وقوله:) نَفْس ماله (، ليس للمال نفس في الحقيقة، إنما تجوز بذلك، كما تجوز بأن جعل للمعالي رماحا، وليس هناك رمح ولا نفس، وعلى هذا أوجه أنا قوله:
ألستُ من القوم الألى مِنْ رماحِهم ... نداهُم ومن قتلاهُمُ مُهجةُ الْبُخلِ
لما استعار ما ذهب إليه أكثر مفسري هذا الشعر، من أنه عنى بقوله:) من رماحهم نداهم (: أنهم يجودون، وإنما يجودون بما تُفئ عليهم رماحهم من النهب. وما أدرى ما أعماهم عن هذا على وضوحه.
وله ايضا:
) ولا الدِّيارُ التي كان الجبيبُ بها ... تشكوُ إلي ولا أشكُو إلى أحدٍ (
شكوى الديار إنما هي باعتبار النظار من سوء آثار الزمان عليها. كقول علي ﵁ مخاطبًا القبور: لم تُجبك جهارًا، أجابتك اعتبارا.
يقول الشاعر:
وَعظتكَ أجداثٌ صُمُتْ ... وَنَعَتك ألسنةٌ خُفُتْ
وَتكلمتْ عن أوْجُهٍ ... تَبْلَى وَعن صُوَرٍ سُبُتْ
فيقول: إن دمعي حال دون تأملي آثار البلاد في الديار، فيقوم مقام شكواها إلي: لولا مَنعُ الدمع إياي من التأمل، لرأيت سُوء صُنع الدهر بها، لكن الدمع كَفَاني وحماني النظر، كقول الآخر:
فعيناي طورًا تغرقان من الُبكا ... فأعشى وطورًا تحسران فأبصرُ
ولهذا العلة سقول الشاعر منهم لرفيقه: تبصر وانظُر، كقوا امرئ القيس:
تَبصِّر خَلِيلي هل ترى من ظَعائنٍ ... سَوالكَ نَقْبًا بين حَزْمَيْ شَعَيْعبِ
وقال آخر:
بل تَبصَّر، فأنتَ أبصرُ مِنِّي
أي أن الدمع قد حال بيني أنا وبين التأمل، بإغراقه ناظري؛ وقد بكيت حتى اكل الدمعُ بصرى.) ولا أشكو إلى أحد (، أي أنها قفر لا أحد فيها فأشكو إليه، أي ليس بها احد يُشكى اليه، فأنا أدع الشكوى لذلك، ونفيه العام هنا كقول النابغة:
) عَيتْ جوابا وما بالربْع من أحدِ (
وقد يتوجه البيت على أنه لم يبق في الدار فضل للشكوى بما هدمها وأبادها من البلى، ولا في أنا للشكوى. أي قد ضعفت عن ذلك، والأول أوجه.
) أيُّ الأ كف تُبارى الغَيْثَ ما اتَّفقا ... حتى إذا افترقاَ عادتْ وَلم يعُدِ (
الأ كف: جمع كف، قال سيبويه: ولا يكسر على غير ذلك أي كفٍّ سوى كف هذا الممدوح تعارض الغيث؛ أو تباريه؟ حتى إذا أقلع الغيث عادت الكف للندى. وهي تلك الكف بعينها، ولم يعُد الغيث، لأن ذلك الغيث بعينه لا يعود أبدا. وفي قوله:) عادت (، إشعار بأنها أقلعت وإنما قاله توطئة لقوله:) ولم يَعُد (، ومثل هذا كثير في كلامهم، كقوله تعالى:) فمن اعْتَدَى عليكم فاعْتَدُوا عَلْيه (، وانتصار المؤمنين من الكفار، ليس باعتداء ولا ظُلم، ولكنه ذكر الاعتداء هنا لتقدم) فمن اعتدى (. ومثله قول الشاعر:
ألا لا بَجْهلَنْ احدٌ علينا ... فنجهل فوقَ جَهْلِ الجاهِليناَ
وقوله:
أي الأكف تُباري الغيث ما اتفقا ... حتى إذا افترقا عادت ولم يعدُ
يسمى ترجيحا، فقد وقعت المساواة بين الكف والغيث بلا فضل لأحدهما على صاحبه. فإذا أقلع الغيثُ ودامت الكف تجود، فقد فَضَلت الغيث الكفُ ورجعت عليه.
وله ايضا:
) وفشت سرَ اثرنا إليكَ وَشَفَّنا ... تَعْريضُنا فبدا لَكَ التَّصْرِيحُ (
أي لما جهدنا التعريض، استروحنا إلى التصريح، فانتهك الستر. وإن شئت: لما عرضنا؛ ظهرت دلائل الحُب علينا كفيض الدمع، وتغير اللون، فعاد التعويض تصريحًا، بهذه الأدلة التي أعربت عن الحب، وصرحت به، وإن كنا نحن لم نُرد التصريح فتقديره. فبدا لك التصريحُ من تعريضنا. ومعنى شفنا على هذا القول: نقص تصبُّرنا، وغير تجلدنا، وقد يكون وشفنا: أي شف قوتنا على التكتم فبكينا، فحصل العريض تصريحا.
) شِمناَ وما حَجبَ السَّماءُ بروقَه ... وَحرى يجُود وما مرَتْهُ الريحُ (
نشيم بروق المزن أين مصابُهُ ... ولا شيء منك يابنة عفزرا
وقال ابن مقبل في النار:
ولو تُتري منه لباع ثيابه ... بنبحة كلب أو بنارٍ تشِيمُها
1 / 13