أي نازعنى الجود: بان يعطى هو، وآخذ أنا، ولم يكون للمتنبي هنالك جُود، لكن الآخذ لما كان: يجودُ هذا الجود، صار كأنه جُود. وهو أحسن عندي ممن قال: إن جود المتنبي إنما كان بالأخذ.
ونظير هذا القول الذي أنا اليه قول تعالى:) فَمن اعتْدَى عَليكُم فاعتدوا عليه (وليس قتل هؤلاء المأمورين للمعتدين عليهم اعتداء. ولكنها مكافأة اعتداء، فسُمي باسم السبب الذي هو الاعتداء. وكقول عمرو بن كلثوم:
ألا لا يَجْهَلْنَ أحدٌ عليناَ ... فَنجهل فوقَ جهلِ الجاهليناَ
) فأغرق تيله أخذى سريعا (: أي مللتُ الأخذ ولو يمل هو العطاء.
وله ايضا:
) أحَقُ عافٍ بِدَمْعك الهممُ ... أحدث شيء عهدًا بها القِدمُ (
العافي: الدارس. والهمم: جمع هِمّة وقد قيل هَمة بالفتح. ولا يمتنع أن يكون هِمم جمع همة أيضا، فقد جاءت فعله مكسورة على) فِعَل (كَبدْرة وبِدَر وهضْبة وهضَب. ومن المعتل، ضَيْعَة وضِيعَ، وخَيْمة وخِيمَ.
ومعنى البيت؛ أنه يسفه الناس في بكائهم الديار والأطلال إذا عفت، ويقول لهم: أولى عافٍ بدموعكم هممُ الرؤساء في هذا الزمان، فقد عفت حتى صار أحدث عهد بها قديما، فما تفضل هممهم عن ملاذ بطونهم وفروجهم، فاياها فابكوا لا الديار، فهن أولى بالبكاء عليها منها، لأن الهمة المعدومة أعزفقدًا من الدار. واذا كان أحدث عهد بها قديمًا، فما ظنك بغير الحداث.
) مِلْتُ إلى من يكادُ بينكما ... إنْ كُنتما السائلين يَنْقَسِمُ (
يخاطب صاحبه؛ أي آثرت بقصدي وتأمبلي من لو سألمتاه ولا شيء لديه إلا شخصه لا نقسم بينكما شقين، اعتيادا للنوال وألا يردُ ذوى السؤال.
) يُريكَ من خَلْقه غرائبه ... في مَجْدِه كيفُ يخْلَقُ الَّنسَمُ (
إن شئت قلت: إن الله لطف خلقه للنسم كما شاء، حتى دق على الوهم تصور كيفيته، ولهذا الممدوح غرائبُ من خلقه تُوصله إلى اقتناء المكارم، تغرُب وتلطُف؛ فمن تأملها، فكأنه قد تأمل خلق الله للنسم. وذلك تعظيم لقدر ما يأتيه، لشبهه بخلق الله، تعالى عن ذلك! وإن شئت قلت: إنه بحسن أفعاله ويُمنها تحيا النفوسُ، فكأنه بذلك يُحيها وينشئها وليس الخلق عنده في قوله) يريك في خلقه غرائبه (الخلق الذي هو إيجاد المعدوم، وإخراجه إلى التكون، لأن ذلك لا يستطيع عليه إلا بارئنا جل وعز، وإنما الخلق ها هنا: كناية عن الصُّنع، وكنى عنه بلفظ الخلق ذهابًا إلى ابتداع هذه الغرائب، وهذا من شديد المبالغة. وربما كنى بالخلق عن الصنع. وبين الخالق والصانع فرقٌ، لا يليق إيضاحه بهذا الكتاب. والنسم: جمع نشمة، اشتقت من النسيم، كما اشتق الروح من الريح، والنفس من النَّفس.
) تُشرقُ أعراضُهم وأوجُهُهُم ... كأنها في نُفوسهم شِيمُ (
لا شيء أصغى ولا أبسط من النور، فلذلك توصف الجواهر الصافية به. وأولى شيء بذلك الأمور النفسانية، لأنها أذهب في البقاء وعدم السراب من الجسمانية. والشِّيمة نفسانية، والوجه جسماني. والعِرض: يجزو أن يكون بالجسم، فلم يخلُص إلى النفسانية كخلوض الشيمة، فشبه ابو الطيب الأعراض والأوجه بالشيم في الشروق والصفاء، وتناهى البقاء. وإن شئت قلت: موضع هذا الكلام على أنه قد علم أنه شِيمة مُشرقة علمًا عامًا، وقدم ذلك لمزية الشيمة، وهي الطبيعة، على الوجه والعرض، فحمل الوجه والعرض بعد ذلك عليها، تشبهًا لهما بها. والأوجْه ما قدمناه من أن الشيمة نفسانية، فهي أملك بالصفاء، والوجه والعرض جسمانيان، فحملهما عليها.
) كأنها في نهارها قمرٌ ... حف بها من جنانها ظُلمُ (
شبه البحيرة في استدارتها بالقمر كقول ابن الرومي يصف رغيفًا:
ما بين رؤيتها في كفهِ كُرة ... وبين رؤيتها قوراء كالقمر
وشبه الجنان علىى حافاتها، وبالظُّلم من شدة خضرتها، وذلك لأن النبات إذا اشتدت خضرته ادهام، كقوله ﷾ في وصف الجنتين) مُدْهامَّتان (وقال الراجز يصف سائمة عدت على كلأ ناجم مُخضر:
فصَبَّحتْ أرْعَلَ كالَنَبال ... ومظلما ليس على الدغال
1 / 18