فقال رضوان بفخار: نعم يا سيدي ..
فتفكر الباشا قليلا ثم قال: أذكر أني رأيته مرة في بيت نائب الجمالية، رجل وجيه ووطني صادق، كاد يرشح نائبا في الانتخابات القادمة لولا تنحيه في آخر لحظة لصديقه النائب القديم، إن الاتحاد الأخير أوجب الصداقة في الانتخابات حتى يظفر إخواننا الأحرار الدستوريون ببعض المقاعد، إذن أنت زميل حلمي في الحقوق! جميل، القانون سيد الدراسات، وهو يتطلب لدراسته ذكاء لماحا، أما عن المستقبل فما عليك إلا الاجتهاد!
وجد في نبراته الأخيرة ما يوحي بالوعد والتشجيع، فدب في قلبه الطموح والحماسة فقال: نحن لم نفشل ولا مرة واحدة في حياتنا الدراسية! - برافو، هذا هو الأساس، بعد ذلك تجيء النيابة ثم القضاء وسيوجد دائما من يفتح الأبواب المغلقة أمام المجتهدين، حياة القضاء شيء عظيم، عمادها الذكاء اليقظ والضمير الحي. لقد كنت بفضل الله من أبنائها الصادقين، وقد تركت القضاء للاشتغال بالسياسة، فالوطنية تحتم علينا أحيانا أن نهجر أعمالنا المحبوبة، ولكن إلى اليوم تجد من يضرب بنا المثل في العدالة والنزاهة، فضع نصب عينيك في الاجتهاد والنزاهة وأنت حر بعد ذلك في حياتك الخاصة، قم بواجبك وافعل ما تشاء، أما إذا قصرت في الواجب فلن يرى فيك الناس إلا النقائص، ألا ترى أنه لا يحلو لكثير من الفضوليين إلا أن يقولوا فلان الوزير به الداء الفلاني، وفلان الشاعر به الداء العلاني. حسن، ولكن ليس كل المصابين وزراء وشعراء، فكن وزيرا وشاعرا أولا وافعل بعد ذلك ما تشاء، لا يغيبن عن ذكائك هذا الدرس يا أستاذ رضوان ..
وهنا قال حلمي عزت بخبث: كفى المرء نبلا أن تعد معايبه، أليس كذلك يا سعادة الباشا؟ فثنى الرجل رأسه إلى منكبه الأيمن، وقال: طبعا، سبحان من له الكمال وحده، الإنسان ضعيف جدا يا رضوان، ولكن عليه أن يكون قويا في الجوانب الأخرى. مفهوم؟ لو تشاء أحدثك عن كبار الرجال في الدولة ولن تجد واحدا خاليا من داء، وسوف نتحادث طويلا ونتدارس العبر كيما تكون لنا حياة موفورة الكمال والسعادة ..
فنظر حلمي إلى رضوان قائلا: ألم أقل لك إن صداقة الباشا كنز لا يفنى؟
فقال عبد الرحيم عيسى موجها الخطاب إلى رضوان الذي لم تكد تتحول عنه عيناه: إني أحب العلم وأحب الحياة وأحب الناس، وديدني أن آخذ بيد الصغير حتى يكبر، وأي شيء في الدنيا خير من الحب؟! يجب إذا واجهتنا مشكلة قانونية أن نحلها معا، وإذا فكرنا في المستقبل أن نفكر معا، وإذا نازعتنا أنفسنا إلى الراحة أن نرتاح معا، ما وجدت رجلا حكيما مثل حسن بك عماد، اليوم هو من رجال السلك السياسي المعدودين، ودعك من أنه من أعدائي السياسيين، ولكنه كان إذا تفرغ لبحث قتله، وإذا طرب رقص عاريا، الدنيا حلوة على شرط أن تكون حكيما واسع .. الإدراك! ألست واسع الإدراك يا رضوان؟
فأجاب عنه حلمي عزت من فوره: إذا لم يكن فنحن على استعداد لتوسيعه!
فأشرق وجه الباشا بابتسامة طفلية نمت عن رغبته التي لا حد لها في المسرة، وقال: هذا الولد عفريت يا رضوان، لكن ما حيلتي؟ إنه زميل صباك، يا بخته! ولست أنا القائل إن الطيور على أشكالها تقع. لازم أنت أيضا عفريت، خبرني يا رضوان من أنت؟ هه. إنك تركتني أتكلم بلا وعي وأنت صامت كدهاة السياسة، هه؟ قل يا رضوان ماذا تحب وماذا تكره؟
عند ذاك دخل الخادم حاملا صينية القهوة، وكان فتى أمرد شبيها بالبواب والسائق، فشربوا أكواب الماء الممزوجة بالزهر، وجعل الباشا يقول: الماء بالزهر شراب أهل الحسين، أليس كذلك؟
فغمغم رضوان باسما: نعم يا سيدي.
अज्ञात पृष्ठ