قال أرسطاطاليس : « ومن البين أن المطالب التي تعلم علما محققا غير ممكن أن تكون بخلاف ما هي عليه ، فمن الاضطرار أن تكون هذه إنما تعلم بالبرهان ، من أجل أن البرهان الذي يوقف به على الشيء على التحقيق هو ضروري ، لأنه بالعلة غير مستحيل ولا متغير . وإذا كان بهذه الصفة ، فمقدماته ضرورية غير مستحيلة ولا متغيرة . فيجب إذن أن ينظر في الخواص والشروط التي بها تكون مقدمات البرهان ضرورية . ثم يتبع ذلك النظر في المطالب البرهانية . » التفسير لما كان قد تبين من حد البرهان أن مقدماته فينبغي أن تكون علة للنتيجة وصادقة وأعرف عند الطبيعة من النتيجة ، وغير ذوات أوساط ، وضرورية - عاد ها هنا إلى استيفاء القول في خواص المقدمات اليقينية . وجعل ابتداء الفحص عن ذلك بأن بين أنه يجب أن تكون ضرورية ، إذ كان هو أملك الصفات بها ، وهي الصفة التي تتنزل من سائر صفات المقدمات منزلة الاسطقس فقال : « ومن البين أن المطالب التي تعلم علما محققا غير ممكن أن تكون بخلاف ما هي عليه » - يريد : ولما كان من الظاهر بنفسه أن المطالب التي تعلم علما تاما غير ممكن أن تكون في وقت من الأوقات بخلاف ما هي عليه ، بل تكون ضرورية . وذلك أنه إن لم تكن ضرورية لم يكن يقترن إلى العلم بوجودها أنها غير ممكن أن تكون بخلاف ما هي عليه [٢١ ب ] وهي الشريطة التي ينفصل بها اليقين من غير اليقين . ولما وضع أن المطالب يجب أن تكون ضرورية ، قال : « ومن الاضطرار أن تكون هذه إنما تعلم بالبرهان » - يريد : ومن المعروف أيضا بنفسه أن هذا العلم إنما يحصل في المطالب ، أعني العلم الضروري ، وهو أن يعتقد فيها أنها لا يمكن أن تكون بخلاف ما هي ولا في وقت من الأوقات من قبل البرهان . فيجب أن يكون البرهان بهذه الصفة ، أعني ضروريا . وإنما يكون كذلك من قبل أن مقدماته تكون ولا بد ضرورية . ثم أن بالسبب الذي من قبله كان العلم بالمطالب من قبل البرهان ضروريا ، فقال : « من اجل أن البرهان الذي يوقف به على الشيء على التحقيق هو ضروري ، لأنه بالعلة غير مستحيل ولا متغير » - يريد : وإنما كان العلم بالمطلوب ضروريا من قبل البرهان ، لأن البرهان يكون على الشيء بعلته . وعلة الشيء ضرورية له ، أي أن الشيء لا يمكن أن يوجد ، ولا في وقت ما ، دون علته . فلما كان البرهان بالعلة ، صار العلم المستفاد من قبله غير مستحيل ولا متغير . ولما قرر أن مقدمات البرهان واجب أن تكون ضرورية ، أخذ يطلب الخواص والشروط التي بها تكون ضرورية ويوقف منها على أنها ضرورية ، لان من هذه الخواص والصفات يمكن أن يعرف الضروري من غير الضروري ، إذ كانت أعرف عدنا من الضروري ، وكانت خاصة به ، فقال : « فيجب أن ننظر في الخواص والشروط التي بها تكون مقدمات البرهان ضرورية . ثم يتبع ذلك النظر في المطالب البرهانية . قال أرسطاطاليس : « وأولا ينبغي أن نشرع في أن نبين ما معنى قولنا : « على الكل » و« بالذات » وما معنى قولنا : « كلي » . فأما معنى قولنا : « على الكل » فهو متى لم يكن المحمول موجودا لبعض الموضوع ، ولبعضه ليس بموجود ، ومتى لم يكن أيضا المحمول موجودا لبعض الموضوع في وقت ما ، وفي وقت آخر لا بمنزلة ما نحكم ب « الحيوان » على كل إنسان . فأي شخص حكمنا عليه بأنه إنسان فكان حكمنا صادقا ، فإن حكمنا عليه بأنه حيوان : صادق ، فإن كان أحدها الآن صادقا ، فالأخر صادق . وكذلك النقطة في كل خط . والسبب الذي من أجله يحتاج أن يجتمع في المقول على الكل هذان الشرطان هو أن للمعاند أن يعاند الحكم بأنه على الكل ، بأن يرى واحدا من الموضوعات ذلك [ ٢٢ أ] المحمول غير موجود له ، أو يرى أن ذلك المحمول غير موجود لواحد من الموضوعات في وقت ما . » التفسير لما كان غرضه أن يبين الخواص التي تخص المقدمات الضرورية ، وكانت ثلاثة : أحدها : أن يكون الحمل فيها على الكل . والثاني : أن يكون الحمل بالذات . والثالث : أن يكون الحمل كليا ، ذكر أولا أنه ينبغي أن نشرح ما تدل عليه الأسماء . ثم بين وجوب وجودها في المقدمات البرهانية . فقوله : « وأولا ينبغي أن نشرع في أن نبين ما معنى قولنا « على الكل » و« بالذات » وما معنى « كلي » - يريد : ولما كانت الخواص التي تخص المقدمات الضرورية أن يكون الحمل فيها على الكل وبالذات ، وبالحمل الذي يخص في هذا الكتاب بالحمل الكلي ، فقد ينبغي أن نشرع أولا في شرح ما تدل عليه هذه الأسماء . ثم بعد ذلك يتبين أن المقدمات البرهانية ينبغي أن تكون بهذه الصفات الثلاث . وقوله : « فأما معنى « على الكل » فهو متى لم يكن المحمول موجودا لبعض الموضوع ولبعضه ليس موجودا ، ومتى لم يكن المحمول موجودا لبعض الموضوع في وقت ما ، وفي وقت آخر لا » - يريد : ومعنى ما يحمل على الكل أن يكون المحمول موجودا لكل الموضوع لا لبعضه ، وفي كل الزمان لا في وقت دون وقت ، لا لكله ولا لبعضه . وبين أن الحمل الضروري ينبغي أن يكون بهاتين الصفتين . وقوله : « بمنزلة مانحكم بالحيوان على كل إنسان فأي شخص حكمنا عليه بأنه إنسان فكان حكمنا صادقا ، فإن حكمنا عليه بأنه حيوان : صادق » - يريد : ومثال الحكم الكلي حكمنا على كل إنسان أنه حيوان ، فإن معني الكلية فيه هو أن كل شخص حكمنا عليه بأنه إنسان فكان حكما صادقا ، فإن حكمنا عليه بأنه حيوان : صادق ، أي كلما يوصف بأنه إنسان يكون ذلك الوصف صادقا فإن حكمنا عليه بأنه حيوان هو صادق ولا بد ، وذلك في كل زمان . وقوله : « فإن كان أحدهما الآن صادقا فالآخر صادق » - يريد : أنه متى حكم على شيء بأنه إنسان ووضع هذا صادقا ، فإن الحكم عليه بأنه حيوان يكون صادقا ولا بد في كل وقت . وقوله : « وكذلك النقطة » - يريد : وكذلك الحكم بأن كل خط فنهايتاه نقطتان . ولما أخبر أن هذين الشرطين هما شرطا الحمل على الكل ، أتى بالحجة على ذلك فقال : « والسبب الذي من أجله يحتاج أن يجتمع في المقول على الكل هذان الشرطان هو أن لمعاند أن يعاند الحكم بأنه ليس على الكل بأن يرى واحدا من الموضوعات ذلك المحمول غير موجود له ، أو يرى أن ذلك المحمول غير موجود لواحد من الموضوعات في وقت ما » . يريد : والحجة التي من قبلها يقف المرء على أنه يجب أن يجتمع في [ ٢٢ ب ] المقول على الكل هذان الشرطان أن المعاند إنما يعاند الحمل على الكل بفقد أحد هذين الشرطين ، وذلك إما بأن يتبين أن ذلك المحمول غير موجود في واحد من الموضوعات ، أو يبين أن المحمول غير موجود لواحد من موضوعاته في وقت ما ، أو لجميع موضوعاته . قال أرسطاطاليس : « ويقال « بالذات » على جميع المحمولات المأخوذة في حدود الموضوعات ، بمنزلة الخط في حد المثلث ، والنقطة مأخوذة في الخط لأنها ذاتي في حد الخط ، فإن هذين هما ذاتيان للخط وللمثلث ، وبالجملة سائر الأشياء المأخوذة في حد كل محدود ، وذلك أن جوهرهما إنما هو من هذه الأشياء . » التفسير لما كان « بالذات » يقال على وجوه ثلاثة ، ابتدأ بأولها فقال : « ويقال بالذات على جميع المحمولات المأخوذة في حدود الموضوعات بمنزلة الخط في حد المثلث ، والنقطة مأخوذة في الخط لأنها ذاتية في حد الخط » - يريد : وأحد ما يقال عليه أنه محمولات بالذات هو أن يكون المحمول يؤخذ في حد الموضوع إما على أنه حد تام له ، أو جزء حد ، بمنزلة أخذ الخط في حد المثلث . وذلك أن حد المثلث هو الذي تحيط به ثلاثة خطوط . فالخط ، من حد المثلث ، يجرى مجرى جزء الفصل ، وبمنزلة النقطة المأخوذة في حد الخط ، وذلك أن الخط قد يحد بأنه الذي نهايتاه نقطتان ، كما أن السطح يجد بأنه الذي نهايته خط أو خطوط ، والجسم هو الذي نهايته سطح أو سطوح ، فتنزل النقطة من الخط منزلة جزء الفصل ، لأن الفصل له إنما يتم من العدد والنقطة ، أعني كون النقطة اثنتين . - وقوله : « لأنها ذاتية في حد الخط » يعنى أن النقطة إنما أخذت في حد الخط لكونها ذاتية له . وكذلك الخط إنما أخذ في حد المثلث لأنه ذاتي له . وهذا هو الذي أراد بقوله : « فإن هذين هما ذاتيان للخط وللمثلث » - يعني : النقطة للخط ، والخط للمثلث . وهذا المحمول هو إما حد تام ، وإما جزء حد . وذلك إما فصل ، وإما جنس ، وإما جزء فصل أو جنس . قال أرسطاطاليس : « ويقال بالذات أيضا على جميع المحمولات المأخوذة موضوعاتها في حدودها ، بمنزلة : الاستقامة والانحناء الموجودين في الخط ، والفرد والزوج الموجودين في العدد ، والأول والمركب والمتساوي الأضلاع والمختلف الطول [73 b] - وجميع هذه قد تؤخذ موضوعاتها في حدودها بمنزلة الخط في حد الاستقامة والانحناء ، والعدد في حد الفرد والزوج [ ٢٣ أ] وغير ذلك مما ذكر في جميع هذه تقال بالذات من قبل انطواء موضوعاتها في حدودها . » التفسير لما كانت المحمولات الذاتية تقال على نوعين : أحدهما أن تكون المحمولات مأخوذة في حد الموضوعات ، وهذه المحمولات قد تكون في مقولة الجوهر ، وفي كل واحدة من سائر المقولات - أخذ يذكر الصنف الثاني من المحمولات الذاتية ، وهو عكس هذا ، أعني أن تكون الموضوعات داخلة في حدود المحمولات ، والمحمولات في هذا الصنف لا تكون إلا أعراضا ، ولذلك تخص هذه بالأعراض الذاتية . وأما الموضوعات فقد تكون في مقولة الجوهر ، وقد تكون في سائر المقولات . وهي صنفان : إما أن يؤخذ في حدها الموضوع نفسه ، وإما جنسه ، أو جنس جنسه ، ما لم يتعد ذلك الجنس المنظور فيه ، أعني جنس الصناعة التي فيها ذلك العرض الذاتي والمأخوذ هاهنا هو جار مجرى الفصل . وقد يظن أنه ليس من شرط الجنس المأخوذ في حد المحمول ألا يكون متعديا جنس الصناعة ، أعني ألا يكون جنس جنسها ، وهو الذي يذهب إليه أبو نصر ، فإنه يقول في كتابه إن الأعراض الذاتية : منها ما هي أول ، وهي التي ينقسم بها جنس تلك الصناعة ، ومنها غير أول وهي التي ينقسم بها جنس جنس تلك الصناعة . وهو غلط بين ، لأنه إذا كانت الأعراض الذاتية بعضها مما يؤخذ في حدها جنس جنس الصناعة ، فيمكن أن يكون منها ما يؤخذ في حده جنس جنس الجنس ، إلى الجنس العالي . وذلك أنه لا فرق بين جنس جنس الصناعة ، أو جنس الجنس ما ترقى ذلك صاعدا في كون جميعها خارجة عن جنس الصناعة . فإن جعلت الذاتية ، أو بعضها ، بهذه الصفة ، اختلطت الصنائع، وكانت الذاتية مشتركة لأكثر من صناعة واحدة . وإذا اشتركت الأشياء الذاتية في جواهرها ، فتكون الموجودات المتباينة من طبيعة واحدة . وذلك غاية الشنعة والاستحالة . وإنما يتشكك في هذا الجنس من المقدمات العامة التي يظن أنها مشتركة لأكثر من صناعة واحدة ، مثل المقدمة القائلة : الأشياء المساوية لشيء واحد فهي متساوية . وكذلك القائلة إن : المتناسبة إذا بدلت تكون متناسبة . فإنه قد يظن بهذه أنها تشمل أكثر من جنس واحد ، إذ كانت تصدق على الكمية المتصلة والمنفصلة . ولكن سيبين كيف الأمر في هذه عندما يتشكك أرسطو على كون المقدمات الذاتية خاصة بالجنس بهذه المقدمات . فقوله : « المأخوذة موضوعاتها في حدودها » ينبغي أن يفهم الموضوعات أنفسها أو أجناس [ ٢٣ ب] الموضوعات أو أجناس ألمأخوذة في حد ذلك العرض ومقابله ، ما لم يتعد بذلك جنس الصناعة . وقولة : « بمنزلة الانحناء والاستقامة الموجودين في الخط » - يعني أن مثال الأعراض الذاتية للجنس وجود الانحناء والاستقامة في الخط . وذلك أن كل خط فإما أن يكون منحنيا ، أو مستقيما ، أو مستديرا . وكذلك الزوج والفرد في ذلك ، وذلك أن كل عدد لا يخلو أن يكون زوجا أو فردا . وكذلك العدد الأول ، والمركب . وذلك أن كل عدد لا يخلو أن يكون أولا ، أو مركبا . ويعنى بالأول ما لم يقم من ضرب عدد في عدد ، وبالمركب : ما قام من ضرب عدد في عدد . وكذلك تساوى الأضلاع واختلافها : أعراض ذاتية في ذوات الأضلاع ، وذلك أن كل ذي ضلع فهو إما متساوي الأضلاع ، وإما مختلفها . وقوله : « وجميع هذه تؤخذ موضوعاتها في حدودها » يعنى بالموضوعات ها هنا : الجنس الذي ينقسم بهذه الأعراض المتقابلة قسمة أولى ، وهو جنس الموضوعات التي تحمل عليها هذه الأعراض حملا كليا . ولم يأت بمثال من الأعراض التي تؤخذ موضوعاتها أنفسها في حدودها ، وهي الخواص ، مثل الضحك للإنسان ، والصهيل للفرس ، لبيانها . قال أرسطاطاليس : « والمحمولات التي ليست ولا على واحد من هذين الضربين فهي محمولات عرضية ، بمنزلة الموسيقى والبياض للحيوان . » التفسير لما أخبر أن المحمولات الذاتية صنفان : إما محمول في جوهر الموضوع ، وإما محمول جوهره الموضوع فهو بين أنه إذا سلمنا صحة هذه القسمة ، فإن ما عدا هذه من المحمولات هي عرضية ، إذ كان من المعلوم بنفسه في هذه الصناعة أن المحمولات صنفان : محمول ذاتي ، وعرضي . لكن قد يظن أن هاهنا أمورا ذاتية منسوبة إلى الشيء وليس تؤخذ في حده ، وهي أكثر الأسباب الفاعلة ، فإن كل الأسباب ليست تؤخذ في الحدود ، ولذلك ما جعلها أرسطو صنفا ثالثا مما بالذات . وقال بعد ذلك : « والمستعمل من أصناف ما بالذات في البرهان صنفان » - فلنرجئ الجواب عن هذا إلى شرح الموضع الذي ذكر فيه هذا ، ونبحث هاهنا عن الشك الثاني وهو : كيف أغفل الصنف الثالث من المحمولات الذاتية ، وهي التي يؤخذ كل واحد منهما في حد صاحبه ؟ فنقول : إن قصده [ ٢٤ أ] هاهنا إنما هو أن يعطى الأحوال والسبارات التي ينتفع باستعمالها في أكثر الأشياء الموجودة ، وهي الأشياء التي توجد لها الحدود بالحقيقة ، لأن الحدود إنما توجد للمركبات الموجودة الوجود التام . وأما الأمور البسيطة والناقصة الوجود ، أعني التي وجودها قريب من أن يكون في الذهن ، مثل الأمور المضافة ، فليس توجد لها الحدود بالحقيقة . لأنه لو كان ذلك كذلك ، لكان البيان فيها دورا . ولذلك ليس أحد المضافين علة لصاحبه على الجهة التي تكون الأسباب عللا لمسبباتها . وهذا شيء قد مخرح به أرسطو في كتاب « المقولات » . فالجواب الذي يجاوب به هاهنا عن الأشياء التي ليست لها حدود هو الذي يجاب به عن الأشياء التي حدودها ناقصة . وهذا شيء قد صرح به المفسرون في غير ما موضع ، وصرح به أرسطو ، أعني أن القوانين المعطاة هاهنا هي أكثرية . وتلك هي القوانين الذاتية في هذه الصناعة وأما الأحوال التي تخص جنسا واحدا من الموجودات ، فيشبه ألا تكون صناعية ، إذ كان الصناعي هو القانون الكلي الذي يشتمل على أكثر من جنس واحد . وإذا تقرر هذا ، فمعنى قوله : « والمحمولات التي ليست ولا على واحد من هذين الضربين فهي محمولات عرضية » أي أن المحمولات التي ليست على واحد من هذين الضربين فهي في الأكثر محمولات عرضية . وقوله في المحمولات العرضية إنها بمنزلة الموسيقى للحيوان والبياض للحيوان ، وذلك أن الحيوان ليس ينقسم إلى ما هو أبيض وإلى ما ليس بأبيض ، وإنما ينقسم بذلك ذو اللون بما هو لون . وكذلك الموسيقى ليس ينقسم بها الحيوان ، وإنما ينقسم بها الإنسان في ذاتية له . قال أرسطاطاليس : « ويقال بالذات لجميع أشخاص الجواهر الأول ، بمنزلة الذي يمشى : فإن معنى المشيء غير معنى الذي يحمل له المشيء ، وبمنزلة الأبيض . فالجواهر ، وكل ما فصدنا نحوه بالإشارة ، والذي ليس وجوده في شيء ولا يقال على شيء موضوع هو بالذات . فأما التي وجودها في شيء فهي أعراض . » التفسير لما كان قصده أن يحصى أصناف الوجوه التي يقال عليها « بالذات » ، وكان قد ذكر من ذلك الصنفين الخاصين بمقدمات البراهين ، ذكر من ذلك أيضا صنفا ثالثا ليس على أنه شيء ينتفع به في مقدمات البراهين ، بل على جهة ما يجب على المعلم بالاسم المشترك أن يقسم الاسم المشترك إلى جميع معانيه ، ويرشد إلى المعنى الذي قصد منها . فقوله : « ويقال بالذات لجميع أشخاص الجوهر » يريد أن جميع أشخاص الجوهر [ ٢٤ ب ] يقال في كل واحد منها إنه موجود بذاته ، بمعنى أنه ليس وجوده بغيره . وهذا المعنى يقابله « الموجود بغيره » وهو العرض . وقوله : « بمنزلة الذي يمشي فإن معنى المشي غير معنى الذي يحمل المشي ، وبمنزلة الأبيض » - يريد أن هذه الأشخاص مثل شخص الماشي ، لا شخص المشى الموجود في الماشي ، فإن معنى المشي مباين لمعنى الذي يحمل المشي ، إذ كان الماشي موجودا لا في غيره ، والمشي موجود في غيره ، أي في الماشي . وقوله : « بمنزلة الأبيض » - يريد : الحامل للبياض ، فإن الحامل له هو شخص الجوهر . ولما اخبر أن أحد المعاني التي يقال عليها « موجودة بذاتها » هي أشخاص الجوهر ، وبين بالتمثيل الفرق بينها وبين أشخاص الأعراض - أخذ يحدد أشخاص الجواهر فقال : « وكل ما قصدنا نحوه بالإشارة والذي ليس وجوده في شيء ولا يقال على شيء موضوع هو بالذات » - يريد : وهذه الأشخاص هي التي يقصد نحوها بالإشارة ،من جهة أنه ليس وجودها في شيء كأشخاص الأعراض ، ولا تحمل على موضوع بالذات ، أي على المجرى الطبيعي . وهذا هو الذي قيل في رسم شخص الجوهر من أنه لا يعرف من شيء ذاته ولا شيئا خارجا عن ذاته ، أي ليس يحمل على شيء : لا حملا يعرف جوهره ، ولا حملا لا يعرف جوهره . قال أرسطاطاليس : « ويقال بالذات لسائر المعلولات اللازمة لعللها من الاضطرار . فإن المعلولات التي ليست لازمة لعللها من الاضطرار لا يقال إنها بالذات ، لكن بالعرض ، بمنزلة حدوث البرق عند مشي الماشي ، فإن مشيه ليس هو علة لحدوث البرق ، لكن عرض واتفق عند مشيه أن حدث البرق . فأما المعلولات اللازمة لعللها من الاضطرار ، فإنه يقال « بالذات » ، بمنزلة الموت التابع لذبح الإنسان من الاضطرار ، فإن هذا المعلول يقال له بالذات من قبل أنه لازم للعلة التي هي الذبح من الاضطرار . وليس الموت يعرض باتفاق عن الذبح . » التفسير الظاهر من هذا أنه معنى رابع من المعاني التي يقال عليها « ما بالذات » . وقد يظن أنه راجع إلى أحد المعنيين المتقدمين ، إذ كان مقابله ما بالعرض . وكل شيء ينسب إلى شيء ، أو يحمل عليه أي حمل كان فهو : إما بالذات ، وإما بالعرض . وإذا تؤمل الأمر فيه ، ظهر أنه معنى رابع . ذلك أن المحمولات التي تؤخذ في حدود الموضوعات هي الأسباب الموجودة في الشيء ، لا الأسباب الخارجة عن الشيء . والسبب الفاعل ليس من الأسباب الموجودة في الشيء . فلذلك وإن كان نسب المفعول إليه بالذات ، فليس مأخوذا في حد المفعول إلا بالعرض . ولهذا جعله صنفا رابعا . وأما هل يعد.هذا الصنف [ ٢٥ أ] من الحمل في البراهين المطلقة ففيه فحصى ، وذلك أنه يعسر تبيين وجود الشيء من قبل فاعله . فإن الفاعل إذا وضع موجودا لم يلزم عنه وجود المفعول . وكذلك يقل تبيين الأعراض الموجودة في الشيء من قبل سببه الفاعل . فهذا الحمل إن دخل في أصناف الحمل البرهاني ، فإنما يدخل في الدلائل ، أو في براهين الأسباب ، لا في البراهين المطلقة التي هي حدود بالقوة . ولهذا لم يعده أرسطو في المحمولات البرهانية . وكلامه في الفصل الذي كتبناه مفهوم بنفسه . قال أرسطاطاليس : « والمستعمل من أصناف ما بالذات في البرهان صنفان : المحمولات المأخوذة في حدود الموضوعات ، والمحمولات المأخوذة موضوعاتها في حدودها . وهذه أيضا هي ضرورية وذاتية ، من قبل أن وجودها لموضوعاتها من الاضطرار . وكل واحد من المتقابلين في الخط : إما الاستقامة وإما الانحناء ، وفي العدد : إما الفرد وإما الزوج . وذلك أن تقابل هذين في الطبيعة القابلة لهما إما تقابل عدم وملكة ، وإما تقابل إيجاب وسلب . فإن العدد متى عدم معنى الفرد ، فالزوج حاصل له . ومتى لم يكن الايجاب ، فالسلب من الاضطرار . فهذه هي بالذات من الاضطرار . فقد لخصنا معنى قولنا « بالذات » و« على الكل . » التفسير قوله : « والمستعمل من أصناف ما بالذات في البرهان صنفان » - يعني بالبرهان : البرهان المطلق ، لا جميع أصناف البراهين . فإن النسبة التي بين السبب الفاعل قد تدخل في الدلائل ، وقد تدخل في براهين الأسباب فقط . ولذلك من ظن أن المحمولات في كل برهان هو أحد صنفي هذا الحمل - كما يعطى ظاهر كلام أبي نصر في كتابه - فهو غالط . وذلك أن الأسباب التي خارج الشيء ليس تدخل في حدود الأشياء إلا بالعرض ، أعني إذا اتفق أن يكون السبب الفاعل موجودا في الشيء ، لا مفارقا له ، مثل قيام الأرض في الكسوف بين الشمس والقمر ، فإنه سبب فاعل وموجود مع الكسوف نفسه . وكذلك الغاية ليس تدخل في الحد إلا إذا جهل الفصل فتقام مقامه . وبالجملة من يضع أن كل واحد من الأسباب الأربعة تؤخذ حدودا في البراهين المطلقة ، ويضع أن جميع أصناف الحمل البرهاني هو صنفان : أخذ المحمولات في حدود الموضوعات ، وأخذ الموضوعات في حدود المحمولات - هو مناقض نفسه من غير أن يشعر . وقد يظن بأبي نصر أنه هكذا فعل . وإنما قال : « وهذه أيضا هي ضرورية وذاتية » - من قبل أنه ليس كل ذاتي ضروريا ، لا من قبل أنه [٢٥ ب ] ليس كل ضروري ذاتيا ، كما يذهب إليه أبو نصر ، فإن مذهب أرسطو هو خلاف هذا ، أعني أن : كل ضروري ذاتي - على ما سيبين بعد . ولما أخبر أن الذاتية في هذه هي ضرورية أتى بالسبب في ذلك فقال : « إن وجودها لموضوعاتها من الاضطرار » - يريد : وإنما كانت . هذه الأعراض الذاتية ضرورية ، بخلاف الأعراض الذاتية الغير ضرورية ، أعني الأكثرية مثل الشيب للإنسان ، من قبل أن وجود هذه الأعراض في موضوعاتها أمر ضروري لا ينقل عن موضوعاتها . ولما ذكر أن وجود هذه الأعراض لموضوعاتها ضروري ، أتى بالسبب في ذلك فقال : « وكل واحد من المتقابلين في الخط : إما الاستقامة وإما الانحناء ، وفي العدد إما الفرد وإما الزوج » - يريد : وإنما كانت ضرورية الوجود لموضوعاتها من قبل أن كل واحد منها مع مقابله محصور في الموضوع ، ولذلك ينقسم بها الموضوع قسمة أولى ، مثل انحصار الانحناء والاستقامة في طبيعة الخط ، وانحصار الزوج والفرد في طبيعة العدد وذلك أن كل خط فهو إما مستقيم ، وإما منحن . وهذا الذي ذكره هو الفرق بين الأعراض الذاتية وغير الذاتية . ولذلك متى لم نشعر بهذا الانحصار ، لم يحصل عندنا أنها ذاتية . ولذلك متى وجدت أعراض لشيء ، ولم تكن منحصرة في جنس ذلك الشيء الذي حملت تلك الأعراض عليه ، أو لم تكن خاصة بنفسه ، فليست ذاتية لذلك الذي حملت عليه . وإذا كان هذا هكذا ، فقول من قال في الأعراض الذاتية إن منها ما هي متقابلة في الجنس الذي توجد فيه ، ومنها ما ليست متقابلة ، إن أراد أنه ليس من شرطها ، أن تكون متقابلة - فهو خطأ . وإن أراد أنه يعرض للجنس الواحد أنه إذا كان فيه أكثر من مقابلة واحدة ، أن لا يكون الفرد الذي في أحد المتقابلين مقابلا للفرد الذي في المقابل الآخر - فذلك صحيح ، لكنه بالعرض ، مثل الزوج والمجسم الموجودين للعدد ، فإن الزوج إنما صار ذاتيا للعدد لأن العدد ، بما هو عدد ، منقسم به وبمقابله . وكذلك العدد ينقسم إلى العدد المجسم ، والغير مجسم . وأما انقسام العدد إلى الزوج والمجسم فهو له بالعرض ، وليست هذه ذاتية له من هذه الجهة ، فلا معنى لوضعها بهذا المعنى . ولما كان ليس يلزم أن يكون المتقابلان كل واحد منهما ملكة ، كالحال في الأضداد ، بل قد يكون أحدهما ملكة ، والآخر عدما ، أو أحدهما إيجابا ، والآخر سلبا ، وكان ذلك خفيا في تقابل الزوج والفرد - فلذلك قال أرسطو في الزوج والفرد . وذلك أن تقابل [ ٢٦ أ] هذين في الطبيعة القابلة لهما : إما تقابل عدم وملكة ، وإما تقابل إيجاب وسلب . وذلك أنه أراد أنه لا يبالي كيف كان وجود التقابل في هذه الأعراض إذا وجدناها متقابلة . وقوله : « ومتى لم يكن الإيجاب والسلب من الاضطرار » - يريد أن العدد متى لم يكن زوجا ، فواجب أن يكون ليس بزوج ولا زوج . وقوله : « فهذه هي بالذات من الاضطرار » - يريد أن كونهما بالذات أمر واجب لها وضروري . قال أرسطاطليس : « ويقال إن الكلي هو المحمول على كل الموضوع وذاتي له وبما هو أولا موجود له . وإذا كان الكلي هذه صفته ، فهو ضروري للموضوع . ولا فرق بين هذا القول : أن هذا المحمول موجود للموضوع بذاته ، وأنه موجود له أولا . وذلك أن النقطة موجودة للخط بذاتها ، والاستقامة أيضا . وهما أيضا مأخوذان في ماهيته ، ومساواة زوايا المثلث لقائمتين هي ذاتية للمثلث ومأخوذة في ماهيته . » التفسير لما بين ما هو الحمل الذي يسميه : « على الكل » في هذا الكتاب ، والذي يسميه : « بالذات » - أخذ يذكر الحمل الذي يسميه : « الكلي » ، وهو ما جمع ثلاثة شروط : الحمل على الكل ، والحمل بالذات ، والحمل الأول . وذلك أن كل أول ذاتي ، وليس كل ذاتي أولا . فقوله : « ويقال إن الكلي هو المحمول على كل الموضوع » - يريد : أنا نعني بقولنا « محمولا كليا » في هذا الكتاب ما جمع ثلاثة شروط : أحدها أن يكون الحمل على الكل ، أعني أن يوجد المحمول لكل الموضوع في جميع الأوقات ، وأن يكون الحمل ذاتيا ، وأن يكون وجوده للموضوع أولا . وقد اختلت في المحمول الأول في البرهان ما هو ، وما الذي أراد به في هذا الموضع . فالذي نجده في كتاب أبي نصر أن المحمول الأول في البرهان هو الذي لا يحمل على جنس الموضوع . ونجد بعضهم يقول إن المحمول الأول هو الذي لا يحمل على الموضوع من قبل حمله على شيء . وإن كان ذلك كذلك ، فالمحمول الأول هو خاص بالموضوع ، ومحمول من غير وسط . لكن أرسطو يصرح أن حمل الزوايا المساوية لقائمتين على المثلث هو حمل الأول ، وحمل الزوايا المساوية لقائمتين على المثلث هو حمل بوسط ، وهو كون الزاوية الخارجة من المثلث مساوية للداخلتين . وأيضا إن وضعنا أن المحمول الأول هو الخاص ، لم يكن هاهنا محمول اول إلا الحد ، والفصل ، والخاصة ، وسقط من محمولات [ ٢٦ ب ] البراهين حمل الجنس وحمل العرض الأعم من الموضوع الأخص من الجنس ، فإن أرسطو يشترط في حمل مقدمات البراهين أن تكون أولا ولا بد مع الشرطين المتقدمين ، لكن قول أرسطو فيه « ولما هو أولا موجود له » - يدل دلالة واضحة أنه لم يرد بالأول ما هو أعم من الموضوع وإن كان أخص من جنس ذلك الموضوع . وذلك أن ما هذا شأنه لا يحمل على الشيء بما هو أول موجود له - مثال ذلك : المشي ، فإنه أعم من الإنسان وأخص من جنسه . وليس بصادق أن الإنسان ، بما هو إنسان ماش ، إذ كان إنما هو ماش من قبل طبيعة أخرى ، كأنك قلت : من جهة ما هو ذو رجل ، فليس بموجود أولا للإنسان . وقد قال إن الشرط الثالث هو أن يكون المحمول موجودا للموضوع بما هو أولا ، أي وجودا أوليا . وإذا كان ذلك كذلك فليس المحمول الأول هو أعم من الموضوع ، وإن كان لا يحمل على جنسه ، كما نجد أبا نصر يرسم به في كتابه المحمول الأول . لكن لما كان ما يوجد للشيء لا من قبل طبيعة أخرى قد يوجد له بوسط بغير وسط ، وذلك أن جميع الأعراض الموجودة للشيء وجودا أولا توجد له بوسط ، وهي الأسباب التي تقومت منها تلك الموضوعات . فإذا ليس معنى « الأول » في الأعراض أنه الذي يوجد دون وسط . وأما الأسباب الخاصة بالشيء الأول فإنها يجتمع منها أن تحمل على الشيء حملا أولا وبغير وسط . فمن فهم من الحمل الأول المحمول الخاص الذي لا يحمل بوسط ، عسر عليه أن يكون في المطلوبات محمول أول - على ما نجد كثيرا من المفسرين ذهب إلى ذلك وعسر عليه مطابقة ذلك بتمثيل أرسطو في ذلك بوجود الزوايا للمثلث مساوية لقائمتين . ومن حمل « الأول » هاهنا على الذي لا يحمل على جنس الموضوع ، كما فعل أبو نصر ، فقد ظن فيما ليس بأول أنه أول . وذلك أن الأول قد صرح أرسطو فيه أنه المحمول على الشيء بما هو ذلك الشيء . فلذلك يشبه أن يكون الأول الذي يشترط وجوده في المقدمات والمطالب ألا يكون حمله على الموضوع من قبل طبيعة أخرى مركبة ويخص الأول المشترط في المقدمات التي في البرهان المطلق ألا يكون حمله بتوسط سبب من أسباب الموضوع . وأما في الدلائل فيكفي فيها الشرط الأول ، وليس يكفي ذلك في البراهين المطلقة . ولذلك يشترط أرسطو في البراهين أن تكون بالأسباب القريبة الخاصة . فقد تبين من هذا أن « الأول » عند أرسطو هو الذي يحمل على الشيء لا من قبل طبيعة له أخرى موضوعة ، أعني طبيعة مركبة ، سواء كانت تلك الطبيعة مساوية للموضوع ، مثل حمل اللون على الجسم : فإنما يحمل عليه بتوسط السطح وهو مساو للجسم ، [ ٢٧ أ] أو كانت أعم مثل حمل الزوايا المعادلة لقائمتين على المثلث المختلف الأضلاع : فإنما يحمل عليه بتوسط المثلث المطلق ، وهو أعم من المختلف . وقوله : « وإذا كان الكلي هذه صفته ، فهو ضروري للموضوع » - يريد : إذا كان الحمل الذي نعرفه « بالكلي » في هذا الكتاب هو الذي جمع أن يكون المحمول مقولا على كل الموضوع وفي كل الزمان ، وأن يكون ذاتيا ، وأن يكون أولا - فبين أنه ضروري للموضوع . وقوله : « ولا فرق بين هذا القول أن هذا المحمول موجود للموضوع بذاته ، وأنه موجود له أولا » - يريد : ولا فرق بين قولنا : « محمول أول » ، وبين قولنا : « ذاتي » ، وذلك في أحد صنفي المحمولات الذاتية ، وهو الصنف الذي يؤخذ المحمول فيه في حد الموضوع . وإنما قال ذلك لأن هذا الصنف يجمع مع أنه ذاتي أنه أول ، من قبل أن الحد والفصل هذا شانه ، أعني أنه محمول على الشيء من جهة ما هو ومن غير وسط . وهذا مما يدل على أنه ليس يدخل في هذا الصنف الجنس ولا حد الجنس ، وذلك أن الجنس وحده ليس - على مذهبه -محمولا حملا أولا ، بخلاف ما يقوله أبو نصر ، أعني أن الجنس عنده هو محمول أول . وهذا بخلاف الأمر في الصنف الثاني من المحمولات الذاتية ، أعني أن الأعراض الذاتية ليس معنى « الذاتية » فيها هو معنى « الأول » . وقوله : « وذلك أن النقطة موجودة للخط بذاتها والاستقامة أيضا وهما أيضا مأخوذان في حده » - يريد : وذلك أن النقطة موجودة للخط بذاتها وهي مأخوذة في حده ، وهو المعنى الذاتي فيها . ف « الأول » و« الذاتي » فيها بمعنى واحد ، وكذلك الاستقامة في الخط المستقيم . وقوله : « ومساواة زوايا المثلث لقائمتين هي ذاتية للمثلث ومأخوذة في ماهيته » - يريد : أي هي ذاتية بمعنى « الأول » إذ كانت مأخوذة في حده . وإنما قال ذلك ، وإن كانت مساواة زوايا المثلث لقائمتين خاصة من خواص المثلث ، لأن الخواص قد تقام مقام الفصول في مواضع كثيرة وتستعمل بدلها ، إذا كانت مشعرة بطبيعة الصورة ، وكانت الصورة خفية . قال أرسطاطاليس : « فالكلي هو المحمول المقول على كل الموضوع وأولا . فإنه إن كان قد تبين أن شكلا ذو قائمتين ، فإن ذلك ليس هو لأي شكل كان . هذا على أنه قد يوجد السبيل إلى أن نبين أن للشكل زاويتين مساويتين لقائمتين ، إلا أن المبين والمبرهن لهذا الشيء ليس يبينه ويبرهنه في أي شكل اتفق ، من قبل أن المربع هو شكل وليس زواياه مساوية لقائمتين . وأما المثلث المتساوي الساقين وإن [ ٢٧ ب ] كانت زواياه الثلاث تساوي قائمتين ، لكن ليس هذا المعنى موجودا له أولا بما هو متساوي الساقين ، لكن هذا المعنى أولا للمثلث . فالأمر الذي مساواة الزوايا الثلاث لقائمتين يوجد له أولا ، أو غير ذلك أي شيء كان ، هذا المحمول كلي له [ 74 a]* . والبرهان المحقق هو الذي له قبل هذا المحمول . فأما الذي على الأشياء التي تحت هذا ، يمنزلة وجود هذا المعنى للمتساوي الساقين ، فليس هو على طريق الكلي ، من قبل أنه قد يفضل . » التفسير لما كان معنى « الأول » في الصنف من المحمولات التي تؤخذ في حدود الموضوعات هو بعينه معنى « الذاتي » ، على ما بينه ، قال : « فالكلي هو المحمول المقول على كل الموضوع وأولا » - يعنى أنه إذا كان معني « الذاتي » فيه هو معنى « الأول » ، اكتفى فيه بشرطين : أحدهما : أن يكون المحمول مقولا على الكل ، على ما رسم قبل من معني « المقول على الكل » . والثاني : أن يكون « أولا » ، ولا يحتاج في هذا أن يقال : « وذاتيا » ، إذ كان معني « الذاتي » و« الأول » فيهما معنى واحدا . وإنما يكون ذلك كذلك إذا لم يكن المحمول المأخوذ في حد الموضوع جنسا للموضوع ولا حدا لجنسه . وقوله : « فإنه إن كان قد تبين أن شكلا ذو قائمتين ، فإن ذلك ليس هو لأي شكل كان « - يريد فيما أحسب : وإما شرطنا كونه مقولا على الكل ، لأنه إن بين مبين أن شكلا ما ذو قائمتين ، فإنه لم يبين ذلك بيانا كليا ، لأنه ليس يوجد مساواة الزوايا لقائمتين لأي شكل كان ، بل لبعضها ، فكأنه قال إن بيان المبين للشكل أن زواياه مساوية لقائمتين ليس « كليا » ، فضلا عن أن يكون « أولا » . ولما كان البيان الجزئي ممكنا ، أعني أن يبين أن بعض الأشكال زواياه مساوية لقائمتين ، « إلا أن المبين والمبرهن لهذا الشيء ليس يبينه ويبرهنه في أي شكل اتفق ، من قبل أن المربع شكل وليس زواياه مساوية لقائمتين » - يريد : أن كون الزوايا مساوية لقائمتين وإن كان ممكنا تبيين ذلك لبعض الأشكال ، فليس بيان ذلك للشكل بيانا كليا ، إن المربع وغيره شكل وليس زواياه مساوية لقائمتين . وإنما أراد أن يعرف بهذا أن البرهان لا يكون جزئيا ، ولذلك اشترط أن يكون مقولا على الكل . وإنما كان ذلك كذلك ، لأن طبيعة البعض - بما هي بعض - ليس تقتضي حمل شيء مخصوص عليها ، أعني أن قولنا : بعض الأشكال زواياه مساوية لقائمتين ، وإن كان صادقا ، فليس هو حملا محدودا ولا ذاتيا ، إذ كان البعض بما هو بعض ليس يقتضي ذلك . فيكون المحمول البرهاني يشترط فيه أن يكون أولا هو الذي اقتضى له ألا يكون البيان فيه جزئيا . ولما بين أن البيان الجزئي ليس هو « أول » ، أعني [ ٢٨ أ] قول القائل : بعض الأشكال زواياه مساوية لقائمتين ، قال : « وأما المثلث المتساوي الساقين ، وإن كانت زواياه الثلاث تساوي قائمتين ، لكن ليس هذا المعنى موجودا له أولا بما هو متساوي الساقين » - يريد : وأما حمل الزوايا المساوية لقائمتين على المثلث المتساوي الساقين فإنه وإن كان حملا على كل الموضوع ، لا على بعض الموضوع لحملها على الشكل فإنه ينقصه من الحمل الذي يسميه في هذا الكتاب « الحمل الكلي » أن يكون - « أولا » . وذلك أن حمل الزوايا المساوية لقائمتين ليس موجودا للمثلث المتساوي الساقين أولا ، إذ كان ليس ذلك للمثلث المتساوي الساقين بما هو مثلث متساوي الساقين . وقوله : « لكن هذا المعنى أولا للمثلث » - يريد : لكن حمل الزوايا المساوية لقائمتين إنما يكون حملا أولا على المثلث المطلق ، وذلك أن هذا هو المثلث بما هو مثلث . وقوله : « فالأمر الذي مساواة الزوايا الثلاث لقائمتين يوجد له أولا أو غير ذلك أي شيء كان هذا المحمول كلي له » - يريد : وإذا تقرر هذا فالشيء الذي توجد له مساواة زواياه لقائمتين ، أو غير ذلك من المحمولات أي شيء كان من المحمولات وجودا أولا - فذلك المحمول كلي له . فقوله : « المحمول كلي له » هو الجواب . وقوله : « أو غير ذلك أي شيء كان هذا » - يريد : أو غير مساواة الزوايا لقائمتين أي محمول كان . ويحتمل أن يكون : « هذا المحمول كلي له » : ابتداء وخبر . ويحتمل أن يكون قوله : « هذا المحمول » : في موضع رفع ب « كان » ، ويكون : « كلي له » جواب الابتداء الأول ، أعني قوله : « فالأمر الذي . . » وقوله : « والبرهان المحقق هو الذي له مثل هذا المحمول » - يعني : الأول ، ويعنى ب « المحقق » : الذي هو برهان في نفسه ويظن به أنه برهان . إذ كان غير المحقق هو الذي يظن به أنه برهان ، وليس ببرهان . وإنما كان ذلك كذلك من قبل أن الحمل للذي ليس بأول هو حمل يشوبه ما بالعرض ، وما بالعرض متجنب في البراهين أصلا . وقوله : « فأما الأشياء التي تحت هذا ، بمنزلة وجود هذا المعنى للمتساوي الساقين ، ليس هو على طريق الكلي ، من قبل أنه يفضل » - يريد : فأما الأنواع التي تحت هذا المثلث ، بمنزلة المثلث المتساوي الساقين ، فإن وجود هذا المعنى له ، أعني مساواة الزوايا لقائمتين ، ليس هو موجودا له ولا محمولا عليه على طريق الحمل الذي يسميه في هذا الكتاب : « الكلي » ، من قبل أن هذا المحمول يفضل على الموضوع ، أي هو أعم منه ، وإذا كان أعم منه لم يكن محمولا عليه إلا بالعرض ، لأنه إنما يحمل بالذات على الطبيعة المساوية له . وهنا ظهر أن من شرط « الأول » هاهنا أن يكون خاصا .
٥ - < الأخطاء التي تقع فيما يتعلق بالكلي في البرهان >
पृष्ठ 235