فقالت في استرضاء: إني أطوف بالضريح الطاهر، وأدعو لك بالصحة والعافية.
ما أمس حاجته إلى صادق الدعاء، فكل طيب يدبر عنه، حتى الدش البارد الذي اعتاد أن ينعش به جسده كل صباح حرم عليه لخطورته - فيما قيل - على حال شرايينه، وإذا صار كل طيب ضارا فليرحمنا الله، ومضى وقت قصير ثم ترامت إلى الحجرة صفقة باب البيت وهو يغلق فرفعت أمينة عينيها متمتمة: «كمال!» ولم تكد تمر دقائق حتى دخل كمال الحجرة في معطفه الأسود الذي نم على نحافته وطوله، يتطلع إلى أبيه خلال نظارته الذهبية، وقد أضفى عليه شاربه المربع الغزير الأسود وقارا ورجولة. انحنى على يد والده مسلما فدعاه إلى الجلوس وهو يسأله كالعادة باسما: أين كنت يا أستاذ؟
وكان كمال يحب هذه اللهجة الودية اللطيفة التي لم يحظ بها إلا بعد عمر طويل، فأجاب وهو يجلس على الكنبة: كنت في القهوة مع الأصحاب.
ترى أي نوع من الأصحاب؟ بيد أنه يبدو جادا رزينا وقورا أكثر من سنه، ثم إن أكثر لياليه تقضى في مكتبته، شتان ما بينه وبين ياسين، وإن كان لكل آفته. وعاد يسأله باسما: أشهدت اليوم المؤتمر الوفدي؟ - نعم، وسمعنا خطبة مصطفى النحاس، كان يوما مشهودا. - قيل لنا إنه كان حدثا عظيما، ولكني لم أستطع حضوره فنزلت عن بطاقة الدعوة إلى أحد الأصدقاء، لم تعد الصحة تحتمل التعب ..
فداخل كمال العطف وتمتم: ربنا يقويك .. - ألم تقع حوادث؟ - كلا مر اليوم بسلام، واكتفى البوليس بخلاف عادته بالمراقبة ..
فهز الرجل رأسه في ارتياح، ثم قال في لهجة ذات معنى: نعود إلى موضوعنا القديم، أما زلت عند رأيك الخاطئ عن الدروس الخصوصية؟!
لم يزل يشعر بالارتباك والحرج كلما وجد نفسه مضطرا إلى إعلان مخالفته لرأي والده، فقال برقة: لقد انتهينا من هذا الموضوع! - في كل يوم يطلب إلي أصدقاء أن تعطي دروسا خصوصية لأبنائهم، لا ترفض الرزق الحلال، إن الدروس الخصوصية مصدر رزق واسع للمدرسين، والذين يطلبونك من أعيان الحي .. فلم ينبس كمال بكلمة وإن نطق وجهه بالرفض المؤدب، فعاد الرجل يقول متأسفا: تأبى هذا كي تضيع وقتك في قراءة لا نهاية لها وكتابة بلا أجر، أيصح هذا من عاقل مثلك؟
وهنا خاطبت أمينة كمال قائلة: ينبغي أن تحب المال كما تحب العلم (ثم موجهة الخطاب إلى السيد وهي تبتسم في خيلاء): إنه كجده لا يعدل بحب العلم شيئا.
فقال السيد متأففا: رجعنا إلى جده! .. يعني كان الإمام محمد عبده؟!
ومع أنها لم تعرف شيئا عن الإمام إلا أنها قالت بحماس: لم لا يا سيدي؟! كان كل الجيران يقصدونه في شئون دينهم ودنياهم!
अज्ञात पृष्ठ