثلاث من الآداب، وقال أحمد لنفسه وهو ينظر نحو إحداهن «علوية صبري»، وجذب الاسم شوارد نفسه؛ فتاة ذات جمال تركي ممصر، معتدلة الطول، نحيلة، بيضاء ذات شعر أسود فاحم، وعينين سوداوين واسعتين عاليتي الجفون، مقرونة الحاجبين، ذات سمت أرستقراطي ولفتات رفيعة، وإلى ذلك كله فهي زميلة في القسم الإعدادي، وقد علم - والباحث يظفر بمعلومات شتى - أنها سجلت اسمها مثله في قسم الاجتماع، ولم تكن تهيأت فرصة ليبادلها كلمة واحدة، ولكنها أثارت اهتمامه من أول نظرة. طالما رمق ملامح نعيمة بإعجاب ولكنها لم تهز أعماقه، هذه الفتاة لها شأن، فيبشر قريبا بصداقة العقل، والقلب ..؟!

قال حلمي عزت عقب تواري السرب عن الأنظار: عما قريب تصبح كلية الآداب وكأنها كلية بنات!

فقال رضوان ياسين وهو يردد بصره بين طلاب الآداب في نصف الدائرة: لا تثقوا بصداقة طلاب الحقوق الذين يكثرون من زياراتكم في كليتكم فيما بين الحصص، فالغرض مفضوح!

ثم ضحك ضحكة عالية، ولكنه لم يكن سعيدا في تلك اللحظة، فإن حديث الفتيات يثير في نفسه اضطرابا وحزنا. - لم يقبل الفتيات على كلية الآداب؟ - لأن وظيفة التدريس هي أوسع الوظائف صدرا لهن ..

فقال حلمي عزت: هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فدراسة الآداب دراسة نسائية، الروج والمانيكور والكحل والشعر والقصص، كلها باب واحد!

فضحكوا جميعا حتى أحمد، وبقية طلاب الآداب ضحكوا رغم توثبهم للاحتجاج، ثم قال أحمد: يصدق هذا الحكم الجائر على الطب، فطالما كان التمريض نسائيا، أما الحق الذي لم يستقر بعد في نفوسكم فهو الإيمان بالمساواة بين الرجل والمرأة.

قال عبد المنعم باسما: لا أدري إن كان مدحا أم ذما أن نقول للنساء إنهن مثلنا ! - إذا تعلق الأمر بالحقوق والواجبات فهو مدح لا ذم ..

فقال عبد المنعم: لقد سوى الإسلام بين الرجل والمرأة في ما عدا الميراث.

فقال أحمد متهكما: حتى في الرق ساوى بينهما!

فاحتد عبد المنعم قائلا: أنتم لا تعرفون دينكم، هذه هي المأساة!

والتفت حلمي عزت إلى رضوان ياسين، وسأله باسما: ماذا تعرف عن الإسلام؟

فسأله الآخر بنفس لهجته: وماذا تعرف أنت عنه؟

فسأل عبد المنعم أخاه أحمد: وأنت ماذا تعرف عنه حتى لا تهرف بما لا تعرف؟

فقال أحمد بهدوء: أعرف أنه دين، وحسبي ذلك، لا أومن بالأديان! ..

فتساءل عبد المنعم مستنكرا: ألديك برهان على بطلان الأديان؟ - ألديك أنت برهان على حقيقتها؟

فقال عبد المنعم، وقد ارتفع صوته حتى جعل الشاب الذي يجلس بينه وبين أخيه يردد رأسه بينهما كالمنزعج: عندي، وعند كل مؤمن .. ولكن دعني أسألك أولا كيف تعيش؟ - بإيماني الخاص، إيماني بالعلم والإنسانية وبالغد، وبما ألتزمه من واجبات ترمي في النهاية إلى تمهيد الأرض لبناء جديد. - هدمت كل ما الإنسان إنسان به .. - بل قل بقاء عقيدة أكثر من ألف سنة آية لا على قوتها، ولكن على خطة بعض بني الإنسان، ذلك ضد معنى الحياة المتجددة، ما يصلح لي وأنا طفل يجب أن أغيره وأنا رجل. طالما كان الإنسان عبدا للطبيعة .. والإنسان، وهو يقاوم عبودية الطبيعة بالعلم والاختراع كما يقاوم عبودية الإنسان بالمذاهب التقدمية، ما عدا ذلك فهو نوع من الفرامل الضاغطة على عجلة الإنسانية الحرة!

فقال عبد المنعم، وكان في تلك اللحظة يكره فكرة أخوة أحمد له: الإلحاد سهل، حل سهل هروبي؛ هروبي من الواجبات التي يلتزمها المؤمن حيال ربه ونفسه والناس، وليس من برهان على الإلحاد يمكن أن يعد أقوى من البرهان على الإيمان، فنحن لا نختار هذا أو ذاك بعقولنا بقدر ما نختاره بأخلاقنا ..

وتدخل رضوان قائلا: لا تستسلما لعنف المناقشة، كان من الأفضل لكما كأخوين أن تكونا من حزب واحد ..

وإذا بحلمي عزت يندفع قائلا، وكان أحيانا تعتريه نوبات ثائرة غامضة: إيمان .. إنسانية .. الغد ! كلام فارغ ، النظام القائم على العلم وحده ينبغي أن يكون كل شيء، يجب أن نؤمن بشيء واحد هو استئصال الضعف البشري بكافة أنواعه، ومهما بدا علمنا قاسيا، وذلك للوصول بالبشرية إلى مثال قوي نظيف! - أهذه مبادئ الوفد الجديدة بعد المعاهدة؟

فضحك حلمي عزت ضحكة عادت به إلى حالته الطبيعية، وقال عنه رضوان: إنه حقا وفدي، ولكن تطوف به أحيانا مذاهب طارئة غريبة فيدعو إلى القتل بالجملة، وربما دل ذلك على أنه لم ينم أمس نوما مريحا؟

وكان لشدة الخصام رد فعل فساد الصمت، فسر بذلك رضوان، وسرح بصره فيما حوله فراح يتابع بعض الحدأ المدومة في السماء، أو يرنو إلى أسراب النخيل، الكل يعلن رأيه حتى ما يتهجم به على الخالق، ولكنه لا يسعه إلا أن يكتم ما يضطرم في أعماق نفسه، وسيظل سرا مرعبا يتهدده، فهو كالمطارد، أو كالغريب، من الذي قسم البشر إلى طبيعي وشاذ؟ وكيف تكون الخصم والحكم في آن؟ ولم نهزأ كثيرا بالتعساء؟ قال رضوان مخاطبا عبد المنعم: لا تزعل، إن للدين ربا يحميه، أما أنت فبعد تسعة أشهر على الأكثر ستكون أبا!

حقا؟!

فقال أحمد مداعبا أخاه ليمسح عنه آثار الحدة: أهون علي أن أتعرض لغضب الله من أن أتعرض لغضبك!

ثم مضى أحمد يحدث نفسه: غضب أم لم يغضب فسيجد عند عودته إلى السكرية صدرا حانيا، أمن المستحيل أن أعود يوما فأجد علوية صبري في الدور الأول بالسكرية؟

وندت عنه ضحكة، ولكن أحدا لم يخمن السبب الحقيقي لضحكته ..

21

بدا بيت عبد الرحيم باشا عيسى في حركة غير مألوفة؛ ففي الحديقة وقف أناس كثيرون، وفي الفراندا جلس آخرون، وكثر الداخل والخارج، فلكز حلمي عزت ذراع رضوان ياسين وهما يقتربان من البيت، وقال له بارتياح: لسنا بلا أنصار كما تزعم جرائدهم ..

وعندما أخذا يشقان سبيلهما إلى الداخل، هتف بعض الشبان «يحيا التضامن» فتورد وجه رضوان تأثرا. كان متحمسا ثائرا مثلهم، بيد أنه ساءل نفسه في قلق: ترى ألا يشك أحد في الجانب غير السياسي من زياراته ؟ وقد أفضى مرة بمخاوفه إلى حلمي عزت، فقال له: «إن الريبة لا تلحق إلا بالخواف! سر مرفوع الرأس ثابت الأقدام، يجدر بالذين يعدون أنفسهم للحياة العامة ألا يكترثوا لآراء الناس أكثر مما يجب.» وكان بهو الاستقبال مكتظا بالجالسين، منهم طلبة وعمال وبعض أعضاء الهيئة الوفدية، وفي صدر المكان جلس عبد الرحيم باشا عيسى، متجهما على غير عادته، جادا صارما، تكتنفه هالة الرجل السياسي الخطير. وتقدما إليه فنهض لاستقبالهما في رزانة، وصافحهما ثم أشار لهما بالجلوس. وقال أحد الجالسين، وكان قد توقف عن الحديث أثناء استقبال الشابين: شد ما فوجئ الرأي العام وهو يطلع على أسماء الوزراء الجدد، فلا يجد بينهم النقراشي!

فقال عبد الرحيم باشا عيسى: توقعنا عند الاستقالة أمرا، خاصة وأن الاختلاف كان قد ذاع حتى تحدثت به المقاهي، ولكن النقراشي ليس كغيره من أعضاء الوفد لقد فصل الوفد من قبل كثيرين فلم تقم لهم قائمة، أما النقراشي فله شأن آخر، ولا تنسوا أن النقراشي معناه أحمد ماهر أيضا، هما الوفد، الوفد المجاهد المناضل المحارب، سلوا المشانق والسجون والقنابل، وليس الخلاف هذه المرة بالذي يشين الخارج، هي نزاهة الحكم، قضية القنابل، وإذا وقع المحذور وانشق الوفد، فالوفد هو الذي سيخرج لا النقراشي ولا ماهر! - لقد كشف مكرم عبيد عن وجهه أخيرا ..

ووقع هذا القول من أذني رضوان موقعا غريبا، فلم يكن مما يسهل تصديقه أن يهاجم قطب الوفد بهذا الأسلوب في بيئة وفدية صميمة. وإذا بآخر يقول: مكرم عبيد هو رأس هذا الشر كله يا سعادة الباشا ..

فقال عبد الرحيم باشا: ليس الآخرون أصفارا! - لكنه هو الذي لا يطيق منافسيه، إنه يريد أن يستحوذ على النحاس وحده دون شريك. وإذا خلا له الجو من ماهر والنقراشي فلن يقف في سبيله شيء .. - لو أمكنه إزالة النحاس نفسه لأزاله.

فقال شيخ من الجلوس: أرجوكم، لا تسرفوا في القول، قد تعود المياه إلى مجاريها. - بعد أن تألفت الوزارة دون النقراشي؟ - كل شيء ممكن .. - كان من الممكن هذا على عهد سعد، أما النحاس فرجل عنيد ، وهو إذا ركب رأسه ...

وهنا دخل البهو رجل مهرولا، فاستقبله الباشا وسط المكان وتعانقا بحرارة والباشا يتساءل: متى عدت؟ كيف الحال في الإسكندرية؟ - عال .. عال، استقبل النقراشي في محطة سيدي جابر استقبالا شعبيا منقطع النظير، هتفت له الجماهير المثقفة من الأعماق، الجميع غاضبون، الكل ثائر لنزاهة الحكم، هتفوا: يحيا النقراشي النزيه .. يحيا النقراشي ابن سعد .. وهتف كثيرون: يحيا النقراشي زعيم الأمة ..

وكان الرجل يتكلم بصوت مرتفع، فردد هتافه كثيرون حتى اضطر عبد الرحيم باشا أن يلوح لهم داعيا إلى التزام الهدوء. - وعاد الرجل يقول: الرأي العام ساخط على الوزارة، غاضب لإخراج النقراشي منها. لقد خسر النحاس خسارة لا تعوض، وارتضى أن يؤيد الشيطان ضد الملاك الطاهر ..

وهنا قال عبد الرحيم باشا: نحن الآن في أغسطس، وفي أكتوبر تفتح الجامعة، فليكن افتتاح الجامعة موقعة فاصلة، يجب أن نستعد منذ الآن للمظاهرات فإما أن يثوب النحاس إلى رشده، وإما فليذهب إلى الهاوية ..

فقال حلمي عزت: أستطيع أن أؤكد أن مظاهرات الجامعيين ستتدفق على بيت النقراشي ..

فقال عبد الرحيم باشا: كل شيء يحتاج إلى التنظيم، اجتمعوا بأنصارنا من الطلبة وأعدوا العدة، وفضلا عن هذا فإن الأخبار التي عندي تؤكد أن كثرة لا تصدق من النواب والشيوخ سينضمون إلينا .. - النقراشي هو خالق لجان الوفد، لا تنسوا ذلك، إن تلغرافات الولاء تتسابق إلى مكتبه صباح مساء.

وتساءل رضوان ماذا يحدث في الدنيا؟ ترى أينقسم الوفد مرة أخرى؟ وهل يتحمل مسئولية ذلك حقا مكرم عبيد؟ وهل تتفق مصلحة الوطن وانقسام الحزب الذي نهض برسالته ثمانية عشر عاما؟ وطال الأخذ والرد، وبحث المجتمعون اقتراحات شتى خاصة بالدعاية وتدبير المظاهرات، ثم أخذوا في الانصراف حتى لم يبق في البهو إلا الباشا ورضوان وحلمي عزت، وعند ذاك دعاهما للجلوس في الفراندا، فمضيا وراءه، وجلس ثلاثتهم حول منضدة، وسرعان ما حملت إليهم أقداح الليمون، وما لبث أن تراءى عند الباب رجل في الأربعين، عرفه رضوان في بعض زياراته السابقة، يدعى علي مهران، يعمل وكيلا للباشا، وكان منظره يوحي بما طبع عليه من ميل للمزاح والمجون: وكان يصحب معه شابا في العشرين من عمره، جميل المحيا، يبدو من منظر شعره الهائج وسوالفه الطويلة وربطة عنقه العريضة أنه من أهل الفن. وقد أقبل علي مهران باسم الثغر فقبل يد الباشا، وصافح الشابين، ثم قدم الشاب قائلا: الأستاذ عطية جودت، مغن ناشئ لكنه موهوب، وقد سبق أن حدثتك عنه يا معالي الباشا!

فلبس الباشا نظارته التي كان وضعها على المنضدة، وتفحص الشاب بعناية، ثم قال باسما: أهلا وسهلا يا سي عطية، سمعت عنك كثيرا، فلعلنا نسمعك هذه المرة ..

فدعا للباشا باسما، ثم جلس، على حين مال علي مهران على الباشا وهو يقول: كيف حال عمي؟

هكذا كان يخاطب الباشا إذا زالت دواعي الكلفة، وأجابه الرجل باسما: أحسن منك ألف مرة!

فقال علي مهران جادا على خلاف عادته: يتهامسون في بار الأنجلو عن وزارة قومية قريبة برياسة النقراشي؟

فابتسم الباشا ابتسامة سياسية وتمتم: لسنا من المستوزرين.

وتساءل رضوان باهتمام وقلق: على أي أساس؟ طبعا لا أستطيع أن أتصور أن يقوم النقراشي بانقلاب سياسي كمحمد محمود أو إسماعيل صدقي؟

فقال علي مهران: انقلاب! كلا. المسألة تنحصر الآن في إقناع أكثرية الشيوخ والنواب بالانضمام إلينا، ولا تنس أن الملك معنا، فعلي ماهر يعمل بحكمة وأناة!

وعاد رضوان يتساءل في كآبة: أنكون في النهاية من رجال السراي؟

فقال عبد الرحيم باشا: العبارة واحدة، ولكن المعنى تغير. فاروق غير فؤاد، والظروف غير الظروف، الملك شاب وطني متحمس، وهو مجني عليه أمام هجمات النحاس الجائرة!

ففرك علي مهران يديه في حبور وهو يقول: ترى متى نهنئ الباشا بالوزارة؟ وهل تختارني وكيلا لوزارتك كما اخترتني وكيلا لأعمالك؟

فقال الباشا ضاحكا: بل أعينك مديرا عاما للسجون، فإن مكانك الطبيعي هو السجن. - السجن؟ لكنهم يقولون إن السجن للجدعان؟! - ولغيرهم، فليطمئن بالك!

ثم ركبه الضجر فجأة فهتف: حسبنا سياسة، غيروا الجو من فضلكم ..

والتفت نحو الأستاذ عطية متسائلا: ماذا تسمعنا؟

فأجاب عنه علي مهران: الباشا سميع وابن حظ، وإذا رقت في نظره تفتحت لك أبواب الإذاعة ..

فقال عطية جودت برقة: لحنت أخيرا أغنية «شبكوني وشبكوه» وهي من تأليف الأستاذ مهران!

فرمق الباشا وكيله، وسأله: منذ متى تؤلف أغاني؟ - ألم أجاور في الأزهر سبع سنوات، غرقت فيها في مفاعيل وفعلاتن؟ - وما للأزهر وأغانيك الخليعة؟ شبكوني وشبكوه! من هو يا حضرة المجاور؟ - المعنى يا معالي الباشا في ذقن الباشا! - يا ابن الهرمة!

ونادى علي مهران السفرجي، فسأله الباشا: لماذا تناديه؟ - ليهيئ لنا مجلس الطرب!

فقال الرجل وهو ينهض: انتظر حتى أصلي العشاء!

فتساءل مهران باسما في خبث: ألم ينقض سلامنا وضوءك؟

22

غادر أحمد عبد الجواد بيته. ناقلا خطاه على مهل، متوكئا على عصاه. لم يعد اليوم كالأمس، فمنذ أن صفى دكانه لم يكن ليغادر بيته إلا مرة واحدة في اليوم، كي يعفي نفسه ما استطاع من الجهد الذي يتحمله قلبه عند ارتقاء السلم. ومع أن الوقت لم يعد سبتمبر إلا أنه رأى أن يرتدي ملابسه الصوفية؛ إذ إن الجسم النحيل لم يعد يطيق الجو اللطيف الذي كان يمرح فيه الجسم البدين القوي الذي كان. والعصا التي صاحبته منذ الصغر رمزا للرجولة وآية على الأناقة باتت متوكأه في مشيته المتمهلة، التي لا يطيقها قلبه إلا بجهد ومشقة. ولكن بقي له رونقه وأناقته، فما زال يحرص على انتقاء الأزياء الفاخرة، ويتطيب بالعطر الفواح متمتعا بجمال الشيخوخة ووقارها، وعندما اقترب من الدكان مالت نحوه عيناه بحركة لاإرادية. رفعت اللافتة التي حملت اسمه واسم أبيه أعواما وأعواما، وتغير مظهر الدكان ومخبره، فانقلب دكان طرابيش للبيع والكي، وتقدمه الوابور والقوالب النحاسية، وتخايلت لعينيه لافتة وهمية، لم ترها عين سواه، عالنته بأن زمانه قد ولى، زمان الجد والكفاح والمسرات، وها هو في ركن المعاش ينزوي، يستدبر دنيا الآمال ويستقبل دنيا الشيخوخة والمرض والانتظار، وتقبض القلب الذي طالما - وما زال - يهيم بحب الدنيا وأفراحها، حتى إن الإيمان نفسه لم يكن في نظره إلا مسرة من مسراتها ودافعا إلى أحضانها. فلم يعرف - حتى اليوم - العبادة الزاهدة التي تدير الظهر للدنيا وتتطلع إلى الآخرة وحدها. لم يعد الدكان دكانه ولكن كيف تمحى ذكراه من ذهنه وهو الذي كان مركز النشاط، ومحط الأنظار، وملتقى الأصحاب والأحباب، ومبعث العزة والجاه؟ «ولك أن تعزي نفسك فتقول: زوجنا البنات، وربينا الصبيان، ورأينا الأحفاد، ولنا مال موفور يسترنا حتى الموت، وذقنا حلو الدنيا سنين - سنين حقا؟ - وآن لنا أن نشكر، والشكر لله واجب، دائما أبدا»، ولكن آه من الحنين! وسامح الله الزمن، الزمن الذي مجرد حياته - حياته التي لا تتوقف لحظة - خيانة وأي خيانة للإنسان. لو أن الأحجار تنطق لسألت هذه الأماكن أن تحدثني عن الماضي، لتخبرني أحقا كان هذا الجسم يهد الجبال؟ وهذا القلب المريض لا يكف عن الخفقان؟ وهذا الثغر لا يمسك عن الضحك؟ وهذا الشعور لا يعرف الألم؟ وهذه الصورة معلقة في كل قلب؟ ومرة أخرى سامح الله الزمن!

وعندما انتهى به المسير الوئيد إلى جامع الحسين، خلع حذاءه ودخل وهو يتلو الفاتحة. ومضى إلى المنبر حيث وجد في انتظاره محمد عفت وإبراهيم الفار فصلوا المغرب جميعا. ثم غادروا المسجد متجهين نحو الطمبكشية لزيارة علي عبد الرحيم؛ كان ثلاثتهم قد اعتزلوا العمل ليتفرغوا لمقاومة الأمراض، غير أنهم كانوا أحسن حالا من علي عبد الرحيم الذي لم يعد بوسعه أن يفارق الفراش، وقال السيد أحمد متنهدا: يخيل إلي أني عما قريب لن أستطيع الذهاب إلى الجامع إلا راكبا .. - الحال من بعضه ..

فعاد الرجل يقول في قلق: شد ما أخاف أن أضطر إلى ملازمة الفراش كالسيد علي، إني أدعو الله أن يكرمني بالموت قبل أن يدركني العجز .. - ربنا يكفيك ويكفينا كل سوء ..

فبدا كالخائف وهو يقول: غنيم حميدو لبث مشلولا في الفراش زهاء العام، وصادق الماوردي عانى هذا العذاب شهورا، فاللهم أكرمنا بالنهاية السريعة إذا حم القضاء.

فضحك محمد عفت قائلا: إذا غلبتك الأفكار السوداء انقلبت امرأة، وحد الله يا أخي!

ولما بلغوا بيت علي عبد الرحيم أدخلوا إلى حجرته، فبادرهم يقول في جزع: تأخرتم عن ميعادكم، سامحكم الله ..

بان ضجر الرقاد في عينيه، فلم يعد يعرف الابتسام إلا ساعة اجتماعه بهم، وجعل يقول: لا عمل لي طول اليوم إلا الاستماع إلى الراديو، ماذا كنت أصنع لو تأخر استعماله في مصر حتى اليوم! كل ما يذيعه يطيب لي، حتى المحاضرات التي لا أكاد أفهمها، ومع ذلك فلم نكبر إلى الحد الذي يستوجب هذا العذاب، أجدادنا كانوا يتزوجون في مثل أعمارنا!

فغلبت روح الفكاهة أحمد عبد الجواد، فقال: فكرة! ما رأيكم في أن نتزوج من جديد، لعل ذلك يجدد شبابنا وينفض عنا الأمراض؟!

فابتسم علي عبد الرحيم - كان يتجنب الضحك أن تدركه نوبة السعال فتؤذي قلبه - وقال: معكم! اختاروا لي عروسا، ولكن صارحوها بأن العريس لا يستطيع الحركة، وعليها الباقي.

وهنا خاطبه الفار وكأنما تذكر أمرا فجأة: أحمد عبد الجواد سيسبقك إلى رؤية وليد حفيدته، ربنا يمد في عمره! - مبارك مقدما يا ابن عبد الجواد!

ولكن السيد أحمد تجهم قائلا: نعيمة حبلى حقا ولكني غير مطمئن، ما زلت أذكر ما قيل عن قلبها يوم مولدها، طالما حاولت أن أنسى ذلك عبثا .. - يا لك من رجل جاحد، منذ متى تؤمن بنبوءات الأطباء؟

فضحك السيد أحمد قائلا: منذ باتت اللقمة التي أتناولها على غير مشورتهم تؤرقني حتى مطلع الفجر ..

فتساءل علي عبد الرحيم: ورحمة ربنا؟! - الحمد لله رب العالمين.

ثم مستدركا: لست بالغافل عن رحمة الله، ولكن الخوف يبعث على الخوف، والحق فإن نعيمة لا تهمني بقدر ما تهمني عائشة يا علي، عائشة هي مركز القلق في حياتي، التعيسة المسكينة، سأتركها إذا تركتها وحيدة في هذه الدنيا ..

فقال إبراهيم الفار: ربنا موجود، وهو الراعي الأكبر ..

وساد الصمت مليا، حتى قطعه صوت علي عبد الرحيم قائلا: وسيأتي دوري بعدك في رؤية وليد حفيدتي ..

فضحك السيد أحمد قائلا: سامح الله البنات، فإنهن يكبرن أهلهن قبل الأوان.

فهتف محمد عفت: يا عجوز، اعترف بالكبر وكفاك مكابرة .. - لا ترفع صوتك خشية أن يسمعك قلبي فيسوق العوج، أصبح قلبي كالطفل المدلل ..

فقال إبراهيم الفار وهو يهز رأسه آسفا: يا له من عام ذلك العام الماضي، كان علينا شديدا، فما ترك واحدا منا سليما كأننا كنا على ميعاد! - على رأي عبد الوهاب: لنعيش سوا لنموت سوا ..

فضحكوا معا، وإذا بعلي عبد الرحيم يغير لهجته ويتساءل جادا: أهذا يصح؟ أعني ما فعله النقراشي؟

فتجهم وجه أحمد عبد الجواد وقال: كم أملنا أن تعود المياه إلى مجاريها، أستغفر الله العظيم .. - أخوة الجهاد والعمر ضاعت هباء! - في هذا الزمن كل جميل يضيع هباء ..

وعاد أحمد عبد الجواد يقول: لم أحزن لشيء كما حزنت لخروج النقراشي، ما كان ينبغي أن يذهب به الخصام إلى هذا الحد .. - ترى ما النهاية التي تنتظره؟ - النهاية المحتومة، أين الباسل والشمسي؟ لقد قضى الرجل المجاهد على نفسه، وأخذ في رجليه أحمد ماهر.

وهنا قال محمد عفت متنرفزا: دعونا من هذه السيرة! أنا أكاد أطلق السياسة!

وخطر للفار خاطر، فتساءل باسما: لو اضطررنا - لا سمح الله - إلى ملازمة الفراش كالسيد علي، فكيف نتقابل ونتحادث؟

فتمتم محمد عفت: فال الله ولا فالك ..

فضحك أحمد عبد الجواد وقال: لو وقع المحذور نتخاطب بالراديو، كما يخاطب بابا «سخام» الأطفال! ..

وضحكوا جميعا، وأخرج محمد عفت ساعته ونظر فيها، ولكن علي عبد الرحيم جزع وقال: ستبقون معي حتى يحضر الطبيب؛ لتسمعوا ماذا يقول، ملعون أبوه وأبو أيامه ..

23

كانت الغورية تغلق أبوابها، فقلت السابلة واشتدت البرودة، وكان الزمن أواسط ديسمبر، ولكن الشتاء جاء متعجلا ذلك العام. ولم يكن كمال قد وجد صعوبة في جذب رياض قلدس إلى حي الحسين. أجل كان الشاب غريبا عن الحي، ولكنه وجد من نفسه شوقا للتقلب في أنحائه، والجلوس في مقاهيه. وكان قد مضى على تعارفهما في مجلة الفكر أكثر من عام ونصف عام، لم يمر أسبوع خلاله دون أن يتقابلا مرة أو مرتين، بخلاف العطلة التي كانت تجمع بينهما كل مساء على وجه التقريب في مجلة الفكر، أو بيت بين القصرين، أو بيت رياض بمنشية البكري، أو مقاهي عماد الدين، أو قهوة الحسين الكبرى التي لجأ إليها كمال بعد أن أتت المعاول على قهوة أحمد عبده التاريخية فمحتها من الوجود إلى الأبد. كانا سعيدين بصداقتهما، وقد قال كمال لنفسه مرة «جعلت أفتقد حسين شداد أعواما، وظل مكانه شاغرا، حتى ملأه رياض قلدس»، ففي محضره تستيقظ روحه وتستشعر ذاك الانبثاق الذي يبلغ نشوته في عناق الفكر المتبادل. هذا على الرغم من أنهما لم يكونا شيئا واحدا، وإن كانا متكاملين فيما بدا. وظلت صداقتهما شعورا متبادلا في صمت، لم ينوها به؛ فلم يقل أحدهما للآخر «أنت الصديق»، ولا قال له «لا أتصور الحياة بدونك»، ولكن كان ذلك كذلك، وعلى برودة الجو لم تفتر رغبتهما في السير، فقررا أن يسيرا على الأقدام حتى قهوة عماد الدين. ولم يكن رياض قلدس سعيدا ذلك المساء، كان يقول بانفعال شديد: انتهت الأزمة الدستورية بهزيمة الشعب؛ فليست إقالة النحاس إلا هزيمة للشعب في نضاله التاريخي مع السراي ..

فقال كمال في أسف: ثبت الآن أن فاروق كأبيه .. - فاروق ليس المسئول وحده، ولكن دبرها أعداء الشعب التقليديون، فهذه يد علي ماهر ومحمد محمود، ومن المبكي أن ينضم إلى أعداء الشعب اثنان من أبنائه، ماهر والنقراشي، ولو تطهر الوطن من الخونة لما وجد الملك من يمكنه من هضم حقوق الشعب ..

ثم استطرد بعد صمت قليل: ليس الإنجليز اليوم في الميدان، ولكن الشعب والملك وجها لوجه، الاستقلال ليس كل شيء، هنالك حق الشعب المقدس في أن يتمتع بسيادته وحقوقه، ليحيا حياة الإنسان لا حياة العبيد ..

لم يكن كمال غارقا في السياسة كرياض، أجل لم يستطع الشك أن يدمرها فيما دمر فلبثت حية في عواطفه، كان يؤمن بحقوق الشعب بقلبه، وإن كان عقله لا يدري أين المقر: عقله يقول حينا: «حقوق الإنسان»، وحينا آخر يقول: «بل البقاء للأصلح وما الجماهير إلا قطيع» وربما قال: «والشيوعية، أليست تجربة جديرة بالاختبار؟» أما قلبه فلم يتخلص من عواطفه الشعبية التي صاحبته منذ صباه ممتزجة بذكرى فهمي، أما رياض فكانت السياسة جوهرا أصيلا في نشاطه الذهني وعاد رياض يقول: أيمكن أن ننسى الإهانة التي تلقاها مكرم في ميدان عابدين؟ وهذه الإقالة المجرمة، سب وقذف وبصقة في وجه الأمة؟ والحقد الأعمى يجعل البعض يهللون، وا حسرتاه ..

فقال كمال مداعبا: أنت غاضب لمكرم!

فقال رياض دون تردد: إن الأقباط جميعا وفديون؛ ذلك أن الوفد حزب القومية الخالصة، ليس حزبا دينيا تركيا كالحزب الوطني، ولكنه حزب القومية التي تجعل من مصر وطنا حرا للمصريين على اختلاف عناصرهم وأديانهم، أعداء الشعب يعلمون ذلك؛ ولذلك كان الأقباط هدفا للاضطهاد السافر طوال عهد صدقي، وسيعانون ذلك منذ اليوم ..

ورحب كمال بهذه الصراحة التي تشهد لصداقتهما بالكمال، غير أنه راق له أن يتساءل في دعابة: ها أنت تتحدث عن الأقباط! أنت الذي لا يؤمن إلا بالعلم والفن! ..

فلاذ رياض بالصمت. وكانا قد بلغا شارع الأزهر حيث يتدافع الهواء البارد في شيء من العنف. ثم مرا في طريقهما بدكان بسبوسة فدعاه كمال إلى تناول بعض منها، وما لبث أن أخذ كل منهما طبقا صغيرا وانتحيا جانبا يأكلان، وعند ذلك قال رياض: إني حر وقبطي في آن، بل إني لاديني وقبطي معا، أشعر في أحايين كثيرة بأن المسيحية وطني لا ديني، وربما إذا عرضت هذا الشعور على عقلي اضطربت. ولكن مهلا، أليس من الجبن أن أنسى قومي؟ شيء واحد خليق بأن ينسيني هذا التنازع، ألا وهو الفناء في القومية المصرية الخالصة كما أرادها سعد زغلول، إن النحاس مسلم دينا، ولكنه قومي بكل معنى الكلمة أيضا، فلا نشعر حياله إلا بأننا مصريون؛ لا مسلم ولا قبطي، بوسعي أن أعيش سعيدا دون أن أكدر صفوي بهذه الأفكار، ولكن الحياة الحقة مسئولية في الوقت نفسه.

كان كمال يتمطق ويفكر وصدره يجيش بالعواطف، كانت سحنة رياض المصرية الصميمة التي تذكره بالصور الفرعونية تثير تأملات شتى في نفسه. «آن موقف رياض له وجاهته التي لا تجحد، وأنا نفسي - بين عقلي وقلبي - شخص يعاني انقسام الشخصية، فكذلك هو، كيف يتأتى لأقلية أن تعيش وسط أغلبية تضطهدها؟ وجدارة الرسالات السامية تقاس عادة بما تحققه من سعادة للبشر تتمثل أول ما تتمثل في الأخذ بيد المضطهدين.» قال: لا تؤاخذني؛ فقد عشت حتى الآن دون أن أصطدم بمشكلة العنصرية، فمنذ البدء لقنتني أمي أن أحب الجميع، ثم شببت في جو الثورة المطهر من شوائب التعصب، فلم أعرف هذه المشكلة.

فقال رياض وهما يستأنفان المسير: المرجو ألا تكون ثمة مشكلة على الإطلاق، يؤسفني أن أصارحك بأننا نشأنا في بيوت لا تخلو من ذكريات سود محزنة. لست متعصبا، ولكن من يستهين بحق إنسان في أقصى الأرض - لا في بيته - فقد استهان بحقوق الإنسانية جميعا .. - جميل هذا القول، لا عجب أن رسالات الإنسانية الحقة كثيرا ما تنبعث من أوساط الأقلية، أو من رجال مشغولي الضمائر بالأقليات البشرية، ولكن ثمة متعصبون دائما .. - دائما وفي كل مكان، الإنسان حديث والحيوان قديم، وهم عندكم يعتبروننا كفارا ملاعين، وهم عندنا يعتبرونكم كفارا مغتصبين، ويقولون عن أنفسهم إنهم سلالة ملوك مصر الذين استطاعوا أن يحافظوا على دينهم بدفع الجزية ..

فضحك كمال ضحكة عالية، وقال: هذا قولنا وذاك قولكم، ترى الأصل في هذا الخلاف الدين أم الطبيعة البشرية المتطلعة أبدا إلى الخصام؟! لا المسلمون على وفاق، ولا المسيحيون على وفاق، وستجد نزاعا مستمرا بين الشيعي والسني، وبين الحجازي والعراقي، كالذي بين الوفدي والدستوري، وطالب الآداب وطالب العلوم، والنادي الأهلي والترسانة، ولكن رغم ذلك كله فشد ما نحزن إذا طالعنا في الصحف خبر زلزال باليابان! اسمع، لماذا لا تعالج ذلك في قصصك؟ - مشكلة الأقباط والمسلمين ..

فصمت رياض قلدس مليا، ثم قال: أخاف سوء الفهم ..

ثم مستطردا بعد فترة صمت أخرى: ثم لا تنس أننا رغم كل شيء في عصرنا الذهبي، كان الشيخ عبد العزيز جاويش يقترح في الماضي أن يصنع المسلمون من جلودنا أحذيتهم .. - وكيف نستأصل هذه المشكلة من جذورها؟ - من حسن الحظ أنها ذابت في مشكلة الشعب كله، مشكلة الأقباط اليوم هي مشكلة الشعب؛ إذا اضطهد اضطهدنا وإذا تحرر تحررنا .. «السعادة والسلام .. ذلك الحلم المنشود، قلبك يحيا بالحب وحده، فمتى يعرف عقلي سبيله؟ متى أقول بلهجة ابن أختي عبد المنعم: «نعم. نعم»؟ إن صداقتي لرياض علمتني كيف أقرأ قصصه، ولكن كيف أومن بالفن، في الوقت الذي وجدت الفلسفة نفسها قصورا غير صالحة للسكنى؟»

وسأله رياض فجأة، وهو يسترق إليه النظر: فيم تفكر الآن؟ .. أصدقني!

وفطن إلى ما وراء سؤاله، فأجابه بصراحة: كنت أفكر في قصصك. - ألم تتألم لصراحتي؟ - أنا! سامحك الله ..

فضحك كالمعتذر، ثم سأل: أقرأت قصتي الأخيرة؟ - نعم، وهي لطيفة، ولكن يخيل إلي أن الفن نشاط غير جدي، مع ملاحظة أني لا أدري أيهما أخطر في حياة الإنسانية: الجد أم اللهو؟! أنت مثقف ثقافة علمية عالية، ولعلك أدرى «غير العلماء» بالعلم، ولكن نشاطك كله يضيع في كتابة القصص وإني لأتساءل أحيانا: ماذا أفدت من العلم؟

فقال رياض قلدس في حماسة: أخذت من العلم للفن عبادة الحقيقة، والإخلاص لها، ومواجهتها بشجاعة مهما تكن مرة، والنزاهة في الحكم، والتسامح الشامل مع المخلوقات ..

كلمات ضخمة، ولكن ما علاقتها بملهاة القصص؟ ونظر رياض قلدس إليه، فقرأ الشك في وجهه، فضحك عاليا ثم قال: أنت تسيء الظن بالفن، ولكن عزائي أن شيئا في الدنيا لا يمكن أن يسلم من شكك، نحن نرى بعقولنا ولكننا نعيش بقلوبنا، أنت مثلا - رغم موقفك الشكي - تحب وتتعامل وتشارك مشاركة ما في حياة بلدك السياسية، ووراء كل ناحية من هذه النواحي مبدأ شعوري أو لاشعوري لا يقل عن الإيمان قوة، الفن هو المعبر عن عالم الإنسان، وإلى هذا فمن الأدباء من أسهم بفنه في معركة الآراء العالمية، فانقلب الفن على يديه عدة من عدد الكفاح في ميدان الجهاد العالمي، لا يمكن أن يكون الفن نشاطا غير جدي ..

دفاع عن الفن أم عن قيمة الفنان؟ لو أن لبائع اللب قدرة على الجدل لدلل على أنه يلعب دورا خطيرا في حياة البشر، ولا يبعد أن يكون لكل شيء قيمة ذاتية، ولا يبعد كذلك ألا يكون لشيء قيمة البتة، كم مليونا من البشر يلفظون أنفاسهم في هذه اللحظة؟! في الوقت نفسه يرتفع صوت طفل بالبكاء على فقد لعبة، أو صوت عاشق يبث الليل والكون متاعب قلبه، أأضحك أم أبكي؟ قال : لمناسبة ما قلت عن معركة الآراء العالمية، دعني أخبرك بأنها تنعكس على صورة مصغرة في أسرتنا، لي ابن أخت من الإخوان، والآخر من الشيوعيين! - ينبغي أن يكون لها صورة في كل بيت، عاجلا أو آجلا، لم نعد نعيش في قمقم، وأنت ألم تفكر في هذه الأمور؟ - قرأت عن الشيوعية ضمن دراستي للفلسفة المادية، كما قرأت كتبا عن الفاشستية والنازية .. - تقرأ وتفهم، مؤرخ بلا تاريخ، أرجو أن تعد يوم خروجك من هذا الموقف يوم عيد ميلادك السعيد.

فاستاء كمال لهذه الملاحظة، لأنها نقد لاذع من ناحية، ولأنها لا تخلو من حق من ناحية أخرى، ثم قال متهربا من التعقيب عليها: كل من الشيوعي والإخواني في أسرتنا على غير علم مكين بما يؤمن به! - الإيمان إرادة لا علم، إن أتفه مسيحي اليوم يعرف عن المسيحية أضعاف ما عرف الشهداء، كذلك عندكم في الإسلام .. - وهل تؤمن بمذهب من هذه المذاهب؟

فقال رياض بعد تفكر: لا شك في احتقاري للفاشية والنازية وكافة النظم الدكتاتورية، أما الشيوعية فخليقة بأن تخلق عالما خاليا من مآسي الخلافات العنصرية والدينية والمنازعات الطبقية، بيد أن الاهتمام الأول مركز في فني ..

فقال كمال وكان في صوته دعابة: ولكن الإسلام قد خلق هذا العالم الذي تتحدث عنه منذ أكثر من ألف عام .. - لكنه دين. الشيوعية علم أما الدين فأسطورة ..

ثم مستدركا وهو يبتسم: ونحن نتعامل مع المسلمين لا الإسلام ..

وجدا شارع فؤاد كثير الزحام رغم شدة البرودة، فتوقف رياض فجأة وهو يتساءل: ما رأيك في عشاء من المكرونة والنبيذ الجيد؟ - لا أشرب في الأماكن المأهولة، فلنذهب إلى قهوة عكاشة إذا شئت ..

فضحك رياض قلدس قائلا: كيف تطيق هذا الوقار كله؟ نظارة وشارب وتقاليد! حررت عقلك من كل قيد، أما جسمك فكله قيود، أنت خلقت - بجسمك على الأقل - لتكون مدرسا ..

وذكره تنويه رياض بجسمه بحادثة أليمة؛ فقد اشترك في حفل ميلاد أحد زملائه، وشربوا جميعا حتى سكروا، وهناك حمل أحدهم عليه معرضا برأسه وأنفه حتى أضحك الجميع. وإذا ذكر أنفه أو رأسه فقد ذكر عايدة، وتلك الأيام، عايدة خالقة أنفه ورأسه، ومن عجب أن يغيض الحب فيمسي لا شيء، ثم تبقى هذه الرواسب المؤلمة ..

وجذبه رياض من ذراعه وهو يقول: هلم نشرب نبيذا ونتحدث عن فن القصة، ثم نذهب بعد ذلك إلى بيت الست جليلة بعطفة الجوهري، وإذا كنت تقول لها يا عمتي، فسأقول لها يا خالتي ..

24

كانت السكرية في شأن، أو بمعنى أصح هكذا كانت شقة عبد المنعم شوكت. ففي حجرة النوم اجتمعت حول فراش نعيمة أمينة وخديجة وعائشة وزنوبة والحكيمة المولدة، أما في حجرة الاستقبال فقد جلس مع عبد المنعم والده إبراهيم وأخوه أحمد وياسين وكمال، وكان ياسين يداعب عبد المنعم قائلا: اعمل حسابك أن تكون الولادة القادمة في غير هذا الوقت الذي تستعد فيه للامتحان ..

كانوا في أواخر أبريل، وكان عبد المنعم متعبا بقدر ما كان مبتهجا، بقدر ما كان قلقا. وكان صوت الطلق يترامى من وراء الباب المغلق حادا يحمل كل معاني الألم، فقال عبد المنعم: إن الحمل أتعبها جدا، وبلغ بها درجة من الضعف لا يتصورها عقل، وكأن وجهها لم تعد به نقطة دم واحدة ..

فتجشأ ياسين في ارتياح، ثم قال: هذه أمور عادية، وكلهن سواء ..

وقال كمال باسما: ما زلت أذكر ولادة نعيمة، كانت ولادة عسيرة عانت منها عائشة ما عانت، وكنت متألما، وكنت واقفا في هذا المكان مع المرحوم خليل ..

فتساءل عبد المنعم: هل أفهم من هذا أن عسر الولادة وراثي؟

فقال ياسين وهو يشير بأصبعه إلى فوق: عنده اليسر ..

فقال عبد المنعم: جئنا بحكيمة معروفة في الحي كله، كانت أمي تفضل إحضار الداية التي ولدتها، ولكني أصررت على الحكيمة؛ فهي أنظف وأمهر بلا ريب.

فقال ياسين: طبعا، ولو أن الولادة بجملتها بأمر الله وعنايته.

فقال إبراهيم شوكت وهو يشعل سيجارة: جاءها الطلق في الصباح الباكر، والساعة تدور الآن في الخامسة مساء، مسكينة، إنها رقيقة كالخيال، ربنا يأخذ بيدها.

ثم وهو يردد عينيه الخاملتين في الجالسين عامة، وابنيه عبد المنعم وأحمد خاصة: آه لو تذكر الآلام التي تتحملها الأم!

فقال أحمد ضاحكا: كيف تطالب الجنين بأن يتذكر يا بابا؟

فقال الرجل موبخا: إذا أردت أن تعترف بالجميل فلا تعتمد على الذاكرة وحدها ..

وانقطع الطلق، وخيم على الحجرة المغلقة السكون فاتجهت الرءوس إليها، ومرت فترة فنفد صبر عبد المنعم فقام ماضيا إلى الباب ونقره، ففتح ربع فتحة عن وجه خديجة المكتنز، فطالعها بعينين متسائلتين، وهم بإدخال رأسه، ولكنها صدته براحتيها وهي تقول: لم يأذن الله بالفرج بعد .. - طال الوقت، ألا يكون طلقا كاذبا؟ - الحكيمة أدرى بذلك منا، اطمئن وادع لنا بالفرج.

وأغلقت الباب، فعاد الشاب إلى مجلسه بجوار أبيه الذي علق على قلقه بقوله: اعذروه فإنه محدث ولادة.

وأراد كمال أن يتسلى، فأخرج من جيبه جريدة البلاغ حيث كانت مطوية فيه وراح يتصفحها، فقال أحمد: أعلنت في الراديو النتائج الأخيرة للمعركة الانتخابية (ثم وهو يبتسم في سخرية): ويا لها من نتائج مضحكة ..

فتساءل والده دون اكتراث: ما مجموع الناجحين من الوفديين؟ - ثلاثة عشر على ما أذكر.

ثم قال أحمد موجها خطابه إلى خاله ياسين: لعلك مسرور يا خالي إكراما لسرور رضوان؟

فقال ياسين وهو يهز منكبيه باستهانة: لا هو وزير ولا هو نائب، فماذا يهمني من الأمر كله؟

وقال إبراهيم شوكت ضاحكا: كان الوفديون يظنون أن عهد الانتخابات المزورة قد انتهى، ولكن شهاب الدين أضرط من أخيه!

فقال أحمد في امتعاض: الظاهر أن الاستثناء هو القاعدة في مصر! - حتى النحاس ومكرم قد سقطا في الانتخابات، أليس هذا هزلا؟

وهنا قال إبراهيم شوكت في شيء من الحدة: لكن لا ينكر أحد أنهما أساءا الأدب حيال الملك؛ إن للملوك مقامهم، وليس على ذلك النحو تساس الأمور ..

فقال أحمد: إن بلادنا في حاجة إلى جرعات قوية من قلة الأدب حيال الملوك، حتى تفيق من إغمائها الطويل ..

فقال كمال: ولكن الكلاب يعيدونها إلى الحكم المطلق، تحت ستار برلمان مزيف، وفي نهاية التجربة سنجد فاروق في قوة فؤاد واستبداده أو أشد، كل هذا يرتكب بأيدي بعض أبناء الوطن.

فضحك ياسين، وقال وكأنه يفسر ويوضح: كمال ولو أنه كان على صباه من محبي الإنجليز كشاهين وعدلي وثروت وحيدر، إلا أنه انقلب وفديا بعد ذلك ..

فقال كمال جادا، وهو ينظر إلى أحمد خاصة: انتخابات مزورة، كل شخص في البلد يعلم بأنها مزورة، ومع ذلك يعترف بها رسميا وتحكم بها البلاد، ويعني هذا أن يستقر في ضمير الشعب أن نوابه لصوص سرقوا كراسيهم، وأن وزراءه لصوص سرقوا بالتالي مناصبهم، وأن سلطاته وحكومته مزيفة مزورة، وأن السرقة والتزييف والتضليل مشروعة رسميا، أفلا يعذر الرجل العادي إذا كفر بالمبادئ والخلق وآمن بالزيف والانتهازية؟

فقال أحمد متحمسا: دعهم يحكمون، في كل شر جانب خير، ومن الأفضل لشعبنا أن يسام الخسف من أن يخدر بحكم يحبه ويثق به دون أن يحقق له - هذا الحكم - آماله الحقيقية، طالما فكرت في هذا حتى انقلبت أرحب بحكم الطغاة من أمثال محمد محمود وإسماعيل صدقي ..

ولاحظ كمال أن عبد المنعم لا يشترك في الحديث كعادته، فأراد أن يجره إليه فقال: لماذا لا تحدثنا عن رأيك؟

فابتسم عبد المنعم ابتسامة لا معنى لها، وقال: دعني اليوم أستمع ..

فضحك ياسين قائلا: فرفش حتى لا يجدك المولود واجما، فيفكر في العودة من حيث أتى ..

وندت عن ياسين حركة أدرك كمال منها أنه يهم بانتحال عذر للذهاب، أجل جاء وقت القهوة، ونظام «السهر» عنده لا يمكن أن يغيره شيء، وفكر كمال في الخروج معه حيث لا ضرورة لوجوده، وجعل يراقبه متوثبا، وإذا بصرخة تنطلق من حجرة نعيمة عنيفة قاسية تحمل في طياتها أنغام الأعماق البشرية، وتتابعت الصرخات في عنف، وتطلعت الأعين نحو باب الحجرة، وساد بينهم صمت، حتى همس إبراهيم في رجاء: لعله الطلق الأخير إن شاء الله ..

حقا؟ بيد أنه تواصل حتى وجموا، وامتقع لون عبد المنعم، ثم عاد الصمت مرة أخرى ولكن إلى حين، ورجع الطلق ولكنه كان خواء، تقذف به حنجرة بحت وصدر تصدع فكأنه النزع. ودلت حال عبد المنعم على أنه في حاجة إلى تشجيع، فقال له ياسين: كل ما تسمع أحوال مألوفة في الولادة العسيرة ..

فقال عبد المنعم بصوت متهدج: العسيرة! العسيرة! .. ولكن لماذا كانت عسيرة؟

وفتح الباب فخرجت زنوبة ثم أغلقته، فتطلعوا إليها، فاقتربت حتى وقفت أمام ياسين وقالت: كل شيء على ما يرام، غير أن الحكيمة زيادة في الحيطة ترجو أن تحضروا الدكتور سيد محمد ..

فوقف عبد المنعم قائلا: لا شك أن الحال استوجبت إحضاره، خبريني عما بها؟

فقالت زنوبة بصوت هادئ مؤكد: كل شيء على ما يرام، وإذا أردت أن تزيدنا اطمئنانا فأسرع في إحضار الطبيب ..

ولم يضع عبد المنعم وقته فمضى إلى حجرته؛ ليستكمل ملابسه، ومضى في أثره أحمد، ثم خرجا معا ليأتيا بالدكتور، وعند ذاك سألها ياسين: ماذا هناك؟

فقالت زنوبة، وقد نم وجهها لأول مرة عن قلق: تعبانة المسكينة كان الله في عونها. - والحكيمة ألم تقل شيئا؟

فقالت زنوبة بتسليم: قالت إنها تريد الدكتور ..

وعادت زنوبة إلى الحجرة تاركة وراءها ظلا ثقيلا من القلق.

تساءل ياسين: أهذا الطبيب بعيد؟

فأجابه إبراهيم شوكت: في العمارة التي فوق قهوتك بالعتبة.

ودوت صرخة فانعقدت الألسن، هل عاد الطلق الأليم، ومتى يحضر الطبيب؟ ودوت الصرخة مرة أخرى، فازداد التوتر، وإذا ياسين يهتف مرتاعا: هذا صوت عائشة!

فأرهفوا السمع، وعرفوا صوت عائشة، فقام إبراهيم إلى الحجرة ونقر الباب، ففتحت زنوبة بوجه باهت، سألها بلهفة: ما لكم؟ ما لعائشة هانم؟ أليس من المستحسن أن تغادر الحجرة؟

فقالت زنوبة وهي تزدرد ريقها: كلا .. الحال شديدة يا سي إبراهيم .. - ماذا حدث؟ - فجأة، إنها .. انظر ..

في أقل من ثانية كان الرجال الثلاثة على باب الحجرة ينظرون. كانت نعيمة مغطاة حتى الصدر، خالتها وجدتها والحكيمة حولها في الفراش، أمها واقفة وسط الحجرة تحملق في بنتها من بعيد بعينين زائغتين وكأنها فقدت الوعي، وكانت نعيمة مغمضة العينين، صدرها يعلو وينخفض كأنما قد أفلت زمامه من بقية الجسد الساكن، أما الوجه فأبيض باهت كالموت. هتفت الحكيمة «الدكتور!» وجعلت أمينة تهتف «يا رب»، وخديجة تنادي بصوت مذعور «نعيمة .. ردي علي»، أما عائشة فلم تنطق كأن الأمر لا يعنيها في شيء . تساءل كمال «ماذا هنالك؟» وسأل أخاه في ذهول «ماذا هنالك؟» ولكنه لم يجبه. أي ولادة عسيرة؟! ودار بصره بعائشة وإبراهيم وياسين فتقهقر قلبه في صدره، ليس هنالك إلا معنى واحد ..

ودخلوا الحجرة جميعا. لم تعد حجرة ولادة وإلا ما دخلوا، وكانت عائشة في حال بالغة الشدة ولكن أحدا لم يوجه إليها كلمة. وفتحت نعيمة عينيها فبدتا مظلمتين، وأتت حركة كأنما تريد أن تجلس فأجلستها جدتها وحوتها في حضنها، شهقت الفتاة، وندت عنها آهة عميقة، ثم بغتة هتفت كأنما تستغيث: ماما .. أنا ذاهبة .. أنا ذاهبة.

ثم سقط رأسها على صدر جدتها، وضجت الحجرة بالصوات، ولطمت خديجة خديها، وتشهدت أمينة في وجه الفتاة، أما عائشة فرمت بناظريها من النافذة المطلة على السكرية، وثبتت عينيها على ماذا؟ ثم تردد صوتها كالحشرجة: ما هذا يا ربي؟ ما هذا الذي تفعله؟ لماذا؟ لماذا؟ أريد أن أفهم ..

واقترب منها إبراهيم شوكت ومد لها يده، فأبعدتها بحركة عصبية وهي تقول: لا يلمسني منكم أحد، دعوني، دعوني ..

ثم رددت بصرها بينهم قائلة: اخرجوا من فضلكم، لا تكلموني، هل عندكم كلام يجدي؟ لن ينفعني الكلام، ماتت نعيمة كما ترون، كانت كل ما تبقى لي فلم يبق لي شيء في الدنيا، اذهبوا من فضلكم ..

كان الظلام حالكا عندما مضى ياسين وكمال في طريقهما إلى بين القصرين، وكان ياسين يقول: ما أثقل أن أبلغ والدك الخبر!

فأجاب كمال وهو يجفف عينيه: نعم .. - لا تبك، أعصابي لم تعد تتحمل ..

فقال كمال متنهدا: كانت عزيزة جدا علي، أنا حزين جدا يا أخي، وعائشة المسكينة! - هذه هي الكارثة! عائشة! سننسى جميعا إلا عائشة. «سننسى جميعا؟! لا أدري أن وجهها لن يغيب عني مدى العمر، ولو أن لي مع النسيان تجربة فذة، هو نعمة كبرى، ولكن متى يجود ببلسمه؟» وعاد ياسين يقول: كنت متشائما عند زواجها، ألا تدري؟ لقد تنبأ لها الدكتور يوم مولدها بأن قلبها لن يسعفها على الحياة بعد العشرين! والدك يذكر هذا في الغالب .. - لا أدري شيئا، أكانت عائشة تدري ؟ - كلا، إنه تاريخ قديم، وقضاء الله لا بد منه .. - ما أتعسك يا عائشة. - أجل ما أتعسها المسكينة ..

25

كان أحمد إبراهيم شوكت جالسا في قاعة المطالعة بمكتبة الجامعة، مكبا على متابعة كتاب بين يديه. لم يكن بقي على الامتحان إلا أسبوع، وكان الجهد قد نال منه كل منال، وشعر بأن شخصا قد دخل القاعة وجلس خلفه، فالتفت إلى الوراء مستطلعا فرأى علوية صبري! نعم هي، ولعلها جلست تنتظر كتابا استعارته، وعند تلك الالتفاتة التقت عيناه بالعينين السوداوين، ثم أعاد رأسه إلى وضعه الأول منتشي القلب والحواس: ما من شك في أنها باتت تعرف شكله، كما تعرف أنه مغرم بها، فمثل هذه الأمور لا تخفى، إلى أنها كلما التفتت هنا أو هناك - سواء في فصول المحاضرات أم حديقة الأورمان - وجدته مسترقا إليها النظر. وقد حال حضورها بينه وبين متابعة ما يقرأ، ولكن فرحته فاقت حتى ما كان يقدر. وكان - منذ أن علم بأنها ستتخصص في الاجتماع مثله - يؤمل أن يتم التعارف بينهما في غضون العام الدراسي المقبل، الأمر الذي لم يتح له هذا العام في زحمة طلبة القسم الإعدادي. على أنه لم يسبق له أن وجدها هكذا قريبة منه دون كثرة من الرقباء، فحدثته نفسه بأن يمضي إلى رفوف المراجع كأنما ليطلع على أحدها، ثم يحييها في طريقه! وألقى نظرة على ما حوله فرأى عددا من الطلاب منتشرين هنا وهناك لا يتجاوز عددهم أصابع اليد، فقام دون تردد وسار في الممر بين المقاعد، وعندما مر بها التقت عيناهما فحنى رأسه تحية مؤدبة، فبدا في ملامحها وقع المفاجأة، ولكنها ردت تحيته برأسها ونظرت فيما أمامها. وتساءل ترى هل أخطأ؟ كلا، إنها زميلة منذ عام طويل، ومن واجبه أن يحييها إذا التقيا هكذا وجها لوجه في مكان يكاد يكون خاليا. وواصل مسيره إلى خزانة الكتب الحاوية لدائرة المعارف، ثم اختار مجلدا وراح يقلب صفحاته دون أن يقرأ كلمة. كان سروره برد التحية عظيما فزايله التعب واهتز صدره نشاطا. يا لها من حسناء ملأت عليه جوانب نفسه إعجابا وانجذابا حتى صارت شغله الشاغل. إن كافة أحوالها تنم عن أنها من «أسرة» كما يقولون، وأخشى ما يخشاه أن يكون لها من كبرياء الطبقة نصيب يخفيه أدبها الجم، وإنه ليستطيع أن يعترف لها - صادقا - بأنه من أسرة كذلك إذا دعا الأمر، أليس آل شوكت «أسرة»؟ بلى .. وذات ملك، فسيكون له يوما ريع ومرتب معا! وافتر ثغره عن ابتسامة ساخرة، ريع .. مرتب .. أسرة! إذن فأين مبادئه؟ وشعر بشيء من الخجل، إن القلب في أهوائه لا يعرف المبادئ، فالناس يحبون ويتزوجون خارج دائرة مبادئهم ودون مراعاة لها، وعليهم أن يخلقوا أنصافهم الجميلة خلقا جديدا، كمن يدخل بلدا غريبا فعليه أن يتكلم بلغته حتى يبلغ ما يريد. ثم إن الطبقة والملكية حقيقتان واقعيتان لم يخلقهما هو ولا أبوه ولا جده، فليس هو بالمسئول عنهما، والعلم والجهاد هما الكفيلان بمحو هذه السخافات التي تفرق بين البشر. من الممكن ربما أن يغير نظام الطبقات، ولكن كيف يستطيع أن يغير الماضي وهو أنه من أسرة موفورة الدخل؟ وهيهات أن تتعارض المبادئ الشعبية مع الحب الأرستقراطي، وكارل ماركس نفسه تزوج من جيني فون وستفال حفيدة الدوق برونشويك، وكانوا يسمونها «الأميرة الساحرة» و«ملكة الرقص»، وها هي أميرة ساحرة أخرى ولو رقصت لكانت ملكة الرقص. وأعاد المجلد إلى موضعه ثم رجع، وجعل يملأ ناظريه مما بدا من قامتها، جانب من أعلى الظهر، وصفحة العنق الرقيق، والقذال المزدان بالشعر المعقوص، ما أجمل المنظر، ومر بها خفيفا إلى مقعده وجلس. ولم تمض دقائق حتى سمع وقع أقدامها الخفيفة، فنظر إلى الوراء آسفا وهو يظنها منصرفة ولكنه رآها قادمة، فلما حاذته وقفت في شيء من الارتباك، وهو لا يصدق عينيه، وقالت: لا مؤاخذة، هل أجد عندك محاضرات التاريخ؟

نهض كالجندي، وبادر يقول: بكل تأكيد ..

فقالت كالمعتذرة: لم أستطع متابعة الأستاذ الإنجليزي كما يجب، ففاتني تقييد كثير من النقط الهامة. وأنا لا أرجع إلى المراجع إلا في المواد التي سأتخصص فيها فيما بعد، ولا يتسع الوقت للمراجعة في سائر المواد .. - مفهوم .. مفهوم .. - وقد علمت أن مذكراتك مستوفاة، وأنك أعرتها الكثيرين لينقلوا منها ما فاتهم؟ .. - نعم، ستكون تحت أمرك غدا .. - متشكرة جدا (ثم وهي تبتسم): لا تظن بي الكسل، ولكن إنجليزيتي متوسطة! .. - لا بأس، أنا بدوري دون المتوسط في الفرنسية، ولعله تتاح لنا الفرص للتعاون، ولكن معذرة تفضلي بالجلوس، قد يهمك الاطلاع على هذا الكتاب، مدخل الاجتماع لهاكنز ..

ولكنها قالت: متشكرة. لقد رجعت إليه مرات، قلت إنك دون المتوسط في الفرنسية، فلعلك في حاجة إلى مذكرات السيكولوجي؟

فأجاب دون تردد: أكون شاكرا لو تفضلت .. - غدا نتبادل المذكرات؟ - بكل سرور، ولكن معذرة، ستجدين أكثر الدراسات بقسم الاجتماع بالإنجليزية ..

فتساءلت وهي تداري مولد ابتسامة: أتعرف أنني اخترت قسم الاجتماع؟

ابتسم كأنما ليداري حياءه، ولم يكن ثمة حياء ولكنه شعر بأنه «وقع»، ولكنه قال ببساطة: نعم! - لمناسبة أية مصادفة؟

فقال بجرأة: بل سألت فعلمت ..

وضغطت شفتيها القرمزيتين، ثم قالت وكأنها لم تسمع جوابه: غدا نتبادل المذكرات .. - صباحا .. - إلى اللقاء وشكرا ..

فبادرها: إني سعيد بالتعرف إليك، إلى اللقاء.

لبث واقفا حتى واراها الباب ثم جلس. ولحظ أن البعض كان ينظر مستطلعا نحوه، ولكنه كان ثملا بالسعادة. ترى أكان حديثها استجابة لما بدا من إعجابه بها، أم لحاجتها الملحة إلى مذكراته؟ لم تسنح قبل الساعة فرصة للتعارف. كان يجدها دائما بصحبة الأتراب. هذه أول فرصة، وقد فاز بما تمنى طويلا فيما يشبه المعجزة. إن كلمة من ثغر نحبه خليقة بأن تجعل من كل شيء كلا شيء ..

26

بدا ياسين قلقا رغم إرادته. وكان قد تظاهر طويلا بأنه لا يهمه شيء، لا الدرجة ولا الماهية ولا الحكومة نفسها، لا أمام زملائه الموظفين فحسب ولكن حيال نفسه أيضا: إن الدرجة السادسة - إذا رقي إليها - ستزيد مرتبه جنيهين لا غير! ويا ما ضيع ياسين! ويقولون إنها ستجعل منه رئيس قلم بعد مراجع، ولكن متى كان يكترث ياسين للرياسات؟! بيد أنه كان قلقا، خاصة بعد أن استدعى مدير الإدارة محمد أفندي حسن - زوج زينب أم رضوان - لمقابلة وكيل الوزارة، وذاع بين موظفي المحفوظات أن الوكيل استدعاه ليسمع رأيه في موظفيه للمرة الأخيرة قبل توقيع الكشف الخاص بالترقيات - محمد حسن؟! خليفته اللدود الذي لولا السيد محمد عفت لبطش به من زمن بعيد! أيمكن أن يشهد له هذا الرجل شهادة طيبة؟ وانتهز فرصة خلو حجرة المدير فهرع إلى التليفون، وطلب كلية الحقوق، وكان يتصل بها ذلك اليوم للمرة الثالثة، مستدعيا رضوان ياسين .. - آلو، رضوان؟ أنا والدك. - أهلا وسهلا، كل شيء عال.

كان صوته ينم عن ثقة، الابن واسطة للأب .. - الحركة رهن التوقيع الآن؟ - اطمئن، الوزير نفسه هو الذي وصى بك، كلمه نواب وشيوخ ووعدهم بكل خير. - ألا تحتاج المسألة لتوصية أخيرة؟ - أبدا، الباشا هنأني هذا الصباح كما أخبرتك، اطمئن جدا. - أشكرك يا بني، سلام عليكم. - وعليكم السلام يا بابا، مبارك مقدما ..

ووضع السماعة وغادر الحجرة، فالتقى بإبراهيم أفندي فتح الله - زميله ومنافسه في الدرجة - قادما يحمل بعض الملفات، فتبادلا التحية في تحفظ. وعند ذاك قال ياسين: ليكن بيننا مباراة رياضية يا إبراهيم أفندي، ولنقبل النتيجة أيا كانت بشهامة ..

فقال الرجل في امتعاض: على شرط أن تكون مباراة شريفة! - ماذا تعني؟ - أن يكون الاختيار لوجه الله لا لوساطة! - غريب رأيك! وهل يوجد رزق بدون وساطة في هذه الدنيا؟ اسع كما تشاء وأسعى كما أشاء، وسيأخذ الدرجة صاحب القسمة والنصيب! .. - أنا أقدم منك. - كلانا موظف قديم، سنة لا تقدم ولا تؤخر! - في سنة تولد نفوس وتزهق نفوس .. - تولد تزهق، كل واحد وقسمته .. - والكفاءة؟

فقال ياسين منفعلا: الكفاءة؟ هل نقيم جسورا أو ننشئ محطات كهربائية؟ كفاءة! ماذا يتطلب عملنا الكتابي من كفاءة؟ كلانا بالابتدائية، وفضلا عن ذلك فأنا رجل مثقف ..

فضحك إبراهيم أفندي ضحكة ساخرة، وقال: مثقف؟ أهلا يا سي مثقف! أتظن نفسك مثقفا بالشعر الذي تحفظه. أو بالإنشاء الذي تكتب به خطابات الإدارة كأنك تؤدي امتحان الابتدائية من جديد .. أنا تارك أمري لله ..

وافترق الرجلان على أسوأ حال: وعاد ياسين إلى مكتبه. كانت الحجرة كبيرة، صفت بها المكاتب متقابلة على الجانبين، وغطت الجدران بالرفوف المكتظة بالملفات . وكان البعض مكبا على الأوراق والآخرون يتحادثون ويدخنون: على حين ذهب وجاء عدد من السعاة بالملفات. قال جار ياسين له: ستأخذ ابنتي البكالوريا هذا العام، وسألحقها بمعهد التربية فأرتاح من ناحيتها، لا مصروفات ولا تعب قلب في البحث عن وظيفة بعد التخرج.

فقال ياسين: خير ما تفعل ..

فسأله الرجل مجادلا: وماذا أعددت لكريمة؟ كم بلغت من العمر على فكرة؟

فابتسمت أسارير ياسين رغم انفعاله، وقال: في الحادية عشرة، وسوف تأخذ الابتدائية في الصيف القادم إن شاء الله (وهو يعد على أصابعه): نحن في نوفمبر فيبقى سبعة أشهر بالتمام والكمال .. - ما دامت تنجح في ابتدائي فستنجح في ثانوي، البنات أضمن اليوم من الصبيان ..

ثانوي؟ هذا ما تريده زنوبة. كلا إنه لا يطيق أن يرى ابنته تسير في الطريق ونهداها يهتزان، ثم المصروفات؟ .. - نحن لا نلحق بناتنا بالثانوي، ولماذا؟ أنها لن تتوظف!

فسأل ثالث: أهذا كلام يقال في عام 1938؟ - يقال في أسرتنا ولو في عام 2038!

فضحك رابع وهو يقول: قل إنك لا تستطيع أن تنفق عليها وعلى نفسك معا! قهوة العتبة وخمارة محمد علي، وحب البنات البكارى هد مني الحيل، هذه هي الحكاية ..

فضحك ياسين ثم قال: ربنا ساترها: ولكن كما قلت لك نحن لا نعلم البنت أكثر من الابتدائية ..

وتعالت سعلة من الركن القصي فيما يلي مدخل الحجرة، فالتفت ياسين إلى صاحبها، ثم وقف وكأنه تذكر أمرا هاما، فمضى إلى مكتبه حتى شعر الرجل به فرفع نحوه رأسه، فمال ياسين فوقه قائلا: وعدتني بالوصفة ..

فمد الرجل أذنه متسائلا: نعم؟ ..

فتضايق ياسين من أذن الرجل الثقيلة، واستحى أن يرفع من صوته وإذا بصوت يجيء من وسط الحجرة عاليا وهو يقول: أراهن على أنه يسألك عن الوصفة، وصفتك التي ستذهب بنا جميعا إلى القبر ..

وتراجع ياسين متبرما إلى مكتبه، فقال له الرجل دون مبالاة بإحراجه، وبصوت سمعته الحجرة كلها: أنا أقول لك عنها، هات قشر مانجو، اغله غليا شديدا، وداوم على ذلك حتى يصير سائلا لزجا كالعسل، وخذ منه ملعقة على غيار الريق ..

وضحكوا جميعا، غير أن إبراهيم فتح الله قال متهكما: فايق ورايق، انتظر حتى تأخذ الدرجة السادسة وهي تشد حيلك! ..

فتساءل ياسين ضاحكا: وهل تنفع الدرجة في هذه المسألة؟ ..

فقال جار ياسين ضاحكا أيضا: لو صحت هذه النظرية، لاستحق عم حسنين فراش مكتبنا أن يكون وزير المعارف! ..

وضرب إبراهيم فتح الله كفا بكف، وقال مسائلا زملاءه جميعا: يا إخوان، هذا الرجل (مشيرا إلى ياسين) طيب وظريف وابن حلال، ولكن هل يشتغل بمليم؟ .. أنا راض بذمتكم! ..

فقال ياسين هازئا: دقيقة عمل مني تساوي شغل يوم منك! .. - الحكاية أن المدير يترفق بك، وأنك تتوكل على ابنك في هذا العهد الأغبر! ..

فقال ياسين ملحا في إغاظته: وفي كل عهد وحياتك، ابني في هذا العهد، فإذا جاء الوفد عندك ابن أختي وأبي، قل من عندك أنت! ..

فقال الرجل وهو يرفع رأسه إلى السقف: عندي ربنا! .. - وهو سبحانه عندي أيضا، أليس برب الجميع؟ .. - ولكنه لن يرضى عن زباين محمد علي! .. - وهل يرضى عن مدمني الأفيون والمنزول؟ .. - ليس أبشع في الوجود من السكير! .. - الخمر شراب الوزراء والسفراء، ألا تراهم في الصحف وهم يشربون الأنخاب؟ ولكن هل رأيت سياسيا يقدم قطعة أفيون في حفل سياسي في صحة عقد معاهدة مثلا؟! ..

فقال جار ياسين وهو يغالب الضحك: هس يا جماعة، وإلا قضيتم مدة خدمتكم في السجن!

فبادر ياسين مشيرا إلى غريمه: كان يقرفني في السجن وحياتك، ويقول لي أنا أقدم منك!

وإذا بمحمد حسن يعود من مقابلة وكيل الوزارة، فساد الصمت وتطلعت نحوه الرءوس.

واتجه الرجل نحو حجرته لا يلوي على شيء، فتبادلوا النظرات متسائلين. لا يبعد أن يكون أحد المتخاصمين الآن رئيس قلم، ولكن من صاحب الحظ السعيد؟ وفتح باب المدير. وظهر رأسه الأصلع وهو ينادي بصوت جاف: «ياسين أفندي». فنهض ياسين بجسمه الضخم، ومضى نحو الحجرة وقلبه يخفق. وتفحصه المدير بنظرة غريبة ثم قال: رقيت إلى الدرجة السادسة!

فقال ياسين وقد انشرح صدره: شكرا يا افندم ..

فقال الرجل بلهجة لا تخلو من جفاف: من الإنصاف أن أصارحك بأنه يوجد من هو أحق بها منك، .. ولكنها الوساطة!

فغضب ياسين، وكان كثيرا ما يغضب حيال هذا الرجل، وقال: الوساطة! ما لها؟ هل تتم حركة كبيرة أو صغيرة دون وساطة؟ هل ترقى مخلوق في هذه الإدارة، في هذه الوزارة، بما فيهم حضرتك، دون وساطة؟

فكظم الرجل غيظه، ثم قال: لا يأتيني من ناحيتك إلا وجع الدماغ، تترقى بدون وجه حق، ثم تثور لأقل ملاحظة عادلة، ما علينا، مبارك، مبارك يا سيدي، فقط أرجو أن تشد حيلك، أنت الآن رئيس قلم!

فتشجع ياسين بتراجع المدير، وقال دون أن يخفف من حدته: أنا موظف منذ أكثر من عشرين عاما، وعمري اثنان وأربعون عاما، فهل تستكثر علي الدرجة السادسة؟! إن الغلمان يعينون فيها بمجرد تخرجهم من الجامعة! - المهم أن تشد حيلك، أرجو أن أعتمد عليك كبقية زملائك. لقد كنت وأنت ضابط مدرسة النحاسين مثال الموظف المجد، ولولا تلك الحادثة القديمة ... - شيء قديم فلا داعي لذكره الآن، وكل واحد له أخطاؤه .. - أنت الآن في سن الرجولة الناضجة، فإذا لم يستقم سلوكك تعذر عليك أن تقوم بواجبك، كل ليلة سهر فبأي مخ تعمل في الصباح. أريد أن تنهض بالإدارة، هذا كل ما هنالك ..

فاستاء ياسين للتعريض بسيرته، وقال: لا أقبل أن يمس إنسان سلوكي الخاص بكلمة، أنا حر خارج الوزارة! .. - وداخلها؟ - سأعمل ما يعمله رؤساء الأقلام، أنا اشتغلت في ماضي ما يكفيني طوال العمر ..

عاد ياسين إلى مكتبه متكلفا الابتسام رغم جيشان صدره بالغضب، وذاع النبأ فتلقى التهاني.

وكان إبراهيم فتح الله يميل على أذن جاره هامسا في حقد: ابنه! هذه هي الحكاية، عبد الرحيم باشا عيسى .. فهمت؟! .. اسفخص!

27

كان السيد أحمد عبد الجواد جالسا على كرسي كبير في المشربية ينظر إلى الطريق حينا، وحينا في جريدة الأهرام المبسوطة على حجره، وكانت ثقوب المشربية تعكس على جلبابه الفضفاض وطاقيته نقطا من الضياء. وقد ترك باب حجرته مفتوحا ليتمكن من سماع الراديو القائم في الصالة. غير أنه بدا ناحلا ضامرا، كما لاحت في عينيه نظرة ثقيلة تنم عن استسلام حزين. وكان كأنما يكتشف الطريق - من مجلسه بالمشربية - لأول مرة في حياته، فلم يسبق له أن رآه من هذه الزاوية في أيام حياته الماضية؛ إذ إنه لم يمكث في البيت إلا ساعات النوم على وجه التقريب، أما اليوم فلم تعد له من تسلية - بعد الراديو - إلا هذه الجلسة في المشربية، ينظر من ثقوبها شمالا وجنوبا. وإنه لطريق حي، مسل لطيف، وله إلى هذا طابعه الذي يميزه عن طريق النحاسين الذي ألف رؤيته من دكانه - السابق - زهاء نصف قرن من الزمان، وهذه دكاكين حسنين الحلاق ودرويش الفوال والفولي اللبان وبيومي الشربتلي وأبو سريع صاحب المقلى، تقوم في الطريق كالقسمات في الوجه حتى عرف بها وعرفت به، أي عشرة وأي جوار. ترى ما أعمار هؤلاء الناس؟ حسنين الحلاق مدمج الخلق، من نوع قل أن يبدو عليه أثر الزمن، لم يكد يتغير منه شيء إلا شعره، ولكنه جاوز الخمسين بلا ريب، من لطف الله بهؤلاء الناس أنه يحفظ عليهم صحتهم! ودرويش؟ أصلع، هكذا كان دائما، ولكنه في الستين، ما أقوى جسمه! كذلك كنت أنا في الستين، ولكنني أمسيت في السابعة والستين فيا له من عمر!

وأعدت تفصيل ثيابي لتناسب ما تبقى من جسدي، وإذا نظرت إلى هذه الصورة المعلقة في حجرتي أنكرت نفسي. الفولي أصغر من درويش؛ ذلك الأعمش المسكين، ولولا غلامه ما عرف كيف يهتدي إلى سبيله. أبو سريع رجل عجوز، عجوز؟! ولكنه ما زال يعمل، لم يفارق واحد منهم دكانه، ألا أن فراق الدكان لشديد! ثم لا يبقى لك إلا هذا المجلس، والقبوع في البيت ليل نهار، لو أستطيع أن أخرج ساعة واحدة كل يوم! ولكن علي أن أنتظر يوم الجمعة، ثم لا بد من العصا، ولا بد من كمال ليصحبني، الحمد لله رب العالمين. بيومي أصغرهم وأسعدهم حظا، من أم مريم بدأ، أما أنا فعندها انتهيت، وهو اليوم مالك أحدث عمارة في الحي، هكذا كان مصير بيت السيد رضوان، أنشأ هذا المشرب المضاء بالكهرباء، حظ رجل يبدأ بخداع امرأة، سبحان العاطي وجلت حكمته! كل شيء يتجدد، الطريق ممهد بالأسفلت، وأضيء بالمصابيح، أتذكر ليالي عودتك آخر الليل في الظلام الدامس؟ لكن أين مني هاتيك الليالي؟ وفي كل دكان كهرباء وراديو، كل شيء جديد، إلا أنا، عجوز في السابعة والستين، لا يستطيع مغادرة داره إلا يوما واحدا في الأسبوع وهو يلهث. القلب! كله من القلب، القلب الذي طالما عشق وطالما ضحك وطالما انبسط وغنى، يقضي اليوم بالقعود ولا راد لقضائه. قال الطبيب: «خذ الدواء والزم البيت واتبع نظامي الغذائي»، حسن، ولكن هل يعيد ذلك إلي قوتي .. أعني بعض قوتي؟ فأجاب الطبيب: «حسبنا أن نمنع المضاعفات، ولكن الجهد أو الحركة شيء خطير» .. (ثم ضاحكا): لماذا تريد أن تسترد قوتك؟ أجل لماذا؟ إنه لشيء محزن مضحك معا، ومع ذلك قال: «أريد أن أذهب وأجيء» فقال الطبيب: «لكل حال مسراتها؛ جلسة هادئة، اقرأ الصحف واسمع الراديو وانعم بأسرتك، ويوم الجمعة زر الحسين راكبا، حسبك هذا!» الأمر لصاحب الأمر، متولي عبد الصمد لا يزال يتخبط في الطرقات! ويقول وانعم بأسرتك! لم تعد أمينة تمكث في البيت، انقلبت الآية، أنا في المشربية وأمينة تجول في القاهرة من مسجد إلى مسجد، كمال يجالسني خطفا كالضيف، عائشة؟ آه يا عائشة، أمن الأحياء أنت أم من الأموات؟ ثم يريدون من قلبي أن يبرأ ويستريح! - سيدي ..

والتفت إلى الوراء صوب الصوت، فرأى أم حنفي حاملة صينية صغيرة عليها قارورة الدواء وفنجان قهوة فارغ وكوب ماء مملوء لنصفه. - الدواء يا سيدي ..

رائحة المطبخ تتطاير من ثوبها الأسود، هذه المرأة التي صارت مع الزمن واحدة من أسرتنا. وتناول الكوب وملأ الفنجان حتى نصفه، وفض سداد القارورة ونقط منها أربع نقط في الفنجان، وقلص وجهه قبل أن يتقلص من طعم الدواء، ثم تجرعه. - بالشفا يا سيدي. - متشكر، أين عائشة؟ - في حجرتها، الله يصبر قلبها. - ناديها يا أم حنفي.

في حجرتها، أو على السطح، ثم ماذا؟ وكان الراديو ما زال يذيع أغانيه ساخرا من حزن البيت الصامت. ولم يكن السيد اضطر إلى ملازمة البيت إلا منذ شهرين، وكان قد مضى على وفاة نعيمة عام وأربعة أشهر، فاستأذن الرجل في سماع الراديو لحاجته الملحة إلى التسلية، فقالت له عائشة «طبعا يا بابا، ربنا يكفيك شر قعدة البيت.» وسمع حفيف ثوب فالتفت فرآها قادمة في ثوب أسود، متشحة بخمار أسود رغم حرارة الجو، تشوب بشرتها البيضاء زرقة غريبة، عنوان التعاسة يا ابنتي. قال برقة: هاتي الكرسي واجلسي معي قليلا ..

ولكنها لم تتزحزح عن موقفها قائلة: مرتاحة هكذا يا بابا.

علمته الأيام الأخيرة ألا يحاول أن يعدل بها عن رأي. - ماذا كنت تفعلين؟

فقالت دون أن ينم وجهها عن أي معنى: لا شيء أفعله يا بابا. - لماذا لا تخرجين مع نينتك لتزوري الأضرحة المباركة، أليس هذا أفضل من بقائك وحدك؟ - ولماذا أزور الأضرحة؟

وكأنما فوجئ بقولها، بيد أنه قال بهدوء: تتوسلين إلى الله أن يصبر قلبك. - الله هنا معنا في البيت .. - طبعا، أقصد أن تتركي هذه العزلة يا عائشة، زوري أختك، زوري الجيران، روحي عن نفسك .. - لا أستطيع أن أرى السكرية، ولا معارف لي، لم يعد لي معارف، لا أطيق زيارة أحد ..

قال الرجل وهو يولي عنها رأسه: أحب أن تتصبري، وأن تهتمي بصحتك .. - صحتي! ..

قالتها فيما يشبه العجب. فقال بتوكيد: نعم، ما فائدة الحزن يا عائشة؟ ..

فقالت وكانت رغم حالها تحافظ على الأدب الذي تعودت أن تلتزمه حياله: وما فائدة الحياة يا بابا؟ .. - لا تقولي هذا، إن أجرك عند الله عظيم! ..

فحنت رأسها لتخفي عينيها الدامعتين، وقالت: أود أن أذهب عنده لأنال هذا الأجر، ليس هنا يا بابا!

ثم انسحبت برقة، وقبل أن تغادر الحجرة توقفت قليلا كأنما تذكرت أمرا، فسألته: كيف صحتك اليوم؟

فابتسم قائلا: الحمد لله، المهم صحتك أنت يا عائشة ..

وغادرت الحجرة، من أين تأتيه الراحة في هذا البيت؟ وراح يردد بصره في الطريق حتى ثبت على أمينة وهي راجعة من جولتها اليومية. كانت ترتدي معطفا، وعلى وجهها بيشة، وتنقل خطاها في بطء. شد ما ركبها الكبر! كان يحسن الظن بصحتها متذكرا أمها المعمرة، ولكن ها هي تبدو أكبر من سنها - اثنين وستين عاما - بعشرة أعوام على الأقل، ومر وقت غير قصير قبل أن تدخل عليه وهي تتساءل: كيف حال سيدي؟ ..

فقال بصوت مرتفع نفخ فيه نبرات الحدة المطلوبة: كيف حالك أنت! ما شاء الله! من طلعة الصبح يا ولية؟!

فابتسمت قائلة: زرت سيدتك، وزرت سيدك، ودعوت لك وللجميع ..

عاودته بعودتها طمأنينة وسلام، وشعر بأنه يستطيع الآن أن يطلب ما يشاء دون حرج: أيصح أن تتركيني وحدي كل هذا الوقت؟! - أنت أذنت لي يا سيدي، لم أغب طويلا، ولكنها الضرورة يا سيدي، ما أحوجنا إلى الدعاء، توسلت إلى سيدي أن يرد إليك صحتك حتى تروح وتغدو كما تشاء، كما دعوت لعائشة وللجميع ..

وجاءت بكرسي وجلست، ثم سألته: هل تناولت الدواء يا سيدي؟ أنا نبهت على أم حنفي .. - ليتك نبهتها على شيء أحسن! - بالشفا يا سيدي، سمعت في المسجد درسا جميلا من الشيخ عبد الرحمن، تحدث يا سيدي عن الكفارة عن الذنب وكيف تمسح السيئات، كلام جميل جدا يا سيدي، ليتني أستطيع أن أحفظ كأيام زمان .. - وجهك شاحب من المشي، كلها كم يوم وتصبحين من زبائن الدكتور! - ربنا الحافظ، أنا لا أخرج إلا لزيارة آل البيت، فكيف يقع لي سوء؟!

ثم متداركة: آه يا سيدي، كدت أنسى، يتحدثون في كل مكان عن الحرب، يقولون إن هتلر هجم؟!

تساءل الرجل باهتمام: متأكدة؟ - سمعتها بدل المرة مائة مرة، هتلر هجم .. هتلر هجم ..

فقال الرجل ليفهمها أنها لم تسبقه بالأخبار: كان هذا متوقعا من لحظة لأخرى. - بعيد عنا إن شاء الله يا سيدي؟ - قالوا هتلر فقط؟ وموسوليني؟ ألم تسمعي هذا الاسم؟ - اسم هتلر فقط .. «بعيد عنا؟ من يدري؟» - ربنا يلطف بنا، إذا سمعتم نداء عن ملحق البلاغ أو المقطم فاشتروه.

فقالت المرأة: كأيام غليوم وزبلن، أتذكر يا سيدي؟ سبحان من له الدوام ..

28

كانت زيارة جامعة وذات معنى كما قالت خديجة فيما بعد، فعندما فتح باب الشقة ملأ فراغه ياسين في بذلة بيضاء من تيل المحلة ، تتقدمه الوردة الحمراء والمنشة العاجية، يكاد جسمه الضخم يدفع الهواء بين يديه، وتبعه ابنه رضوان في بذلته الحريرية آية في الأناقة والجمال، ثم زنوبة في ثوب سنجابي تعلوها الحشمة التي صارت جزءا لا يتجزأ منها، وأخيرا كريمة في فستان أزرق بديع كشف عن أعلى النحر والذراعين، وقد تبلورت أنوثتها المبكرة - لم تكن تزيد عن الثالثة عشرة - فبدت جاذبيتها صارخة. وضمتهم حجرة الاستقبال مع خديجة وإبراهيم وعبد المنعم وأحمد، وسرعان ما قال ياسين: أسمعتم عن شيء كهذا من قبل؟ ابني سكرتير الوزير الذي أنا في وزارته مجرد رئيس قلم في المحفوظات، تنهد له الأرض إذا سار، وأنا لا يكاد يشعر بي إنسان!

كان مدلول كلامه الاحتجاج، ولكن لم يخف على أحد ما انطوت عليه نفسه من تيه وفخار بابنه. وفي الحق قد حصل رضوان على الليسانس في مايو من هذا العام، وما لبث أن تعين في يونيو سكرتيرا للوزير، في الدرجة السادسة، على حين يتعين خريجو الجامعات في الدرجة الثامنة الكتابية. وقد حصل عبد المنعم على الليسانس في نفس التاريخ، ولكنه لم يكن يدري ما المصير. قالت خديجة باسمة، وكانت تشعر بشيء من الغيرة: رضوان صديق الحكام، ولكن العين لا تعلو على الحاجب. فسأل ياسين في سرور لم يفلح في مداراته: ألم تروا صورته مع الوزير في أهرام أمس؟ بتنا لا ندري كيف نكلمه! ..

فأشار إبراهيم شوكت إلى عبد المنعم وأحمد قائلا: هذان الولدان خائبان، ضيعا عمرهما في مناقشات حادة لا معنى لها، وكان خير من عرفا من رجالات البلد الشيخ علي المنوفي ناظر مدرسة الحسين الأولية، وسخام البرك عدلي كريم صاحب مجلة الضوء أو الهباب لا أدري ..

وكان أحمد ساخطا وإن بدا طبيعيا. أثاره زهو خاله ياسين كما أثاره تعليق والده، أما عبد المنعم فقد غطى ما كان ينتظره من وراء هذه الزيارة الجامعة على الغضب الذي كان خليقا أن يشتعل في صدره في ظروف أخرى. وكان يسترق النظر إلى وجه رضوان متسائلا عما وراءه، غير أن قلبه استبشر خيرا بالزيارة، فلعلها لم تكن تقع لولا أنها تحمل البشرى. وعاد ياسين يقول معلقا على كلام إبراهيم: لو سألتني عن رأيي لقلت لك نعم الولدان! ألم يقولوا في الأمثال: السلطان من ابتعد عن باب السلطان؟

كلا لم يفلح ياسين في مداراة سروره، كما لم يفلح في إقناع أحد بإيمانه بما قال، غير أن خديجة قالت مشيرة إلى رضوان: ربنا يطعمه خيرهم ويكفيه شرهم ..

وأخيرا التفت رضوان إلى عبد المنعم قائلا: أرجو أن أهنئك عما قريب ..

فتطلع إليه عبد المنعم متسائلا وقد تورد وجهه، فعاد رضوان يقول: وعدني الوزير بأن يعينك في إدارة التحقيقات ..

كانت أسرة خديجة تترقب على لهف هذا التقرير، فركزت أبصارهم في رضوان طالبة المزيد من التأكيد، فمضى الشاب يقول: أول الشهر القادم على أكثر تقدير.

وقال ياسين معقبا على قول ابنه: إنها وظيفة قضائية. لقد عين عندنا في إدارة المحفوظات شابان من حملة الليسانس في الدرجة الثامنة بثمانية جنيهات!

وكانت خديجة هي التي طلبت من ياسين أن يكلم ابنه بشأن عبد المنعم، فقالت في امتنان: الشكر لله ولك يا أخي (ثم وهي تلتفت إلى رضوان): وطبعا جميل رضوان فوق رءوسنا ..

وأمن إبراهيم على قولها قائلا: طبعا، إنه أخوه، ونعم الأخ.

وقالت زنوبة باسمة، لكي تخرج من هامش الجلسة: رضوان أخو عبد المنعم وعبد المنعم أخو رضوان، ما في ذلك كلام.

وتساءل عبد المنعم الذي كان يشعر بحياء لم يشعر به من قبل حيال رضوان: أعطاك كلمة جدية؟

فقال ياسين باهتمام: كلمة وزير! إني متتبع المسألة!

وقال رضوان: وأنا من ناحيتي سأذلل لك الصعاب في إدارة المستخدمين، ولي فيهم أصدقاء كثيرون، ولو أن موظفي المستخدمين لا صديق لهم!

فقال إبراهيم شوكت وهو يتنهد: الحمد لله. لقد أراحنا الله من الوظيفة والموظفين!

فقال ياسين: عشت ملكا يا أبا خليل ..

ولكن خديجة قالت متهكمة: ربنا لا يحكم على أحد بقعدة البيت! ..

وتدخلت زنوبة مجاملة كعادتها، فقالت: قعدة البيت لعنة، إلا من كان صاحب ملك فهو سلطان!

فقال أحمد وفي عينيه بسمة خبيثة: خالي ياسين صاحب ملك، ولكنه صاحب وظيفة أيضا!

فضحك ياسين ضحكة عالية، وقال: صاحب وظيفة وبس من فضلك، أما الملك! كان يا ما كان، كيف يحتفظ بملكه من كان له أسرة كأسرتي؟!

فهتفت زنوبة في ارتياع: أسرتك!

والتفت رضوان - قاطعا الحديث الذي لا يحبه - إلى أحمد قائلا: إن شاء الله تجدنا في خدمتك في العام المقبل عندما تأخذ الليسانس!

فقال أحمد: أشكرك جدا، لكنني لن أتوظف! - كيف؟ .. - الوظيفة خليقة بقتل أمثالي، مستقبلي في الميدان الحر!

وهمت خديجة بالاحتجاج، ولكنها آثرت تأجيل العراك إلى حينه، أما رضوان فقال باسما: إذا غيرت رأيك فستجدني في خدمتك!

فرفع أحمد يده إلى رأسه شاكرا. وجاء الخادم بأكواب الليمون المثلجة، وفي فترة الصمت التي جعلوا فيها يحتسون، حانت التفاتة من خديجة نحو كريمة فكأنما كانت تراها لأول مرة منذ إفاقتها من مسألة عبد المنعم، فقالت برقة: كيف حالك يا كريمة؟

فأجابتها الفتاة بصوت فيه رخامة: بخير يا عمتي، متشكرة ..

وكادت خديجة تأخذ في إطراء جمالها، ولكن شيئا - كالحذر - أوقفها. الواقع أنها لم تكن أول مرة تجيء بها زنوبة معها مذ حجزت في البيت بعد أخذها الابتدائية. وقالت خديجة لنفسها إن هذه الأمور تشم في الهواء شما! وإن كريمة إذا كانت ابنة زنوبة فهي في الوقت نفسه ابنة ياسين، ومن هنا تجيء دقة المسألة! ولم يكن عبد المنعم يوفي كريمة حقها من النظر لانشغاله بموضوعه، ولكن كان يعرفها حق المعرفة، على أنه لم يكن قد برئ كل البرء من أثر وفاة زوجه، أما أحمد فلم يكن في فؤاده متسع! وقال ياسين: كريمة ما زالت آسفة على عدم التحاقها بالمدرسة الثانوية.

فقالت زنوبة مقطبة: وأنا آسفة أكثر ..

فقال إبراهيم شوكت: إني أشفق على البنات من جهد الدراسة، ثم إن البنت في النهاية لبيتها، فلن يمضي عام أو آخر حتى تزف كريمة إلى صاحب القسمة السعيد ..

يا مقطوع اللسان، هكذا قالت خديجة لنفسها، يفتح المواضيع الخطيرة وهو في غفلة عن نتائجها، يا له من موقف ! كريمة ابنة ياسين وأخت رضوان صاحب الفضل، لعله لا يكون لهذا القلق من سبب إلا الوهم! ولكن لماذا تكثر زنوبة من زيارتنا جارة في يدها كريمة؟ ياسين لا يسمح له وقته بالتفكير والتدبير، أما ربيبة التخت ...!

وقالت زنوبة: هذا الكلام كان يقال في الزمن الماضي، أما اليوم فالبنات كلهن يذهبن إلى المدارس ..

فقالت خديجة: في حارتنا بنتان في المدارس العالية، ولكن شكلهما والعياذ بالله! ..

فسأل ياسين أحمد: أليس في بنات كليتك جمال؟

وخفق قلب أحمد، وتمثلت لعينيه الصورة المعششة في قلبه، ثم أجاب: حب العلم ليس قاصرا على الدميمات ..

فقالت كريمة باسمة، وهي تنظر صوب أبيها: المسألة تتوقف على الآباء.

فضحك ياسين قائلا: عفارم يا بنتي! هكذا تتحدث البنت الطيبة عن أبيها، وهكذا كانت تخاطب عمتك جدك!

فقالت خديجة متهكمة: المسألة تتوقف على الآباء حقا.

فبادرتها زنوبة قائلة: البنت معذورة، آه لو سمعت حديثه بين أولاده!

فقالت خديجة: أنا عارفة وفاهمة!

فقال ياسين: أنا رجل له آراؤه في التربية، أنا الأب الصديق، لا أحب أن يرتعد أبنائي خوفا في محضري، أنا حتى اليوم ينتابني الارتباك أمام أبي!

فقال إبراهيم شوكت: الله يقويه ويصبره على قعدة البيت! السيد أحمد جيل وحده، وليس مثله أحد في الرجال!

فقالت خديجة منتقدة: قل له!

فقال ياسين كالمعتذر: أبي جيل وحده، وا أسفاه أصبح هو وأصحابه قعيدي بيوتهم، ولم تكن الدنيا لتسعهم على رحابتها!

وكان رضوان يقول لأحمد في حديث جانبي مستقل: بدخول إيطاليا الحرب أصبح الموقف بالنسبة لمصر شديد الخطورة. - ربما تحولت هذه الغارات الاسمية إلى غارات فعلية .. - ولكن هل لدى الإنجليز قوة كافية لصد الزحف الإيطالي المتوقع؟ لا شك أن هتلر سيترك مهمة الاستيلاء على قناة السويس لموسوليني ..

فتساءل عبد المنعم: هل تقف أمريكا متفرجة.

فقال أحمد: مفتاح الموقف الحقيقي في يد روسيا! - لكنها حليفة هتلر؟ - الشيوعية عدوة النازية، ثم إن الشر الذي يتهدد العالم بانتصار الألمان أضعاف ما يتهدده بانتصار الديمقراطيات ..

فقالت خديجة: أظلموا لنا الدنيا يظلم عيشتهم، وما هذه الأشياء التي لم نعرفها من قبل؟ .. صفارات إنذار! .. مدافع مضادة .. كشافات. مصائب تشيب الإنسان قبل الأوان!

فقال إبراهيم في سخرية هادئة: على أي حال الشيب في بيتنا ليس قبل الأوان .. - هذا عندك أنت وحدك!

كان إبراهيم في الخامسة والستين، ولكنه يبدو بالقياس إلى السيد أحمد - الذي لم يكن يكبره إلا بثلاث سنوات - كأنما يصغره بعشرات السنين.

وعند انتهاء الزيارة، قال رضوان لعبد المنعم: زرني في الوزارة.

ولما أغلق الباب وراء الذاهبين، قال أحمد لعبد المنعم: خذ بالك أن تدخل عليه دون استئذان، ادرس كيف تزور سكرتير وزير!

فلم يجبه ولم ينظر ناحيته ..

29

لم يجد أحمد مشقة تذكر في الاهتداء إلى فيلا مستر فورستر - أستاذ علم الاجتماع - بالمعادي. وقد أدرك حال دخوله أنه جاء متأخرا بعض الوقت، وأن كثيرا من الطلبة الذين دعوا مثله إلى الحفل الذي أقامه الأستاذ لمناسبة سفره إلى إنجلترا قد سبقوه إليه. واستقبله الأستاذ وحرمه، وقد قدمه إليها باعتباره طالبا من خير طلبة القسم، ثم مضى الشاب إلى حيث جلس الطلبة في الفراندا، كان المجلس يتكون من طلبة قسم الاجتماع كافة، وكان أحمد ضمن القلة المنقولة للسنة النهائية، يشاركهم ذلك الشعور بالامتياز والتفوق. ولم تكن واحدة من الطالبات قد حضرت، ولكنه كان مطمئنا إلى مجيئهن، أو إلى مجيء «صديقته» التي كانت من سكان المعادي. وألقى نظرة على الحديقة فرأى مائدة طويلة ممتدة في أرض فضاء معشوشبة، تكتنفها من الجانبين أشجار الصفصاف والنخيل، وقد صفت فوقها أباريق الشاي وأوعية اللبن وأطباق الحلوى. ثم سمع طالبا يتساءل: نلتزم الآداب الإنجليزية أم ننقض على المائدة كالنسور؟

فأجابه آخر فيما يشبه الأسف: آه لو لم توجد لادي فورستر!

كان الوقت أصيلا، ولكن الجو كان لطيفا رغم شخصية يونيو الثقيلة، ثم ما لبث أن لاح السرب المنتظر عند مدخل الفيلا، جئن معا كأنهن على ميعاد، وكن أربعا هن جملة الطالبات بالقسم وبدت علوية صبري وهي تخطر في فستان ناصع البياض مهفهف، جعل من كائنها اللطيف لونا واحدا بديعا فيما عدا الشعر الأسود الفاحم. وعند ذاك شعر أحمد بقدم هازئة تحتك بقدمه كأنما تنبهه إن كان في حاجة إلى من ينبهه، وكان سره قد ذاع من زمن .. وتابعهن حتى استقر بهن المجلس في ركن أخلي لهن بالفراندا، ثم جاء مستر فورستر وزوجه، وقالت الزوجة موجهة الخطاب إلى الطلبة، وهي تشير إلى الفتيات: هل تحتاجون إلى تعارف؟

فارتفع الضحك، وقال الأستاذ وكان ذا حيوية فائقة رغم مشارفته الخمسين: الأجدر أن تعرفيهم بي أنا ..

وضجوا بالضحك مرة أخرى، حتى عاد مستر فورستر يقول: في مثل هذا الوقت من كل عام كنا نغادر مصر إلى إنجلترا لقضاء العطلة، هذه المرة لا ندري إن كنا سنرى مصر مرة أخرى أم لا! ...

فقاطعته زوجه قائلة: ولا حتى إن كنا سنرى إنجلترا!

وأدركوا أنها تلمح إلى خطر الغواصات، فقال لها أكثر من صوت: حظ سعيد يا سيدتي ..

وعاد الرجل يقول: سأحمل معي ذكريات جميلة من حياتنا المشتركة في كلية الآداب، وعن مقاطعة المعادي الهادئة الجميلة، وعنكم أنتم الذين سأعتز حتى بهذركم!

فقال أحمد مجاملا: أما ذكراك فستبقى في نفوسنا دواما، وتنمو بنمو عقولنا: شكرا .. (ثم مخاطبا زوجه وهو يبتسم): أحمد شاب جامعي كما ينبغي، وإن تكن له آراء مما تسبب المتاعب عادة في بلده!

فقال زميل موضحا: يعني أنه شيوعي!

فرفعت السيدة حاجبيها باسمة، أما مستر فورستر فقال بلهجة ذات معنى: لم أقل أنا ذلك، ولكنه زميله الذي قال!

ثم نهض الأستاذ وهو يقول: آن وقت الشاي، يجب ألا يسرقنا الوقت، وسوف نجد بعد ذلك متسعا للسمر واللهو ..

وكان عمال جروبي قد أعدوا المائدة ووقفوا متأهبين للخدمة .. وتوسطت لادي فورستر جانب المائدة الذي جلس إليه الفتيات، على حين توسط الأستاذ الجانب الآخر، وهو يقول معلقا على نظام الجلوس: كنا نود أن تكون الجلسة أكثر اختلاطا، ولكننا راعينا الآداب الشرقية، أليس كذلك؟

فأجابه طالب بلا تردد: للأسف هذا ما لاحظناه يا سيدي!

وصب الخادم الشاي واللبن وبدأت المأدبة. لاحظ أحمد اختلاسا أن علوية صبري كانت أبرع زميلاتها ممارسة لآداب المائدة وأقلهن ارتباكا ، بدت آلفة للحياة الاجتماعية، كأنها في بيتها، وشعر بأن ملاحظة تناولها للحلوى ألذ من الحلوى نفسها. هذه صديقته العزيزة التي تبادله الصداقة والمودة دون أن تشجعه على عبور حدودهما، وقال لنفسه: إن لم أنتهز فرصة اليوم المتاحة فسلام علي؟ وعلا صوت لادي فورستر وهي تقول: أرجو ألا تؤثر قيود الحرب في تناولكم للحلوى ..

فعلق طالب على قولها قائلا: من المصادفات السعيدة أن الرقابة لم تفرض على الشاي بعد!

ومال مستر فورستر على أذن أحمد - وكان يجلس إلى يساره - وسأله: كيف تمضي العطلة؟ أعني ماذا تقرأ؟ - كثيرا في الاقتصاد وقليلا في السياسة، وأكتب بعض المقالات في المجلات. - أنصحك بأن تقدم في الماجستير بعد الليسانس.

فقال أحمد بعد الانتهاء مما في فيه: ربما فيما بعد، سأبدأ بالعمل في الصحافة، هذه خطتي من قديم. - حسن!

الصديقة العزيزة تحادث لادي فورستر بطلاقة، ما أسرع ما أتقنت الإنجليزية، والورود والأزهار تنضح بالحمرة والألوان كما ينضح القلب بالحب، في عالم الحرية يزدهر الحب كالأزهار، الحب لا يكون عاطفة صحيحة طبيعية إلا في بلد شيوعي. وقال مستر فورستر: من المؤسف أنني لم أستكمل دراستي للغة العربية، كنت أود أن أقرأ مجنون ليلى دون مساعدة أحد منكم! - المؤسف أنك ستنقطع عن دراستها .. - إلا إذا سمحت الظروف فيما بعد .. «ربما وجدت نفسك مضطرا إلى تعلم الألمانية، ألا يكون مضحكا لو شهدت لندن مظاهرات تطالب بالجلاء وتهتف له؟ في أخلاق الإنجليز الشخصية فتنة، أما فتنة الصديقة العزيزة فمن نوع لا مثيل له، عما قليل تغيب الشمس فيجمعنا الليل في مكان واحد لأول مرة، وإذا لم أنتهز فرصة اليوم المتاحة فسلام علي!» وسأل أستاذه: وماذا أنت فاعل عقب وصولك إلى لندن؟ - دعيت للعمل في الإذاعة. - إذن لن ينقطع عنا صوتك. «مجاملة تغتفر في هذا المجلس الذي تزينه صديقتي، إننا لا نسمع هنا إلا الإذاعة الألمانية، شعبنا يحب الألمان ولو على سبيل الكراهية للإنجليز، والاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية، اجتماعنا بأستاذنا يخلق موقفا جديرا بالتأمل، نبرره بالروح العلمية ولكن ثمة ارتطام بين حبنا لأستاذنا وبغضنا لجنسه، والمأمول أن تقضي الحرب على النازية والاستعمار معا، هنالك أخلص للحب وحده.»

ثم عادوا إلى مجالسهم بالفراندا التي أضيئت مصابيحها، ولم تلبث لادي فورستر أن قالت: إليكم البيانو فليتفضل أحدكم بإسماعنا لحنا.

فرجاها طالب قائلا: تفضلي أنت بإسماعنا.

فنهضت في رشاقة الشباب الذي جاوزته بأعوام، ثم جلست إلى البيانو وفتحت النوطة وراحت تعزف لحنا. لم يكن أحد منهم ذا إلمام بالموسيقى الغربية أو تذوق لها، ولكنهم أنصتوا في اهتمام بدافع الأدب والمجاملة. وحاول أن يستمد من حبه قوة سحرية يفتح بها مغاليق اللحن، ولكنه نسي اللحن في استراق النظر إلى وجه فتاته، والتقت عيناهما مرة، فتبادلا ابتسامة لم تغب عن كثيرين، وفي نشوة الفرحة قال لنفسه: «أجل، إذا لم أنتهز فرصة اليوم المتاحة فسلام علي.» وعلى أثر فراغ لادي فورستر من عزفها، عزف طالب لحنا شرقيا، ثم خلصوا للسمر وقتا غير قصير، وحوالي الساعة الثامنة مساء ودعوا أستاذهم وأخذوا في الانصراف. ولبد أحمد عند منعرج طريق في ليل بالغ في جماله وحنانه، تحت مظلة من الأشجار الباسقة، حتى رآها قادمة وحيدة في طريقها إلى مسكنها، فبرز لها من المنعطف قاطعا عليها الطريق، فتوقفت في دهش وقالت: ألم تذهب معهم؟

فنفخ فيما يشبه التنهد؛ ليخفف صدره من جيشانه، وقال بهدوء: تخلفت عن القافلة لأقابلك! - ترى ماذا يظنون بتخلفك؟

فقال باستهانة: هذا شأنهم!

وسارت في بطء فسار إلى جانبها، ثم تمخض صبر الأيام الطويلة عنه وهو يقول: أريد أن أسألك قبل عودتي: هل تسمحين لي بالتقدم لخطبتك؟

فارتفع رأسها الجميل كرد فعل لوقع المفاجأة، ولكن لم يند عنها صوت كأنها لم تجد ما تقوله، وكان الطريق خاليا وأضواء المصابيح متوارية خلف الطلاء الأزرق، فعاد يسائلها: أتسمحين لي؟

فقالت بصوت خافت لم يخل من عتاب: هذه طريقتك في الكلام، ويا لها من طريقة، الواقع أنك أذهلتني!

فضحك ضحكة خفيفة، وقال: أعتذر عن ذلك، وإن كنت أظن أن تاريخ صداقتنا الطويل لا يجعل من قولي مفاجأة تذهل. - تعني صداقتنا وتعاوننا الثقافي ؟

فلم يرتح لقولها، ولكنه قال: أعني عاطفتي غير الخفية التي اتخذت شكل الصداقة والتعاون الثقافي كما قلت!

فتساءلت في صوت باسم غير خال من اضطراب: عاطفتك الخفية!

فقال بعناد وإخلاص: أعني حبي! الحب لا يخفى، إننا عادة لا نتكلم لنعلنه، وإنما لنسعد بسماع إعلاننا له ..

فقالت مماطلة حتى تسترد هدوءها: الأمر كله مفاجأة لي .. - يؤسفني أن أسمع هذا .. - لماذا تأسف؟ الواقع أني لا أدري ماذا أقول ..

ضاحكا: قولي «أسمح لك» ودعي الباقي لي .. - ولكن، ولكن .. أنا لا أعرف شيئا، معذرة، كنا أصدقاء حقا ولكنك لم تحدثني عن .. أعني لم تسمح الظروف بأن تحدثني عن شخصك؟ - ألم تعرفيني؟ - عرفتك طبعا، ولكن ثمة أمور أخرى ينبغي أن تعرف ..

أتعني هذه الأمور التقليدية؟ يا لها من أسئلة خليقة بقلب لم يأسره الحب! وشعر بامتعاض، بيد أنه ازداد عنادا فقال: سيجيء كل شيء في حينه ..

فتساءلت، وكانت قد ملكت زمام نفسها: أليس الآن حينه؟

فابتسم ابتسامة فاترة، وقال: لك حق، تعنين المستقبل؟ - طبعا!

وأحنقته «طبعا»؛ أمل أن يسمع أغنية فسمع محاضرة معادة! ولكن يجب ألا تخونه ثقته في نفسه مهما يكن الأمر. العزيزة الباردة لا تدري كم يسعده إسعادها! - سأجد بعد تخرجي عملا ..

ثم بعد لحظات من الصمت: وسيكون لي يوما دخل لا بأس به!

فتمتمت في حياء: كلام عام ..

فقال وهو يداري ألمه بالهدوء: سيكون المرتب في الحدود المعروفة، أما الدخل فحوالي عشرة جنيهات ..

وساد الصمت. لعلها تزن الأمور وتفكر. هذا هو التفسير المادي للحب! كان يحلم بالجنون العذب ولكن أين منه هذا؟ هذا البلد عجيب يندفع في السياسة وراء العاطفة، ويتبع في الحب دقة المحاسبين. وأخيرا جاء الصوت الرقيق قائلا: لندع الدخل جانبا، فلا يجمل أن ترتب حياتك على أساس تقدير اختفاء الأعزة من حياتك .. - أردت أن أقول لك إن والدي من ذوي الأملاك ..

فقالت بجهد برر فترة التردد التي سبقته: فلنكن واقعيين .. - قلت إني سأجد عملا، وستجدين من ناحيتك عملا أيضا ..

فضحكت ضحكة غريبة: كلا لن أشتغل، لم أذهب إلى الجامعة لأتوظف كسائر الزميلات .. - ليس العمل عيبا .. - طبعا، ولكن والدي .. الواقع أننا جميعا متفقون على هذا، لن أشتغل.

وكان قد بردت عواطفه واستغرقه البحث، فقال: ليكن، أشتغل أنا ..

فقالت بصوت كأنما تعمدت أن يكون رقيقا فوق العادة: أستاذ أحمد، فلنؤجل الحديث، أعطني مهلة للتفكير.

فضحك ضحك فاترة، وقال: قلبنا الأمر على كافة وجوهه، ولكنك في حاجة إلى مهلة لتدبري الرفض؟

فقالت بصوت حيي: ينبغي أن أحادث والدي. - هذا بدهي، ولكن كان من الممكن أن ننتهي إلى رأي قبل ذلك! - مهلة ولو قصيرة .. - نحن في يونيو، وستسافرين إلى المصيف، ولن نلتقي إلا في أكتوبر القادم في الكلية؟

فقالت بإصرار: لا بد من مهلة للتفكير والتشاور. - إنك لا تريدين أن تتكلمي.

وإذا بها تتوقف عن المسير فجأة، وتقول في دأب وعزم معا: أستاذ أحمد، إنك تأبى إلا أن تحملني على الكلام، أرجو أن تتقبل كلامي بصدر سمح. لقد فكرت في موضوع الزواج من قبل كثيرا، لا بالقياس إليك ولكن بصفة عامة، وانتهيت منه - ووافقني على ذلك والدي - بأن حياتي لن تستقيم، وأنني لن أحافظ على مستواي، إلا إذا تهيأ لي ما لا يقل عن خمسين جنيها شهريا ..

وتجرع خيبة مريرة لم يتوقع - على أسوأ الفروض - أن تبلغ مرارتها هذه الدرجة، وتساءل: وهل يملك موظف - أعني في سن الزواج - هذا المرتب الضخم؟ ولكنها لم تنبس، فعاد يقول: إنك تريدين زوجا ثريا! - آسفة جدا، ولكنك أجبرتني على مصارحتك برأيي ..

فقال بصوت غليظ: هذا أفضل على أي حال.

فعادت تغمغم: آسفة ..

وثار غضبه، ولكنه بذل جهدا صادقا كيلا يخرج عن حدود الأدب، ثم وجد رغبة لا تقاوم في أن يصارحها برأيه فتساءل: أتسمحين لي بأن أصارحك برأيي؟

فبادرته قائلة: كلا، إني أعرف الكثير عن آرائك، وأرجو أن نبقى صديقين كما كنا!

ورثى رغم غضبه لحالها، هذه هي الحقيقة العارية قبل أن يلطفها الحب. التي تهرب مع خادمها امرأة طبيعية وإن عدت - بعين التقاليد - شاذة في المجتمع المختل يبدو الصحيح مريضا والمريض صحيحا، إنه غاضب ولكن تعاسته أكبر من غضبه، إنها على أي حال تحدس رأيه وفي هذا عزاء، ومدت يدها للمصافحة فتلقاها بيده، ثم أبقاها فيها حتى وسعه أن يقول: قلت إنك لم تدخلي الجامعة لتتوظفي، قول جميل في ذاته ولكن إلى أي مدى انتفعت بالجامعة؟

وارتفع ذقنها كالمتسائلة، لكنه قال بلهجة لم تخل من سخرية: معذرة عن سخافتي، لعل المسألة أنك لم تحبي بعد، مع السلامة.

ودار على عقبيه، ثم ولى مسرعا.

30

قال إسماعيل لطيف: لعلي أخطأت بحمل زوجي إلى القاهرة كي تلد فيها، كل ليلة تنطلق صفارة الإنذار، أما طنطا فلم نكد نعرف شيئا عن أهوال هذه الحرب.

فقال كمال: إنها غارات رمزية لو أرادوا بنا شرا ما منعتهم قوة.

فضحك رياض قلدس، وقال مخاطبا إسماعيل لطيف، وكانت هذه ثاني مقابلة بينهما في مدى تعارف عام: أنت تخاطب رجلا لا يشعر بمسئولية الزوج!

فسأله إسماعيل متهكما: وهل تشعر بها أنت؟ - حقا أنا أعزب مثله، غير أني لست عدوا للزواج ..

كانوا يسيرون في شارع فؤاد الأول، في مطلع الليل، في ظلام لم تخففه إلا الأضواء الضئيلة التي تتسرب من أبواب المحال العامة، وكان الشارع رغم ذلك مكتظا بالنساء والرجال والجنود البريطانيين على اختلاف أنواعهم. وكان الخريف يبعث أنفاسا رطيبة، ولكن أكثر الناس مضوا في الملابس الصيفية. ونظر رياض قلدس إلى جماعة من الجنود الهنود وقال: من المحزن أن يبتعد الإنسان عن وطنه هذه المسافة المديدة ليقتل في سبيل غيره!

فقال إسماعيل لطيف: ترى كيف يتأتى لهؤلاء التعساء أن يضحكوا!

فقال كمال ممتعضا: كما نضحك نحن في هذه الدنيا الغريبة، الخمر والمخدرات واليأس.

فضحك رياض قلدس قائلا: إنك تعاني أزمة فريدة، كل ما عندك مزعزع الأركان، عبث وقبض الريح، نضال أليم مع أسرار الحياة والنفس، وملل وسقم، أني أرثي لك.

فقال إسماعيل لطيف ببساطة: تزوج، إني مررت بهذا الملل قبيل زواجي ..

فقال رياض قلدس: قل له!

فقال كمال، وكأنما يخاطب نفسه: الزواج هو التسليم الأخير في هذه المعركة الفاشلة .. «أخطأ إسماعيل في المقارنة، إنه حيوان مهذب ، ولكن مهلا لعله الغرور، فيم الغرور وأنت ترقد فوق تل من الخيبة والفشل، إسماعيل لا يدري شيئا عن دنيا الفكر، ولكن السعادة المستمدة من العمل والزوجة والأولاد، أليست سعادة جديرة بأن تسخر من احتقارك لها؟» قال رياض: إذا قررت يوما أن أؤلف رواية، فستكون أحد أبطالها!

فاتجه كمال نحوه في اهتمام صبياني، وسأله: ماذا ستصنع مني؟ - لا أدري، ولكن ينبغي أن توطن نفسك على ألا تزعل، فإن كثيرين ممن قرءوا أنفسهم في أقاصيصى قد زعلوا .. - لماذا؟ .. - لعله لأن لكل إنسان فكرة عن شخصه من خلقه هو، فإذا جرده الروائي منها أبى وغضب! ..

فتساءل كمال في قلق: ألديك فكرة عني غير ما تعلن؟

فبادره في توكيد قائلا: كلا، ولكن الروائي قد يبدأ من شخص ثم ينساه كلية وهو بصدد خلق نموذج بشري جديد، لا صلة بينه وبين الأصل إلا الإيحاء، وإنك توحي إلي بشخصية الرجل الشرقي الحائر بين الشرق والغرب، الذي دار حول نفسه كثيرا حتى أصابه الدوار. «يتكلم عن الشرق والغرب، ولكن من أين له أن يعرف عايدة؟ قد تكون التعاسة متعددة الجوانب.»

وقال إسماعيل لطيف في بساطة مرة أخرى: طول عمرك تخلق لنفسك المتاعب، الكتب في نظري أساس بلواك، لماذا لا تجرب الحياة الطبيعية؟

وبلغوا في مسيرهم منعطف عماد الدين فمالوا إليه، وقد اعترضهم جماعة كبيرة من الإنجليز فتفادوا منها، وقال إسماعيل لطيف: إلى جهنم، من أين لهم بهذا الأمل؟! ترى هل يصدقون أنفسهم؟

فقال كمال: يخيل إلي أن نتيجة الحرب قد تقررت، غايتها الربيع القادم ..

فقال رياض قلدس ممتعضا: النازية حركة رجعية غير إنسانية، وسوف يتضاعف شقاء العالم تحت أقدامها الحديدية ..

فقال إسماعيل: ليكن ما يكون، المهم أن نرى الإنجليز في نفس الموضع الذي فرضوه على العالم الضعيف!

وقال كمال: ليس الألمان بخير من الإنجليز ..

فقال رياض قلدس: ولكننا انتهينا مع الإنجليز إلى بر، والاستعمار البريطاني يوغل اليوم في الشيخوخة، ولعله قد تلطف ببعض المبادئ الإنسانية، ولكننا سنتعامل غدا مع استعمار فتي مغرور شره غنى حرب، فما العمل ؟

فضحك كمال ضحكة تحمل نغمة جديدة، وقال: نشرب كأسين ونحلم بعالم واحد تسيطر عليه حكومة واحدة عادلة! - سنحتاج حتما إلى أكثر من كأسين ..

ووجدوا أنفسهم أمام حانة جديدة لم يروها من قبل، لعلها من الحانات «الشيطاني» التي تخلقها ظروف الحرب بين يوم وليلة. وحانت من كمال نظرة إلى داخلها فرأى امرأة بيضاء ذات جسم شرقي تقوم على إدارة الحانة، ثم جمدت قدماه فلم يتحرك من موقفه، أو بالأحرى لم يستطع أن يتحرك حتى اضطر صاحباه أن يتوقفا عن المسير وينظروا إلى حيث ينظر. مريم! لم تكن إلا مريم دون غيرها، مريم الزوجة الثانية لياسين، مريم جارة العمر، في هذه الحانة بعد اختفاء طويل، مريم التي ظن بها أنها لحقت بأمها! .. - أتريد أن نجلس ها هنا؟ هلم فليس بالداخل إلا أربعة جنود ..

وتردد مليا، ولكن شجاعته لم تواته فقال ولما يفق من ذهوله: كلا ..

وألقى نظرة على المرأة التي ذكرته بأمها في أيامها الأخيرة، ثم انطلقوا في طريقهم. متى رآها آخر مرة؟ منذ ثلاثة أو أربعة عشر عاما على الأقل، إنها معلم من معالم الماضي الذي لا ينسى، ماضيه .. تاريخه .. ماهيته .. كل أولئك شيء واحد، وقد استقبلته في قصر الشوق في آخر زيارة لهذا البيت قبل طلاقها، وما زال يذكر كيف شكت إليه اعوجاج أخيه وارتداده إلى حياة العربدة والمجون، شكوى لم يكن يقدر عواقبها وقد انتهت بها إلى ذلك الدور الذي تلعبه في هذه الحانة «الشيطاني»، ومن قبل ذلك كانت كريمة السيد محمد رضوان، وكانت صديقته وملهمة أحلامه في الصبا الأول، في ذلك الزمان الذي شهد البيت القديم عامرا بالأفراح والسلام، كانت مريم وردة وكانت عائشة وردة ولكن الزمن عدو لدود للورود، وربما كان من المحتمل أن يعثر عليها في بيت من هذه البيوت كما عثر بالست جليلة، ولو وقع هذا لكان وجد نفسه في مأزق وأي مأزق. هكذا بدأت مريم بالإنجليز وانتهت بالإنجليز .. - أتعرف هذه المرأة؟ - نعم .. - كيف؟ - امرأة من هاتيك النسوة، ولعلها نسيتني .. - أوه، الحانات ملأى بهن، مومسات قديمات، وخادمات متمردات، ومن كل لون .. - نعم .. - ولم لم تدخل فلعلها ترحب بنا إكراما لك؟ - لم تعد في طور الشباب ولدينا أماكن أفضل.

تقدم به العمر وهو لا يدري، منتصف الحلقة الرابعة، وكأنما قد استهلك نصيبه من السعادة، وإذا قارن بين تعاسته الراهنة وتعاسته الماضية لم يدر أيهما أشد، ولكن ماذا يهم العمر وقد ضاق بالحياة؟! حقا إن الموت لذة الحياة. ولكن ما هذا الصوت؟ - غارة! - أين نذهب؟ - إلى مخبأ قهوة ركس.

لم يجدوا في المخبأ مكانا خاليا للجلوس فوقفوا، وكان ثمة أفندية وخواجات وسيدات وأطفال، وكان الكلام يدور بشتى اللغات واللهجات. وأصوات رجال المقاومة المدنية في الخارج تهتف «أطفئ النور.» وبدا وجه رياض شاحبا، وكان يمقت دوي المدافع، فقال له كمال مداعبا: قد لا تتمكن من العبث بشخصي في روايتك ..

فضحك ضحكة عصبية وقال وهو يومئ إلى الناس: البشرية ممثلة بنسبة عادلة في هذا المخبأ ..

فقال كمال متهكما: لو اجتمعوا على خير كما يجتمعون على الخوف!

وهتف إسماعيل متنرفزا: زمان زوجي نازلة على السلم تتلمس طريقها في الظلام، إني أفكر جديا في العودة إلى طنطا غدا .. - إن عشنا! - مساكين حقا أهل لندن! - لكنهم أصل البلاء كله ..

وكان وجه رياض قلدس يزداد شحوبا، ولكنه دارى اضطرابه بالكلام فسأل كمال: سمعتك تتساءل مرة أين محطة الموت لأغادر مركبة الحياة المملة، فهل يهون عليك أن تنسفنا قنبلة الآن؟

فابتسم كمال، وكان يرهف السمع في قلق متزايد متوقعا بين لحظة وأخرى أن ينطلق مدفع فيصك الآذان، وأجاب: كلا .. (ثم كالمتسائل): لعله الخوف من الألم؟ - أم ثمة أمل غامض في الحياة ما زال يضطرب في أعماقك؟

لماذا لم ينتحر؟ ولم يبدو ظاهر حياته كأنما يمتلئ حماسا وإيمانا؟ طالما نازعته النفس إلى النقيضين: وكر الشهوات والتصوف، ولكنه لم يكن ليطيق حياة خالصة للدعة والشهوات، ومن ناحية أخرى كان ثمة شيء في أعماقه ينفر من فكرة السلبية والهروب، ولعله - هذا الشيء - الذي حال بينه وبين الانتحار، وفي ذات الوقت فإن استمساكه بحبل الحياة المضطرب في يديه مناقض لصميم شكه القاتل، والخلاصة في كلمتين: حيرة وعذاب!

وفجأة انطلقت المدافع كالمطر، لا تتيح للصدر متنفسا، وزاغت الأبصار، وضلت الألسن، ولكن الضرب لم يستمر أكثر من دقيقتين بالحساب الزمني وتوقع الناس عودة بغيضة إلى الدوي المرعب، واستبد الفزع بالنفوس، غير أن الصمت ساد وعمق، وتساءل إسماعيل لطيف: إني أتخيل حال زوجي الآن، ترى متى تنتهي الغارة؟

فتساءل رياض قلدس: متى تنتهي الحرب؟

وما لبث أن انطلقت صفارة الأمان فند عن المخبأ تنهد عميق.

وقال كمال: ليست إلا مداعبة إيطالية!

وغادروا المخبأ في الظلام كالخفافيش، ولفظت الأبواب أشباحا وراء أشباح، ثم تساقط الضوء الباهت متتابعا من النوافذ، وملأت الضجة الأركان .. - يبدو أن الحياة - في هذه اللحظة السريعة المعتمة - ذكرت كل غافل بمدى قيمتها الذي لا يقاس به شيء في الوجود ..

31

اتخذ البيت القديم مع الزمن صورة جديدة تنذر بالانحلال والتدهور. انفرط نظامه وتقوض مجلسه، وكان النظام والمجلس روحه الأصيل. ففي نصف النهار الأول يغيب كمال في المدرسة، وتمضي أمينة إلى جولتها الروحية ما بين الحسين والسيدة، وتنزل أم حنفي إلى حجرة الفرن، ويتمدد السيد على الكنبة في حجرته أو يجلس على كرسي في المشربية، وتهيم عائشة على وجهها ما بين السطح وحجرتها، ويظل الراديو في الصالة يهتف وحده، وعند الأصيل تجتمع أمينة وأم حنفي في الصالة، وتلبث عائشة في حجرتها، أو تمكث معهما بعض الوقت ثم تذهب، أما السيد فلا يغادر حجرته، وكمال إن عاد من الخارج مبكرا فلكي يقبع في الدور الأعلى في مكتبه. وكان اعتكاف السيد أول الأمر محزنا، ثم صار عادة عنده وعند الآخرين، وكان حزن عائشة مفجعا ثم صار عادة عندها وعند الآخرين، وما زالت أمينة أول من يستيقظ، فتوقظ بدورها أم حنفي، ثم تتوضأ وتصلي: وتنهض أم حنفي - وكانت نسبيا خير الجميع صحة - فتقصد حجرة الفرن، وتفتح عائشة عينين ثقيلتين فتقوم لتحسو أقداح القهوة تباعا وتحرق السجائر الواحدة تلو الأخرى حتى إذا دعيت للفطور تناولت لقمات. وقد اضمحلت أيما اضمحلال، وانقلبت هيكلا عظميا كسي جلدا باهتا، وأخذ شعرها في السقوط حتى اضطرت إلى اللجوء إلى الطبيب قبل أن يدركها الصلع، وتكالبت عليها العلل حتى أشار عليها الطبيب بالتخلص من أسنانها، فلم يبق من شخصها القديم إلا الاسم. ولم تكن أقلعت عن عادة النظر في المرآة، لا لتأخذ زينة. ولكن بحكم العادة من ناحية، وللإمعان في الحزن من ناحية أخرى. وربما بدت أحيانا وكأنها أذعنت للمقادير في استسلام لطيف، فتطيل من جلستها مع أمها، وتشارك في الحديث الدائر، وربما افترت شفتاها الذابلتان عن ابتسامة، أو تزور والدها لتسأل عن صحته، أو تتمشى في حديقة السطح وترمي بالحب إلى الدجاج، هناك تقول أمها برجاء: كم أسعدت قلبي يا عائشة، ليتني أراك دائما على هذه الحال. على حين تجفف أم حنفي عينيها قائلة: فلنذهب إلى حجرة الفرن لنصنع شيئا جميلا!

ولكن عند منتصف الليل استيقظت أمها على صوت بكاء آت من حجرتها، فهرعت إليها محاذرة أن توقظ الرجل النائم، فوجدتها جالسة في الظلام تنتحب، ولما شعرت بدنو أمها تعلقت بها هاتفة: لو تركت لي ما كان في بطنها! ظلا منها! يداي فارغتان، والدنيا لا شيء فيها ..

فاحتضنتها أمها وهي تقول: إني أعلم الناس بحزنك، حزن يجل عن العزاء، ليتني كنت فداهم، ولكن لله جل وعلا حكمته، وما جدوى الحزن يا مسكينة؟! - كلما نمت حلمت بهم، أو حلمت بالحياة الأولى .. - وحدي الله، ذقت ما تعانين طويلا، أنسيت فهمي؟ ولكن المؤمن المصاب مطالب بالصبر، أين إيمانك؟

فهتفت في امتعاض: إيماني! - نعم، اذكري إيمانك، وتوسلي إلى ربك تنزل عليك الرحمة من حيث لا تدرين. - الرحمة! أين الرحمة، أين؟ - رحمته وسعت كل شيء، طاوعيني وتعالي معي إلى الحسين، ضعي يدك على الضريح واتلي الفاتحة تتحول نارك إلى برد وسلام كنار سيدنا إبراهيم ..

ولم يكن موقفها حيال صحتها دون ذلك اضطرابا، فحينا تتردد على الأطباء في مثابرة وانتظام حتى يظن بها العودة إلى الاستمساك بأهداب الحياة، وحينا تهمل نفسها وتزدري كافة النصائح لدرجة الانتحار. أما زيارة القرافة فهي التقليد الوحيد الذي لم تشذ عنه مرة واحدة، وكانت تنفق فيها بسخاء وتهبها عن طيب خاطر كل ما ملكت يمينها من ميراث زوجها وابنتها حتى استحال حول المقبرة حديقة غناء موشاة بالأزهار والرياحين. ويوم جاءها إبراهيم شوكت لإتمام إجراءات الميراث ضحكت ضحكة مجنونة وقالت لأمها: هنئيني على ميراثي من نعيمة ..

وكان كمال يمر بها كلما آنس منها استقرارا، فيجالسها مليا ملاطفا متوددا. كان يتأملها طويلا صامتا، ويتخيل محزونا الصورة الذاهبة التي أبدع الله صنعها، ثم يتفحص ما آلت إليه. لم تكن هزيلة فحسب، ولا مريضة فحسب، ولكن محزونة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، ولم يغب عنه ما بينهما من أوجه الشبه في الحظ؛ فهي قد فقدت ذريتها وهو قد فقد آماله، وانتهت إلى لا شيء كما انتهى إلى لا شيء، بل كان أبناؤها لحما ودما أما آماله فكانت كذبا وأوهاما! وقال لهم يوما: أليس من الأفضل أن تذهبوا إلى المخبأ إذا أطلقت صفارة الإنذار؟

فقالت عائشة: لن أغادر حجرتي ..

وقالت الأم: إنها غارات آمنة ومدافع كالصواريخ ..

أما أبوه فجاء صوته من الداخل وهو يقول: لو أن بي قدرة على الذهاب إلى المخبأ لذهبت إلى الجامع أو إلى بيت محمد عفت ..

ويوما جاءت عائشة من السطح مهرولة وهي تلهث وقالت لأمها: حدث شيء عجيب!

فنظرت إليها أمها في استطلاع مشوب بالرجاء، فعادت تقول وهي ما تزال تلهث: كنت في السطح أراقب غروب الشمس، وكنت على حال من اليأس لم أشعر بمثلها من قبل، وفجأة فتحت في السماء نافذة من نور بهيج فصحت بأعلى صوتي: «يا رب.»

اتسعت عينا الأم في تساؤل، أهي الرحمة المنشودة أم هاوية جديدة من الأحزان؟ وتمتمت: لعلها رحمة ربنا يا ابنتي ..

فقالت ووجهها يتهلل بشرا: نعم، صحت يا رب، وكان النور يملأ الدنيا ..

وراحوا جميعا يفكرون في الأمر ويراقبون الحال في قلق بالغ. أما عائشة فكانت تقف الساعات بموقفها من السطح مترقبة النور أن يومض مرة أخرى، حتى قال كمال لنفسه «ترى أهي النهاية التي يهون إلى جانبها الموت؟» ولكن من حسن الحظ - حظ الجميع - أنها تناست الأمر مع الأيام ولم تعد تذكره، ثم لم تزل توغل في دنيا خاصة خلقتها لنفسها، وعاشت فيها وحدها، وحدها سواء أكانت منفردة في حجرتها أو جالسة بينهم، إلا ساعات متباعدة تثوب فيها إليهم كالعائدة من سفر. ثم لا تلبث أن تواصل الرحيل - والتصقت بها عادة جديدة هي محادثة نفسها، خاصة حين انفرادها، وشد ما أثارت بذلك القلق، غير أنها كانت تخاطب أمواتا وهي مدركة لحال موتهم، ولم تتخيل أوهاما أو أشباحا، وفي ذلك كان عزاء المحيطين بها ..

32

ما أقسى البرد هذا الشتاء! يذكر بشتاء قديم ظل الناس يؤرخون به جيلا، شتاء أي عام يا ترى؟ رباه أين الذاكرة التي تعي ذلك، أين؟ غير أن القلب العجوز يحن إليه في مجهوله؛ فهو جزء من الماضي الذي تهيج ذكراه الدموع في مكامنها، الماضي الذي كان يستيقظ فيه مبكرا فيستحم تحت الدش غير مبال برد الشتاء، ثم يملأ بطنه وينطلق إلى دنيا الناس، دنيا الحركة والحرية التي لا يعرف اليوم عنها شيئا اللهم إلا ما يجود به الرواة وكأنهم يحدثون عن عالم في أقصى الأرض. كانت له الحرية والقدرة على أن يجلس على الكنبة في الحجرة أو على الكرسي في المشربية، وكان مع ذلك يضيق بسجن البيت، وكان يذهب حين الحاجة إلى الحمام أو يغير ملابسه بنفسه ومع ذلك لعن قعدة البيت، وكان له يوم في الأسبوع يستطيع أن يغادر البيت متوكئا على عصاه أو راكبا عربة فيزور الحسين أو بيت أحد الأصدقاء ومع ذلك فطالما دعا الله أن ينقذه من محبس البيت. أما اليوم فلم يسعه أن يغادر الفراش، ولم تعد حدود عالمه تجاوز أطراف هذه الحشية، حتى الحمام يجيء إليه ولا يذهب هو إليه، قذارة لم تكن في الحسبان، حتى استقر الامتعاض على شفتيه، وأسكنت المرارة في لعابه، على هذه الحشية يرقد نهارا وينام ليلا ويتناول طعامه ويقضي حاجته، وهو من كان يضرب بأناقته المثل ويسير الشذا الطيب بين يديه، وفي هذا البيت الذي استكان عمره لإرادته المطلقة غدا ينظر فلا يلقى إلا نظرات الرثاء أو يرجو فيعاتب كالأطفال، وذهب الأحباب في فترات متقاربة من الزمن كأنهم كانوا على ميعاد، ذهبوا وتركوه وحيدا، عليك رحمة الله يا محمد عفت، كان آخر العهد به سهرة من ليالي رمضان في السلاملك المطل على الحديقة، ثم ودعه ومضى وضحكته العالية توصله إلى الباب، وما كاد يأوي إلى حجرته حتى طرق الباب طارق وهرع إليه رضوان وهو يقول: «مات جدي يا جدي»، يا سبحان الله .. متى؟ .. وكيف؟ .. ألم يضاحكنا منذ دقائق؟ ولكنه سقط على وجهه وهو في طريقه إلى مخدعه، هكذا انطوى حبيب العمر. وعلي عبد الرحيم الذي احتضر ثلاثة أيام كاملة، في سعال حاد متقطع حتى فزعنا إلى الله أن يحسن خاتمته ويريحه من الألم، واختفى من دنياي أليف الروح علي عبد الرحيم. وقد ودع هذين الحبيبين أما إبراهيم الفار فلم يودعه، كان اشتداد المرض قد أقعده في فراشه ومنعه عن عيادته فنعاه إليه خادمه، وحتى الجنازة لم يشيعها فشيعها عنه ياسين وكمال، فإلى رحمة الله يا ألطف الناس طرا. ومن قبل هؤلاء مات حميدو والحمزاوي وعشرات من المعارف والأصحاب، تركوه وحيدا كأنه لم يعرف من الناس أحدا، لا زائر له ولا عائد، وجنازته لن يشيعها صديق. حتى الصلاة حيل بينه وبينها، وهل يتمتع بالطهر إلا ساعات عقب استحمام لا يجود به أولياء الأمر إلا مرة كل أشهر؟ فحرم من الصلاة وهو أشد ما يكون حاجة إلى مناجاة الرحمن في هذه الوحدة الموحشة. هكذا تمضي الأيام. الراديو يتكلم وهو يسمع، وأمينة تذهب وتجيء، وشد ما ركبها الوهن، غير أنها لم تعتد الشكوى، إنها ممرضته وأخوف ما يخاف أن تحتاج غدا إلى من يمرضها، وهي كل ما بقي له، أما ياسين وكمال فيمكثان عنده ساعة ثم يذهبان، ود لو لم يفارقاه، ولكنها أمنية لا يستطيع أن يعلنها ولن يستطيعا أن يحققاها، أمينة وحدها التي لا تمله، وإذا ذهبت لزيارة الحسين فلكي تدعو له، والعالم بعد ذلك فراغ. وإن يوم زيارة خديجة له اليوم يستحق الانتظار، تجيء وفي صحبتها إبراهيم شوكت وعبد المنعم وأحمد، فتمتلئ الحجرة بالأحياء وتتبدد وحشتها، وقليلا ما يتكلم هو أما هم فيتكلمون كثيرا، ومرة خاطبهم إبراهيم قائلا: «أريحوا السيد من ثرثرتكم.» فقال له معاتبا: «دعهم يتكلموا .. أريد أن أسمعهم!» ودعا لابنته بالصحة وطول العمر ودعا لزوجها وابنيها، وكان يعلم بأنها تود لو تسهر على راحته بنفسها، وكان يطالع في عينيها حنانا ما وراءه حنان. ويوما سأل ياسين في شوق واستطلاع باسما: أين تمضي سهراتك؟

فقال في حياء: اليوم الإنجليز في كل مكان كأيام زمان.

أيام زمان! أيام القوة والبأس، والضحك الذي تهتز له الجدران، وسهرات الغورية والجمالية، والناس الذين لم يبق منهم إلا أسماء، زبيدة وجليلة وهنية، ترى ألا تذكر أمك يا ياسين؟

وها هي زنوبة وكريمة يجلسان إلى جانب والدها، ودواما ستطلب الرحمة والغفران. - من بقي من معارفنا القدامى في وزارتك يا ياسين؟ - أحيلوا جميعا إلى المعاش، ولم أعد أدري عنهم شيئا!

ولا هم يدرون عنا شيئا، أصدقاء القلب ماتوا فما لنا نسأل عن المعارف، ولكن ما أجمل كريمة! فاقت أمها في زمانها، ومع ذلك لم تعد الرابعة عشرة، ونعيمة ألم تكن آية في الجمال! - ياسين إن استطعت أن تقنع عائشة بزيارتكم فافعل. انتشلوها من وحدتها فإني أخاف عليها منها ..

فقالت زنوبة: طالما دعوتها لزيارة قصر الشوق ولكنها .. كان الله في عونها! ..

ولاحت في عيني الرجل نظرة قاتمة. ثم إذا به يسأل ياسين: ألا تصادف في طريقك الشيخ متولي عبد الصمد؟

فقال ياسين باسما: أحيانا، إنه لا يكاد يعرف أحدا، ولكنه ما زال يسير على قدمين قويتين!

يا للرجل! ألم تنازعه نفسه مرة إلى زيارتي؟ أم نسيني كما نسي أبنائي من قبل؟!

ولما ذهب الأصدقاء اتخذ الرجل من كمال صديقا، ولعله فاجأه بصداقته. لم يعد الأب الذي عهده، وغدا صديقا يناجيه ويتشوف إلى مناجاته، وكان يقول عنه آسفا: «أعزب في الرابعة والثلاثين من عمره، يعيش أكثر حياته في حجرة مكتبه، كان الله في عونه »، ولم يكن يعد نفسه مسئولا عما صار إليه أمره؛ فقد أبى من أول الأمر إلا أن يصنع نفسه بنفسه، وانتهى به الحال إلى أن يكون مدرسا أعزب «قعيدا مقطوعا»، في حجرته. وكان يتجنب أن يثقل عليه بسيرة الزواج أو الدروس الخصوصية، كما كان يدعو الله أن يكفيه مدخره من النقود حتى الرمق الأخير كي لا يكون يوما عالة عليه. ويوما سأله: هل تعجبك هذه الأيام؟

فابتسم كمال ابتسامة حائرة، وتردد في الجواب، فاستطرد الرجل قائلا: الأيام الحقيقية كانت أيامنا! كانت يسرا ورغدا، وصحة وعافية، شهدنا سعد زغلول، وسمعنا سي عبده، ماذا في أيامكم؟!

فأجاب كمال مأخوذا بتداعي معاني الحديث فحسب: لكل زمان محاسنه ومعايبه ..

فهز الرجل رأسه المسند إلى مخدة مكسورة وراء ظهره وقال: كلام يقال ليس إلا ..

ثم بعد فترة صمت ودون تمهيد: عجزي عن الصلاة يحز في نفسي حزا، فالعبادة عزاء الوحدة. ومع ذلك، تمر بي أوقات غريبة أنسى فيها كافة وجوه الحرمان التي أعانيها من مأكل ومشرب وحرية وعافية، تصفو نفسي صفاء عجيبا حتى يخيل إلي أني متصل بالسماوات، وأن ثمة سعادة مجهولة تزري بالحياة وما فيها ..

فتمتم كمال: ربنا يمد في عمرك ويرد إليك العافية ..

فهز رأسه مرة أخرى في استسلام، وقال: هذه ساعة طيبة، لا ألم في الصدر، ولا ضيق في التنفس، وورم ساقي آخذ في الزوال، وموعدنا في الراديو مع ما يطلبه المستمعون!

وإذا بصوت أمينة يقول: سيدي بخير؟ - الحمد لله. - هل آتي بالعشاء؟ - العشاء؟! أما زلت تسمينه العشاء؟! هاتي سلطانية اللبن! ..

33

بلغ كمال بيت أخته بالسكرية حوالي العصر فوجد الأسرة مجتمعة في الصالة بكامل هيئتها، فصافحهم وهو يقول مخاطبا أحمد: مبارك الليسانس ..

فأجابته خديجة بلهجة خالية من معاني الابتهاج: مبارك عليك، ولكن تعال اسمع آخر خبر، البك لا يريد أن يتوظف ..

وقال إبراهيم شوكت: ابن خاله رضوان مستعد لتوظيفه إذا وافق ولكنه يصر على الرفض. كلمه يا أستاذ كمال لعله يقتنع برأيك أنت ..

خلع كمال طربوشه، ونزع - من شدة الحر - الجاكتة البيضاء فألبسها مسند كرسي ، ومع أنه كان يتوقع معركة إلا أنه قال باسما: حسبت أن اليوم سيكون خالصا للتهنئة، ولكن هذا البيت لا يسلو النزاع أبدا!

فقالت خديجة في لهجة أسيفة: قسمتي، الناس كلهم حال ونحن وحدنا حال.

وخاطب أحمد خاله قائلا: الأمر بسيط، ليس أمامي الآن إلا وظيفة كتابية؛ فقد أخبرني رضوان أنه يمكن تعييني الآن في وظيفة كتابية خالية بإدارة المحفوظات عند خالي ياسين، واقترح علي أن أنتظر ثلاثة أشهر حتى بدء العام الدراسي الجديد لعلي أعين مدرس لغة فرنسية في إحدى المدارس، ولكنني لا أريد الوظيفة أيا كان نوعها!

فهتفت خديجة: قل له ماذا تريد؟

فأجاب الشاب ببساطة وحزم: سأعمل في الصحافة.

فنفخ إبراهيم شوكت قائلا: جورنالجي! كنا نسمع هذا الكلام فنظنه ضحكا وعبثا، يأبى أن يكون مدرسا مثلك ويسعى إلى أن يكون جورنالجيا ..

فقال كمال في لهجة ساخرة: كفاه الله شر مهنة التدريس!

فقالت خديجة في انزعاج: وهل يسرك أن يشتغل جورنالجيا؟

وهنا قال عبد المنعم ملطفا الجو: لم تعد الوظيفة بالمطلب السعيد.

فقالت أمه بحدة: لكنك موظف يا سي عبد المنعم ..! - في كادر ممتاز، ولكني لا أرضى له وظيفة كتابية، وها هو خالي كمال يستعيذ من مهنته ..

والتفت كمال إلى أحمد متسائلا: في أي نوع من الصحافة تريد أن تعمل؟ - الأستاذ عدلي كريم موافق على قبولي في مجلته تحت التمرين؛ لأقوم بالترجمة أولا ثم بالتحرير فيما بعد .. - ولكن «الإنسان الجديد» مجلة ثقافية محدودة الموارد والمجال؟ - هي خطوة أولى للتمرين حتى يتيسر لي عمل أهم، وعلى أي حال ففي وسعي أن أنتظر دون أن أجوع ..

فنظر كمال إلى خديجة قائلا: دعي الأمور تجري كما يشاء، إنه راشد مثقف وأدرى بما يفعل ..

ولكن خديجة لم تسلم بالهزيمة بسهولة، وعادت تحاول إقناع ابنها بقبول الوظيفة حتى علا صوتهما واحتد فتدخل كمال ليخلص بينهما. ثم تكدر جو المجلس وساد صمت ثقيل حتى قال كمال ضاحكا: جئت طامعا في شرب الشربات فكانت هذه العكننة نصيبي.

وفي أثناء ذلك ارتدى أحمد ملابسه ليغادر البيت، فاستأذن كمال وخرجا معا، وسارا في شارع الأزهر، وقد صارح أحمد خاله بأنه ماض إلى مجلة الإنسان الجديد؛ ليتسلم عمله كما وعده الأستاذ عدلي كريم، فقال له كمال: افعل ما تشاء ولكن تجنب إيذاء والديك ..

فقال أحمد ضاحكا: إني أحبهما وأجلهما ولكن ... - ولكن؟ - من الخطأ أن يكون للإنسان والدان!

كمال ضاحكا: كيف هان عليك أن تقول ذلك؟ - لا أعني حرفيته، ولكن ما يرمز إليه الوالدان من تقاليد الماضي؛ فالأبوة على وجه العموم فرملة، وما حاجتنا في مصر إلى الفرامل، ونحن نسير بأرجل مكبلة بالأغلال؟!

ثم مواصلا الحديث بعد تفكير: إن مثلي لن يعرف الكفاح بمعناه المر ما دام لي بيت ولأبي دخل، ولا أنكر أني مطمئن بذلك ولكن في الوقت نفسه خجل منه! - متى ينتظر أن تؤجر على عملك؟ - لم يحدد الأستاذ وقتا ..

وعند العتبة الخضراء افترقا، فمضى أحمد إلى مجلة الإنسان الجديد، وقد استقبله الأستاذ عدلي كريم مشجعا، وذهب معه إلى حجرة السكرتارية حيث خاطب من فيها قائلا: زميلكم الجديد الأستاذ أحمد إبراهيم شوكت ..

ثم قدم إليه زملاءه قائلا: آنسة سوسن حماد، الأستاذ إبراهيم رزق، الأستاذ يوسف الجميل.

وصافحوه مرحبين، ثم قال إبراهيم رزق مجاملا: اسمه معروف في مجلتنا ..

وقال الأستاذ عدلي كريم باسما: إنه الابن البكر للإنسان الجديد .. (ثم وهو يشير إلى مكتب يوسف الجميل): ستعمل على هذا المكتب؛ فإن عمل صاحبه في الخارج إلا فيما ندر ..

وغادر عدلي كريم الحجرة فدعا يوسف الجميل أحمد إلى الجلوس على كرسي قريب من مكتبه، وانتظر حتى جلس ثم قال: ستوجهك الآنسة سوسن إلى العمل الذي سيناط بك، ولا بأس الآن أن تشرب فنجان قهوة .. وضغط على زر الجرس على حين راح أحمد يتصفح الوجوه والمكان. كان إبراهيم رزق كهلا مهدما يبدو أكبر من سنه بعشرة أعوام، أما يوسف الجميل فكان في العقد الأخير من الشباب، وكان مظهره ينم عن الحذق والذكاء. ورمى ببصره إلى سوسن حماد وهو يسائل نفسه ترى هل تذكره؟ ولم يكن رآها منذ أول مقابلة عام 1936. والتقت عيناهما فسألها باسما مدفوعا برغبة في الخروج عن صمته: قابلت حضرتك هنا منذ خمس سنوات ..

فلاح التذكر في عينيها اللامعتين فاستدرك قائلا: كنت أسأل عن مصير مقالة تأخر نشرها؟

فقالت باسمة: أكاد أذكرك، وعلى كل فقد نشرنا منذ ذلك التاريخ مقالات كثيرة.

فقال يوسف الجميل معلقا: مقالات تنم عن روح تقدمية طيبة ..

وقال إبراهيم رزق: إن الوعي اليوم غيره بالأمس، كلما نظرت في الطريق قرأت على الجدران عبارة «الخبز والحرية» هذا شعار الشعب الجديد.

فقالت سوسن حماد باهتمام: ما أجمله من شعار، خاصة في هذا الوقت الذي أطبق فيه الظلام على العالم!

وأدرك أحمد ما يعنيه قولها فاستجابت نفسه سريعا - وفي حماس وسرور - للجو المحيط به وقال: الظلام يطبق على العالم حقا، ولكن ما دام هتلر لم يهجم على بريطانيا فثمة أمل في النجاة.

فقالت سوسن حماد: إني أنظر إلى الموقف من زاوية أخرى، ألا ترى أن هتلر لو هاجم بريطانيا فمن المحتمل أن يهلكا معا أو في الأقل أن ينتقل مركز القوة إلى روسيا؟ .. - وإذا حدث العكس؟ أعني أن يجتاح هتلر الجزيرة ويبلغ ذروة القوة؟! ..

فقال يوسف الجميل: كان نابليون كهتلر غازي أوروبا ولكن روسيا كانت مقبرته.

ووجد أحمد نشاطا وحماسا لم يشعر بمثلهما من قبل. هذا الهواء النقي، وهؤلاء الزملاء الأحرار، وهذه الزميلة المستنيرة الحسناء. ولداع أو لآخر ذكر علوية صبري، وعام العذاب الذي صارع فيه الحب الخائب حتى صرعه. حين كان يصبح ويمسي وهو يلعن الحب من صميم قلبه حتى تطاير في الهواء تاركا في أعماق النفس آثارا من الامتعاض والتمرد لا تزول. إنها الآن في بيتها في المعادي تنتظر زوجا ذا خمسين جنيها شهريا على الأقل، أما هذه الفتاة التي تدعو بالنصر لروسيا فماذا تنتظر يا ترى؟

وإذا بسوسن تلوح برزمة أوراق في وجهه وهي تقول برقة: تسمح؟ ..

فنهض، ثم مضى إلى مكتبها باسما ليبدأ عمله الجديد ..

34

لم يكن يوسف الجميل يمر بالمجلة إلا يوما في الأسبوع أو يومين إذ كان جل نشاطه موجها للإعلانات والاشتراكات، كذلك إبراهيم رزق لم يمكث في السكرتارية أكثر من ساعة ثم يدور على بقية المجالات التي يعمل بها، فكان أكثر الوقت يمضي وهما منفردان، أحمد وسوسن. ومرة جاء رئيس عمال المطبعة؛ ليأخذ بعض الأصول فما راعه إلا أن يسمعها وهي تدعوه «أبي»! وعلم بعد ذلك أن ثمة صلة قربى تربط الأستاذ عدلي كريم نفسه برئيس عمال المطبعة. كان ذلك مفاجئا ومثيرا. وراعه أكثر من سوسن مثابرتها على العمل، كانت محور التحرير ومركز نشاطه، بيد أنها كانت تعمل أكثر مما يستوجبه تحرير المجلة، فما تزال تقرأ أو تكتب. وبدت جادة حادة شديدة الذكاء، وشعر من أول الأمر بقوة شخصيتها، حتى كان يخيل إليه بعض الأحيان - رغم عينيها السوداوين الجذابتين وجسمها الأنثوي اللطيف - أنه حيال رجل قوى الإرادة حسن التنظيم. ثم تأثر بنشاطها فثابر على عمله بهمة لا تعرف الكلل أو الملل. وقد أخذ على عاتقه ترجمة المختارات من مجلات العالم الثقافية، إلى ترجمة بعض المقالات ذات الشأن. وقد قال لها يوما: إن الرقابة تقف لنا بالمرصاد ..

فقالت بصوت يدل على الحنق والازدراء: أنت لم تر شيئا بعد، مجلتنا «مشبوهة» في الدوائر العليا! ولها الشرف!

فقال أحمد باسما: تذكرين طبعا افتتاحيات الأستاذ عدلي كريم قبل الحرب؟ - لقد عطلت مجلتنا مرة في عهد علي ماهر بسبب مقال عن ذكرى الثورة العرابية اتهم فيه الأستاذ الخديو توفيق بالخيانة.

ويوما سألته ضمن حديث عابر: لماذا اخترت الصحافة؟

فتفكر قليلا، إلى أي درجة يجوز له أن يكشف عن ذات نفسه لهذه الفتاة التي تبدو طرازا وحدها بين من عرف من بنات جنسها! - لم أدخل الجامعة لأتوظف، ولكن عندي أفكار أريد التعبير عنها ونشرها وما من سبيل إلى ذلك خير من الصحافة ..

فقالت باهتمام سر له من أعماقه: أما أنا فلم أدرس في الجامعة، أو بالحرى لم تتح لي فرصة (سرته صراحتها كذلك وإن أكدت في نفسه مخالفتها لبنات جنسها) .. إني متخرجة في مدرسة الأستاذ عدلي كريم، وهي ليست دون الجامعة منزلة، درست عليه منذ حصولي على البكالوريا ، وأصارحك بأنك أحسنت تعريف الصحافة، أو الصحافة التي نعمل فيها، بيد أنك تنفس عن أفكارك - حتى الآن - عن طريق غيرك، أعني بالترجمة، ألم تفكر في اختيار الشكل الذي يناسبك من أشكال الكتابة.

فصمت مفكرا كأنما أغلق عليه المعنى المقصود ثم تساءل: ماذا تعنين؟ - المقالة، الشعر، القصة، المسرحية؟ - لا أدري، المقالة أول ما يتبادر إلى الخاطر ..

فقالت بلهجة ذات معنى: نعم، ولكنها لظروفنا السياسية، لم تعد مطلبا يسيرا؛ لذلك يضطر الأحرار إلى إذاعة آرائهم بالمنشورات السرية، المقالة صريحة ومباشرة ولذلك فهي خطيرة، خاصة وأن الأعين محملقة فينا، أما القصة فذات حيل لا حصر لها، إنها فن ماكر، وقد غدت شكلا أدبيا شائعا سوف ينتزع الإمامة في عالم الأدب في وقت قصير، ألا ترى أنه ما من كبير من شيوخ الأدب إلا وهو يثبت وجوده في مجال نشاطها ولو بمؤلف واحد؟ - نعم، قرأت أكثر هذه المؤلفات، ألم تقرئي للأستاذ رياض قلدس الكاتب بمجلة الفكر؟ - هذا واحد من كثيرين، وليس خيرهم! - ربما. لقد لفتني إليه خالي الأستاذ كمال أحمد عبد الجواد الكاتب بنفس المجلة ..

فقالت باسمة: هو خالك؟ قرأت له مرات، ولكن .. - ..؟ - معذرة إنه من الكتاب الذين يهيمون في تيه الميتافيزيقا!

فتساءل فيما يشبه القلق: ألم يعجبك؟ - الإعجاب شيء آخر، إنه يكتب كثيرا عن الحقائق القديمة: الروح .. المطلق .. نظرية المعرفة، هذا جميل، ولكنه - فيما عدا المتعة الذهنية والترف الفكري - لا يفضي إلى غاية، ينبغي أن تكون الكتابة وسيلة محددة الهدف، وأن يكون هدفها الأخير تطوير هذا العالم والصعود بالإنسان في سلم الرقي والتحرر، الإنسانية في معركة متواصلة والكاتب الخليق بهذا الاسم حقا يجب أن يكون على رأس المجاهدين، أما وثبة الحياة فلندعها لبرجسون وحده .. - ولكن كارل ماركس نفسه بدأ فيلسوفا ناشئا يهيم في تيه الميتافيزيقا؟ - وانتهى بعلم الاجتماع العلمي، فمن هنا نبدأ لا من حيث بدأ ..

لم يرتح أحمد إلى نقد خاله على هذا النحو، فقال بغية الدفاع عنه قبل كل شيء: الحقيقة جديرة دائما بأن تعرف، مهما تكن، ومهما يكن الرأي في آثارها ..

فقالت سوسن في حماس: هذا مناقض لما تكتب، فأراهن على أنك متأثر بالوفاء لخالك!

عندما يكون الإنسان متألما يركز اهتمامه في إزالة أسباب الألم، مجتمعنا متألم جدا فيجب أن نزيل الألم قبل كل شيء، ولنا بعد ذلك أن نلهو ونتفلسف! ولكن تصور إنسانا يتفلسف لاهيا وبه جرح ينزف لا يعيره أدنى التفات، ماذا تقول عن مثل هذا الإنسان؟!

أهذا خاله حقا؟ لكن فليقر بأن كلامها يلقى تجاوبا كاملا مع نفسه، وبأن عينيها جميلتان، وبأنها رغم غرابتها و«جديتها» جذابة .. جذابة .. - الواقع أن خالي لا يعير هذه الأمور التفاتا جديا. لقد حدثته كثيرا عنها فوجدته إنسانا يدرس النازية كما يدرس الديمقراطية أو الشيوعية، ولكنه لا هو بارد ولا هو حار، ولم أستطع أن أتبين موقفه ..

فقالت باسمة: لا موقف له، إن موقف الكاتب لا يمكن أن يخفى، إنه مثل من المثقفين البورجوازيين يقرأ ويستمتع ويتساءل، وقد تجده في حيرة أمام «المطلق»، وربما بلغت به الحيرة حد الألم، ولكنه يمر سادرا بالمتألمين الحقيقيين في طريقه ..

فقال ضاحكا: ليس خالي كذلك. - أنت أدرى، كذلك قصص رياض قلدس ليست بالقصص المنشودة، إنها واقعية وصفية تحليلية، ولا تتقدم عن ذلك خطوة، لا توجيه فيها ولا تبشير!

ففكر أحمد قليلا ثم قال: ولكنه كثيرا ما يصف حال الكادحين من العمال والفلاحين. ومعنى هذا أنه يهب مسرح البطولة في أقاصيصه للطبقة الكادحة! - ولكنه يقتصر على الوصف والتحليل، إنه لعمل سلبي بالنسبة للمعركة الحقيقية!

يا لها من فتاة تروم العراك! شديدة الجد فيما يبدو، ولكن أين المرأة؟! - وكيف تريدينه أن يكتب؟ - أقرأت شيئا من الأدب السوفييتي الحديث، بل أقرأت مكسيم جوركي؟

فصمت باسما. لا داعي للخجل، كان طالب اجتماع لا طالب أدب، ثم إنها تكبره بسنوات، ترى ما عمرها؟ ربما كانت في الرابعة والعشرين أو أكثر! وعادت تقول: هذا ما ينبغي أن تقرأ من ألوان الأدب، سأعيرك بعضه إذا شئت .. - بكل سرور ..

فابتسمت قائلة: ولكن الإنسان «الحر» لا يكفي أن يكون قارئا أو كاتبا! إن المبادئ تتعلق بالإرادة قبل كل شيء. الإرادة أولا وقبل كل شيء.

مع ذلك رآها أنيقة، أجل ليس في وجهها زواق، ولكن عنايتها بمظهرها وأناقتها ليست دون غيرها من بنات جنسها، هذا الصدر الحي مؤثر كغيره من الصدور الفاتنة، ولكن مهلا هل يختلف هو عن غيره من الرجال بما يعتنق من مبدأ؟ طبقتنا غريبة تأبى أن تنظر إلى المرأة إلا من زاوية خاصة! - إني مسرور بمعرفتك وأرى أنه أمامنا أكثر من مجال لنعمل معا كيد واحدة ..

فقالت باسمة - وكانت عند الابتسام تبدو أنثى قبل كل شيء: هذا إطراء! - إني مسرور بمعرفتك حقا ..

أجل إنه كذلك، ولكن ينبغي ألا يسيء فهم ما ينفعل به صدره فلعله الاستجابة الطبيعية لمراهق مثله، واصطنع الحذر حتى لا ترمي بنفسك إلى مثل موقفك بالمعادي، فإن الحزن لم يمح بعد من صفحة قلبي ..

35 - مساء الخير يا عمتي.

وتبع جليلة إلى مجلسها المختار في الصالة، وما استقر بهما المجلس فوق الكنبة حتى نادت المرأة خادمتها فجاءت حاملة الشراب وجعلت ترقبها وهي تعد الخوان حتى فرغت من مهمتها وذهبت، وعند ذاك التفتت جليلة إلى كمال قائلة: يا ابن أخي، أقسم لك أنني لم أعد أشرب إلا معك، كل ليلة الجمعة، كما كان يحلو لي أن أشارب أباك في الزمن القديم، ولكن في ذلك الزمن أشارب الكثيرين أيضا ..

وقال كمال لنفسه: «ما أحوجني إلى الشراب، لا أدري ماذا كانت تكون الحياة بدونه!» ثم قال يحاورها: ولكن الويسكي اختفى يا عمتي، وكذلك كافة المشروبات النظيفة، ويقال إن الغارة الألمانية الأخيرة على اسكتلندا أصابت مخزن خمور عالميا حتى سالت الوديان بالويسكي الأصيل .. - يا روحي على غارة من هذا النوع، ولكن خبرني قبل أن تسكر كيف حال السيد أحمد؟ - لا تقدم ولا تأخر، يعز علي يا ست جليلة مرقده، ربنا يلطف به .. - يا ما نفسي أزوره، ألا تجد الشجاعة فتبلغه عني السلام؟ - يا خبر! لم يبق إلا هذا حتى تقوم الساعة!

فضحكت العجوز ثم قالت: أتحسب أن رجلا مثل السيد أحمد يمكن أن يتصور البراءة في إنسان خاصة إذا كان من صلبه؟ - ولو يا زين الستات! .. صحتك .. - صحتك .. ربما تأخرت عطية إذ إن ابنها مريض ..

فقال كمال في شيء من الاهتمام: في آخر مرة لم يكن بها شيء؟ - نعم ولكن ابنها مرض يوم السبت الماضي، روحها المسكينة في ابنها، وهو إذا مسه سوء طارت أبراج عقلها .. - يا لها من امرأة طيبة عاثرة الحظ، طالما أقنعتني أحوالها بأنها لا تمارس هذه الحياة إلا مضطرة ..

فقالت جليلة باسمة أو ساخرة: إذا كان مثلك يضيق بمهنته الشريفة فكيف ترضى هي بمهنتها؟!

ومرت الخادم بمجمرة تنفث بخورا لطيفا، وكان جو الخريف يهفو رطيبا من نافذة في نهاية الصالة، وكانت الخمر شديدة المرارة ولكنها قوية الأثر، غير أن كلام جليلة عن المهنة ذكره بأمور كاد ينساها فقال: كنت أنقل من مصر يا عمتي، ولو وقع المحذور لكنت الآن أعد الحقائب للسفر إلى أسيوط!

فضربت جليلة صدرها بكفها وقالت: أسيوط يا بلح! أسيوط في عين عدوك، وماذا حصل؟ - سليمة والحمد لله! - معارف والدك يملئون الدواوين كالنمل ..

فهز رأسه كالموافق دون تعليق. إنها ما زالت ترى أباه في هالة المجد القديم، لا تدري أنه - حين أخبره عما تقرر عن نقله - قال محزونا آسفا: «لم يعد يعرفنا أحد، أين أصدقاؤنا أين؟» وقبل ذلك مضى إلى صديقه القديم فؤاد جميل الحمزاوي لعله يعرف أحدا من كبار رجال المعارف ولكن القاضي الخطير قال له «إني آسف جدا يا كمال؛ فأنا بصفتي قاضيا لا أستطيع أن أرجو أحدا»، وأخيرا لجأ إلى رضوان ابن أخيه وهو يتعثر بخجله، وفي نفس اليوم عدل عن نقله! يا له من شاب خطير، كلاهما موظف في وزارة واحدة وفي درجة واحدة رغم أنه في الخامسة والثلاثين والشاب في الثانية والعشرين، ولكن كيف ينتظر خوجة ابتدائي أفضل من هذا؟ ولم يعد من الممكن أن يتعزى بالفلسفة أو يدعيها، فليس الفيلسوف من ردد أقوال الفلاسفة، كالببغاء، واليوم كل متخرج في كلية الآداب يستطيع أن يكتب كما يكتب هو أو أحسن، وقد كان هناك ثمة أمل في أن يجمع ناشر مقالاته في كتاب، ولكن لم يعد لمثل هذه المقالات التعليمية من قيمة تذكر، وما أكثر الكتب هذه الأيام، وهو في هذا الخضم لا شيء، وقد مل حتى طفح بالملل: فمتى يدرك قطاره محطة الموت؟ ونظر إلى الكأس في يد عمته، ثم إلى وجهها الناطق بعمرها المديد فلم يسعه إلا الإعجاب بها، ثم تساءل: ماذا تجدين في الشراب يا عمتي؟ فافتر فوها عن أسنان ذهبية وهي تقول: وهل تحسبني أشرب الآن؟ مضى ذاك الزمان، لا طعم لها اليوم ولا أثر، كالقهوة لا أكثر ولا أقل، في الزمان الأول سكرت مرة في فرح ببيرجوان حتى اضطر التخت أن يحملني إلى عربتي آخر الليل، ربنا يكفيك شرها..! - «ولكنها خير من لا خير له.» - وذروة النشوة هل عرفتها؟ كنت أبلغها بكأسين، اليوم يلزمني ثمانية كئوس كي أبلغها، ولا أدري كم غدا، ولكنها ضرورية يا عمتي، فعندها يرقص القلب المكلوم طربا .. - قلبك طروب يا ابن أخي دون حاجة إلى الخمر ..

قلبه طروب! وهذا الحزن الصديق؟ والرماد المتخلف من محترق الآمال؟ لم يبق للملول إلا الامتلاء بالخمر، في هذه الصالة أو في تلك الحجرة إذا جاءت التي تداوي ابنها، هو وهي في موضع واحد من الحياة، حياة من لا حياة لهم. - أخشى ألا تجيء عطية؟ - ستجيئ حتما، أليس المرض في حاجة إلى النقود!

يا له من جواب! بيد أنها لم تمكنه من التفكير إذ مالت نحوه في اهتمام، ونظرت إليه مليا، ثم قالت بصوت منخفض: لم يبق إلا أيام! فقال دون أن يدرك حقيقة مرادها: ربنا يطول عمرك ولا يحرمني منك!

فقالت باسمة: سأهجر هذه الحياة!

فانتصب نصفه الأعلى في دهشة وهتف: ماذا قلت؟!

فضحكت ثم قالت بلهجة لم تخل من سخرية: لا تخف، ستذهب بك عطية إلى بيت آمن كهذا البيت. - ..؟! - ولكن ماذا حدث؟ - كبرت يا ابن أخي، وأغناني الله فوق حاجتي، وبالأمس ضبط بيت قريب وسيقت صاحبته إلى القسم، حسبي، إني أفكر في التوبة، ينبغي أن أقابل ربي على غير ما أنا عليه!

أتى على بقية كأسه، وملأه، ثم قال وكأنما لم يصدق ما سمعه: لم يبق إلا أن تستقلي السفينة إلى مكة! - ربنا يقدرني على فعل الخير ..

وتساءل ولما يفق من دهشته: أجاء هذا كله فجأة؟ .. - كلا، إني لا أبوح بسر إلا عند العمل، طالما فكرت في هذا من زمن .. - جد؟! - كل الجد، ربنا معنا! - لا أدري ماذا أقول، ولكن ربنا يقدرك على فعل الخير. - آمين ..

ثم ضاحكة: ولكن اطمئن فلن أغلق هذا البيت حتى أطمئن على مستقبلك!

فضحك ضحكة عالية وقال: هيهات أن أجد بيتا أرتاح فيه كهذا البيت؟ - لك علي أن أوصي بك البدرونة الجديدة ولو كنت في مكة! - كل شيء يبدو مضحكا ولكن الخمر ستظل قبلة المحزون، وتتغير الأوضاع فيعلو فؤاد جميل الحمزاوي ويسفل كمال أحمد عبد الجواد، ولكن الخمر ستظل بشاشة المكروب، ويوما يحمل كمال رضوان على كتفه ليدلله ثم يجيء يوم فيحمل رضوان كمال ليقيله من عثرته ولكن الخمر ستظل نجدة الملهوف، وحتى الست جليلة تفكر في التوبة في الوقت الذي يبحث هو عن ماخور جديد ولكن الخمر ستظل المأوى الأخير، ويمل السقيم كل شيء حتى يمل الملل ولكن الخمر ستظل مفتاح الفرج. - يسعدني أن أسمع عنك دائما ما يسر. - الله يهديك ويسعدك .. - إذا كان وجودي يضايقك ...؟

وسدت فاه بأصبعها وقالت: سامحك الله، هذا بيتك ما دام بيتي، وكل بيت أحل فيه فهو بيتك يا ابن أخي ..

أثمة لعنة قديمة مجهولة قضي عليه بأن يكفر عنها؟! كيف المخرج من هذه الحيرة التي تغشى حياته؟ حتى جليلة تفكر جادة في تغيير حياتها فلم لا يتخذ منها أسوة؟ لا بد للغريق من صخرة يلوذ بها أو فليغرق، وإذا لم يكن للحياة معنى فلم لا نخلق لها معنى؟! .. - ربما كان من الخطأ أن نبحث في هذه الدنيا عن معنى بينا أن مهمتنا الأولى أن نخلق هذا المعنى ..

وحدجته جليلة بنظرة غريبة فانتبه بعد فوات الوقت إلى ما بدر منه دون شعور. وضحكت جليلة متسائلة: سكرت بهذه السرعة؟

فدارى ارتباكه بضحكة عالية وقال: خمر الحرب كالسم، لا تؤاخذيني، ترى متى تأتي عطية؟!

36

غادر كمال بيت جليلة عند منتصف الساعة الثانية صباحا، كان كل شيء غارقا في الظلام، وكان الظلام غارقا في الصمت، وسار على مهل نحو السكة الجديدة ثم مال إلى الحسين - حتى متى يعيش في هذا الحي المقدس الذي لم يمت إليه بصلة؟ وابتسم ابتسامة فاترة. لم يكن بقي من الخمر إلا خمارها، أما الجسد فقد خمدت لواعجه، فنقل خطاه في إعياء وكسل. عادة في مثل هذه اللحظة الخامدة يصرخ شيء في أعماقه - لا هو التوبة ولا الندم - ناشدا التطهر، ملتمسا الخلاص من قبضة الشهوات إلى الأبد، كأن موجة شهواته تنحسر عن صخور تقشف كامنة. ورفع رأسه إلى السماء، كأنما ليستأنس بالنجوم فانطلقت في السكون صفارة الإنذار! ودق قلبه دقة عنيفة ثم حملقت عيناه النائمتان، ثم بدافع غريزي مال إلى أقرب جدار وسار بحذائه، ونظر إلى السماء مرة أخرى فرأى أضواء الكشافات الكهربائية تمسح صفحاتها في سرعة شديدة، تلتقي أحيانا ثم تتفرق في جنون. وحث خطاه دون أن يفارق الجدران وقد شعر شعورا موحشا بوحدته كأن وجه الأرض قد خلا إلا منه! وإذا بصفير مبحوح يتهاوى لم يطرق أذنه من قبل، يعقبه انفجار شديد ارتجت له الأرض تحت قدميه، قريب أم بعيد؟ ولم يتسع له الوقت لمراجعة معلوماته عن الغارات، إذ تتابعت الانفجارات بسرعة تكتم الأنفاس، وانطلقت المدافع المضادة جماعات جماعات، والتمع الجو بأضواء كالبرق لم يعرف مصدرها ولا كنهها فخيل إليه أن الأرض تتطاير. وانطلق يعدو بسرعة لا يلوي على شيء صوب درب قرمز ملتمسا في قبوها التاريخي مخبأ. وكانت المدافع تنطلق في غضب جنوني، والقنابل تدك مراميها دكا، والأرض تميد. وفي ثوان من الفزع بلغ القبو، وكان يكتظ بخلق كثيرين تكاثفت بهم ظلمته، فاندس بينهم وهو يلهث. وكان جوه يسوده الرعب ويمتلئ بهمهمات الفزع في ظلام دامس، أما مدخل القبو ومخرجه فيضيئان من آن لآخر بانعكاسات الاشعاعات المنطلقة في الفضاء. وقد توقف سقوط القنابل أو هذا ما خيل إليهم. أما المدافع فلم يخف جنونها ولم يكن رجعها في النفوس دون رجع القنابل، واختلطت أصوات صراخ وبكاء وزجر وانتهار صادرة عن نسوة وأطفال ورجال. - هذه غارة جديدة وليست كالسابقات .. - وهذا الحي القديم هل يتحمل الغارات الجديدة! - أعفونا من هذه الثرثرة وقولوا يا رب! - كلنا يقول يا رب .. - اسكتوا، اسكتوا يرحمكم الله!

وكان كمال يلاحظ الضوء الذي ينير مخرج القبو حين رأى جماعة جديدة قادمة فخيل إليه أنه لمح هيئة أبيه بينها، وخفق قلبه، أيكون حقا أباه؟ وكيف استطاع أن يقطع الطريق إلى القبو؟ بل كيف استطاع أن يغادر فراشه؟ وشق طريقا إلى نهاية القبو مخترقا الكتل البشرية المضطربة، فتبين على التماع الضوء أسرته جميعا، أباه وأمه وعائشة وأم حنفي! واتجه نحوهم حتى وقف بينهم وهو يهمس: أنا كمال! كلكم بخير؟

لم يجب أبوه، وكان ملقيا بظهره في إعياء إلى جدار القبو بين الأم وعائشة، أما الأم فقالت: كمال، الحمد لله، شيء فظيع يا بني، ليست ككل مرة، خيل إلينا أن البيت سينقض فوق رءوسنا، وربنا شد حيل أبيك فنهض وجاء بيننا، لا أدري كيف جاء ولا كيف جئنا ..

وغمغمت أم حنفي: عنده الرحمة، ما هذا الهول! ربنا يلطف بنا ..

وفجأة هتفت عائشة: متى تسكت هذه المدافع؟!

وخيل إلى كمال أن صوتها ينذر بانهيار عصبي فاقترب منها وأمسك بكفها بين يديه وكأنه قد استرد بعض وعيه المفقود عندما وجد نفسه حيال من هم في حاجة إلى تشجيعه. وكانت المدافع ما تزال تنطلق في غضبها الجنوني، غير أن وطأتها أخذت تخف بدرجة غير محسوسة، ومال كمال نحو أبيه وسأله: كيف حالك يا أبي؟

فجاءه صوته وهو يهمس في خور: أين كنت يا كمال؟ أين كنت حين وقعت الغارة؟

فقال يطمئنه: كنت على مقربة من القبو، كيف حالك؟

فأجاب بصوت متقطع: الله أعلم .. كيف غادرت فراشي وهرولت في الطريق؟ الله أعلم .. لم أشعر بشيء .. متى تعود الحال إلى الهدوء؟ - أأخلع لك جاكتتي لتجلس عليها؟ - كلا ، أنا قادر على الوقوف، ولكن متى تعود الحال إلى الهدوء؟ .. - الغارة انتهت فيما يبدو، أما قيامك المفاجئ فلا تخفه؛ إن المفاجآت كثيرا ما تصنع المعجزات مع المرض!

وما كاد ينتهي من قوله حتى زلزلت الأرض بثلاثة انفجارات متتابعة فثار جنون المدافع المضادة مرة أخرى، وضج القبو بالصراخ. - إنها فوق رءوسنا! - وحد الله .. - أسكتوا هذا الشؤم!

وترك كمال يد عائشة؛ ليأخذ يدي أبيه بين يديه، وكان يفعل ذلك لأول مرة في حياته، وكانت يدا الرجل ترتجفان، وكانت يدا كمال ترتجفان كذلك، أما أم حنفي فقد انبطحت على الأرض وهي تولول. وعاد الصوت العصبي يصيح في هياج: إياكم والصراخ، سأقتل الصارخ!

وعلا الصراخ، وتلاحقت طلقات المدافع، واشتد توتر الأعصاب في توقع زلازل جديدة، ولكن المدافع استمرت تنطلق وحدها، وظل توقع انفجارات جديدة يخنق الأرواح. - انتهت القنابل! - إنها تغيب ثم تنفجر .. - إنها بعيدة، لو كانت قريبة ما سلمت البيوت حولنا! - بل سقطت في النحاسين! - هكذا يخيل إليك ولعلها في الأورنس! - أنصتوا يا هوه، ألم تخف المدافع؟

بلى خفت طلقاتها، ثم لم تعد تسمع إلا من بعيد، ثم متقطعة ثم متباعدة، ثم بين الطلقة والأخرى دقيقة كاملة، ثم أناخ الصمت، وامتد، وطال وعمق، وانعقدت الألسن، حتى مضت تتعالى همسات الأمل الباكي، وأخذ كثيرون يتذكرون أشياء وأشياء، ويحيون من جديد، ويتنهدون في ارتياح حذر مشوب بالإشفاق. وعبثا حاول كمال أن يرى وجه أبيه بعد أن غابت التماعات الضوء الخاطف وخيم الظلام. - أبي، ستعود الحال إلى الهدوء ..

فلم يجب الرجل ولكنه حرك يديه بين يدي ابنه كأنما ليقنعه بأنه ما زال حيا .. - هل أنت بخير؟

فحرك يديه مرة أخرى. وشعر كمال بحزن أوشك أن يهيج دموعه.

وانطلقت صفارة الأمان.

وأعقبها صياح تهليل من جميع الأركان كصياح الأطفال عقب مدافع الأعياد. وضج المكان وما حوله بحركة ما لها من آخر، صفقات أبواب ونوافذ، هدير كلام عصبي، ثم تتابع انصراف المنحشرين في القبو. وقال كمال وهو يتنهد: فلنعد ..

وضع الأب ذراعا على كتف كمال والأخرى على كتف الأم وسار بينهما خطوة خطوة. وبدءوا يتساءلون عن الرجل، كيف هو، وماذا أصابه إثر مغامرته الخطيرة. غير أن الأب توقف عن المشي وهو يقول بصوت ضعيف: أشعر بأنني يجب أن أجلس ..

فقال له كمال: دعني أحملك ..

فقال في إعياء: لن تستطيع ..

ولكن كمال أحاطه بذراع من وراء ظهره ووضع الأخرى تحت ساقيه، ورفعه. لم يكن حملا خفيفا ولكن ما بقي من أبيه كان على أي حال هينا. وسار في بطء شديد، والآخرون يتبعونه مشفقين، وانتحبت عائشة فجأة فقال الأب بصوت متعب: لا داعي للفضيحة!

فكتمت فاها بيدها. ولما بلغوا البيت عاونت أم حنفي في حمل السيد، فصعدا به السلم على مهل وحذر. وكان مستسلما ولكن همهمته الاستغفارية المتواصلة نمت عن حزنه وضيقه، حتى طرحاه بعناية على فراشه. ولما أضيء نور الحجرة بدا وجه الأب شديد الشحوب كأن الجهد قد استصفى دمه، وكان صدره يعلو وينخفض بعنف، فأغمض عينيه إعياء، ثم راح يتأوه، ويتأوه، ولكنه غالب ألمه حتى استطاع أخيرا أن يلوذ بالصمت. وكان الجميع يقفون صفا بإزاء فراشه ويتطلعون إليه في وجل وإشفاق، وأخيرا تساءلت أمينة بصوت متهدج: سيدي بخير؟

ففتح عينيه، وجعل ينظر في الوجوه مليا، وبدا لحظات كأنه لا يعرفها، ثم تنهد وقال بصوت لا يكاد يسمع: الحمد لله .. - نم يا سيدي، نم كي تستريح ..

وترامى إليهم رنين الجرس الخارجي فمضت أم حنفي لتفتح الباب. وتبادلوا نظرات متسائلة فقال كمال: لعل أحدا من السكرية أو قصر الشوق قد جاء ليطمئن علينا!

وصدق حدسه؛ فما لبث أن دخل الحجرة عبد المنعم وأحمد ثم تبعهما ياسين ورضوان فأقبلوا على فراش الأب وهم يحيون الموجودين، فوجه إليهم الرجل نظرات فاترة، وكأن الكلام لم يسعفه فاكتفى برفع يده النحيلة تحية، وقص عليهم كمال في اقتضاب ما عاناه والده في ليلته المزعجة، ثم قالت أمينة همسا: ليلة فظيعة ربنا لا يعيدها ..

وقالت أم حنفي: الحركة أتعبته قليلا ولكنه سيسترد بالراحة عافيته ..

ومال ياسين فوق أبيه وهو يقول: ينبغي أن تنام، كيف حالك الآن؟

فرنا الرجل إليه ببصر خاب وغمغم: الحمد لله .. أشعر بتعب في جنبي الأيسر ..

فسأله ياسين: أأحضر لك الطبيب؟

فأشار بيده في ضجر ثم همس: كلا خير لي أن أنام ..

فأشار ياسين إلى الموجودين بالخروج. وتراجع إلى الوراء قليلا فرفع الرجل يده النحيلة مرة أخرى. وغادروا الحجرة واحدا. في إثر واحد فلم يبق فيها مع الرجل إلا أمينة. ولما جمعتهم الصالة سأل عبد المنعم خاله كمال: ماذا فعلتم؟ أما نحن فقد هرعنا إلى المنظرة في الحوش.

وقال ياسين: ونحن نزلنا إلى شقة الدور الأرضي عند جيراننا ..

فقال كمال في قلق: ولكن التعب قد أنهك قوى بابا ..

فقال ياسين: ولكنه سيسترد صحته بالنوم .. - وما عسى أن نفعل به إذا وقعت غارة أخرى؟!

ولم يحر أحد جوابا فساد صمت ثقيل حتى قال أحمد: بيوتنا قديمة ولن تتحمل الغارات ..

وعند ذاك أراد كمال أن يبدد سحب الكآبة المخيمة التي أرهقت أعصابه فقال منتزعا من شفتيه ابتسامة: إذا هدمت بيوتنا فحسبها شرفا أن هدمها سيكون بأحدث أساليب العلم الحديث ..

37

أوصل كمال زوار آخر الليل حتى الباب الخارجي، ولم يكد يعود إلى باب السلم حتى ترامت إليه من فوق ضجة مريبة، وكانت أعصابه ما تزال متوترة فداخلته كآبة ورقي السلم وثبا. وجد الصالة خالية، وحجرة الأب مغلقة، وخليطا من الأصوات يعلو خلف بابها المغلق، فهرع إلى الحجرة ودفع الباب ثم دخل، وكان يتوقع شرا أبى أن يفكر في كنهه. كان صوت الأم المبحوح يهتف: «سيدي»، وكانت عائشة تنادي بصوت غليظ: «بابا»، على حين تسمرت أم حنفي عند رأس الفراش وهي تغمغم: وامتد بصره إلى الفراش فدهمه شعور بالفزع واليأس والاستسلام الحزين؛ رأى نصف أبيه الأسفل مطروحا على الفراش، ونصفه الأعلى ملقى على صدر الأم التي تربعت وراء ظهره، وصدره يعلو وينخفض في حركة آلية تند عنها حشرجة غريبة ليست من أصوات هذا العالم، وعينيه مفتوحتين عن نظرة مظلمة جديدة لا ترى ولا تعي ولا تملك أن تعبر عما يعتلج وراءها، فتسمرت قدماه وراء شباك السرير، وانعقد لسانه ، وتحجرت عيناه ، لم يجد شيئا يقوله أو شيئا يفعله، وعانى شعورا قاهرا بالعجز المطلق، واليأس المطلق والتفاهة المطلقة وكأنه فقد الوعي لولا إدراكه أن أباه يودع الحياة، ورددت عائشة بصرا زائغا بين وجه أبيها ووجه كمال ثم هتفت: أبي! هذا كمال يريد أن يحدثك!

وخرجت أم حنفي عن غمغمتها المتصلة قائلة في نبرات ممزقة: أحضروا الطبيب ..

فأنت الأم في حزن غاضب: أي طبيب يا حمقاء!

ثم ندت عن الأب حركة كأنما يحاول الجلوس، وازداد صدره تشنجا واضطرابا، ومد سبابة يمناه ثم سبابة يسراه، فلما رأت الأم ذلك تقلص وجهها من الألم ثم مالت على أذنه، وتشهدت بصوت مسموع وكررت ذلك حتى سكنت يداه. وأدرك كمال أن أباه لم يعد يستطيع النطق وأنه دعا الأم لتتشهد نيابة عنه، وأن كنه هذه الساعة الأخيرة سيبقى سرا إلى الأبد، وأن وصفه بالألم أو الفزع أو الغيبوبة رجم بالغيب، ولكنه على كل حال لا ينبغي أن تطول، إنها أجل وأخطر من أن تبتذل، أما أعصابه فقد انهارت حيالها، وخجل من نفسه إذ نزعت لحظات إلى تحليل الموقف ودراسته، كأن احتضار أبيه يجوز أن يكون زادا لتأمله ومادة لمعرفته، وضاعف ذلك من حزنه ومن ألمه، وقد اشتدت حركة الصدر وعلت حشرجته، ثم ما هذا؟ أيهم بالقيام؟ أم يحاول الكلام؟ أم يخاطب شيئا مجهولا؟ أيتألم؟ أم يفزع؟ .. آه ..

وشهق الأب شهقة عميقة ثم ارتمى رأسه على صدره.

صرخت عائشة من الأعماق «يا أبي .. يا نعيمة .. يا عثمان .. يا محمد»، فهرعت إليها أم حنفي ودفعتها أمامها برقة إلى الخارج، ورفعت الأم وجهها الشاحب إلى كمال، وأشارت إلى الخارج، ولكنه لم يتحرك، فهمست في يأس: دعني أقم بواجبي الأخير نحو أبيك ..

فتحول عن موقفه ومضى خارجا. وكانت عائشة مرتمية على الكنبة وهي تعول، فمضى إلى الكنبة المقابلة لها وجلس، أما أم حنفي فذهبت إلى الحجرة لتساعد سيدتها، وأغلقت الباب وراءها، ولم يعد بكاء عائشة مما يحتمل فقام واقفا وراح يقطع الصالة ذهابا وإيابا دون أن يوجه إليها خطابا . وكان من حين لآخر يرنو إلى باب الحجرة المغلق ثم يضغط على شفتيه بشدة. وتساءل لم يبدو لنا الموت بهذه الغرابة؟ وكان كلما جمع فكره؛ ليتأمل تشتت وغلبه الانفعال: كان الأب - حتى بعد انزوائه - يملأ هذه الحياة، فلن يكون غريبا إذا وجد غدا البيت غير البيت الذي عهده، والحياة غير الحياة التي ألفها، بل عليه منذ اللحظة أن يعد نفسه لدور جديد. واشتد ضيقه بنحيب عائشة وهم مرة بأن يسكتها ولكنه لم يفعل، وعجب من أين لها بهذا الشعور وقد كانت تبدو جامدة غريبة عن كل شيء. وعاد يفكر في اختفاء أبيه من هذه الحياة فكبر عليه تصور هذا، ثم ذكر حاله الأخير فأكل الحزن شغاف قلبه. وذكر صورته القديمة الماثلة في خاطره، وهو في تمام أبهته وقوته، فشعر برثاء عميق للكائنات جميعا، ولكن متى يسكت نحيب عائشة؟ .. ألا تستطيع أن تبكي - مثله - بغير دموع!

وفتح باب الحجرة وخرجت منه أم حنفي، وترامى إليه من خلال الباب قبل أن يغلق نحيب الأم، فأدرك أنها فرغت من أداء واجبها وخلصت للبكاء. وتقدمت أم حنفي من عائشة وقالت لها بصوت غليظ: كفاية بكاء يا سيدتي ..

ثم تحولت إليه قائلة: الفجر لاح يا سيدي، نم ولو قليلا فأمامك غد عصيب ..

ثم أفحمت في البكاء، ثم غادرت المكان وهي تقول في صوت باك: سأذهب إلى السكرية وقصر الشوق لإبلاغ الخبر الأسود. •••

وجاء ياسين مهرولا تتبعه زنوبة ورضوان، ثم ترامى إليهم من الطريق الصامت صوات خديجة. وبوصول خديجة استعرت النار في البيت جميعا فاختلط الصوات بالصراخ والبكاء. وتعذر على الرجال البقاء في الدور الأول فصعدوا إلى المكتبة في الدور الأعلى وجلسوا واجمين. وغشيهم الصمت والوجوم حتى قال إبراهيم شوكت: لا حول ولا قوة إلا بالله، قضت عليه الغارة، رحمه الله رحمة واسعة كان رجلا ولا كل الرجال ..

ولم يتمالك ياسين نفسه فبكى، وعند ذاك انفجر كمال باكيا، فعاد إبراهيم شوكت يقول: وحدوا الله. لقد ترككم رجالا ..

وكان رضوان وعبد المنعم وأحمد يتطلعون إلى الرجلين الباكيين في حزن ووجوم وشيء من الدهش. وسرعان ما جفف الرجلان دمعهما ولاذا بالصمت، فقال إبراهيم شوكت: الصباح قريب، فلنفكر فيما يجب عمله ..

فقال ياسين في اقتضاب حزين: لا جديد في الأمر فقد جربناه مرات ..

فقال إبراهيم شوكت: يجب أن تكون الجنازة جديرة بمقامه ..

فقال ياسين بتوكيد: هذا أقل ما يجب!

وهنا قال رضوان: الشارع أمام البيت ضيق لا يتسع للسرادق المناسب فلنقم سرادق العزاء في ميدان بيت القاضي ..

فقال إبراهيم شوكت: ولكن العادة جرت بأن يقام سرادق العزاء أمام بيت المتوفى؟

فقال رضوان: ليس هذا بالمكان الأول من الأهمية؛ خاصة وأنه سيؤم السرادق وزراء وشيوخ ونواب!

وأدرك المستمعون أنه يشير إلى معارفه هو فقال ياسين دون مبالاة: نقيمه هناك ..

وكان أحمد يفكر في الدور المنوط به فقال: لن نتمكن من نشر النعي في جرائد الصباح ..

فقال كمال: جرائد المساء تصدر حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر فلنجعل ميعاد الجنازة في الساعة الخامسة .. - ليكن، القرافة قريبة على أي حال.

وتأمل كمال مجرى الحديث في شيء من العجب. كان الأب في الساعة الخامسة اليوم في فراشه يتابع الراديو أما في نفس الساعة غدا ..! إلى جانب فهمي وابني ياسين الصغيرين. ترى ماذا تبقى من فهمي؟ لم يخفف العمر من رغبته القديمة في التطلع إلى جوف القبر، ترى هل كان الأب حقا يرغب في قول شيء كما تهيأ له؟ ماذا كان يريد أن يقول، والتفت ياسين إليه متسائلا: هل شهدت احتضاره؟ - نعم، عقب انصرافك مباشرة. - تألم؟ - لا أدري، من يدري يا أخي، ولكنه لم يستغرق أكثر من خمس دقائق ..

تنهد ياسين ثم تساءل: ألم يقل شيئا؟ - كلا، والغالب أنه فقد النطق .. - ألم يتشهد؟

فقال كمال وهو يغض بصره ليداري تأثره: قامت أمي بذلك نيابة عنه .. - ليرحمه الله .. - آمين ..

وساد الصمت مليا حتى خرقه رضوان قائلا: يجب أن يكون السرادق كبيرا؛ ليتسع للمعزين.

فقال ياسين: طبعا، أصدقاؤنا كثيرون .. (ثم وهو ينظر نحو عبد المنعم): وهناك شعبة الإخوان المسلمين!

ثم متنهدا: لو كان أصحابه أحياء لحملوا النعش على أكتافهم .. •••

ثم كانت الجنازة كما رسموا، وكان أصدقاء عبد المنعم أكثر عددا. أما أصدقاء رضوان فكانوا أعلى مقاما، ولفت نفر منهم الأنظار بشخصياتهم المعروفة لقراء الجرائد والمجلات، وكان رضوان بهم مزهوا حتى كاد يغطي زهوه على حزنه. وشيع أهل الحي «جار العمر» حتى الذين لم يصلهم به سبب من أسباب التعارف الشخصي، فلم تكد الجنازة تخلو إلا من أصدقاء المرحوم نفسه الذين سبقوه إلى الدار الآخرة. وعند باب النصر ظهر الشيخ متولي عبد الصمد في الطريق، وكان يترنح من الكبر فرفع رأسه نحو النعش وهو يضيق عينيه ثم سأل: من هذا؟

فأجابه رجل من أهل الحي: المرحوم السيد أحمد عبد الجواد.

فجعل وجه الرجل يهتز يمنة ويسرة في ارتعاش، وملامحه تتساءل في حيرة، ثم إذا به يسأل: من أين؟ ..

فأجابه الرجل وهو يهز رأسه في شيء من الحزن: من هذا الحي، كيف لا تعرفه! ألا تذكر السيد أحمد عبد الجواد؟! ..

ولكن لم يبد عليه أنه تذكر شيئا، وألقى نظرة أخرى على النعش ثم سار في سبيله ..

38

خلا البيت من سيدي فليس هو البيت الذي عاشرته أكثر من خمسين عاما، والجميع يبكون حولي، وخديجة لا تفارقني؛ فهي قلبي العامر بالحزن والذكريات، وهي قلب كل قلب، بل هي ابنتي وأختي وأمي أحيانا، وأكثر بكائي خلسة حين أخلو إلى نفسي إذ ينبغي أن أشجعهم على النسيان فما يهون علي أن يحزنوا أو - لا قدر الله - أن ينال منهم الحزن أي منال. أما إذا خلوت إلى نفسي فلا أجد عزاء إلا في البكاء فأبكي حتى تجف دموعي، وأقول لأم حنفي إذا تسللت إلى وحدتي الباكية دعيني وشأني يرحمك الله. فتقول لي كيف أتركك وأنت على هذه الحال؟ أنا عارفة بحالك .. ولكنك ست مؤمنة بل أنت ست المؤمنات فعندك نتعلم العزاء والتسليم لقضاء الله .. قول جميل يا أم حنفي ولكن أنى للقلب المحزون أن يفقه معناه، ولم يعد لي شأن في هذه الدنيا ولم يعد لي عمل وكل ساعة من ساعات يومي مرتبطة بذكرى من ذكريات سيدي .. لم أعرف الحياة إلا وهو محورها الذي تدور حوله فكيف أطيقها ولم يعد له فيها ظل، وأنا أول من اقترح تغيير معالم الحجرة العزيزة .. ما حيلتي ما داموا لا يدخلونها حتى تتعلق أبصارهم بمكانه الخالي ويجهشون بالبكاء .. وسيدي يستحق الدموع التي تسيل من أجله، ولكني لا أطيق بكاءهم، وأخاف على قلوبهم الغضة فأعزيهم بما تعزيني به أم حنفي وأطالبهم بالتسليم لله وقضائه؛ ولذلك أخليت الحجرة من أثاثها القديم، وانتقلت إلى حجرة عائشة، ولكيلا تهجر الحجرة وتستوحش نقلت إليها أثاث الصالة فانتقل إليها مجلس القهوة حيث نجتمع حول المجمرة نتحدث كثيرا وتقطع أحاديثنا الدموع، ولا يشغلنا شيء كما يشغلنا الإعداد للقرافة، وأشرف بنفسي على تجهيز الرحمة فلعله الواجب الأوحد الذي لم أتخل عنه لأم حنفي كما تخليت لها عن كل شيء، تلك المرأة العزيزة الوفية التي دخلت بجدارة في صميم أسرتنا، فنحن نعد الرحمة معا ونبكي معا ونتذاكر الأيام الجميلة معا فهي دائما معي بروحها وذاكرتها، وأمس جر الحديث إلى ذكر ليالي رمضان فبادرت تحدث عن سيرة سيدي في رمضان منذ ساعة استيقاظه في الضحى حتى حين عودته إلينا عند السحور، فذكرت بدوري كيف كنت أهرع إلى المشربية لأرى الحنطور الذي يعيده، وأستمع إلى ضحكات راكبيه أولئك الذين ذهبوا تباعا إلى رحمة الله كما ذهبت الأيام الحلوة وكما ذهب الشباب والصحة والعافية، فاللهم متع الأبناء بطول العمر وقر أعينهم بأفراح الحياة، وهذا الصباح رأيت قطتنا تشمم الأرض تحت الفراش حيث كانت ترضع فلذات كبدها التي أهديناها إلى الجيران فقطع قلبي منظرها الحائر الحزين وهتفت من أعماق قلبي: الله يصبرك يا عائشة .. عائشة المسكينة التي هاج موت أبيها حزنها فهي تبكي أباها وابنتها وابنيها وزوجها، فما أحر الدموع! وأنا التي تجرعت مرارة الثكل قديما حتى سال قلبي دما واليوم أفجع بوفاة سيدي وتخلو حياتي منه وكان ملء حياتي جميعا، ولا يبقى لي من الواجبات إلا أن أعد له الرحمة أو أتلقاها من السكرية وقصر الشوق، فهذا كل ما بقي لي، كلا يا بني، اختر لنفسك هذه الأيام مجلسا غير مجلسنا الحزين حتى لا تسري إليك عدواه .. لماذا أنت واجم؟ الحزن لم يخلق للرجال؛ فالرجل لا يستطيع أن يحمل الأعباء والأحزان معا .. اصعد إلى حجرتك وتسل بالقراءة والكتابة كما تفعل أو انطلق إلى أصحابك فاسهر، ومن بدء الخليقة فالأعزاء يفارقون ذويهم، فلو كان الاستسلام إلى الحزن هو المتبع لما بقي على ظهر الأرض حي .. لست حزينة كما تتوهم، وما ينبغي للمؤمن أن يحزن، وسوف نعيش إذا أراد الله وسوف ننسى، ولا سبيل إلى العزيز الذي سبق إلا حين يشاء الله، هكذا أقول له ولا آلو أن أتكلف ما ليس بي من التصبر والتجلد إلا إذا هلت خديجة قلب بيتنا الحي وذرفت الدموع بلا حساب هنالك لا أملك أن أجهش في البكاء، وقالت لي عائشة أنها رأت أباها في المنام قابضا على ساعد نعيمة بيد وعلى ساعد محمد بيد حاملا عثمان على كتفه، وقال لها إنه بخير وإنهم بخير فسألته عن سر النافذة التي نورت لها في السماء ثم توارت إلى الأبد فتجلت في عينيه نظرة عتاب ولم ينبس. ثم سألتني عن معنى الحلم. يا حيرة أمك يا عائشة .. غير أني قلت لها إن العزيز مات وهو مشغول القلب بها ولذلك زارها في الحلم وجاءها بأولادها من الجنة؛ لتقر برؤيتهم عينا فلا تنغصي عليهم صفوهم باستسلامك للحزن، ليت عائشة الزمان الأول تعود ولو ساعة، ليت الذين حولي يبرءون من حزنهم حتى لا يشغلني شاغل عن واجب الحزن العميق، وجمعت ياسين وكمال وقلت لهما: هذه المخلفات العزيزة ماذا نفعل بها، فقال ياسين: آخذ الخاتم فإنه على قد أصبعي، ولك الساعة يا كمال، أما المسبحة فلك أنت يا نينة .. والجبب والقفاطين؟ .. وذكرت من توي الشيخ متولي عبد الصمد الذكرى الباقية من عهد العزيز فقال ياسين: لقد انتهى الرجل فهو في غيبوبة ولا يعرف له مقر. وقال كمال مقطبا: لم يعرف أبي! .. نسى اسمه وتولى عن الجنازة دون اكتراث. فانزعجت وأنا أقول: يا للعجب متى حدث هذا؟ كان سيدي يسأل عنه حتى أيامه الأخيرة وكان دائما يحبه ولم يره إلا مرة أو مرتين مذ زار بيتنا ليلة دخلة نعيمة، ولكن رباه، أين نعيمة! وأين ذلك التاريخ كله؟ ثم اقترح ياسين أن تهدى الملابس إلى سعاة ديوانه وفراشي مدرسة كمال فليس أحق بها من الفقراء أمثالهم الذين سيدعون له بالرحمة في مقره الأخير، أما المسبحة العزيزة فلن تفارق يدي حتى أفارق الحياة، والقبر كم يبدو حلو المزار على ما يثير من شجن ولم أكن انقطعت عنه منذ انتقل إليه الشهيد الغالي، ومنذ ذلك الوقت وأنا أعتبره حجرة من بيتنا لكنها في أطراف حينا، ويجمعنا القبر جميعا كما كان يجمعنا مجلس القهوة في الزمن الخالي، وتنوح خديجة حتى ينال منها الإعياء ثم نؤمر بالسكوت تأدبا لاستماع القرآن، ثم يشغلهم الحديث حينا فأسر بما يصرف أعزائي عن الحزن، ويشتبك رضوان وعبد المنعم وأحمد في نقاش طويل وتنضم إليهم كريمة أحيانا فذاك ما يغري كمال بمشاركتهم الحديث ويلطف من كآبة المقام، ويسأل عبد المنعم عن خاله الشهيد فيقص ياسين القصص فتنبعث الحياة في الأيام القديمة ويعود غائب الذكريات ويخفق قلبي فلا أدري كيف أداري دموعي، وكثيرا ما أرى كمال واجما فأسأله عما به فيقول لي: إن صورته لا تفارقني، خاصة منظر الاحتضار؛ فلو كانت نهايته أخف! فقلت له برقة: عليك أن تنسى هذا كله. فتساءل: كيف يكون النسيان؟ فقلت له: بالإيمان. فابتسم ابتسامة حزينة وقال: كم كنت أخافه في مطلع حياتي! ولكنه تكشف لي في عهده الأخير عن إنسان جديد بل صديق حبيب. ألا ما كان أظرفه وأرقه وألطفه، لم يكن في الرجال مثله، وياسين يبكي كلما أهاجته الذكرى .. كمال حزنه في صمته الواجم أما ياسين الضخم فيبكي كالأطفال ويقول لي إنه الرجل الوحيد الذي أحببته في حياتي، أجل كان أباه وكان أمه ولم ينعم بالعطف والحنان والرعاية إلا في كنفه، حتى شدته كانت رحمة، ولن أنسى يوم عفا عني وردني إلى بيته فصدق فراسة أمي رحمها الله التي ما انفكت تقول لي: إن السيد ليس بالرجل الذي يقطع أم أولاده. وكان يجمعنا حبه فاليوم تجمعنا ذكراه، أما بيتنا فلا يخلو من الزوار غير أن قلبي لا يسكن حتى أجد خديجة وياسين وآلهما حولي .. حتى زنوبة فما أصدق حزنها! وقالت لي كريمة الصغيرة الجميلة: يا جدتي تعالي عندنا؛ فهذه أيام مولد الحسين وتحت بيتنا تقام الأذكار وأنت تحبين ذلك. فقبلتها شاكرة وقلت لها: يا بنيتي، جدتك لم تعتد البيات خارج بيتها .. إنها لا تدري شيئا عن آداب بيت جدها في تلك الأيام التي خلت. ما أجمل ذكراها والمشربية آخر حدود دنياي، حيث أنتظر عودة سيدي آخر الليل وهو من قوته يكاد يهز الأرض عند مغادرته الحنطور، ثم يملأ الحجرة بطوله وعرضه والعافية تكاد تثب من وجهه! أما اليوم فلا يعود ولن يعود، وقبل ذلك ذبل وانزوى ولزم الفراش ورق جسمه وخف وزنه حتى حمل بيد واحدة. يا حزني الذي لن يذهب! وقالت عائشة في غضب: إن هؤلاء الأحفاد لم يحزنوا على جدهم، إنهم لا يحزنون! فقلت لها: بل حزنوا، ولكنهم صغار ومن رحمة الله بهم ألا يغرقوا في الحزن. فقالت: انظري إلى عبد المنعم، لا ينتهي نقاشه، وهو لم يحزن على ابنتي وسرعان ما نسيها كأنها شيء لم يكن. فقلت لها: بل حزن عليها طويلا وبكى كثيرا، وحزن الرجال غير حزن النساء، وقلب الأم غير القلوب جميعا، ومن ذا الذي لا ينسى يا عائشة؟! ونحن ألا نتسلى بالحديث أو يدركنا الابتسام أحيانا؟ وسوف يأتي يوم لا يكون فيه دموع. ثم أين فهمي؟ أين؟ وقالت لي أم حنفي: لماذا امتنعت عن زيارة الحسين؟ فقلت نفسي فاترة عن كل شيء أحببته، وسأزور سيدي عندما يبرأ الجرح. فقالت لي: وهل يبرأ الجرح إلا بزيارة سيدك؟ هكذا ترعاني أم حنفي، وهي ربة بيتنا، ولولاها ما كان لنا بيت. إنك يا ربي رب الجميع، أنت القاضي ولا راد لقضائك، ولك أصلي، وددت لو أبقيت على سيدي قوته حتى النهاية؛ فما آلمني شيء كما آلمني رقاده ، هو الذي كانت الدنيا تضيق عن مراحه .. حتى الصلاة عجز عنها، وما عاناه قلبه الضعيف، وعودته محمولا على الأيدي كالطفل؛ لذلك تسيل دموعي ويتكاثف حزني ..

39 - سأتوكل على الله وأخطب كريمة بنت خالي ..

رفع إبراهيم شوكت عينيه إلى ابنه في شيء من الدهش، أما أحمد فأحنى رأسه وهو يبتسم ابتسامة دلت على أنه لم يفاجأ بالخبر، على حين تركت خديجة الشال الذي تطرزه وحدجته بنظرة غريبة غير مصدقة ثم نظرت إلى زوجها وهي تتساءل: ماذا قال؟

فعاد عبد المنعم يقول: سأتوكل على الله وأخطب كريمة بنت أخيك ..

فبسطت خديجة يديها في حيرة وقالت: هل أفلست الدنيا من الذوق؟ أهذا الوقت مناسب لحديث الخطبة حتى مع صرف النظر عن المخطوبة؟!

فقال عبد المنعم باسما: كل الأوقات مناسبة للخطبة ..

فهزت رأسها في حيرة وهي تتساءل: وجدك؟! .. (ثم وهي تردد عينيها بين أحمد وإبراهيم): هل سمعتم عن شيء كهذا من قبل؟

فقال عبد المنعم في شيء من الحدة: خطبة لا زواج ولا فرح، وقد انقضى على وفاة جدي أربعة أشهر كاملة.

وقال إبراهيم شوكت وهو يشعل سيجارة: كريمة ما زالت صغيرة، مظهرها أكبر من سنها فيما أعتقد ..

فقال عبد المنعم: هي في الخامسة عشرة ولن يكتب الكتاب قبل عام ..

فقالت خديجة في تهكم ومرارة: هل أطلعتك زنوبة هانم على شهادة الميلاد؟

فضحك إبراهيم شوكت، وضحك أحمد، أما عبد المنعم فقال جادا: لن يتم شيء قبل عام، وبعد عام سيكون قد مضى على وفاة جدي حوالي العام والنصف وتكون كريمة قد بلغت سن الزواج .. - ولماذا توجع دماغنا الآن؟ - لأنه لا بأس من إعلان الخطبة في الوقت الحاضر.

فتساءلت خديجة في سخرية: وهل تحمض الخطبة إذا أجلت عاما؟ - أرجوك .. أرجوك أن تكفي عن المزاح ..

فصاحت خديجة: لو وقع هذا لكان فضيحة.

فقال عبد المنعم في هدوء ما استطاع: دعي جدتي لي، ستفهمني خيرا منك، إنها جدتي وجدة كريمة على السواء.

فقالت بخشونة: ليست جدة لكريمة ..

فسكت عبد المنعم وقد تجهم وجهه فبادره أبوه قائلا : المسألة مسألة ذوق فيحسن أن ننتظر قليلا ..

فهتفت خديجة حانقة: يعني أنه لا اعتراض لك إلا على الوقت!

فتساءل عبد المنعم متغابيا: هل ثمة اعتراض آخر؟

فلم تجب خديجة وعادت تتشاغل بتطريز الشال فاستطرد عبد المنعم قائلا: كريمة ابنة ياسين أخيك، أليس كذلك؟

فتركت خديجة الشال وقالت بمرارة: هي ابنة أخي حقا ولكن كان ينبغي أن تذكر أمها أيضا!

وتبادلوا النظرات في إشفاق، ثم اندفع عبد المنعم قائلا في حدة: أمها زوجة أخيك كذلك!

فارتفع صوتها وهي تقول: أعلم هذا، وهو ما يؤسف له! - ذلك الماضي المنسي! من يذكره الآن؟! لم تعد إلا سيدة محترمة مثلك!

فقالت بصوت غليظ: ليست مثلي ولن تكون مثلي أبدا! - ماذا يعيبها؟! عرفناها منذ صغرنا سيدة محترمة بكل معنى الكلمة، والإنسان إذا تاب واستقام محيت صفحة سوابقه فلا يذكره بها بعد ذلك إلا ...

وأمسك، فقالت وهي تهز رأسها في أسف: نعم، صفني! سب أمك إكراما لهذه المرأة التي عرفت كيف تأكل مخك، طالما تساءلت عما وراء الدعوات المتتابعة إلى ولائم قصر الشوق، وإذا بك تقع كالجردل!

فردد عبد المنعم عينيه غاضبا بين أبيه وأخيه ثم تساءل: أهذا الكلام يليق بنا؟ أسمعاني رأيكما؟

فقال إبراهيم شوكت متثائبا: لا داعي لكثرة الكلام، عبد المنعم سيتزوج إن اليوم أو غدا، وأنت تودين هذا، وكريمة ابنتنا، وهي بنت جميلة ولطيفة، لا داعي للشوشرة ..

وقال أحمد: أنت يا نينة أول من يود إرضاء خالي ياسين!

فقالت خديجة محتدة: كلكم ضدي كالعادة، ولا حجة لكم إلا خالي ياسين! ياسين أخي، وكان خطؤه الأول أنه لم يعرف كيف يتزوج، وعنه ورث ابن أخته هذا المزاج الغريب ..

فتساءل عبد المنعم في عجب: أليست امرأة خالي صديقتك؟! من يراكما وأنتما تتناجيان يظنكما شقيقتين! - ما حيلتي في امرأة سياسية مثل اللنبي؟ لكن لو ترك لي الأمر أو لو لم أراع خاطر ياسين ما سمحت لها بدخول بيتي، وماذا كانت النتيجة؟ .. أكلت مخك بالولائم المغرضة، وعليه العوض!

عند ذاك قال أحمد مخاطبا أخاه: اخطبها وقتما تشاء ، نينة لسانها كثير الكلام ولكن قلبها طيب ..

فضحكت ضحكة عصبية وقالت: عفارم يا ولد! تختلفان في كل شيء؛ في الدين والملة والسياسة، أما علي فتتحدان!

فقال أحمد في مرح: خالي ياسين أغلى الناس عندك، وسوف ترحبين بكريمته كأحسن ما يكون الترحيب، الحكاية أنك تودين عروسا غريبة حتى تتمكني - كحماة - من اضطهادها، حسن، علي أنا أن أحقق لك هذا الأمل، سوف أجيئك بالعروس الغريبة لتشفي غليلك! - لا عجب إن جئتني غدا براقصة! علام تضحكون؟! هذا شيخ الإسلام سيصاهر عالمة فماذا أتوقع منك أنت المتهم في دينه، والعياذ بالله؟! - نحن في حاجة إلى راقصة بالفعل!

وإذا بخديجة تقول وكأنما تذكرت أمرا خطيرا: وعائشة يا ربي ترى ماذا تقول عنا؟

فقال عبد المنعم محتجا: ماذا تقول؟ لقد توفيت زوجتي منذ أربع سنوات كاملة فهل تود أن أبقى أرمل مدى العمر؟!

فقال إبراهيم شوكت في ضجر: لا تخلقوا من الحبة قبة، المسألة أبسط من هذا كله، كريمة ابنة ياسين، ياسين أخو خديجة وعائشة، حسبنا هذا، أف، كل شيء عندكم نقار حتى الأفراح؟!

واختلس أحمد من أمه نظرة باسمة، وجعل يراقبها حتى قامت كالغاضبة وغادرت الصالة. وراح يقول لنفسه: هذه الطبقة البورجوازية كلها عقد، تحتاج إلى محلل نفساني بارع ليشفيها من كافة عللها، محلل له قوة التاريخ نفسه! لو هادنني الحظ لسبقت أخي إلى الزواج ولكن البورجوازية الأخرى اشترطت مرتبا لا يقل عن خمسين جنيها، هكذا تجرح قلوب لأمور لا شأن لها بالقلوب، ترى ماذا يكون رأي سوسن حماد لو علمت بمغامرتي الفاشلة؟!

40

كان الجو شديد البرودة، ولم يكن خان الخليلي الرطب مما يؤثر شتاء، ولكن رياض قلدس نفسه الذي أشار ذلك المساء بالذهاب إلى قهوة خان الخليلي التي شيدت مكان قهوة أحمد عبده فوق سطح الأرض، أو كما قال: «علمني كمال علي آخر الزمن أن أكون من غواة الغرائب.» كانت قهوة صغيرة، بابها يفتح على حي الحسين، ثم تمتد طولا في شبه ممر تصف على جانبيه الموائد وينتهي بشرفة خشبية تطل على خان الخليلي الجديد. جلس الأصدقاء في جناح الشرفة الأيمن يحتسون الشاي ويدخنون نارجيلة بالمناوبة. وكان إسماعيل لطيف يقول: أنا في إجازة للاستعداد ومن ثم أسافر ..

فتساءل كمال في أسف: ستغيب عنا ثلاثة أعوام؟ - نعم، لا بد من المغامرة، مرتب ضخم لا أتخيل أن أناله يوما هنا، ثم إن العراق بلد عربي لا يختلف عن مصر كثيرا ..

سيخلف وحشة، لم يكن صديق الروح ولكنه صديق العمر، وتساءل رياض قلدس ضاحكا: ألا يحتاج العراق إلى مترجمين؟

فسأله كمال: أتسافر إذا سنحت لك فرصة كفرصة إسماعيل؟ - لو حدثت في الماضي ما ترددت أما اليوم فلا. - وما الفرق بين الماضي والحاضر؟

فقال رياض قلدس ضاحكا: بالنسبة لك لا شيء، أما بالنسبة لي فهو كل شيء، الظاهر أنني سأنضم قريبا إلى جماعة المتزوجين!

دهش كمال للخبر الذي وقع عليه دون تمهيد وقد ساوره قلق لم يدرك كنهه. - حقا؟! لم تشر إلى ذلك من قبل! - بلى، جاء بغتة، في آخر مقابلة، في آخر مقابلة بيننا لم يكن في البال شيء!

ضحك إسماعيل لطيف في ظفر، أما كمال فتساءل وهو يحاول أن يبتسم: كيف؟ - كيف! كما يحدث كل يوم، مدرسة جاءت لزيارة أخيها في إدارة الترجمة فأعجبتني، فجسست النبض فوجدت من يقول: «تفضل» ..

تساءل إسماعيل ضاحكا وهو يتناول خرطوم النارجيلة من كمال: ترى متى يجس هذا (مشيرا إلى كمال) النبض؟

هكذا إسماعيل لا يفوت فرصة أبدا لإثارة هذا الموضوع المعاد. ولكن ثمة أمر أخطر من هذا، فجميع الأصدقاء المتزوجين يقولون إن الزواج «زنزانة» فمن المحتمل جدا ألا يرى رياض - إذا تزوج - إلا في القليل النادر، وربما تغير وتبدل فيصبح صديقا بالمراسلة، وهو وديع رقيق، فما أسهل هضمه! ولكن كيف تمضي الحياة بدونه؟ وإذا جعل الزواج منه شخصا جديدا كإسماعيل فسلام على كافة مسرات الحياة! وسأله: ومتى تتزوج؟ - في الشتاء القادم على أبعد الفروض ..

كأنما قضي عليه أن يفتقد دواما صديقا لروحه المعذبة. - عند ذاك ستكون رياض قلدس آخر! - لمه؟ .. أنت واهم جدا ..

فقال وهو يداري قلقه بابتسامة: واهم؟! رياض اليوم شخص لا يشبع روحه شيء ويقنع جيبه بلا شيء، أما الزوج فلن يشبع جيبه أبدا ولن يجد فرصة لمتاع الروح .. - يا له من تعريف جارح للزوج، ولكني لا أوافقك عليه .. - كإسماعيل الذي اضطر إلى الهجرة إلى العراق، لست أسخر من هذا؛ فهو طبيعي فوق أنه بطولة، ولكنه في الوقت نفسه بشع، تصور أن تغرق حتى قمة رأسك في هموم الحياة اليومية، ألا تفكر إلا في مشكلات الرزق، أن يحسب وقتك بالقروش أو الملاليم، أن تمسي شاعرية الحياة ضياع وقت؟

فقال رياض في استهانة: أوهام مبعثها الخوف! - وقال إسماعيل لطيف: آه لو تعرف الزواج والأبوة! لقد فاتك حتى اليوم أن تعرف حقيقة الحياة ..

لا يبعد أن يكون الصواب رأيه، ولو صح هذا فحياته مأساة سخيفة، ولكن ما السعادة وماذا يروم على وجه التحقيق؟ غير أن الذي يكربه الآن أنه بات مهددا بالوحدة المرعبة مرة أخرى، كما عانى عقب اختفاء حسين شداد من حياته، لو كان من الممكن أن يجد زوجة لها جسم عطية وروح رياض؟! هذا ما يروم حقا، جسم عطية وروح رياض في شخص واحد يتزوجه فلا يتهدده الشعور بالوحدة حتى الموت، هذه هي المشكلة، وإذا برياض يقول في ضجر: دعونا من حديث الزواج. لقد انتهيت منه وعقبى لك، على أن ثمة أحداثا سياسية هامة هي التي ينبغي أن تستأثر اليوم باهتمامنا.

وكان كمال يشاركه مشاعره هذه غير أنه لم يستطع أن يفيق من المفاجأة فتلقى دعوة الآخر بفتور ظاهر ولم ينبس، أما إسماعيل لطيف فقال ضاحكا: عرف النحاس كيف ينتقم لإقالة ديسمبر سنة 1937 فاقتحم عابدين على رأس الدبابات البريطانية!

وتريث رياض قليلا ليعطي كمال فرصة للرد غير أن هذا لم ينشط للكلام، فقال رياض في لهجة متجهمة: انتقام؟! إن خيالك يصور لك المسألة على وجه هو أبعد ما يكون عن الحقيقة .. - فما الحقيقة؟

وألقى رياض نظرة على كمال كأنما يحثه على الكلام فلما لم يستجب استطرد قائلا: ليس النحاس بالرجل الذي يتآمر مع الإنجليز في سبيل العودة إلى الحكم، إن أحمد ماهر مجنون، هو الذي خان الشعب وانضم إلى الملك، ثم أراد أن يغطي مركزه المضعضع بتصريحه الأحمق الذي أعلنه أمام الصحفيين ..

ثم نظر إلى كمال مستطلعا رأيه، وكان حديث السياسة قد جذب أخيرا بعض اهتمامه غير أنه شعر برغبة في معارضة رياض ولو بعض الشيء فقال: لا شك أن النحاس قد أنقذ الموقف، ولست أشك في وطنيته مطلقا، إن الإنسان لا ينقلب في هذه السن إلى خائن ليتولى وظيفة تولاها خمس مرات أو ستا من قبل، ولكن هل كان تصرفه هو التصرف المثالي .. - أنت شكاك لا نهاية لشكك، ما الموقف المثالي؟ .. - أن يصر على رفض الوزارة حتى لا يخضع للإنذار البريطاني وليكن ما يكون. - ولو عزل الملك وتولى أمر البلاد حاكم عسكري بريطاني؟ - ولو! ..

تنهد رياض في غيظ وقال: نحن نلهو بالحديث أمام النارجيلة، أما السياسي فأمامه مسئولية خطيرة، في هذه الظروف الحربية الدقيقة كيف يقبل النحاس أن يعزل الملك ويحكم البلاد عسكري إنجليزي؟ وإذا انتصر الحلفاء - ويجب أن نفترض هذا أيضا - فنكون في صفوف الأعداء المنهزمين، السياسة ليست مثالية شعرية ولكنها واقعية حكيمة .. - ما زلت أومن بالنحاس، ولكن لعله أخطأ، لا أقول تآمر أو خان .. - المسئولية تقع على العابثين الذين مالئوا الفاشست من وراء ظهور الإنجليز كأن الفاشست سيحترمون استقلالنا، أليس بيننا وبين الإنجليز معاهدة، وأليس الشرف يقضي علينا باحترام كلمتنا؟ ثم ألسنا ديمقراطيين يهمنا أن تنتصر الديمقراطية على النازية التي تضعنا في جدول الأمم والأجناس في أحط طبقة وتثير شحناء الجنسية والعنصرية والطائفية؟! .. - معك في هذا كله، ولكن الخضوع للإنذار البريطاني جعل من استقلالنا وهما! - احتج الرجل على الإنذار ونزل الإنجليز عند رأيه ..

فضحك إسماعيل عاليا ثم قال: يا عيني على الاحتجاج الأنجلوإجبشيان!

غير أنه سرعان ما قال جادا: إني أقره على ما فعل، ولو كنت مكانه لفعلته، رجل أبعد رغم أغلبيته وأهين فعرف كيف ينتقم لنفسه، والواقع أنه ليس هنالك استقلال ولا كلام فارغ؛ ففي سبيل أي شيء يعزل الملك ويحكمنا حاكم عسكري إنجليزي ؟!

وازداد وجه رياض تجهما، أما كمال فابتسم قائلا في هدوء بدا غريبا: أخطأ الآخرون وتحمل النحاس نتيجة الخطأ، لا شك أنه أنقذ الموقف، أنقذ العرش والبلاد، ثم إن العبرة بالخاتمة. فإذا ذكر له الإنجليز صنيعه بعد الحرب فلن يذكر أحد 4 فبراير ..

إسماعيل هازئا وهو يصفق طالبا جمرات للنارجيلة: إذا ذكر الإنجليز صنيعه! وأنا أقول لك من الآن بأنهم سيقيلونه قبل ذلك!

فقال رياض بإيمان: الرجل تقدم لحمل أكبر مسئولية في أحرج الظروف ..

فقال كمال باسما: كما ستتقدم لحمل أكبر مسئولية في حياتك!

فضحك رياض، ثم نهض قائلا «عن إذنكم» ومضى في اتجاه دورة المياه. وعند ذاك مال إسماعيل نحو كمال وقال وهو يبتسم: في الأسبوع الماضي زار والدتي «جماعة» لا شك أنك تذكرهم!

فنظر كمال إليه مستطلعا وهو يتساءل: من؟ ..

فقال الآخر وهو يبتسم ابتسامة ذات معنى: عايدة!

وقع الاسم من أذنيه موقعا غريبا، فغطت غرابة موقعه على كافة الانفعالات التي كان حريا بأن يثيرها، وبدا حينا كأنما هو صادر من أعماقه هو لا من لسان صاحبه، وكل شيء كان متوقعا إلا هذا، ومضت لحظات وكأن الاسم ليس له معنى، من عايدة؟ أي عايدة؟ يا للتاريخ! كم عاما مضى دون أن يطرق هذا الاسم مسامعه منذ 1926، أو 1927؟ ستة عشر عاما أو عمر شاب يافع بالكمال لعله أحب ومني بالإخفاق! لقد طعن في السن حقا، عايدة؟! ترى ماذا أصابه بهذه الذكرى، لا شيء! ليس إلا اهتماما عاطفيا مشوبا بشيء من الانفعال، كمن تمس يده موضع عملية جراحية ملتئم من قديم فيذكر ما اكتنفها من ظرف خطير مضى وانقضى. وتمتم متسائلا: عايدة؟ - نعم، عايدة شداد، ألا تذكرها؟ أخت حسين شداد!

وشعر بمضايقة تحت عيني إسماعيل فقال متهربا: حسين! ترى ما أخبار حسين؟ - من يدري؟

وشعر بسخف تهربه، ولكن ما حيلته وقد أحس بوجهه يسخن رغم برودة فبراير الشديدة؟ وبدا له الحب على مثال غريب بعض الشيء .. كالطعام! نشعر به بقوة وهو على المائدة، ثم وهو في المعدة، ثم وهو في الأمعاء على نحو ما ، ثم وهو في الدم على نحو آخر، حتى يستحيل خلايا ثم تتجدد الخلايا بمرور الزمن فلا يبقى منه أثر، لكن ربما بقي منه صدى في الأعماق هو ما نسميه بالنسيان، وقد يعرض للإنسان «صوت» قديم فيدفع بهذا النسيان إلى قريب من منطقة الوعي فيسمع الصدى على وجه ما، وإلا فما هذا الاضطراب؟ أم لعله الحنين إلى عايدة لا باعتبارها المحبوبة التي كانت - فقد انتهى هذا إلى غير رجعة - ولكن باعتبارها رمزا للحب الذي كان كثيرا ما يستوحش غيبته الطويلة، مجرد رمز كالخربة المهجورة التي تثير ذكريات تاريخية جليلة.

وعاد إسماعيل يقول: وتحادثنا طويلا - أنا وعايدة وأمي وزوجي - فروت لنا كيف هربت هي وزوجها بل وجميع ممثلي الدول السياسيين أمام الجيوش الألمانية حتى لاذا بإسبانيا، وأنهما نقلا أخيرا إلى إيران؛ ثم رجعنا إلى أيام زمان وضحكنا كثيرا ..

مهما يكن من أمر الحب الذي مات فقلبه يبعث حنينا مسكرا، وأوتار الأعماق التي تهتكت أخذت تصعد أنغاما بالغة في الخفوت والحزن، وتساءل: ما شكلها الآن؟ - لعلها في الأربعين، كلا أنا أكبر منها بعامين، عايدة في السابعة والثلاثين، وامتلأت قليلا عما كانت، لكنها ما زالت محتفظة برشاقتها، ووجهها هو هو تقريبا فيما عدا نظرة عينيها التي أصبحت توحي بالجد والرزانة، وقالت إنها أنجبت ابنا في الرابعة عشرة وبنتا في العاشرة ..

هذه هي عايدة إذن، لم تكن حلما ولم يكن تاريخها وهما؛ فقد تمر لحظات فيبدو ذلك الماضي كأنه لم يكن. وهي زوجة وأم، وتذكر الماضي وتضحك كثيرا، ولكن ما حقيقة صورتها؟ وماذا بقي من هذه الحقيقة في الذاكرة؟ فلشد ما تتغير المناظر في أثناء حفظها بالذاكرة، وهو يود أن يلقي نظرة ثابتة على هذا الكائن البشري لعله يقف على السر الذي مكنه قديما من أن يفعل به الأفاعيل.

وعاد رياض إلى مجلسه فخاف كمال أن يقطع إسماعيل حديثه ولكنه واصله قائلا: وسألوا عنك!

ردد رياض نظره بينهما فأدرك أن حديثا خاصا يدور بينهما فعدل عنهما إلى النارجيلة، أما كمال فقد شعر بأن جملة «سألوا عنك» توشك أن تودي بقوة مناعته كأشد الميكروبات فتكا، وتساءل وهو يبذل أقصى ما يملك من قوة ليبدو طبيعيا: لماذا؟ - سألوا عن فلان وعلان من أصحاب زمان ثم سألوا عنك فقلت: مدرس بمدرسة السلحدار وفيلسوف كبير ينشر مقالات لا أفهمها في مجلة الفكر التي لا أفتحها، فضحكوا ثم سألوا: «هل تزوج؟» فقلت: كلا ..

فوجد نفسه يسأل: ماذا قالوا؟ - لا أذكر ماذا حولنا عن هذا الحديث؟

إن المرض الكامن يهدد بالانفجار، والذي مرض قديما بالسل يجب أن يحذر البرد، أما جملة سألوا عنك فما أشبهها بأنغام الصبا في بساطة معناها وشديد نفاذها في النفس، وقد يطرأ ظرف فتعبر النفس حال عاطفية مندثرة بكامل قوتها الماضية ثم تنقطع .. كالمطر في غير أوانه، على ذلك شعر في هذه اللحظة العابرة بأنه انقلب ذلك العاشق القديم، وأنه يعاني الحب حيا بكافة أنغامه السارة والحزينة، ولكن الخطر لم يكن يتهدده بصفة جدية؛ فهو كالحالم المكروب الذي يداخله شعور ملطف بأن ما يراه حلم لا حقيقة، لكنه تمنى في تلك اللحظة لو تقع معجزة من السماء فيلقاها ولو لبضع دقائق فتعترف له بأنها بادلته عاطفته يوما أو بعض يوم وأن فارق السن أو غيره هو الذي فرق بينهما! لو وقعت هذه المعجزة لعزته عن كافة آلامه قديمها وحديثها ولعد نفسه سعيدا في الخلق وأن الحياة لم تمض عبثا، بيد أنها صحوة كاذبة كصحوة الموت، والأحرى به أن يقنع بالنسيان، وهو نصر ولو انطوى على هزيمة، وليكن عزاؤه أنه ليس الوحيد في البشر الذي مني بخيبة الحياة، وتساءل: متى يسافرون إلى إيران؟ - سافروا أمس أو هذا ما أخبرتني به في زيارتها .. - وكيف تلقت كارثة أسرتها؟ - تجنبت هذا الحديث بطبيعة الحال ولم تشر هي إليه!

وإذا برياض قلدس يهتف مشيرا أمامه: «انظروا!» فنظروا إلى الجناح الأيسر من الشرفة فرأوا امرأة غريبة الشكل. كانت في الحلقة السابعة، نحيلة الجسد، حافية القدمين، ترتدي جلبابا مما يرتدي الرجال، وتضع على رأسها طاقية لا يبدو تحت حافتها أي أثر للشعر فهي صلعاء أو قرعاء، أما وجهها فبدا غارقا في أصباغ الزواق على هيئة مزرية مضحكة معا، ولم يكن فيها ناب واحد على حين راحت عيناها ترسلان في جميع الجهات نظرات تودد واستعطاف باسم - تساءل رياض باهتمام: شحاذة؟

فقال إسماعيل: مجذوبة على الأرجح ..

وقفت تنظر إلى المقاعد الخالية في الجناح الأيسر ثم اختارت مقعدا وجلست. عند ذلك انتبهت إلى أعين المحدقين فيها فابتسمت ابتسامة عريضة وقالت: مساء الخير يا رجال!

فرحب رياض بتحيتها وقال بحرارة: مساء الخير يا حاجة!

فندت عنها ضحكة ذكرت إسماعيل - على حد قوله - بالأزبكية في عزها! .. وقالت: حاجة! نعم أنا كذلك إن كنت تقصد المسجد «الحرام»!

وضحكوا ثلاثتهم فتشجعت وقالت بإغراء: اطلبوا لي الشاي والنارجيلة ولكم الأجر عند الله ..

فصفق رياض بحماس ليطلب لها ما أرادت، ومال على أذن كمال هامسا: «هكذا تبدأ بعض القصص!» أما العجوز فقد ضحكت في سرور وقالت: هذا كرم أيام زمان! .. أغنياء حرب يا أولادي؟

فقال كمال ضاحكا: نحن فقراء حرب؟ أي موظفون يا حاجة ..

وسألها رياض: ما الاسم الكريم؟

فارتفع رأسها في كبرياء مضحك وقالت: السلطانة زبيدة على سن ورمح! - السلطانة؟! - نعم .. (ثم وهي تضحك): ولكن رعيتي ماتوا! - الله يرحمهم! - الله يرحم الأحياء أما الأموات فحسبهم أنهم بين يدي الله .. خبروني من أنتم؟

وجاء النادل بالنارجيلة والشاي وهو يبتسم، ثم اقترب من مجلس الأصحاب وسألهم: تعرفونها؟ - من هي؟ - زبيدة العالمة، أشهر عالمة في زمانها، ثم انتهى بها العمر والكوكايين إلى ما ترون!

خيل إلى كمال أنه لا يسمع هذا الاسم للمرة الأولى أما رياض قلدس فقد ارتفع اهتمامه إلى الذروة فجعل يحث أصحابه على أن يعرفوها بأنفسهم كما طلبت حتى تنفتح نفسها للكلام، فقال إسماعيل مقدما نفسه: إسماعيل لطيف.

فقالت ضاحكة وهي ترشف الشاي قبل أن يبرد: عاشت الأسماء، ولو أنه اسم لا معنى له ..

فضحكوا، وفي ذات الوقت سبها إسماعيل بصوت لم تسمعه، أما رياض قلدس فقال: رياض قلدس. - كافر؟! عشقني واحد منكم كان تاجرا في الموسكي اسمه يوسف غطاس ، كان قد الدنيا، وكنت أصلبه على السرير حتى يطلع الصبح! ..

وشاركتهم ضحكهم وقد لاحت الغبطة في وجهها ثم اتجه بصرها إلى كمال فقال: كمال أحمد عبد الجواد.

وكانت تقرب قدح الشاي من فيها فتوقفت يدها في يقظة طارئة ثم حملقت في وجهه متسائلة: قلت ماذا؟

فأجاب عنه رياض قلدس: كمال أحمد عبد الجواد.

فأخذت نفسا من النارجيلة، وقالت وكأنما تخاطب نفسها: أحمد عبد الجواد! ولكن ما أكثر الأسماء! كالقروش أيام زمان .. (ثم مخاطبة كمال): والدك تاجر النحاسين؟

فدهش كمال وقال: نعم.

فقامت من مجلسها واقتربت منهم حتى وقفت أمامه ثم ضحكت ضحكة عالية أقوى من هيكلها بأجيال وهتفت: أنت ابن عبد الجواد! يا ابن الرفيق الغالي! ولكنك لا تشبهه! هذا أنفه حقا، ولكنه كان كالبدر في ليلته، ما عليك إلا أن تذكره بالسلطانة زبيدة وهو يحدثك عني بما فيه الكفاية!

أغرق رياض وإسماعيل في الضحك، على حين ابتسم كمال وهو يغالب ما ركبه من ارتباك، وهنا فقط تذكر حديث ياسين في الزمن الخالي، بل أحاديثه عن أبيه وزبيدة العالمة! وعادت تسأله: كيف حال السيد؟ انقطعت من زمن طويل عن حيكم الذي نبذني، أنا الآن من أهل الإمام، ولكني أحن إلى الحسين فأزوره كل حين ومين، وكنت مريضة وطال بي المرض حتى ضاق بي الجيران فلولا الملام لرموني في القبر حية، كيف حال السيد؟ ..

فقال كمال في شيء من الوجوم: توفي منذ أربعة أشهر ..

فقطبت قليلا وقالت: إلى رحمة الله، يا خسارة، كان رجلا ولا كل الرجال ..

ثم عادت إلى مجلسها، وبغتة ضحكت ضحكة عالية، وما لبث أن ظهر صاحب القهوة عند مدخل الشرفة وهو يقول لها منذرا: كفاية ضحك، سكتنا له دخل بحماره، كتر خير البكوات على إكرامهم لك، ولكن إن عدت إلى الزياط فالباب من هنا ..

فلاذت بالصمت حتى ذهب الرجل، ثم نظرت إليهم باسمة، ثم سألت كمال: وأنت كأبيك أم لا ..

وأتت بيدها حركة شاذة فضحك الأصدقاء وقال إسماعيل: إنه لم يتزوج بعد!

فقالت في لهجة ارتياب عابث : الظاهر أنك ابن أونطة! ..

فضحكوا، ثم نهض رياض، ومضى إليها فجلس إلى جانبها وهو يقول: حصل لنا الشرف يا سلطانة، ولكني أود أن أسمع لك وأنت تحدثينا عن أيام السلطنة!

41

لم يبق إلا ثلث ساعة ثم تلقي المحاضرة، أما قاعة إيوارت فقد قاربت الامتلاء. إن مستر روجر - كما قال رياض قلدس - أستاذ خطير، وهو كأخطر ما يكون حين يتكلم عن شكسبير. أجل قيل أن المحاضرة لن تخلو في النهاية من نوع من الدعاية السياسية ولكن ماذا يهم في ذلك ما دام المحاضر هو مستر روجر والموضوع هو وليم شكسبير. غير أن رياض كان مغتما واجما، ولولا أنه هو الذي دعا كمال إلى سماع المحاضرة لتخلف عن شهودها. وكان حزينا كما ينبغي لرجل مثله تستأثر السياسة باهتمامه كل هذا الاستئثار. وكان يهمس في أذن كمال بانفعال غير خاف: يفصل مكرم من الوفد! كيف تقع هذه الخوارق!

ولم يكن كمال قد أفاق من الخبر كذلك فهز رأسه في وجوم دون أن ينبس: إنها كارثة قومية يا كمال، ما كان ينبغي أن تتهاوى الأمور حتى هذا الحضيض .. - نعم، ولكن من المسئول؟ - النحاس! قد يكون مكرم عصبيا، ولكن الفساد الذي تسرب إلى الحكومة أمر واقع ولا يصح السكوت عليه.

فقال كمال باسما: دعنا من الفساد الحكومي، ثورة مكرم ليست على الفساد بقدر ما هي لضياع النفوذ ..

فتساءل رياض في شيء من التسليم: أيباع مكرم المجاهد بعاطفة زائلة؟ ..

فلم يتمالك كمال أن ضحك قائلا: لقد بعت نفسك أنت بهذه العاطفة الزائلة!

ولكن رياض قال دون أن يبتسم: أجبني! .. - مكرم عصبي، شاعر ومغن! عنده أن يكون كل شيء أو لا يكون شيئا على الإطلاق، وجد نفوذه المأثور يتقلص فثار، ثم وقف لهم وقفته في مجلس الوزراء منددا علانية بالاستثناءات فاستحال التفاهم أو التعاون، حدث يؤسف له. - والنتيجة؟ - هنالك السراي تبارك ولا شك هذا الانشقاق الجديد في الوفد، وستحتضن مكرم في الوقت المناسب كما احتضنت غيره من قبل، سنرى من الآن فصاعدا مكرم وهو يلعب دوره الجديد مع الأقليات السياسية ورجال السراي، إما هذا وإما العزلة، لعلهم يكرهونه كما يكرهون النحاس أو أكثر، ومنهم أناس لم يكرهوا الوفد إلا كراهة في مكرم ولكنهم سيحتضنونه ليهدموا به الوفد، أما عن المصير بعد ذلك فلا يمكن التنبؤ به ..

فعبس رياض وقال: صورة بشعة، أخطأ الاثنان، النحاس ومكرم، إن قلبي متشائم من هذه الحركة ..

ثم بصوت أشد انخفاضا: سيجد الأقباط أنفسهم بلا مأوى، أو يأوون إلى حصن عدوهم اللدود «الملك» وهو مأوى لن يدوم لهم طويلا، وإذا اضطهدنا الوفد كما تضطهدنا الأقليات فكيف يكون الحال؟

فتساءل كمال متغابيا: لماذا تدفع بالأمر خارج حدود الطبيعة؟ مكرم ليس الأقباط والأقباط ليسوا مكرم، إنه شخص ذهب أما مبدأ الوفد القومي فلن يذهب ..

فهز رياض رأسه في أسف ساخر وقال: هذا ما قد يكتب في الجرائد، أما الحقيقة فهي ما أعني. لقد شعر الأقباط بأنهم طردوا من الوفد، وهم يتلمسون الأمان وأخشى ألا يظفروا به أبدا. لقد جاءتني السياسة أخيرا بعقدة جديدة كعقدة الدين؛ فكما كنت أنبذ الدين بعقلي وأميل إليه بقلبي بصفته رابطة قومية فكذلك سأنبذ الوفد بقلبي وأميل إليه بعقلي، إذا قلت إني وفدي فقد كذبت قلبي، وإذا قلت إني عدو للوفد خنت عقلي، إنها كارثة لم تخطر لي على بال، والظاهر أنه مقضي علينا نحن الأقباط بأن نعيش في شخصيات منقسمة أبدا، لو كانت مجموعتنا فردا واحدا لجن!

شعر كمال بامتعاض وألم، وبدت له لحظتذاك جماعات البشر وكأنها تمثل مهزلة ساخرة ذات نهاية مفجعة، ثم قال في صوت لا ينم عن إيمان: عسى أن تكون مشكلة وهمية، إذا نظرتم إلى مكرم كرجل سياسي لا الأمة القبطية جميعا! - هل ينظر إليه المسلمون أنفسهم على هذا النحو؟! - هكذا أنظر إليه أنا!

فابتسمت شفتا رياض رغم كآبته وقال: إني أتساءل عن المسلمين فما دخلك أنت؟ - أليس موقفنا واحدا؛ أعني أنا وأنت؟ - بلى مع فارق بسيط، وهو أنك لست من الأقلية .. (ثم وهو يبتسم): لو عشت في عصر الفتح الإسلامي وتكشف لي الغيب لدعوت الأقباط جميعا إلى الدخول في دين الله! ..

ثم في شيء من الاحتجاج: إنك لا تصغي إلي ..! - أجل!

كانت عيناه مصوبتين نحو مدخل القاعة. ونظر رياض إلى حيث ينظر فرأى فتاة في مقتبل العمر، ترتدي فستانا رماديا بسيطا، في هيئة الطالبات، وقد جلست في المقاعد الأمامية المخصصة للسيدات. - تعرفها؟ .. - لا أدري؟ ..

وانقطعت فرصة الكلام إذ ظهر الأستاذ المحاضر على المنصة ودوت القاعة بالتصفيق الحاد، ثم ساد الصمت الذي تبدو فيه السعلة كالذنب الفاضح، ثم قدمه مدير الجامعة الأمريكية بكلمة مناسبة، ثم بدأ الرجل في إلقاء محاضرته. وظل كمال أكثر الوقت متجه العينين نحو رأس الفتاة في تساؤل واهتمام. وكان قد رآها مصادفة عند دخولها، فدهمه منظرها، وانتزعته بقوة من تيار أفكاره، ثم قذفت به في الماضي عشرين عاما ثم استردته إلى الحاضر وهو يلهث. خيل إليه أول الأمر أنه يرى عايدة. غير أنها لم تكن عايدة دون ريب .. هذه الفتاة التي لا يمكن أن تجاوز العشرين. ولم يتح له وقت كاف كي يتفحص قسماتها ولكن جملة منظرها كان فيه الكفاية، هيئة الوجه والقامة والروح ومجتلى العينين، أجل لم ير هاتين العينين في غير وجه عايدة من قبل. أتكون شقيقتها؟ خطر له هذا الرأي أول ما خطر. بدور. ولم يغب عنه الاسم هذه المرة. وسرعان ما ذكر صداقتها له في الماضي البعيد، ولكن هيهات - أن تكون حقا هي - أن تتذكره. المهم أن صورتها أيقظت قلبه، ردته ولو إلى حين إلى شيء من تلك الحياة الغامرة الغنية التي اكتظ بها زمنا؛ فهو في اضطراب، يسمع إلى الأستاذ المحاضر دقائق ثم ينظر إلى رأس الفتاة أكثر الوقت، ثم يغرق في موجة الذكريات، مستشعرا في أناة جملة المشاعر التي تتلاحم وتصطرع في وجدانه. فلأتبعها لأعرف حقيقتها، لا غاية لي ولكن الملول مشاء، إني أتوق لأي شيء قد يمسح عن روحي الصدأ المتكاثف فوقها. وتربص مبيتا هذه النية، ترى أطالت المحاضرة أم قصرت؟ لا يدري. ولكنه عند انتهائها أفضى بغرضه إلى رياض ثم ودعه وسار في أثر الفتاة. تابع بعناية مشيتها، مشية رشيقة، قامة هيفاء، لا يستطيع أن يقارن بين المشيتين لأن الأخرى لم يعد متوكدا منها، أما القامة فأغلب الظن أنها هي هي، وكان شعر الأخرى «ألاجرسون» أما هذا الشعر فغزير معقوص، ولكن اللون الأسود واحد في الحالين ما في ذلك شك، ولم يستطع أيضا أن يتفحص وجهها على محطة الترام لازدحامها بجمهور المستمعين، ولكنها استقلت الترام رقم 15 الذاهب إلى العتبة وانحشرت في الحريم فاستقله وراءها وهو يتساءل: ترى أهي في طريقها إلى العباسية أم إن ما يفترضه ليس إلا أضغاث أحلام؟ عايدة لم تستقل تراما في حياتها قط، كان رهن أمرها سيارتان، أما هذه المسكينة ..! وداخله حزن كحزنه يوم استمع إلى قصة إفلاس شداد بك وانتحاره. وأفرغ الترام أكثر حمولته في العتبة فاختار موقفا غير بعيد منها فوق طوار المحطة، وجعلت تنظر صوب الناحية التي تترقب مجيء الترام منها فرأى جيدها الطويل النحيل؛ ذلك العهد القديم، ثم لاحظ أن بشرتها قمحية اللون مع ميل إلى البياض، ليست خمرية كالصورة الذاهبة، فشعر لذلك بأول أسف منذ تبعها. كأنما تبعها ليرى الأخرى. ثم جاء ترام العباسية فتأهبت للركوب، ولما وجدت الحريم مزدحمة استقلت عربة الدرجة الثانية، ولم يتردد فكان في أعقابها، وجلست فجلس إلى جانبها، ثم امتلأت المقاعد على الصفين، ثم امتلأ ما بينهما بالواقفين. ووجد لتوفيقه في الجلوس إلى جانبها ارتياحا لا مزيد عليه، غير أن جلوسها بين جمهور الدرجة الثانية أحزنه مرة أخرى. ربما لما يحدثه ذلك من تباين عند مطابقة الصورتين، القديمة الخالدة والماثلة إلى جانبه. وكان منكبه يلامس منكبها ملامسة خفيفة كلما ند عن الترام حركة مفاجئة خاصة عند القيام والوقوف، وجعل يلاحظها كلما أمكن ويتفحصها ما استطاع. هاتان العينان السوداوان الساجيتان، والحاجبان المقرونان، والأنف السوي اللطيف، والوجه البدري. كأنه ينظر إلى عايدة. حقا؟ كلا، ثمة تباين في لون البشرة، ولمسة اختلاف هنا أو هناك، لا يذكر إن كانت إلى الزيادة هي أم إلى النقصان، ومع أن تباينهما كان يسيرا إلا أن إحساسه به كان خطيرا؛ فهو كدرجة الحرارة الواحدة التي قد تكون فاصلا بين الصحة والمرض، ولكنه كان في الوقت نفسه حيال أقرب مثال إلى عايدة التي خيل إليه أنه بات يذكرها أوضح من أي وقت مضى على ضوء هذا الوجه الجميل. والجسم لعله هو هو، ما أكثر ما تساءل عنه، فلعله الآن يراه، وهو رشيق نحيل، صدره آية في الحياء، كذلك هو في جملته، لا يمت بسبب إلى جسم عطية البض المدملج الذي يتعشقه! فهل فسد ذوقه على مر الأيام؟ أو أن حبه القديم كان ثائرا على غريزته الكامنة؟ بيد أنه كان حبا سعيدا حالما ثمل القلب بنشوات الذكريات، وكانت ملامساته المتقطعة لها تزيده نشوة وإغراقا في التأملات، إنه لم يمس عايدة، كان يراها أبدا مستحيلة المنال، أما هذه الصغيرة فهي تسير في الأسواق وتجلس في تواضع بين جمهور الدرجة الثانية، فما أشد حزنه، وذلك التباين الطفيف الذي أحنقه وخيب أمله، وقضى على حبه القديم بأن يبقى لغزا إلى الأبد. وجاء الكمسارى مناديا «التذاكر والأبونيهات» ففتحت حقيبتها وأخرجت تذكرة الاشتراك وانتظرت حتى يصل الرجل إليها، فاسترق إلى التذكرة النظر حتى عثر على اسمها «بدور عبد الحميد شداد .. طالبة بكلية الآداب»، لم يعد ثمة شك، أن قلبي يخفق أكثر مما ينبغي، لو أستطيع أن أنشل هذا الاشتراك! كي أحتفظ بأقرب صورة لعايدة، آه لو كان في الإمكان هذا، مدرس في السادسة والثلاثين ينشل طالبة بكلية الآداب؟ يا له من عنوان مثير تتمناه الجرائد، فيلسوف فاشل في حدود الأربعين! ترى ما سن بدور؟ لم تكن تجاوز الخامسة عام 1926 فهي في الواحدة والعشرين من عمرها السعيد، السعيد؟! لا قصر ولا سيارة ولا خدم ولا حشم، ولم تكن دون الرابعة عشرة حين حلت الكارثة بأسرتها، وهو عمر حري بأن يدرك معنى الكارثة ويذوق الألم، تألمت المسكينة وذعرت، ابتليت بهذا الشعور القاسي الذي أصبحت به جد خبير، جمعنا الألم على تفاوت في الزمن كما جمعتنا الصداقة القديمة المنسية .. وجاءها الكمساري، فسمعها وهي تقول له: «تفضل»، ثم ناولته التذكرة . وطرق الصوت مسمعه كنغمة قديمة محبوبة طواها النسيان دهرا طويلا ثم انبعثت في السمع بكل حلاوتها وجميع ذكرياتها فأحيت فترة سماوية من الزمن، دومت أذنه في مملكة الطرب الإلهية مستهدفة أحلام الزمان الغابر، هذه النغمة الدافئة الرخيمة المفعمة بسحر الطرب. أسمعيني صوتك وما هو بصوتك. يا صديقتي القديمة السيئة الحظ، من حسن الحظ أن صاحبة هذا الصوت الأصلية ما زالت تنعم بمثل حياتها الأولى، لم ترتق إليها الأحزان التي أغرقت أسرتها، أما أنت فقد انحدرت إلينا نحن جمهور الدرجة الثانية، ألا تذكرين صديقك الذي كنت تتعلقين بعنقه وتبادلينه القبل؟ كيف تعيشين اليوم يا صغيرتي؟ وهل تعملين مثلي في النهاية مدرسة بإحدى المدارس الابتدائية؟ ومر الترام بمكان القصر القديم الذي قام في موضعه بناء ضخم جديد. وقد رآه قبل ذلك في المرات القلائل التي زار فيها العباسية منذ انقطاعه التاريخي عنها خاصة في العهد الأخير وهو يتردد على بيت فؤاد جميل الحمزاوي. العباسية نفسها تغيرت كبيتكم يا صغيرتي، اختفت قصورها وحدائقها التي عاصرت حبي وحزن، وقامت مكانها العمارات الضخمة المكتظة بالسكان والحوانيت والمقاهي والسينمات، فليسر بذلك أحمد المفتون بمتابعة صراع الطبقات، أما أنا فكيف أشمت بالقصر وآله على حين أن قلبي مطمور في أنقاضه؟ أو كيف أحتقر المخلوق البديع الذي لم يذق نكد العيش ولا زحمة الشعب إذ كان يخطر كالمعنى الجميل وقلبي له ساجد؟

وعندما توقف الترام في المحطة التالية لقسم الوايلي غادرته فتبعها ووقف على طوار المحطة يراقبها. فرآها وهي تعبر الطريق إلى شارع «ابن زيدون» الذي يواجه المحطة مباشرة. كان شارعا ضيقا تقوم على جانبه بيوت قديمة من بيوت الطبقة الوسطى وتغطي وجهه الممهد بالأسفلت الأتربة والحصى والأوراق المبعثرة وقد دخلت ثالث بيت إلى اليسار من باب ضيق تلاصقه دكان كواء. ووقف ينظر إلى الطريق والبيت في صمت واجم؛ ذلك المكان الذي تقيم فيه اليوم سنية هانم حرم شداد بك! وهذه الشقة لا يزيد إيجارها على ثلاثة جنيهات، وليت سنية هانم تخرج إلى الشرفة ليلقي عليها نظرة ويقيس ما حاق بها من تغير لا شك أنه خطير، ولعله لم ينس بعد منظرها النفيس حين كانت تغادر السلاملك متأبطة ذراع زوجها إلى حيث تنتظر السيارة، كانت تختال عجبا في معطفها الوثير وتلقي على ما حولها نظرات مليئة بالسؤدد والطمأنينة، ولن يمنى الإنسان بعدو أشد فتكا من الزمن، في هذه الشقة نزلت عايدة في أثناء إقامتها بالقاهرة، ولعلها جلست بعد العصاري في هذه الشرفة البالية، ولعلها قاسمت أمها وأختها فراشهما الواحد ما في ذلك ريب، فليتني علمت بوجودها في الوقت المناسب، وليتني رأيتها بعد ذلك التاريخ الطويل، كان ينبغي أن أراها وأنا متحرر من استبدادها، كي أعرفها على حقيقتها، وبالتالي كي أعرف نفسي أنا ولكن ضاعت هذه الفرصة النادرة ..

42

جلس كمال بين طلبة وطالبات قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب يصغي إلى الدرس الذي يلقيه الأستاذ الإنجليزي. لم تكن أول مرة يحضر فيها هذا الدرس ولا آخر مرة فيما بدا له. ولم يكن قد وجد صعوبة تذكر عند الاستئذان في الحضور - كمستمع - لمتابعة الدروس المسائية التي تلقى ثلاث مرات في الأسبوع، وأكثر من هذا فإن الأستاذ قد رحب به عندما علم بأنه مدرس لغة إنجليزية. أجل كان غريبا بعض الشيء أن يعنى بمتابعة هذه الدروس في أواخر العام الدراسي، ولكنه علل ذلك أمام الأستاذ بأنه يقوم ببحث استدعى متابعة هذه المحاضرات رغم ما فاته منها، وكان قد علم بوجود بدور في هذا القسم عن طريق رياض قلدس الذي عرفه بدوره عن طريق صديقه سكرتير الكلية. وبدا منظره، ببذلته الأنيقة ونظارته الذهبية وطوله ونحوله وشاربه الغليظ وشعيراته البيض التي تلتمع في سوالفه إلى رأسه الضخم وأنفه الكبير، بدا كل أولئك ملفتا للأنظار خاصة وهو يجلس بين عدد محدود من الشباب الغض، فكم بدوا كالمتسائلين وكم حدجوه بنظرات لم يرتح لها، حتى خيل إليه أنه يسمع ما يدور في نفوسهم من ملاحظات وتعليقات هو أدرى الناس بها وأخبر! هو نفسه كان يعجب لهذه الخطوة الخارقة التي أقدم عليها دون مبالاة على ما جشمته من جهد وحرج، ما بواعثها الحقيقية وما هدفها؟ لا يدري شيئا على وجه التحقيق ولكنه ما إن رأى بارقة نور في ظلمة حياته الداكنة حتى انطلق يتسمته وهو لا يلوي على شيء مدفوعا بقوى هائلة من اليأس والأشواق والأمل، غير مبال بما قد يعثر به في طريق محفوف بالتزمت والتقاليد من ناحية، وبالشباب المتوثب للسخرية من ناحية أخرى. كان غارقا في اليأس والملل فجرى ملهوفا وراء هذا الشيء الذي لا يشك في أنه تسلية وأي تسلية، وحياة وأي حياة، وبحسبه أنه انقلب يهتم بالزمن وينشد الأمل ويأمل في المسرة، بل وها هو قلبه يخفق وكان قبل ذلك ميتا، وكان يشعر بضيق الوقت، فالعام الدراسي يشارف نهايته المحتومة، بيد أن محاولته لم تضع هباء، فبدور قد رأته كما رآه الجميع، ولعلها شاركت فيما يدور من همس حوله، إلى أن عينيهما قد تلاقتا أكثر من مرة، ولعلها طالعت في عينيه ما يضطرم في ذاته من الاهتمام والإعجاب، من يدري؟ وفضلا عن هذا كله فعند العودة يستقلان ترام الجيزة معا ثم ترام العباسية، وكثيرا ما يجلسان في مكان واحد، فباتت تعرفه جيدا، وهو نجاح لا بأس به لشخص بعيد عن حيها كله، خاصة إذا كان مدرسا حريصا على مظاهر مهنته وما تقتضيه من استقامة ووقار. أما عن غايته من هذا كله فلم يشق على نفسه في تحقيقها. لقد دبت فيه الحياة بعد موات فتهالك عليها، وهو تواق بكل قوة نفسه المعذبة إلى أن يعود ذلك الإنسان الذي تعتلج في وجدانه المشاعر وتهيم في عقله الخواطر وتتجلى في حواسه المناظر، وأن ينسى بهذا السحر ضجره وسقمه وحيرته أمام ألغاز لا تحل، كأنها الخمر ولكنها أعمق متاعا وألطف عاقبة. وفي الأسبوع الماضي حدث شيء تأثر له قلبه أيما تأثر. فقد عاقه إشرافه على النشاط الرياضي بمدرسة السلحدار عن الوصول إلى الكلية في الوقت المناسب، فدخل حجرة الدرس متأخرا، والتقت عيناهما عند دخوله وهو يسير على أطراف أصابعه أن يحدث صوتا، التقت عيناهما التقاء خاطفا سحريا ، وسرعان ما أرخت جفونها فيما يشبه الحياء. لم تكن أذن مجرد نظرة تلتقي فيها عينان محايدتان، وبات مرجحا أنها استشعرت شيئا من الحياء، فهل كان يقع هذا لو كان نشاط عينيه قد ضاع عبثا؟! الصغيرة باتت تستحي من نظراته فلعلها أخذت تدرك أنها ليست بالنظرات البريئة التي توجهها المصادفة. وأثار ذلك في نفسه جملة من الذكريات واستدعى كثيرا من الصور، حتى وجد نفسه يتذكر عايدة ويتخيلها، ولكنه لم يدر لماذا، فإن عايدة لم تغض الطرف حياء حياله قط، فلعل شيئا آخر الذي ذكره بها، لفتة أو رنوة أو ذلك السر الساحر الذي ندعوه بالروح. وأول أمس حدث شيء آخر له خطورته كذلك، انظر كيف ردت الحياة إليك! قبل ذلك لم يكن لشيء خطورة قط، أو لم تكن تضفي الخطورة إلا على هذه الألغاز العقيمة كالإرادة عند شوبنهور أو المطلق عند هيجل أو وثبة الحياة عند برجسون، كانت الحياة كلها صماء لا خطر لها، انظر اليوم كيف أن رنوة أو لفتة أو ابتسامة قد تزلزل لها الأرض جميعا! حدث ذلك وهو ماض إلى الكلية قبل الخامسة مساء مخترقا حديقة الأورمان، فما يدري إلا وبدور وثلاث فتيات يطالعنه على أريكة ينتظرن عليها ميعاد الدرس، والتقت عيناهما التقاء عميقا كما وقع في حجرة الدرس، وكان يود أن يحييهن عند الاقتراب ولكن الممشى الذي يسير فيه عرج به بعيدا عنهن كأنه أبى أن يشترك في هذه المؤامرة العاطفية المرتجلة، ولما ابتعد قليلا التفت وراءه فرآهن يهمسن في أذنها باسمات وهي مسندة رأسها إلى راحتها كأنما تخفي وجهها! ما هذا المنظر البديع؟! لو كان رياض معه لأحسن تحليله وتفسيره، ولكنه لا يحتاج إلى براعة رياض، لا شك أنهن يهمسن لها عنه حتى أخفت وجهها حياء! هل ثمة معنى غير هذا؟ فلعل الصب فضحته عيونه، ولعله جاوز المدى وهو لا يدري حتى صار أحدوثة، وماذا يكون من أمره لو انقلب الهمس تعريضا يتمازح به الطلبة الشياطين؟ وفكر جادا في الانقطاع عن الكلية، ولكنه وجدها تجلس إلى جانبه في ترام العباسية ذلك المساء كما حدث أول يوم تبعها فيه! وترصد التفاتها ناحيته ليحييها وليكن ما يكون، فلما طال انتظاره بعض الشيء التفت هو ثم تظاهر بأنه فوجئ بجلوسها لصقه فهمس في أدب: مساء الخير ..

فنظرت نحوه كالدهشة - لم تترك له عايدة ذكرى تصنع أنثوي من أي نوع كان - ثم همست: مساء الخير ..

زميلان يتبادلان التحية ولا غبار على ذلك، لم يكن مع أختها بهذه الجرأة، ولكنها كانت الكبرى وكان الصغير الساذج. - حضرتك من العباسية فيما أعتقد؟ - نعم ..

لا تريد أن تدفع الحديث من ناحيتها! - من المؤسف أنني لم أتابع المحاضرات إلا أخيرا .. - نعم .. - أرجو أن أعوض ما فاتني في المستقبل ..

فابتسمت دون أن تنبس: «زيديني من سماع صوتك فإنه النغمة الوحيدة من الماضي التي لم يغيرها الزمن.» - ماذا تنوين بعد الليسانس؟ معهد التربية؟

فقالت باهتمام لأول مرة: لا حاجة بي إلى ذلك؛ لأن الوزارة محتاجة إلى مدرسات ومدرسين بسبب ظروف الحرب والتوسع الجديد في التعليم ..

طمع في نغمة واحدة فوهب لحنا كاملا! - إذن ستعملين مدرسة! - نعم، لم لا؟ - إنها مهنة شاقة، سليني عنها.

حضرتك مدرس فيما سمعت؟ - نعم، أوه، نسيت أن أقدم نفسي، كمال أحمد عبد الجواد! - تشرفنا.

فقال باسما: لكنك لم تشرفيني بعد؟ - بدور عبد الحميد شداد! - تشرفنا يا افندم ..

ثم مستدركا كمن فوجئ بشيء فريد: عبد الحميد شداد! ومن العباسية؟ حضرتك أخت حسين شداد؟

فلمعت عيناها في اهتمام وقالت: نعم.

فضحك كمال كأنما يضحك عجبا من غرابة المصادفات وقال: يا سلام! كان أعز أصدقائي، وقضينا معا أياما سعيدة جدا، رباه أأنت أخته الصغيرة التي كانت تلعب في الحديقة؟

فحدجته بنظرة استطلاع. هيهات أن تتذكره! «في ذلك العهد كنت مغرمة بي كما كنت مغرما بأختك.» - لا أذكر شيئا طبعا .. - طبعا، هذا تاريخ يرجع إلى عام 1923 وما بعده حتى عام 1929، تاريخ سفر حسين إلى أوروبا، ماذا يفعل الآن؟ - في فرنسا في القسم الجنوبي الذي انتقلت إليه الحكومة الفرنسية عقب الاحتلال الألماني .. - وكيف حاله؟ من زمن طويل انقطعت عني أخباره ورسائله .. - بخير ..

نطقت بها في لهجة نمت عن رغبة عن الخوض في الموضوع أكثر من ذلك. وتساءل كمال والترام يمر بمكان القصر القديم. ترى ألم يخطئ بمكاشفتها بصداقته القديمة لأخيها؟ أليس في ذلك حد من حريته فيما هو بسبيله؟ ولما جاءت المحطة التالية لقسم الوايلي حيته وغادرت الترام، فلبث في مكانه كأنما نسي نفسه. كان طوال الطريق يتفحصها كلما سنحت فرصة لعله يهتدي إلى السر الذي سحره قديما، ولكنه لم يجده وإن شعر مرارا بأنه منه قريب. وكانت تبدو لطيفة وديعة، وكانت تبدو قريبة المنال. وهو الآن يشعر كأنما يعاني خيبة أمل غامضة وحزنا غير بين الأسباب. لو أراد الزواج من هذه الفتاة ما اعترضه عائق جدي. أجل إنها تبدو مستجيبة ملبية، رغم فارق السن المحسوس أو بسبب فارق السن؟! ثم إن التجارب قد علمته أن شكله لن يعوقه عن الزواج إذا أراده. وهو إذا تزوجها انتقل بقدرة قادر إلى عضوية أسرة عايدة، ولكن ما كنه هذا الخيال السخيف؟ وما عايدة الآن بالنسبة إليه؟ الحق أنه لا يريد عايدة، ولكنه لا يكف عن التطلع إلى معرفة سرها، لعله يقتنع في الأقل بأن أزهى عصور العمر - لم يضع هباء. ووجد رغبة - طالما ألحت عليه على فترات من العمر - في مراجعة كراسة الذكريات وعلبة الملبس التي أهديت إليه ليلة الزفاف. ثم جاش صدره بالحنين حتى تساءل: ترى أيمكن أن يقع الإنسان في الحب وهو يحسن فهمه ويلم بعناصر تركيبه البيولوجية والاجتماعية والنفسية؟ ولكن هل يقي الكيميائي علمه بالسموم من أن يموت بها كضحاياها الآخرين؟! أو فلماذا يجيش صدره هذا الجيشان؟ رغم ما مني به من خيبة الأمل، رغم الفارق الكبير بين الماضي والحاضر، رغم أنه لا يدري إن كان من أهل الماضي أم من أهل الحاضر، رغم هذا كله فصدره جياش وقلبه يخفق ..

43

هنا حديقة الشاي، سماؤها أفرع وغصون ريانة، ومرتاد النظر البط السابح في البحيرة الزمردية، والجبلاية فيما وراء ذلك. واليوم عطلة مجلة الإنسان الجديد، وها هي سوسن حماد تبدو رائعة في فستان أزرق خفيف كشف عن ذراعيها السمراوين، وهي آخذة زينتها ولكن في لباقة وحذر. وكان قد مضى على زمالتهما عام فجلسا متقابلين يضيء وجهيهما ابتسام التفاهم، بينهما مائدة عليها دورق ماء وكأسا دندورمة لم يبق فيهما إلا ذوب ثمالة الحليب المورد بالفراولا. «إنها أعز شيء لدي في هذه الدنيا، أدين لها بمسراتي جميعا وهي قبلة آمالي أيضا، ونحن زميلان مخلصان، لم ينطق الحب بيننا ولكنني لا أشك في أننا متحابان، ومتعاونان كأحسن ما يكون التعاون، بدأنا رفيقين في ميدان الحرية، وعملنا يدا واحدة، وكلانا مرشح للسجن، وكنت كلما نوهت بجمالها حملقت في وجهي محتجة وزجرتني مقطبة كأن الحب شيء لا يليق بنا فأبتسم وأعود إلى ما كنا فيه من عمل، ويوما قلت لها: «إني أحبك .. إني أحبك .. فافعلي ما بدا لك»، فقالت لي: «هذه الحياة هي الجد كل الجد وأنت تعبث»، فقلت لها: «إني مثلك أرى أن الرأسمالية في طور الاحتضار وأنها استنفدت كافة أغراضها، وأن على الطبقة العاملة أن تطلق إرادتها لتدور آلة التطور إذ إن الثمرة لن تسقط وحدها، وإن علينا أن نخلق الوعي ولكني بعد ذلك أو قبل ذلك أحبك» فقطبت تقطيبة متكلفة بعض الشيء وقالت: «إنك تصر على إسماعي ما لا أحب»، وشجعني خلو حجرة السكرتارية فهويت إلى وجهها فجأة ولثمت خدها فحدجتني بنظرة قاسية وأكبت على ترجمة ما تبقى من الفصل الثامن من كتاب نظام الأسرة في الاتحاد السوفييتي الذي كنا نترجمه معا.» - هذا الحر كله في يونيو فكيف إذا جاء يوليو وأغسطس يا عزيزتي؟ - يبدو أن الإسكندرية لم تخلق لأمثالنا!

فضحك قائلا: ولكن الإسكندرية لم تعد مصيفا، كانت كذلك قبل الحرب أما اليوم فالإشاعات قد جعلتها خرابا .. - الأستاذ عدلي كريم يؤكد أن أكثرية سكانها قد هجروها وأن طرقاتها ملأى بالقطط الهائمة على وجهها! - هي كذلك، وعما قريب يدخلها رومل بجيوشه ..

ثم بعد صمت قصير: وسوف يلتقي في السويس بالجيوش اليابانية الزاحفة على آسيا ويعود العهد الفاشستي كما كان في العصر الحجري !

فقالت سوسن في شيء من الانفعال: روسيا لن تنهزم، وإن آمال البشرية مصونة خلف جبال الأورال .. - نعم لكن الألمان على أبواب الإسكندرية!

تساءلت وهي تنفخ: لماذا يحب المصريون الألمان؟ - كراهة في الإنجليز، وسوف يمقتونهم في الغد القريب، إن الملك يبدو اليوم كالسجين ولكنه سينطلق من سجنه؛ ليستقبل رومل ثم يشربان معا نخب وأد الديمقراطية الناشئة في بلادنا، ومن المضحك أن الفلاحين يظنون أن رومل سيوزع الأرض عليهم! - أعداؤنا كثيرون، الألمان في الخارج، والإخوان والرجعية في الداخل، وكلاهما شيء واحد .. - لو سمعك أخي عبد المنعم لثار على رأيك، إنه يعتبر الإخوانية فكرة تقدمية تزري بالاشتراكية المادية .. - قد يكون في الإسلام اشتراكية، ولكنها اشتراكية خيالية كالتي بشر بها توماس مور ولويس بلان وسان سيمو، إنه يبحث عن حل للظلم الاجتماعي في ضمير الإنسان بينا أن الحل موجود في تطور المجتمع نفسه، إنه لا ينظر إلى طبقات المجتمع ولكن إلى أفراده، وليس فيه بطبيعة الحال أية فكرة عن الاشتراكية العلمية، وفضلا عن هذا كله فتعاليم الإسلام تستند إلى ميتافيزيقا أسطورية تلعب فيها الملائكة دورا خطيرا، لا ينبغي أن نبحث عن حلول لمشكلات حاضرنا في الماضي البعيد، قل هذا لأخيك ..

فضحك أحمد في سرور غير خاف وقال: أخي شاب مثقف وقانوني ذكي، إني أعجب كيف يتحمس أمثاله للإخوان!

فقالت بازدراء: الإخوان يصطنعون عملية تزييف هائلة؛ فهم حيال المثقفين يقدمون الإسلام في ثوب عصري، وهم حيال البسطاء يتحدثون عن الجنة والنار، فينتشرون باسم الاشتراكية والوطنية والديمقراطية.

حبيبتي لا تمل الحديث عن مبادئها، قلت حبيبتي؟! نعم فمنذ القبلة التي اختلستها دأبت على أن أدعوها بحبيبتي وكانت تحتج بالكلام تارة وبالإشارة تارة أخرى، ثم جعلت تتجاهله كأنما قد يئست من إصلاحي، وعندما قلت لها إني تواق إلى سماع كلمات الحب من ثغرها المشغول بالاشتراكية وبختني قائلة باحتقار: «هذه النظرة البرجوازية العتيقة إلى المرأة .. هه؟!» فقلت لها جزعا: إن احترامي لك فوق كل كلام، وإني أعترف بأني تلميذك في أنبل ما صنعت في حياتي ولكنني أحبك كذلك، وما في ذلك من بأس. فذهب غضبها فيما شعرت ولكنها استبقت مظاهره فيما رأيت، واقتربت منها مضمرا تقبيلها فلا أدري كيف حزرت غرضي فدفعتني في صدري، ولكنني رغم ذلك لثمت خدها، وما دام المحذور قد وقع - وقد كان بوسعها منعه جديا - فقد اعتبرتها راضية، وإنها لكائن بديع جميل العقل والجسم معا رغم إغراقها في السياسية، وعندما دعوتها للنزهة في الحديقة قالت «على شرط أن نأخذ معنا الكتاب لنواصل الترجمة»، فقلت لها: بل للفرجة والمناجاة، وإلا كفرت بالاشتراكية جميعها! ولعله مما يزعجني كثيرا حيال نفسي المتشبعة بالسكرية أنني ما زلت أنظر أحيانا إلى المرأة بالعين التقليدية البورجوازية فيخيل إلي في بعض ساعات التقهقر والخور أن الاشتراكية عند المرأة التقدمية ليست إلا نوعا من الفتنة كضرب البيانو والتبرج، ولكن من المسلم به كذلك أن العام الذي زاملت فيه سوسن قد غيرني كثيرا وطهرني لدرجة محمودة من البورجوازية المستوطنة في أعماقي! - من المؤسف أن زملاءنا يعتقلون بلا حساب! - نعم يا حبيبتي، الاعتقال موضة تشيع أيام الحروب وأيام الإرهاب على السواء، غير أن القانون لا يرى بأسا في اعتناق المبدأ إذا لم يقترن بالدعوة إلى العنف ..

فضحك أحمد وقال: سيلقى القبض علينا إن آجلا وإن عاجلا إلا ...

فحدجته بنظرة متسائلة فعاد يقول: إلا إذا أدبنا الزواج!

فهزت منكبيها في ازدراء وقالت: من أدراك بأنني أوافق على الزواج من رجل مزيف مثلك؟ - مزيف؟!

ففكرت قليلا ثم قالت باهتمام جدي: لست من طبقة العمال مثلي! كلانا يحارب عدوا واحدا ولكنك لم تخبره كما خبرته. لقد ذقنت الفقر طويلا، ولمست آثاره الكريهة في أسرتي، وغالبته أخت لي حتى غلبها فماتت، أما أنت فلست .. لست من طبقة العمال!

فقال بهدوء: ولا كان إنجلز من هذه الطبقة.

فضحكت ضحكة قصيرة بعثت أنوثتها وقالت: كيف أدعوك؟ البرنس أحمدوف؟! هه لا أنكر عليك مبدأك، ولكن بك بقايا بورجوازية عتيدة، يخيل إلي أنك تسر أحيانا لكونك من آل شوكت!

فقال بلهجة لم تخل من حدة: أنت مخطئة يا ظالمة! لا يعيبني ما ورثته ؛ فكما أن الفقر لا يعيبك فالغنى لا يعيبني؛ أعني الدخل القليل الذي عاشت به أسرتنا عيشة التنابلة، لا يعيب أحدا أن يجد نفسه بورجوازيا، ولا عيب إلا في الجمود والتخلف عن روح العصر ..

فقالت وهي تبتسم: لا تغضب، كلانا ظاهرة طبيعية علمية، لا نسأل عما وجدنا أنفسنا عليه ولكننا مسئولون عما نعتنق ونفعل. إني أعتذر إليك يا إنجلز، ولكن خبرني هل أنت على استعداد لمواصلة إلقاء المحاضرات على العمال مهما تكن العواقب؟

فقال بإدلال: لقد حاضرت حتى أمس خمس مرات، وحررت منشورين خطيرين، ووزعت عشرات المنشورات، وللحكومة دين في عنقي جاوز العامين سجنا! - ولها في عنقي أضعاف ذلك!

مد يده في خفة فوضعها على يدها السمراء البضة في حنان وإعجاب. نعم إنه يحبها، ولكنه لا يندفع في جهاده باسم الحب، ترى ألم تبد أحيانا وكأنها تشك فيه؟ أهي مداعبة من المداعبات أو توجس خيفة من البورجوازية التي تحسبها كامنة فيه؟ إنه مؤمن بالمبدأ كما أنه مغرم بها، لا غنى له عن هذا ولا ذاك، «أليس من السعادة أن تحظى بشخص يفهمك حق الفهم وتفهمه حق الفهم؟ وألا يحول بينك وبينه أي نوع من المكر؟ إني أعبدها إذ قالت: «لقد ذقت الفقر طويلا»، هذا القول الصريح الذي سما بها عن بنات جنسها جميعا ومزجها بنفسي، لكننا محبون غافلون والسجن يتربص بنا، وبوسعنا أن نتزوج وأن نتجنب المتاعب ونقنع برغد العيش، ولكنها تكون حياة بلا روح، لشد ما يبدو لي المبدأ أحيانا كأنه لعنة مصبوبة علينا من القضاء والقدر، إنه دمي وروحي، كأنني المسئول الأول عن الإنسانية جميعا ..» - أحبك .. - ما المناسبة لهذا؟ - في كل مناسبة وبلا مناسبة! - إنك تتحدث عن الجهاد ولكن قلبك يتغنى بالهناء! - التفريق بين هذين سخف كالتفريق بيني وبينك .. - ألا يعني الحب الهناء والاستقرار وكراهة السجن؟ - ألم تسمعي عن النبي الذي كان يجاهد ليل نهار دون أن يمنعه من أن يتزوج تسعا؟!

ففرقعت بأصابعها هاتفة: ها هو أخوك قد أعارك فاه، أي نبي يا هذا؟

فقال ضاحكا : نبي المسلمين ! - دعني أحدثك عن كارل ماركس الذي عكف على تأليف «رأس المال» تاركا زوجه وأبناءه للجوع والبهدلة! - كان متزوجا على أي حال ..

كأن ماء البركة عصير زمرد، وهذه النسمة اللطيفة تهفو في خلسة من يونيو، والبط يسبح مسددا منقاره لالتقاط فتات الخبز، وأنت سعيد جدا، والحبيبة المتعبة ألذ من الطبيعة، يخيل إلي أن وجهها تورد، فلعلها تناست السياسة قليلا وأخذت تفكر في .. - كان المأمول يا زميلتي العزيزة أن نحظى في هذه الحديقة بحديث عذب! .. - أعذب مما كنا نتحدث به؟ - أعني حبنا! - حبنا؟ - نعم، وأنت تعلمين.

وساد الصمت مليا حتى غضت عينيها متسائلة: ماذا تريد؟ - قولي إننا نريد شيئا واحدا!

فقالت كأنما لتطيعه فحسب: نعم، ولكن ما هو؟ - حسبنا لفا ودورانا!

كأنها تفكر، فما أمر الانتظار على قصره! وإذا بها تقول: ما دام كل شيء واضحا فلم تعذبني؟

فتنهد في ارتياح عميق وقال: ما أبهج حبي!

وساد الصمت مرة أخرى كاللازمة بين النغمة والنغمة.

ثم قالت: يهمني شيء واحد! - أفندم؟ - كرامتي!

فقال كالمنزعج: هي وكرامتي شيء واحد!

فقالت بامتعاض: أنت أدرى بتقاليد أناسك! ستسمع كثيرا عن الأصل والفصل .. - كلام فارغ، أتظنينني طفلا؟

وترددت قليلا ثم قالت: لا يهددنا إلا شيء واحد هو «العقلية البورجوازية»!

فقال بقوة جعلته في تلك اللحظة أشبه ما يكون بأخيه عبد المنعم: لست منها في شيء! - هل تدرك مدى خطورة قولك؟ .. لقد عنيت أشياء تخص علاقة الرجل بالمرأة في صميمها الشخصي والاجتماعي! - مفهوم جدا .. - سوف تطالب بقاموس جديد عند الكشف عن الكلمات المأثورة مثل: حب، زواج، غيرة، الوفاء، الماضي ..! - نعم!

قد يعني هذا لا شيء، وقد يعني كل شيء، وكم من مرة خطرت له أفكار، ولكن الموقف يتطلب شجاعة فائقة، ما هو إلا امتحان لعقليته الموروثة والمكتسبة جميعا، امتحان رهيب، خيل إليه أنه أدرك ما تعني، ولعل الأمر لا يعدو أنها تمتحنه، ولكن حتى لو كان الذي أدركه فلن يتراجع، لقد اعتراه ألم ودبت في أعماقه الغيرة ولكنه لن يتراجع. - إني مسلم بما تعنين، ولكن دعيني أصارحك بأنني كنت آمل أن أحظى بفتاة عاطفية لا بفكر محاسب مدقق!

فتساءلت وعيناها تتابعان البط السابح: لتقول لك أحبك وأوافق على الزواج منك؟! - نعم!

ضاحكة .. - وهل تراني كنت أدخل في التفاصيل ما لم أكن موافقة على المبدأ!

فضغط على راحتها في رقة، فعادت تقول: وأنت تعرف كل شيء، ولكنك تود سماعه! - ولا أمل سماعه!

44 - إنها سمعة أسرتنا جميعا، وهو على أي حال ابنكم، وأنتم بعد ذلك أحرار فيما ترون!

كانت خديجة تخطب وعيناها تنتقلان بسرعة وقلق من وجه إلى وجه، من زوجها إبراهيم الذي جلس إلى يمينها إلى ابنها أحمد في الناحية المقابلة من الصالة، مارتين بياسين وكمال وعبد المنعم ..

وقال أحمد مداعبا وهو يقلد لهجتها: انتبهوا جميعا، إنها سمعة أسرة، وأنا على أي حال ابنكم! فقالت له بصوت متشك مليء بالمرارة: ما هذا البلاء يا بني «أنت لا ترضى أن يحكمك أحد ولو كان أباك، وتأبى المشورة ولو كانت في صالحك، دائما أنت على صواب والناس جميعا على خطأ، تركت الصلاة قلنا ربنا يهديه، رفضت أن تدخل الحقوق كأخيك قلنا المستقبل بيد الله. قلت أشتغل جورنالجي قلنا اشتغل عربجي! ..»

فقال باسما: والآن أريد أن أتزوج! .. - تزوج، كلنا يسر لهذا، ولكن الزواج له شروط! - ومن يضع شروطه؟ - العقل السليم! - عقلي اختار لي .. - ألم تثبت لك الأيام بعد أنه لا يصح الاعتماد على عقلك وحده؟! - أبدا، والمشورة جائزة في كل شيء إلا الزواج فهو كالطعام سواء بسواء! .. - الطعام! أنت لا تتزوج من فتاة فحسب ولكن من أسرتها كلها - ونحن - أهلك - نتزوج بالتبعية معك.

فضحك أحمد ضحكة عالية وقال: كلكم! هذا أكثر مما يحتمل، خالي كمال لا يريد أن يتزوج، وخالي ياسين يود لو يتزوجها وحده ..

وضحكوا جميعا إلا خديجة، ثم قال ياسين قبل أن تزايل وجهه هيئة الضحك: إذا كان في هذا فض المشكلة فأنا على أتم استعداد للتضحية!

فهتفت خديجة: اضحكوا، إنه يتشجع بضحككم، خير من ذلك أن تصارحوه بآرائكم، ما رأيكم فيمن يرغب في الزواج من «كريمة» عامل المطبعة التي يعمل بمجلتها؟ إنه يعز علينا أن تعمل بالمجلة «جورنالجي» فكيف وأنت تريد أن تصاهر عمالها! أليس لك رأي يا سي إبراهيم؟

فرفع إبراهيم شوكت حاجبيه كأنما يريد أن يقول شيئا، ولكنه سكت، فعادت تقول: لو وقعت هذه المصيبة فسيمتلئ بيتك ليلة الزفاف بعمال المطبعة والعنابر والحوذية، والله أعلم بما خفي!

فقال أحمد بتأثر: لا تتكلمي هكذا عن أهلي! - يا رب السماوات، أتنكر أن هؤلاء هم أهلها؟ - سأتزوجها هي وحدها، إني لا أتزوج بالجملة ..

فقال إبراهيم شوكت في ضجر: لن تتزوجها وحدها، الله يتعبك كما تتعبنا!

فقالت خديجة متشجعة بمعارضة زوجها: ذهبت لزيارة بيتها كما تقضي العادة، قلت أرى عروس ابني، فوجدتهم يقيمون في بدروم في شارع كله يهود على الصفين، وأمها لا تفترق في هيئتها عن الخادمات المحترفات، والعروس نفسها لا يقل عمرها عن ثلاثين عاما، إي والله، ولو كان بها ذرة من جمال لعذرته، لماذا يريد أن يتزوجها؟ أنه مسحور، سحرته بحيلة، إنها تعمل معه في المجلة المشئومة، لعلها غافلته فوضعت له شيئا في القهوة أو الماء، اذهبوا وشوفوها واحكموا، أنا غلبت. لقد عدت من الزيارة لا أكاد أرى الطريق من حزني وأسفي .. - إنك تغضبينني، لن أغفر لك كلامك هذا. - العفو! العفو يا سيد الملاح! الحق علي، أنا طول عمري عيابة فرماني ربنا في أولادي بكل العيوب، أستغفر الله العظيم. - مهما تقولت عنهم فليس فيهم من يرمي الناس بالباطل .. مثلك! .. - بكرة يا ما تسمع، ويا ما تعرف، سامحك الله على إهانتي. - أنت التي أهنتني بما فيه الكفاية! - إنها تطمع في مالك، ولولا خيبتك ما طمعت في أحسن من بياع جرائد .. - إنها محررة في المجلة بمرتب ضعف مرتبي .. - جورنالجية هي الأخرى! .. ما شاء الله، وهل تتوظف إلا الفتاة البائرة أو القبيحة أو المسترجلة! - سامحك الله .. - فليسامحك أنت على ما تصب علينا من عذاب!

وهنا قال ياسين الذي كان يتابع الحديث ويده لا تمسك عن فتل شاربه: اسمعي يا أختي، لا داعي للنقار، سنصارح أحمد بما ينبغي قوله ولكن لا جدوى من الشجار ..

ونهض أحمد كالغاضب وهو يقول: عن إذنكم سأرتدي ملابسي لأذهب إلى عملي ..

ولما ذهب انتقل ياسين إلى جانب أخته ومال عليها قائلا: لن يفيدك الشجار شيئا، نحن لا نحكم أبناءنا، إنهم يرون أنفسهم خيرا منا وأذكي، إذا كان لا بد من الزواج فليتزوج، فإن سعد كان بها وإلا فهو المسئول عن نفسه، أنا لم يستقر بي بيت إلا بزنوبة كما تعلمين! فعسى أن يكون الخير فيما اختار، ثم إننا لا نعقل بالكلام ولكن بالتجارب.

ثم مستدركا وهو يضحك: ولو أنه لا الكلام ولا التجارب عقلتني!

وعلق كمال على قول ياسين قائلا: الحق فيما قال أخي ..

فحدجته بنظرة عتاب قائلة: أهذا كل ما عندك يا كمال؟ إنه يحبك فلو أنك حدثته على انفراد ..

فقال كمال: إني خارج معه وسأحدثه، ولكن كفي عن الشجار، إنه رجل حر، ومن حقه أن يتزوج ممن يشاء، أتستطيعين منعه أم تنوين مقاطعته؟

وقال ياسين باسما: الأمر بسيط يا أختي، يتزوج اليوم ويطلق غدا، نحن مسلمون لا كاثوليك ..

فضيقت عينيها الصغيرتين وقالت بفم شبه مغلق: طبعا، من محام غيرك يدافع عنه؟ صدق من قال إن الولد لخاله؟

فضحك ياسين ضحكته العظيمة وقال: الله يسامحك، لو ترك النساء تحت رحمة النساء لما تزوجت امرأة قط!

فأشارت إلى زوجها وقالت: أمه الله يرحمها هي التي اختارتني بنفسها!

فقال إبراهيم وهو يتنهد باسما: ودفعت الثمن، الله يرحمها ويعفو عنها؟

ولكنها لم تأبه لتعليقه وعادت تقول متحسرة: لو كانت جميلة! .. إنه أعمى!

فقال إبراهيم ضاحكا: مثل أبيه!

فالتفتت نحوه غاضبة وقالت: أنت جاحد كجنس الرجال!

فقال الرجل بهدوء: بل نحن صابرون ولنا الجنة ..

فصاحت به: إذا كنت ستدخلها فبفضلي .. أنا التي علمتك دينك! •••

غادر كمال وأحمد السكرية معا. وكان يقف من مشروع هذا الزواج موقف الشك والتردد. إنه لا يمكن أن يتهم نفسه بالمحافظة على التقاليد السخيفة، أو بالفتور حيال مبادئ المساواة والإنسانية، ومع ذلك فالواقع الاجتماعي الذي لا يد له في بشاعته حقيقة واقعة لا يجوز أن يتجاهلها إنسان، وقديما ولع عهدا بقمر بنت أبي سريع صاحب المقلى، فكادت - رغم جاذبيتها - تحدث له عقدة برائحة جسدها المحزنة. غير أنه كان رغم هذا معجبا بالشاب، غابطا له شجاعته وقوة إرادته وغيرهما من المزايا التي حرم هو منها وعلى رأسها الإيمان والعمل والزواج، كأنما قد بعث في الأسرة كفارة عن جموده وسلبيته. ما الذي يجعل للزواج هذه الخطورة في نظره بينا هو في نظر الآخرين لا يزيد عن السلام عليكم .. وعليكم السلام؟! - إلى أين يا فتى؟ - المجلة يا خالي، وأنت؟ - مجلة الفكر لأقابل رياض قلدس، ألا تفكر قليلا قبل أن تخطو هذه الخطوة؟ - أي خطوة يا خالي! لقد تزوجت بالفعل! - حقا؟ - حقا، وسوف أقيم في الدور الأول من بيتنا نظرا لأزمة المساكن .. - يا له من تحد سافر! - نعم، ولكنها لن توجد في البيت إلا حين تكون أمي قد نامت ..

وبعد أن أفاق من وقع الخبر سأله باسما: وهل تزوجت على سنة الله ورسوله؟

فضحك أحمد أيضا وقال: طبعا، الزواج والدفن على سنن ديننا القديم، أما الحياة فعلى دين ماركس!

ثم وهو يودعه: خالي، ستعجبك جدا، سترى وتحكم بنفسك، إنها شخصية ممتازة بكل معنى الكلمة ..

45

يا لها من حيرة، كأنها مرض مزمن، فكل أمر يبدو ذا وجوه متعددة متساوية يتعذر فيها الاختيار، تستوي في ذلك المسألة الميتافيزيقية والتجربة البسيطة من الحياة اليومية، فإزاء كل تعترض الحيرة والتردد. أيتزوج أم لا؟ كان ينبغي أن يقطع برأي لكنه يدور حول نفسه حتى يصيبه الدوار ويختل منه ميزان الروح والعقل والحواس ثم تنجلي الدوامة عن موقف لم يتغير وسؤال لم يظفر بالجواب بعد وهو: أيتزوج أم لا. قد يضيق أحيانا بحريته فيثقل عليه الشعور بالوحدة أو يضجر من معاشرة الأشباح الفكرية الخاوية فيحن إلى الأليف وتئن في محبسه غرائز الأسرة والحب تروم متنفسا، ثم يتخيل نفسه زوجا قد برأ من التركيز في ذاته وتبددت أوهامه لكنه فني في الوقت نفسه في الأبناء واستغرقه الرزق ومطالبه فتراكمت عليه مشاغل الحياة اليومية، فينزعج أيما انزعاج ويقرر الاستمساك بانطلاقة مهما تجشم من وحشة وعذاب، بيد أنه لا ينعم بالاستقرار طويلا فلا يلبث أن يعود إلى التساؤل مرة أخرى، وهكذا وهكذا، فأين المقر؟ وبدور فتاة ممتازة حقا، لا يعيبها اليوم أن تركب الترام ما دامت قد ولدت وشبت في جنة الملائكة التي شغفت قلبه قديما؛ فهي كالشهاب الساقط، وهي فتاة ممتازة حقا في حسنها وخلقها وثقافتها، ثم إنها ليست عسيرة المنال فهي الزوجة الواعدة بكل معنى الكلمة إذا أراد أن يتقدم، وما عليه إلا أن يتقدم، وإلى هذا كله فهو لا يسعه إلا أن يسلم باحتلالها مركز الاهتمام من وعيه؛ فهي آخر ما يودع من أطياف الحياة قبل النوم وهي أول ما يستقبل من أطيافها عند الاستيقاظ، ثم لا تكاد تغادر خياله طوال يومه، وما إن يحظى برؤيتها البصر حتى يخفق الفؤاد مرددا أنغاما شجية من أوتار علاها الصدأ، ثم إن دنياه لم تبق كما كانت، دنيا حيرة وعذاب ووحشة، داخلتها نسائم وجرى فيها ماء الحياة، فإن لم يكن هذا هو الحب فما عسى أن يكون؟! وطوال الشهرين الماضيين جعل من شارع ابن زيدون مقصده كل أصيل، يقطعه على مهل، مسددا عينيه إلى الشرفة حتى تلتقي بعينيها ثم يتبادلان الابتسام كما يجدر بزميلين، وقد بدا ذلك كما تقع المصادفات، ثم تكرر وقوعه كأنما عن عمد، فما يجيء ميعاده حتي يجدها بمجلسها من الشرفة تقرأ في كتاب أو تسرح الطرف، فأيقن أنها تنتظره؛ إذ لو شاءت أن تمحو هذا المعنى من ذهنه ما كلفها ذلك إلا تجنب الشرفة دقائق كل أصيل. ولكن ماذا تظن بمروره وابتسامته وتحيته؟! لكن مهلا، أن الغرائز لا تخطئ، كلاهما يود أن يلقى صاحبه، وقد استخفه لذلك الطرب وأسكره السرور، وملأه إحساس بجدوى الحياة لم يشعر به من قبل، غير أن هذا الهناء كله لم يمض دون قلق يشوبه، كيف لا وهو لم يجمع بعد على عزم، ولم يتضح له سبيل، ولكن تيارا جرفه فاستسلم له وهو لا يدري كيف مجراه ولا أين مرساه! قليل من العقل يوجب عليه أن يتدبر أمره ولكن فرحة الحياة صدته في إشفاق، فثمل سرورا دون أن يخلو من قلق. وقال له رياض: أقدم فهذه فرصتك، ورياض منذ أن لبس خاتم الخطوبة وهو يتحدث عن الزواج كأنه غاية الإنسان الأولى والأخيرة في هذه الحياة. فيقول مزهوا أنه سيقتحم هذه التجربة الفريدة غير هياب فيتاح له أن يفهم الحياة فهما جديدا صادقا؛ ومن ثم يفتح أبواب قصصه للحياة الزوجية والأطفال .. أليست هذه هي الحياة أيها الفيلسوف السابح فوق الحياة؟ فأجابه متهربا: أنت اليوم خصم؛ فأنت آخر من يصلح حكما، وسوف أفتقد فيك المشير الصادق! وبدا له الحب من ناحية أخرى «دكتاتورا»، وقد علمته الحياة السياسية في مصر أن يمقت الدكتاتور من صميم قلبه؛ ففي بيت عمته جليلة كان يهب عطية جسده ثم سرعان ما يسترده وكأن ما كان لم يكن، أما هذه الفتاة المستكنة في حيائها فلن تقنع بما دون روحه وجسده جميعا إلى الأبد، ولن يجد من شعار يأتم به بعد ذلك إلا الكفاح المرير في سبيل الرزق ليؤمن حياة الأسرة والأبناء، مصير غريب يجعل من الحياة الحافلة بالجلائل مجرد وسيلة «لتحصيل» الرزق، وقد يكون الفقير الهندي سخيفا أو مجنونا ولكنه أحكم ألف مرة من الغارق حتى أذنيه في سبيل الرزق، فأنعم بالحب الذي كنت تفتقده وتتحسر عليه .. ها هو يبعث حيا في فؤادك جارا وراءه المتاعب! وقال له رياض: «أمن المعقول أن تحبها وأن يكون في وسعك أن تتزوجها .. ثم تمتنع عن زواجها؟» فأجابه بأنه يحبها ولكنه لا يحب الزواج! فقال محتجا: «إن الحب هو الذي يسلمنا للزواج؛ فما دمت لا تحب الزواج كما تقول فأنت لا تحب الفتاة!» فأجابه بإصرار: «بل أحبها وأكره الزواج.» فقال: «لعلك تخاف المسئولية»، فأجابه محتدا: «إني أحمل من أعباء المسئولية في بيتي وفي عملي ما لا تحمل بعضه»، فقال: «لعلك أناني أكثر مما أتصور»، فقال ساخرا: «وهل يتزوج الفرد إلا مدفوعا بأنانيته الظاهرة أو الخفية؟» فقال باسما: «لعلك مريض فاذهب إلى دكتور نفساني لعله يحللك»، فقال له: «من الطريف أن مقالتي القادمة في مجلة الفكر عن: «كيف تحلل نفسك»، فقال له: «أشهد لقد حيرتني»، فقال: «أنا الحائر إلى الأبد».»

ومرة وهو يقطع كعادته شارع ابن زيدون صادف في طريقه أم حبيبته متجهة نحو البيت. عرفها من أول نظرة رغم أنه لم يرها منذ سبعة عشر عاما على الأقل. ولم تكن «الهانم» التي عرفها قديما. ذبلت ذبولا محزنا وركبها الهم قبل الكبر ولم يكن في وسع إنسان أن يتصور أن هذه المرأة الساعية في هزالها هي نفس الهانم التي كانت تخطر في حديقة القصر في نهاية من الجمال والكمال! ورغم هذا كله فقد ذكرته هيئة رأسها بعايدة فقطع قلبه منظرها، وكان حسن الحظ أنه تبادل مع بدور الابتسام قبل رؤيتها وإلا ما استطاع أن يبتسم: ثم ما يدري إلا وهو يتذكر عائشة! ثم يذكر كيف أثارت عاصفة من النكد هذا الصباح في البيت وهي تبحث عن طاقم أسنانها التي نسيت أين أودعته قبل نومها. وأول أمس رأي بدور واقفة في الشرفة على غير عادتها ثم تبين أنها متهيئة للخروج! وتساءل أتخرج وحدها؟! وما لبثت أن غابت من الشرفة فمضى في سبيله متمهلا متفكرا. حقا لو جاءت وحدها فإنما تجيء له، هذا الظفر المسكر لعله يغسل إهانة حلت منذ سنين! ولكن هل كانت عايدة تفعل هذا ولو انشق القمر؟! وعندما بلغ منتصف الطريق التفت إلى الوراء فرآها قادمة .. وحدها! وخيل إليه أن خفقان قلبه سيطرق مسامع الجيران. وسرعان ما شعر بخطورة الموقف الوشيك الحدوث حتى نازعته بعض جوانب نفسه إلى الهروب! كان تبادل الابتسام قبل ذلك لهوا عاطفيا بريئا أما اللقاء فسيكون له شأن وأي شأن. هو مسئولية وخطورة ومطالبة بالحسم في الاختيار. ولو هرب الآن لمنح نفسه مزيدا من التروي .. ولكنه لم يهرب، وتقدم في خطاه المتمهلة كالمخدر حتى أدركته عند منعطف الطريق إلى شارع الجلال، وفي التفاتة منه التقت عيناهما في ابتسامة، فقال: مساء الخير .. - مساء الخير ..

وتساءل وشعوره بالخطورة يتزايد : إلى أين ؟ - عند واحدة صاحبتي، هناك في هذا الاتجاه ..

وأشارت صوب شارع الملكة نازلي، فقال في استهتار: إنه طريقي فهل تسمحين بأن نسير معا؟

فقالت وهي تداري ابتسامة: تفضل ..

وسارا جنبا إلى جنب. إنها لم تتحل بهذا الفستان الجميل لتقابل واحدة صاحبتها ولكن لتقابله هو، وها هو قلبه يستقبلها بالوجد والحنان، ولكن كيف يكون مسلكه؟ لعلها ضاقت بجموده فجاءت بنفسها لتهييء له فرصة مواتية فإما ينتهزها إكراما لها وإما يتجاهلها فيفتقدها إلى الأبد، هي كلمة قد تقال فيتورط قائلها مدى العمر أو تحبس فيندم حابسها مدى العمر، هكذا دفع إلى مأزق وهو لا يدري، وها هو الطريق يطوى ولعلها تترقب. وهي تبدو مستجيبة ملبية كأنها ليست من آل شداد. أجل ليست من آل شداد في شيء؛ لقد انتهى آل شداد، وولى زمانهم، وليست التي تسايرك إلا فتاة سيئة الحظ، والتفتت نحوه كالباسمة فقال برقة: فرصة سعيدة! - شكرا!

ثم ماذا؟! يبدو أنها تنتظر خطوة جديدة من ناحيته، وها هي نهاية الطريق تقترب، يجب أن يقطع برأي فإما التورط وإما الوداع، لعلها لا تتصور أبدا أن يفترقا ببساطة، ولو كلمة واعدة، وها المفترق على بعد خطوات، إنه يشعر شعورا مؤلما بمدى الخيبة التي ستمنى بها، ويأبى لسانه أن ينطق، أم يتكلم وليكن ما يكون؟! وتوقفت عن المسير وابتسمت ابتسامة مرتبكة كأنما تقول آن لنا أن نفترق فبلغ به الاضطراب نهايته، ثم مدت يدها، فتلقاها بيده وصمت فترة رهيبة، ثم غمغم: مع السلامة!

واستردت يدها ثم مالت إلى عطفة جانبية. أوشك أن يناديها؛ إن ذهابها متعثرة بالخيبة والخجل كابوس لا يحتمل. وأنت أدرى بهذه المواقف التعيسة؛ غير أن لسانه انعقد. فيم كانت متابعته لها طوال الشهرين الماضيين. أمن الذوق أن ترفضها وقد جاءتك بنفسها؟ أمن الرحمة أن تعاملها نفس المعاملة التاريخية التي عاملتك بها أختها؟ وأنت تحبها؟! وهل تلقى من ليلها ما لقيت من ليلتك التي خلفتها وراءك كالجمرة المتقدة تضيء في غياهب الماضي بالألم المنصهر؟!

وواصل سيره وهو يتساءل ترى أيريد حقا أن يبقى أعزب لكي يكون فيلسوفا أم إنه يدعي الفلسفة ليبقى أعزب؟ وقال له رياض: هذا شيء لا يصدق، ولسوف تندم! وهو شيء لا يصدق حقا ولكن هل يندم أيضا؟ وقال به كيف هان عليك أن تقطعها وقد كنت تتحدث عنها وكأنها فتاة أحلامك؟ ليست فتاة أحلامه .. إن فتاة أحلامه لم تكن لتسعى إليه أبدا. وأخيرا قال له: إنك في نهاية السادسة والثلاثين من عمرك ولن تكون بعد ذلك صالحا للزواج. فامتعض لقوله وداخلته كآبة ..

46

جاءت كريمة إلى السكرية في حلة العروس في عربة مع والديها وأخيها. وكان في استقبالهم إبراهيم شوكت وخديجة وأحمد وزوجه سوسن حماد وكمال. ولم يكن ثمة ما يدل على زفاف إلا طاقات الورد التي طوقت الصالة، أما المنظرة فقد امتلأت بذوي اللحى من الشبان يتوسطهم الشيخ علي المنوفي. ومع ذلك كان قد مر عام ونصف على وفاة السيد إلا أن أمينة لم تشهد الزفاف ووعدت بالحضور للتهنئة فيما بعد، أما عائشة فإنها عندما دعتها خديجة إلى شهود الدخلة الصامتة هزت رأسها عجبا وقالت بلهجة عصبية: أنا لا أشهد إلا المآتم!

وقد تألمت خديجة لقولها، ولكنها كانت قد اعتادت أن تتحلى بالحلم المثالي حيال عائشة. وقد جهز الدور الثاني بالسكرية للمرة الثانية بأثاث العرس. وجهز ياسين ابنته كما ينبغي، وباع في سبيل ذلك آخر أملاكه فلم يعد يبقى له إلا بيت قصر الشوق. وبدت كريمة آية في الجمال، وقد شابهت أمها في عهدها الزاهر خاصة في عينيها الدافئتين، ولم تكن بلغت سن الزواج إلا في الأسبوع الماضي من أكتوبر. ولاحت خديجة سعيدة كما ينبغي لأم العريس، وقد انتهزت فرصة انفرادها بكمال مرة فمالت على أذنه قائلة: على أي حال فهي ابنة ياسين، ومهما يكن من أمر فهي خير ألف مرة من عروس العنابر!

وقد مد بوفيه صغير في حجرة السفرة للأسرة، ومد آخر في الفناء لمدعوي عبد المنعم من ذوي اللحى، ولم يكن يتميز عنهم؛ إذ أرسل بدوره لحيته حتى قالت له خديجة يومذاك: الدين جميل ولكن ما ضرورة هذه اللحية التي تبدو فيها مثل محمد العجمي بياع الكسكسي؟!

وجلس أفراد الأسرة في حجرة الاستقبال ما عدا عبد المنعم الذي جالس أصحابه، وأحمد الذي شاركه الترحيب بهم بعض الوقت، ثم انتقل إلى حجرة الاستقبال حيث انضم إلى أهله وهو يقول باسما: تراجعت المنظرة في الزمان ألف عام!

فسأله كمال: فيم يتحادثون؟ - عن معركة العلمين، وقد ارتجت جدران المنظرة بأصواتهم. - وكيف شعورهم حيال انتصار الإنجليز؟ - الغضب طبعا، إنهم أعداء الإنجليز والألمان والروس جميعا، وهكذا لم يرحموا العريس حتى في ليلة زفافه ..

وكان ياسين جالسا إلى جانب زنوبة، يبدو في زينته كأنما يصغرها بعشرة أعوام، فقال: فليأكلوا بعضهم البعض بعيدا عنا، ومن رحمة ربنا أنه لم يجعل من مصر ميدان حرب ..

فقالت خديجة باسمة: لعلك تريد السلام حتى تفرغ لمزاجك!

ورمقت زنوبة بنظرة ماكرة حتى ضحك الجميع، وكان قد ذاع في الأيام القريبة الماضية أن ياسين غازل ساكنة جديدة في بيته، وأن زنوبة ضبطته متلبسا أو كالمتلبس فما زالت بالساكنة حتى اضطرتها إلى إخلاء الشقة. فقال ياسين يداري ارتباكه: كيف أفرغ لمزاجي وبيتي محكوم بالأحكام العرفية!

فقالت زنوبة في امتعاض: هلا استحييت أمام ابنتك؟

فقال ياسين في توسل: إني بريء والجارة المسكينة مظلومة! - أنا الظالمة! أنا التي ضبطت وأنا أطرق شقتها بليل ثم اعتذرت بأنني ضللت سبيلي في الظلام! هه؟ أربعون عاما في البيت ثم لا تعرف أين تقع شقتك؟!

فتعالى الضحك حتى قالت خديجة في تهكم: إنه كثير الخطأ في الظلام! - وفي النور على السواء ..

وإذا بإبراهيم شوكت يخاطب رضوان قائلا: وأنت يا رضوان كيف حالك مع محمد أفندي حسن؟

فقال ياسين مصححا: محمد أفندي زفت!

وأجاب رضوان حانقا: إنه ينعم الآن بثروة جدي التي آلت إلى أمي!

وقال ياسين محتجا: ميراث لا يستهان به، وكلما قصدها رضوان في معونة للترفيه أو خلافه تصدى له الصفيق وناقشه الحساب!

فقالت خديجة مخاطبة رضوان: إنها لم تنجب غيرك، وخير لها أن تمتعك بمالها في حياتها ..

ثم مستدركة: وقد آن لك أن تتزوج، أليس كذلك؟

فضحك رضوان ضحكة فاترة ثم قال: عندما يتزوج عمي كمال! - لقد يئست من عمك كمال، ولكن لا ينبغي أن تقلده ..

وأصغى كمال لما يدور حوله بامتعاض وإن لم يبد أثره في وجهه. لقد يئست منه ويئس هو من نفسه. وكان قد انقطع عن المرور بشارع ابن زيدون معلنا بذلك عن شعوره بذنبه، غير أنه كان يقف عند طرف المحطة ليراها في شرفتها من حيث لا تراه، لم يستطع أن يقاوم رغبته في رؤيتها، ولا أن ينكر حبه لها، أو يتجاهل نفوره وجفوله من فكرة التزوج منها! حتى قال له رياض: إنك مريض وتأبى أن تبرأ!

وسأل أحمد شوكت رضوان بلهجة ذات معنى: أكان محمد حسن يناقشك الحساب لو كان السعديون في الحكم؟

فضحك رضوان ضحكة حانقة وقال: إنه ليس الوحيد الذي يناقشني الحساب اليوم، ولكن صبرا إن هي إلا أيام أو أسابيع.

فسألته سوسن حماد: أتظن أن أيام الوفد معدودة كما يشيع خصومه؟ - أيامه رهن بمشيئة الإنجليز، وعلى أي حال فلن تطول الحرب إلى الأبد .. ثم يجيء وقت الحساب!

فقالت سوسن في جد ظاهر: المسئول الأول عن المأساة هم الذين ظاهروا الفاشيست لطعن الإنجليز من الخلف ..

وكانت خديجة ترمق سوسن بنظرة ساخرة منتقدة، متعجبة من «استرجالها» في الحديث، فما تمالكت أن قالت: المفروض أننا في فرح، تكلموا في أمور مناسبة!

ولاذت سوسن بالصمت دون اصطدام، على حين تبادل أحمد وكمال نظرة باسمة، أما إبراهيم شوكت فقال ضاحكا: عذرهم أن أفراحنا لم تعد أفراحا! الله يرحم السيد أحمد ويسكنه فسيح جناته ..

فقال ياسين متحسرا: تزوجت ثلاث مرات ولكنني لم أزف مرة واحدة!

فقالت زنوبة بانتقاد مر: أتذكر نفسك وتنسى ابنتك؟

فقال ياسين ضاحكا: نزف في الرابعة إن شاء الله ..

فقالت زنوبة في تهكم: أجلها حتى تزف رضوان!

فغضب رضوان دون أن ينبس. لعنة الله عليكم جميعا وعلى الزواج أيضا، ألا تدركون أنني لن أتزوج أبدا! وأنني أود لو أقتل من يفاتحني بهذه السيرة اللعينة. وعقب صمت قصير. قال ياسين: ليتني أبقى في بوفيه السيدات حتى لا أقف بين أصحاب اللحى الذين يخيفونني!

فأدركته زنوبة قائلة: لو عرفوا سيرتك لرجموك!

فقال أحمد ساخرا: ستخوض لحاهم في الصحاف، وتكون معركة، وخالي كمال هل يحب الإخوان؟

فقال كمال باسما: أحب منهم واحدا على الأقل!

والتفتت سوسن إلى العروس الصامتة وسألتها بمودة: وما رأي كريمة في لحية زوجها؟

فدارت كريمة ضحكة خفيفة بحني رأسها المتوج ولم تتكلم، فأجابت عنها زنوبة قائلة: قليل من الشبان من هم في تدين عبد المنعم ..

فقالت خديجة: يعجبني تدينه، هذا خلق في دم أسرتنا، ولكن لا تعجبني لحيته ..

فقال إبراهيم شوكت ضاحكا: أعترف بأن ابني - المؤمن والمارق على السواء - مجنونان!

فضحك ياسين ضحكته العظيمة وقال: الجنون خلق في دم أسرتنا أيضا!

فحدجته خديجة بنظرة احتجاج فعالجها قائلا قبل أن تنبس: أعني أنني مجنون، وأظن كمال أيضا مجنون، وإن شئت فأنا المجنون وحدي! - هذا هو الحق دون زيادة. - وهل من العقل أن يقضي إنسان على نفسه بالعزوبة؛ ليتفرغ للقراءة والكتابة؟ - سيتزوج عاجلا أو آجلا ويكون سيد العقلاء.

فسأل رضوان عمه كمال قائلا: لم لا تتزوج يا عمي؟ أريد أن أقف على الأقل على وجه اعتراضك لأدافع به عن نفسي حين الضرورة!

فقال له ياسين: أتنوي الإضراب عن الزواج؟ لن أسمح بهذا ما حييت، ولكن انتظر حتى تعودوا إلى الحكم ثم تزوج زواجا سياسيا رائعا!

أما كمال فقال له: إذا لم يكن عندك مانع فتزوج في الحال ..

هذا الشاب ما أجمله! وهو مرشح للجاه والمال! لو رأته عايدة في زمانها لعشقته، ولو ألقى نظرة عابرة على بدور لشغفها حبا، أما هو فيدور على نفسه والدنيا كلها تتقدم، ولا يزال يتساءل: أتزوج أم لا أتزوج! والحياة تبدو حيرة مظلمة. فلا هي فرصة سانحة ولا هي فرصة ضائعة، والحب عسير طبعه الخصام والعذاب، فليتها تتزوج حتى يخلص من حيرته وعذابه!

وإذا بعبد المنعم يدخل عليهم تتقدمه لحيته وهو يقول: تفضلوا إلى البوفيه، احتفالنا اليوم قاصر على المعدة ..

47

كان كمال يسير متسكعا في شارع فؤاد الأول، وكانت الساعة تدور في العاشرة من صباح الجمعة فلقي طريقا خاصا بالمارة والواقفين، نساء ورجالا، وكان الجو لطيفا كأكثر أيام نوفمبر، يغري بالمشي. وقد ألف أن يتخفف من عزلته القلبية بالاندساس بين الناس في يوم عطلته، فيمضي على وجهه بلا غاية، متسليا بمشاهدة الناس والأشياء، وصادفه في طريقه أكثر من واحد من تلاميذه الصغار فحيوه برفع أيديهم إلى رءوسهم، فرد تحيتهم بأحسن منها باسما. ما أكثر تلاميذه! منهم من توظف، ومنهم من لا يزال بالجامعة، وغالبيتهم بين الابتدائي والثانوي؛ فليس بالعمر القصير أن تخدم العلم والتعليم أربعة عشر عاما. وكان منظره التقليدي لا يكاد يتغير، البذلة الأنيقة والحذاء اللامع والطربوش المستقيم والنظارة الذهبية والشارب الغليظ، حتى درجته السادسة لم تتغير أربعة عشر عاما رغم ما يشاع عن تفكير الوفد في إنصاف الهيئات المظلومة، شيء واحد تغير هو رأسه الذي انتشر المشيب في سوالفه - وبدا سعيدا بتحيات تلاميذه الذين يحبونه ويحترمونه، وتلك منزلة لم يظفر بمثلها أحد من المدرسين، ظفر بها هو رغم رأسه وأنفه، وبالرغم مما اعترى تلاميذ هذه الأيام من شيطنة وجموح!

وعندما بلغ تسكعه تقاطع عماد الدين مع فؤاد الأول ما يدري إلا وبدور تطالعه وجها لوجه. وخفقت جوانحه كأنما انطلقت بها صفارة الإنذار، وجمد بصره لحظات، ثم هم بالابتسام ليتفادى من الموقف الحرج، غير أنها حولت عنه عينيها في تجاهل بين ودون أن تلين أساريرها ثم مرقت من جانبه، وعند ذلك فحسب رأى أنها تتأبط ذراع شاب تسير في صحبته! وتوقف عن المسير، ثم أتبعها ناظريه، أجل هي بدور، في معطف أسود أنيق، وهذا صاحبها في مثل أناقتها ولعله لم يبلغ الثلاثين بعد. وبذل جهدا صادقا ليتمالك نفسه التي هزتها المفاجأة ثم تساءل في اهتمام من يكون هذا الشاب؟ ليس أخا لها، ولا هو بالعاشق؛ إذ إن العشاق لا يجاهرون بحبهم في شارع فؤاد الأول خاصة صباح الجمعة، فهل يكون ...؟! وتتابعت دقات قلبه في إشفاق، ثم تبعهما دون تردد، وعيناه لا تفارقانهما، ووعيه مركز فيهما حتى شعر بأن حرارته ترتفع وأن ضغطه يصعد وأن دقات قلبه تنعاه، ورآهما يتوقفان أمام معرض محل لبيع الحقائب، فدنا منهما متباطئا مصوبا عينيه نحو يد الفتاة اليمنى حتى استقر بصره على الخاتم الذهبي! ولفحه إحساس حار كأنه مزيج من الألم العميق، وكان قد مضى على موقف شارع ابن زيدون أربعة أشهر، فهل كان هذا الشاب يرصده في نهاية الطريق ليحل محله؟ وما ينبغي أن يدهش؛ فإن أربعة شهور زمن طويل قد تنقلب فيه الدنيا رأسا على عقب. ووقف أمام محل اللعب على بعد يسير من موقفهما، يلحظهما وكأنه يتفرج على اللعب. إنها اليوم تبدو أجمل مما كانت في أي يوم مضى، كالعروس بكل معنى الكلمة! ولكن ما هذا السواد الذي يشيع في كافة ملابسها؟ إن سواد المعطف أمر مألوف بل فاخر ولكن ما بال فستانها أسود كذلك؟ موضة أم حداد؟ أتكون أمها قد توفيت؟ ليس من عادته تصفح الوفيات في الصحف ولكن ماذا يهمه من ذلك! الذي يهمه حقا أن صفحة بدور قد انطوت في كتاب حياته. انتهت بدور، وعرف السؤال الحائر «أتزوج أم لا أتزوج» جوابه المحتوم! فليهنأ بالطمأنينة بعد الحيرة والعذاب! وكم تمنى لو تتزوج ليخلص من عذابه. فها هي قد تزوجت فليهنأ بالخلاص من العذاب! وخيل إليه أن إنسانا لو ذبح لعانى مثل الإحساس الذي يعانيه في موقفه. إن أبواب الحياة تغلق في وجهه وقد نبذ خارج أسوارها. ثم رآهما يتحولان عن موقفهما، ويتجهان نحوه، ومرا به في سلام وأتبعهما عينيه وهم بالمسير في أثرهما ولكنه عدل عن ذلك فيما يشبه الضجر، ولبث أمام معرض اللعب، ينظر ولا يرى شيئا. ونظر صوبهما مرة أخرى كأنما ليلقي عليها نظرة الوداع، وكانت تبتعد دون توقف، تختفي تارة وراء المارة وتبدو تارة، ويرى منها جانب مرة ثم يرى جانب آخر، وكان كل وتر من أوتار قلبه يغمغم: «وداعا.» ونفذ إلى أعماقه شعور العذاب مصحوبا بأنغام حزينة ليست بالجديدة. فذكر بها حالا مماثلة ماضية، دبت في أعماقه جارة وراءها شتى ذكرياتها المدغمة، كأنها لحن غامض مثير لأجل الألم وهو في الوقت نفسه لا يخلو من لذة خفيفة مبهمة! شعور واحد يلتقي فيه الألم باللذة، كالفجر تلتقي عنده حاشية الليل بأهداب النهار. ثم اختفت عن ناظريه، وربما اختفت إلى الأبد، كما اختفت أخت لها من قبل! ووجد نفسه يتساءل: من عسى أن يكون خطيبها؟ لم يستطع أن يتفحصه وكم يود أن يفعل. وود - أن يكون موظفا - أن يكون من طبقة أدنى من طبقة المعلمين! ولكن ما هذه الأفكار الصبيانية! إنه لأمر مخجل، أما عن الألم فجدير بالخبير به أن يطمئن؛ إذ إنه عرف بالتجربة أن مصيره - ككل شيء - إلى الموت. وانتبه لأول مرة إلى معرض اللعب الذي ينبسط تحت عينيه. كان آية في التنسيق والجمال، حاويا لشتى فنون اللعب التي يهيم بها الأطفال، من قطارات وسيارات وأراجيح وأدوات موسيقية وبيوت وحدائق، فانجذب إلى المنظر أمامه بقوة غريبة تفجرت عنها نفسه المعذبة حتى تشبثت به عيناه. لم يتح له في طفولته أن ينعم بهذه الجنة، فكبر طاويا نفسه على غريزة لم تشبع وفات أوان إشباعها. وهؤلاء الذين يتحدثون عن سعادة الطفولة من أدراهم بها؟ ومن ذا يستطيع أن يجزم بأنه كان طفلا سعيدا؟ لذلك فما أسخف هذه الرغبة الطارئة البائسة التي تحلم بأن ترده طفلا مثل هذا الطفل الخشبي الذي يلعب في هذه الحديقة الوهمية الجميلة! إنها رغبة سخيفة ومحزنة في آن. ولعل الأطفال في الأصل كائنات لا تحتمل، ولعلها المهنة وحدها التي علمته كيف يمكن التفاهم معهم وتوجيههم. ولكن كيف كانت تكون الحياة لو رد إلى الطفولة محتفظا في ذات الوقت بعقله النامي وذاكرته؟ فيعود إلى اللعب في بستان السطح بقلب عامر بذكريات عايدة، أو يمضي إلى العباسية عام 1914 فيرى عايدة وهي تلعب في الحديقة ويعرف في الوقت نفسه ما لقيه منها عام 1924 وما بعده! أو يخاطب أباه وهو يلثغ فيقول له إن الحرب ستقع عام 1939 وأنه سيقضى عليه عقب إحدى غاراتها! يا لها من أفكار سخيفة ولكنها خير على أي حال من التركيز في هذه الخيبة الجديدة التي ارتطم بها الآن في شارع فؤاد، خير من التفكير في بدور وخطيبها وموقفه منها. ولعل ثمة خطأ في الماضي يكفر عنه وهو لا يدري. كيف ومتى وقع هذا الخطأ؟ لعله حادث عرض أو كلمة قيلت أو موقف كابده، هذا أو ذاك هو المسئول عن هذا العذاب الذي يعاني. يجب أن يعرف نفسه حتى يتيسر له أن يخلصها من آلامها؛ فالمعركة لم تنته بعد، والتسليم لم يقع، وما ينبغي له أن يقع، ولعله المسئول عن ذلك التردد الجهنمي الذي انتهى به إلى قضم الأظافر على حين مضت بدور متأبطة ذراع خطيبها! وينبغي التفكير مرتين في هذا العذاب المبطن بلذة غامضة؛ أليس هو الذي ذاقه قديما في صحراء العباسية وهو يتطلع إلى الضوء المنبعث من نافذة حجرة الزفاف؟ فهل كان تردده حيال بدور حيلة لدفع نفسه إلى موقف مماثل؛ ليستعيد مشاعر قديمة فيثمل بعذابها ولذتها معا؟! يحسن به قبل أن يحرك يده للكتابة عن الله والروح والمادة أن يعرف نفسه، بل شخصه المفرد، كمال أفندي أحمد، بل كمال أحمد، بل كمال فقط، حتى يتسنى له أن يخلقه من جديد. وليبدأ الليلة بمعاودة كراسة الذكريات ليتفحص الماضي جيدا، وستكون ليلة بلا نوم، ولكنها ليست الأولى من نوعها، فعنده منها ذخيرة يصح جمعها في مؤلف واحد تحت عنوان «ليالي بلا نوم». ولن يقول إن حياته عبث؛ ففي النهاية سيخلف عظاما قد تصنع منها الأجيال القادمة أداة للهو! أما بدور فقد ولت من حياته إلى الأبد. يا لها من حقيقة مليئة بالشجن، كاللحن الجنائزي! ولم تترك ذكرى حنان واحدة، لا عناق ولا قبل، حتى ولا لمسة أو كلمة طيبة، ولكنه لم يعد يخشى السهاد؛ فقديما كان يلقاه وحيدا، أما اليوم فدون ذلك أفانين تغيب فيها العقول والقلوب، ثم يذهب إلى عطية في البيت الجديد بشارع محمد علي، ثم يواصلان أحاديثهما التي لا تنقضي. وفي آخرة مرة قال لها بلسان أثقله السكر: كم يوافق أحدنا الآخر !

فقالت له بسخرية مستسلمة: ما ألطفك في سكرك! ..

فاستطرد: ما أسعدنا من زوجين لو تزوجنا ..

فقالت مقطبة: لا تهزأ بي فقد كنت «سيدة» بكل معنى الكلمة .. - نعم، نعم، إنك ألذ من الفاكهة في أبانها ..

فقرصته هازئة وقالت: هذا قولك ولكنني إذا سألتك ريالا فوق ما تعطيني هربت! - إن ما بيننا ليسمو فوق النقود!

فحدجته بنظرة احتجاج وقالت: ولكن لي طفلان يفضلان النقود على ما بيننا!

فبلغ به السكر والحزن غايتهما وقال ساخرا: أنا أفكر في التوبة أسوة بالست جليلة، ويوم يختارني التصوف فسأنزل لك عن ثروتي!

فقالت ضاحكة: إذا وصلت التوبة إليك فقل علينا السلام ..

فضحك ضحكة عالية وقال: لا كانت التوبة المضرة بمثيلاتك!

إلى هذا يفزع من السهاد! ثم شعر بأن وقفته أمام معرض اللعب قد طالت فتحول عنه وذهب ..

48

تساءل خالو صاحب حانة النجمة: حقيقي يا حبيبي أنهم سيغلقون الخمارات؟

فأجاب ياسين بثقة واطمئنان: لا سمح الله يا خالو! إن من عادة النواب أن يثرثروا عند نظر الميزانية، ومن عادة الحكومة أن تعد بالنظر في تحقيق رغبات النواب في أقرب فرصة، ومن عادة هذه الفرصة ألا تقترب أبدا ..

واستبقت جماعة ياسين بحانة محمد علي المشاركة في التعليق، فقال رئيس المستخدمين: طول عمرهم يعدون بإخراج الإنجليز، وبفتح جامعة جديدة، وبتوسيع شارع الخليج، فهل تم شيء من هذا يا خالو؟!

وقال عميد ذوي المعاشات: لعل النائب مقدم الاقتراح قد شرب خمرا زعافا من خمور الحرب فانتقم بتقديم اقتراحه ..

وقال المحامي: ومهما يكن من أمر، فإن حانات الشوارع الإفرنجية لن تمس بسوء، فما عليك يا خالو إذا وقع المحذور، إلا أن تسهم في تافرنا أو غيرها .. والخمار للخمار كالبنيان يشد بعضه بعضا!

وقال باشكاتب الأوقاف: إذا كان الإنجليز قد دفعوا بدباباتهم إلى عابدين لمسألة تافهة هي إعادة النحاس إلى الحكم، فهل تظنهم يسكتون عن إغلاق الخمارات؟!

وكان بالحجرة - إلى جماعة ياسين - نفر من أهل البلد من التجار، ولكن على الرغم من ذلك اقترح الباشكاتب أن يمزجوا سكرهم بشيء من الغناء قائلا : هلموا نغني «أسير العشق».

فبادر خالو بالعودة إلى موقفه وراء الطاولة، وراح الأصدقاء يغنون «أسير العشق يا ما يشوف هوان»، وبدت نغمة السكر أوضح الأنغام في أصواتهم حتى لاحت في وجوه أهل البلد بسمات ساخرة. غير أن الغناء لم يستمر طويلا، وكان ياسين أول المنسحبين، ثم تبعه الآخرون فلم يتم الدور إلا الباشكاتب، ثم ساد سكوت تقطعه من حين إلى حين مصمصة أو تمطق أو يد تصفق في طلب كأس أو مزة، وإذا بياسين يقول: أما من وسيلة ناجعة للحبل؟

فقال الموظف العجوز كالمحتج: لا تفتأ تسأل هذا السؤال وتعيده! .. صبرك بالله يا أخي ..

وقال باشكاتب الأوقاف: لا داعي إلى الجزع يا ياسين أفندي، ومسير بنتك تحبل!

فقال ياسين وهو يبتسم ابتسامة بلهاء: إنها عروس كالوردة، زينة السكرية، ولكنها أول فتاة في أسرتنا يمر عليها عام على زواجها دون أن تحبل، لهذا جزعت أمها! - وأبوها فيما يبدو!

فقال ياسين ضاحكا: إذا جزعت الزوجة جزع زوجها .. - لو يتذكر الإنسان قرف الأولاد لكره الحبل! - ولو! الناس يتزوجون عادة لإنجاب الذرية .. - لهم حق! لولا الأطفال ما طاق الحياة الزوجية أحد ..

فشرب ياسين كأسه وهو يقول: أخشى أن يكون ابن أختي من أتباع هذا الرأي .. - بعض الرجال ينجبون الأطفال ليشغلوا زوجاتهم بهم فيستردوا شيئا من حريتهم المفقودة!

فقال ياسين: هيهات، المرأة ترضع طفلا وتهدهد آخر ولكنها في نفس الوقت تحملق في زوجها: أين كنت؟ لماذا غبت إلى هذه الساعة؟ ومع ذلك فالحكماء لم يستطيعوا أن يغيروا هذا النظام الكوني. - ماذا منعهم؟ - أزواجهم! لم يدعن لهم فرصة للتفكير في ذلك .. - اطمئن يا ياسين أفندي، فإن زوج بنتك لا يمكن أن ينسى فضل ابنك في توظيفه .. - كل شيء ينسى ..

ثم - وهو يضحك - وقد دغدغت الخمر رأسه: ثم إن «المحروس» نفسه خارج الحكم الآن! - آه! والوفد سيعمر هذه المرة فيما يبدو ..

وإذا بالمحامي يقول بلهجة خطابية: لو سارت الأمور سيرا طبيعيا في مصر لحكم الوفد إلى الأبد ..

فقال ياسين ضاحكا: هذا القول له وجاهته لولا خروج ابني على الوفد! - ولا تنسوا حادث القصاصين! إذا مات الملك فقل على أعداء الوفد السلام! - الملك بسلام! - الأمير محمد علي يعد بذلة التشريفة! وهو منسجم مع الوفد طول عمره .. - الجالس على العرش - أيا كان اسمه - هو عدو للوفد بحكم مركزه؛ كالويسكي والحلوى لا يتفقان!

فقال ياسين وهو يضحك نشوة: لعل الحق معكم؛ فأكبر منك بيوم يعرف أكثر منك بسنة، وأنتم منكم من بلغ أرذل العمر ومنكم من يوشك أن يدركه! - اسم الله عليك يا ابن السبعة والأربعين! - على أي حال فأنا أصغركم سنا ..

ثم فرقع بأصابعه وهو يتمايل نشوة وخيلاء، واستطرد: ولكن العمر الحقيقي لا يقاس بالسنين، ولكن بالنشوة ينبغي أن يقاس، والخمر قد انحطت نوعا ومذاقا في أيام الحرب ولكن نشوتها هي هي، وعند الاستيقاظ صباحا يدق رأسك الصداع فتفتح عينيك بكماشة ثم تتجشأ كحولا، غير أني أقول لكم إنه في سبيل النشوة يهون أي شيء، ورب أخ يتساءل: والصحة؟ أجل لم تعد الصحة كما كانت، وابن السبعة والأربعين غير مثيله في الزمن الأول؛ مما يدل على أن كل شيء قد غلا ثمنه في الحرب إلا العمر فلا ثمن له، في الزمن الأول كان الرجل يتزوج في الستين من عمره أما في زماننا الغادر فابن الأربعين يسأل أهل العلم عن الوصفات المقوية، والعريس في شهر العسل قد يوحل في شبر ماء! - الزمن الأول! أهل الدنيا جميعا يسألون عنه!

فعاد ياسين يقول وقد أخذت أنغام السكر ترن في أوتار صوته: الزمن الأول، اللهم ارحم أبي، شد ما ضربني ليمنعني من الاشتراك الدموي في الثورة! ولكن الذي لا ترهبه قنابل الإنجليز لا يرهبه الزجر! وفي قهوة أحمد عبده كنا نجتمع لتدبير المظاهرات وقذف القنابل .. - هذه الأسطوانة من جديد! خبرني يا ياسين أفندي أكان وزنك أيام الجهاد كوزنك اليوم؟ - وأثقل، غير أني كنت حين الجد كالنحلة، وفي يوم المعركة الكبرى سرت على رأس المظاهرة أنا وأخي أول شهداء الحركة الوطنية، فسمعت أزيز الرصاص وهو يمرق لصق أذني ويستقر في أخي، يا للذكرى! لو امتد به العمر للحق بركب الوزراء المجاهدين! - ولكن العمر امتد بك أنت! - نعم، ولكن ما كان بوسعي أن أكون وزيرا بالابتدائية، ثم إننا في جهادنا توقعنا الموت لا المناصب، غير أنه لا بد أن يموت أناس ويتبوأ المناصب آخرون، وفي جنازة أخي مشى سعد زغلول فقدمني إليه زعيم الطلبة، هذه ذكرى عظيمة أخرى! - ولكن كيف وجدت - رغم جهادك - متسعا للعربدة والعشق! - اسمعوا يا هوه! وهؤلاء الجنود الذين يضاجعون النساء في الطرق أليسوا هم الذين ردوا رومل على أعقابه؟! فالجهاد لا يكره الفرفشة، والخمر لو علمتم روح من الفروسية، والمجاهد والسكران أخوان يا أولي الألباب! - وسعد زغلول ألم يقل لك شيئا في جنازة أخيك؟

فأجاب عنه المحامي قائلا: قال له: ليتك كنت الشهيد أنت!

وضحكوا، وكانوا في هذه الحال يضحكون أولا ثم يتساءلون عن السبب، وضحك معهم ياسين في أريحية صافية ثم واصل حديثه قائلا: لم يقل هذا، كان رحمه الله مؤدبا لا كحضرتك، وكان ابن حظ أيضا؛ ولذلك كان واسع الآفاق، فكان سياسيا ومجاهدا وأديبا وفيلسوفا وقانونيا، وكانت كلمة منه تحيي وتميت! - الله يرحمه. - ويرحم الجميع، كل ميت يستحق الرحمة، بحسبه أنه فقد الحياة، حتى المومس وحتى القواد، وحتى الأم التي كانت تبعث بابنها إلى رفيقها ليعود إليها به .. - وهل يمكن أن توجد هذه الأم؟ - كل ما تتصور وما لا تتصور يوجد في الحياة! - ألم تجد إلا ابنها؟ - ومن أرعى للأم من الابن؟! ثم إنكم جميعا أبناء المضاجعة! - الشرعية! - هذه شكليات أما الحقيقة فواحدة، وقد عرفت مومسات بائسات كان فراشهن يخلو من ضجيع أسبوعا أو أكثر، دلوني على أم من أمهاتكم قضت مثل هذه الفترة بعيدا عن قرينها؟ - لا أعرف شعبا كالشعب المصري ولعا بالخوض في أعراض الأمهات! - نحن شعب قليل الأدب!

فقال ياسين ضاحكا: إن الزمن أدبنا أكثر مما ينبغي، والشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده؛ ولذلك فنحن غير مؤدبين! ولكن تغلب علينا الطيبة رغم ذلك، فالتوبة عادة ختامنا! - ها أنا من ذوي المعاشات ولكنني لم أتب بعد! - التوبة لا تخضع لكادر الموظفين. ثم إنك لا تفعل شيئا ضارا، إنك تسكر ساعات كل ليلة وليس في ذلك من بأس، وسوف يمنعك من السكر يوما المرض أو الطبيب وكلاهما شيء واحد، ونحن بطبعنا ضعفاء، ولولا ذلك ما ألفنا الخمر ولا صبرنا على الحياة الزوجية، ونزداد بمرور الأيام ضعفا ولكن رغائبنا لا تقف عند حد، هيهات، فنتعذب ثم نسكر مرة أخرى. ويشيب شعرنا فيفضح منا المستور وإذا بصفيق يعترض سبيلك في الطريق وهو يقول: «عيب أن تطارد امرأة وشعرك شايب!» يا سبحان الله! ما لك أنت إذا كنت شابا أم شيخا، أتبع امرأة أم أتبع حمارة! حتى تخال حينا أن الناس متآمرون مع زوجك عليك، وهنالك إلى ذلك كله الدلال بتقله والعسكري بهراوته، حتى الخادمة تتيه دلالا في سوق الخضار، وهكذا تجد نفسك في عالم مشاكس لا صديق لك فيه إلا الكأس، ثم يجيء دور المرتزقة من الأطباء فيقولون لك بكل بساطة: «لا تشرب!» - ومع ذلك أتنكر أننا نحب الدنيا بكل قلوبنا؟ - بكل قلوبنا! والشر نفسه لا يخلو من خير، حتى الإنجليز لا يخلون من خير. لقد عرفتهم يوما عن كثب، وكان لي منهم أصدقاء على عهد الثورة!

فهتف المحامي: ولكنك كنت تجاهدهم .. أنسيت؟! - نعم .. نعم، لكل حال ما يناسبها، وفي مرة ظنوني جاسوسا لولا أن سارع إلي زعيم الطلبة في اللحظة المناسبة فدل القوم على حقيقتي فهتفوا لي، وكان ذلك في جامع الحسين! - يعيش ياسين .. يعيش ياسين! ولكن ماذا كنت تفعل في جامع الحسين؟! - أجب، هذه نقطة هامة جدا ..!

فضحك ياسين ثم قال: كنا نصلي الجمعة، وكان من عادة أبي أن يأخذنا معه لصلاة الجمعة، ألا تصدقون؟ سلوا أهل الحسين؟! - كنت تصلي زلفى لأبيك؟ - ولله، لا تسيئوا الظن بنا، نحن أسرة دينية، أجل كلنا سكيرون فاسقون، ولكن في النهاية تنتظرنا التوبة!

وهنا تأوه المحامي قائلا: ألا نعاود الغناء قليلا؟

فبادره ياسين قائلا: أمس غادرت الحانة وأنا أغني فاعترضني شرطي وهتف بي محذرا: «يا أفندي!» فسألته: «ألا يحق لي أن أغني؟» فقال: «ممنوع الزعيق بعد الساعة 12.» فقلت محتجا: «ولكنني أغني!» فقال بحدة: «كله زعق أمام القانون.» فسألته: «والقنابل التي تنفجر بعد الساعة 12 ألا تعد زعقا؟» فقال مهددا: «الظاهر أنك ترغب في البيات في القسم!» فابتعدت عنه وأنا أقول: «بل الأفضل أن أبيت في البيت!» كيف نكون أمة متحضرة والعساكر تحكمنا؟! وفي البيت تلقى زوجك بالمرصاد، وهنالك في الوزارة رئيسك، حتى في التربة يستقبلك ملاكان بالهراوات ..

وعاد المحامي يقول: فلنمز بشيء من الغناء ..

فتنحنح عميد ذوي المعاشات ثم راح يترنم:

جوزي اتجوز عليه

ولسه الحنة في إيديه

يوم ما جه وجبها عليه

دي نار يا ناس وآدت فيه

وسرعان ما رددوا المطلع في حماس همجي، وكان ياسين يغرق في الضحك حتى دمعت عيناه ...

49

كثيرا ما كانت تشعر خديجة بأنها وحيدة. ومع أن إبراهيم شوكت - خاصة منذ أن قارب السبعين - كان يعتكف في بيته طوال أيام الشتاء، إلا أنه لم يستطع أن يبدد وحشتها، ولم تهن في القيام بواجبات بيتها، غير أنها - الواجبات - باتت أهون من أن تستغرق حيويتها ونشاطها؛ فعلى تجاوزها السادسة والأربعين لم تزل قوية نشيطة وازدادت جسامة. وأسوأ من هذا أن وظيفتها كأم قد انقطعت على حين أن دورها كحماة لم ولن يبدأ أبدا فيما بدا. فإحدى الزوجتين ابنة أخيها، والأخرى موظفة لا تكاد تلتقي بها إلا فيما ندر من الأوقات والمناسبات. فكانت تروح عن صدرها المكبوت فيما يدور من حديث بينها وبين زوجها المتلفع بعباءته. - مضى أكثر من عام على زواجهما ولم نوقد شموعا!

فهز الرجل منكبيه استهانة دون تعليق فعادت تقول: لعل عبد المنعم وأحمد يعدان الذرية موضة قديمة كطاعة الوالدين!

فقال الرجل في ضجر: أريحي نفسك فهما سعيدان وحسبنا هذا.

فتساءلت في حدة: إذا كانت العروس لا تحبل ولا تلد فما فائدتها؟ - لعل ابنيك يخالفانك في هذا الرأي! - لقد خالفاني في كل شيء، ما أضيع تعبي وأملي ... - أيحزنك ألا تكوني جدة؟

فقالت في حدة تعالت درجتها: إن حزني عليهما لا على نفسي! - لقد عرض عبد المنعم كريمة على الطبيب فبشره خيرا ... - أنفق المسكين كثيرا وسينفق غدا أكثر، إن عرائس اليوم غالية الثمن كالطماطم واللحوم!

فضحك الرجل دون تعليق فاستطردت تقول: أما الأخرى فأستعين عليها بسيدي المتولي. - اعترفي بأن لسانها كالشهد! - مكر ودهاء، ماذا تتوقع من ابنة العنابر؟ - اتقي الله يا شيخة! - ترى متى يذهب بها «الأستاذ» إلى الطبيب؟ - إنهما زاهدان في هذا! - طبعا، إنها موظفة، فمن أين تجد وقتا للحبل والولادة؟ - إنهما سعيدان ما في ذلك شك. - الموظفة لا يمكن أن تكون زوجة صالحة، وسيعرف ذلك بعد فوات الأوان ... - إنه رجل ولن يضيره ذلك ... - ليس في هذا الحي كله شابان كولدي فيا للخسارة! •••

وكان عبد المنعم قد تبلور طابعه واتجاهه، فأثبت أنه موظف كفء و«أخ» نشيط، وقد انتهى الإشراف على شعبة الجمالية إليه فعين مستشارا قانونيا لها، وأسهم في تحرير المجلة، وكان يلقي المواعظ أحيانا في المساجد الأهلية. وجعل من شقته ناديا لإخوانه يسهرون عنده كل ليلة وعلى رأسهم الشيخ علي المنوفي. وكان الشاب شديد التحمس موفور الاستعداد كي يضع جميع ما يملك من جهد ومال وعقل في خدمة الدعوة التي آمن بكل قلبه - على حد تعبير المرشد - بأنها دعوة سلفية وطريقة سنية وحقيقة صوفية وهيئة سياسية وجماعة رياضية ورابطة علمية ثقافية وشركة اقتصادية وفكرة اجتماعية. وكان الشيخ علي المنوفي يقول: تعاليم الإسلام وأحكامه شاملة تنظيم شئون الناس في الدنيا والآخرة، وإن الذين يظنون أن هذه التعاليم إنما تتناول الناحية الروحية أو العبادة دون غيرها من النواحي مخطئون في هذا الظن، فالإسلام عقيدة وعبادة ووطن وجنسية ودين ودولة وروحانية ومصحف وسيف ...

فيقول شاب من المجتمعين: هذا هو ديننا، ولكننا جامدون لا نفعل شيئا والكفر يحكمنا بقوانينه وتقاليده ورجاله ...

فيقول الشيخ علي: لا بد من الدعاية والتبشير، وتكوين الأنصار المجاهدين، ثم تجيء مرحلة التنفيذ ... - وإلام ننتظر؟ - لننتظر حتى تنتهي الحرب، إن الحقل مهيأ لدعوتنا، وقد نزع الناس ثقتهم من الأحزاب، وعندما يهتف الداعي في الوقت المناسب يهب الإخوان وكل مدرع بقرآنه وسلاحه ...

عبد المنعم بصوته القوي العميق: فلنوطن النفس على جهاد طويل، إن دعوتنا ليست موجهة إلى مصر وحدها، ولكن إلى كافة المسلمين في الأرض، ولن يتحقق لها النجاح حتى تجمع مصر والأمم الاسلامية على هذه المبادئ القرآنية، فلن نغمد السلاح حتى نرى القرآن دستورا للمسلمين أجمعين ...

الشيخ علي المنوفي: أبشركم بأن دعوتنا تنتشر بفضل الله في كل بيئة، لها اليوم مركز في كل قرية، إنها دعوة الله، والله لا يخذل قوما ينصرونه ...

وفي نفس الوقت، كان يستعر نشاط آخر في الدور التحتاني وإن اختلف الهدف. ولم يكن وفير العدد كهذا، فان أحمد وسوسن كانا يجتمعان في كثير من الليالي بعدد محدود من الأصدقاء مختلفي النحل والملل، أكثرهم من البيئة الصحفية. وقد زارهم الأستاذ عدلي كريم ذات مساء، وكان على علم بما يدور بينهم من مناقشات نظرية. فقال لهم: حسن أن تدرسوا الماركسية، ولكن تذكروا أنها وإن تكن ضرورة تاريخية إلا أن حتميتها ليست من نوع حتمية الظاهرات الفلكية. إنها لن توجد إلا بإرادة البشر وجهادهم، فواجبنا الأول ليس في أن نتفلسف كثيرا ولكن في أن نملأ وعي الطبقة الكادحة بمعنى الدور التاريخي الذي عليها أن تلعبه لإنقاذ نفسها والعالم جميعا ...

أحمد: إننا نترجم الكتب القيمة عن هذه الفلسفة الخاصة من المثقفين، ونلقي المحاضرات الحماسية على العمال المجاهدين، وكلا العملين واجب لا غنى عنه ...

فقال الأستاذ: ولكن المجتمع الفاسد لن يتطور إلا باليد العاملة، وحين يمتلئ وعيها بالإيمان الجديد، ويمسي الشعب كله كتلة واحدة من الإرادة، فهنالك لن تقف في سبيلنا القوانين الهمجية ولا المدافع ... - كلنا مؤمنون بذلك، غير أن كسب العقول المثقفة يعني السيطرة على الفئة المرشحة للتوجيه والحكم ...

وإذا بأحمد يقول: سيدي الأستاذ، ثمة ملاحظة أود إبداءها، عرفت بالتجربة أنه ليس من العسير إقناع المثقفين بأن الدين خرافة وأن الغيبيات تخدير وتضليل، ولكن من الخطورة بمكان مخاطبة الشعب بهذه الآراء، وأن أكبر تهمة يستغلها أعداؤنا هي رمي حركتنا بالإلحاد أو الكفر ...؟ - إن مهمتنا الأولى أن نحارب روح القناعة والخمول والاستسلام، أما الدين فلن يتأتى القضاء عليه إلا في ظل الحكم الحر، ولن يتحقق هذا الحكم إلا بالانقلاب، وعلى العموم فالفقر أقوى من الإيمان، ومن الحكمة دائما أن تخاطب الناس على قدر عقولهم ...

ونظر الأستاذ إلى سوسن باسما وهو يقول: كنت تؤمنين بالعمل فهل بت تقنعين بالنقاش في ظل الزواج؟ ...

وكانت تدرك أنه يداعبها وأنه لا يعني ما يقول، ومع ذلك فقد قالت جادة: إن زوجي يحاضر العمال في الخرابات النائية، وأنا لا أني أوزع المنشورات بنفسي ...

ثم قال أحمد مغتما: إن عيب حركتنا أنها تجذب إليها كثيرين من النفعيين غير المخلصين، من هؤلاء من يعمل بغية الأجر أو من يعمل للمصلحة الحزبية!

فقال الأستاذ عدلي كريم وهو يهز رأسه الكبير في استهانة واضحة: أعلم هذا حق العلم، ولكني أعلم أيضا أن الأمويين قد ورثوا الإسلام وهم لا يؤمنون به ومع ذلك فهم الذين نشروه في بقاع العالم القديم حتى إسبانيا! فمن حقنا أن نستفيد من هؤلاء، علينا أن نحذرهم في الوقت نفسه، ولا تنسوا أن الزمن معنا على شرط أن نبذل ما في وسعنا من جهد وتضحية ... - والإخوان يا أستاذ! لقد بتنا نشعر بأنهم عقبة خطيرة في سبيلنا. - لا أنكر هذا، ولكنهم ليسوا بالخطورة التي تتخيلها، ألا ترى أنهم يخاطبون العقول بلغتنا فيقولون اشتراكية الإسلام؟ فحتى الرجعيون لم يجدوا بدا من استعارة اصطلاحاتنا، وهم لو سبقونا إلى الانقلاب فسوف يحققون بعض مبادئنا ولو تحقيقا جزئيا. ولكنهم لن يوقفوا حركة الزمن المتقدمة إلى هدفها المحتوم، ثم إن نشر العلم كفيل بطردهم كما يطرد النور الخفافيش! •••

ومضت خديجة تراقب مظاهر هذا النشاط الغريب في دهشة مقرونة بالامتعاض والسخط، حتى قالت يوما لزوجها: لم أر بيتا كبيتي عبد المنعم وأحمد، لعلهما قهوتان وأنا لا أدري، فلا يجيء المساء حتى يمتلئ الطريق بالزوار من أصحاب اللحى والخواجات، لم أسمع عن شيء كهذا من قبل.

فهز الرجل رأسه قائلا: آن لك أن تسمعي ...!

فقالت بحدة: إن مرتبيهما لن يكفيا ثمن القهوة التي تقدم للضيوف! - هل اشتكيا إليك الفقر ؟ - والناس؟ ماذا يقولون وهم يرون أفواجا تدخل وأفواجا تخرج؟ - كل واحد حر في بيته.

فنفخت قائلة: إن أصوات أحاديثهم التي لا تنتهي تعلو أحيانا حتى تخرج إلى الحارة ... - فلتخرج إلى الحارة أو فلتصعد إلى السماء ...

وتنهدت خديجة من الأعماق وهي تضرب كفا بكف ...

50

كانت فيلا عبد الرحيم باشا عيسى بحلوان تودع الفوج الأخير من الزوار الذين جاءوا يودعونه قبيل سفره إلى الأراضي الحجازية لأداء فريضة الحج ... - إن الحج أمنية قديمة، لعن الله السياسة فهي التي شغلتني عنه عاما بعد عام، ولكن في مثل عمري يجب أن يفكر المرء في أداء اللقاء القريب بربه ...

فقال علي مهران وكيل الباشا: لعن الله السياسة!

فردد الباشا عينيه الذابلتين بين رضوان وحلمي متفكرا ثم قال: قل فيها ما شئت، غير أن لها جميلا في عنقي لا أنساه وهو أنها سلتني عن وحشتي، إن الأعزب العجوز مثلي يلتمس الأنس ولو في الجحيم! ...

فلعب علي مهران حاجبيه وقال: ونحن يا باشا ألم نقم بواجبنا في تسليتك؟ - دون شك، ولكن يوم الأعزب طويل كليل الشتاء، ولا بد للإنسان من رفيق، وإني لأعترف بأن المرأة ضرورة خطيرة، وكم أذكر أمي هذه الأيام! أن المرأة ضرورة حتى لمن لا يتعشقها!

وكان رضوان يفكر في أمور بعيدة فإذا به يسأل الباشا: هب النحاس باشا يسقط أفلا تعدل عن السفر؟!

فلوح الباشا بيده ساخطا وقال: فليبق بنحسه حتى أعود على الأقل من الحج! ...

ثم وهو يهز رأسه: كلنا مذنب، والحج يغسل الذنوب ...

فضحك حلمي عزت قائلا: إنك يا باشا مؤمن، وإن إيمانك لمما يحير الكثيرين! - لمه؟ إن الإيمان واسع الصدر، والمنافق وحده الذي يدعي البراءة المطلقة، ومن الغباء أن تظن أن الإنسان لا يقترف الذنوب إلا على جثة الإيمان، ثم إن ذنوبنا أشبه بالعبث الصبياني البريء!

فقال علي مهران متنهدا في ارتياح: يا له من قول جميل. والآن دعني أصارحك بأنني تشاءمت كثيرا حين حدثتني عن اعتزامك الحج، وساءلت نفسي: ترى أهي التوبة؟ وهل تنتهي بالنسبة لنا مسرات الحياة ؟!

فضحك الباشا حتى اهتز جذعه وقال: أنت شيطان من صلب شيطان، أتحزنون حقا إذا علمتم أنها التوبة؟ ...

فقال حلمي متأوها: كمن ذبح وليدها في حجرها!

فضحك عبد الرحيم باشا مرة أخرى وقال: آه منكم يا أولاد الإيه، علي مثلي إذا أراد التوبة حقا أن ينأى بنفسه عن العيون النجل والخدود الوردية، وأن يعكف على مجاورة قبر النبي عليه الصلاة والسلام ...

فهتف مهران في شماتة: الحجاز وما أدراك ما الحجاز، لقد حدثني عنها العارفون، ستكون كالمستجير من الرمضاء بالنار!

فقال حلمي عزت كالمحتج: لعلها دعاية كاذبة كالدعايات الإنجليزية، وهل يوجد في الحجاز كله وجه كوجه رضوان؟!

فهتف عبد الرحيم عيسى: ولا في الجنة! ... (ثم متراجعا) ... لكننا يا أولاد الحرام بصدد حديث التوبة!

فقال علي مهران: مهلا يا باشا، لقد أخبرتني يوما عن الصوفي الذي تاب سبعين مرة، أليس معنى هذا أنه أذنب سبعين مرة؟

فقال رضوان: أو مائة مرة!

فقال علي مهران: أنا راض بسبعين!

فتساءل الباشا ووجهه يتهلل بشرا: وهل في العمر بقية؟ - ربنا يطول عمرك يا باشا، طمئنا وقل إنها التوبة الأولى! - والأخيرة! - فشر! إذا تحديتني فسوف أستقبلك حين العودة من الحج بقمر ولا كل الأقمار ثم ننظر ماذا يكون من أمرك!

فقال الباشا باسما: ستكون النتيجة مثل وجهك يا بوز الإخص، أنت شيطان يا مهران، شيطان لا غنى للإنسان عنه ... - أحمد الله على ذلك ...

رضوان وحلمي في وقت واحد تقريبا: ونحمده عليه ...

فقال الباشا في خيلاء وسرور: أنتم أنسي، ما الحياة بدون المودة والصداقة؟ الحياة جميلة، الجمال جميل، الطرب جميل، العفو جميل، أنتم شباب وتنظرون إلى الدنيا من زاوية خاصة، وسوف يعلمكم العمر الكثير، إني أحبكم وأحب الدنيا، وإن زيارتي لبيت الله للشكر والاعتذار وطلب الهداية ...

فقال رضوان باسما: ما أجمل منظرك، إنك تقطر صفاء!

فقال علي مهران بمكر: ولكن حركة صغيرة تجعله يقطر أشياء أخرى، حقا يا باشا إنك معلم الجيل! - وأنت إبليس نفسه يا ابن الهرمة! اللهم إني إذا قدمت يوما للحساب فسأشير إليك وكفى! - أنا ! مظلوم والله ، لست إلا عبدا مأمورا! - بل أنت شيطان ... - ولكن لا غنى لإنسان عنه؟!

فضحك الباشا قائلا: نعم يا عكروت ... - كنت وما أزال في حياتك العامرة نغما مطربا ووجها مليحا وهناء متجددا، وأخيرا لا تنس أيام شبابي يا سعادة الغادر!

فتأوه الباشا قائلا: أيام زمان! آه من الزمان! يا أولاد لم نكبر؟! جلت حكمتك يا ربي وعلت!

كانت قناتي لا تميل لغامز

فألانها الإصباح والإمساء

فقال مهران ملعبا حاجبيه: لغامز؟! بل قل لا تميل لمهران! - يا ابن الكلب لا تفسد الجو بهذرك! لا يجوز أن نعبث عند ذكر الأيام الجميلة، والدموع أحيانا أجمل من الابتسام وأضخم إنسانية وأشد عرفانا بالجميل، اسمعوا هذا أيضا:

واستنكرتني وما كان الذي ذكرت

من الحوادث إلا الشيب والصلعا - ما رأيكم في قوله «من الحوادث»؟

وإذا بمهران ينادي على طريقة باعة الصحف: الحوادث والأهرام والمصري ...

الباشا يائسا: الحق ليس عليك ولكن ع ... - عليك أنت! - أنا! أنا بريء منك، عندما عرفتك كنت على حال يحسدك عليها إبليس، ولكني لن أسمح لك أن تنتزعني من جو الذكريات، نعم، اسمعوا إلى هذا أيضا:

عريت من الشباب وكان غضا

كما يعرى من الورق القضيب

فتساءل مهران كالمنزعج: القضيب يا باشا؟!

الباشا وهو يردد ناظريه بين رضوان وحلمي المغرقين في الضحك: صاحبكما جثة لا يؤثر فيها الشعر! ولكنه سيبلغ قريبا فترة الحسرات، حين يصير كل جميل خبرا لكان أو إحدى أخواتها، (ثم متلفتا إلى مهران) وأصحاب زمان يا ابن الهرمة هل نسيتهم؟ - أوه، الله يمسيهم بالخير ... كانوا الجمال كله والدلال كله ... - ماذا تعرف عن شاكر سليمان؟ - كان وكيل الداخلية وفرخة بكشك عند الإنجليز حتى أحيل على المعاش قبل الأوان في وزارة النحاس الثانية أو الثالثة لا أذكر، وأظنه الآن معتكفا في عزبته بكوم حمادة ... - يا عيني على أيامه، وحامد النجدي؟ - هذا أسوأ أحبابنا حظا! خسر الجلد والسقط، وإنه ليطوف الآن ليلا بالمراحيض العمومية ... - كان خفيفا ظريفا ولكنه كان كذلك مقامرا وعربيدا. وعلي رأفت؟ - لقد بلغ «باجتهاده» أن صار عضوا في مجلس إدارة عدة شركات، ولكن سمعته ضيعت عليه الوزارة فيما يقال! - لا تصدق ما يقال، ولي الوزارة أناس جاوزت شهرتهم حدود المملكة، غير أن هذا الرأي الذي طالما نوهت لكم عنه وهو أن التحلي بالفضائل العامة واجب علينا أكثر من بقية الناس! فإذا تحقق لأحدكم هذا فلا تثريب عليه بعد ذلك، لقد حكم المماليك مصر أجيالا، وما زالت ذراريهم تتمتع بالجاه والمال، وما المملوك؟! هو ذلك نفسه! سأقص عليكم قصة عظيمة المغزى.

وصمت الباشا قليلا كأنما ليجمع شتات فكره ثم قال: كنت في ذلك الوقت رئيس محكمة، وحدث أن عرضت على قضية مدنية عن ميراث مختلف عليه، وقبل نظر القضية عرفني بعضهم بشاب جميل له وجه رضوان وقوام حلمي ... (ثم مشيرا إلى مهران) ورشاقة هذا الكلب في عز أيامه! فتصادقنا عهدا وأنا لا أدري عن سره شيئا، حتى إذا كان يوم نظر القضية ما أدري إلا وهو يقف أمامي ممثلا لأحد طرفي النزاع! ماذا تظنون فعلت؟

فتمتم رضوان: يا له من موقف! - تنحيت عن نظر القضية دون تردد!

وأبدى رضوان وحلمي عن إعجابهما أما مهران فقال كالمحتج: وضيعت عليه كفاحه؟!

فقال الباشا دون اكتراث لهذر مهران: ليس هذا فحسب، ولكني قطعته احتقارا لسوء خلقه. أجل، لا قيمة للإنسان بلا خلق، ليس الإنجليز بأذكى الناس، الفرنسيون والإيطاليون أذكى منهم ولكنهم سادة الخلق فهم سادة العالم! لذلك أنبذ الجمال التافه المنحط.

فتساءل علي مهران ضاحكا: هل أفهم من إبقائك علي أني ذو خلق؟

فأشار الباشا نحوه جادا وهو يقول: الأخلاق متنوعة. فالقاضي مطالب بالنزاهة والعدل، والوزير بالواجب والشعور بالمسئولية العامة، والصديق بالصفاء والوفاء، وأنت عربيد بلا شك ووغد في أحايين كثيرة، ولكنك أمين وفي ... - أرجو أن يكون وجهي قد تورد! - الله لا يكلف نفسا إلا وسعها! والحق أني قانع بما فيك من خير، ثم إنك زوج وأب وهذه فضيلة أخرى، وهي سعادة لا يقدرها إلا من عانى صمت البيوت، إلا أن صمت المقام عذاب الشيخوخة!

فقال رضوان كالمنكر: حسبت الشيخوخة محبة للهدوء! - تخيلات الشباب عن الشيخوخة ضلال، تخيلات الشيخوخة عن الشباب حسرات، خبرني يا رضوان عن رأيك في الزواج؟

وانقبضت أسارير رضوان وهو يقول: هو الرأي الذي حدثتك عنه من قبل يا باشا. - لا أمل في العدول عنه؟ - لا أظن. - لمه؟

تردد رضوان قليلا ثم قال: شيء عجيب، لا أدري كنهه، ولكن المرأة تبدو لي مخلوقا مثيرا للاشمئزاز ...!

فتجلت في العينين الذابلتين نظرة حزينة وقال: يا للأسف، ألا ترى أن علي مهران زوج وأب؟ وأن صديقك حلمي من أنصار الزواج؟ إني أرثي لك رثاء مضاعفا إذ أنه رثاء لنفسي أيضا، طالما حيرني ما قرأت وما سمعت عن جمال المرأة، غير أني طويت نفسي على رأيي الخاص إكراما لذكرى أمي، كنت أحبها حبا جما، وقد أسلمت الروح بين ذراعي ودموعي تتساقط فوق جبينها وخديها، وكم أود لو تتغلب على متاعبك يا رضوان ...

فقال رضوان وكان يبدو شاردا ساهما: يستطيع الإنسان أن يعيش بلا امرأة ... ليس الأمر مشكلة! وقد لا تبالي تساؤل الناس، ولكن ماذا عن تساؤلك أنت؟ من الممكن أن تقول إن المرأة مثيرة للاشمئزاز، ولكن لماذا هي لا تثير اشمئزاز الآخرين؟ هنالك يركبك إحساس كالمرض، مرض لا تعرف له دواء، فتعتزل العالم به، وهو شر رفيق في الوحدة، وربما أخجلك بعد ذلك أن تحتقر المرأة وإن تكن مضطرا إلى مواصلة احتقارها!

وهنا نفخ علي مهران فيما يشبه اليأس ثم قال: منيت النفس بليلة مرحة جديرة بالوداع!

فضحك عبد الرحيم باشا وقال: لكنه وداع حاج! ماذا تعرف أنت عن توديع الحجاج؟ - سأودعك بالدعاء ثم أستقبلك بالورود والخدود، ويومئذ نرى ماذا أنت فاعل!

فضرب الباشا كفا بكف وهو يقول ضاحكا: إني مفوض أمري إلى الله ذي الجلال ...

51

عند تقاطع شارعي شريف وقصر النيل، أمام مقهى رتز، وفجأة، وجد كمال نفسه أمام حسين شداد! وتوقفا عن السير وكلاهما يحملق في وجه صاحبه حتى هتف كمال: حسين!

فهتف الآخر بدوره: كمال!

ثم تصافحا في حرارة وهما يضحكان ضحكة الغبطة والسرور ... - أية مفاجأة سعيدة بعد ذلك التاريخ الطويل ! - أية مفاجأة سعيدة! تغيرت كثيرا يا كمال، ولكن مهلا لعلي أبالغ! عودك هو هو، جملة منظرك، ولكن ما هذا الشارب المحترم؟! وهذه النظارة الكلاسيكية وهذه العصا! وهذا الطربوش الذي لم يعد أحد يلبسه غيرك! - وأنت شد ما تغيرت! سمنت أكثر مما كنت أتصور، أهذا يتفق وتقاليد باريس؟ أين حسين زمان؟! - وأين باريس زمان؟ أين هتلر وموسوليني؟ ما علينا، كنت ذاهبا إلى ريتز لأشرب قدح شاي فهل عندك مانع من الجلوس معي قليلا؟ - بكل سرور.

فمالا إلى ريتز ثم جلسا حول مائدة وراء النافذة الزجاجية المطلة على الطريق، وطلب حسين شداد الشاي وطلب كمال قهوة ثم عادا يتفحصان بعضهما البعض في ابتسام. لقد ضخم حسين فامتد طولا وعرضا. ولكن ماذا فعل بحياته يا ترى؟ هل ساح في الأرض والسماء كما كان يود قديما؟ لكن عينيه تعكسان رغم ابتسامها نظرة غليظة كأنما بدلت من طفولة الحياة جدا. وكان قد مضى عام على التقائه ببدور في شارع فؤاد الأول فبرئ في أثنائه من نكسة الحب وانزوى آل شداد جميعا في ركن النسيان، غير أن ظهور حسين قد أيقظ النفس من سباتها، فبدا الماضي وكأنه يتمطى ناشرا أفراحه وآلامه. - متى عدت من الخارج؟ - منذ عام تقريبا ...

ولم يحاول مقابلته على الإطلاق! ولكن علام يلومه وهو نفسه قد نسيه وفرغ من صداقته منذ دهر؟! - لو علمت أنك عدت إلى مصر لسعت إلى لقائك!

ولم يبد علي حسين أنه أحرج أو ارتبك ولكنه قال ببساطة: عدت فوجدت الهموم في انتظاري، ألم تبلغك أشياء عنا؟

فتجهم وجه كمال وقال باقتضاب وأسف: بلى، عن طريق صديقنا إسماعيل لطيف. - لقد سافر إلى العراق منذ عامين كما أخبرتني والدتي ...

وجدت الهموم في انتظاري كما قلت، ثم كان علي أن أعمل، وأن أعمل ليل نهار!

هذا حسين شداد طبعة 1944! ذلك الذي يعد العمل جريمة إنسانية، أحق وجد ذلك الماضي؟ لعله لا دليل عليه إلا خفقان هذا القلب. - أتذكر آخر مرة تلاقينا؟! - أوه! ...

وجاء النادل بالشاي والقهوة قبل أن يتم كلامه غير أنه لم يبد متحمسا للذكريات ... - دعني أذكرك، كان ذلك في عام 1926. - عفارم على ذاكرتك! ... (ثم شاردا) ... سبعة عشر عاما في أوروبا! - حدثني عن حياتك هنالك!

فهز رأسه الذي لم يشب منه إلا سوالفه وقال: دع ذلك إلى حينه، واقنع الآن بهذه العناوين: أعوام سياحة وفرحة كالحلم، حب فزواج من باريسية من أسرة محترمة، الحرب والهجرة إلى الجنوب، إفلاس أبي، العمل في متجر حماي، عودتي إلى مصر دون زوجي حتى أهيئ لها حياة مستقرة، ماذا تريد أكثر من ذلك! - أنجبت أطفالا؟ - كلا.

كأنما لا يود أن يتكلم، ولكن ماذا بقي من الصداقة القديمة حتى يأسف على ذلك؟ ورغم هذا وجد رغبة قوية في طرق أبواب الماضي فتساءل: وماذا عن فلسفتك القديمة؟

وتفكر حسين مليا، ثم ضحك ضحكة ساخرة وقال: إني غارق في العمل منذ أعوام وأعوام، لست إلا رجل أعمال؟

أين روح حسين شداد الذي كان يأوي منها إلى ظل ظليل من الغبطة الروحية؟ ليست في هذا الرجل الضخم، لعلها استقرت في رياض قلدس، أما هذا الرجل فإنه لا يعرفه، ولا يربطه به إلا ماض مجهول، ماض ود في تلك اللحظة لو كان يحتفظ له بصورة حية لا صورة فوتوغرافية باردة. - وماذا تعمل الآن؟ - ألحقني أحد أصدقاء أبي بوظيفة في الرقابة حيث أعمل ابتداء من منتصف الليل حتى الفجر، وإلى هذا فإني أقوم بالترجمة في بعض الصحف الإفرنجية ... - ومتى تخلو من العمل؟ - فيما ندر، والذي يهون علي المشقة أنني لن أدعو زوجي إلى مصر حتى أهيئ لها حياة تناسبها؛ فهي من أسرة محترمة، وكنت حين تزوجت منها معدودا من الأغنياء!

قال ذلك وضحك ضحكة كأنما يسخر بها من نفسه فابتسم كمال ابتسامة كأنما يشجعه بها، وراح يقول لنفسه: من حسن حظي أني سلوتك من زمن طويل، ولولا ذلك لبكيت عليك من أعماق قلبي! - وأنت يا كمال ماذا تعمل؟

ثم مستدركا: أذكر أنك كنت مغرما بالثقافة؟

ما أجدره بالشكر على هذا التذكر! فهو ميت بالنسبة إليه كما أن الآخر ميت بالنسبة إليه هو، وإننا لنموت ونحيا كل يوم مرات! وأجابه: إني مدرس لغة إنجليزية ... - مدرس! نعم ... نعم. تذكرت الآن أشياء. وكنت ترغب في أن تكون مؤلفا؟ يا للرغبات الخائبة! - إني أنشر مقالاتي في مجلة الفكر، ولعلي أجمع بعضها في كتاب عما قريب!

فابتسم حسين ابتسامة كئيبة وقال: أنت سعيد لأنك حققت أحلام صباك، أما أنا ...!

وضحك مرة أخرى. أما كمال فقد وقعت جملة «أنت سعيد» من أذنيه موقعا غريبا، ولم يكن أغرب منها إلا اللهجة التي قيلت بها الدالة على الحسد، فوجد نفسه مرة واحدة سعيدا ومحسودا. وممن؟ من عميد آل شداد! غير أنه قال على سبيل المجاملة: حياتك العملية أجل حياة!

فقال الآخر باسما: لا اختيار لي، ومرجوي الوحيد أن أستعيد شيئا من مستوى الماضي ...

وساد الصمت مليا. وكان كمال يتفحص حسين باهتمام، وكانت صورة من الماضي تنبعث خلال تفحصه، حتى وجد نفسه يسأله قائلا: وكيف حال الأسرة؟

فقال دون اكتراث: بخير ...

فتردد كمال قليلا ثم قال: كانت لك أخت صغيرة نسيت اسمها فكيف صارت اليوم؟ - بدور! تزوجت في العام الماضي ... - ما شاء الله، أولادنا يتزوجون! - وأنت ألم تتزوج؟

ترى ألم تعاوده الذكريات؟ - كلا ... - أسرع وإلا فاتك القطار ...

فقال ضاحكا: فاتني بأميال ... - ربما تزوجت من حيث لا تدري، صدقني، لم يكن الزواج ضمن خطتي ولكنني متزوج منذ أكثر من عشر سنوات ...

فهز كمال منكبيه دون اكتراث وقال: خبرني كيف تجد الحياة هنا بعد إقامتك الطويلة في فرنسا؟ - لم تكن الحياة في فرنسا عقب الغزو مما يسر، أما هنا فالحياة يسيرة بالقياس إلى هناك، (ثم بحنان) ولكن باريس، أين أين باريس؟! - لم لم تبق في فرنسا؟

فقال باستنكار: أعيش كلا على حمي؟! كلا، كان ثمة عذر عندما حالت ظروف الحرب دون السفر، أما بعد ذلك فلم يكن من السفر بد!

ترى أهو شذا من الكبرياء القديم؟ ثم وجد نفسه مدفوعا إلى مغامرة خطيرة عذبة معا، فتساءل بمكر: وما أخبار صاحبنا حسن سليم؟

فحدجه بنظرة ارتياب لحظة، ثم قال ببرود: لا أدري عنه شيئا! - كيف ؟!

فقال وهو يمد بصره إلى الطريق خلال الزجاج: انتهى ما بيننا وبينه منذ حوالي العامين!

فقال كمال في دهشة لم يستطع إخفاءها: أتعني ...!

ولم يتم كلامه. غلبته المفاجأة. هل عادت عايدة إلى العباسية مرة أخرى؟ امرأة مطلقة؟! فليؤجل التفكير في هذا كله إلى حين. وقال بهدوء: كان سفره إلى إيران آخر ما حدثني إسماعيل لطيف عنه؟

فقال حسين بكآبة: لم تمكث أختي معه في هذه الرحلة إلا شهرا واحدا، ثم عادت بمفردها ... (ثم بصوت منخفض) يرحمها الله! - هه؟!

ندت عن كمال في صوت ترامى إلى الموائد القريبة من حولهم، فنظر إليه حسين كالداهش وقال: لم تكن تدري! لقد ماتت منذ عام! - عايدة؟!

فهز الآخر رأسه بالإيجاب. وفي نفس الوقت خجل كمال من نطقه الاسم مجردا بصوت مسموع، ولكنه لم يقف عند هذا إلا أقل من لحظة. وبدت الألفاظ جميعا وكأن لا معنى لها. وشعر بدوامة الفناء تدور برأسه. وكان ما به دهشة وارتياع. لا حزن ولا ألم، وتكلم أخيرا فقال: يا له من خبر محزن، البقية في حياتك!

فقال حسين: عادت من إيران وحيدة، ومكثت مع أمي شهرا، ثم تزوجت من أنور بك زكي كبير مفتشي اللغة الإنجليزية، ولكنها لم تعاشره إلا شهرين، ثم مرضت، ثم توفيت في المستشفى القبطي.

كيف لرأسه أن يتابع هذه الأحداث في سرعتها الجنونية! ولكنه يقول أنور بك زكي، وهو المراقب الأعلى لهيئته التعليمية. ولعله تشرف بمقابلته مرات وهو زوج لعايدة. رباه ... إنه ليذكر الآن أنه شيع جنازة حرم المراقب منذ عام أفكانت هي عايدة؟! ولكن كيف لم يلتق بحسين؟! - هل حضرت وفاتها؟ - كلا، توفيت قبل عودتي إلى مصر ...

فقال وهو يهز رأسه تعجبا: لقد سرت في جنازتها وأنا لا أدري أنها أختك! - كيف؟ - علمت في المدرسة ذلك اليوم بأن حرم كبير المفتشين قد توفيت وأن الجنازة ستشيع من ميدان الإسماعيلية، فذهبت مع زملائي المدرسين دون أن أطلع على النعي في الصحف، وسرنا بين المشيعين حتى جامع جركس، كان ذلك منذ عام ...

فابتسم حسين ابتسامة حزينة وهو يقول: سعيكم مشكور ...

لو وقعت هذه الوفاة عام 1926 لجن أو انتحر، اليوم تمر به كخبر من الأخبار، ومن عجب أن يشيع جنازتها وهو لا يدري، وكان وقتذاك ما يزال أسيرا لمرارة التجربة التي تخلفت عن زواج بدور، فلعل صاحبة النعش طافت برأسه فيما طاف به من خواطر بدور وأسرتها، وما زال يذكر يوم الجنازة حين تقدم من أنور بك زكي معزيا ثم جلس بين المشيعين، قالوا: قياما لقد حضر النعش، فمد عينيه فرأى نعشا جميلا مكللا بالحرير الأبيض حتى تهامس بعض زملائه أنها عروس ... الزوجة الثانية للمفتش ... وقد ذهبت ضحية للالتهاب الرئوي، وودع النعش وهو لا يدري أنه يودع ماضيه، ومن كان زوجها؟ رجل فوق الخمسين ذو زوجة وأبناء فكيف رضي به ملاك الزمان الخالي؟ وكنت تظنها فوق الزواج فإذا هي تعنو للطلاق ثم تقنع بنصيب الزوجة الثانية! وسوف يمضي وقت طويل قبل أن يسكن جيشان هذا الصدر لا من الحزن أو الألم ولكن من الذهول والدهشة، ومن خلو العالم من مباهج الأحلام، ومن ضياع سر الماضي الساحر إلى الأبد، وإن كان ثمة حزن فعلى أنك لم تحزن كما كان يجدر بك! - لكن ماذا غير حسن سليم!

فهز حسين رأسه بازدراء وقال: عشق الوغد موظفة بمفوضية بلجيكا بإيران فغضبت المرحومة لكرامتها وطالبته بالانفصال ... «مما يعزي المرء في مثل هذا الموقف أن بديهيات إقليدس لم تعد بالبديهيات المطلقة!» - وأولادها؟ - عند جدتهم لأبيهم.

وهي أين هي؟ وماذا جد عليها في هذا العام؟ وهل يمكن أن يعرفها فهمي أو السيد أحمد عبد الجواد أو نعيمة؟

وإذا بحسين شداد ينهض وهو يقول: آن لي أن أذهب، دعني أرك، إني أتناول عشائي عادة في رتز.

فنهض بدوره، وتصافحا وهو يتمتم: إن شاء الله ...

وافترقا عند ذاك وهو يشعر بأنه لن يراه مرة أخرى، وبأنه ليس به حاجة إلى معاودة رؤيته، كما ليس بالآخر حاجة إلى ذلك، وغادر المشرب وهو يقول لنفسه «إني حزين يا عايدة لأني لم أحزن عليك كما كان يجدر بي ...»

52

في سكون الهزيع الأخير من الليل طرق طارق باب بيت آل شوكت بالسكرية، ثم تتابع الطرق حتى استيقظ النائمون. وما إن فتحت خادم الباب حتى تدافعت إلى الداخل أقدام ثقيلة شديدة الوقع، انتشرت في الفناء والسلم وأطبقت على الشقق الثلاث. وخرج إبراهيم شوكت إلى الصالة مثقل الرأس بالنوم متعبا بالكبر فرأى ضابطا كبيرا يتوسط مجموعة من الجنود والمخبرين، فدهش الرجل وتساءل منزعجا: ماذا هنالك كفى الله الشر؟!

فسأله الضابط الكبير بخشونة: ألست والد أحمد إبراهيم شوكت وعبد المنعم إبراهيم المقيمين في هذا البيت؟

فأجاب الرجل وقد امتقع وجهه: بلى ... - عندنا أوامر بتفتيش البيت جميعه ... - لماذا يا حضرة المأمور؟

فلم يأبه له والتفت نحو معاونيه آمرا: فتشوا ...

واندفع الرجال إلى الحجرات صادعين بالأمر على حين تساءل إبراهيم شوكت: لماذا تفتشون شقتي؟

ولكن المأمور تجاهله. وعند ذاك اضطرت خديجة إلى مغادرة حجرة النوم - التي اقتحمها المخبرون - متلفعة بشال أسود وهي تهتف غاضبة: أليس للنساء حرمة! هل نحن لصوص يا حضرة المأمور!

كانت تحدق في وجهه غاضبة، وإذا بها تشعر بغتة بأنها رأت هذا الوجه من قبل، أو بمعنى أصح أنها رأت صورته الأولى قبل أن يعتورها تقدم السن، متى وأين؟ رباه إنه هو دون ريب، لم يكد يتغير كثيرا، واسمه؟ وقالت دون تردد: حضرتك كنت ضابطا بقسم الجمالية منذ عشرين عاما، بل منذ ثلاثين عاما لا أذكر الزمن بالضبط ...

فرفع المأمور إليها عينين متسائلتين، وردد إبراهيم شوكت ناظريه بينهما متسائلا كذلك. وإذا بها تقول: اسمك حسن إبراهيم، أليس كذلك؟ - حضرتك تعرفينني؟

فقالت برجاء: أنا بنت السيد أحمد عبد الجواد وأخت فهمي أحمد الذي قتله الإنجليز أيام الثورة، ألا تذكره؟

فلاحت الدهشة في عيني المأمور وتمتم بصوت مهذب لأول مرة: رحمه الله رحمة واسعة ...

فقالت برجاء أشد: أنا أخته فهل ترضى لبيتي هذه البهدلة؟

فأشاح المأمور عنها بوجهه وهو يقول كالمعتذر: إننا ننفذ الأوامر يا هانم. - ولكن لماذا يا حضرة المأمور، نحن أناس طيبون!

فقال المأمور برقة: نعم، ولكن ليس كذلك نجلاك ...

فهتفت خديجة باضطراب: إنهما ابنا أخت صديقك القديم!

فقال المأمور دون أن ينظر نحوهما: إننا ننفذ أوامر الداخلية. - لم يفعلا شيئا ضارا، إنهما ولدان طيبان وأقسم لك على ذلك ...

وعاد الجنود والمخبرون إلى الصالة دون أن يعثروا على شيء فأمرهم المأمور بمغادرة الشقة، ثم التفت إلى الزوجين الماثلين أمامه وقال: أبلغنا عن اجتماعات مريبة تعقد في شقتيهما ... - هذا كذب يا حضرة المأمور! - أرجو أن يكون الأمر كذلك، لكنني مضطر الآن إلى القبض عليهما وسوف يبقيان حتى يتم التحقيق معهما، ولعل العاقبة أن تكون سليمة.

هتفت خديجة بصوت متهدج وشى بدموعها: أتسوقهما حقا إلى القسم؟ هذا ... لا أتصور ... اعف عنهما وحياة أولادك! - ليس بوسعي ذلك، لدي أوامر صريحة بالقبض عليهما، طاب مساؤكما!

وغادر الرجل الشقة. وما لبثت أن غادرتها خديجة وفي أعقابها الرجل العجوز ونزلا السلم لا يلويان على شيء. ورأتهما كريمة وكانت واقفة أمام شقتها في حال شديدة من الفزع فهتفت: أخذوه يا عمتي، أخذوه إلى السجن ...

فألقت خديجة على الشقة نظرة متحجرة، ونزلت مسرعة إلى الشقة الأولى حيث وجدت سوسن على باب شقتها كذلك تتطلع إلى الفناء بوجه كالح، فنظرت حيث تنظر فرأت القوة تحيط بعبد المنعم وأحمد متجهة بهما إلى الخارج، فلم تتمالك أن تصرخ من أعماق قلبها، وهمت بالانطلاق في أثرهما لولا أن أمسكت بها يد سوسن، فالتفتت نحوها هائجة، غير أن سوسن قالت لها بصوت هادئ حزين: هدئي روعك، لم يعثروا على شيء مريب، ولن يثبت ضدهما شيء، لا تجري وراءهم حفظا لكرامة عبد المنعم وأحمد ...

فصاحت بها: هذا الهدوء تحسدين عليه!

فقالت سوسن برقة وصبر: سيعودان إلى بيتهما بخير، اطمئني ...

فتساءلت بحدة: من أدراك؟ - إني واثقة مما أقول ...

فلم تكترث لقولها والتفتت نحو زوجها ثم ضربت كفا بكف وهي تقول: انعدم الوفاء، أقول له إنهما ابنا أخت فهمي فيقول لي عندي أوامر، لماذا يأخذ ربنا الناس الطيبين ويترك الأرذال!

واتجهت سوسن نحو إبراهيم وقالت: سيفتشون بيت الجماعة في بين القصرين! سمعت مخبرا يقول للمأمور إنه يعرف بيت جدهما في بين القصرين فاقترح عليه الضابط المساعد تفتيشه تنفيذا للأوامر على سبيل الحيطة أن يكونا قد أخفيا فيه منشورات!

فصاحت خديجة: إني ذاهبة إلى أمي، لعل كمال يستطيع شيئا، آه يا ربي إني أحترق ...

وجاءت بمعطفها وغادرت السكرية في خطوات متلاحقة مضطربة. كان الجو باردا والظلام ما يزال كثيفا، وكانت الديكة تصيح في تجاوب متواصل. انطلقت من الغورية مخترقة الصاغة إلى النحاسين، ووجدت عند باب البيت مخبرا، ووجدت في الفناء مخبرا آخر، ثم صعدت السلم وهي تلهث ...

وكانت الأسرة قد استيقظت مضطربة على رنين الجرس، ثم جاءتهم أم حنفي وهي تقول في ذعر: «بوليس»، وهرع كمال إلى الحوش حيث التقى بالمأمور فتساءل منزعجا: أفندم؟

فسأله المأمور: أتعرف عبد المنعم إبراهيم وأحمد إبراهيم؟ - أنا خالهما! - صناعتك؟ - مدرس بمدرسة السلحدار. - عندنا أوامر بتفتيش البيت! - ولكن لماذا؟ أي تهمة توجهها إلي؟ - إننا نفتش عن منشورات تخص الشابين لعلهما أخفياها هنا. - أؤكد لحضرتك أنه ليس في بيتنا منشورات، تفضل فتش كما تشاء ...

ولاحظ كمال أنه أمر القوة باحتلال السلم والسطح وأنه مضى معه بمفرده. وما كان تفتيشا يقلب البيت رأسا على عقب ولكن المأمور اكتفى بتفقد الحجرات وإلقاء نظرة سطحية على المكتب وخزانات الكتب، فاسترد أنفاسه، واستطاع أن يسأله وقد أنس إليه: فتشتم بيتهما؟ - طبعا ...

ثم بعد لحظة قصيرة: إنهما الآن في سجن القسم!

فسأله كمال في انزعاج: هل ثبت عليهما شيء؟

فأجاب الرجل برقة غير معهودة في أمثاله: أرجو ألا يصل الأمر إلى هذا الحد، غير أن التحقيق متروك للنيابة. - أشكر لك جميل عواطفك!

فقال المأمور بهدوء وهو يبتسم: ولا تنس أنني لم أبهدل البيت! - نعم يا سيدي، إني لا أدري كيف أشكرك!

وإذا به يلتفت نحوه متسائلا: حضرتك أخو المرحوم فهمي؟

فاتسعت عينا كمال دهشة وقال: نعم، أكنت تعرفه؟ - كنا أصدقاء، رحمه الله ...

فقال كمال برجاء: مصادفة سعيدة ... (وهو يمد له يده) ... كمال أحمد عبد الجواد.

فصافحة الرجل قائلا: حسن إبراهيم مأمور قسم الجمالية! بدأت فيه ملازما وعدت إليه في آخر المطاف مأمورا ...

ثم وهو يهز رأسه: كانت الأوامر صريحة، أرجو ألا يثبت عليهما ما يدينهما.

وهنا ترامى إليهما صوت خديجة وهي تحدث أمها وعائشة بما كان وتبكي فقال: هذه أمهما، عرفتني بذاكرتها العجيبة ثم ذكرتني بالمرحوم ولكن بعد أن كان التفتيش الدقيق قد وقع، طمئنها ما أمكنك.

ثم نزلا معا جنبا إلى جنب، وعند مرورهما بالدور الثاني مرقت عائشة من الباب في حدة بادية وحدجت المأمور بنظرة قاسية وصاحت به: لماذا تقبضون على أولاد الناس بلا سبب؟ ألا تسمع بكاء أمهما؟

فانحرف بصر المأمور إليها كرد فعل للمفاجأة ثم غض بصره تأدبا وهو يقول: سيطلق سراحهما عما قريب إن شاء الله ...

ثم سأل كمال بعد أن ابتعدا عن مدخل الدور الثاني: والدتك؟

فابتسم كمال ابتسامة حزينة وقال: بل شقيقتي! لم تجاوز الرابعة والأربعين ولكنها عانت من سوء الحظ ما حطمها ...

والتفت المأمور إليه كالداهش، وخيل إليه بأنه هم أن يطرح سؤالا، ولكنه تردد لحظة ثم عدل عما كان هم به، وتصافحا في الفناء، وقبل أن يمضي الرجل إلى سبيله سأله كمال: أمن المستطاع أن أزورهما في السجن؟ - نعم ... - شكرا ...

وعاد كمال إلى الصالة فانضم إلى أمه وشقيقتيه وهو يقول: سأزورهما غدا، لا داعي للخوف، وسوف يطلق سراحهما عقب التحقيق معهما ...

وكانت خديجة لا تمسك عن البكاء فصاحت عائشة في نرفزة: لا تبكي، كفانا بكاء، سيعودان إليك، ألا تسمعين؟

فولولت خديجة قائلة: لا أدري، لا أدري، في السجن يا ولداه!

وكانت أمينة صامتة كأن الحزن أخرسها، فقال كمال في لهجة توحي بالطمأنينة: المأمور يعرفنا، كان صديق المرحوم فهمي، وقد تلطف بنا في التفتيش لدرجة لا تصدق، ولا شك أنه سيرعاهما بعطفه!

فرفعت الأم رأسها كالمتسائلة فقالت خديجة في حنق: حسن إبراهيم، ألا تذكرينه يا أمي؟ وقد أخبرته بأنني أخت فهمي فما كان منه إلا أن قال: إننا ننفذ الأوامر يا هانم! أوامر في عينه ...!

واتجهت عينا الأم نحو عائشة ولكنها لم يبد عليها أنها ذكرت شيئا ...

ثم انتحت أمينة بكمال جانبا وراحت تقول له في قلق بالغ: لم أفهم شيئا يا بني، لماذا قبض عليهما؟

فتفكر كمال فيما ينبغي قوله، ثم قال: الحكومة تظن خطأ أنهما يعملان ضدها!

فهزت رأسها في حيرة وقالت: أختك تقول إنهم قبضوا على عبد المنعم لأنه من الإخوان المسلمين، لماذا يقبضون على المسلمين؟ - الحكومة تظنهم يعملون ضدها ... - وأحمد؟! قالت إنه ... نسيت الكلمة يا بني؟! - شيوعي؟ الشيوعيون كالإخوان في ظن الحكومة! - الشيوعيون؟! أشياع سيدنا علي؟

فدارى كمال ابتسامة وقال: الشيوعيون لا الشيعة، هم حزب ضد الحكومة والإنجليز!

فتنهدت المرأة في حيرة وقالت: متى يفرج عنهما؟ انظر إلى أختك المسكينة! الحكومة والإنجليز. ألم يجدوا إلا بيتنا المصاب؟!

53

كان أذان الفجر يسري في الصمت الشامل حين استدعى مأمور قسم الجمالية عبد المنعم وأحمد إلى حجرته. ومثلا أمام مكتبه يسوقهما جندي مسلح، فأمره المأمور بالانصراف، ومضى يتفحصهما باهتمام، ثم نظر إلى عبد المنعم وسأله: اسمك وسنك وصناعتك؟

فأجاب عبد المنعم بهدوء وثبات: عبد المنعم إبراهيم شوكت، خمسة وعشرون عاما، محقق بإدارة التحقيقات بوزارة المعارف. - كيف تخرق قوانين الدولة، وأنت من رجال القانون؟! - لم أخرق قانونا، ونحن نعمل جهارا فنكتب في الصحف ونخطب في المساجد، إن الذين يدعون الله لا يجدون ما يخفونه. - ألم تحدث في بيتك اجتماعات مريبة؟ - كلا، كانت اجتماعات عادية مما تجمع بين الأصدقاء؛ لتبادل الرأي والمشورة والتفقه في الدين ... - وهل يدخل ضمن هذه الأغراض التحريض على معاداة دول حليفة؟ - أتعني بريطانيا يا سيدي؟ إنها عدو غادر، الدولة التي تدوس كرامتنا بالدبابات لا يمكن أن تكون دولة حليفة ... - إنك رجل مثقف، وكان ينبغي أن تدرك أن للحرب ظروفا تبيح المحظورات! - إني أدرك أن بريطانيا هي عدونا الأول في هذا الوجود!

والتفت المأمور إلى أحمد متسائلا: وأنت؟

فأجاب أحمد وعلى شفتيه شبه ابتسامة: أحمد إبراهيم شوكت، أربعة وعشرون عاما، محرر بمجلة الإنسان الجديد ... - هنالك تقارير خطيرة عن مقالاتك المتطرفة، فضلا عن أنه من المسلم به أن مجلتك سيئة السمعة ... - مقالاتي لا تعدو الدفاع عن مبادئ العدالة الاجتماعية ... - شيوعي حضرتك؟ - إني اشتراكي، وكثير من النواب يدعون إلى الاشتراكية، والقانون نفسه لا يؤاخذ الشيوعي على رأيه ما دام لا يلجأ إلى أساليب العنف ... - أكان ينبغي أن ننتظر حتى تتمخض الاجتماعات التي تعقد كل مساء في شقتك عن العنف؟

وتساءل في نفسه: ترى هل وقفوا على سر المنشورات والمحاضرات الليلية؟! وأجاب: إني لا أجتمع في بيتي إلا بالأصدقاء المقربين، ولم يزد عدد زواري يوما عن أربعة أو خمسة، وكان تفكيرنا أبعد ما يكون عن العنف ...

وردد المأمور نظرة بينهما ثم قال بعد تردد: إنكما مثقفان و... مهذبان، ومتزوجان أليس كذلك؟ حسن. أليس من الأفضل لكما أن تهتما بشئونكما الخاصة وأن تجنبا نفسيكما الهلاك؟ ...

فقال عبد المنعم بصوته القوي: إني أشكر لك نصيحتك التي لن أعمل بها ...

فندت عن المأمور ضحكة مقتضبة كأنما على رغمه، ثم قال: علمت في أثناء التفتيش أنكما حفيدا المرحوم أحمد عبد الجواد، وقد كان خالكما المرحوم فهمي صديقا حميما لي، وأظنكما تعلمان أنه فقد حياته في ربيع العمر على حين أن زملاءه ظلوا على قيد الحياة حتى تبوءوا أكبر المناصب ...

فقال أحمد وقد أدرك السر في لطف المأمور الذي حيره: دعني أسألك يا سيدي عما كانت تكون عليه مصر لولا تضحية خالي وأمثاله؟!

فهز الرجل رأسه وقال: فكرا في نصيحتي بعقل وروية ودعكما من هذه الفلسفة المهلكة!

ثم وهو يقف: ستبقيان ضيفين في سجننا حتى تدعوا إلى التحقيق، أرجو إلكما حظا سعيدا ...

وغادرا الحجرة حيث تسلمهما أونباشي وجنديان مسلحان، ومضوا جميعا إلى الدور الأرضي، ثم عرجوا إلى بهو مظلم شديد الرطوبة فساروا فيه قليلا حتى استقبلهم السجان بكشافه الكهربائي كأنما ليدلهم على باب السجن، وفتح الرجل الباب وأدخلهما، ثم صوب ضوءه إلى الداخل ليهتديا به إلى برشيهما. وأضاء الكشاف المكان فبدا متوسط المساحة عالي السقف، ذا نافذة صغيرة في أعلى جداره تعترضها القضبان الحديدية. وكان عامرا بالضيوف، فيهم شابان على هيئة الطلبة، وثلاثة رجال حفاة مجفوي المنظر شائهي الخلقة. وما لبث أن أغلق الباب وساد الظلام، غير أن الضوء وحركة القادمين كانت قد أيقظت النائمين، وقال أحمد لأخيه همسا: لن أجلس وإلا قتلتني الرطوبة، فلننتظر الصبح واقفين. - سنضطر إلى الجلوس عاجلا أو آجلا، أعلمت متى نبرح هذا السجن؟

وإذا بصوت - أدركا بالبداهة أنه لأحد الشابين - يقول: لا بد من الجلوس، ليس هو بالشيء السار ولكنه أخف من الوقوف أياما ... - هل مكثتما طويلا؟ - منذ ثلاثة أيام!

وساد الصمت حتى عاد الصوت يسأل: لماذا قبض عليكما؟

فأجاب عبد المنعم باقتضاب قائلا: أسباب سياسية فيما يبدو ...

فقال الصوت ضاحكا: صارت الأغلبية أخيرا للسياسيين في هذا السجن، كنا قبل تشريفكما أقلية ...

فسأله أحمد: وما تهمتكما؟ - تكلما أنتما أولا، فأنتما أحدث مقاما! وإن يكن لا داعي للسؤال بعد أن رأينا لحية أحدكما الإخوانية؟!

فسأله أحمد وهو يبتسم في الظلام: وأنتما؟ - كلانا طالب في الحقوق متهم بتوزيع منشورات هدامة كما يقولون ...

فثار أحمد وسأله: أضبطتما متلبسين؟ - نعم ... - وماذا كان في المنشورات؟ - بيان بتوزيع الثروة الزراعية في مصر ... - هذا مما تنشره الصحف في ظل الأحكام العرفية نفسها! - يضاف إليه شوية توجيهات حماسية!

فابتسم أحمد مرة أخرى في الظلام وقد تخفف من وحشته لأول مرة، وعاد صاحب الصوت يقول: إننا لا نخاف القانون بقدر ما نخاف الاعتقال ... - إن الأمور تبشر بتغيير شامل ... - لكننا سنظل الهدف في جميع العهود ...

وإذا بصوت غليظ يعلو في خشونة قائلا: كفاكم كلاما ودعونا ننم ...

ولكن صوته أيقظ زميلا من زميليه فتثاءب متسائلا: طلع الصبح؟

فأجابه الأول هازئا: كلا، ولكن أصحابنا يحسبون أنفسهم في غرزة ...

تنهد عبد المنعم وهمس بصوت لم يسمعه إلا أحمد: أيزج بي إلى هذا المكان لا لسبب إلا أنني أعبد الله؟

فهمس أحمد في أذنه باسما: وما ذنبي أنا الذي لا أعبده؟!

لم يشأ أحد بعد ذلك أن يرفع صوته، وراح أحمد يسأل نفسه عما دعا إلى القبض على الآخرين، سرقة أم مشاجرة أم سكر وعربدة؟ طالما كتب عن الشعب وهو مدثر بمعطف في حجرة مكتبه الجميلة، ها هو الشعب يلعن أو يغط في نومه . وهذه الوجوه الكالحة البائسة التي رآها على ضوء الكشاف لحظات، وذاك الرجل الذي كان يحك رأسه وما تحت إبطيه فلعل قمله يزحف نحوهما دائبا، هذا هو الشعب الذي تعيش من أجله فكيف تجزع عن فكرة ملامسته؟! هذا الرجل المناط به خلاص الإنسانية ينبغي أن يمسك عن شخيره وأن يعي موقفه التاريخي حتى ينهض لإنقاذ العالم جميعا! وقال لنفسه: «إن موقفا إنسانيا واحدا هو الذي جمعنا على اختلاف مشاربنا في هذا المكان المظلم الرطب. الأخ والشيوعي والسكير والسارق على السواء، كلنا واحد على تفاوت في قوة المناعة أو الحظ» وحدث نفسه مرة أخرى فقال: لماذا لا تعنى بشئونك الخاصة، هكذا يقول المأمور، ولي زوجة محبوبة ورزق موفور، والحق أن الإنسان قد يسعد بما هو زوج أو موظف أو أب أو ابن ولكنه مقضي عليه بالمتاعب أو بالموت نفسه بما هو إنسان. وسواء أقضي عليه بالسجن هذه المرة أم أطلق سراحه فباب السجن الغليظ المتجهم هو ما يتراءى لعينيه في أفق حياته. وعاد يتساءل: ماذا يدفعني في هذا السبيل الخطير الباهر؟ إلا أنه الإنسان الكامن في أعماقي، الإنسان الواعي لذاته المدرك لموقفه الإنساني التاريخي العام، وأن ميزة الإنسان على سائر المخلوقات هي أنه يستطيع أن يقضي على نفسه بالموت بمحض اختياره ورضاه ...

وشعر بالرطوبة تسري في ساقيه والإعياء يتخلل مفاصله، وكان الشخير يتردد في الأركان بإيقاع موصول، ثم لاحت خلال قضبان النافذة الصغيرة طلائع من النور وانية رقيقة ...

54

غادر الطبيب الحجرة وكمال يتبعه واجما، ثم لحق به في الصالة وحدجه بعينين متسائلتين، فقال الطبيب بهدوء: يؤسفني أن أخبرك بأنها حالة شلل كلي ...

فانقبض صدر كمال انقباضا شديدا وسأله: حالة خطرة؟ - طبعا! وقد أصيبت في الوقت نفسه بالتهاب رئوي؛ ولذلك فالحقن ضرورية لإراحتها ... - أليس هناك أمل في الشفاء؟

فصمت الطبيب قليلا ثم قال: الأعمار بيد الله، أما الطبيب فيقرر في حدوده أن هذه الحال لا يمكن أن تستمر أكثر من ثلاثة أيام ...

وتلقى كمال نذير الموت بتجلد، وأوصل الطبيب إلى الباب الخارجي ثم عاد إلى الحجرة. وكانت الأم نائمة، أو كالنائمة، لا يبدو من الغطاء الكثيف إلا وجهها الشاحب وفوها المطبق في شيء من الاعوجاج. وكانت عائشة واقفة حيال السرير فأقبلت نحوه متسائلة: ما لها يا أخي؟ ماذا قال الطبيب؟

وقالت أم حنفي من موقفها عند مقدم الفراش: إنها لا تتكلم يا سيدي، لم تتكلم كلمة واحدة ...

وقال لنفسه: ولن يسمع لها صوت بعد الآن. ثم قال مجيبا أخته: حالة ضغط مصحوبة بإصابة برد خفيفة، سوف تريحها الحقن!

فقالت عائشة، ولعلها كانت تخاطب نفسها: إني خائفة، وإذا كانت سترقد هكذا طويلا فكيف تحتمل الحياة في هذا البيت؟

فتحول عنها إلى أم حنفي وسألها: هل أخبرت الجماعة؟ - نعم يا سيدي، وستحضر ست خديجة وسي ياسين في الحال، ما لها يا سيدي؟ كانت في الصباح في تمام الصحة والعافية ...

كانت! ... وهو يشهد بذلك! وقد مر بالصالة كعادته كل صباح قبل انطلاقه إلى مدرسة السلحدار، فتناول فنجان القهوة الذي قدمته له وهو يقول: لا تغادري البيت اليوم؛ فالجو بارد جدا ...

فابتسمت ابتسامتها الرقيقة وقالت: وكيف يطيب لي اليوم دون زيارة سيدك؟

فقال محتجا: افعلي ما يحلو لك، أنت عنيدة يا أماه!

فتمتمت: ربك الحافظ.

ثم وهو يغادر المكان: ربنا يسعد أيامك ... - وكان هذا آخر عهده بيقظتها. وقد جاءه نبأ مرضها ظهرا في المدرسة فعاد مصطحبا الطبيب الذي نعاها إليه سلفا منذ دقائق. أجل لم يبق إلا ثلاثة أيام! ترى كم يوما تبقى له هو؟ واقترب من عائشة وسألها: متى وكيف وقع لها ما وقع؟

فأجابت عنها أم حنفي قائلة: كنا جالستين في الصالة، ثم قامت متجهة نحو حجرتها لترتدي معطفها وتخرج وهي تقول لي: «عندما أفرغ من زيارة الحسين سأزور خديجة»، وذهبت إلى الحجرة، وبعد دخولها مباشرة ترامى إلى أذني صوت وقوع شيء فهرعت إلى الداخل فوجدتها ملقاة على الأرض بين السرير والدولاب، فجريت نحوها وأنا أنادي: ست عائشة ...

وقالت عائشة: جئت مسرعة فوجدتها في هذا المكان، فحملناها إلى السرير، وجعلت أسألها عما بها ولكنها لم تجبني، ولم تتكلم، متى تتكلم يا أخي؟

فأجاب في ضيق: عندما يشاء الله!

وتراجع إلى الكنبة ثم جلس، ومضى ينظر في حزن إلى الوجه الشاحب الصامت. أجل لينظر إليه طويلا؛ فعما قريب لن يكون له إلى رؤيته سبيل. هذه الحجرة نفسها ستتغير معالمها وستتغير بالتالي معالم البيت في مجموعه، ولن ينادي به أحد: «أمي». لم يكن يتصور أن موتها سيحمل قلبه هذا الألم كله. ألم يألف الموت بعد؟ ... بلى، ولديه من العمر والتجربة ما يقيه الجزع، ولكن لذعة الفراق الأبدي موجعة، ولعله مما يلام عليه قلبه أنه رغم ما كابد من ألم يتألم كالقلب الغض. وكم أحبته، وكم أحبت الجميع، وكم أحبت كل شيء في الوجود، ولكن هذه السجايا الطيبة لا تعيها النفس إلا عند الفراق. ففي هذه اللحظة الخطيرة تزدحم ذاكرتك بصور أماكن وأزمنة وحوادث يهتز لها من أعماقه، وها هي يخالط نورها الظلام، وتمتزج فيها زرقة الفجر بحديقة السطح، ومجمرة مجلس القهوة بالأساطير، وهديل الحمام بأغنيات حلوة، وكان حبا رائعا أيها القلب الجاحد، ولعلك تقول غدا بحق أن الموت استأثر بأحب الناس إليك، ولعل عينيك أن تدمعا حتى يزجرك المشيب. والنظر إلى الحياة كمأساة لا يخلو من رومانتيكية طفلية والأجدر بك أن تنظر إليها في شجاعة كدراما ذات نهاية سعيدة هي الموت. ثم سائل نفسك إلام تضيع حياتك هباء؟ أن الأم تموت وقد صنعت بناء كاملا فماذا صنعت أنت؟ •••

واستيقظ على صوت أقدام، وإذا بخديجة تدخل الحجرة مرتاعة وتتجه نحو الفراش وهي تنادي أمها وتسألهم عما حل بها. وتضاعف ألمه حتى خاف أن يخونه تجلده فغادر الحجرة إلى الصالة، وما لبث أن جاء ياسين وزنوبة ورضوان، فصافحوه، وأخبرهم عن مرضها دون التفاصيل، فذهبوا إلى الحجرة ولبث وحيدا حتى عاد إليه ياسين وهو يسأله: ماذا قال لك الطبيب؟

فقال في وجوم: شلل والتهاب رئوي، سينتهي كل شيء في ظرف ثلاثة أيام ...

فعض ياسين على شفته وقال بحزن: لا حول ولا قوة إلا بالله ...

ثم جلس وهو يتمتم: مسكينة، كان كل شيء مفاجئا! ألم تشك تعبا في الأيام الأخيرة؟ - كلا، إنها لم تعتد الشكوى كما تعلم، ولكنها كانت تبدو أحيانا كالمتعبة ... - ليتك عرضتها على الطبيب من قبل؟ - لم يكن أبغض إلى نفسها من سيرة الطبيب!

وانضم إليهما رضوان بعد حين فقال لكمال: أرى أن تنقل إلى المستشفى يا عمي ...

فقال كمال وهو يهز رأسه في حزن: لا داعي إلى ذلك، وسيرسل الصيدلي ممرضة يعرفها لتحقنها ...

ولاذوا بالصمت والوجوم يعلو وجوههم، وعند ذاك ذكر كمال أمرا تقتضي المجاملة ألا يهمله فسأل ياسين: كيف حال كريمة؟ ... - ستلد في بحر هذا الأسبوع، أو هذا ما تؤكده الحكيمة ...

فتمتم كمال: ربنا يأخذ بيدها ...

فقال ياسين: سيخرج الوليد إلى الدنيا وأبوه في المعتقل ...

ودق الجرس، فكان القادم رياض قلدس، وقد استقبله كمال ومضى به إلى حجرة مكتبه. وفي الطريق إلى الحجرة قال رياض: سألت عنك في المدرسة فأخبرني السكرتير بالخبر، كيف حالها؟ - أصيبت بشلل وأخبرني الطبيب بأنها ستنتهي في ظرف ثلاثة أيام ...

فوجم رياض وتساءل: أليس هنالك حيلة ما؟

فهز كمال رأسه يائسا، وقال: لعله من حسن الحظ أنها في غيبوبة لا تدري عما ينتظرها شيئا ...

ثم في لهجة ساخرة وهما يجلسان: ولكن هل ندري نحن عما ينتظرنا شيئا؟

وابتسم رياض دون أن ينبس، فعاد الآخر يقول: كثيرون يرون أن من الحكمة أن نتخذ من الموت ذريعة للتفكير في الموت، والحق أنه يجب أن نتخذ من الموت ذريعة للتفكير في الحياة ...

فقال رياض باسما: هذا أفضل فيما أرى، كذلك فلنسأل أنفسنا عند الموت - أي موت - ماذا صنعنا بحياتنا؟ - أما أنا فلم أصنع بحياتي شيئا، هذا ما كنت أفكر فيه ... - بيد أنك ما زلت في منتصف الطريق.

ربما نعم، وربما لا، غير أنه من المستحسن دائما أن يتأمل الإنسان ما يراود نفسه من أحلام، على ذلك فالتصوف هروب، كما أن الإيمان السلبي بالعلم هروب، وإذن فلا بد من عمل، ولا بد للعمل من إيمان، والمسألة هي كيف نخلق لأنفسنا إيمانا جديرا بالحياة.

قال: حسبتني قد أديت للحياة واجبها بالإخلاص لمهنتي كمعلم وبكتابة المقالات الفلسفية ...

قال رياض بعطف: وقد أديت واجبا بلا شك! - ولكنني عشت معذب الضمير كما ينبغي لكل خائن! - خائن؟!

فتنهد كمال وقال: دعني أخبرك بما قال لي أحمد ابن أختي عندما زرته في سجن القسم قبل نقله إلى المعتقل ... - على فكرة، أما من جديد عنهما؟ - لقد رحلا مع كثيرين إلى معتقل الطور ...

فتساءل رياض باسما: الذي يعبد الله والذي لا يعبده؟ - يجب أن تعبد حكومة أولا كي تعيش مطمئنا ... - على أي حال الاعتقال أخف في نظري من المحاكمة! - هذا رأي، ولكن متى تنكشف هذه الغمة؟ متى ترفع الأحكام العرفية؟ متى يعود السلطان إلى القانون الطبيعي والدستور! متى يعامل المصريون كالآدميين؟!

فجعل رياض يعبث بخاتم الزواج في يسراه، ثم قال بحزن: نعم متى! ما علينا، ماذا قال أحمد في سجن القسم؟ - نعم، قال لي إن الحياة عمل وزواج وواجب إنساني عام، وليست هذه المناسبة للحديث عن واجب الفرد نحو مهنته أو زوجه، أما الواجب الإنساني العام فهو الثورة الأبدية، وما ذلك إلا العمل الدائب على تحقيق إرادة الحياة ممثلة في تطورها نحو المثل الأعلى ...

فتفكر رياض قليلا ثم قال: رأي جميل، ولكنه يتسع لكافة المتناقضات ... - نعم؛ ولذلك وافقه عليه أخوه ونقيضه عبد المنعم؛ ولذلك فهمته على أنه دعوة إلى الإيمان أيا كان مشربه وأيا كانت غايته؛ ولذلك فإني أعلل تعاستي بعذاب الضمير الخليق بكل خائن. قد يبدو يسيرا أن تعيش في قمقم أنانيتك ولكن من العسير أن تسعد بذلك إذا كنت إنسانا حقا ...

فأشرق وجه رياض على رغم كآبة المناسبة وقال: هذا بشير بانقلاب خطير يوشك أن يقع!

فقال كمال في حذر: لا تسخر مني، إن مشكلة الإيمان ما زالت قائمة بدون حل، وغاية ما أستطيع أن أعزي به نفسي هو أن المعركة لم تنته، ولن تنتهي ولو لم يبق من عمري إلا ثلاثة أيام كأمي ...

ثم وهو يتنهد: أتعلم ماذا قال أيضا؟ قال: إني أومن بالحياة وبالناس، وأرى نفسي ملزما باتباع مثلهم العليا ما دمت أعتقد أنها الحق؛ إذ النكوص على ذلك جبن وهروب، كما أرى نفسي ملزما بالثورة على مثلهم ما اعتقدت أنها باطل؛ إذ النكوص عن ذلك خيانة، وهذا هو معني الثورة الأبدية!

وجعل رياض ينصت وهو يهز رأسه موافقا، ثم بدا على كمال الإعياء والضيق فقال رياض: أنا مضطر إلى الذهاب فما رأيك في أن تصحبني إلى محطة الترام لعل المشي يريح أعصابك؟

ونهضا معا وغادرا الحجرة، وقابلا ياسين عند مدخل الدور الأول - وكان على معرفة سطحية برياض - فدعاه كمال إلى مصاحبته. غير أنه استأذن منهما دقائق ريثما يلقي نظرة على أمه. ومضى إلى حجرتها فوجدها كما تركها في غيبوبة، وكانت خديجة جالسة في الفراش عند قدميها وقد احمرت عيناها من البكاء، وعلت وجهها الكآبة التي لم تفارقه منذ امتدت يد الحكومة إلى ابنيها. أما زنوبة وعائشة وأم حنفي فقد جلسن على الكنبة صامتات، وكانت عائشة تدخن سيجارة في سرعة وقلق، على حين راحت عيناها تجولان في المكان في اضطراب عصبي، وسألهن: كيف حالها؟

فأجابت عائشة بصوت مرتفع ينم عن الضيق والاحتجاج: لا تريد أن تصحو!

وحانت منه التفاتة إلى خديجة فتبادلا نظرة طويلة دلت على تفاهم حزين ويأس مشترك فلم يتمالك إلا أن يغادر الحجرة ويلحق بصاحبيه.

وساروا في الطريق متمهلين، فقطعوا الصاغة إلى الغورية في شبه صمت، وعندما بلغوا الصنادقية صادفوا الشيخ متولي عبد الصمد ينحدر منها إلى الغورية متوكئا على عصاه، في خطوات مخلخلة، وقد كف بصره وارتعشت أطرافه، وكان يتلفت فيما حوله متسائلا في صوت مرتفع: من أين طريق الجنة؟

فأجابه مار وهو يضحك: أول عطفة على يمينك ...

وقال ياسين لرياض قلدس: أتصدق أن هذا الرجل قد جاوز المائة بما يقرب من عشرة أعوام؟ ...

فقال رياض باسما: إنه لم يعد رجلا على أي حال ...

وكان كمال ينظر نحو الشيخ متولي بعطف. كان يذكر به أباه، وكان يعده معلما من معالم الحي كالسبيل القديم وجامع قلاوون وقبو قرمز، ووجد كثيرين وهم يعطفون عليه، غير أن العجوز لم يسلم من شقاوة بعض الغلمان الذين راحوا يصفرون في وجهه أو يتبعونه محاكين حركاته.

وأوصلا رياض حتى محطة الترام، وانتظرا معه حتى ركب، ثم عادا معا إلى الغورية. وتوقف كمال عن السير فجأة وقال لأخيه: آن لك أن تذهب إلى القهوة ...

فقال ياسين بحدة: كلا، سأبقى معك ...

وكان كمال من أعرف الناس بمزاج أخيه، فقال: لا داعي إلى ذلك البتة ...

فدفعه ياسين أمامه وهو يقول: إنها أمي كما أنها أمك!

وداخل كمال بغتة شعور بالخوف على ياسين! حقا إنه يسير مكتظا بالحياة في ضخامة الجمل ولكن إلام يحتمل حياته المفعمة بالأهواء؟ وطفح فؤاده بالكأبة، غير أن فكره طار فجأة إلى الطور، إلى المعتقل. إني أومن بالحياة وبالناس، هكذا قال، وأرى نفسي ملزما باتباع مثلهم العليا ما دمت أعتقد أنها الحق؛ إذ النكوص عن ذلك جبن وهروب، كما أرى نفسي ملزما بالثورة على مثلهم ما اعتقدت أنها باطل إن النكوص عن ذلك خيانة! وقد تسأل ما الحق وما الباطل، ولكن لعل الشك نوع من الهروب كالتصوف والإيمان السلبي بالعلم. فهل تستطيع أن تكون مدرسا مثاليا وزوجا مثاليا وثائرا أبديا؟!

وعندما مرا بدكان الشرقاوي توقف ياسين وهو يقول: كلفتني كريمة بأن أستبضع لها بعض اللوازم للمولود المنتظر عن إذنك ...

ودخلا الدكان الصغير، وراح ياسين ينتقي ما يريد من لوازم المولود المنتظر؛ قماطا وطاقية ومنامة، وعند ذلك تذكر كمال أن رباط عنقه الأسود الذي استعمله عاما حدادا على والده قد استهلك، وأنه يلزمه آخر جديد ليواجه به اليوم الحزين، فقال للرجل حين فرغ من ياسين: رباط عنق أسود من فضلك ...

وتناول كل لفافته، وغادرا الدكان ...

وكان المغيب يقطر سمرة هادئة فمضيا جنبا إلى جنب نحو البيت ...

अज्ञात पृष्ठ