فاعلم أن الناس اختلفوا في دلالة النهي على فساد المنهي عنه، فذهب ابو حنيفة والقاضي وأبو عبد الله البصري وأبو الحسن الكرخي وبعض أصحابنا إلى أن النهي لا يدل على فساد المنهي عنه، بمعنى: أنه إذا نهينا عن فعل شيء؛ فلا يدل هذا النهي على أن ذلك المنهي عنه لا يعتد به أصلا، وزاد أبو حنيفة من بين هؤلاء القائلين أن النهي عن الشيء يدل على صحته قائلا: "إنه لا يتصور النهي عن الشيء إلا بعد وجود ماهيته صحيحة هكذا"، ومثل له: بصوم يوم النحر، فعنده أن صومها صحيح، لكنه غير مقبول لما فيه من النهي عنه، وبنى على كون صومه صحيحا الاجتزاء بصومه للنذر.
قلنا: لا يلزم من النهي وجود ماهيته صحيحة على وفق ما ذكرتم، وإنما يكفي في النهي عن تصور وجوده، وبذلك يصح الكف عنه، وبالكف عنه يحصل الامتثال؛ فبطل ما زعموه من دلالة النهي على صحة المنهي عنه، وبهذا البطلان يسقط القول بالاجتزاء بصوم يوم النحر للوفاء بالنذر، وذهب أحمد والشافعية والظاهرية وكثر من أصحابنا إلى أن النهي يدل على فساد المنهي، وسوغ أبو يعقوب رحمه الله تعالى كلا المذهبين، واحتج هؤلاء بأن العلماء لم تزل على الفساد بالنهي عن الربويات والأنكحة وغيرها، وبأن الأمر يقتضي الإجزاء، والنهي نقيضه يقتضي نقيض الاجزاء، وهو الفساد.
وأجيب عن الأول: بأنه لا نسلم الإجماع، وما استدل به فهو بان على مذهبه. وعن الثاني: بأنه لا نسلم كون النهي نقيض الأمر لأنه يقتضي القبح، ونقيض القبح الحسن، والأمر يقتضي الوجوب لا مجرد الحسن، سلمنا فلا يلزم في النقيضين أن تتناقض أحكامها من كل وجه سلمنا أن الأمر يقتضي الصحة، فنقيض ذلك أن لا يكون النهي للصحة، لا أنه يقتضي الفساد، انتهى. وذهب الغزالي والفحر الرازي وأبو الحسين إلى أن النهي يدل على فساد المنهي عنه في العبادات دون المعاملات، ودلالهت على ذلك شرعية لا لغوية؛ لأن الفساد حكم شرعي، لا تعقله العرب، فلا يصح أن يكون مقصودا لها في وضع النهي، وأما في الشرع فلا إشكال في صحة قصده، ويستدل على وقوع ذلك شرعا بأن العلماء ما زالوا يستدلون بالنهي على فساد المنهي عنه.
पृष्ठ 73