قال أرسطاطاليس : البرهان يجب أن يكون عليها برهان . وقوم أخر أثبتوا طبيعة البرهان ، سوى انهم توهموا أن البرهان يكون على كل الأشياء . ولا واحد من هذين الرأيين صادق ، ولا هو أيضا من الأضداد . فأما الأولون فإنهم لما اعتقدوا أنه لا طريق إلى أن يعلم الشيء إلا بالبرهان حسب ، وأن قطع مالا نهاية له غير ممكن ، حكموا بأن البرهان غير موجود . وقالوا إن السبب في ذلك أنه غير ممكن أن تعلم أشياء متأخرة بأشياء متقدمة غير مبرهنة ولا معلومة . وحكمهم هذا صحيح صواب ، وذلك أن سلوك مالا نهاية له غير ممكن . » التفسير وقد اعتقد قوم أنه ليس يوجد برهان أصلا . واعتقادهم ذلك من قبل أنهم ظنوا أن كل مقدمة توجد في البرهان يجب أن تبرهن ، فيمر ذلك إلى غير نهاية ، وذلك مستحيل . وقوم أخر غير هؤلاء قالوا إن البرهان شيء موجود [ ١٦ ب ] ، وأن كل مقدمة يجب أن تبرهن . فهؤلاء سلموا لأولئك أن كل مقدمة يجب أن تبرهن ولم يروا أنه يلزم عن ذلك محال . وقوله : « ولا واحد من هذين الرأيين صادق ، ولا هو من الأضداد » يريد : ولا واحد من الرأيين صادق ، من قيل أنه ليس من الأضداد التي إذا صدق أحدهما كذب الآخر . وذلك أن قوله : البرهان على كل شيء - كذب ، وقوله أنه : لا برهان أصلا - كذب . وإنما كان ذلك كذلك لأن المضادين يكذبان في المادة الممكنة ،على ما تبين في « پاري ارمنياس » والصادق هو أن : بعض الأشياء عليها برهان ، وبعضها ليمس عليها برهان . وقوله : فأما الأولون فإنهم لما اعتقدوا « - إلى قوله : غير موجود » - يريد : فأما الفريق الذين نفوا البرهان فالسبب في اعتقادهم ذلك أنهم لما اعتقدوا أنه لا يمكن أن يعلم شيء إلا بالبرهان ، واعتقدوا أن مالا نهاية له لا يمكن قطعه ، حكموا بأن البرهان شيء غير موجود . وإنما كان ذلك كذلك لأنه إن وضعنا أن شيئا يتبين بمقدمتين ، والمقدمتان بمقدمتين ، ومر الأمر على استقامة إلى غير نهاية - لم يوجد قياس تام على ذلك الشيء الذي ريم انتاجه . وإذا لم يوجد قياس تام عليه ، فلا سبيل إلى البرهان عليه أبدا . وهذا هو الذي أراد بقوله : « وحكمهم هذا صحيح صواب ، وذلك أن سلوك مالا نهاية غير ممكن » . وقوله : « وقالوا : والسبب في ذلك هو أنه غير ممكن أن تعلم أشياء متأخرة بأشياء متقدمة غير مبرهنة ولا معلومة » - يريد : واحتجوا بأن قالوا إن السبب في امتناع ألا يوجد برهان أصلا أن البرهان هو أن يعلم فيه شيء متأخر ،وهو النتيجة ، بأشياء متقدمة عليه ، وهو المقدمات . وإذا كان غير ممكن أن تعلم أشياء متأخرة بأشياء متقدمة ، أي بمقدمات غير مبرهنة ، فلا سبيل إلى أن يعلم الشيء بالبرهان . وقوله : « وحكمهم هذا صحيح » - يعني : في المقدمة الواحدة . وذلك أنهم وضعوا مقدمتين : إحداهما صادقة ، وهي أنه لا يمكن مرور مالا نهاية له ولا سلوكه ، والثانية كاذبة وهي أن كل شيء يعلم فإنما يعلم بالبرهان . قال أرسطاطاليس : مبادئ البرهان غير معلومة . وإذا كانت مبادئ البرهان غير معلومة ، فلا سبيل إلى أن يعلم الشيء . وإذا كان هذا هكذا ، فليس يمكن أن يعلم شيء بالبرهان ، اللهم إلا < أن > تكون بنحو الأصل الموضوع وهو أن كانت المقدمة معلومة . » التفسير هذا كأنه حجة أخرى حكاها عن المبطلين لطبيعة البرهان . وذلك أنهم لما وضعوا أنه لا يعلم شيء ألا بالبرهان ، ووضعوا أن مبادئ البرهان لا تعلم [ ١٧ أ] بالبرهان - وهو حق - لزم عن هاتين المقدمتين أن مبادئ البرهان غير معلومة . ولما وضعوا أيضا أن ما يعلم بالبرهان ليس يعلم إلا من قبل العلم بمبادئه ، أنتج لهم أنه لا سبيل إلى أن يعلم شيء بالبرهان اللهم إلا أن توضع مبادئ البرهان على جهة ما توضع الأصول التي لا يعرف بصدقها بل تسلم تسليما . وهو الذي أراد بقوله : « إلا أن يكون بنحو الأصل الموضوع » ، أي إلا أن يكون البرهان بالتواطؤ والوضع ، لا بالطبع . وقوله : « وهو إن كانت المقدمة معلومة » - يريد : وأمثال هذه البراهين إنما تكون داخلة في جنس البراهين إن كانت المقدمة التي توضع معلومة إما في صناعة أخرى ، وإما عند الذي يصادر عليها ، فتحتاج هذه أيضا إلى برهان ، ويمر الأمر إلى غير نهاية كما عرض ذلك في البراهين التي ليس فيها مقدمة موضوعة وضعا وتسلم من غير أن يقع بها التصديق . قال أرسطاطاليس : إنما هو بالبرهان فقط ، سوى أنهم يدعون أنه لا مانع من كون البرهان على كل شيء . وذلك أنهم يزعمون أن البرهان قد يكون دورا ، ولبعض الأشياء ببعض . » التفسير يقول : وأما الفرقة الثانية فإنهم يقرون بوجود البرهان ، مع أنهم يسلمون أن كل شيء إنما يعلم بالبرهان ، وأنه لا يمكن أن يمر العلم بالمقدمات على استقامة إلى غير نهاية ، لكن يرون أن المقدمات تتبرهن بالنتائج على جهة الدور . قال أرسطاطاليس : « وأما نحن فإنا نقول : ليس كل ما يعلم إنما يعلم بالبرهان ، لكن هاهنا أشياء تعلم بغير وسط ولا برهان . ووجود ذلك واضح بين ، من قبل أنه إن كان قد يجب أن نعرف أن مقدمات البراهين والأوساط ، فيجب بأن نكون عارفين بالأشياء التي لا وسط لها من غير برهان . فهذا القول يقال في هذه وعلى هذا النحو . وأيضا فإنه ليس إنما يكون العلم بالبرهان حسب ، بل قد يوجد هاهنا مبدأ للعلم وهو الذي من شأنه تصيير الحدود . » التفسير يقول : وأما نحن فلسنا نعتقد أن كل ما يعلم إنما يعلم بالبرهان . وهذا الاعتقاد هو الذي من قبله ضل الفريقان . بل يعتقد أن هاهنا أشياء تعلم بنفسها من غير وسط ، أي من غير برهان . ووجودها بين ، من قبل أنه إذا وضعنا أن العلم بالبرهان يقتنى من قبل أب العلم بالمقدمات على ما يظهر بنفسه ، ووضعنا أنه يجب أن تقف معرفتنا بالمقدمات ، أي لا يمر الأمر إلى غير نهاية في حاجة المقدمات في العلم بها إلى مقدمات أخر فواجب [١٧ ب ] < احتياج > العلم الى مقدمات معروفة بنفسها من غير وسط بإطلاق ، ولا وسط برهاني . وهذا هو الذي أراد بقول : « ووجود ذلك واضح بين ، من قبل أنه إن كان قد يجب أن نعرف أن مقدمات البراهين والأوساط تقف » - يريد : والتصديق بأن هاهنا أمورا معروفة بنفسها واضح بين من قبل أنه من المعروف بنفسه أنه يجب أن يكون علمنا ومعرفتنا بمقدمات البرهان والأوساط يقف ، ولا يحتاج العلم بالمقدمات إلى العلم بمقدمات أخر حتى يمر ذلك إلى غير نهاية . وإنما قال ذلك على جهة الاستظهار على الخصوم . فإنه من المعروف بنفسه أن هاهنا أوائل معروفة بأنفسها . وهذا أحد ما يضعه صاحب هذا العلم وضعا ، من غير أن يتكلف بيانه . وقوله : « وأيضا فإنه ليس إنما يكون العلم بالبرهان حسب ، بل قد يوجد ها هنا مبدأ للعلم وهو الذي من شأنه تصيير الحدود » - يريد : فإنه ليس يحصل العلم لنا بالمبدأ الذي هو البرهان فقط ، بل قد يحصل لنا العلم من قبل مبدأ آخر ، وهو العقل ، الذي به يعرف المقدمات الأول . فيعنى ب « الحدود » هاهنا : الحد الأوسط في القياس الذي مقدماته معروفة بنفسها . قال أرسطاطاليس : « وأما أنه غير ممكن أن يتبين أمر من الأمور بالدور على الإطلاق ، فيتبين مما أذكره : أما أولا فلأن البرهان إنما يكون من الأشياء التي هي أقدم وأعرف عند الطبيعة . وغير ممكن أن تكون أشياء عند أشياء بأعيانها أكثر في باب التقدم والتأخر معا . » التفسير لما كان الفريق الثاني يضعون أن البرهان يكون على كل شيء ، وانه يكون دورا ، شرع في بيان فساد كون البرهان يجرى دورا فقال إن ذلك بين بطلانه : أما أولا ومن حيث هو برهان ، لا من حيث هو قياس ، فمن قبل أن البرهان على ما تقدم إنما يكون من مقدمات هي أقدم في الوجود وأعرف عندنا وعند الطبيعة من النتائج . فإن كان يعود البرهان دورا ، فستكون النتائج أعرف من المقدمات وأقدم عند الطبيعة . وقد كنا وضعنا أن المقدمات أعرف منها عندنا وأقدم في الطبيعة ، فيكون شيء واحد متقدما على شيء واحد بالطبع ومتأخرا عنه معا ، من جهة واحدة . وكذلك يكون أعرف منه وغير أعرف . وذلك كله مستحيل . وهو الذي أراد بقوله : « وغير ممكن أن تكون أشياء بأعيانها عند أشياء بعينها أكثر في باب التقدم والتأخر ، أي في كل واحد منها بالإضافة إلى صاحبه ، ويتأخر معا بنحو واحد من أنحاء التقدم . قال أرسطاطاليس : « اللهم إلا أن يكون ذلك على [١٨ أ] وجهين اثنين : أحد الوجهين هو أن يكون بعضها متقدما عندنا ، ومتأخرا عند الطبيعة . والآخر أن يكون بعضها متأخرا عندنا ومتقدما عند الطبيعة . سوى أن الوجه الأول هو البيان الذي من قبل الاستقراء . فإن كان البرهان قد يكون على هذين الوجهين ، لا يكون تحديد البرهان يجرى على الصواب ، لكن يكون مضاعفا ، من قبل أن أحدهما يكون بالأشياء التي هي أقدم وأعرت عندنا ، والأخر بالأشياء التي هي أقدم وأعرت عند الطبيعة وبالعلة . » التفسير لما بين أنه مستحيل أن يكون البرهان يجرى دورا ، من قبل أنه يلزم عن ذلك أن تكون أشياء بأعيانها عند أشياء بأعيانها متقدمة متأخرة معا من جهة واحدة ، وكان قد يمكن الدور في البراهين بأن يكون أحد البرهانين يعطى السبب فقط إذا كان الوجود معروفا وأن يكون الآخر يعطى الوجود بأمر متأخر- مثال ذلك أن يبين مبين أن القمر كري الشكل من قبل أن ضوءه ينمى قليلا قليلا . ثم يعطى سبب هذا النمو من قبل كريته - استثنى من ذلك القول الكلي هذا المعنى فقال : « اللهم إلا أن يكون ذلك على وجهين اثنين » - يريد : اللهم إلا أن يكون البيان في البرهان من وجهين مختلفين ، أعني أن يبين أحدهما من الشيء الواحد غير ما يبين الثاني ، فتكون المقدمات تؤخذ في بيان النتيجة من وجه ، وتكون النتيجة تؤخذ في بيان المقدمات من وجه ،أي يعطى أحدهما في صاحبه نوعا من العلم غير الذي يعطيه الآخر . ولما استثنى هذا المعنى ، أخذ يبين ذينك الوجهين : أن يكون بعضها متقدما عندنا متأخرا عند الطبيعة ، والآخر أن يكون بعضها متأخرا عدنا ومتقدما عند الطبيعة . يريد : ومثال ذلك أن يكون أحد البرهانين من الأمور المتقدمة عدنا والمتأخرة عند الطبيعة على الأمور المتقدمة عند الطبيعة فيكون هذا النوع برهان وجود . والآخر أن يكون من تلك الأمور المتقدمة عند الطبيعة على تلك الأمور المتأخرة ، أي يعطى أسبابها من قبل الأمور المتقدمة إذا صار وجود المتقدمة معروفا من وجود المتأخرة التي كانت أعرف عندنا . وأخذ في مثال معرفة الأمور المتقدمة عند الطبيعة من الأمور المتأخرة : الاستقراء . وذلك أن الاستقراء إنما يصير فيه من الجزئي المركب إلى الكلي البسيط . والجزئي متقدم عندنا في المعرفة ، ومتأخر في الطبيعة . والكلي بعكس ذلك . وهو الذي أراد بقوله : « سوى أن الوجه الأول هو البيان الذي من قبل الاستقراء » - يريد : سوى أن الوجه الأول هو البيان الذي يكون بالاستقراء فإنه يعطى وجود الشيء من قيل علته . ومن هذا النوع هي براهين الدلائل ، أعني من الأمور المتقدمة عندنا إلى الأمور المتقدمة عند الطبيعة . ولما ذكر إمكان هذين الوجهين [ ١٨ ب ] وكان كلامه إنما هو في البرهان المطلق ، أعني الذي يعطى معرفة وجود الشيء وسببه معا ، وهي البراهين التي عرض بها أن يكون الأعرف فيها عندنا هو الأعرف عند الطبيعة . قال : « فإن كان البرهان قد يكون على هذين الوجهين ، لا يكون تحديدنا للبرهان جرى على الصواب » - يريد : لكن إن سلمنا أن الدور يوجد في البراهين على هذه الجهة لا يكون ما أخذنا في تحديد البرهان صوابا وهو أنه : قياس مؤتلف من مقدمات أوائل عند الطبيعة . لكن يكون البرهان التام مضاعفا ، أعني نوعين : نوع منه من قبل المقدمة عند الطبيعة . ونوع منه من قبل المتأخرة ، ويكون برهان السبب لا يعطى مع السبب الوجود ، وذلك خلاف ما قيل في حد البرهان . فإذن لا يمكن الدور أصلا في البرهان المطلق من حيث هو برهان مطلق وهو الذي يعطى الوجود والسبب معا . وهذا هو الذي أراد بقوله : لكن يكون مضاعفا - أي تكون طبيعة البراهين المطلقة مضاعفة ، أي اثنين ، من قبل أن أحد نوعي البرهان يكون مؤتلفا من الأشياء التي هي أعرف عندنا ، وهي المتأخرة عند الطبيعة ، وذلك خلاف لما وضع في حد البرهان . فعلى مذهب هؤلاء يبطل البرهان المطلق ، إذ كانت مبادئ البرهان تحتاج عندهم إلى برهان من نوع واحد ، وليس يمكن أن يقوم على كل شيء برهان مطلق على الدور . قال أرسطاطاليس : « ويلزم القائلين ببرهان الدور مع الشناعة السابقة شناعة أخرى ، وهي بيان الشيء بنفسه . وبهذا الطريق يسهل بيان سائر الأشياء ، ويظهر لزوم ذلك إذا وضعت ثلاثة حدود . وذلك أنه لا فرق بين أن يقال التحليل بالعكس قد يكون بأشياء كثيرة ، وبين أن يقال أنه يكون بأشياء يسيرة . ولا فرق أن يقال أنه بأشياء يسيرة ، وبين أن يقال إنه بشيئين . وذلك أنه متى كانت أموجودة ، كانت ب من الاضطرار موجودة . ومتى كانت هذه موجودة ف ح موجودة . فإنه متى كانت أموجودة ، قد تكون ح موجودة . فإن كان متى كانت أموجودة تكون ب من الاضطرار موجودة ، وإذا كانت هذه موجودة ف أموجودة ، فإن هذا هو برهان الدور . » التفسير لما بين أن برهان الدور ليس يمكن في البرهان المطلق من جهة ما هو برهان مطلق ، وأن الدور إنما يمكن أن يقع بين برهان السبب وبرهان الوجود فقط ، وأن البرهان المطلق ليس يمكن أن يقع فيه دور ، لا مع نفسه ولا مع غمره من أصناف البراهين ، أخذ يبين أن الدور أيضا ليس بقياس صحيح فضلا عن أن يكون برهانا وهذا شيء قد بينه في كتاب « القياس » ، ولكن أعاده هاهنا . فقوله : « وبهذا الطريق [ ١٩ أ] يسهل بيان سائر الأشياء » ، يعنى أنه لو كان الدور صحيحا ، لما عسر على أحد بيان شيء من الأشياء لأنه كانت تكون الأمور كلها معلومة بنفسها . ولو كان ذلك كذلك لكان البيان فضلا . وقوله : « وقد يظهر لزوم ذلك إذا وضعت ثلاثة حدود » - يريد : وقد يظهر لزوم هذا المعنى ، أعني كون بيان الدور باطلا إذا فرضنا ثلاثة حدود ، وهو أقل ما يأتلف منه القياس ، وهو القياس البسيط . ولما أخبر أن الفساد الذي في بيان الدور يكفى في بيان بطلانه أن يبين في قياس بسيط فقال : « وذلك أنه لا فرق بين أن يقال إن التحليل بالعكس قد يكون بأشياء كثيرة ، وبين أن يقال إنه قد يكون بأشياء يسيرة . وإنما كان هذا المعنى يظهر في القياس البسيط كما يظهر في القياس المركب ، لأنه لا فرق في هذا البحث بين أن نضع القياس الذي يكون على طريق التحليل إنما يكون بمقدمات كثيرة ، أي أكثر من ثلاث ، إن قال بذلك قائل ، أو إنما يكون بمقدمات إما اثنتين ، أو أكثر من اثنتين . وهذا هو الذي أراد بقوله : « ولا فرق بين أن يقال إنه يكون بأشياء يسيره ، وبين أن يقال إنه بشيئين » . وإنما قال هذا وإن كان من رأيه أن القياس البسيط إنما يكون من مقدمتين فقط ، لأن هذا غير محتاج إليه في هذا الموضع ، أعني أن ليس وضعه ضروريا في فساد بيان الدور . لذلك ينبغي أن يفهم أنه أراد أن هذا المعنى يظهر ولو وضع واضع أن القياس البسيط إنما يكون بمقدمة واحدة فقط . فكلما قلت المقدمات ، كان الفساد الذي في < بيان > الدور أوضح ولما قال إنه يكفي في بيان ما نريد بيانه بأن نتمثل في ذلك بثلاثة حدود : أصغر ، وأوسط ، وأعظم - قال : « وذلك أنه متى كانت « أ» موجودة ، كانت « ب » من الاضطرار موجودة . ومتى كانت هذه موجودة ف « ج » موجودة . فإنه متى كانت « أ» موجودة ،قد تكون « ح » موجودة . وإنما كان هذا يساوي ثلاثة حدود ، لأنه متى أخذ آخذ بدل الحد الأصغر « أ» وبدل الحد الأوسط « ب » ، وبدل الطرف الأكبر « ج » ، وأنزل أنه متى كانت « أ» موجودة ، كانت « ب » موجودة ، أو أن كل « أ» هو « ب » ، فإنه فرق بين قولنا أنه إن كانت « أ» موجودة ، فإن « ب » موجودة ، أو بين أن نقول إن كل « أ» هو « ب » . فقوله : « متى كانت « أ» موجودة كانت « ب » موجودة لم يرد به مقدمة شرطية ، لأنه كان يكون القول مركبا من قياسين شرطيين ، وإنما أراد به مقدمة شرطية ، لأنه كان يكون القول مركبا من قياسين شرطيين . وإنما أراد به مقدمة حملية تأتلف من حدين ، وهو أن كل « أ» هو « ب » . وكذلك قوله : « متى كانت هذه موجودة ف « ج » موجودة » - يريد أن كل ب هو ج ، أي متى كان قولنا [ ١٩ ب ] « كل أهو ب » و« كل ب هو ج » - فإنه يجب عن ذلك أن يكون كل أهو ج . وهذا هو الذي دل عليه بقوله إنه متى كانت أموجودة ، قد تكون ج موجودة . فلما وضع أنه يلزم عن وجود أوجود ب ، وعن وجود ب وجود ج - أن يكون كل أهو ج - قال : فإن كان متى كانت أموجودة تكون ب من الاضطرار موجودة ، وإذا كانت هذه موجودة ف أموجودة ، فإن هذا هو برهان الدور » . وهذا القول يحتمل أن يكون أخذ « أ» فيه بدل مقدمتى القياس ، وأخذ « ب » بدل النتيجة . فكأنه قال : وبرهان الدور هو أن نضع متى كانت المقدمات موجودة ، أن النتيجة موجودة ، وأن النتيجة متى كانت موجودة ، كانت المقدمات موجودة . وإنما كان هذا حقا ، لأنه قد تبين في كتاب « القياس » أنه يمكن ببرهان الدور بيان كل واحدة من المقدمتين بالنتيجة وعكس المقدمة الثانية ، وأنه ليس يمكن هذا فقط ، بل وبيان المعكوس . ويحتمل أن يكون أخذ « أ» بدل الحد الأصغر ، و« ب » بدل الأوسط ، وج بدل الكبير ، وأخرج المقدمات مخرج الشرط ليبين من ذلك بطلان قياس الدور نفسه ، فكأنه قال : وبيان الدور هو أن يبين أنه إن كانت « أ» موجودة أن « ب » موجودة ، وأن « ب » إن كانت موجودة أن « ج » موجودة . ثم يقول : إن كانت « ج » موجودة ف « ب » موجودة . وإن كانت « ب » موجودة ف « أ» موجودة . فيكون قد بين وجود « ج » بوجود « أ» ، ووجود « أ» بوجود « ح » . وبالجملة ، فإن ما يعرض من الدور في القياس الحملى هو بعينه يعرض في الشرطي بنفسه ، وفي الحملى هو مما يحتاج إلى بيان . وأرسطو إذا تكلم في شيء فبوده ألا يتكلف في بيان ذلك الشيء ما يبين في غير ذلك الموضع . فلذلك كان هذا التأويل الثاني عندي ممكنا ، وكلا التأويلين صحيح وتقتضيه ألفاظه . وكثيرا ما يعتمد أرسطو في أقواله هذا النحو من المخاطبة ليكون من فهم منهما أيما فهم فقد حصل الكفاية . وخير النظر من أمكنه أن يفهم منهما الأمرين جميعا . ولما أخبر على أي صفة يقع بيان الدور ، أخذ يخبر بالمحال الذي يلزم هذا البيان . قال أرسطاطاليس : « [73 a]* فلتوضع أالتي عليها ج . فالقول بأنه إذا كانت ب موجودة تكون أموجودة هو القول بعينه بأن ح موجودة . وهذا هو أن يقال : متى كانت أموجودة ف ج موجودة ، وج وأهما شيء واحد بعينه . فقد يلزم القائلين إذن بأن البرهان يكون دورا ألا يقولوا أشياء أخر [٢٠ أ] غير أنه متى كانت أموجودة ، ف أتكون موجودة . وعلى هذا القياس قد يسهل أن يبين كل شيء . » التفسير يقول : وإذا كان تأليف برهان الدور هو أنه متى كانت أموجودة ف ب موجودة ، ومتى كانت ب موجودة ف أموجودة - فقد يأتلف من هاتين المقدمتين إذا رتبت ترتيب الثلاثة حدود المتقدمة ، أعني قولنا : إن كانت أموجودة ، ف ب موجودة ، وإن كانت ب موجودة ، ف أموجودة ، وأخذنا بدل أج أن يكون إذا وضعت أموجودة فهي موجودة . فإنه يأتلف القياس هكذا : إن كانت أموجودة ف ب موجودة . وإن كانت ب موجودة ف ج موجودة . فيلزم من ذلك أن أإن كانت موجودة ف أموجودة . قال أرسطاطاليس : « وأيضا فإن هذا لا يمكن أن يتم إلا في الأشياء التي يلزم بعضها بعضا ، بمنزلة الخواص والحدود . رقد تبين أنه متى وضع شيء واحد ، لا يلزم ضرورة أن آخر موجود ولا في وقت من الأوقات . وأعني بقولي أنه لا عندما يوضع حد واحد ، ولا أيضا عندما يوضع وضع واحد فيلزم على طريق القياس شيء آخر لكن أقل ما يكون من وضعين أولين متى أردنا أن نقيس . فإن كانت ألازمة ل ب ، ج ، وكان هذان لازمين بعضهما بعضا ولازمين للألف ، فعلى هذا النحو قد يمكن تبيين البعض من بعض مع جميع الأشياء التي صودر عليها في الشكل الأول ، على ما تبين في الأوائل في القياس . وقد تبين أيضا في الشكلين الآخرين إما ألا يكون قياس ، وإما لا يكون على الأشياء المأخوذة . » التفسير لما كان أولئك يرون أن برهان الدور يكون على كل شيء - يريد أن يبين أيضا أن هذا ليس بصادق لو سلمنا لهم أن بيان الدور ينتفع به فقال : وأيضا فإن هذا لا يمكن أن يتم إلا في الأشياء التي يلزم بعضها بعضا ، بمنزلة الخواص والحدود » يريد : لو سلمنا لهم أن برهان الدور مما ينتفع به ، لم يصح قولهم إنه يتفق في كل شيء أن يبرهن عليه دورا . وذلك أن برهان الدور لا يمكن أن يتأن إلا في المقدمات المنعكسة ، وهي المقدمات التي تكون محمولاتها خواص أو حدودا . ثم أتى بالسبب الذي من قبله احتاج البيان بالدور إلى عكس إحدى مقدمات القياس ، وهو كون القياس لا يكون من مقدمة واحدة ، بل من مقدمتين ، أقل ذلك ، فقال : « وقد تبين أنه متى وضع شيء واحد لا يلزم ضرورة أن آخر موجود ولا في وقت من الأوقات » - يعنى أنه ليس يلزم عن مقدمة واحدة معلومة بالطبع معرفة نتيجة [٢٠ ب ] مجهولة بالطبع ، لا دائما ولا في وقت من الأوقات . وقوله : « وأعني بقولي إنه لا عندما يوضع حد واحد ، ولا عندما يوضع وضع واحد » - يريد : أنه لا تلزم نتيجة مجهولة عن وضع شيء واحد بالطبع ، سواء كان ذلك الواحد حدا أي جزء مقدمة ، أو كان مقدمة . وإنما اشترط فيه أن يكون لازما على طريق القياس ، لأنه قد تلزم مقدمة لمقدمة واحدة . لكن ليس يتفق أن تكون إحداهما معلومة ، والأخرى مجهولة ، حتى يكون لزوم المجهول فيها عن المعلوم على جهة ما يلزم الشيء على طريق القياس . وقوله : « لكن أقل ما يكون من وضعين أولين » - يعنى مقدمتين اثنتين . وهذا شيء قد بينه في كتاب « القياس » . وقد لخصنا نحن ذلك في ذلك الكتاب . ولما وضع أن كل قياس إنما يكون من مقدمتين ، وجب أن يكون مستعمل الدور في القياس ليس له وجه في تصحيح مقدمتي القياس بالنتيجة ، إلا أن يأخذ النتيجة نفسها ، وعكس المقدمة الواحدة في تبيين الثانية . ثم يأخذ النتيجة أيضا وعكس الثانية في تبيين المقدمة الأولى . وكان ذلك لا يصح إلا في المقدمات المنعكسة. قال : « حتى إذا أردنا أن نقيس فإن كانت ألازمة ل ب وج ، وكان هذان لازمين بعضهما بعضا ولازمين للألف ، فعلى هذا النحو قد يمكن تبيين البعض من البعض » - يريد أن قياس الدور إنما يمكن إذا كان الحد الأكبر ، الذي هو أمثلا ، لازما عن الأوسط الذي هو ب ، والأوسط لازما عن الأصغر الذي هو ج ، وكانت هذه الحدود الثلاثة منعكسة أيضا ، أي يلزم عن أ: ب ، وعن ب : أ. وقوله : « مع جميع الأشياء التي صودر عليها في الشكل الأول » - يعني : ذلك أن المستعمل للدور يحتاج ، مع تبيين المقدمتين ، إلى تبيين عكسهما ، وهو الذي أراد بقوله : « مع جميع التي صودر عليها في الشكل » يعني المعكوسات ، وإنما قال : « في الشكل الأول » لأنه لا يمكن بيان الدور في مقدمتى القياس جميعا وعلى كل ما يصادر عليه في بيان مقدمتي القياس ، إلا إذا كان القياس في الشكل الأول . وذلك أيضا إذا كان موجبا . لذلك قال : « وقد تبين أيضا في الشكلين الآخرين إما ألا يكون قياس ، وإما ألا يكون على جميع الأشياء المأخوذة » - يريد : وقد تبين من أمر الشكلين الآخرين ، أعني الثاني والثالث ، أنه إما ألا يتأتى فيه قياس دائر ، وإما أنه لا يمكن أن تبين به كلتا المقدمتين المأخوذة فيه ، لأن النتيجة في الشكل الثاني لما كانت سالبة لم تنتج شيئا إذا قرنت إليها المقدمة السالبة . وإذا كانت الصغرى في الشكل الثاني هي السالبة وقرن إليها المقدمة الموجبة ، كان [ ٢١أ ] التأليف منتجا ، لكن لغير المطلوب لأن الصغرى تصير < سالبة في > الشكل أول وقد تبين < أن هذا > منتح لكن لغير المطلوب ، وهو الذي أراد بقوله : « وإما ألا يكون على الأشياء المأخوذة » - يريد : وإما ألا يكون قياس على الشيء المفروض أي المطلوب . قال أرسطاطاليس : « وأما الأشياء التي لا تنعكس في الحمل فلا سبيل إلى أن تبين دورا . وذلك لما كانت أمثال هذه البراهين يسيره ، ويبين ويظهر أن القول بأن البرهان يكون من البعض على البعض ، وإن من قال - من قبل هذا - قد يمكن برهان على كل شيء - فهو قول باطل غير ممكن . » التفسير يقول : ولما كانت الأشياء التي لا تنعكس في الحمل لا سبيل إلى أن تبين دورا ، فإن سلمنا أن البراهين تكون دورا فليس تقوم البراهين على هذا إلا في أشياء يسيرة . ويبين ويظهر من هذا إن سلمنا أن الدور برهان أنه يكون من البعض على بعض ، وذلك في بعض الأشياء ، لا في كلها . وإن قال إنه قد يمكن برهان دائر على كل شيء فهو باطل وغير ممكن .
فصل ٤ - < تعريف قولنا « على الكل » و« بالذات » وكلي » >
पृष्ठ 215