إن المناهج حقول اختبار ومغارس، منها تنقل الغرسات السليمة المنيعة إلى حديقة الوطن الكبرى، فلا يليق أن تظل بورا، لا يليق بوطن فتي أن يظل أبناؤه يتيهون في قفار بسابس كالطلول الدوارس. التعليم في كل أمة وسيلة للتربية القومية، وغاية التربية صقل الغرائز الموروثة، لا خلق أخلاق جديدة. ليس التعليم دهانا وطلاء إنما هو تثقيف ثم صقل، كما يفعل النجار بالخشب الشريف، فلننجر إذن غير الشوح لهذا الوطن الجديد. الطلاء يزول أما العرق الأصيل فلا يمحي ولا يعفو كالطلول.
فأي هدف يصيب من يعلم تلميذه باب التمييز قائلا له: عندي رطل زيتا؟! هذا مثل وضعه النحاة الأولون حين كانوا يكتبون على ضوء مصباح راهب امرئ القيس، فلماذا نردده نحن على من في بيوتهم قناطير زيت؟ أنعلم التلميذ التمييز ونكون بلا تمييز؟!
السيارات احتلت مملكة الدواب واستعمرتها فقبعت الجحاش واجمة، والمعلم ما زال يصيح بالمحبوسين في قفص صفه: قام القوم إلا حمارا! لقد بعد عهد الحمير بالشعير فكيف تقوم يا مولانا؟! لماذا لا تقول: هب الناس إلى الدفاع عن الوطن إلا الجبناء، أو غير الجبناء؟ اختر أنت المستثنى المناسب، فتكون علمت تلميذك وجعلت منه مواطنا شجاعا.
ألم يبلغك بعد قول جون ديوي فيلسوف التربية الأمريكي: «العلم وسيلة لا غاية»؟ فبماذا تتوسل يا زميلي؟ وإلى أية غاية تسعى؟ أنظل نتلهى بعقول بنينا وننقرها ونحشوها كأنها الكوسى والباذنجان؟!
يقول علماء التربية: التلميذ فرن يحمى لا وعاء يملأ. ومع ذلك نرى المعلم يحشو أبدا كأنه يعلف خروفا ... يجلس على منبره مقلص الوجه لا تبين له سن ولو وضعت بين فكيه مخل أرخميدوس، أمجنون هو حتى يبتسم؟! ومن يضمن له هيبته ووقاره إذا ضحك؟!
وجد ليكون رفيقا ومرشدا فصار ناطور ورشة وخفير أسرى حكم عليهم بالأشغال الشاقة وليس لهم أن يقفوا، إن عطس تلميذ عطسة رنانة طار صوابه، وعد ذلك تحديا لهيبته وأبهته، وإن تنحنح أو سعل امتعض على كرسي مجده! فلماذا كل هذا؟ ومن أية الطرق أتته هذه الطباع؟!
مسكين المعلم! حمله ثقيل، عليه أن يبلغ المحج ويؤدي الحساب على البيدر، فالنتائج التي يتوقعها الآباء والمدارس يلحس كرباجها ظهره كلما وقف، فعليه أن يحصل على أكبر عدد ممكن من الشهادات ليربت على ظهره وينام على الثقة مطمئنا. أما التربية والرجولة والتفكير فليست في حساب أحد، قضى الزمن الماضي أن تكون من الأمور التافهة، أما اليوم وقد صرنا بالغين راشدين فعلينا أن نعد للوطن رجالا، وهذا يكون بإعداد المعلمين أولا والمدارس ثانيا والتلاميذ ثالثا. نحن بحاجة إلى فتية يتهيئون منذ اليوم للنهوض بالأعباء الثقيلة التي ستلقى على ظهرهم، إننا نعلم كثيرا ونربي قليلا، فعناية ليس فيها كبير عناء تمكننا من إصابة عصفورين بحجر واحد، إنني لأستطيع القول إن تعليمنا الحاضر ليس بضاعة تنفق في بندر الحياة؛ فهذا الطالب النجيب الحائز علامة جيد جدا في البكالوريا لو كلف عملا آخر غير ما لقن في الصف تأهبا للامتحان، تخاذل وتلعثم. فلو علمته مدرسته ما ينفعه في حلبة الرغيف لكانت نصف مصيبة، ولكنه لا مواطنا صار ولا خبزا أكل، فأساليبنا المتبعة لا رجالا تخلق ولا علماء توجد، نسلمهم للحرب الحديثة بنادق الفتيل والصوان في عهد القذائف والمتراليوز!
قال غوستاف لوبون: إن انتخاب طرائق التربية أولى باهتمام الأمة من انتخاب شكل الحكومة. فلنسرع إذن، فالاستقلال أمانة بين أيدينا ولا يحافظ عليه إلا بخلق مؤمنين به، وهؤلاء لا توجدهم إلا مدارس مخلصة، مدارس مؤمنة بوطنها، ومعلمون مؤمنون بأنهم معلمون، وبأنهم مواطنون، أساتذة يعلمون أنهم يدربون رجل الوطن العتيد، وأن من عندهم وحدهم يخرج قواد الرأي العام.
إن المدارس هي عرق الوطن الحساس، ومنها تتصاعد الصرخات الأولى: نريد الاستقلال، ليحي الاستقلال.
قد يتهم التلاميذ من لا يوافقه هتافهم أنهم يفعلون ذلك تخلصا من دروسهم، أما أنا الذي عجنتهم وخبزتهم فأقول: لا وألف لا، يهتاج الطلاب فتقول: على العلم السلام، حتى إذا هدأت العاصفة خلت أنه لم يكن شيء مما كان.
अज्ञात पृष्ठ