ومن الواضح أن هيجل قد أخذ هذه الفكرة على علاتها، ولم يحاول أن يبحث لها عن دلالة غير دلالتها الظاهرة، ولم يسأل نفسها إن كان المقصود من هذه الفكرة هو أن تنطبق على كائن فوق الطبيعة أم هو أن يبدأ تفلسفه بتأكيد اكتفاء الطبيعة في مجموعها بذاتها.
ومن المعترف به أن هذه الفكرة، إذا ما نظر إليها حرفيا، تتعرض لانتقادات كثيرة. وقد أشار «أوبرڨك» إلى بعض هذه الانتقادات فقال: إن الشيء لكي يكون علة ذاته، ينبغي أن يوجد قبل ذاته، وإلا لما استطاع أن يكون علة لشيء، فإذا كان اسپينوزا قد عرف ما هو علة ذاته بأنه ما تنطوي ماهيته على وجوده، فينبغي أن يرد على ذلك بأن الماهية لا يمكنها أن تسبب الوجود ما لم تكن موجودة بالفعل من قبل، بحيث يكون ما يتعين إحداثه بالعلية موجودا قبل أن تحدثه العلية. وبعبارة أخرى: فاسپينوزا هنا يضفي كيانا موضوعيا على تمييز لا يتصور إلا بالتجريد، بين الماهية والوجود. أما الشطر الثاني من التعريف، وهو «ما لا تتصور طبيعته إلا موجودة»، فإنه ينطوي على جميع أخطاء الحجة الأنتولوجية، التي وقع فيها من قبل أنسلم وديكارت؛ فكل حجة تستند إلى تعريف تقتضي مقدما إثبات وجود المعرف. وهذه مصادرة منطقية تجاهلها اسپينوزا والباقون. وهكذا يكون المعنى الوحيد الذي يمكن تصوره، في نظر المؤلف، لما هو علة ذاته، هو معنى «اللامعلول
causeless ».
47
وإذا كان النقد السابق يرتكز على الفهم المألوف لفكرة «العلية» وهو الفهم الذي يفترض مقدما فكرة التعاقب الزمني بين العلة والمعلول، فإن «هاليت» يسخر من كل محاولة لانتقاد فكرة «علة ذاته» من خلال هذا المعنى المألوف للعلية، ويؤكد أن المقصود أساسا بالعلية هنا ليس كون العلة «لديها» القوة، بل كونها «هي ذاتها» القوة، وإذا كانت هذه القوة مطلقة فإن فعلها (أو معلولها) يكون موجودا بذاته معها؛ فالحقيقة الأولى
primordial real
هي إذن الثنائية في وحدة العلة أو القوة والمعلول أو الفعل.
48
وسواء أكان هذا التفسير أو ذاك هو الصحيح، فإن المسألة الأهم هي أن كليهما يشير - بطريق مباشر أو غير مباشر - إلى ضرورة الابتعاد عن الفهم الحرفي للفكرة إذا أردنا من هذه الفكرة أن تكون مثمرة؛ فالقول: إن المعنى الوحيد المعقول لفكرة «علة ذاته» هو أنها «اللامعلول»؛ يعني أن فكرة اسپينوزا تخفق إذا فهمت من خلال المصطلح والتفكير المدرسي، وكذلك الحال في تفسير الفكرة من خلال وحدة القوة والفعل في الحقيقة الواحدة، ولا يجد المرء عندئذ مفرا من القول إن استخدام الاصطلاح المدرسي التقليدي كان مصطنعا؛ فالمأزق لذي تنتهي إليه الحجج والتعبيرات المدرسية يؤدي إلى البحث عن تفسير مقنع من وراء الثوب اللفظي الذي تسري عليه كل هذه الانتقادات. وفي هذه الحالة لا يكون أمامنا مفر من أن نفسر فكرة «علة ذاته» عند اسپينوزا على هذا النحو: إذا كان هناك شيء هو علة ذاته؛ أي لم ينتج عن علة خارج ذاته، فهذا الشيء هو مجموع الطبيعة، الذي لا يمكن تصوره إلا موجودا، وفي الطبيعة تكون العلية داخلية بحق؛ فهذا المجموع الكلي للأشياء ينطوي في ذاته على كل ما يمكن أن يطرأ على الأشياء من تغيرات، وفي قوانينه الأزلية توجد بالقوة بذور كل تغير أو حادث ممكن في العالم وهو ذاته قديم لا يمكن أن يكون من صنع حقيقة خارجة عنه.
ومن الطبيعي أن يوجه إلى هذا التفسير السؤال الآتي: ولماذا لا يمكن تصور مجموع الطبيعة إلا موجودا؟ أليست هناك مشكلة فلسفية كاملة اسمها مشكلة إثبات وجود العالم؟ والرد على هذا السؤال هو أن هذه المشكلة، التي كانت قائمة لدى الكثيرين من الفلاسفة، ولا سيما المثاليين منهم، لم تكن من المشاكل المعترف بها أصلا في فلسفة اسپينوزا، فوجود العالم عنده لم يكن موضوع تساؤل، وكتاباته كلها لا تتضمن حرفا واحدا ينم عن الشك في أن هذا العالم قد لا يكون موجودا، أو يهيب بحقائق أخرى (كحقيقة «الصدق الإلهي» عند ديكارت) ليستمد منها الثقة بوجود العالم، فإذا كان تأكيد وجود العالم هو نقطة البداية الأولى للتفلسف، كما أوضحها اسپينوزا في السطر الأول من كتاب «الأخلاق» فإن اسپينوزا يمكن أن يعد «توكيديا» أو «دجماطيقيا» بحق في هذا الميدان. ومع ذلك فإن فلسفته ربما كانت أقوى محاولة جادة بذلت لإثبات أن «التوكيدية» في هذا الميدان أسلم وأقرب إلى الفهم العلمي الدقيق لطبيعة الكون من الاتجاهات النقدية المؤدية إلى الشك أو اللاأدرية أو الإنكار المطلق لحقيقة العالم، وفي اعتقادي أن اسپينوزا سوف يفهم فهما أفضل، ويقدر أكثر مما قدر حتى الآن، في اليوم الذي تكف فيه الفلسفة ذاتها عن التساؤل الممل، والعقيم، عما إذا كان العالم موجودا أو غير موجود، وتعد فيه هذا الوجود - كما فعل اسپينوزا - نقطة بداية واضحة بذاتها، لا مشكلة تضيع طاقة الفكر في محاولة إيجاد «الحلول» لها. •••
अज्ञात पृष्ठ