كان عنده لفظا زائدا؛ أي مجرد لفظ كلامي صوتي؟ ألم تكن كل المعاني التي تعزى إلى هذا اللفظ عادة غائبة تماما عن ذهنه؟ ألا تنطبق أوصافه كلها، بكل اتساق، على مفهوم الطبيعة أو مجموع الكون؟ وما قيمة ترديد الاسم على الدوام، إذا كانت الحقيقة التي يدل عليها هذا الاسم هي حقيقة لا يعني المنظور البشري بكل ما فيه أي شيء بالنسبة إليها؟ إن كل ما كان يعنيه البشر عندما تصوروا لأنفسهم آلهة منذ أقدم العصور، هو أن يجدوا في الكون قوة تفهمهم وتتصل بهم على نحو، وتقدر أمانيهم على الأقل، إن لم تكن تحققها بالفعل، فإذا نفى مفكر هذا الاتصال، وانتقد بشدة أي تشبيه للآلهة بالإنسان، فماذا يكون قد تبقى لدى هذا المفكر من الأوصاف التي ظل البشر يعزونها دائما إلى الآلهة، بل ماذا يكون «المبرر» للقول بإله عندئذ؟ ألا تكون الفكرة، بأوصافها هذه، منطبقة على الطبيعة وحدها فحسب؟ (3) دلالة إخفاق براهين وجود الله عند اسپينوزا
لم يستخدم اسپينوزا، في محاولاته لإيجاد براهين عقلية على وجود الله، برهان العلية في صورته المألوفة؛ إذ إن هذا البرهان يفترض الرجوع في سلسلة العلل حتى يستنفد العالم كله، وبعد ذلك يؤدي بنا ميلنا الطبيعي إلى البحث عن علة لكل شيء، إلى افتراض وجود كائن آخر تقف به هذه السلسلة عند حد، ولا بد أن يكون هذا الكائن، عندئذ، عاليا على العالم يمارس عليته دون أن يكون هو ذاته منتميا إليه على أي نحو.
ويبدو أن اسپينوزا قد طبق مبدأ الاقتصاد في الفكر على مسألة العلية الكونية هذه، فأدى به ذلك التطبيق إلى الوقوف، في سلسلة التعليلات، عند العالم في مجموعه؛ ذلك لأن افتراض كائن آخر «بعد» العالم للتخلص من مشكلة العلية داخل هذا العالم، سيؤدي حتما إلى ظهور نفس المشكلات التي حاولنا، بافتراضنا له، أن نتخلص منها؛ إذ إننا لو كنا لا نستطيع الكف عن ترديد السؤال: ما سبب كذا؟ فسيكون من المحتم علينا أن نظل نوجه هذا السؤال في صدد أي كائن نفترضه، سواء أكان داخلا في نطاق العالم أم عاليا عليه. ومع ذلك فالذي يحدث هو أننا نقنع أنفسنا بضرورة الوقوف في سلسلة العلل عند حد معين. وهكذا نفترض كائنا عاليا على العالم يكون وسيلة لإيقاف هذه السلسلة عند حد، ولكن إذا كان من المحتم أن نقف عند حد، وإذا لم يكن أمامنا مفر من أن نكبت، عند نقطة معينة، رغبتنا الطبيعية في البحث عن سبب لكل شيء، فلم لا تكون هذه النقطة التي نتوقف عندها هي الكون في مجموعه؟ إن مبدأ الاقتصاد في الفكر يوفر علينا - طالما أن مشكلة التوقف فجأة في سلسلة العلل ستظهر على أي حال - أن نفترض أي كيان خارج عن الطبيعة لنحل به مشكلة العلية فيها، ويقنعنا بالتوقف عند حد الطبيعة ذاتها. وهكذا يتناول اسپينوزا جميع الأوصاف التي كانت تعزى عادة إلى العلة فوق الطبيعية، وينسبها إلى آخر حلقة سابقة عليها سلسلة التعليلات؛ أعني آخر حلقة يمكن أن يتصورها العقل بوضوح دون أن يكون مرتكزا على فروض غيبية. وكانت مهمة اسپينوزا - كما حددها لنفسه - هي أن يثبت أن ما ينطبق على هذه العلة فوق الطبيعية يمكن أن ينطبق أيضا على العالم أو الطبيعة في مجموعها، وأننا لا نخسر في هذه الحالة الثانية شيئا، بل إن الأوصاف التقليدية كلها يمكن أن تنطبق على مجموع الطبيعة باتساق يختفي فيه ذلك التناقض الذي تتسم به كلما نسبت إلى حقيقة تتجاوز الطبيعة.
على هذا النحو يبدو أن اسپينوزا قد فكر عندما استبعد كل حجة تتعلق بالعلية فوق الطبيعية. وكان النوع الوحيد الذي تصوره من العلية هو العلية الكامنة في الطبيعة؛ أعني علية النظام الكلي للأشياء، الذي لا بد أن يكون أساسا لكل ما يحدث داخله من الظواهر، بل وأساسا لذاته بمعنى ما.
وهكذا ظهرت لدى اسپينوزا فكرة ما هو «علة ذاته
Causa sui »، وهي فكرة كنت بلا شك تحتل موقعا أساسيا في فلسفته؛ لأن أول تعريف في كتاب «الأخلاق» يتعلق بها، ومن المؤكد أن أهميتها لا ترجع إلى كونها فكرة مستمدة من المصطلح الفلسفي في العصور الوسطى، وغنما هي ترجع إلى استخدام اسپينوزا الخاص لها، الذي نقلها فيه إلى مجال جديد تماما، وجعلها وسيلة لإثبات اكتفاء الطبيعة بذاتها.
في هذا التعريف الأول من كتاب «الأخلاق» يقول اسپينوزا: إن علة ذاته هو «ما تنطوي فيه الماهية على الوجود، أو ما لا تتصور طبيعته إلا موجودة.» وقد علق «هيجل» على هذا التعريف بقوله: «إن «علة ذاته» تعبير جدير بالانتباه؛ إذ إننا بينما نخيل لأنفسنا عادة أن المعلول يقف مقابل العلة، فإن علة ذاته هو العلة التي تؤثر في «آخر» وتنفصل عنه، ولكنها في الوقت ذاته لا تنتج إلا ذاتها، وتمحو هذا التمييز بالتالي في ذلك الإنتاج. فوضعها لذاتها على أنها «آخر» هو عدم أو تدهور، وهو في الوقت ذاته نفي هذا العدم؛ فهذه الفكرة نظرية بحت
speculative
وهي في الواقع فكرة أساسية في كل نظر فلسفي.»
46
अज्ञात पृष्ठ