62

कविता और चिंतन

شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة

शैलियों

وبذلك أصل ما بين كياني وكيانهم.

وأتحطم في النهاية كما يتحطمون. (القسم الأول حجرة الدرس 1770-1775)

نعم لقد نجحت هذه الإلياذة - أو بالأحرى هذه الأوديسة - الحديثة في أن تلخص في مسيرة فاوست من السقوط والبؤس إلى الارتفاع والخلاص مسيرة البشرية ذاتها، دون أن تضحي بالخصوصية والعينية التاريخية والبشرية للبطل، أو تقضي على الحيوية الشعرية التي تميزه كما تميز سائر الشخصيات والمواقف. ولا شك أن هذه المحاولة الموسوعية لتصوير العالم كله ومسيرة البشرية بأسرها كان من الممكن أن تتعرض لأخطار التعميم التي وقع فيها شعراء عظام قبل جوته (مثل ملتون في فردوسه المفقود والمستعاد وكلوبشتوك في قصيدته الملحمية عن المسيح)، ولعل هذا هو الذي جعل فاوست كما ذكرنا إنتاجا لا يقاس به إنتاج غيره، وهو الذي أتاح للمؤلف أن يحاول - بمنهجه الجدلي التاريخي - تفهم علاقاتها الخفية وجذورها التاريخية.

ولعله كذلك قد شجعه على أن يعقد موازنة بين فاوست وظاهريات الروح لهيجل (التي اتفق الفراغ منها في سنة 1807م وفي وقت واحد على وجه التقريب مع إتمام القسم الأول من فاوست)، وإذا كانت فاوست كما ذكرنا تلخص في حياة فرد نموذجي واحد وتجاربه ومصيره تطور البشرية كلها، وكانت الظاهريات تطورا للوعي الفردي خلال مراحله المختلفة منظورا إليه كتلخيص للمراحل التي قطعها وعي البشر في مجرى التاريخ، فإن الموازنة تصبح ممكنة ومشروعة على الرغم من الهوة الفاصلة بين عمل شعري وآخر فلسفي ... وإذا كان هيجل في ذلك الكتاب - الذي يعد بجانب فاوست أهم المنجزات الفكرية في العصر الكلاسيكي في ألمانيا - إذا كان قد نظر إلى التطور التاريخي برمته بوصفه عمل الإنسان نفسه، وأدرك أن الإنسان الحقيقي يخلق نفسه من خلال عمله الخاص، فإن هذه على وجه التحديد هي الصياغة الفلسفية العامة لفاوست، كيف تنشأ قواه الباطنية وتتطور وتتخطى العقبات وتواجه مصيرها، وكيف يؤثر عليها العالم الموضوعي - الطبيعي والاجتماعي التاريخي - ويكون في نفس الوقت نتاجا لها، أو ميدانا لفعلها الخلاق لذاتها، من أين ينطلق كل هذا وإلى أين يؤدي ...

ذلكم هو موضوع فاوست والبؤرة الفكرية الخفية التي تربط كافة علاقاتها وأجزائها وصورها ومواقفها (على الرغم من أن جوته قد أصر دائما على رفض الاعتراف بأنه قد سعى إلى تجسيد أية فكرة فيها)، ولهذا يمكن القول بأن مأساة فاوست هي في الواقع «ظاهريات» (فينومينولوجيا) شعرية للنوع البشري كما تتجلى في مسيرة وعي فاوست ومصيره الفرديين، بعيدا عن أي منطق محدد أو فلسفة تعسفية. هي مأساة فرد كما وصفها صاحبها؛ لأن تطور النوع نفسه ليس مأساويا، وإنما يجري عبر مآس فردية ضرورية لا يحصيها العد، مآس جربها فاوست (مع روح الأرض، وحبيبته جريتشن التي تخلى عنها، ورمز الجمال المطلق هيلينا التي تزوجها وأنجب منها أعجوبة شبه بشرية عاجزة، وموته في النهاية عندما كان يحفر قناة لري الأرض المنتزعة من البحر، فإذا به يحفر قبره)، وكلها تؤكد أن خلاص النوع لا يتم إلا بتحطيم الفرد، وأن الكلي اللامتناهي لا ينتج إلا عن هلاك الجزئي المتناهي، وأن عجلة التطور المتصل للعالم الأكبر لا بد أن تمر فوق مآسي العالم الأصغر ... ولعل هذا كما ذكرت من قبل هو الذي يجمعه (أي فاوست) بظاهريات هيجل، على الرغم من كل ما يفرق بين إبداع شعري وآخر فكري. •••

آمن «جوته» بوجود نواة كامنة في باطن الإنسان، نواة لا تقبل الفساد مهما أغراه الشيطان، ومهما تورط في الذنوب والأخطاء، والصراع من أجل هذه النواة الطاهرة رغم الزلات والكبوات هو موضوع العقدة الحقيقية لفاوست، وموضوع الصراع الدائر بينه وبين الشيطان مفيستوفليس.

لقد أعلن مفيستو في مفتتح العمل الشعري كله، وهو «الاستهلال في السماء»، أنه سيجعل فاوست «يلتهم التراب بلذة». وهو لا يخفي رأيه في الإنسان، أو في عقله الذي يستخدمه عندما يخاطب الله سبحانه بقوله:

كان من الممكن أن يحيا خيرا مما يحيا الآن

لو لم تنعم عليه بظل النور السماوي،

إنه يسميه العقل، ولكنه لا يستخدمه

अज्ञात पृष्ठ