ولا يكف اسپينوزا عن الإعراب عن تمجيده للحياة الاجتماعية في ظل العقل، وكأنه يرد، بهذا التأكيد، على أولئك الذين دأبوا على الربط بين الفردية والتفلسف، ولم يتصوروا إمكان قيام اجتماع بين العقول إلا على أساس تنازل هذه العقول عن جزء من امتيازها وتفوقها. «... لا شيء أنفع للإنسان من الإنسان؛ أجل، فليس في الوسع الناس أن يتمنوا شيئا كفيلا بحفظ وجودهم، أعظم من أن يتفق الجميع على أن تكون أذهان الجميع وأجسادهم ذهنا واحدا وجسما واحدا، إن جاز هذا التعبير، وأن يحاول الجميع بصوت واحد، بقدر استطاعتهم، أن يحفظوا وجودهم، ويسعوا جميعا إلى ما يفيدهم جميعا. وهكذا فإن الناس الذين يحكمهم العقل - أي الذين يسعون إلى ما هو مفيد لأنفسهم وفقا للعقل - لا يتمنون لأنفسهم شيئا لا يتمنونه أيضا لبقية البشر، وبالتالي يتصف سلوكهم بالعدالة والإخلاص والشرف.»
38
وإذا كان اسپينوزا في النص السابق يرد على أولئك الذين يؤكدون أن العقل يفقد امتيازه إذا فقد عزلته، ويضع مقابل ذلك غاية مضادة لمجتمع الأحرار من الناس، هي «عقل واحد وجسم واحد»، فإنه، في النص التالي، يكاد يرد مقدما على أولئك الذين سيصفونه هو ذاته، فيما بعد، بأن ميوله أشبه بميول الراهب المنعزل الزاهد في متاع الدنيا، وهي أوصاف يرددها كثير من شراح اسپينوزا التقليديون؛ فالأساس الذي يجمع به العقل بين الناس ليس هو الزهد في كل ما يتصل بالطبيعة الأصلية للإنسان، وإنما هو تحقيق كل جوانب هذه الطبيعة، بإرشاد العقل، على أكمل نحو. «إن ما قلناه ليثبت بالتجربة بوضوح يجعل الناس كلهم يجمعون تقريبا على القول: إن الإنسان إله لأخيه الإنسان.
39
ورغم ذلك فنادرا ما يحدث أن يطيع الناس العقل؛ إذ إنهم يسيرون في حياتهم وفق نظام قوامه الحسد والشقاق المتبادل. ومع ذلك لا يكاد يكون في استطاعتهم أن يحيوا حياة منعزلة، بحيث إن تعريف الإنسان بأنه حيوان اجتماعي كان يلقى دائما موافقة الجميع، بل إن نفع الحياة الاجتماعية للإنسان يفوق ضررها إلى حد بعيد. فليضحك الساخرون ملء أشداقهم على أحوال البشر، وليلعنها اللاهوتيون، وليمدح كارهو الإنسان، قدر استطاعتهم، حياة البداوة الجلفة، وليكيلوا الاحتقار للإنسان والمدح للبهائم؛ فسوف يجد هؤلاء، بعد هذا كله، أن في وسع الناس أن يفوا بحاجاتهم على نحو أيسر كثيرا بالتعاون المتبادل، وأن الوسيلة الوحيدة لنجاتهم من الأخطار المحيقة بهم من كل جانب هي توحيد قواهم.»
40
ولعلنا لا نكون مسرفين كثيرا في التفسير إذا قلنا: إن اسپينوزا كان، في ربطه بين التعاون المتبادل بين الناس وبين زيادة تيسير الوفاء بحاجاتهم، يدافع في الوقت ذاته عن الحضارة الصناعية الحديثة التي شهد أول البوادر الممهدة لها، وينتقد مقدما أولئك الذين يندبون أيام عزلة الإنسان واكتفائه بذاته، ويجعل من نفسه مدافعا عن مبدأ تقسيم العمل، مؤكدا - كما سنرى أيضا فيما بعد - أنه أقدر على تحقيق كمال الإنسان بكثير من حياة «البداوة الجلفة». (4) الجوانب السلبية والإيجابية في النظرية الأخلاقية
من الطبيعي أن تثار مشكلة السلبية والإيجابية في صدد كل مذهب أخلاقي يدعو إلى قهر الانفعالات عن طريق العقل؛ فمنذ الرواقيين أصبح الاعتراض على مثل هذه المذاهب بالسلبية أمرا مألوفا. أليست تدعو الإنسان إلى أن يركز طاقته في كبت انفعالاته وقهرها، ويستخدم عقله في السيطرة على ذاته، بدلا من أن يستغل هذه الطاقة في التغلب على العوامل الخارجية المؤدية إلى هذه الانفعالات، أو يستخدم عقله في السيطرة على العالم المحيط به؟ إن مثل هذه المذاهب، ابتداء من الرواقية حتى اسپينوزا، تبدو صالحة لأناس يعجزون عن تغيير العالم المحيط بهم فيركزون جهودهم في تغيير أنفسهم، ويجعلون مسرح نشاطهم هو عالمهم الباطن؛ لأنهم لا يملكون أن يسيطروا على أي عالم سواه.
وفي نظرية اسپينوزا في قهر الانفعالات كثير من العناصر التي تشجع على مثل هذا النقد. وهو يتحدث أحيانا بلهجة توحي مباشرة بالسلبية، كما في قوله، في الرسالة رقم 30 التي يتحدث فيها إلى أولدنبرج عن الحرب الدائرة بين هولندا وإنجلترا، وهي الحرب التي لا يوافق عليها وعلى ما يراق فيها من الدماء: «أما أنا فلا تثير في هذه القلاقل ضحكا ولا بكاء؛ وإنما تدفعني إلى التفلسف وإمعان النظر في طبيعة البشر؛ إذ لست أعتقد أن من حقي أن أسخر من الطبيعة، أو أن أشكو منها، وذلك كلما فكرت في أن الناس، شأنهم شأن سائر الموجودات، ليسوا إلا جزءا من الطبيعة، وفي أنني أجهل كيف تتفق هذه الأجزاء مع الكل وتتمشى معه، وكيف يرتبط كل جزء بالباقين ... فأنا الآن أترك لكل الحرية في أن يحيا وفقا لطبيعته ...»
هذه دون شك نظرية سلبية إلى ظاهرة يعترف، هو ذاته، بأنها شر، وهي الحرب، ولكنه يعزوها إلى ضعف كامن في الناس لا يمكن إحداث تغيير فيه. والنظرة السلبية ترتبط - كما هو واضح من هذا النص - بتأمل الأمور في طبيعتها الضرورية؛ أي من منظور الأزل. فلا بد له، لكي يترفع عن صغائر الناس ومظاهر ضعفهم، من أن يربط كل حادث بالمجرى الضروري الأزلي للطبيعة. وهذا أمر مستساغ في لحظة التحليل والتفلسف، ولكنه إذا أصبح يعبر عن الموقف الوحيد للفيلسوف، فإنه يؤدي إلى إنكاره لوجوده الإنساني، وكفه عن المشاركة العملية في الشئون اليومية لبقية الناس. ومن الواضح أن حياتنا العملية تقتضي نوعا من التخلي المتعمد - مؤقتا - عن وجهة النظر الأزلية والاهتمام من آن لآخر بجزئية الحوادث، وبعالم الانفعالات بما فيه من قيم بشرية هي حقا لا تنتمي إلى طبيعة الأشياء، ولكنها قطعا تعبر عن مشكلات أصيلة في حياة الإنسان.
अज्ञात पृष्ठ