सूडान
السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية (الجزء الثاني)
शैलियों
وقالت اللجنة:
ويجمل بنا في هذا المقام أن نورد بالإيجاز الأسباب التي نرى أنها تقضي باستحالة تسوية مسألة السودان على المبادئ التي يراد تسوية المسألة المصرية عليها، ونشير في الوقت عينه إلى الخطة العامة التي يلوح لنا أنها أصلح من سواها لسد حاجات السودان الحالية فنقول:
إن الأكثرية الكبرى من أهل مصر متجانسة بالنسبة إلى سواها. أما السودان فمقسوم بين العرب والسود، وفي كل من هذين الجنسين الكبيرين أجناس وقبائل يختلف بعضها عن بعض اختلافا عظيما ويضاد بعضها بعضا كثيرا. أما عرب السودان فيتكلمون باللغة التي يتكلم بها أهل مصر وتجمع بينهم لغة الدين، والإسلام آخذ في الانتشار في السودان حتى بين الأجناس غير العربية من أهله. وهذه المؤثرات تلطف ما بين أهالي البلدين من التضاد والتنازع، ولكنها تقوى عليه بعد ما زادت تذكار سوء الحكم المصري الماضي قوة وشدة.
أما الروابط السياسية التي تربط السودان بمصر في فترات مختلفة من الزمان الماضي، فكانت دائما روابط واهية، فإن الفاتحين المصريين اجتاحوا أقساما من السودان بل السودان كله، ولكن مصر لم تخضع السودان قط إخضاعا حقيقيا، ولا أدغمته فيها وجعلته بعضا منها بمعنى من المعاني، وكان فتحها له في القرن الماضي نكبة كبيرة على البلدين معا، وانتهى أمره بفتنة المهدي التي قلبت السلطة المصرية رأسا على عقب في أوائل العقد الثاني من ذلك القرن، ولم يبق للسلطة المصرية أثر في السودان مدة أكثر من عشر سنوات إلا في مقاطعة صغيرة حول سواكن، فاضطرت بريطانيا العظمى من جراء ذلك الفشل أن تجرد عدة حملات أنفقت عليها أموالا طائلة لنجدة الحاميات المصرية والدفاع عن مصر التي كانت عرضة لسيل عصابات المهدي الجارفة، واستلمت الأيدى البريطانية زمام حكومة السودان فعلا منذ فتحت القوات البريطانية والمصرية البلاد بقيادة قواد بريطانيين في سنة 1896-1898، وبات السودان تحت الحماية البريطانية المصرية في سنة 1899؛ لأن الحاكم العام وإن كان يعينه سلطان «وسابقا خديوي» مصر، فالحكومة البريطانية هي التي ترشحه، وكل مديري المديريات وكبار الموظفين هم من البريطانيين، فتقدم السودان تقدما عجيبا ماديا وأدبيا تحت رعاية الحكومة المنظمة هذا النظام؛ لأننا إذا حسبنا حساب كل ما تقتضيه بساطة هذه القضية، وهي إدخال المبادئ الأولية لحكومة منظمة متمدنة إلى بلاد أهلها لا يزالون في أول عهد السذاجة حكمنا أن النجاح العظيم الذي نجحته بلاد السودان في المدة الطويلة التي كان فيها السر رجينلد ونجت حاكما عاما عليها يعد أمجد صفحة في تاريخ الحكم البريطاني على الشعوب المتأخرة. أما الحكومة الحالية فمقبولة ومحبوبة عند أهل السودان. والسلام والتقدم مخيمان على تلك البلاد إلا فيما ندر.
غير أنه وإن تكن مصر والسودان بلدين ممتازين أحدهما عن الآخر وارتقاؤهما يكون على منهاجين مختلفين، فلمصر مع ذلك مصلحة عظيمة جدا في السودان، وهي أن النيل الذي يتوقف عليه وجود مصر وكيانها يجري مسافة مئات من الأميال في بلاد السودان، فمن أهم الأمور لمصر منع أي تحويل لماء النيل يمكن أن يقلل مساحة أراضيها الزراعية الحالية التي تبلغ مساحتها حوالي مليوني فدان، وتصير قابلة للزراعة إذا خزن ماء النيل وزاد ما يرد منه للري عما هو عليه الآن. وقد كانت كمية المياه التي يأخذها السودان رأسا من النيل قليلة حتى الآن، ولكن كلما زاد عدد سكان السودان احتاجت بلادهم إلى ماء أكثر لأجل تقدمها. وقد يفضي ذلك إلى التضارب بين مصالحهم ومصالح أهل مصر، ولكن الأمل وطيد أنه إذا حفظت مياه النيل جيدا ووزعت كذلك كفت لري كل الأطيان التي يمكن أن تحتاج إلى الري، سواء كانت في مصر أو في السودان، ولكن التحكم بمياه النيل وضبطها للري مسألة أعظم مكان من الأهمية والقضايا التي تنطوي تحت ذلك - فنية كانت أو غير فنية - صعبة ومعقدة جدا بحيث يقتضي في رأينا تعيين لجنة دائمة من خبيرين من الطبقة الأولى، وأيضا من رجال ينوبون عن كل البلدان التي لها علاقة بهذا الأمر، وهي مصر والسودان وأوجندا لتحل كل المسائل التي لها مساس بالتحكم بماء النيل وضبطه، ولتضمن توزيع الماء بالقسط.
ولتجاور مصر والسودان ولاشتراكهما في المصلحة في النيل يحسن أن تكون بينهما رابطة سياسية على الدوام، ولكن هذه الرابطة لا يمكن أن تكون صورتها خضوع السودان لمصر. فبلاد السودان قابلة للتقدم والارتقاء حسب مقتضى أوصافها واحتياجاتها مستقلة بنفسها. ويحق لها أن تكون كذلك أيضا. ولم يحن الوقت بعد لتعيين الحالة السياسية التي تكون عليها في آخر الأمر، ويكفيها لقضاء أغراضها في الوقت الحاضر الحالة التي عينت لها باتفاق سنة 1899 بين بريطانيا العظمى ومصر، حيث ينص على الصلة السياسية اللازمة بين مصر والسودان من دون تأخير السودان عن الترقي والتقدم مستقلا عن مصر.
والضرورة تقضي الآن بأن يكون السودان كله تحت سلطة واحدة عليها، ولكن لا يستحسن أن ينحصر الحكم كله في حكومة مركزية، بل الواجب إلقاء مقاليد إدارته بقدر الإمكان إلى حكام من الوطنيين
2
حيثما وجدوا تحت المراقبة البريطانية؛ نظرا لاتساع أرجائه واختلاف طبع أهله وأخلاقهم، فالحكومة البيروقراطية المركزية لا تلائم السودان على الإطلاق. وإنما تلائمه اللامركزية، واستخدام العناصر الوطنية، حيث يستطاع لقضاء الأعمال الإدارية البسيطة التي تحتاج البلاد إليها في الحالة التي هي عليها من التقدم؛ لأن ذلك يقلل نفقاتها، ويزيد في كفاءة رجالها وحسن إدارتها، والموظفون الآن من أهل البلاد لا يزالون قلال العدد في جنب الذين يؤتى بهم من مصر، وهؤلاء لا يحبون الخدمة في السودان، ولكن هذه الصعوبة ستزول كلما تقدم العلم في السودان وزاد عدد الذين يصيرون كفئا من أهله لتقلد الوظائف الرسمية. والواجب في الوقت عينه الانتباه الكلي إلى أمر التعليم حتى لا يرتكب فيه الخطأ الذي ارتكب في مصر بإدخال نظام إليها لا يؤهل التلامذة لعمل يذكر سوى الأعمال الكتابية والوظائف الإدارية الصغيرة، وتخريج جمهور كبير يفوق الحاجة من الذين تطمح أبصارهم إلى الاستخدام في الحكومة، فليس في السودان مجال لجيش من صغار المستخدمين؛ ولذلك يجب أن يتوجه التعليم بحيث يربي في السودانيين القابلية والميل إلى الأعمال الأخرى كالزراعة والصناعة والتجارة والهندسة، إذ حاجة تلك البلاد الآن هي إلى الترقي المادي، وفي وسعها الاستغناء عن نظام إداري على غاية من الإتقان.
إن القواعد العسكرية التي لا تزال تستخدم في السودان كبيرة جدا. نعم إن وجود جيش كبير في تلك البلاد كان لازما لإتمام فتحها ولاستتباب السكون فيها، ولكنا نرى أن الزمان قد حان لإعادة النظر في مسألة القوات العسكرية
अज्ञात पृष्ठ